ـ[السيرة النبوية]ـ
المؤلف: عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 213هـ)
تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955 م
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
[المجلد الاول]
مقدّمة [التَّحْقِيق]
الْحَمد للَّه على سابغ إفضاله، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد وَآله.
أما بعد، فَهَذَا كتاب «سيرة رَسُول الله» صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الّذي استخرجه الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام الْمعَافِرِي، من كتاب «السِّيرَة» لمُحَمد بن إِسْحَاق المطّلبيّ، وَهُوَ أقدم السّير الجامعة وأصحها. [1]
(الْمَغَازِي وَالسير) :
لفظتا «الْمَغَازِي والسّير» إِذا أطلقتا، فَالْمُرَاد بهما عِنْد مؤرّخي الْمُسلمين تِلْكَ الصفحة الأولى من تَارِيخ الأمّة الْعَرَبيَّة: صفحة الْجِهَاد فِي إِقَامَة صرح الْإِسْلَام وَجمع الْعَرَب تَحت لِوَاء الرَّسُول مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمَا يُضَاف إِلَى ذَلِك من الحَدِيث عَن نشأة النبيّ، وَذكر آبَائِهِ، وَمَا سبق حَيَاته من أَحْدَاث لَهَا صلَة بِشَأْنِهِ وحياة أَصْحَابه الَّذين أبلوا مَعَه فِي إِقَامَة الدَّين، وحملوا رسَالَته فِي الْخَافِقين.
وَظُهُور الرسَالَة المحمدية أعظم حَادث فِي تَارِيخ الْعَرَب خاصّة، والبشر عامّة:
لِأَن حَيَاة الْعَرَب سادة ودهماء- أَيَّام الرَّسُول- كَانَت لَهُ ولدينه، فَمَا اجْتمع مَلأ مِنْهُم أَو تفرّق إِلَّا فِيهِ، وَلَا تحدثُوا فِي نديّهم إِلَّا عَنهُ، وَلَا تحركت كتائبهم وجيوشهم إِلَّا لَهُ، حَتَّى كَانَ قصارى بلائه فيهم اجْتِمَاعهم على الْإِسْلَام، ونبذهم مَا كَانُوا فِيهِ من الْجَاهِلِيَّة الجهلاء، والضّلالة العمياء.
__________
[1] المراجع الَّتِي رَجعْنَا إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَحْث هِيَ:
بغية الوعاة للسيوطي- تَارِيخ ابْن كثير- تَارِيخ آدَاب اللُّغَة الْعَرَبيَّة لجورجى زَيْدَانَ- تَارِيخ بَغْدَاد للخطيب الْبَغْدَادِيّ- تَهْذِيب التَّهْذِيب للعسقلانى- حسن المحاضرة للسيوطي- ضحى الْإِسْلَام لِأَحْمَد أَمِين- الطَّبَقَات الْكُبْرَى لِابْنِ سعد- عُيُون الْأَثر فِي الْمَغَازِي وَالشَّمَائِل وَالسير، لِابْنِ سيد النَّاس- الفهرست لِابْنِ النديم- كشف الظنون لملا كَاتب جلبي- الْكَمَال فِي معرفَة الرِّجَال لِابْنِ النجار- مُعْجم الأدباء ومعجم الْبلدَانِ لياقوت- مُعْجم مَا استعجم للبكرى. الْوَسِيط لِأَحْمَد الإسكندري ومصطفى عناني- وفيات الْأَعْيَان لِابْنِ خلكان.(مقدمة/3)
ثمَّ برزت هَذِه الْأمة الْعَرَبيَّة، الَّتِي كَانَت قد أنكرتها الْأُمَم، وتخطّفهم النَّاس من حَولهمْ، إِلَى ميادين الْحَيَاة، تؤدّى رسالتها فِي هِدَايَة الْبشر، وتقيم القسطاس بَين النَّاس، وتضرب الْمثل الْأَعْلَى فِي علوّ الهمة، والبطولة، والإيثار، ونصرة الحقّ، والتعاون على البرّ وَالتَّقوى، والاستمساك بمكارم الْأَخْلَاق.
هَذَا مُجمل مَا تتضمنه سيرة النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والرّعيل الأوّل من صحابته، الَّذين تابعوه على الْهدى وَدين الحقّ، وسبقوا إِلَى تدوين صحف الْمجد والفخار العربىّ بِمَا خلّدوا من أَعْمَالهم على وَجه الزَّمَان.
ثمّ دبّ إِلَى بعض من خلف بعدهمْ من الزعماء التحاسد والتباغض، وقلّة التّناصر والتعاون، فتشعبت بالأمة السبل، وتفرّقت بهم النواحي، فَكَانَ لَهُم إِلَى جَانب ذَلِك التَّارِيخ تَارِيخ، وانقسم هَذَا التَّارِيخ بانقسام الْأمة دولا، كَانَ لكلّ دولة تاريخها الخاصّ فِي موقعها الْجَدِيد، واتصالها بغَيْرهَا من الدول.
(التَّارِيخ عِنْد الْعَرَب) :
وَلم يكن للْعَرَب قبل مبعث النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مادّة التَّارِيخ إِلَّا مَا توارثوه بالرواية، مِمَّا كَانَ شَائِعا بَينهم من أَخْبَار الْجَاهِلِيَّة الأولى، كحديثهم عَن آبَائِهِم وأجدادهم، وأنسابهم، وَمَا فِي حَيَاة الْآبَاء والأجداد من قصَص، فِيهَا البطولة، وفيهَا الْكَرم، وفيهَا الْوَفَاء، ثمَّ حَدِيثهمْ عَن الْبَيْت وزمزم وجرهم، وَمَا كَانَ من أمرهَا، ثمَّ مَا كَانَ من خبر البيوتات الَّتِي تناوبت الإمرة على قُرَيْش، وَمَا جرى لسدّ مأرب، وَمَا تبعه من تفرّق النَّاس فِي الْبِلَاد، إِلَى أَمْثَال هَذَا مِمَّا قَامَت فِيهِ الذاكرة مقَام الْكتاب، وَاللِّسَان مقَام الْقَلَم، يعى النَّاس عَنهُ، ويحفظون، ثمَّ يؤدون.
ثمَّ ظهر مورد جَدِيد بِظُهُور النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَظُهُور دَعوته، هِيَ أَحَادِيث الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ عَن وِلَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحياته، وَمَا ملئت بِهِ هَذِه الْحَيَاة من جِهَاد فِي سَبِيل الله، واصطدام مَعَ الْمُشْركين، وَمن لَيْسَ على دينه، ودعوة إِلَى التَّوْحِيد، وَمَا كَانَ فِيهَا من أثر للألسنة وَالسُّيُوف. فَهَذَا وَذَاكَ كَانَ مادّة للتاريخ أوّلا، ثمَّ للسيرة ثَانِيًا.(مقدمة/4)
وَلم يدوّن فِي تَارِيخ الْعَرَب أَو السِّيرَة شَيْء، إِلَى أَن مَضَت أَيَّام الْخُلَفَاء، بل لم يدوّن فِي هَذِه الْمدَّة غير الْقُرْآن ومبادئ النَّحْو. فقد رَأينَا الْمُسلمين يحفزهم حرصهم على حفظ الْقُرْآن إِلَى كِتَابَته فِي حَيَاة النبيّ وَبعده، كَمَا حفزتهم مخافتهم من تفشي العجمة على الْأَلْسِنَة إِلَى تدوين النَّحْو، وَذَلِكَ لما اخْتَلَط الْعَرَب بغيرهم عِنْد اتساع الرقعة الإسلامية.
(بَدْء التَّأْلِيف فِي السِّيرَة) :
وَلما كَانَت أَيَّام مُعَاوِيَة، أحبّ أَن يدوّن فِي التَّارِيخ كتاب، فاستقدم عبيد ابْن شريّة الجرهميّ من صنعاء، فَكتب لَهُ كتاب الْمُلُوك وأخبار الماضين. بعد هَذَا رَأينَا أَكثر من وَاحِد من الْعلمَاء يتجهون إِلَى علم التَّارِيخ من ناحيته الْخَاصَّة لَا الْعَامَّة، وَهِي سيرة الرَّسُول. ولعلهم وجدوا فِي تدوين مَا يتَعَلَّق بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام شَيْئا يحقّق مَا فِي أنفسهم من تعلق بِهِ، وحبّ لتخليد آثاره، بعد أَن منعُوا من تدوين أَحَادِيثه إِلَى أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز، مَخَافَة أَن يخْتَلط الحَدِيث بِالْقُرْآنِ، فجَاء أَكثر من رجل كلهم محدّث، فدوّنوا فِي السِّيرَة كتبا، نذْكر مِنْهُم: عُرْوَة بن الزبير بن العوّام الْفَقِيه المحدّث، الّذي مكّنه نسبه من قبل أَبِيه الزبير وَأمه أَسمَاء بنت أَبى بكر أَن يرْوى الْكثير من الْأَخْبَار وَالْأَحَادِيث عَن النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وحياة صدر الْإِسْلَام.
وحسبك أَن تعلم أَن ابْن إِسْحَاق، والواقدي والطبري، أَكْثرُوا من الْأَخْذ عَنهُ، وَلَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَة، وَالْمَدينَة، وغزوة بدر. وَكَانَت وَفَاة عُرْوَة- فِيمَا يظنّ- سنة 92 هـ.
ثمَّ أبان بن عُثْمَان بن عَفَّان المدنيّ الْمُتَوفَّى سنة 105 هـ. فألّف فِي السِّيرَة صحفا جمع فِيهَا أَحَادِيث حَيَاة الرَّسُول.
ثمَّ وهب بن منبّه الْيُمْنَى الْمُتَوفَّى سنة 110 هـ. وَفِي مَدِينَة هيدلبرج بألمانيا قِطْعَة من كِتَابه الّذي ألّفه فِي الْمَغَازِي.
وَغير هَؤُلَاءِ كثير، مِنْهُم من قضى نحبه قرب تَمام الرّبع الأوّل من الْقرن الثَّانِي،(مقدمة/5)
كشرحبيل بن سعد الْمُتَوفَّى سنة 123 هـ. وَابْن شهَاب الزهرىّ الْمُتَوفَّى سنة 124 هـ.
وَعَاصِم بن عمر بن قَتَادَة الْمُتَوفَّى سنة 120 هـ. وَمِنْهُم من جاوزه بسنين، كَعبد الله بن أَبى بكر بن حزم الْمُتَوفَّى سنة 135 هـ.
وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة مِمَّن عنوا بأخبار الْمَغَازِي، وَمَا يتَّصل بهَا.
وَمِنْهُم من عَاشَ حَتَّى أوشك أَن يدْرك منتصف الْقرن الثَّانِي، أَو جاوزه بِقَلِيل، كموسى بن عقبَة الْمُتَوفَّى سنة 141 هـ، ثمَّ معمر بن رَاشد الْمُتَوفَّى سنة 150 هـ، ثمَّ شيخ رجال السِّيرَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمُتَوفَّى سنة 152 هـ.
وَجَاء بعد هَؤُلَاءِ غَيرهم، نذْكر مِنْهُم زيادا البكائيّ الْمُتَوفَّى سنة 183 هـ، والواقدي صَاحب الْمَغَازِي الْمُتَوفَّى سنة 207 هـ، وَمُحَمّد بن سعد صَاحب الطَّبَقَات الْكُبْرَى الْمُتَوفَّى سنة 230 هـ. وَقبل أَن تستأثر الْمنية بِابْن سعد عدت على ابْن هِشَام فِي سنة 218 هـ. وَابْن هِشَام هُوَ الرجل الّذي انْتَهَت إِلَيْهِ سيرة ابْن إِسْحَاق، فَعرفت بِهِ وشاع ذكره بهَا.
(علم السِّيرَة فِي أدواره الْمُخْتَلفَة) :
وَلم تَنْقَطِع الْعِنَايَة بالتأليف فِي السِّيرَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا. إِلَّا أَن الْمَوْضُوع فِي ذَاته لَيْسَ أمرا يقوم على التجارب، أَو فكرة يقيمها برهَان وينفضها برهَان، شَأْن النظريات العلمية الَّتِي نرى اتِّصَال الْعلمَاء بهَا اتِّصَال تَجْدِيد وتغيير على مرّ السنين، وَإِنَّمَا هُوَ أَمر عماده النَّقْل وَالرِّوَايَة.
فَكَانَ المشتغلون بِهِ أوّلا محدّثين ناقلين، ثمَّ رَأينَا من جَاءَ بعدهمْ جامعين مبوّبين، وَلما اسْتَوَى للمتأخرين مَا جمع المتقدمون، جَاءَ طور النَّقْد وَالتَّعْلِيق، كَمَا فعل ابْن هِشَام فِي سيرة ابْن إِسْحَاق.
فَكَانَ هَذَا التراث بَين أَيدي من جَاءَ بعدهمْ شَيْئا غير قَابل لجديد فِي جوهره، كلّ مجهود فِيهِ كَانَ فِي الشكل وَالصُّورَة لَا يمسّ الْجَوْهَر إِلَّا بِمِقْدَار. وَقد رَأينَا المؤلّفين فِيهِ على ضَرْبَيْنِ: فريق عَاشَ فِي ظلّ كتب الأوّلين، يَتَنَاوَلهَا بالشرح، أَو الِاخْتِصَار، أَو النّظم ليسهل حفظهَا. وفريق صبغ نَفسه بِصفة الْمُؤلف المبتدع،(مقدمة/6)
فَجمع بَين يَدَيْهِ كتب السِّيرَة، وَخرج مِنْهَا بِكِتَاب هُوَ فِي ظَاهره لَهُ، وَفِي حَقِيقَته أَنه لغير وَاحِد مِمَّن سَبَقُوهُ.
نذْكر من الْفَرِيق الثَّانِي ابْن فَارس [1] اللّغَوِيّ الْمُتَوفَّى بالريّ سنة 395 هـ، وَمُحَمّد ابْن عليّ بن يُوسُف الشافعيّ الشَّامي الْمُتَوفَّى سنة 600 هـ، وَابْن أَبى طىّ يحيى بن حميد الْمُتَوفَّى سنة 630 هـ، وظهير الدَّين على بن مُحَمَّد كازروني الْمُتَوفَّى سنة 694 هـ وعلاء الدَّين عليّ بن مُحَمَّد الخلاطى الْحَنَفِيّ الْمُتَوفَّى سنة 708 هـ، وَابْن سيد النَّاس [2] الْبَصْرِيّ الشافعيّ الْمَوْلُود سنة 661 هـ، والمتوفى سنة 734 هـ، وشهاب الدَّين الرّعينى الغرناطي [3] الْمُتَوفَّى سنة 779 هـ، وَأَبا عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن عليّ بن جَابر الأندلسيّ [4] الْمُتَوفَّى سنة 780 هـ. ثمَّ مُحَمَّد بن يُوسُف الصَّالِحِي صَاحب السِّيرَة الشامية [5] الْمُتَوفَّى سنة 942 هـ، وعليّ بن برهَان الدَّين صَاحب السِّيرَة الحلبية [6] الْمَوْلُود بِمصْر سنة 975 هـ والمتوفى سنة 1044 هـ، وَغير هَؤُلَاءِ نقتصر مِنْهُم على مَا أوردنا.
وَنَذْكُر من رجال الْفَرِيق الأوّل: السّهيليّ، وَأَبا ذرّ، وَكِلَاهُمَا شرح سيرة ابْن هِشَام، وقطب الدَّين عبد الْكَرِيم الجماعيلىّ [7] الْمُتَوفَّى سنة 735 هـ، الّذي شرح سيرة مُحَمَّد بن على بن يُوسُف، وقاسم بن قطلوبغا ملخص سيرة مغلطاى [8] ،
__________
[1] بدار الْكتب المصرية نسختان مخطوطتان من سيرة ابْن فَارس برقمى 460، 494 تَارِيخ.
[2] لِابْنِ سيد النَّاس كِتَابه «عُيُون الْأَثر، فِي فنون الْمَغَازِي وَالشَّمَائِل وَالسير» ، وبدار الْكتب المصرية نسخ خطْبَة مِنْهُ.
[3] لَهُ «رِسَالَة فِي السِّيرَة والمولد النَّبَوِيّ» بدار الْكتب المصرية مخطوطة (برقم 494 مجاميع تَارِيخ)
[4] كِتَابه يُسمى «رِسَالَة فِي السِّيرَة والمولد النَّبَوِيّ» ضمن مَجْمُوعَة مخطوطة بدار الْكتب المصرية مَعَ الرسَالَة الْمُتَقَدّمَة (برقم 494 مجاميع تَارِيخ) .
[5] وَاسْمهَا: «سبل الْهدى والرشاد، فِي سيرة خير الْعباد ... إِلَخ» . وَمِنْهَا بدار الْكتب المصرية نسختان مخطوطتان: إِحْدَاهمَا فِي أَرْبَعَة أَجزَاء. وَالْأُخْرَى مَوْجُود مِنْهَا جزءان فَقَط، وهما: الثَّالِث وَالْخَامِس.
[6] وَاسْمهَا: «إِنْسَان الْعُيُون، فِي سيرة الْأمين الْمَأْمُون، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام» وَمِنْهَا بدار الْكتب أَكثر من نُسْخَة.
[7] وسمى كِتَابه: «المورد العذب الهنى، فِي الْكَلَام على سيرة عبد الْغنى» .
[8] هُوَ الْحَافِظ عَلَاء الدَّين مغلطاى الْمَوْلُود سنة 689 هـ، والمتوفى فِي شعْبَان سنة 762 هـ وَله فِي السِّيرَة والتاريخ كتاب «الْإِشَارَة إِلَى سيرة الْمُصْطَفى، وآثار من بعده من الْخُلَفَاء» انْتهى فِيهِ إِلَى نِهَايَة الْكَلَام على الدولة العباسية سنة 656 هـ. وبدار الْكتب مِنْهُ أَكثر من نُسْخَة، كلهَا مخطوط.(مقدمة/7)
وَعز الدَّين ابْن عمر الْكِنَانِي، وَكَانَ لَهُ فِيهَا مُخْتَصر، ثمَّ أَبَا الْحسن عليّ بن عبد الله ابْن أَحْمد المَسْعُودِيّ الْمُتَوفَّى بِالْمَدِينَةِ سنة 911 هـ.
وَمِمَّنْ نظم السِّيرَة وصاغها شعرًا عبد الْعَزِيز بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِسَعْد الديري الْمُتَوفَّى فِي حُدُود سنة 607، هـ وَأَبُو الْحسن فتح بن مُوسَى القصري الْمُتَوفَّى سنة 668 هـ. وَابْن الشَّهِيد الْمُتَوفَّى سنة 793 هـ.
(نشأة الموالد) :
وثمّ ضرب آخر من التَّأْلِيف فِي السِّيرَة، هُوَ من نوع التَّلْخِيص، إِلَّا أَنه تَلْخِيص لناحية خَاصَّة من نواحي الرَّسُول: عَن مولده وَمَا يتَعَلَّق بِهَذَا المولد الْكَرِيم، وَمَا يسْبقهُ من إرهاصات، وَعَن نشأته فِي طفولته، وَمَا إِلَى تِلْكَ الطفولة من خوارق يرتبط حدوثها بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ حَيَاته من شبابه إِلَى بُلُوغه السنّ الَّتِي حمل فِيهَا النبوّة، واضطلع بعبء الرسَالَة، وَمَا طبع عَلَيْهِ من خلق طيب وصفات حميدة، وَبعد عَمَّا كَانَ يألفه الشّبان فِي أَيَّامه.
هَذَا الْعَمَل سمّه إِن شِئْت تَرْجَمَة مختصرة للصدر الأوّل من حَيَاة الرَّسُول، ولمحة سريعة عَن تَارِيخه بعد الرسَالَة. وَقد يُسَمِّيه بعض النَّاس «المولد النَّبَوِيّ» ، وَهُوَ من قبيل مَا يُعِدّه الْعلمَاء الدينيون ليلقوه فِي الْمَوْسِم الرسمى الْعَام بعد الْعَام فِي الْمَسَاجِد أَو فِي غَيرهَا. وَقد زخرت بِهَذَا النَّوْع خزانَة التَّأْلِيف، حَتَّى أَصبَحت الرسائل الَّتِي وضعت فِيهَا لَا تدخل تَحت حصر.
(السّير والنقد) :
وَلَعَلَّ النّظر إِلَى تراث السالفين وَلَا سِيمَا مَا يتَّصل مِنْهُ بِعلم السّير، نظرة فِيهَا الْكثير من التَّقْدِيس، هُوَ الّذي حَال دون هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من أَن يقفوا من هَذَا الْعلم موقفا فقدناه فِي جَمِيع المؤلفين الْمُتَقَدِّمين، على اخْتِلَاف طبقاتهم. فَلم نر مِنْهُم من عرض لما تحمله السّير بَين دفتيها. من أَخْبَار تتصف بالبعد عَن الْحَقِيقَة، فنقدها وأتى على مَوَاضِع الضعْف مِنْهَا.(مقدمة/8)
ولعلّ الَّذين تناولوا السّير بالتلخيص والاختصار، حِين استبعدوا بعض هَذِه الْأَخْبَار، استبعدوها غير مُؤمنين بِصِحَّتِهَا، لَا تَخْفِيفًا من ثقل الْكتاب.
هَذَا مَا حرمه هَذَا الْعلم فِي جَمِيع أدواره السالفة إِلَى مَا قبل أيامنا هَذِه بِقَلِيل، إِذْ رَأينَا الْإِيمَان بِأَن فِي السِّيرَة أَخْبَارًا لَا تتصل بالحقّ فِي قَلِيل وَلَا كثير، تصحبه الجرأة ثمَّ الْإِقْدَام، ورأينا فكرة جَدِيدَة تجرى بهَا أَقْلَام مجدّدة، يتَنَاوَل أَصْحَابهَا الْخَبَر أَو الْخَبَرَيْنِ من السِّيرَة، مِمَّا كَانَ يتَّخذ مطعنا علينا فِي شخص النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو مَا يتَّصل بِهِ، فخلصوه مِمَّا لصق بِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ، وَأَقَامُوا حوله سياجا من الْحجَج والبراهين، صحّ بهَا وَأصْبح حجَّة على الطاعنين فِيهِ، وَمثل هَذَا مَا فعله الْأُسْتَاذ الإِمَام الشَّيْخ مُحَمَّد عَبده فِي قصَّة النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتزويجه زَيْنَب بنت جحش من زيد بن حَارِثَة، ثمَّ مَا كَانَ من تزوّج الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا بعد تطليق زيد لَهَا مِمَّا أرجف فِيهِ الطاعنون ولغوا لَغوا كثيرا.
وَمِنْهُم من عرض للْكتاب فِي قصَّة أَو قصتين مِنْهُ، فصاغها فِي أسلوب جَدِيد، ومثّل للنَّاس الْخَبَر فِي قالب قصصى، خرج بِهِ عَن أسانيده وَذكر رُوَاته، تِلْكَ الطَّرِيقَة الَّتِي هِيَ سرّ تقديس هَذِه الْأَخْبَار فِي هَذِه الْكتب، فبدت الْمعَانِي فِي هَذَا القالب الْجَدِيد كَمَا يَبْدُو الْجَسَد فِي الغلالة الرقيقة لَا تكَاد تخفى مِنْهُ شَيْئا، وَهَذَا الأسلوب الْجَدِيد بِمَا يتَضَمَّن من التهكم بالفكرة السقيمة وَالْخَبَر الغثّ، يخلق بِهِ الْمُؤلف فِي الْقَارئ روح التحفظ فِي قبُول الأفكار وتسلمها.
وَمِنْهُم من جرى مَعَ ابْن إِسْحَاق فِي شوطه، فَتَنَاول السِّيرَة كَمَا تنَاولهَا ابْن إِسْحَاق مبتدئا بميلاد الرَّسُول وَمَا سبقه أَو عاصره من حوادث، ثمَّ جرى يذكر حَيَاة الرَّسُول إِلَى أَن قَبضه الله إِلَى جواره، نَاقِلا من الْأَخْبَار مَا يرى فِيهَا الْقرب من الْحق، ومستبعدا مَا لَا يجرى فِي ذَلِك مَعَ فكرته وَمَا يعْتَقد، مفندا مزاعم الطاعنين، رادّا على المكذّبين.
فجَاء كِتَابه سيرة للرسول، جَدِيدَة فِي أسلوبها، نقية من اللّغو والهراء.
وَنحن إِذْ نخرج للنَّاس سيرة ابْن هِشَام، نخرجها بِمَا فِيهَا من هَذَا وَذَاكَ، لَا نبغى إِلَّا أَن نضع بَين يَدي الْعلمَاء نصا صَحِيحا لأقدم كتاب جَامع بَين سيرته ومغازيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(مقدمة/9)
(مؤلفون جمعُوا بَين السِّيرَة والتاريخ) :
وثمّ مؤلفون آخَرُونَ، وصلوا سيرة الرَّسُول بِمَا بعْدهَا من الْحَوَادِث وَالْأَخْبَار، فِي الْأَزْمَان الَّتِي تعاقبت، والسنين الَّتِي توالت، فَجَاءَت سيرة الرَّسُول فِي كتبهمْ أمرا غير مَقْصُود لذاته: بل حَلقَة من حلقات التَّارِيخ الْعَام الّذي بدأه بَعضهم من بَدْء الْوُجُود، كَابْن جرير الطَّبَرِيّ، وبدأه فريق آخر بحياة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَالْإِمَامِ الْحَافِظ أَبى شُجَاع شيرويه صَاحب كتاب رياض الْأنس، الْمُتَوفَّى سنة 509 هـ.
[سيرة ابْن إِسْحَاق]
(سَبَب وضع سيرة ابْن إِسْحَاق) :
كَانَ ابْن إِسْحَاق من بَين أَعْلَام الْقرن الثَّانِي، وَكَانَ لَهُ علمه الْوَاسِع، واطلاعه الغزير فِي أَخْبَار الماضين، وشاءت الْمَقَادِير أَن يدْخل ابْن إِسْحَاق على الْمَنْصُور بِبَغْدَاد- وَقيل بِالْحيرَةِ- وَبَين يَدَيْهِ ابْنه الْمهْدي، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: أتعرف هَذَا يَا بن إِسْحَاق؟ قَالَ: نعم، هَذَا ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: اذْهَبْ فصنف لَهُ كتابا مُنْذُ خلق الله تَعَالَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى يَوْمك هَذَا.
فَذهب ابْن إِسْحَاق، فصنّف لَهُ هَذَا الْكتاب، فَقَالَ لَهُ: لقد طوّلته يَا بن إِسْحَاق، اذْهَبْ فَاخْتَصَرَهُ. فَاخْتَصَرَهُ، وَألقى الْكتاب الْكَبِير فِي خزانَة أَمِير الْمُؤمنِينَ [1] .
وَلَكِن بعض الدارسين يرى أَن ابْن إِسْحَاق لم يؤلّف كِتَابه بِأَمْر من الْخَلِيفَة [2] ، وَلَا فِي بَغْدَاد أَو الْحيرَة، وَإِنَّمَا أَلفه فِي الْمَدِينَة قبل إِقَامَته لَدَى العباسيين. ويستدلّ على ذَلِك بِأَن جَمِيع من روى عَنْهُم مدنيون ومصريون وَلَيْسَ فيهم أحد من الْعرَاق، وَأَن إِبْرَاهِيم بن سعد تِلْمِيذه الْمدنِي روى الْكتاب عَنهُ. بل نرى فِي الْكتاب حوادث مَا كَانَ العباسيون ليرضوا عَنْهَا، مثل اشْتِرَاك الْعَبَّاس مَعَ الْكفَّار فِي غَزْوَة بدر، وَأسر الْمُسلمين إِيَّاه، ذَلِك الْخَبَر الّذي حذفه ابْن هِشَام بعد خوفًا من العباسيين.
__________
[1] يظنّ أَن من النُّسْخَة الْأَصْلِيَّة، رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، نُسْخَة فِي مكتبة كوبريلى بالآستانة.
[2] انْظُر كتاب الْمَغَازِي الأولى ومؤلفوها لهورفتس، تَرْجَمَة الدكتور حُسَيْن نصار ص 64 وَمَا بعْدهَا.(مقدمة/10)
وَتبين من سيرة ابْن هِشَام، وَمَا اقتطفه الطَّبَرِيّ وَغَيره من سيرة ابْن إِسْحَاق أَنَّهَا كَانَت أصلا مقسمة إِلَى ثَلَاثَة أَجزَاء: المبتدإ، والمبعث، والمغازي. أما الْمُبْتَدَأ فَيتَنَاوَل التَّارِيخ الجاهلي، وينقسم إِلَى أَرْبَعَة فُصُول: يتَنَاوَل أَولهَا تَارِيخ الرسالات السَّابِقَة على الْإِسْلَام، وَثَانِيها تَارِيخ الْيمن فِي الْجَاهِلِيَّة، وَثَالِثهَا تَارِيخ الْقَبَائِل الْعَرَبيَّة وعباداتها، وَالرَّابِع تَارِيخ مَكَّة وأجداد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلَا يعْنى ابْن إِسْحَاق فِي هَذَا الْجُزْء بأسانيد أخباره إِلَّا نَادرا، ويستقى من الأساطير والإسرائيليات.
أما المبعث، فَيشْمَل حَيَاة النبيّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي مَكَّة وَالْهجْرَة. ونرى الْمُؤلف فِيهِ يصدر الْأَخْبَار الفردية بموجز حاولها، ويدوّن مجموعات كَامِلَة من القوائم فقائمة لمن أسلم من الصَّحَابَة بدعوة أَبى بكر، وَأُخْرَى بالمهاجرين إِلَى أَرض الْحَبَشَة، وثالثة لمن عَاد من أَرض الْحَبَشَة لمّا بَلغهُمْ إِسْلَام أهل مَكَّة، وَغَيرهَا. ويعنى بالترتيب الزمنى للحوادث، كَمَا تزداد عنايته بأسانيد الْأَخْبَار.
وَأما الْمَغَازِي، فتتناول حَيَاة النبيّ فِي الْمَدِينَة، وأجرى فِيهَا على أَن يبْدَأ الْخَبَر بموجز حاد لمحتوياته ثمَّ يتبعهُ بِخَبَر من جَمِيع الْأَقْوَال الَّتِي أَخذهَا من رُوَاته ثمَّ يكمله بِمَا جمعه هُوَ نَفسه من المصادر الْمُخْتَلفَة. وتكثر القوائم أَيْضا، من الْغَزَوَات الْمُخْتَلفَة.
ويلتزم إِيرَاد الْأَسَانِيد، وَالتَّرْتِيب الزمنى.
(أثر ابْن هِشَام فِي سيرة ابْن إِسْحَاق) :
ثمَّ قيّض الله لهَذَا المجهود- مجهود ابْن إِسْحَاق- رجلا لَهُ شَأْنه، هُوَ ابْن هِشَام، المعافريّ فَجمع هَذِه السِّيرَة ودوّنها، وَكَانَ لَهُ فِيهَا قلم لم يَنْقَطِع عَن تعقّب ابْن إِسْحَاق الْكثير مِمَّا أورد بالتحرير، والاختصار، والنقد أَو بِذكر رِوَايَة أُخْرَى فَاتَ ابْن إِسْحَاق ذكرهَا، هَذَا إِلَى تَكْمِلَة أضافها، وأخبار أَتَى بهَا. وَفِي هَذِه الْعبارَة الَّتِي صدّر بهَا ابْن هِشَام كتاب السِّيرَة مَا يكْشف لَك عَن دستور ابْن هِشَام ونهجه، قَالَ:
«وَأَنا إِن شَاءَ الله مبتدئ هَذَا الْكتاب بِذكر إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، وَمن ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وَلَده، وَأَوْلَادهمْ لأصلابهم، الأوّل فالأوّل، من إِسْمَاعِيل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَمَا يعرض من حَدِيثهمْ،(مقدمة/11)
وتارك ذكر غَيرهم من ولد إِسْمَاعِيل، على هَذِه الْجِهَة للاختصار، إِلَى حَدِيث سيرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتارك بعض مَا يذكرهُ ابْن إِسْحَاق فِي هَذَا الْكتاب مِمَّا لَيْسَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ ذكر، وَلَا نزل فِيهِ من الْقُرْآن شَيْء، وَلَيْسَ سَببا لشَيْء من هَذَا الْكتاب، وَلَا تَفْسِيرا لَهُ، وَلَا شَاهدا عَلَيْهِ، لما ذكرت من الِاخْتِصَار، وأشعارا ذكرهَا لم أر أحدا من أهل الْعلم بالشعر يعرفهَا، وَأَشْيَاء بَعْضهَا يشنع الحَدِيث بِهِ، وَبَعض يسوء بعض النَّاس ذكره، وَبَعض لم يقرّ لنا البكّائيّ بروايته، ومستقص إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا سوى ذَلِك مِنْهُ بمبلغ الرِّوَايَة لَهُ، وَالْعلم بِهِ-.
فترى أَنه استبعد من عمل ابْن إِسْحَاق تَارِيخ الْأَنْبِيَاء من آدم إِلَى إِبْرَاهِيم، وَغير هَذَا من ولد إِسْمَاعِيل، مِمَّن لَيْسُوا فِي العمود النَّبَوِيّ، كَمَا حذف من الْأَخْبَار مَا يسوء وَمن الشّعْر مَا لم يثبت لَدَيْهِ، ثمَّ استقصى وَزَاد بِمَا يملك من علم، ويسترشد من فكرة فَجَاءَت السِّيرَة على مَا ترى مَعْرُوفَة بِهِ، منسوبة إِلَيْهِ، حَتَّى ليكاد النَّاس ينسون مَعَه مؤلفها الأول: ابْن إِسْحَاق.
(السهيليّ وَغَيره من شرَّاح سيرة ابْن هِشَام) :
وَجَاء أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن السّهيليّ الْمُتَوفَّى سنة 581 هـ، فعنى بِهَذَا الْكتاب، وتناوله على نَحْو جَدِيد ونهج آخر، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الشَّرْح وَالتَّعْلِيق عَلَيْهِ. فَوضع كِتَابه «الرَّوْض الْأنف» فِي ظلّ مجهودي ابْن إِسْحَاق وَابْن هِشَام، يتعقبهما فِيمَا أخبرا بالتحرير والضبط، ثمَّ بالشرح وَالزِّيَادَة، فجَاء عمله هَذَا كتابا آخر فِي السِّيرَة بحجمه وَكَثْرَة مَا حواه من آراء، تشهد لصَاحِبهَا بطول الباع، وسعة الِاطِّلَاع.
وعَلى شاكلة مجهود السهيليّ جَاءَ- فِيمَا يظنّ- مجهود بدر الدَّين مُحَمَّد بن أَحْمد الْعَيْنِيّ الْحَنَفِيّ، فَوضع عَلَيْهِ كِتَابه «كشف اللثام» ، وَكَانَ فَرَاغه مِنْهُ سنة 805 هـ.
وَلَيْسَ بَين أَيْدِينَا من هَذَا الْكتاب نُسْخَة حَتَّى نحكم لصَاحبه، ونتعرّف عمله.
ثمَّ لَا ننسى مجهود أَبى ذرّ الخشنيّ، فقد تصدّى للْكتاب، فشرح غَرِيبه، وَلم ينس أَن يعرض لما فِيهِ من أخطاء، فجَاء عمله مَعَ عمل السّهيليّ متممين لمجهود عَظِيم، سبق بِهِ ابْن إِسْحَاق وَابْن هِشَام.(مقدمة/12)
(مُخْتَصر وسيرة ابْن إِسْحَاق) :
وَلم نر بعد هَؤُلَاءِ رجلا فِي علمهمْ تنَاول الْكتاب بجديد فِي الشَّرْح وَالتَّعْلِيق، بل رَأينَا الهمم تَنْصَرِف من هَذَا إِلَى الِاخْتِصَار، فجَاء برهَان الدَّين إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المرحّل الشافعيّ، فاختصر كتاب السِّيرَة، وَزَاد عَلَيْهِ أمورا، ورتبه فِي ثَمَانِيَة عشر مَجْلِسا. وَسَماهُ: «الذّخيرة، فِي مُخْتَصر السِّيرَة» . وَكَانَ فَرَاغه مِنْهُ سنة 611 هـ.
ثمَّ جَاءَ بعده عماد الدَّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الوَاسِطِيّ، فَاخْتَصَرَهُ فِي كتاب سَمَّاهُ: «مُخْتَصر سيرة ابْن هِشَام» ، وَفرغ مِنْهُ- فِيمَا يُقَال- سنة 711 هـ.
(ناظمو سيرة ابْن إِسْحَاق) :
ثمَّ رَأينَا بعد هَؤُلَاءِ فِئَة النظاميين الَّذين لم يكن هَمهمْ إِلَّا أَن يصبوها فِي قالب جَدِيد هُوَ الشّعْر. فنظمها أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن سعيد الدَّمِيرِيّ الدّيرينىّ الْمُتَوفَّى فِي حُدُود سنة 607 هـ، وَأَبُو نصر الْفَتْح بن مُوسَى بن مُحَمَّد نجم الدَّين المغربي الخضراوى الْمُتَوفَّى سنة 663 هـ، كَمَا نظمها أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد النابلسي الْمَعْرُوف بِابْن الشَّهِيد، والمتوفى سنة 793 هـ. وسمّى كِتَابه «الْفَتْح الْقَرِيب» ، ثمَّ أَبُو إِسْحَاق الْأنْصَارِيّ التلمساني.
هَذَا هُوَ حظّ كتاب ابْن إِسْحَاق، تناولته يَد بعد يَد، مرّة بِالْجمعِ والتعقيب كَمَا رَأَيْت، وَأُخْرَى بالشرح وَالتَّفْصِيل، وثالثة بالاختصار، ورابعة بِوَضْعِهِ فِي ثوب جَدِيد هُوَ النّظم.
فَابْن إِسْحَاق- فِي الْحَقِيقَة- هُوَ عُمْدَة المؤلّفين الَّذين اشتغلوا بِوَضْع السّير بعده، حَتَّى يمكننا أَن نقُول: مَا من كتاب وضع فِي السِّيرَة بعد ابْن إِسْحَاق إِلَّا وَهُوَ غرفَة من بحرة. هَذَا إِذا استثنينا رجلا أَو اثْنَيْنِ كالواقدى وَابْن سعد.
ابْن إِسْحَاق
(نسبه) :
هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار بن خِيَار، وَيُقَال: ابْن كوثان، أَبُو بكر، وَيُقَال أَبُو عبد الله، المدنيّ القرشيّ، مولى قيس بن مخرمَة بن المطّلب بن عبد منَاف.(مقدمة/13)
كَانَ جدّه يسَار من سبى عين التَّمْر، وَهِي بَلْدَة قديمَة قريبَة من الأنبار، غربي الْكُوفَة، على طرف الْبَريَّة، افتتحها الْمُسلمُونَ أَيَّام أَبى بكر سنة 12 هـ، على يَد خَالِد ابْن الْوَلِيد، وبكنيسة عين التَّمْر وجد خَالِد بن الْوَلِيد جدّ ابْن إِسْحَاق هَذَا بَين الغلمة الَّذين كَانُوا رهنا فِي يَد كسْرَى، وَكَانَ مَعَه جدّ عبد الله بن أَبى إِسْحَاق الحضرميّ النحويّ، وجدّ الْكَلْبِيّ الْعَالم، فجيء بيسار إِلَى الْمَدِينَة.
(مولده ووفاته) :
ولد ابْن إِسْحَاق فِي الْمَدِينَة، وترجح كتب التَّارِيخ أَن مولده كَانَ سنة 85 هـ.
أما وَفَاته فالأقوال فِيهَا محصورة بَين سنة 150 وَبَين 153 لَا تكَاد تعدو هَذِه السنين الْأَرْبَع.
(نشأته وحياته) :
وَلَيْسَ من شكّ فِي أَن ابْن إِسْحَاق خلع بِالْمَدِينَةِ ثوب شبابه، ويحدّثنا الرّواة عَنهُ بِأَنَّهُ كَانَ فَتى جميلا، جذّاب الْوَجْه، فارسىّ الْخلقَة، لَهُ شَعْرَة حَسَنَة. وَمِمَّا يتَّصل بشبابه ومجونه- إِن صحّ مَا يُقَال عَنهُ- مَا حَكَاهُ ابْن النديم من أَن أَمِير الْمَدِينَة رقى إِلَيْهِ أَن مُحَمَّدًا يغازل النِّسَاء، فَأمر بإحضاره وضربه أسواطا، وَنَهَاهُ عَن الْجُلُوس فِي مُؤخر الْمَسْجِد.
وَترك ابْن إِسْحَاق الْمَدِينَة ورحل إِلَى غَيرهَا منتقلا فِي أَكثر من بلد، وَفِي ظننا أَن رحلته إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة- الَّتِي كَانَت سنة 115 هـ- هِيَ أولى رحلاته الَّتِي بَدَأَ بهَا.
وَفِي الْإسْكَنْدَريَّة حدث عَن جمَاعَة من أهل مصر. مِنْهُم: عبيد الله بن الْمُغيرَة، وَيزِيد بن حبيب، وثمامة بن شفىّ، وَعبيد الله بن أَبى جَعْفَر، وَالقَاسِم بن قزمان، والسّكن بن أَبى كَرِيمَة. وَانْفَرَدَ ابْن إِسْحَاق بِرِوَايَة أَحَادِيث عَنْهُم لم يروها لَهُم غَيره ثمَّ كَانَت رحلته إِلَى الْكُوفَة، والجزيرة، والرّيّ، والحيرة، وبغداد، وَفِي بَغْدَاد- على الْأَرْجَح- ألْقى عَصا التّرحال، والتقى بالمنصور، وصنّف لِابْنِهِ الْمهْدي كتاب السِّيرَة كَمَا أسلفنا. ورواة ابْن إِسْحَاق من هَذِه الْبلدَانِ أَكثر مِمَّن رووا عَنهُ من أهل الْمَدِينَة، بل الْمَعْرُوف أَنه لم يرو لَهُ من أهل الْمَدِينَة غير إِبْرَاهِيم بن سعد وعاش بِبَغْدَاد مَا عَاشَ حَتَّى وافته منيته بهَا، فَدفن فِي مَقْبرَة الخيزران.(مقدمة/14)
(مَنْزِلَته ومكانته) :
إِن المتتبع لأخبار الروَاة عَن ابْن إِسْحَاق يجد إِلَى جَانب الْإِسْرَاف فِي النّيل مِنْهُ، الْإِسْرَاف فِي مدحه، فتجد عَالما جَلِيلًا كَالْإِمَامِ مَالك بن أنس، وَآخر كهشام بن عُرْوَة بن الزبير، يكادان يخرجانه من حَظِيرَة المحدّثين، أهل الصدْق والثّقة، وَلَا يدّخران وسعا فِي اتهامه بِالْكَذِبِ والدّجل. ذَلِك إِلَى اتهامات أُخْرَى رمى بهَا ابْن إِسْحَاق، كالتدليس، وَالْقَوْل بِالْقدرِ، والتشيع، وَالنَّقْل عَن غير الثّقات، وصنع الشّعْر وَوَضعه فِي كِتَابه، وَالْخَطَأ فِي الْأَنْسَاب.
كَمَا أَنَّك تَجِد غير وَاحِد من الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، كَابْن شهَاب الزهرىّ، وَشعْبَة بن الحجّاج وسُفْيَان الثوريّ، وَزِيَاد البكّائيّ، يوثقونه وَلَا يَتَّهِمُونَهُ بِشَيْء من هَذَا.
وَفِي الحقّ أَن جملَة الحاملين عَلَيْهِ لم تكن مبرأة عَن الْغَايَة، وَلم تكن من الحقّ فِي شَيْء. فانا نعلم عَن ابْن إِسْحَاق أَنه كَانَ يطعن فِي نسب مَالك بن أنس، وَفِي علمه، وَيَقُول: ائْتُونِي بِبَعْض كتبه حَتَّى أبين عيوبه، أَنا بيطار كتبه. فانبرى لَهُ مَالك، وفتّش هُوَ الآخر عَن عيوبه، وَسَماهُ دجالًا، وَكَانَت بَينهمَا هَذِه الْحَرْب الكلامية.
كَمَا غاظ هِشَام بن عبد الْملك من ابْن إِسْحَاق أَنه كَانَ يدعى رِوَايَته عَن امْرَأَته، وَالرِّوَايَة فِي ظنّ هِشَام لَا بدّ أَن تصحبها الرُّؤْيَة، وَهُوَ ضنين بزوجه أَن يَرَاهَا أحد. - وَلَقَد فَاتَ هشاما أَن الرِّوَايَة قد تكون من وَرَاء حجاب، أَو أَن ابْن إِسْحَاق حمل عَنْهَا صَغِيرا. ثمَّ مَا لهشام يُؤْذِيه هَذَا، وَقد كَانَت سنّ زوجه يَوْم يصحّ أَن يحمل عَنْهَا ابْن إِسْحَاق لَا تقلّ عَن خمسين سنة، فَهِيَ تسبقه فِي الْوُجُود بِمَا يقرب من 37 عَاما، ذَلِك إِلَى أَنه لم يكن غَرِيبا فِي ذَلِك الْعَصْر أَن يرْوى رجل عَن امْرَأَة.
وَأما مَا رمى بِهِ ابْن إِسْحَاق من التَّدْلِيس وَغَيره، فقد عقد فِي ذَلِك الْخَطِيب فِي كِتَابه «تَارِيخ بَغْدَاد» ، وَابْن سيد النَّاس فِي كِتَابه «عُيُون الْأَثر» فصلين عرضا فيهمَا لتفنيد جَمِيع المطاعن الَّتِي وجهت إِلَيْهِ، نلخص مِنْهُمَا مَا يأتى:
وَأما مَا رمى بِهِ من التَّدْلِيس وَالْقدر والتشيّع فَلَا يُوجب ردّ رِوَايَته، وَلَا يُوقع فِيهَا كَبِير وَهن. أما التَّدْلِيس فَمِنْهُ القادح وَغَيره، وَلَا يحمل مَا وَقع هَاهُنَا من مُطلق(مقدمة/15)
التَّدْلِيس على التَّدْلِيس الْمُقَيد بالقادح فِي الْعَدَالَة، وَكَذَلِكَ الْقدر والتشيّع لَا يقتضيان الردّ إِلَّا بضميمة أُخْرَى، وَلم نجدها هَاهُنَا.
ثمَّ عرضا بعد ذَلِك للردّ على طعن الطاعنين وَاحِدًا وَاحِدًا، كَقَوْل مكي بن إِبْرَاهِيم، إِنَّه ترك حَدِيث ابْن إِسْحَاق وَلم يعد إِلَيْهِ، وكقول يزِيد بن هَارُون: إِنَّه حدث أهل الْمَدِينَة عَن قوم، فَلَمَّا حَدثهمْ عَنهُ (يُرِيد ابْن إِسْحَاق) أَمْسكُوا. وكقول ابْن نمير: إِنَّه يحدّث عَن المجهولين أَحَادِيث بَاطِلَة، إِلَى كثير غير هَذَا نجتزئ مِنْهُ بِمَا ذكرنَا، ونردفه بِمَا قيل فِي الردّ عَلَيْهِ، فَالْكَلَام فِي هَذَا متشابه، والإكثار مِنْهُ مملول، وجلّ مَا لنا عَن الرجل أَن الحكم لَهُ أرجح من الحكم عَلَيْهِ، قَالَا: وَأما قَول مكي بن إِبْرَاهِيم: إِنَّه ترك حَدِيثه وَلم يعد إِلَيْهِ، فقد علل ذَلِك بِأَنَّهُ سَمعه يحدّث أَحَادِيث فِي الصِّفَات فنفر مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِك كَبِير أَمر، فقد ترخص قوم من السّلف فِي رِوَايَة الْمُشكل من ذَلِك، وَلَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيله، وَلَا سِيمَا إِذا تضمن الحَدِيث حكما أَو أمرا آخر، وَلَقَد تكون هَذِه الْأَحَادِيث من هَذَا الْقَبِيل. وَأما الْخَبَر عَن يزِيد بن هَارُون أَنه حدث أهل الْمَدِينَة عَن قوم، فَلَمَّا حَدثهمْ عَنهُ أَمْسكُوا، فَلَيْسَ فِيهِ ذكر لمقْتَضى الْإِمْسَاك، وَإِذا لم يذكر لم يبْق إِلَّا أَن يجول فِيهِ الظنّ، وَلَيْسَ لنا أَن نعارض عَدَالَة منقولة بِمَا قد نظنه جرحا.
وَأما قَول ابْن نمير: إِنَّه يحدث عَن المجهولين أَحَادِيث بَاطِلَة، فَلَو لم ينْقل توثيقه وتعديله لتردّد الْأَمر فِي التُّهْمَة بِمَا بَينه وَبَين من نقلهَا عَنهُ، وَأما مَعَ التوثيق وَالتَّعْدِيل فالحمل فِيهَا على المجهولين الْمشَار إِلَيْهِم لَا عَلَيْهِ.
بقيت مَسْأَلَة، وَهِي اتهام ابْن إِسْحَاق بِأَنَّهُ كَانَت تعْمل لَهُ الْأَشْعَار، وَيُؤْتى بهَا، وَيسْأل أَن يدخلهَا فِي كِتَابه فِي السِّيرَة، فيفعل.
وَفِي الحقّ أَن هَذَا مَأْخَذ على ابْن إِسْحَاق، إِن لم يكن فِي طَريقَة النَّقْل والتحمّل، فَهُوَ مطْعن فِي مِقْدَار علمه بالشعر، وَأَنه يقبل الْأَشْعَار عَنْهَا وسمينها، باطلها وصحيحها وَلَو أَن ابْن إِسْحَاق حكّم ذوقه، ووقف من هَذِه الْأَشْعَار وَقْفَة النَّاقِد، لخلّص كِتَابه من أشعار أَكثر الظنّ فِيهَا أَنَّهَا مَوْضُوعَة، ولخلّص نَفسه من مطْعن جارح يسجله الْكتاب عَلَيْهِ على مرّ السنين.(مقدمة/16)
وَإِذا كُنَّا قد انتهينا إِلَى هَذَا من حَيَاة ابْن إِسْحَاق، فَلَا نجد بَين أَيْدِينَا مَا نختم بِهِ هَذَا الْمقَال خيرا من عبارَة ابْن عدىّ، إِذْ يَقُول:
«وَلَو لم يكن لِابْنِ إِسْحَاق من الْفضل إِلَّا أَنه صرف الْمُلُوك عَن الِاشْتِغَال بكتب لَا يحصل مِنْهَا شَيْء للاشتغال بمغازي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومبعثه، ومبتدأ الْخلق، لكَانَتْ هَذِه فَضِيلَة سبق بهَا ابْن إِسْحَاق، وَقد فتشت أَحَادِيثه الْكَثِيرَة فَلم أجد مَا تهَيَّأ أَن يقطع عَلَيْهِ بالضعف، وَرُبمَا أَخطَأ واتهم فِي الشَّيْء بعد الشَّيْء كَمَا يُخطئ غَيره.
وَلم يتخلّف فِي الرِّوَايَة عَنهُ الثّقات وَالْأَئِمَّة، أخرج لَهُ مُسلم فِي المبايعات، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة»
ابْن هِشَام
(نسبه) :
هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام بن أَيُّوب الحميرىّ، وَمن الرِّوَايَة من يردّه إِلَى معافر بن يعفر، وهم قبيل كَبِير، نزح إِلَى مصر مِنْهُم جمهرة كَبِيرَة، وَمِنْهُم من يردّه إِلَى ذهل، كَمَا يردّه آخَرُونَ إِلَى سدوس. لَا تكَاد تَجِد فِي ذَلِك رَأيا فاصلا. وَهَذَا شَأْن كل رجل تنازعه أَكثر من بلد، وَلم يَعش حَيْثُ نَشأ بَيته، وقرّت أسرته، ثمَّ لم يكن بَيته- فَوق هَذَا- من النّسَب بالمنزلة الَّتِي يحرص النَّاس على حفظهَا وروايتها.
(نشأته) :
نَشأ ابْن هِشَام بِالْبَصْرَةِ، ثمَّ نزل مصر. هَكَذَا يحدثنا الروَاة عَنهُ، وَلَا يذكرُونَ لَهُ حَيَاة فِي غير هذَيْن البلدين، ولكننا نظن أَن حَيَاة ابْن هِشَام لم تكن محصورة فِي هذَيْن المصرين، وخاصّة فِي عصر كَانَ الْعلم فِيهِ يُؤْخَذ سَمَاعا، وَكَانَت الرحلة فِي طلبه ديدن الْعلمَاء.
(مولده ووفاته) :
وَالْقَوْل فِي وَفَاة ابْن هِشَام غير مَقْطُوع فِيهِ بِرَأْي، فَبَيْنَمَا يذهب فريق إِلَى أَن وَفَاته كَانَت سنة 218 هـ. إِذا بفريق آخر يحدثك أَن وَفَاته كَانَت سنة 213 هـ.(مقدمة/17)
وَإِذا كَانَ هَذَا حَدِيث وَفَاته، فَمَا بالك بِالْحَدِيثِ عَن مِيلَاد رجل نازح، أقرب الظنّ أَنه عرّج على غير بلد قبل أَن ينزل مصر. من أجل هَذَا ظلّ مِيلَاد ابْن هِشَام سرّا دَفِينا فِي ضمير الْأَيَّام.
(مَنْزِلَته) :
وَقد كَانَ رَحمَه الله إِمَامًا فِي النَّحْو واللغة والعربية. ويحدثنا عَنهُ الذَّهَبِيّ وَابْن كثير، أَنه حِين جَاءَ إِلَى مصر اجْتمع بِهِ الشافعيّ، وتناشدا من أشعار الْعَرَب أَشْيَاء كَثِيرَة. وغريب أَن نسْمع هَذَا، وَنحن نعلم أَن ابْن هِشَام كَانَ حِين ينْقل عَن ابْن إِسْحَاق أشعارا فِي هَذَا الْكتاب، ظَاهِرَة الْوَضع فَاسِدَة، لَا يَسْتَطِيع أَن يقطع فِيهَا بِرَأْي وَيَقُول: هَكَذَا حَدثنَا أهل الْعلم بالشعر، نَاقِلا عَنْهُم، غير مُحكم ذوقا اكْتَسبهُ من هَذَا شَأْنه فِي اسْتِيعَاب الْأَشْعَار.
(آثاره) :
وَلابْن هِشَام أَكثر من مؤلف فِي أَكثر من فنّ، فَلهُ غير أَثَره فِي سيرة ابْن إِسْحَاق: شرح مَا وَقع فِي أشعار السّير من الْغَرِيب، وَكتاب التّيجان، لمعْرِفَة مُلُوك الزَّمَان، وَقد طبع حَدِيثا.
هَذِه كلمتنا عَنهُ، وَقد أسلفنا عَنهُ كلمة أُخْرَى خلال الحَدِيث عَن السّير، وَأَنه كَانَ رجل السِّيرَة الّذي انْتَهَت إِلَيْهِ سيرة ابْن إِسْحَاق، وَغلب اسْمه عَلَيْهَا فَعرفت بِهِ، وَأَن فَضله فِيهَا كَانَ لَا يقلّ عَن فضل ابْن إِسْحَاق.
السهيليّ
(اسْمه ولقبه) :
هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد بن أصبغ بن الْحُسَيْن بن سعدون بن رضوَان بن فتوح، الإِمَام الحبر أَبُو الْقَاسِم، وَأَبُو زيد، وَيُقَال: أَبُو الْحسن، بن الْخَطِيب أَبى مُحَمَّد بن الْخَطِيب أَبى عَمْرو بن أَبى الْحسن الخثعميّ السّهيليّ الأندلسى المالقي.(مقدمة/18)
(موطنه والبلاد الَّتِي تنقل فِيهَا) :
وَسُهيْل الّذي ينْسب إِلَيْهِ عبد الرَّحْمَن، وَاد بالأندلس من كورة مالقة، فِيهِ قرى، وَفِي إِحْدَى هَذِه الْقرى ولد عبد الرَّحْمَن [1] . وَأقَام فِي الأندلس عمرا طَويلا نهل من بحار الْعلم مَا نهل، وتزوّد من المعارف مَا تزوّد، وأصبحت لَهُ مكانة عالية وسعى إِلَيْهِ النَّاس يطْلبُونَ الْعلم عَلَيْهِ، فطارت شهرته إِلَى مرّاكش، فَطَلَبه واليها، وَأحسن إِلَيْهِ، وَأَقْبل عَلَيْهِ. وولّاه قَضَاء الْجَمَاعَة، وَحسنت سيرته، وَأقَام السّهيليّ بمرّاكش أعواما ثَلَاثَة، ثمَّ وافته منيته، فَمَاتَ بهَا.
(مولده ووفاته) :
تحدثنا المراجع بِأَن السّنة الَّتِي ولد فِيهَا أَبُو الْقَاسِم كَانَت سنة 508 هـ، وتحدّثنا أَيْضا بِأَنَّهُ توفى سنة 581 هـ. وَيذكر ابْن الْعِمَاد الْحَنْبَلِيّ فِي كِتَابه «شذرات الذَّهَب» أَن أَبَا الْقَاسِم مِمَّن توفّوا سنة 581، وَيذكر إِلَى جَانب هَذَا أَن وَفَاته كَانَت فِي شعْبَان من تِلْكَ السّنة، وَأَنه عَاشَ اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة.
(مؤلفاته وَعلمه وأخلاقه) :
أشهر تواليف السّهيليّ كِتَابه: الرّوض الْأنف، قَالَ الصّفدى فِي نكت الْهِمْيَان: «وَهُوَ كتاب جليل جوّد فِيهِ مَا شَاءَ، وَذكر فِي أوّله أَنه استخرجه من نَيف وَعشْرين وَمِائَة ديوَان» . وَله كتاب التَّعْرِيف والإعلام بِمَا فِي الْقُرْآن من الْأَسْمَاء الْأَعْلَام، وَكتاب نتائج النّظر، وَمَسْأَلَة رُؤْيَة الله عزّ وجلّ ورؤية النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام، وَمَسْأَلَة السرّ فِي عور الدَّجَّال. وَشرح آيَة الْوَصِيَّة، وَشرح الْجمل- وَلم يتمّ- ومسائل كَثِيرَة غير هَذِه اكْتفى المترجمون بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا دون التَّصْرِيح بأسمائها.
وَلم يَقع فِي أَيْدِينَا للسّهيلى غير الرّوض الْأنف، الّذي ألّفه فِي مالقة قبل رحلته إِلَى مرّاكش، إِذْ كَانَ بَدْء إمْلَائِهِ لَهُ فِي شهر المحرّم عَام 569 هـ، وَكَانَ الْفَرَاغ مِنْهُ فِي جُمَادَى الأولى من ذَلِك الْعَام.
وبحسب السّهيليّ هَذَا الْكتاب، فقد دلّ فِيهِ على إِلْمَام وَاسع، واطلاع غزير
__________
[1] قَالَ الصَّفَدِي فِي نكت الْهِمْيَان: وَلَا يرى سُهَيْل فِي جَمِيع الْمغرب، إِلَّا من جبل مطل على هَذِه الْقرْيَة.(مقدمة/19)
بمناح مُخْتَلفَة، وتمكّن فِي ألوان كَثِيرَة من الْعُلُوم، فَكَانَ فِيهِ المؤرّخ واللغوي والأديب والنحويّ والأخباري والعالم بالقراءات. وَكَانَ السّهيليّ فَوق هَذَا شَاعِرًا، يُؤثر لَهُ أبياته الْمَشْهُورَة فِي الْفرج:
قَالَ ابْن دحْيَة عَن السهيليّ: «أنشدنيها وَقَالَ: مَا يسْأَل الله بهَا فِي حَاجَة إِلَّا قَضَاهُ إِيَّاهَا» . وَهِي:
يَا من يرى مَا فِي الضَّمِير وَيسمع ... أَنْت المعدّ لكلّ مَا يتوقّع
يَا من يرجّى للشّدائد كلهَا ... يَا من إِلَيْهِ المشتكى والمفزع
يَا من خَزَائِن رزقه فِي قَول كن ... اُمْنُنْ فانّ الْخَيْر عنْدك أجمع
مَا لي سوى قرعى لبابك حِيلَة ... فلئن رددت فأىّ بَاب أَقرع
مَا لي سوى فقري إِلَيْك وَسِيلَة ... وبالافتقار إِلَيْك فقري أدفَع
من ذَا الّذي أَدْعُو وأهتف باسمه ... إِن كَانَ فضلك عَن فقيرك يمْنَع
حاشا لمجدك أَن تقنّط عَاصِيا ... الْفضل أجزل والمواهب أوسع
وَله غير هَذِه أشعار كَثِيرَة، ذكر ذَلِك ابْن الْعِمَاد، وَلم يزدنا على أبياته فِي الْفرج شَيْئا. وَذكر الصّفدىّ «فِي نكت الْهِمْيَان» ، والمقري فِي «نفح الطيّب» بعض مقطوعات لَهُ.
وَإِن نظرة وَاحِدَة إِلَى مؤلفات السهيليّ كفيلة بِأَن تعطيك فكرة عَن اتجاهه الخلقي وَإِن رجلا عَاشَ للدّين، فوهب لَهُ حَيَاته: مَا بَين درس لَهُ، وتأليف فِيهِ، لخليق بِأَن يعرف بَين النَّاس بالصلاح، ويشتهر بالورع والتّقوى، وَهَكَذَا كَانَ السّهيليّ.
وَكَانَ فَوق هَذَا عفّا قنوعا يرضى بالكفاف.
وَمِمَّا يعرف عَنهُ أَنه كَانَ مالكي الْمَذْهَب، وَأَنه كَانَ ضريرا، أضرّ فِي السَّابِعَة عشرَة من عمره، وَأخذ الْقرَاءَات عَن جمَاعَة، وروى عَن أَبى بكر بن العربيّ وكبار رجالات الْعلم بالأندلس فِي أَيَّامه، وَأخذ اللُّغَة والآداب عَن ابْن الطّراوة، وناظره فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ.(مقدمة/20)
أَبُو ذَر الخشنيّ
(نسبه) :
هُوَ مُصعب بن مُحَمَّد بن مَسْعُود بن عبد الله بن مَسْعُود الجيّانى الخشنيّ، الْمَعْرُوف أَيْضا بِابْن أَبى الرّكب.
والجيّانىّ: نِسْبَة إِلَى كورة وَاسِعَة بالأندلس، تجمع قرى كَثِيرَة، وتتصل بكورة إلبيرة، مائلة عَنْهَا إِلَى نَاحيَة الْجوف، فِي شرقى قرطبة، وَبَينهمَا وَبَين قرطبة سَبْعَة عشر فرسخا. والخشنيّ: نِسْبَة إِلَى خشين كقريش قَرْيَة بالأندلس، وقبيلة من قضاعة، وَهُوَ خشين بن النمر بن وبرة بن تغلب [1] .
وَالْمَعْرُوف أَن أَبَا ذرّ بَقِي بجيان حَتَّى شبّ، وَقد سمع على أَبِيه، وَأخذ عَنهُ، وَأَنه لم يتْرك جيّان إِلَّا بعد أَن تحوّل أَبوهُ إِلَى غرناطة فِي آخر أَيَّامه، وَأَن سنه عِنْد ذَاك كَانَت سنّ غُلَام إِن أدْرك الْعَاشِرَة فَلَا يعدوها إِلَّا بِقَلِيل- فالمدّة بَين مِيلَاد أَبى ذرّ ووفاة أَبِيه أحد عشر عَاما تَقْرِيبًا- ثمَّ رَحل إِلَى فاس يسمع بهَا عَن أَبى عبيد الله النميري وأبى الْحسن بن حُسَيْن وأبى عبد الله بن الرمامة، ثمَّ إِلَى تلمسان يسمع بهَا عَن أَبى الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن الْحسن الْقرشِي، وأبى مَرْوَان عبيد الله بن هِشَام الحضرميّ، ثمَّ إِلَى بجاية يسمع بهَا عَن أَبى بكر بن رزق وأبى الْعَبَّاس الخرّوبى وأبى إِسْحَاق بن ملكون وأبى مُحَمَّد عبد الحقّ بن عبد الرَّحْمَن الإشبيلي.
وَيظْهر أَن رحلاته إِلَى هَذِه الْبِلَاد الثَّلَاثَة كَانَت على التَّرْتِيب الّذي سقناه، لَا يرجح هَذَا لدينا مُرَجّح، غير أَن ابْن الْأَبَّار هَكَذَا سَاقهَا مرتبَة على هَذَا النَّحْو، عِنْد الْكَلَام على شُيُوخ أَبى ذرّ، فَبَدَأَ بفاس، ثمَّ ثنى بتلمسان، ثمَّ ختم ببجاية.
وَسَوَاء أَكَانَ هَذَا أم غَيره، فقد عرفنَا أَن هَذِه الْبِلَاد الثَّلَاثَة نزلها أَبُو ذرّ. ثمَّ نزل بعْدهَا إشبيلية، لَا مستمعا، وَلَكِن خَطِيبًا لمسجدها، وَبَقِي فِيهَا مُدَّة، وَكَانَ إِلَى جَانب الخطابة يقوم بتدريس الْعَرَبيَّة، ويقصده الطلاب الكثيرون. ثمَّ ترك إشبيلية إِلَى جيان
__________
[1] انْظُر الْجُزْء الثَّانِي من خزانَة الْأَدَب فِي شرح الشَّاهِد الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الأربعمائة ص 529 من طبعة بولاق.(مقدمة/21)
بعد أَن غَابَ عَنْهَا هَذَا الْعُمر الطَّوِيل، فولى قضاءها وَجلسَ فِيهَا للحكومة بَين النَّاس، والفصل فِي خصوماتهم. ثمَّ حنّ إِلَى فاس ثَانِيَة، فَترك جيّان إِلَيْهَا، وَأقَام بهَا، وَكَانَ فِيهَا شيخ الْعَرَبيَّة والْحَدِيث يَأْخُذ عَنهُ النَّاس، حَتَّى وافته منيته بهَا.
(مَنْزِلَته ومؤلفاته وَشَيْء عَنهُ) :
علّك، وَقد حدثناك عَن شُيُوخ أَبى ذرّ الَّذين سمع عَنْهُم، وَكلهمْ من جلة الْعلمَاء، ورحلته إِلَيْهِم، قد عرفت طموح هَذِه النَّفس إِلَى الاستزادة من الْعلم والتمكن فِيهِ، وَأَن صَاحبهَا لم يقنع مِنْهُ بِقَلِيل، وَأَنت إِذْ عرفت الْمَرَاتِب الَّتِي تقلّب فِيهَا أَبُو ذرّ بعد الْحَيَاة الأولى، حَيَاة الدَّرْس والتحصيل، تدْرك مَعنا أَنه وصل من الْعلم إِلَى غَايَة رفعته إِلَى تولى خطابة جَامع إشبيلية أَولا، ثمَّ قَضَاء جيان ثَانِيًا، ثمَّ إِلَى أَن يجلس مَجْلِسه الْأَخير فِي فاس يتمتع بصيت بعيد، وَذكر وَاسع.
وَلَقَد نَعته رجال التراجم فِيمَا نعتوه بِهِ بِأَنَّهُ صَاحب التصانيف الَّتِي سَارَتْ بهَا الركْبَان، وَمثل هَذَا لَيْسَ بِكَثِير على أَبى ذرّ، إِلَّا أَنا لم نظفر لَهُ إِلَّا بكتابه المطبوع فِي شرح غَرِيب سيرة ابْن إِسْحَاق، الّذي سَمعه ابْن فرتون عَلَيْهِ، وَكتاب آخر فِي الْعرُوض، ذكره ابْن الْآبَار وَلم يسمّه، وَكتاب ثَالِث ذكره السُّيُوطِيّ فِي البغية فِي أثْنَاء حَدِيثه عَن أَبى ذرّ، فَقَالَ: « ... تكرّر فِي جمع الْجَوَامِع من تصانيفه الْإِمْلَاء على سيرة ابْن هِشَام» .
هَذَا كلّ مَا عَرفْنَاهُ عَن مؤلفات أَبى ذرّ، إِلَّا أَنا لَا ننسى أَنه كَانَ حَامِل لِوَاء الْعَرَبيَّة بالأندلس، وَأَنه كَانَ عَارِفًا بالآداب واللغات، وَأَنه أحد من قرض الشّعْر، وَكَانَ لَهُ نقادا، كَمَا كَانَ مُطلق الْعَنَان فِي معرفَة أَخْبَار الْعَرَب وأيامها وَأَشْعَارهَا ولغاتها، مُتَقَدما فِي كل ذَلِك، وَأَنه لم يكن فِي وقته أضبط مِنْهُ، وَلَا أتقن فِي جَمِيع الْعُلُوم، حفظا وقلما.
وَأما أَخْلَاق أَبى ذرّ الْمَالِكِي الْمَذْهَب، فقد كَانَ ذَا سمت ووقار، وَفضل وَدين ومروءة، كثير الْحيَاء، وقور الْمجْلس، مَعْرُوفا بِالْهدى على سنَن السّلف. يحْكى عَنهُ أَنه كَانَ يمْنَع تلاميذه من التبسط فِي الأسئلة، وَأَنه كَانَ يقصرهم على مَا يلقى إِلَيْهِم وَلم يكن ذَلِك لأحد من عصره، هَيْبَة لَهُ، وخشية مِنْهُ.(مقدمة/22)
(مولده ووفاته) :
يذكر المستشرق بولس برونله أَن أَبَا ذرّ ولد سنة 533- أَي قبل موت أَبِيه بِأحد عشر عَاما، إِذْ كَانَت وَفَاة أَبِيه سنة 544- وَأَن وَفَاة أَبى ذرّ كَانَت سنة 604 هـ وَيُوَافِقهُ ابْن الْأَبَّار على السّنة الَّتِي توفى فِيهَا أَبُو ذرّ، وَيزِيد عَلَيْهِ بِأَن الْوَفَاة كَانَت ضحى يَوْم الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عشر من شوّال، وَأَنه دفن لصَلَاة الْعَصْر من الْيَوْم نَفسه بعدوة الْقرَوِيين فِي فاس.
وَأما ميلاده فَيَقُول فِيهِ ابْن الْأَبَّار: « ... ومولده سنة خمس، وَقيل سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَخمْس مائَة، وَالْأول أصح» .
وَنحن نَمِيل إِلَى قَول ابْن الْأَبَّار فِي مِيلَاد أَبى ذرّ، فقد ذكر ابْن الْعِمَاد أَن أَبَا ذرّ مَاتَ عَن سبعين عَاما، وَإِذا صحّ هَذَا وصحّ عندنَا أَن أَبَا ذرّ- كَمَا قَالَ ابْن الْأَبَّار- مَاتَ فِي شوّال من سنة 604 هـ، كَانَ مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الْأَبَّار فِي مِيلَاد أَبى ذرّ انه كَانَ سنة 535 هـ أقرب إِلَى الصَّوَاب.
عَملنَا فِي السِّيرَة
هَا هُوَ ذَا كتاب السِّيرَة بَين أَيدي القرّاء فِي ثَوْبه الْجَدِيد يحدّث عَمَّا بذلنا من جهد فِي إِخْرَاجه.
لقد كَانَ هَمنَا الأوّل أَن نعارض النُّسْخَة المصرية الَّتِي بَين أَيْدِينَا بِجَمِيعِ النّسخ الْأُخْرَى، خطية أَو مطبوعة، وجرينا فِي الرَّمْز إِلَى هَذِه النّسخ بالحرف الْآتِيَة:
أ- للنسخة المطبوعة بِمَدِينَة جوتنجن بألمانيا سنة 1276 هـ سنة 1862 م.
وَقد اعْتمد ناشرها الْعَلامَة المستشرق «وستنفلد» ، على نُسْخَة السهيليّ المخطوطة، الَّتِي أَخذهَا عَن أستاذه أَبى بكر بن العربىّ الإشبيليّ.
ب- للنسخة المطبوعة فِي بولاق سنة 1259 هـ.
ت- لنسخة خطية بالمكتبة التيمورية، مَوْجُود مِنْهَا الْجُزْء الأول، وَهُوَ نَاقص من الأول وَرَقَات، وينتهى إِلَى شعر عُثْمَان بن مَظْعُون فِي عتاب أُميَّة بن خلف.
ر- للنسخة المطبوعة على هَامِش الرّوض الْأنف بالمطبعة الجمالية بِمصْر سنة 1332 هـ، سنة 1914 ميلادية.(مقدمة/23)
ط- للنسخة المخطوطة بِخَط الْقَاسِم بن زيد المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم، وَالَّتِي فرغ من كتَابَتهَا سنة 1144 هـ، وَهِي مَحْفُوظَة بدار الْكتب.
ع- للنسخة المخطوطة بِخَط مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الشافعيّ الدمشقيّ الْمُتَوفَّى سنة 749 هـ. وَهِي نَاقِصَة من الأوّل والأثناء. وأوّل مَا فِيهَا من قبيل أَسمَاء من شهد الْعقبَة الْأَخِيرَة، وَهِي مَحْفُوظَة بدار الْكتب.
م- للنسخة المطبوعة فِي مصر بالمطبعة الْخَيْرِيَّة سنة 1329 هـ.
ن- لنسخة خطية لَا يعرف كاتبها، وَلَا السّنة الَّتِي كتبت فِيهَا، وَلَا يُوجد مِنْهَا إِلَّا الجزءان، الأول وَالثَّانِي. وينتهيان إِلَى آخر مَا قيل من الْأَشْعَار فِي غَزْوَة أحد، وَهِي مَحْفُوظَة بدار الْكتب.
ثمَّ استعنا بعد ذَلِك على تَبْيِين المغلق، وتوضيح الْمُبْهم، بالكتب الَّتِي عرضت للسيرة بِمثل هَذَا، كالروض الْأنف للسهيلى، وَشرح السِّيرَة لأبى ذرّ الخشنيّ.
وَفِي كثير من المواطن الَّتِي كُنَّا نفقد فِيهَا بغيتنا فِي مثل هذَيْن المرجعين كُنَّا نلجأ إِلَى المراجع الَّتِي أَشَرنَا إِلَيْهَا فِي حَاشِيَة الْكتاب.
وَقد كُنَّا نترجم للأعلام الْوَارِدَة، ونتتبّعها بالتصحيح والضبط. بَقِي بعد ذَلِك تبويب الْكتاب، وَوَضعه أبوابا تَحت هَذِه العناوين الَّتِي أثبتناها. وَحين رَأينَا مُعظم النّسخ قد أغفلت مِنْهَا الْكثير، إِذا بالنسخة الأوربية قد أسرفت فِي ذَلِك، فسلكنا نَحن نهجا وسطا، فأخذنا من العناوين مَا يصحّ أَن يُمَيّز بَابا مُسْتقِلّا عَن غَيره، ونفينا مِنْهَا مَا لَا يجرى مَعَ هَذِه الفكرة، ووضعنا العناوين الَّتِي بالحرف الصَّغِير بَين الأقواس فَوق كلّ فكرة جَدِيدَة. لتَكون عونا لنا على عمل الفهرس التفصيلي العامّ، الّذي ألحقناه بِالْكتاب.
وَهَا نَحن أولاء، بعد أَن بذلنا قصارى الْجهد فِي السِّيرَة نقدّم الطبعة الثَّانِيَة مِنْهَا فِي هَذِه الْحلَّة القشيبة راجين أَن نَكُون أقرب إِلَى التَّوْفِيق، وَأدنى إِلَى الصَّوَاب.
مصطفى السقا/ إِبْرَاهِيم الابيارى/ عبد الحفيظ ثلبى(مقدمة/24)
ذِكْرُ سَرْدِ النَّسَبِ الزَّكِيِّ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، إلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ (النَّحْوِيُّ) [1] :
هَذَا كِتَابُ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَّلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: شَيْبَةُ [2] بْنُ هَاشِمٍ، وَاسْمُ هَاشِمٍ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ: الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، (وَاسْمُ قُصَيٍّ: زَيْدُ) [1] بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ [3] بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ [4]
__________
[1] مَا بَين القوسين () : زِيَادَة عَن أ.
[2] وَقيل إِن اسْم عبد الْمطلب: عَامر (كَمَا فِي المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة، وَشرح الْمَوَاهِب اللدنية ج 1 ص 71 طبع المطبعة الأزهرية) . وَالصَّحِيح أَن اسْمه: «شيبَة» كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِك السهيليّ فِي «الرَّوْض الْأنف» . وسمى كَذَلِك لِأَنَّهُ ولد وَفِي رَأسه شيبَة. وَأما غَيره من الْعَرَب مِمَّن اسْمه شيبَة فَإِنَّمَا قصد بتسميته بِهَذَا الِاسْم التفاؤل. وَقد عَاشَ عبد الْمطلب مائَة وَأَرْبَعين سنة، وَكَانَ لِدَة عبيد بن الأبرص الشَّاعِر.
[3] واسْمه قُرَيْش، وَإِلَيْهِ تنْسب الْقَبِيلَة، وَقيل: بل فهر اسْمه، وقريش لقب لَهُ. وَقد روى عَن نسابى الْعَرَب أَنهم قَالُوا: من جَاوز فهرا فَلَيْسَ من قُرَيْش (انْظُر شرح الْمَوَاهِب اللدنية، ج 1 ص 75) .
[4] واسْمه قيس، ولقب بالنضر لنضارة وَجهه، وَأمه برة بنت أدبن طابخة، تزَوجهَا أَبوهُ كنَانَة بعد أَبِيه خُزَيْمَة، فَولدت لَهُ النَّضر على مَا كَانَت الْجَاهِلِيَّة تفعل: إِذا مَاتَ الرجل خلف على زَوجته أكبر بنيه من غَيرهَا. وَقد ذكر الجاحظ أَن هَذَا غلط نَشأ من اشْتِبَاه، إِذْ أَن كنَانَة خلف على زَوْجَة أَبِيه، فَمَاتَتْ وَلم تَلد لَهُ ذكرا وَلَا أُنْثَى، فنكح ابْنة أَخِيهَا، وَهِي برة بنت مرّة بن أد بن طابخة، فَولدت النَّضر.
(رَاجع شرح الْمَوَاهِب اللدنية) . 1- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/1)
ابْن كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَاسْمُ مُدْرِكَةَ: عَامِرُ [1] بْنُ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ [2] بْنِ (أُدٍّ، وَيُقَالُ) [3] : أُدَدُ [4] بْنُ مُقَوِّمِ [5] بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَيْرَحَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ [6] بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ- خَلِيلِ الرَّحْمَنِ- بْنِ تَارِحٍ [7] ، وَهُوَ آزَرُ [8] بْنُ نَاحُورَ بْنِ سَارُوغَ [9] بْنِ رَاعُو [10] بْنِ فَالَخٍ [11]
__________
[1] هَذَا قَول ابْن إِسْحَاق، وَالصَّحِيح عِنْد الْجُمْهُور أَن اسْمه: عَمْرو.
[2] اضْطَرَبَتْ كلمة النسابين فِيمَا بعد عدنان، حَتَّى نراهم لَا يكادون يجمعُونَ على جد حَتَّى يَخْتَلِفُوا فِيمَن فَوْقه، وَقد حكى عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه كَانَ إِذا انتسب لم يتَجَاوَز فِي نسبه عدنان بن أدد، ثمَّ يمسك وَيَقُول: كذب النسابون. وَقَالَ عمر بن الْخطاب: إِنِّي لأنتسب إِلَى معد بن عدنان، وَلَا أدرى مَا هُوَ. وَعَن سُلَيْمَان بن أَبى خَيْثَمَة قَالَ: مَا وجدنَا فِي علم عَالم، وَلَا شعر شَاعِر أحدا يعرف مَا وَرَاء معد ابْن عدنان، ويعرب بن قحطان.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] يذهب بعض النسابين إِلَى أَن أد هُوَ ابْن أدد، وليسا شخصا وَاحِدًا، وَيَقُولُونَ: إِن أم أدهى النعجاء بنت عَمْرو بن تبع، وَأم أدد حَيَّة، وَهِي من قحطان (رَاجع أصُول الأحساب وفصول الْأَنْسَاب للجوانى مخطوط مَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم 2015 تَارِيخ) . وَقد ذهب ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه «المعارف» إِلَى أَن أد هُوَ ابْن يجثوم بن مقوم، فَيكون مقوم جدا لأد وَلَيْسَ أَبَاهُ.
[5] ضَبطه السهيليّ فِي كِتَابه «الرَّوْض الْأنف» بالعبارة، فَقَالَ: « ... وَأما مقوم بِكَسْر الْوَاو» ، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مُشَدّدَة كَمَا ضبطت بالقلم فِي المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة.
[6] وَيُقَال لَهُ: نبت أَيْضا (رَاجع كتاب أَنْسَاب الْعَرَب للصحارى مخطوط مَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم 2461 تَارِيخ) .
[7] كَذَا بِالْأَصْلِ هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي، ومروج الذَّهَب للمسعوديّ (ج 1 ص 20 طبع بلاق) . وَفِي الطَّبَرِيّ، والمعارف لِابْنِ قُتَيْبَة، ومروج الذَّهَب (ج 1 ص 303) . وروضة الْأَلْبَاب للْإِمَام مُحَمَّد الزيدي (مخطوط مَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم 945 تَارِيخ) : «تَارِيخ» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
[8] وَقيل: هُوَ عَم إِبْرَاهِيم لَا أَبوهُ، إِذْ لَو كَانَ أَبَاهُ الْحَقِيقِيّ لم يقل تَعَالَى: لِأَبِيهِ آزَرَ 6: 74 لِأَن الْعَرَب لَا تَقول أَبى فلَان، إِلَّا للعم دون الْأَب الْحَقِيقِيّ. (رَاجع رَوْضَة الْأَلْبَاب) .
[9] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ، ومروج الذَّهَب. وَفِي المعارف: «شاروغ» وَفِيه: أَن اسْمه «أشرع» أَيْضا، وَهَذَا مَا ذكره ابْن هِشَام بعد قَلِيل نقلا عَن قَتَادَة، وَفِي رَوْضَة الْأَلْبَاب: «شاروخ» (بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة) .
وَفِي الأَصْل هُنَا: «ساروح» (بِالْحَاء الْمُهْملَة) .
[10] كَذَا فِي الأَصْل هُنَا. وَفِيمَا سَيَأْتِي بعد قَلِيل: «أرغو» . وَفِي الطَّبَرِيّ وروضة الْأَلْبَاب «أرغوا» وَفِي المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة ومروج الذَّهَب (ج 1 ص 303) : «أرعو» بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَفِي مروج الذَّهَب (ج 1 ص 20) : «رعو»
[11] كَذَا بِالْأَصْلِ هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي. وَفِي الطَّبَرِيّ، والمعارف، ومروج الذَّهَب، وأصول الأحساب، وَالرَّوْض الْأنف، وروضة الْأَلْبَاب، وأنساب الْعَرَب: «فالغ» (بالغين الْمُعْجَمَة) . وَهُوَ «فالخ» كَمَا نَص على ذَلِك فِي أَنْسَاب الْعَرَب. وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ القسام.(1/2)
ابْن عَيْبَرِ [1] بْنِ شالَخٍ [2] بْنِ أرْفَخْشَذَ [3] بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لَمْكَ [4] بْنِ مُتَوَشْلِخَ [5] ابْن أَخْنُوخَ، وَهُوَ إدْرِيسُ النَّبِيُّ- فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ أَوَّلَ بَنِي آدَمَ أُعْطَى النُّبُوَّةَ، وَخَطَّ بِالْقَلَمِ- ابْنِ يَرْدِ بْنِ مُهْلَيِلِ [6] بْنِ قَيْنَنَ [7] بْنِ يانِشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا زِيَادُ [8] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ [9] الْمُطَّلِبِيِّ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ نَسَبِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ إدْرِيسَ وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ ابْن زُهَيْرِ بْنِ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دُعَامةَ، أَنَّهُ قَالَ:
إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ- خَلِيلِ الرَّحْمَنِ- ابْن تَارِحٍ، وهُوَ آزَرُ بْنُ نَاحُورَ بْنِ أَسْرَغَ [10]
__________
[1] كَذَا بِالْأَصْلِ هُنَا. وَفِيمَا سَيَأْتِي: «عَابِر» ، وَهِي رِوَايَة جَمِيع المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا غير رَوْضَة الْأَلْبَاب، فَإِنَّهُ فِيهَا بالغين الْمُعْجَمَة.
[2] كَذَا بِالْأَصْلِ، والمعارف، والطبري، وَالرَّوْض الْأنف، وروضة الْأَلْبَاب. وشالخ مَعْنَاهُ:
الرَّسُول أَو الْوَكِيل، وَفِي مروج الذَّهَب: «شالح» (بِالْحَاء الْمُهْملَة) .
[3] كَذَا فِي م، ومروج الذَّهَب، وَالرَّوْض الْأنف، وأصول الأحساب، وأنساب الْعَرَب.
وَمعنى أرفخشذ: مِصْبَاح مضيء. وَفِي الطَّبَرِيّ، والمعارف: «أرفخشد» (بِالدَّال الْمُهْملَة) .
[4] كَذَا فِي شرح القصيدة الحميرية (المخطوطة الْمَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم 1359 تَارِيخ) وروضة الْأَلْبَاب، ومروج الذَّهَب، وَقد ضبط فِي هَامِش الْأَخير بالعبارة بِفَتْح اللَّام وَسُكُون الْمِيم. وَفِي الأَصْل هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي: «لامك» .
[5] متوشلخ مَعْنَاهُ: مَاتَ الرَّسُول. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[6] فِيمَا سَيَأْتِي: «مهلائيل» وَهِي رِوَايَة أَكثر المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا.
[7] كَذَا بِالْأَصْلِ هُنَا. وَفِيمَا سَيَأْتِي: «قاين» . وَفِي الطَّبَرِيّ، ومروج الذَّهَب: «قينان» .
[8] هُوَ أَبُو مُحَمَّد زِيَاد بن عبد الله بن الطُّفَيْل البكائي الْكُوفِي، نسب إِلَى الْبكاء بن عَمْرو، ربيعَة بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن، وَهُوَ من أَصْحَاب الحَدِيث، أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم (عَن شرح السِّيرَة وتهذيب التَّهْذِيب) .
[9] هُوَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن بشار مولى قيس بن مخرمَة بن الْمطلب بن عبد منَاف، وَلذَلِك يُقَال فِي نسبه: المطلبي، وَهُوَ من كبار الْمُحدثين لَا سِيمَا فِي الْمَغَازِي وَالسير، وَكَانَ الزُّهْرِيّ يثنى عَلَيْهِ بذلك، ويفضله على غَيره، وَهُوَ مدنِي توفى بِبَغْدَاد سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة.
[10] كَذَا فِي أ. وَفِي م: «استرغ» . (رَاجع الْحَاشِيَة رقم 9 ص 2 من هَذَا الْجُزْء) .(1/3)
ابْن أَرْغُو بْنِ فَالَخٍ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالَخٍ بْنِ أرْفخْشَذَ [1] بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لَمْكِ بْنِ مَتُّوشَلَخِ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَرْدِ بْنِ مِهْلَائِيلَ بْنِ قَايِنَ [2] بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(نَهْجُ ابْنِ هِشَامٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ مُبْتَدِئٌ هَذَا الْكِتَابَ بِذِكْرِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَمَنْ وَلَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَلَدِهِ، وَأَوْلَادِهِمْ لِأَصْلَابِهِمْ، الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، مِنْ إسْمَاعِيلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَعْرِضُ مِنْ حَدِيثهِمْ، وَتَارِكٌ ذِكْرَ غَيْرِهِمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ، عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ لِلِاخْتِصَارِ، إلَى حَدِيثِ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَارِكٌ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، مِمَّا لَيْسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ذِكْرٌ، وَلَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا تَفْسِيرًا لَهُ، وَلَا شَاهِدًا عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ الِاخْتِصَارِ، وَأَشْعَارًا ذَكَرَهَا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يَعْرِفُهَا، وَأَشْيَاءَ بَعْضُهَا يَشْنُعُ الْحَدِيثُ بِهِ، وَبَعْضٌ يَسُوءُ بَعْضَ النَّاسِ ذِكْرُهُ، وَبَعْضٌ لَمْ يُقِرَّ لَنَا الْبَكَّائِيُّ بِرِوَايَتِهِ، وَمُسْتَقْصٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ بِمَبْلَغِ الرِّوَايَةِ لَهُ، وَالْعِلْمِ بِهِ.
سِيَاقَةُ النَّسَبِ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
(أَوْلَادُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَسَبُ أُمِّهِمْ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيِّ قَالَ:
وَلَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا: نَابِتًا، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ،
__________
[1] فِي أهنا: «الفخشذ» . (رَاجع الْحَاشِيَة رقم 3 ص 3 من هَذَا الْجُزْء) .
[2] (رَاجع الْحَاشِيَة رقم 7 ص 3 من هَذَا الْجُزْء) .(1/4)
وقَيْذَرُ [1] ، وَأَذْبُلَ [2] ، وَمُبِشًّا [3] ، وَمِسْمَعًا، وَمَاشِي [4] ، وَدِمَّا [5] ، وَأَذَرُ [6] ، وَطَيْمَا [7] ، وَيَطُورَ [8] ، ونَبِشَ [9] ، وقَيْذُما [10] . وَأُمُّهُمْ (رَعْلَةُ) [11] بِنْتُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيُّ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مِضَاضٌ. وَجُرْهُمُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقَحْطَانُ أَبُو الْيَمَنِ كلهَا، وَإِلَيْهِ تَجْتَمِع نَسَبُهَا- ابْنُ عَامِرِ بْنِ شالَخِ بْنِ أرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: جُرْهُمُ بْنُ يَقْطَنَ بْنِ عَيْبَرِ بْنِ شَالَخٍ. و (يَقْطَنُ هُوَ) [12] قَحْطَانُ بْنُ عَيْبَرِ بْنِ شالَخٍ.
(عُمْرُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَدْفِنُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ عُمْرُ إسْمَاعِيلَ- فِيمَا يذكرُونَ مائَة سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ [13] مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ، رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
__________
[1] كَذَا فِي أ، وَيُقَال فِيهِ: «قيذار» أَيْضا (رَاجع أَنْسَاب الْعَرَب، وأصول الأحساب) . وَفِي م:
«قيدر» . وَفِي الطَّبَرِيّ، والمعارف: «قيدار» (بِالدَّال الْمُهْملَة فِي الرِّوَايَتَيْنِ) .
[2] فِي الطَّبَرِيّ وأنساب الْعَرَب: «أدبيل» . وَيُقَال فِيهِ: «أدبال» أَيْضا.
[3] كَذَا فِي أوالطبري، وأنساب الْعَرَب. وَفِي م: «منشا» . وَفِي أصُول الأحساب: «مشا» .
[4] فِي الطَّبَرِيّ: «ماسى» بِالسِّين الْمُهْملَة.
[5] وَيُقَال فِيهِ: «دمار» (رَاجع أَنْسَاب الْعَرَب) .
[6] فِي أَنْسَاب الْعَرَب: «أدر» (بِالدَّال الْمُهْملَة) .
[7] كَذَا فِي أ، وَهُوَ بِكَسْر الطَّاء الْمُهْملَة وَفتحهَا وَإِسْكَان الْيَاء. وَفِي أصُول الأحساب: «تيما» (بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْيَاء) . وَقَيده الدارقطنيّ: «ظمياء» (بالظاء الْمُعْجَمَة وَتَقْدِيم الْمِيم ممدودا) . وَفِي الطَّبَرِيّ. «طما» . وَفِي م. «ظيما» .
[8] كَذَا فِي أوأصول الأحساب. وَفِي م «تطورا» (بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة) . وَفِي الطَّبَرِيّ:
«طور» . وَفِي أَنْسَاب الْعَرَب: «قطور» .
[9] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «نيش» (بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة) . وَفِي الطَّبَرِيّ: «نَفِيس» . وَفِي أصُول الأحساب: «يافيش» . وَفِي أَنْسَاب الْعَرَب: «فنس» .
[10] فِي الطَّبَرِيّ وأنساب الْعَرَب: «قيدمان» .
[11] زِيَادَة عَن أ. والّذي فِي الرَّوْض الْأنف أَن أمّهم اسْمهَا السيدة، وَأَنه كَانَ لإسماعيل امْرَأَة سواهَا من جرهم اسْمهَا جداء بنت سعد، وَهِي الَّتِي أمره أَبوهُ بتطليقها، ثمَّ تزوج أُخْرَى اسْمهَا: سامة بنت مهلهل، وَقيل عَاتِكَة.
[12] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق.
[13] الْحجر (بِالْكَسْرِ ثمَّ السّكُون وَرَاء) : حجر الْكَعْبَة، هُوَ مَا تركت قُرَيْش فِي بنائها من أساس إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وحجرت على الْمَوَاضِع ليعلم أَنه من الْكَعْبَة فَسمى حجرا لذَلِك، لَكِن فِيهِ زِيَادَة على مَا فِي الْبَيْت، وَقد كَانَ ابْن الزبير أدخلهُ فِي الْكَعْبَة حِين بناها، فَلَمَّا هدم الْحجَّاج بناءه، رده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/5)
(مَوْطِنُ هَاجَرَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ: هَاجَرَ وَآجَرَ فَيُبْدِلُونَ الْأَلِفَ مِنْ الْهَاءِ كَمَا قَالُوا:
هَرَاقَ الْمَاءَ، وَأَرَاقَ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ. وَهَاجَرُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ.
(وَصَاةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مِصْرَ وَسَبَبُ ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ [1] ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ [2] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
اللَّهَ اللَّهَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَهْلِ الْمَدَرَةِ السَّوْدَاءِ السُّحْمِ الْجِعَادِ [3] ، فَإِنَّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا. قَالَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ: نَسَبُهُمْ، أَنَّ أُمَّ إسْمَاعِيلَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ. وَصِهْرُهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تَسَرَّرَ [4] فِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: أُمُّ إسْمَاعِيلَ: هَاجَرُ، مِنْ أُمِّ الْعَرَبِ [5] ، قَرْيَةٍ كَانَتْ أَمَامَ الْفَرَمَا [6]
__________
[1] ابْن لَهِيعَة (بِفَتْح اللَّام وَكسر الْهَاء وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَبعدهَا هَاء سَاكِنة) : هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن لَهِيعَة بن عقبَة بن لَهِيعَة الحضرميّ الغافقي الْمصْرِيّ، كَانَ مكثرا من الحَدِيث وَالْأَخْبَار وَالرِّوَايَة، وَكَانَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور قد ولاه الْقَضَاء بِمصْر فِي مستهل سنة خمس وَخمسين وَمِائَة، وَهُوَ أول قَاض ولى بِمصْر من قبل الْخَلِيفَة، وَصرف عَن الْقَضَاء فِي شهر ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَكَانَ أول قَاض حضر لنظر الْهلَال فِي شهر رَمَضَان. توفى بِمصْر سنة سبعين وَمِائَة. وَقيل أَربع وَسبعين، وَكَانَ عمره إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة، وَكَانَ مولده سنة سبع وَتِسْعين (رَاجع ابْن خلكان) .
[2] هِيَ غفرة بنت بِلَال- وَقيل أُخْته- مولى أَبى بكر الصّديق رضى الله عَنهُ. (رَاجع شرح السِّيرَة وَالرَّوْض الْأنف) .
[3] المدرة (هُنَا) : الْبَلدة، والسحم: السود، واحدهم: أسحم وسحماء. والجعاد: الَّذين فِي شعرهم تكسير.
[4] يُقَال: تسرر الرجل وتسرى: إِذا اتخذ أمة لفراشه.
[5] وَيُقَال فِيهَا «أم العريك» ، كَمَا يُقَال إِنَّهَا من قَرْيَة يُقَال لَهَا «ياق» عِنْد أم دنين. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[6] الفرما أَو الطينة (siravAuoesuelP) مَدِينَة بِمصْر من شَرق، تبعد عَن سَاحل بَحر الرّوم بِقدر ميلين، كَانَ لَهَا ميناء عَامر، ويصل إِلَيْهَا فرع من النّيل مُسَمّى باسمها اليوناني (بيلوزة) أَي الطينة، وَكَانَت فِي زمن الفراعنة حصن مصر من جِهَة الشرق، وَلذَلِك وَقعت بهَا جملَة وقائع حربية فِي جَمِيع أزمنة التَّارِيخ الْمصْرِيّ، وتعرف الْآن بتل الفرما، وَيُقَال: إِن فِيهَا قبر أم إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام، وقبر جالينوس الْحَكِيم. وفيهَا ولد بطليموس القلوذى (eemelotPedualC) الفلكي الْمَشْهُور، صَاحب كتاب المجسطي، من أهل الْقرن الثَّانِي من الميلاد. (رَاجع فهرست المعجم الجغرافى لأمين بك واصف) .(1/6)
مِنْ مِصْرَ. وَأُمُّ إبْرَاهِيمَ: مَارِيَةُ [1] سُرِّيَّةُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ مِنْ حَفْنٍ [2] مِنْ كُورَةِ أنْصِنا [3] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ السُّلَمِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
إذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرَ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا. فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ: مَا الرَّحِمُ الَّتِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ؟ فَقَالَ:
كَانَتْ هَاجَرُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ.
(أَصْلُ الْعَرَبِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَالْعَرَبُ كُلُّهَا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَقَحْطَانَ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُ: قَحْطَانُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ، وَيَقُولُ: إسْمَاعِيلُ أَبُو الْعَرَبِ كُلِّهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: عَاد بن عوض بْنُ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَثَمُودُ وَجُدَيْسٌ ابْنَا عَابِرِ [4] بْنِ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وطَسْمُ وَعِمْلَاقُ وَأُمَيْمُ بَنُو لَاوِذْ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ: عَرَبٌ كُلُّهُمْ. فَوَلَدَ نَابِتُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: يَشْجُبَ بْنَ نَابِتٍ، فَوَلَدَ يَشْجُبُ: يَعْرُبَ بْنَ يَشْجُبَ، فَوَلَدَ يَعْرُبُ: تَيْرَحَ بْنَ يَعْرُبَ، فَوَلَدَ تَيْرَحُ:
__________
[1] هِيَ مَارِيَة بنت شَمْعُون (والمارية بتَخْفِيف الْيَاء: الْبَقَرَة الْفتية. وبالتشديد: الملساء، فَيُقَال:
قطاة مَارِيَة، أَي ملساء) . وَسبب إهدائها إِلَى النَّبِي أَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إِلَى الْمُقَوْقس (واسْمه جريج ابْن ميناء) حَاطِب بن أَبى بلتعة، وجبرا مولى أَبى رهم الغفاريّ، فقارب الْمُقَوْقس الْإِسْلَام، وَأهْدى مَعَهُمَا إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغلته، الَّتِي يُقَال لَهَا دُلْدُل، ومارية، كَمَا أهْدى إِلَيْهِ أَيْضا قدحا من قَوَارِير، فَكَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب فِيهِ (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[2] حفن: قَرْيَة من قرى الصَّعِيد، وَقيل: نَاحيَة من نواحي مصر، وَفِي الحَدِيث: أهْدى الْمُقَوْقس إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِيَة من حفن من رستاق أنصنا، وكلم الْحسن بن على رضى الله عَنهُ مُعَاوِيَة لأهل حفن، فَوضع عَنْهُم خراج الأَرْض.
[3] أنصنا (بِالْفَتْح ثمَّ السّكُون وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وَبعدهَا النُّون مَقْصُورا) : مَدِينَة من نواحي الصَّعِيد على شرقى النّيل، وَيُقَال إِنَّهَا كَانَت مَدِينَة السَّحَرَة ينْسب إِلَيْهَا كثير من أهل الْعلم، مِنْهُم: أَبُو طَاهِر الْحُسَيْن ابْن أَحْمد بن سُلَيْمَان بن هَاشم الأنصناوي الْمَعْرُوف بالطبري.
[4] فِي أ: «عاثر» .(1/7)
نَاحُورَ بْنَ تَيْرَحَ، فَوَلَدَ نَاحُورُ: مُقَوِّمَ بْنَ نَاحُورٍ: أُدَدَ بْنَ مقوّم: فولد مُقَوِّمٍ: فَوَلَدَ أُدَدُ: عَدْنَانَ بْنَ أُدَدَ [1] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَدْنَانُ بْنُ أُدٍّ.
(أَوْلَادُ عَدْنَانَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَمِنْ عَدْنَانَ تَفَرَّقَتْ الْقَبَائِلُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَوَلَدَ عَدْنَانُ رَجُلَيْنِ: مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ، وَعَكَّ بْنَ عَدْنَانَ.
(مَوْطِنُ عَكٍّ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَصَارَتْ عَكٌّ فِي دَارِ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَكَّا تَزَوَّجَ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ فَأَقَامَ فِيهِمْ، فَصَارَتْ الدَّارُ وَاللُّغَةُ وَاحِدَةً، وَالْأَشْعَرِيُّونَ بَنُو أَشْعَرَ بْنِ نَبْتِ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ [2] بْنِ هُمَيْسِعِ [3] بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ [4] بْنِ يَشْجُبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ ابْن سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَيُقَالُ: أَشْعَرُ [5] : نَبْتُ بْنُ أُدَدَ، وَيُقَالُ: أَشْعَرُ: ابْنُ مَالِكٍ. وَمَالِكٌ: مَذْحجُ بْنُ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ هُمَيْسِعِ. وَيُقَالُ أَشْعَرُ: ابْنُ [6] سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ.
وَأَنْشَدَنِي أَبُو مُحْرِزٍ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، لِعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَحَدِ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، يَفْخَرُ بِعَكِّ:
__________
[1] بعد مَا سَاق ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه «المعارف» هَذِه السلسلة، مُتَّفقا فِيهَا مَعَ مَا هُنَا إِلَّا فِي الْقَلِيل، سَاق رَأيا آخر فِي نسب عدنان يخْتَلف عَن هَذَا، وينتهى إِلَى قيدار بن إِسْمَاعِيل بَدَلا من نابت، وَهَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ الجواني فِي كِتَابه «أصُول الأحساب» ، وَالْإِمَام مُحَمَّد الزيدي فِي كِتَابه «رَوْضَة الْأَلْبَاب» .
[2] وَيُقَال فِيهِ: زند (بالنُّون) كَمَا يُقَال إِنَّه هُوَ الهميسع. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[3] كَذَا فِي أ، وَهِي الرِّوَايَة الَّتِي اتّفقت عَلَيْهَا المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا، وَفِي م: مهسع، وَلم نجد مرجعا يُؤَيّد هَذِه الرِّوَايَة. والهميسع بِفَتْح الْهَاء على وزن السميدع، وَبَعض النسابين يرويهِ بِالضَّمِّ، وَالصَّوَاب الْفَتْح. (رَاجع أصُول الأحساب) .
[4] الّذي فِي أصُول الأحساب: «يشجب بن عريب» .
[5] كَذَا فِي أ. وَهَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ الجواني فِي كِتَابه أصُول الأحساب، وَقد ذكر أَن أَوْلَاد أدد هم:
مَالك (مذْحج) وأشعر (نبت) وطين (جلهمة) وَمرَّة. وَفِي م، ر: أشعر بن نبت، وَالظَّاهِر أَن كلمة «بن» مقحمة.
[6] فِي أصُول الأحساب: أَن هَذَا رأى الصِّحَاح، وَأَنه رأى خاطئ.(1/8)
وَعَكُّ بْنُ عَدْنَانَ الَّذِينَ تَلَقَّبُوا [1] ... بِغَسَّانِ حَتَّى طُرِّدُوا كُلَّ مَطْرِدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَغَسَّانُ: مَاءٌ بِسَدِّ مَأْرِبَ [2] بِالْيَمَنِ، كَانَ شِرْبًا لِوَلَدِ مَازِنِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ فَسُمُّوا بِهِ، وَيُقَالُ: غَسَّانُ: مَاءٌ بِالْمُشَلَّلِ [3] قَرِيبٌ مِنْ الْجُحْفَةِ [4] ، وَاَلَّذِينَ شَرِبُوا مِنْهُ [5] فَسُمُّوا بِهِ قَبَائِلُ مِنْ وَلَدِ مَازِنِ بْنِ الْأَسْدِ [6] ابْن الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ ابْن قَحْطَانَ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ- وَالْأَنْصَارُ بَنُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ابْنَيْ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ حَارِثَة بن أَمْرِي الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ:
__________
[1] كَذَا فِي أصُول الأحساب. وَفِي الأَصْل: «تلعبوا» .
[2] قَالَ المرحوم أَمِين بك واصف فِي كِتَابه فهرست المعجم الجغرافى: «سبأ» أَو مأرب، أَو مارب من غير همز، (وَهُوَ الصَّحِيح فِيهِ) : مَدِينَة كَانَت بِقرب موقع صنعاء الْيمن، بناها عبد شمس بن يشجب من مُلُوك حمير، وَهُوَ الّذي بنى أَيْضا السد الْكَبِير لتخزين مياه الأمطار. وانفجر يَوْمًا فَكَانَ الْغَرق الشهير الْمَعْرُوف بسيل العرم، وَتَفَرَّقَتْ على أَثَره قبائل بنى قحطان، فَكَانَ مِنْهُم أهل الْحيرَة على الْفُرَات، وَأهل غَسَّان ببادية الشَّام، وَلَا تزَال آثَار السد بَاقِيَة.
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر:
«لما تفرق بَنو قحطان بعد سيل العرم رَحل آل جَفْنَة من الْيمن، والأزد من بنى كهلان، إِلَى الشَّام، ونزلوا بِمَاء يُقَال لَهُ غَسَّان، فسموا بِهِ، وَأَقَامُوا ببادية الشَّام، وتزاحموا مَعَ سليح، فغلبوهم على أَمرهم، وأخرجوهم من دِيَارهمْ، وَبَقِي الغساسنة ملوكا بِالشَّام أَكثر من أَرْبَعمِائَة سنة، وأولهم جَفْنَة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة، وَآخرهمْ جبلة السَّادِس ابْن الْأَيْهَم، وَصَاحب الحَدِيث الْمَشْهُور مَعَ عمر بن الْخطاب فِي إِسْلَامه وتنصره وفراره إِلَى الرّوم، وَقد سقنا الرأيين هُنَا لما بَينهمَا من خلاف.
[3] المشلل (بِالضَّمِّ ثمَّ الْفَتْح وَفتح اللَّام أَيْضا) : جبل وَرَاء عزور (وَاد قريب من الْمَدِينَة) يهْبط مِنْهُ إِلَى قديد من نَاحيَة الْبَحْر. قَالَ العرجى:
أَلا قل لمن أَمْسَى بِمَكَّة قاطنا ... وَمن جَاءَ من عمق ونقب المشلل
دعوا الْحَج لَا تستهلكوا نفقاتكم ... فَمَا حج هَذَا الْعَام بالمتقبل
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ لياقوت، ومعجم مَا استعجم للبكرى) .
[4] الْجحْفَة (بِالضَّمِّ ثمَّ السّكُون وَالْفَاء) : قَرْيَة كَانَت كَبِيرَة ذَات مِنْبَر على طَرِيق الْمَدِينَة من مَكَّة على أَربع مراحل، وَهِي مِيقَات أهل مصر وَالشَّام إِن لم يمروا على الْمَدِينَة، فَإِن مروا بِالْمَدِينَةِ فميقاتهم ذُو الحليفة، وَكَانَ اسْمهَا مهيعة، وَإِنَّمَا سميت الْجحْفَة لِأَن السَّيْل اجتحفها وَحمل أَهلهَا فِي بعض الأعوام، وَهِي الْآن خراب. (عَن مُعْجم الْبلدَانِ) .
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: « ... شربوا مِنْهُ تحزبوا فسموا بِهِ ... إِلَخ» وَالظَّاهِر أَن كلمة تحزبوا مقحمة.
[6] وَيُقَال فِيهِ الأزد أَيْضا.(1/9)
إمَّا سَأَلْتِ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ ... الْأَسْدُ نِسْبَتُنَا وَالْمَاءُ غَسَّانُ
[1] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
فَقَالَتْ الْيَمَنُ: وَبَعْضُ عَكٍّ، وَهُمْ الَّذِينَ بِخُرَاسَانَ مِنْهُمْ، عَكُّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ [2] ، وَيُقَالُ: عُدْثَانَ [3] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [4] بْنِ الْأَسْدِ ابْن الْغَوْثِ.
(أَوْلَادُ مَعَدٍّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ [5] أَرْبَعَةَ نَفَرٍ: نِزَارَ بْنَ مَعَدٍّ، وَقُضَاعَةَ ابْن مَعَدٍّ، وَكَانَ قُضَاعَةُ بِكْرَ [6] مَعَدٍّ الَّذِي بِهِ يُكَنَّى فِيمَا يَزْعُمُونَ، وقُنُصُ بْنَ مَعَدٍّ، وَإِيَادَ بْنَ مَعَدٍّ.
فَأَمَّا قُضَاعَةُ فَتَيَامَنَتْ إلَى حِمْيَرِ بْنِ سَبَأٍ- وَكَانَ اسْمُ سَبَأٍ عَبْدَ شَمْسٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَى فِي الْعَرَبِ- ابْنِ يَشْجُبَ [7] بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ.
(قُضَاعَةُ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَقَالَتْ الْيَمَنُ وَقُضَاعَةُ: قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ [8] . وَقَالَ
__________
[1] وَقبل هَذَا الْبَيْت:
يَا أُخْت آل فراس إِنَّنِي رجل ... من معشر لَهُم فِي الْمجد بُنيان
[2] وَبِهَذَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه المعارف، وَابْن دُرَيْد: فِي الِاشْتِقَاق، والجواني: فِي أصُول الأحساب.
[3] كَذَا فِي أ. وَقد نَقله الجواني أَيْضا فِي أصُول الأحساب عَن الْأَفْطَس الطرابلسي النسابة بعد مَا سَاق الرأى الأول، وَفِي م، ر «عدنان» بالنُّون.
[4] فِي الأَصْل: «عدثان (عدنان) بن الديث بن عبد الله ... إِلَخ» . وَالظَّاهِر أَن كلمة «بن الديث» مقحمة، فَكل الَّذين عرضوا لعك بن عدنان الَّذين فِي الأزد من النسابة لم يذكرُوا فِي نسبهم غير الرأيين السَّابِقين.
[5] لَا خلاف بَين النسابين فِي أَن نزار هُوَ ابْن معد، وَأما سَائِر ولد معد فمختلف فيهم، وَفِي عَددهمْ.
[6] الْبكر: أول ولد الرجل، وَأَبوهُ بكر، والثني: وَلَده الثَّانِي، وَأَبوهُ ثنى، وَالثَّالِث: وَلَده الثَّالِث، وَلَا يُقَال للْأَب ثلث، كَمَا لَا يُقَال بعد الثَّالِث شَيْء من هَذَا.
[7] فِي الأَصْل: «ابْن يعرب بن يشجب» . والتصويب عَن شرح السِّيرَة.
[8] يخْتَلف النسابون- كَمَا رَأَيْت- فِي نسب قضاعة، فَمنهمْ من جعله فِي معد، وَمِنْهُم من نسبه إِلَى مَالك بن حمير، وَقد سَاق الْمُؤلف قَول ابْن مرّة سندا للرأى الثَّانِي، وَمِمَّا يحْتَج بِهِ أَصْحَاب الرأى الأول، قَول زُهَيْر:(1/10)
عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ [1] الْجُهَنِيُّ، وَجُهَيْنَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ [2] ابْن قُضَاعَةَ:
نَحْنُ بَنُو الشَّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرَ [3] ... قُضَاعَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرِ [4]
النَّسَبِ الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ ... فِي الْحَجَرِ الْمَنْقُوشِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ
[5]
(قُنُصُ بْنُ مَعَدٍّ، وَنَسَبُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمَّا قُنُصُ بْنُ مَعَدٍّ فَهَلَكَتْ بَقِيَّتُهُمْ- فِيمَا يَزْعُمُ نُسَّابُ مَعَدٍّ- وَكَانَ مِنْهُمْ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْحِيرَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ كَانَ مِنْ وَلَدِ قُنُصِ بْنِ مَعَدٍّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: قَنَصَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ:
__________
[ () ]
قضاعية أَو أُخْتهَا مضرية ... يحرق فِي حافاتها الْحَطب الجزل
فَفِيهِ أَن قضاعة وَمُضر أَخَوان، كَمَا يحتجون بأشعار كَثِيرَة للبيد وَغَيره. وللكميت يُعَاتب قضاعة على انتسابهم إِلَى الْيمن:
علام نزلتم من غير فقر ... وَلَا ضراء منزلَة الْحميل
(والحميل: المسبى، لِأَنَّهُ يحمل من بلد إِلَى بلد) .
وَإِذا عرفنَا أَن امْرَأَة مَالك بن حمير- وَاسْمهَا عكبرة- آمت مِنْهُ وَهِي ترْضع قضاعة، فَتَزَوجهَا معد، فَتَبَنَّاهُ وتكنى بِهِ، وَهَذَا كثير فِي الْعَرَب- فقد نسب بَنو عبد مَنَاة بن كنَانَة إِلَى على بن مَسْعُود بن مَازِن بن الذِّئْب الْأَسدي، لِأَنَّهُ كَانَ حاضن أَبِيهِم وَزوج أمّهم- إِذا عرفنَا هَذَا استطعنا أَن نَعْرِف السِّرّ فِي اخْتِلَاف النسابين، وَأَن للرأيين نَصِيبا من الصِّحَّة.
[1] ويكنى أَبَا مرّة، وَهُوَ من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَله عَنهُ حديثان أَحدهمَا فِي أَعْلَام النُّبُوَّة، وَالْآخر: «من ولى أَمر النَّاس فسد بَابه دون ذوى الْحَاجة والخلة والمسكنة، سد الله بَابه دون حَاجته وَخلته ومسكنته يَوْم الْقِيَامَة» .
[2] يجوز فِي «الحاف» قطع الْهمزَة وَكسرهَا، كَأَنَّهُ سمى بمصدر ألحف، وَيجوز أَن يكون اسْم الْفَاعِل من حفى يحفى.
[3] الهجان: الْكَرِيم، والأزهر: الْمَشْهُور.
[4] أول هَذَا الرجز:
يَا أَيهَا الدَّاعِي ادعنا وَابْشَرْ ... وَكن قضاعيا وَلَا تنزر
[5] هَذَا الشّطْر الْأَخير سَاقِط فِي أ. وَيُقَال إِن هَذَا الشّعْر لأفلح بن اليعبوب. (رَاجع الرَّوْض الْأنف للسهيلى) .(1/11)
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أُتِيَ بِسَيْفِ النُّعْمَانِ [1] بْنِ الْمُنْذِرِ، دَعَا جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ- وَكَانَ جُبَيْرُ مِنْ أَنْسَبِ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشِ وَلِلْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّمَا أَخَذْتُ النَّسَبَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَنْسَبَ الْعَرَبِ- فَسَلَّحَهُ [2] إيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ كَانَ يَا جُبَيْرُ، النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ؟ فَقَالَ: كَانَ مِنْ أَشْلَاءِ [3] قُنُصِ بْنِ مَعَدٍّ [4] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ، مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
(نَسَبُ لَخْمِ بْنِ عَدِيٍّ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَخْمُ: ابْنُ عَدِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ هُمَيْسِعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ:
لَخْمُ: ابْنُ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ [5] بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَكَانَ تَخَلَّفَ بِالْيَمَنِ بَعْدَ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ.
__________
[1] وَكَانَ ذَلِك حِين افتتحت الْمَدَائِن، وَكَانَت بهَا حرائب كسْرَى وذخائره فَأخذت، وَكَانَ فِيهَا خَمْسَة أسياف لم ير مثلهَا، أَحدهَا هَذَا السَّيْف. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[2] سلحه إِيَّاه: قَلّدهُ إِيَّاه، وَجعله سِلَاحا لَهُ.
[3] الأشلاء: البقايا. وَكَانَ السَّبَب فِي هَلَاك أَوْلَاد قنص أَنهم لما كَثُرُوا وانتشروا بالحجاز وَقعت بَينهم وَبَين أَبِيهِم حَرْب، وتضايقوا فِي الْبِلَاد، وأجدبت بهم الأَرْض، فَسَارُوا نَحْو سَواد الْعرَاق، وَذَلِكَ أَيَّام مُلُوك الطوائف، فَقَاتلهُمْ الأردانيون وَبَعض مُلُوك الطوائف، وأجلوهم عَن السوَاد، وقتلوهم إِلَّا أشلاء لحقت بقبائل الْعَرَب، ودخلوا فيهم، وانتسبوا إِلَيْهِم.
[4] وَقيل إِن النُّعْمَان بن الْمُنْذر كَانَ من ولد عجم بن قنص، إِلَّا أَن النَّاس لم يدروا مَا عجم، فَجعلُوا مَكَانَهُ لخما، فَقَالُوا: هُوَ من لخم. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[5] وَيُقَال: هُوَ نصر بن مَالك بن شعوذ بن مَالك بن عجم بن عَمْرو بن نمارة من لخم (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/12)
أَمْرُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْيَمَنِ وَقِصَّةُ سَدِّ مَأْرِبٍ
وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ- أَنَّهُ رَأَى جُرَذًا [1] يَحْفِرُ فِي سَدِّ مَأْرِبٍ، الَّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ، فَيُصَرِّفُونَهُ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ أَرْضِهِمْ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلسَّدِّ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَزَمَ عَلَى النُّقْلَةِ مِنْ الْيَمَنِ، فَكَادَ قَوْمَهُ، فَأَمَرَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ إذَا أَغْلَظَ لَهُ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ، فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَا أُقِيمُ بِبَلَدِ لَطَمَ وَجْهِي فِيهِ أَصْغَرُ وَلَدِي، وَعَرَضَ أَمْوَالَهُ. فَقَالَ أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ: اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو، فَاشْتَرَوْا مِنْهُ أَمْوَالَهُ. وَانْتَقَلَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ. وَقَالَتْ الْأَزْدُ: لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ، وَخَرَجُوا مَعَهُ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِلَادَ عَكٍّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ الْبُلْدَانَ، فَحَارَبَتْهُمْ عَكٌّ، فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سِجَالًا [2] . فَفِي ذَلِكَ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَيْتَ الَّذِي كَتَبْنَا [3] . ثُمَّ ارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ، فَنَزَلَ آلُ جَفْنَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشَّامَ، وَنَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَثْرِبَ، وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرَّا [4] ، وَنَزَلَتْ أَزْد السّراة السَّرَاةَ [5] ، وَنَزَلَتْ أَزْدُ عَمَّانَ عُمَانَ، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى السَّدِّ السَّيْلَ فَهَدَمَهُ، فَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ، جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ 34: 15- 16.
__________
[1] الجرذ: الذّكر من الفئران.
[2] السجال: أَن يغلب هَؤُلَاءِ مرّة وَهَؤُلَاء مرّة. وَأَصله من المساجلة فِي الاستقاء، وَهُوَ أَن يخرج المستقى من المَاء مثل مَا يخرج صَاحبه.
[3] رَاجع هَذَا الْبَيْت وَالتَّعْلِيق عَلَيْهِ (فِي أول ص 9 من هَذَا الْجُزْء) .
[4] مر: هُوَ الّذي يُقَال لَهُ مر الظهْرَان، وَمر ظهران، وَهُوَ مَوضِع على مرحلة من مَكَّة.
[5] قَالَ الْأَصْمَعِي: الطود: جبل مشرف على عَرَفَة ينقاد إِلَى صنعاء يُقَال لَهُ السراة، وَإِنَّمَا سمى بذلك لعلوه، يُقَال لَهُ سراة ثَقِيف، ثمَّ سراة فهم وعدوان، ثمَّ سراة الأزد. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/13)
وَالْعَرِمُ: السَّدُّ، وَاحِدَتُهُ: عَرِمَةٌ، فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ.
قَالَ الْأَعْشَى: أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ.
- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَفْصَى بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ [1] جَدِيلَةَ، وَاسْمُ الْأَعْشَى، مَيْمُونُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسِ ابْن ثَعْلَبَةَ:
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ [2] ... ومارِبُ عَفَّى [3] عَلَيْهَا العَرِمْ
رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيرٌ ... إذَا جَاءَ [4] مَوَّارُهُ لَمْ يَرِمْ
فَأَرْوَى الزُّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا ... عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُمْ إذْ قُسِمْ
فَصَارُوا أيادي [5] مَا يقدرُونَ ... مِنْهُ عَلَى شُرْبِ [6] طِفْلٍ فُطِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ- وَاسْمُ ثَقِيفٍ قَسِيُّ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ بْنِ عَدْنَانَ:
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
[7] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَتُرْوَى لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ، وَاسْمُهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ بَنِي جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ.
وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ، مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْتُ مِنْ الِاخْتِصَارِ.
__________
[1] وعَلى هَذَا الرأى ابْن دُرَيْد فِي كِتَابه «الِاشْتِقَاق» .
[2] المؤتسى: المقتدى. والإسوة (بِالْكَسْرِ وَالضَّم) : الِاقْتِدَاء.
[3] ويروى: «نفى» وَمَعْنَاهَا: نحى.
[4] مواره (بِضَم الْمِيم وَفتحهَا) : تلاطم مَائه وتموجه.
[5] أيادي: مُتَفَرّقين.
[6] الشّرْب (بِالضَّمِّ) : الْمصدر. و (بِالْكَسْرِ) : الْحَظ والنصيب من المَاء.
[7] فِي هَذَا الْبَيْت شَاهد على أَن العرم هُوَ السد.(1/14)
أَمْرُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرِ مَلِكِ الْيَمَنِ وَقِصَّةُ شِقٍّ وَسَطِيحٍ الْكَاهِنَيْنِ مَعَهُ
(رُؤْيَا رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التَّبَابِعَةِ، فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ، وَفَظِعَ [1] بِهَا فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا، وَلَا سَاحِرًا، وَلَا عَائِفًا [2] وَلَا مُنَجِّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إلَّا جَمَعَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي، وَفَظِعْتُ بِهَا، فَأَخْبِرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا، قَالُوا لَهُ: اُقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا، قَالَ: إنِّي إنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إلَى خَبَرِكُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إلَّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إلَى سَطِيحٍ [3] وَشِقٍّ [4] ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا، فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ.
(نَسَبُ سَطِيحٍ وَشِقٍّ) :
وَاسْمُ سَطِيحٍ رَبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَازِنِ غَسَّانَ.
وَشِقٌّ: ابْنُ صَعْبِ بْنُ يَشْكُرَ بْنِ رُهْمِ بْنِ أَفْرَكَ بْنِ قَسْرِ [5] بْنِ عَبْقَرَ بْنِ أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ [6] ، وَأَنْمَارُ أَبُو بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ.
(نَسَبُ بَجِيلَةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَتْ: الْيَمَنُ وَبَجِيلَةُ: (بَنُو) [7] أَنْمَارِ: بْنِ إرَاشِ
__________
[1] يُقَال: فظع بِالْأَمر (كعلم) : إِذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ.
[2] العائف: الّذي يزْجر الطير.
[3] يُقَال: إِنَّمَا سمى سطيحا لِأَنَّهُ كَانَ كالبضعة الملقاة على الأَرْض، فَكَأَنَّهُ سطح عَلَيْهَا، ويروى عَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: قيل لسطيح: أَنى لَك هَذَا الْعلم؟ فَقَالَ: لي صَاحب من الْجِنّ اسْتمع أَخْبَار السَّمَاء من طور سيناء حِين كلم الله تَعَالَى مِنْهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَهُوَ يُؤدى إِلَى من ذَلِك مَا يُؤَدِّيه، وَقد ولد هُوَ وشق فِي الْيَوْم الّذي مَاتَت فِيهِ طريفة الكاهنة امْرَأَة عَمْرو بن عَامر.
[4] يُقَال إِنَّه سمى كَذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ كشق إِنْسَان، كَمَا يُقَال إِن خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي كَانَ من وَلَده.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «قيس» .
[6] كَذَا فِي م، ر: وَهِي إِحْدَى رِوَايَات المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة. وَفِي أ: «أَنْمَار بن أراش» .
[7] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق.(1/15)
ابْن لِحْيَانَ [1] بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ [2] بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: إرَاشُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ [3] . وَدَارُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ يَمَانِيَّةٌ.
(رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ وَسَطِيحٌ) .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَعَثَ إلَيْهِمَا، فَقَدِمَ عَلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ، فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِهَا، فَإِنَّكَ إنْ أَصَبْتَهَا أَصَبْتَ تَأْوِيلَهَا.
قَالَ: أَفْعَلُ، رَأَيْتُ حُمَمَهُ [4] خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمِهِ [5] ، فَوَقَعَتْ بِأَرْضِ تُهَمِهِ [6] ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ [7] جُمْجُمَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا أَخْطَأْتَ مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحٌ، فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا؟ فَقَالَ: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ [8] مِنْ حَنَشٍ، لَتَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ [9] ، فَلَتَمْلِكَنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ [10] إلَى جُرَشَ [11] ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ:
__________
[1] سَاق ابْن دُرَيْد هَذَا الرأى إِلَّا أَنه لم يذكر فِيهِ «لحيان» .
[2] كَذَا فِي أوالاشتقاق لِابْنِ دُرَيْد. وَفِي م، ر: «نايت» .
[3] وَيُقَال أَيْضا فِي نسب بجيلة وخثعم إنَّهُمَا ليسَا لأنمار، وَإِنَّمَا هما حليفان لوَلَده. (رَاجع المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة) .
[4] الحممة: الفحمة، وَإِنَّمَا أَرَادَ فَحْمَة فِيهَا نَار.
[5] من ظلمَة: أَي من ظلام، يعْنى من جِهَة الْبَحْر، يُرِيد خُرُوج عَسْكَر الْحَبَشَة من أَرض السودَان.
[6] التُّهْمَة: الأَرْض المتصوبة نَحْو الْبَحْر.
[7] قَالَ «كل ذَات» لِأَن الْقَصْد إِلَى النَّفس والنسمة، وَيدخل فِيهِ جَمِيع ذَوَات الْأَرْوَاح. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[8] الْحرَّة: أَرض فِيهَا حِجَارَة سود متشيطة.
[9] يُقَال إِنَّهُم بَنو حبش بن كوش بن حام بن نوح، وَبِه سميت الْحَبَشَة.
[10] أبين (بِفَتْح أَوله وبكسر، وَيُقَال: يبين، وَذكره سِيبَوَيْهٍ فِي الْأَمْثِلَة بِكَسْر الْهمزَة وَلَا يعرف أهل الْيمن غير الْفَتْح، وَحكى أَبُو حَاتِم قَالَ: سَأَلنَا أَبَا عُبَيْدَة: كَيفَ تَقول: عدن أبين أَو إبين؟ فَقَالَ:
أبين وإبين جَمِيعًا) : مخلاف بِالْيمن مِنْهُ عدن، يُقَال إِنَّه سمى بأبين بن زُهَيْر بن أَيمن. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: عدن وَأبين ابْنا عدنان بن أدد، وَأنْشد الْفراء:
مَا من أنَاس بَين مصر وعالج ... وَأبين إِلَّا قد تركنَا لَهُم وترا
وَنحن قتلنَا الأزد أَزْد شنُوءَة ... فَمَا شربوا بعدا على لَذَّة خمرًا
وَقَالَ عمَارَة بن الْحسن الْيُمْنَى الشَّاعِر: أبين: مَوضِع فِي جبل عدن. (عَن مُعْجم الْبلدَانِ) .
[11] جرش (بِالضَّمِّ ثمَّ الْفَتْح وشين مُعْجمَة) : من مخاليف الْيمن من جِهَة مَكَّة، وَقيل: هِيَ مَدِينَة عَظِيمَة بِالْيمن، وَولَايَة وَاسِعَة. وَذكر بعض أهل السّير: أَن تبعا أسعد بن كلى كرب خرج من الْيمن غازيا(1/16)
وَأَبِيكَ يَا سَطِيحُ، إنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ؟ أَفِي زَمَانِي هَذَا، أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ بَعْدَهُ بِحِينِ، أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ، يَمْضِينَ مِنْ السِّنِينَ قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعِ وَسَبْعِينَ مِنْ السِّنِينَ، ثُمَّ يُقْتَلُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ، قَالَ: وَمَنْ يَلِي مِنْ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ؟ قَالَ: يَلِيهِ إرَمُ (بْنُ) [1] ذِي يَزَنَ [2] ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنَ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ، قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ، أَمْ يَنْقَطِعُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ يَنْقَطِعُ، قَالَ: وَمَنْ يَقْطَعُهُ؟ قَالَ: نَبِيٌّ [3] زَكِيٌّ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ، قَالَ: وَمِمَّنْ هَذَا النَّبِيُّ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، قَالَ: وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ قَالَ: أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالشَّفَقُ وَالْغَسَقُ، وَالْفَلَقُ إذَا اتَّسَقَ، إنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ.
(رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ وَشِقٌّ) :
ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ، فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحِ، وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ، لِيَنْظُرَ أَيَتَّفِقَانِ أَمْ يَخْتَلِفَانِ، فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ حُمَمَهُ، خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمِهِ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَهْ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَهْ.
__________
[ () ] (حَتَّى إِذا كَانَ بجرش، وَهِي إِذْ ذَاك خربة ومعد حَالَة حواليها، خلف جمعا مِمَّن كَانَ صَحبه رأى فيهم ضعفا، وَقَالَ: اجرشوا هَاهُنَا، أَي أثيروا، فسميت جرش بذلك، وَلم أجد فِي اللغويين من قَالَ: إِن الجرش الْمقَام وَقَالَ أَبُو الْمُنْذر هِشَام: جرش: أَرض سكنها بَنو مُنَبّه بن أسلم، فَغلبَتْ على اسمهم، وَهُوَ جرش، واسْمه مُنَبّه بن أسلم بن زيد، وَإِلَى هَذِه الْقَبِيلَة ينْسب الْغَاز بن ربيعَة. وَفتحت جرش فِي حَيَاة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سنة عشر لِلْهِجْرَةِ.
[1] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق.
[2] الْمَعْرُوف: سيف بن ذِي يزن، وَلكنه جعله إرما، إِمَّا لِأَن الإرم هُوَ الْعلم فمدحه بذلك، وَإِمَّا أَن يكون أَرَادَ تشبيهه بعاد إرم فِي عظم الْخلق وَالْقُوَّة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[3] قد عمر سطيح زَمَانا طَويلا بعد هَذَا الحَدِيث، حَتَّى أدْرك مولد النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَتَّى رأى كسْرَى أنوشروان مَا رأى من ارتجاس الإيوان، وخمود النيرَان، فَأرْسل كسْرَى عبد الْمَسِيح بن عَمْرو- وَكَانَ سطيح من أخوال عبد الْمَسِيح- فَقدم عبد الْمَسِيح على سطيح، وَقد أشفى على الْمَوْت، وَله مَعَه حَدِيث ترَاهُ مَبْسُوطا فِي كتب التَّارِيخ.
2- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/17)
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا وَأَنَّ قَوْلَهُمَا وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ سَطِيحًا قَالَ: «وَقَعَتْ بِأَرْضِ تَهَمَهْ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَهُ» . وَقَالَ شِقٌّ:
«وَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَهْ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَهْ» .
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا أَخْطَأْتَ يَا شِقُّ مِنْهَا شَيْئًا، فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا؟ قَالَ:
أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ إنْسَانٍ، لَيَنْزِلَنَّ أَرْضَكُمْ السُّودَانُ، فَلَيَغْلِبُنَّ عَلَى كُلِّ طَفْلَةِ [1] الْبَنَانِ، وَلَيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا شِقُّ، إنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ؟
أَفِي زَمَانِي، أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ بَعْدَهُ بِزَمَانِ، ثُمَّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيمٌ ذُو شَأْنٍ، وَيُذِيقُهُمْ أَشَدَّ الْهَوَانِ، قَالَ: وَمَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الشَّانِ؟ قَالَ: غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيِّ، وَلَا مُدَنٍّ [2] ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ، (فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ) [3] ، قَالَ: أَفَيَدُومُ سُلْطَانُهُ، أَمْ يَنْقَطِعُ؟ قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى يَوْمِ الْفَصْلِ، قَالَ: وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ؟ قَالَ: يَوْمٌ تُجْزَى فِيهِ الْوُلَاةُ، وَيُدْعَى فِيهِ مِنْ السَّمَاءِ بِدَعَوَاتِ، يَسْمَعُ مِنْهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَيُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ لِلْمِيقَاتِ، يَكُونُ فِيهِ لِمَنْ اتَّقَى الْفَوْزُ وَالْخَيْرَاتُ، قَالَ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ رَفْعٍ وَخَفْضٍ، إنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ مَا فِيهِ أَمْضِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَمْضِ: يَعْنِي شَكَّا، هَذَا بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَمْضِ أَيْ بَاطِلٌ.
(هِجْرَةُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ إلَى الْعِرَاقِ) :
فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا. فَجَهَّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إلَى الْعِرَاقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرَّزاذَ، فَأَسْكَنَهُمْ الْحِيرَةَ.
__________
[1] الطفلة: الناعمة الرُّخْصَة.
[2] الْمدنِي: «بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل» المقصر فِي الْأُمُور أَو الّذي يتبع خسيسها. وَفِي ابْن الْأَثِير:
«مزن» من أزننته بِكَذَا: أَي اتهمته بِهِ.
[3] زِيَادَة عَن أ.(1/18)
(نَسَبُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ) :
فَمِنْ بَقِيَّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ، فَهُوَ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ وَعِلْمِهِمْ [1] النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، ذَلِكَ الْمَلِكُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فِيمَا أَخْبَرَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ.
اسْتِيلَاءُ أَبِي كَرِبٍ تُبَّانَ أَسْعَدَ عَلَى مَلِكِ الْيَمَنِ وَغَزْوِهِ إلَى يَثْرِبَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ مُلْكُ الْيَمَنِ كُلُّهُ إلَى حَسَّانِ بْنِ تُبَّانَ أَسْعَدَ [2] أَبِي كَرِبٍ- وَتُبَّانُ أَسْعَدُ هُوَ تُبَّعٌ الْآخِرُ- ابْنُ كُلِي كَرِبِ [3] بْنِ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ هُوَ تُبَّعٌ الْأَوَّلُ بْنُ عَمْرِو ذِي [4] الْأَذْعَارِ [5] بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ [6] بْنِ الرِّيشِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ الرَّائِشُ- قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ابْنَ عَدِيِّ [7] بْنِ صَيْفِيِّ ابْن سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبٍ، كَهْفِ الظُّلْمِ [8] ، بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر، ط: «غلبهم» وَلَا معنى لَهَا.
[2] تبان أسعد: اسمان جعلا اسْما وَاحِدًا، كَمَا هِيَ الْحَال فِي معديكرب. وتبان من التبانة، وَهِي الذكاء والفطنة.
[3] كَذَا فِي جَمِيع المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا، وَفِي الأَصْل «كليككرب» وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] اتّفق أَبُو الْفِدَاء وَابْن جرير مَعَ ابْن إِسْحَاق على أَن ذَا الأذعار هُوَ عَمْرو، وَخَالَفَهُمَا المَسْعُودِيّ فِي «مروج الذَّهَب» فَقَالَ إِن فَقَالَ إِن اسْمه العَبْد بن أَبْرَهَة، كَمَا ذهب ابْن دُرَيْد فِي كِتَابه «الِاشْتِقَاق» إِلَى أَن ذَا الأذعار هُوَ تبع، وَلم يقف الْخلاف فِي المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا عِنْد هَذَا فِي مُلُوك الْيمن، بل تجاوزه إِلَى كثير غَيره رَأينَا عدم إثْبَاته، إِذْ لَا طائل تَحْتَهُ.
[5] سمى ذَا الأذعار لِأَنَّهُ- كَمَا زعم ابْن الْكَلْبِيّ- جلب النسناس إِلَى الْيمن فذعر النَّاس، وَهُوَ قَول يحْتَاج إِلَى تمحيص. (رَاجع الِاشْتِقَاق، وَشرح السِّيرَة لأبى ذَر) .
[6] قيل سمى ذَا الْمنَار لِأَنَّهُ غزا غزوا بَعيدا، وَكَانَ بيني على طَرِيقه الْمنَار ليستدل بِهِ إِذا رَجَعَ. (عَن شرح السِّيرَة) .
[7] فِي الطَّبَرِيّ «قيس» .
[8] يُرِيد أَن الظَّالِم كَانَ يلجأ إِلَيْهِ، ويعتمد عَلَيْهِ، فينصره.(1/19)
ابْن قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ قَطَنِ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ الهُمَيْسِعِ بْنِ العَرَنجَج والعَرَنْجَجُ [1] : حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَكْبَرِ ابْن يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطَانَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَشْجُبُ: ابْنُ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ [2] .
(شَيْءٌ مِنْ سِيرَةِ تُبَّانَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتُبَّانُ أَسْعَدُ أَبُو كَرِبٍ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَسَاقَ الْحِبْرَيْنِ مِنْ يَهُودِ (الْمَدِينَةِ) [3] إلَى الْيَمَنِ، وَعَمَّرَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَكَسَاهُ، وَكَانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ [4] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:
لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَبِي كَرِبٍ ... أَنْ يَسُدَّ خَيْرُهُ خَبَلَهُ
[5]
(غَضَبُ تُبَّانَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقَهُ- حِينَ أَقْبَلَ مِنْ الْمَشْرِقِ- عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِهَا فِي بَدْأَتِهِ فَلَمْ يَهِجْ أَهْلَهَا، وَخَلَّفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ابْنًا لَهُ، فَقُتِلَ غِيلَةً، فَقَدِمَهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ لِإِخْرَابِهَا، وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا، وَقَطْعِ نَخْلِهَا [6] ، فَجُمِعَ لَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَرَئِيسُهُمْ عَمْرُو بْنُ طَلَّةَ أَخُو بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ. وَاسْمُ مَبْذُولٍ: عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَاسْمُ النَّجَّارِ:
__________
[1] لَيست النُّون فِي العرنجج زَائِدَة، بل هُوَ من قَوْلهم: اعرنجج الرجل فِي أمره: إِذا جد فِيهِ (عَن الِاشْتِقَاق) .
[2] وعَلى هَذَا الرأى جَمِيع المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] الّذي فِي مروج الذَّهَب: أَن تبع بن حسان بن كل كرب هُوَ صَاحب هَذِه الْحَادِثَة.
[5] الخبل: الْفساد، وَقد نسب هَذَا الْبَيْت إِلَى الْأَعْشَى خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ لعجوز من بنى سَالم يُقَال إِن اسْمهَا جميلَة، قالته حِين جَاءَ ملك بن العجلان بِخَبَر تبع.
[6] وَقيل: إِن تبعا لم يقْصد غزوها، وَإِنَّمَا قصد قتل الْيَهُود الَّذين كَانُوا فِيهَا، وَذَلِكَ أَن الْأَوْس والخزرج كَانُوا نزلوها مَعَهم حِين خَرجُوا من الْيمن على شُرُوط وعهود كَانَت بَينهم فَلم يَفِ لَهُم بذلك الْيَهُود واستضاموهم، فاستغاثوا بتبع، فَعِنْدَ ذَلِك قدمهَا. كَمَا قيل: إِن هَذَا الْخَبَر كَانَ لأبى جبلة الغساني. (رَاجع شرح السِّيرَة لأبى ذَر) .(1/20)
تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ.
(نَسَبُ عَمْرِو بْنِ طَلَّةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَمْرُو بْنُ طَلَّةَ: عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ ابْن النَّجَّارِ، وَطَلَّةُ أُمُّهُ، وَهِيَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ [1] بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ ابْن غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ.
(سَبَبُ قِتَالِ تُبَّانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ، عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ تُبَّعٍ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ فَقَتَلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ فِي عَذْقٍ [2] لَهُ يَجُدُّهُ [3] فَضَرَبَهُ بِمِنْجَلِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ: إنَّمَا التَّمْرُ لِمَنْ أَبَّرَهُ [4] . فَزَادَ ذَلِكَ تُبَّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا. فَتَزْعُمُ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنَّهَارِ، وَيَقْرُونَهُ [5] بِاللَّيْلِ، فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَيَقُولُ: وَاَللَّهِ إنَّ قَوْمَنَا لَكِرَامٌ.
(انْصِرَافُ تُبَّانَ عَنْ إهْلَاكِ الْمَدِينَةِ، وَشِعْرُ خَالِدٍ فِي ذَلِكَ) :
فَبَيْنَا تُبَّعٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ، إذْ جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ- وَقُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَالنَّجَّامُ [6] وَعَمْرٌو، وَهُوَ هَدَلُ [7] ، بَنُو الْخَزْرَجِ بْنِ الصَّرِيح بن التّوأمان [8] بْنِ السِّبْطِ بْنِ الْيَسَعَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَاوِيِّ بْنِ خَيْرِ بْنِ النَّجَّامِ بْنِ تَنْحُومَ بْنِ عَازَرِ بْنِ عُزْرَى بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ [9] ابْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ، وَهُوَ إسْرَائِيلُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، صَلَّى اللَّهُ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر، ط: «زُرَيْق بن عَامر بن زُرَيْق بن عبد حَارِثَة» .
[2] العذق (بِفَتْح الْعين) : النَّخْلَة. (وبكسرها) : الكباسة بِمَا عَلَيْهَا من التَّمْر.
[3] يجده: يقطعهُ.
[4] أبره: أصلحه.
[5] يقرونه: يضيفونه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ نازلا بهم.
[6] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «النحام» بِالْحَاء الْمُهْملَة.
[7] هُوَ بِفَتْح الْهَاء وَالدَّال، كَأَنَّهُ مصدر هدل، إِذا استرخت شفته. وَعَن ابْن مَاكُولَا عَن أَبى عَبدة النسابة أَنه بِسُكُون الدَّال. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[8] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «التومان» .
[9] وَفِي رِوَايَة: «قاهت» بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة.(1/21)
عَلَيْهِمْ- عَالِمَانِ رَاسِخَانِ فِي الْعِلْمِ، حِينَ سَمِعَا بِمَا يُرِيدُ مِنْ إهْلَاكِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا، فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ إنْ أَبَيْتَ إلَّا مَا تُرِيدُ حِيلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ عَلَيْكَ عَاجِلَ الْعُقُوبَةِ، فَقَالَ لَهما: وَلم ذَاك؟ فَقَالَا: هِيَ مُهَاجَرُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَرَمِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، تَكُونُ دَارَهُ وَقَرَارَهُ، فَتَنَاهَى عَنْ ذَلِكَ، وَرَأَى أَنَّ لَهُمَا عِلْمًا، وَأَعْجَبَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُمَا، فَانْصَرَفَ عَنْ الْمَدِينَةِ، وَاتَّبَعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ غَزِيَّةَ بْنِ عَمْرِو (ابْنِ عَبْدِ) [1] بْنِ عَوْفِ بْنِ غُنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ يَفْخَرُ بِعَمْرِو بْنِ طَلَّةَ:
أَصَحَّا أَمْ قَدْ نَهَى ذُكَرَهْ [2] ... أَمْ قَضَى مِنْ لَذَّةٍ وَطَرَهْ
أَمْ تَذَكَّرْتَ الشَّبَابَ وَمَا ... ذِكْرُكَ الشَّبَابَ أَوْ عُصُرَهْ [3]
إنَّهَا حَرْبٌ رَبَاعِيَةٌ [4] ... مِثْلُهَا أَتَى الْفَتَى عِبَرَهْ
فَاسْأَلَا عِمْرَانَ أَوْ أَسَدًا ... إذْ أَتَتْ عَدْوًا [5] مَعَ الزُّهَرَهْ [6]
فَيْلَقٌ فِيهَا أَبُو كَرِبٍ ... سُبَّغٌ أَبْدَانُهَا ذَفِرَهْ [7]
ثُمَّ قَالُوا: مَنْ نَؤُمُّ بِهَا ... أَبَنِي عَوْف أَن النَّجَرَهْ [8]
__________
[1] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[2] الذّكر: جمع ذكرة (كغرفة) ، وَهِي بِمَعْنى الذكرى نقيض النسْيَان وَرِوَايَة هَذَا الشّطْر فِي الطَّبَرِيّ: أَصْحَاب أم انْتهى ذكره.
[3] أَرَادَ: «أَو عصره» (بِالضَّمِّ) . وَالْعصر (بِفَتْح الْعين وَضمّهَا) بِمَعْنى، وحرك الصَّاد بِالضَّمِّ.
قَالَ ابْن جنى: وَلَيْسَ شَيْء على وزن فعل (بِسُكُون الْعين) يمْتَنع فِيهِ فعل.
[4] يُرِيد: أَي لَيست بصغيرة وَلَا جَذَعَة، بل هِيَ فَوق ذَلِك، وَضرب من الرّبَاعِيّة مثلا، كَمَا يُقَال حَرْب عوان، لِأَن الْعوَان أقوى من الْفتية وأدرب.
[5] ويروى: «غدوا» (بالغين الْمُعْجَمَة) ، وَهُوَ الغدوة.
[6] أَي صبحهمْ بِغَلَس قبل مغيب الزهرة، والزهرة: الْكَوْكَب الْمَعْلُوم. وَرِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي الطَّبَرِيّ
فسلا عمرَان أَو فسلا ... أسدا إِذْ يَغْدُو مَعَ الزهرة
[7] سبغ: كَامِلَة. والأبدان هُنَا: الدروع. وذفره: من الذفر، وَهُوَ سطوع الرَّائِحَة طيبَة كَانَت أَو كريهة، وَأما الدفر (بِالدَّال الْمُهْملَة) فَهُوَ فِيمَا كره من الروائح.
[8] يُرِيد بنى النجار، وَهَذَا كَمَا قيل المناذرة فِي بنى الْمُنْذر. والنجرة: جمع ناجر، والناجر والنجار بِمَعْنى وَاحِد، وَبَنُو النجار: هم تيم الله بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج وسمى النجار لِأَنَّهُ- فِيمَا ذكر- نجر وَجه رجل بقدوم.(1/22)
بَلْ بَنِي النَّجَّارِ إنَّ لَنَا ... فِيهِمْ قَتْلَى وَإِنَّ تِرَهْ [1]
فَتَلَقَّتْهُمْ مُسَايِفَةٌ ... مُدُّهَا كَالغَبْيَةِ النَّثِرَهْ [2]
فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ طَلَّةَ مَلَّى ... الْإِلَهُ [3] قَوْمَهُ عُمُرَهْ
سَيْدٌ سَامِي [4] الْمُلُوكِ وَمَنْ ... رَامَ عَمْرًا لَا يَكُنْ قَدَرَهْ
وَهَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ حَنَقُ تُبَّعٍ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ يَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ هَلَاكَهُمْ فَمَنَعُوهُمْ مِنْهُ، حَتَّى انْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي شِعْرِهِ:
حَنَقًا عَلَى سَبْطَيْنِ حَلَّا يَثْرِبَا ... أَوْلَى لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفْسِدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الشِّعْرُ الَّذِي فِي هَذَا الْبَيْتِ مَصْنُوعٌ، فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَنَا مِنْ إثْبَاتِهِ.
(اعْتِنَاقُ تُبَّانَ النصرانيَّةَ، وَكِسْوَتُهُ الْبَيْتَ وَتَعْظِيمَهُ وَشِعْرُ سُبَيعَةَ فِي ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ تُبَّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، فَتَوَجَّهَ إلَى مَكَّةَ، وَهِيَ طَرِيقُهُ إلَى الْيَمَنِ، حَتَّى إذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفانَ، وَأَمَجٍ [5] ، أَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ
__________
[1] الترة: طلب الثأر. أَرَادَ: إِن لنا قَتْلَى وترة، فأظهر الْمُضمر، وَهَذَا الْبَيْت شَاهد على حُرُوف الْعَطف يضمر بعْدهَا الْعَامِل الْمُتَقَدّم، نَحْو قَوْلك: إِن زيدا وعمرا فِي الدَّار. فالتقدير: إِن زيدا، وَإِن عمرا فِي الدَّار، فقد دلّت الْوَاو على مَا أردْت، وَإِن احتجت إِلَى الْإِظْهَار أظهرت، كَمَا فِي هَذَا الْبَيْت، إِلَّا أَن تكون الْوَاو الجامعة، نَحْو اخْتصم زيد وَعَمْرو، فَلَيْسَ ثمَّ إِضْمَار، لقِيَام الْوَاو مقَام صفة التَّثْنِيَة.
وعَلى هَذَا تَقول: طلع الشَّمْس وَالْقَمَر، فتغلب الْمُذكر، كَأَنَّك قلت: طلع هَذَانِ النيرَان، فَإِن جعلت الْوَاو هِيَ الَّتِي تضمر بعْدهَا الْفِعْل. قلت طلعت الشَّمْس وَالْقَمَر، وَتقول فِي نفى الْمَسْأَلَة الأولى: مَا طلع الشَّمْس وَالْقَمَر، وَفِي نفى الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: مَا طلعت الشَّمْس وَلَا الْقَمَر، تعيد حرف النَّفْي لينتفى بِهِ الْفِعْل الْمُضمر (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[2] الغبية: الدفعة من الْمَطَر. والنثرة: المنتثرة، وَهِي الَّتِي لَا تمسك مَاء.
[3] ملي الْإِلَه قومه: أمتعهم بِهِ.
[4] سامى: سَاوَى. ويروى: «سَام» ، أَي كلفهم أَن يَكُونُوا مثله، فَلم يقدروا على ذَلِك.
[5] عسفان (بِضَم أَوله وَسُكُون ثَانِيَة ثمَّ فَاء وَآخره نون) : فعلان من عسفت الْمَفَازَة، وَهُوَ يعسفها، وَهُوَ قطعهَا بِلَا هِدَايَة وَلَا قصد، وَكَذَلِكَ كل أَمر يركب بِغَيْر روية. قيل: سميت عسفان لتعسف اللَّيْل فِيهَا، كَمَا سميت الْأَبْوَاء لتبوّئ السَّيْل بهَا. قَالَ أَبُو مَنْصُور: عسفان: منهلة من مناهل الطَّرِيق بَين الْجحْفَة وَمَكَّة. وَقَالَ غَيره: عسفان: بَين المسجدين، وَهِي من مَكَّة على مرحلَتَيْنِ، وَقيل: عسفان: قَرْيَة جَامِعَة.(1/23)
هُذَيلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ، فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَلَا نَدُلُّكَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ دَاثِرٍ أَغَفَلَتْهُ الْمُلُوكُ قَبْلَكَ، فِيهِ اللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالُوا: بَيْتٌ بِمَكَّةَ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ، وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْهُذَلِيُّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ، لِمَا عَرَفُوا مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ مِنْ الْمُلُوكِ وَبَغَى عِنْدَهُ. فَلَمَّا أَجْمَعَ لِمَا قَالُوا أَرْسَلَ إلَى الْحَبْرَيْنِ، فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَا لَهُ:
مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إلَّا هَلَاكَكَ وَهَلَاكَ جُنْدِكَ، مَا نَعْلَمُ بَيْتًا للَّه اتَّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ، وَلَئِنْ فَعَلْتَ مَا دَعَوْكَ إلَيْهِ لَتَهْلَكَنَّ وَلَيَهْلَكَنَّ مَنْ مَعَكَ جَمِيعًا، قَالَ: فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إذَا أَنَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ؟ قَالَا: تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ: تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ وَتُكْرِمُهُ، وَتَحْلِقُ رَأْسَكَ عِنْدَهُ، وَتَذِلُّ لَهُ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّهُ لَبَيْتُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ، وَإِنَّهُ لَكَمَا أَخْبَرْنَاكَ، وَلَكِنَّ أَهْلَهُ حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ، وَبِالدِّمَاءِ الَّتِي يُهْرِقُونَ عِنْدَهُ، وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ- أَوْ كَمَا قَالَا لَهُ- فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصِدْقَ حَدِيثِهِمَا فَقَرَّبَ النَّفَرَ مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَنَحَرَ عِنْدَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَيَّامٍ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- يَنْحَرُ بِهَا لِلنَّاسِ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا وَيَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ، وَأُرَى فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَ الْبَيْتَ، فَكَسَاهُ الْخَصَفَ [1] ، ثُمَّ أُرَى أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَسَاهُ الْمَعَافِرَ [2] ، ثُمَّ أُرَى أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ [3] ، فَكَانَ تُبَّعٌ- فِيمَا يَزْعُمُونَ-
__________
[ () ] (بهَا مِنْبَر ونخيل ومزارع على سِتَّة وَثَلَاثِينَ ميلًا من مَكَّة، وَهِي حد تهَامَة، وَمن عسفان إِلَى ملل يُقَال لَهُ السَّاحِل، وملل على لَيْلَة من الْمَدِينَة. وَقَالَ السكرى: عسفان: على مرحلَتَيْنِ من مَكَّة على طَرِيق الْمَدِينَة، والجحفة على ثَلَاث مراحل وَقد غزا- النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنى لحيان بعسفان، وَقد مضى لهجرته خمس سِنِين وشهران وَأحد عشر يَوْمًا وأمج (بِالْجِيم وَفتح أَوله وثانيه، والأمج فِي اللُّغَة: الْعَطش) : بلد من أَعْرَاض الْمَدِينَة. وَقَالَ أَبُو الْمُنْذر هِشَام بن مُحَمَّد: أمج وغران: واديان يأخذان من حرَّة بنى سليم ويفرغان فِي الْبَحْر.
[1] الخصف: حصر تنسج من خوص النّخل وَمن الليف. فيسوى مِنْهَا شقق تلبس بيُوت الْأَعْرَاب.
[2] المعافر: ثِيَاب تنْسب إِلَى قَبيلَة من الْيمن. وَأَصله الْمعَافِرِي، ثمَّ صَار اسْما لَهَا بِغَيْر نِسْبَة.
[3] الملاء: جمع ملاءة، وَهِي الملحفة. والوصائل: ثِيَاب مخططة يمنية، يُوصل بَعْضهَا إِلَى بعض.(1/24)
أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ [1] ، وَأَوْصَى بِهِ وُلَاتَهُ مِنْ جُرْهُمٍ، وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ وَأَلَّا يُقَرِّبُوهُ دَمًا وَلَا مِيتَةً وَلَا مِئْلَاةً [2] ، وَهِيَ الْمَحَايِضُ [3] ، وَجَعَلَ لَهُ بَابًا وَمِفْتَاحًا [4] وَقَالَتْ سُبَيعَةُ بِنْتُ الْأَحَبِّ [5] بْنِ زَبِينةَ [6] بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ ابْن هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ، وَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ ابْن مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لِابْنِ لَهَا مِنْهُ يُقَالُ لَهُ خَالِدٌ، تُعَظِّمُ عَلَيْهِ حُرْمَةَ مَكَّةَ، وَتَنْهَاهُ عَنْ الْبَغْيِ فِيهَا، وَتَذْكُرُ تُبَّعًا وَتَذَلُّلَهُ لَهَا، وَمَا صَنَعَ بِهَا [7] :
أَبُنَيَّ لَا تَظْلِمْ بِمَكَّةَ ... لَا الصَّغِيرَ وَلَا الْكَبِيرْ
واحفظ محارمها بنىّ ... وَلَا يَغُرَّنكَ الغَرورْ
أَبُنَيَّ مَنْ يَظْلِمْ بِمَكَّةَ ... يَلْقَ أَطْرَافَ الشُّرورْ
__________
[1] كَانَت قُرَيْش فِي زمن الْجَاهِلِيَّة تشترك فِي كسْوَة الْكَعْبَة، حَتَّى نَشأ أَبُو ربيعَة بن الْمُغيرَة، فَقَالَ:
أَنا أكسو الْكَعْبَة سنة وحدي، وَجَمِيع قُرَيْش سنة، وَاسْتمرّ يفعل ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ. ثمَّ كساها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثِّيَاب اليمانية، وَكَسَاهَا أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وعَلى. وكسيت فِي زمن الْمَأْمُون والمتوكل وَالْعَبَّاس، ثمَّ فِي زمن النَّاصِر العباسي كُسِيت السوَاد من الْحَرِير، ثمَّ هِيَ تُكْسَى إِلَى الْآن فِي كل سنة، وَيُقَال: إِن أول من كسا الْكَعْبَة الديباج الْحجَّاج، وَقيل: بل عبد الله بن الزبير.
[2] كَذَا فِي ط، والطبري، والمئلاة: خرقَة الْحيض، وَجَمعهَا: المآلى، وَفِي سَائِر الْأُصُول «مثلاثا» بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَلَا معنى لَهَا.
[3] لَعَلَّه يُرِيد: المحيضة (وَاحِدَة المحايض) ، وَهِي خرقَة الْحيض، إِذْ السِّيَاق يَقْتَضِي الْإِفْرَاد.
[4] ويروون لتبع هَذَا شعرًا حِين كسا الْبَيْت، وَهُوَ:
كسونا الْبَيْت الّذي حرم الله ... ملاء منضدا وبرودا
فَأَقَمْنَا بِهِ من الشَّهْر عشرا ... وَجَعَلنَا لبَابَة إقليدا
ونحرنا بِالشعبِ سِتَّة ألف ... فترى النَّاس نحوهن ورودا
ثمَّ سرنا عَنهُ نَؤُم مهيلا ... فرفعنا لواءنا معقودا
[5] وتروى الْكَلِمَة بِالْجِيم بدل الْحَاء.
[6] زبينة (بالزاي وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ الْيَاء وَالنُّون) : فعيلة من الزَّبْن، وَالنّسب إِلَيْهَا زبانى على غير قِيَاس. وَلَو سمى بِهِ رجل لقيل فِي النّسَب إِلَيْهِ زبني على الْقيَاس.
[7] وَقيل: إِنَّمَا قَالَت بنت الأحب هَذَا الشّعْر فِي حَرْب كَانَت بَين بنى السباق بن عبد الدَّار وَبَين بنى على بن سعد بن تيم حِين تفانوا، وَلَحِقت طَائِفَة من بنى السباق بعك فهم فيهم، وَيُقَال إِنَّه أول بغى كَانَ فِي قُرَيْش. (عَن الرَّوْض الْأنف) .(1/25)
أَبُنَيَّ يُضْرَبْ وَجْهُهُ ... وَيَلُحْ بِخَدَّيْهِ السَّعيرْ
أَبُنَيَّ قَدْ جَرَّبْتهَا ... فَوَجَدْتُ ظَالِمهَا يَبُورْ [1]
اللَّهُ أَمَّنَهَا وَمَا ... بُنِيَتْ بِعَرْصَتِهَا قُصورْ
وَاَللَّهُ أَمَّنَ طَيْرَهَا ... وَالْعُصْمُ [2] تَأْمَنُ فِي ثَبيرْ [3]
وَلَقَدْ غَزَاهَا تُبَّعٌ ... فَكَسَا بَنِيَّتَهَا الْحَبِيرْ [4]
وَأَذَلَّ رَبِّي مُلْكَهُ ... فِيهَا فَأَوْفَى بالنُّذُورْ
يَمْشِي إلَيْهَا حَافِيًا ... بِفِنَائِهَا أَلْفَا بَعِيرْ
وَيَظَلُّ يُطْعِمُ أَهْلَهَا ... لَحْمَ الْمَهَارَى [5] والجَزورْ
يَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ الْمُصَفَّى ... وَالرَّحِيضَ [6] مِنْ الشعيرْ
وَالْفِيلُ أُهْلِكَ جَيْشُهُ ... يُرْمَوْنَ فِيهَا بِالصُّخُورْ
وَالْمُلْكَ فِي أقْصَى الْبِلَاد ... وَفِي الْأَعَاجِمِ وَالْخَزِيرْ [7]
فَاسْمَعْ إذَا حُدِّثْتَ وَافْهَمْ ... كَيْفَ عَاقِبَةُ الأمورْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُوقَفُ عَلَى قَوَافِيهَا لَا تُعْرَبُ [8] .
(دَعْوَةُ تُبَّانَ قَوْمَهُ إلَى النصرانيَّة، وَتَحْكِيمُهُمْ النَّارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ) .
ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مُتَوَجِّهًا إلَى الْيَمَنِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ وَبِالْحَبْرَيْنِ، حَتَّى إذَا دَخَلَ
__________
[1] يبور: يهْلك.
[2] العصم: الوعول، لِأَنَّهَا تعتصم بالجبال.
[3] ثبير: جبل بِمَكَّة.
[4] بنيتها: يعْنى الْكَعْبَة. والحبير: ضرب من ثِيَاب الْيمن موشى.
[5] المهارى: الْإِبِل العراب النجيبة.
[6] الرحيض: المنقى، والمصفى.
[7] كَذَا فِي شرح السِّيرَة. والخزير: أمة من الْعَجم، وَيُقَال لَهَا الخزر أَيْضا. وَفِي أ: «الجزير» قَالَ أَبُو ذَر: «وَيحْتَمل أَن يكون جمع جَزِيرَة بِبِلَاد الْعَرَب» . وَفِي م، ر: «الخذير» وَلَا معنى لَهَا.
[8] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «قَالَ ابْن هِشَام: وَهَذَا الشّعْر مُقَيّد، والمقيد: الّذي لَا يرفع وَلَا ينصب وَلَا يخْفض» .(1/26)
الْيَمَنَ دَعَا قَوْمَهُ إلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، حَتَّى يُحَاكِمُوهُ إلَى النَّارِ الَّتِي كَانَتْ بِالْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكِ القُرَظيُّ، قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ:
أَنَّ تُبَّعًا لَمَّا دَنَا مِنْ الْيَمَنِ لِيَدْخُلَهَا حَالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ: وَقَالُوا: لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْنَا، وَقَدْ فَارَقْتَ دِينَنَا، فَدَعَاهُمْ إلَى دِينِهِ وَقَالَ: إنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، فَقَالُوا:
فَحَاكِمْنَا إلَى النَّارِ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ- فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ- نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، تَأْكُلُ الظَّالِمَ وَلَا تَضُرُّ الْمَظْلُومَ، فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَمَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا مُتَقَلِّدَيْهَا، حَتَّى قَعَدُوا لِلنَّارِ عِنْدَ مَخْرَجِهَا الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ، فَخَرَجَتْ النَّارُ إلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ حَادُوا عَنْهَا وَهَابُوهَا، فَذَمَرَهُمْ [1] مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ النَّاسِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالصَّبْرِ لَهَا، فَصَبَرُوا حَتَّى غَشِيَتْهُمْ، فَأَكَلَتْ الْأَوْثَانَ وَمَا قَرَّبُوا مَعَهَا، وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ رِجَالِ حِمْيَرَ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا لَمْ تَضُرَّهُمَا فَأُصْفِقَتْ [2] عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِ، فَمِنْ هُنَالِكَ وَعَنْ ذَلِكَ كَانَ أَصْلُ الْيَهُودِيَّةِ بِالْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ أَنَّ الْحَبْرَيْنِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ حِمْيَرَ، إنَّمَا اتَّبَعُوا النَّارَ لِيَرُدُّوهَا، وَقَالُوا: مَنْ رَدَّهَا فَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ، فَدَنَا مِنْهَا رِجَالٌ مِنْ حِمْيَرَ بِأَوْثَانِهِمْ لِيَرُدُّوهَا فَدَنَتْ مِنْهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ، فَحَادُوا عَنْهَا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رَدَّهَا، وَدَنَا مِنْهَا الْحَبْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَعَلَا يَتْلُوَانِ التَّوْرَاةَ وَتَنْكُصُ عَنْهُمَا، حَتَّى رَدَّاهَا إلَى مَخْرَجِهَا الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ، فَأُصْفِقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
(رئَامٌ وَمَا صَارَ إلَيْهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رِئَامٌ [3] بَيْتًا لَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، وَيَنْحَرُونَ عِنْدَهُ، وَيَكَلَّمُونَ
__________
[1] ذمرهم: حضهم وشجعهم.
[2] يُقَال: أصفقوا على الْأَمر، إِذا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ.
[3] بَيت رئام: اسْم لموْضِع الرَّحْمَة الَّتِي كَانُوا يلتمسونها مِنْهُ. مَأْخُوذ من رأم الْأُنْثَى وَلَدهَا، وَذَلِكَ إِذا عطفت عَلَيْهِ وَرَحمته.(1/27)
(مِنْهُ) [1] إذْ كَانُوا عَلَى شِرْكِهِمْ؟ فَقَالَ الْحَبْرَانِ لِتُبَّعِ: إنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يَفْتِنُهُمْ بِذَلِكَ فَخَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَشَأْنُكُمَا بِهِ، فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ- فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ- كَلْبًا أَسْوَدَ فَذَبَحَاهُ، ثُمَّ هَدَمَا ذَلِكَ الْبَيْتَ، فَبَقَايَاهُ الْيَوْمَ- كَمَا ذُكِرَ لِي- بِهَا آثَارُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ تُهْرَاقُ عَلَيْهِ.
مُلْكُ ابْنِهِ حَسَّانَ بْنِ تُبَّانَ وَقَتْلُ عَمْرٍو أَخِيهِ (لَهُ)
[2]
(سَبَبُ قَتْلِهِ) :
فَلَمَّا مَلَكَ ابْنُهُ حَسَّانُ بْنُ تُبَّانَ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبٍ سَارَ بِأَهْلِ الْيَمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ بِهِمْ أَرْضَ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْأَعَاجِمِ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْعِرَاقِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بالَبحريْنِ، فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ- كَرِهَتْ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ الْمَسِيرَ مَعَهُ، وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ، فَكَلَّمُوا أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو، وَكَانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ، فَقَالُوا لَهُ: اُقْتُلْ أَخَاكَ حَسَّانَ وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا، وَتَرْجِعُ بِنَا إلَى بِلَادِنَا، فَأَجَابَهُمْ. فَاجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا ذَا رُعَيْنٍ [3] الْحِمْيَرِيُّ، فَإِنَّهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَقَالَ ذُو رُعَيْنٍ:
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهْرًا بِنَوْمِ ... سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ [4]
فَأَمَّا حِمْيَرُ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لَذِي رُعَيْنِ
ثُمَّ كَتَبَهُمَا فِي رُقْعَةٍ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا عَمْرًا، فَقَالَ لَهُ: ضَعْ لِي هَذَا الْكِتَابَ عنْدك، فَفعل، ثمَّ قَتَلَ عَمْرٌو أَخَاهُ حَسَّانَ، وَرَجَعَ بِمَنْ مَعَهُ إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ:
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق.
[3] رعين: تَصْغِير رعن. والرعن: أنف الْجَبَل. وَقيل: رعين: جبل بِالْيمن، وَإِلَيْهِ ينْسب ذُو رعين هَذَا.
[4] فِي الْبَيْت حذف تَقْدِيره: من يشترى سهرا بنوم غير سعيد، بل من يبيت قرير الْعين هُوَ السعيد، فَحذف الْخَبَر لدلَالَة أول الْكَلَام عَلَيْهِ.(1/28)
لَاهِ [1] عَيْنَا الَّذِي رأى مثل حسّان ... قَتِيلًا فِي سَالِفِ الْأَحْقَابِ
قَتَلَتْهُ مَقاوِلٌ [2] خَشْيَةَ الْحَبْسِ ... غَدَاةً قَالُوا: لَبَابِ لَبَابِ
مَيْتُكُمْ خَيْرُنَا وَحَيُّكُمْ ... رَبٌّ عَلَيْنَا وَكُلُّكُمْ أَرْبَابِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَوْلُهُ لَبَابِ لَبَابِ: لَا بَأْسَ لَا بَأْسَ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ [3] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: لِبَابِ لِبَابِ.
(نَدَمُ عَمْرٍو وَهَلَاكُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا نَزَلَ عَمْرُو بْنُ تُبَّانَ الْيَمَنَ مُنِعَ مِنْهُ النَّوْمُ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ، فَلَمَّا جَهَدَهُ ذَلِكَ سَأَلَ الْأَطِبَّاءَ والْحُزَاةَ [4] مِنْ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ [5] عَمَّا بِهِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إنَّهُ وَاَللَّهِ مَا قَتَلَ رَجُلٌ قَطُّ أَخَاهُ، أَوْ ذَا رَحِمِهِ بَغْيًا عَلَى مِثْلِ مَا قَتَلْتَ أَخَاكَ عَلَيْهِ، إلَّا ذَهَبَ نَوْمُهُ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ. فَلَمَّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ حَسَّانَ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ، حَتَّى خَلَصَ إلَى ذِي رُعَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ ذُو رُعَيْنٍ: إنَّ لِي عِنْدَكَ بَرَاءَةً، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي دَفَعْتُ إلَيْكَ، فَأَخْرَجَهُ فَإِذَا فِيهِ الْبَيْتَانِ، فَتَرَكَهُ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُ. وَهَلَكَ عَمْرٌو، فَمَرَجَ [6] أَمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ ذَلِكَ وتفرّقوا.
وثوب لخنيعة ذِي شَنَاتِرَ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ
(تَوَلِّيهِ الْمُلْكَ، وَشَيْءٌ مِنْ سِيرَتِهِ، ثُمَّ قَتْلُهُ) :
فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمَمْلَكَةِ، يُقَالُ لهَ لِخُنَيْعَةَ [7] يَنُوفَ.
__________
[1] أَرَادَ: للَّه، وَحذف لَام الْجَرّ وَاللَّام الْأُخْرَى مَعَ ألف الْوَصْل، وَهَذَا حذف كثير، وَلكنه جَار فِي هَذَا الِاسْم خَاصَّة لِكَثْرَة وُرُوده على الْأَلْسِنَة.
[2] يُرِيد الْأَقْيَال، وهم الَّذين دون التبابعة، واحدهم قيل (مثل سيد، ثمَّ خفف) . وَقَالَ أَبُو ذَر:
المقاول: الَّذين يخلفون الْمُلُوك إِذا غَابُوا.
[3] وَقيل: هِيَ كلمة فارسية مَعْنَاهَا: القفل، والقفل: الرُّجُوع.
[4] الحزاة: الَّذين ينظرُونَ فِي النُّجُوم ويقضون بهَا، واحدهم حَاز.
[5] العرافون: ضرب من الْكُهَّان يَزْعمُونَ أَنهم يعْرفُونَ من الْغَيْب مَا لَا يعرف النَّاس.
[6] مرج: اخْتَلَط والتبس، وَفِي أ: «هرج» ، وَفِي م، ر: «مرج» .
[7] قَالَ ابْن دُرَيْد: الْمَعْرُوف فِيهِ: لخيعة (بِغَيْر نون) . مَأْخُوذ من اللخع، وَهُوَ استرخاء اللَّحْم.(1/29)
ذُو شَنِاتَرَ [1] ، فَقَتَلَ خِيَارَهُمْ، وَعَبِثَ بِبُيُوتِ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ مِنْهُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ حِمْيَرَ لِلْخَنِيعَةِ:
تُقَتِّلُ أَبْنَاهَا وَتَنْفِي سَرَاتَهَا ... وَتَبْنِي بِأَيْدِيهَا لَهَا الذُّلَّ حِمْيَرُ
تُدَمِّرُ دُنْيَاهَا بِطَيْشِ حُلُومِهَا ... وَمَا ضَيَّعَتْ مِنْ دِينِهَا فَهُوَ أَكْثَرُ
كَذَاك الْقُرُون قبل ذَاكَ بِظُلْمِهَا ... وَإِسْرَافِهَا تَأْتِي الشُّرُورَ فَتُخْسَرُ
وَكَانَ لَخَنِيعَةَ امْرِأً فَاسِقًا يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَ يُرْسِلُ إلَى الْغُلَامِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ [2] لَهُ قَدْ صَنَعَهَا لِذَلِكَ، لِئَلَّا يَمْلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَطْلُعُ مِنْ مَشْرَبَتِهِ تِلْكَ إلَى حَرَسِهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ جُنْدِهِ، قَدْ أَخَذَ مِسْوَاكًا فَجَعَلَهُ فِي فِيهِ، أَيْ لِيُعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ. حَتَّى بَعَثَ إلَى زُرْعَةَ ذِي [3] نُوَاسِ بْنِ تُبَّانَ أَسْعَدَ أَخِي حَسَّانَ، وَكَانَ صَبِيَّا صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ حَسَّانُ، ثُمَّ شَبَّ غُلَامًا جَمِيلًا وَسِيمًا [4] ، ذَا هَيْئَةٍ وَعَقْلٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ مَا يُرِيدُ مِنْهُ، فَأَخَذَ سِكِّينًا حَدِيدًا لَطِيفًا، فَخَبَّأَهُ بَيْنَ قَدَمِهِ وَنَعْلِهِ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَلَمَّا خَلَا مَعَهُ وَثَبَ إلَيْهِ، فَوَاثَبَهُ ذُو نُوَاسٍ فَوَجَأَهُ [5] حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ حَزَّ رَأْسَهُ، فَوَضَعَهُ فِي الْكُوَّةِ الَّتِي كَانَ يُشْرِفُ مِنْهَا، وَوَضَعَ مِسْوَاكَهُ فِي فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا لَهُ: ذَا نُوَاسٍ، أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ [6] فَقَالَ: سَلْ نَخْمَاسَ [7] اسْتِرْطُبَانَ [8] ذُو نواس. استرطبان لَا باس [9]- قَالَ
__________
[1] الشناتر: الْأَصَابِع، بلغَة حمير.
[2] الْمشْربَة بِفَتْح الرَّاء وَضمّهَا: الغرفة المرتفعة.
[3] زرْعَة: هُوَ من قَوْلهم: زرعك الله: أَي أنبتك، وَسموا بزارع كَمَا سموا بنابت، وسمى ذَا نواس لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ غديرتان من شعر كَانَتَا تنوسان: أَي تتحركان وتضطربان.
[4] وسيما: حسنا.
[5] وجأه: ضربه.
[6] يباس: يبيس.
[7] كَذَا فِي أوشرح السِّيرَة، وَقد نبه السهيليّ: فِي كِتَابه: «الرَّوْض الْأنف» على أَن هَذَا هُوَ الصَّحِيح ويروى بالنُّون (أَو بِالتَّاءِ) مَعَ حاء مُهْملَة، وبهذه الرِّوَايَة الْأَخِيرَة ورد فِي م، ر.
[8] يُقَال: إِن هَذِه كلمة فارسية، وَمَعْنَاهَا: أَخَذته النَّار.
[9] كَذَا وَردت هَذِه الْعبارَة بِالْأَصْلِ، وَهِي غير وَاضِحَة. وسياقها فِي الأغاني: «كَانَ الْغُلَام إِذا خرج من عِنْد لخنيعة، وَقد لَاطَ بِهِ قطعُوا مشافر نَاقَته وذنبها، وصاحوا بِهِ: أرطب أم يباس، فَلَمَّا خرج.(1/30)
ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا كَلَامُ حِمْيَرَ. وَنَخْمَاسُ: الرَّأْسُ [1]- فَنَظَرُوا إلَى الْكُوَّةِ فَإِذَا رَأْسُ لَخَنِيعَةَ مَقْطُوعٌ، فَخَرَجُوا فِي إثْرِ ذِي نُوَاسٍ حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَقَالُوا: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَنَا غَيْرُكَ: إذْ أَرَحْتنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ.
مُلْكُ ذِي نُوَاسٍ
فَمَلَّكُوهُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ، فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأُخْدُودِ [2] ، وَتَسَمَّى يُوسُفَ، فَأَقَامَ فِي مُلْكِهِ زَمَانًا.
(النَّصْرَانِيَّةُ بِنَجْرَانَ) :
وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْإِنْجِيلِ، أَهْلِ فَضْلٍ، وَاسْتِقَامَةٍ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، لَهُمْ رَأْسٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ، وَكَانَ مَوْقِعُ أَصْلِ ذَلِكَ الدِّينِ بِنَجْرَانَ، وَهِيَ بِأَوْسَطِ أَرْضِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَهْلُهَا وَسَائِرُ الْعَرَبِ كُلِّهَا أَهْلُ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ يُقَالُ لَهُ فَيْمِيُونُ [3]- وَقَعَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، فَدَانُوا بِهِ.
ابْتِدَاءُ وُقُوعِ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ
(فَيْمِيُونُ وَصَالِحٌ وَنَشْرُ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي لَبِيَدٍ مَوْلَى الْأَخْنَسِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ:
__________
[ () ] (ذُو نواس من عِنْده، وَركب نَاقَة لَهُ يُقَال لَهَا السراب، قَالُوا: ذُو نواس: أرطب أم يباس؟ فَقَالَ:
ستعلم الأحراس، است ذِي نواس، است رطبان أم يباس» . فَلَعَلَّ مَا فِي الأَصْل هُنَا محرف عَن هَذَا.
[1] وَقيل: نخماس: رجل كَانَ مِنْهُم ثمَّ تَابَ، يعْنى أَنه كَانَ يعْمل عمل لخنيعة.
[2] وَيُقَال: إِن الَّذين خددوا الْأُخْدُود ثَلَاثَة: تبع صَاحب الْيمن، وقسطنطين بن هلانى (وهلانى أمه) حِين صرف النَّصَارَى عَن التَّوْحِيد إِلَى عبَادَة الصَّلِيب، وبخت نصّر من أهل بابل، حِين أَمر النَّاس أَن يسجدوا لَهُ، فَامْتنعَ دانيال وَأَصْحَابه، فألقاهم فِي النَّار.
[3] فِي الرَّوْض الْأنف: «فيمؤن» ، وَفِي الطَّبَرِيّ: «قيمؤن» بِالْقَافِ، وَقيل إِن اسْمه يحيى، وَكَانَ أَبوهُ ملكا فتوفى، وَأَرَادَ قومه أَن يملكوه بعد أَبِيه، ففر من الْملك وَلزِمَ السياحة.(1/31)
أَنَّ مَوْقِعَ ذَلِكَ الدِّينِ بِنَجْرَانَ كَانَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ دِينِ عِيسَى بن مَرْيَمَ يُقَالُ لَهُ فَيْمِيُونُ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا مُجْتَهِدًا زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا، مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ سَائِحًا يَنْزِلُ بَيْنَ الْقُرَى، لَا يُعْرَفُ بِقَرْيَةِ إلَّا خَرَجَ مِنْهَا إلَى قَرْيَةٍ لَا يُعْرَفُ بِهَا، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ، وَكَانَ بَنَّاءً يَعْمَلُ الطِّينَ وَكَانَ يُعَظِّمُ الْأَحَدَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ شَيْئًا، وَخَرَجَ إلَى فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ يُصَلِّي بِهَا حَتَّى يُمْسِيَ. قَالَ: وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الشَّامِ يَعْمَلُ عَمَلَهُ ذَلِكَ مُسْتَخْفِيًا، فَفَطِنَ لِشَأْنِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهَا يُقَالُ لَهُ صَالِحٌ، فَأَحَبَّهُ صَالِحٌ حُبًّا لَمْ يُحِبَّهُ شَيْئًا كَانَ قَبْلَهُ، فَكَانَ يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، وَلَا يَفْطِنُ لَهُ فَيْمِيُونُ: حَتَّى خَرَجَ مَرَّةً فِي يَوْمِ الْأَحَدِ إلَى فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، وَقَدْ اتَّبَعَهُ صَالِحٌ وفَيْمِيونُ لَا يَدْرِي، فَجَلَسَ صَالِحٌ مِنْهُ مَنْظَرَ الْعَيْنِ مُسْتَخْفِيًا مِنْهُ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ بِمَكَانِهِ. وَقَامَ فَيْمِيُونُ يُصَلِّي، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي إذْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ التِّنِّينُ- الْحَيَّةُ ذَاتُ الرُّءُوسِ السَّبْعَةِ [1]- فَلَمَّا رَآهَا فَيْمِيُونُ دَعَا عَلَيْهَا فَمَاتَتْ، وَرَآهَا صَالِحٌ وَلَمْ يَدْرِ مَا أَصَابَهَا، فَخَافَهَا عَلَيْهِ، فَعِيلَ عَوْلُهُ [2] ، فَصَرَخَ: يَا فَيْمِيُونُ، التِّنِّينُ قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَكَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، وَأَمْسَى فَانْصَرَفَ. وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ، وَعَرَفَ صَالِحٌ أَنَّهُ قَدْ رَأَى مَكَانَهُ، فَقَالَ (لَهُ: يَا) [3] فَيْمِيُونُ، تَعْلَمُ وَاَللَّهِ أَنِّي مَا أَحْبَبْتُ شَيْئًا قَطُّ حُبَّكَ، وَقَدْ أَرَدْتُ صُحْبَتَكَ، وَالْكَيْنُونَةَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتَ، فَقَالَ: مَا شِئْتَ، أَمْرِي كَمَا تَرَى، فَإِنْ عَلِمْتَ أَنَّكَ تَقْوَى عَلَيْهِ فَنَعَمْ، فَلَزِمَهُ صَالِحٌ. وَقَدْ كَادَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ يَفْطِنُونَ لِشَأْنِهِ، وَكَانَ إذَا فَاجَأَهُ [4] الْعَبْدُ بِهِ الضُّرُّ دَعَا لَهُ فَشُفِيَ، وَإِذَا دُعِي إلَى أَحَدٍ بِهِ ضُرٌّ لَمْ يَأْتِهِ، وَكَانَ لِرَجُلِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ ابْنٌ ضَرِيرٌ، فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِ فَيْمِيُونَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَا يَأْتِي أَحَدًا دَعَاهُ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ يَعْمَلُ لِلنَّاسِ الْبُنْيَانَ بِالْأَجْرِ.
فَعَمَدَ الرَّجُلُ إلَى ابْنِهِ ذَلِكَ فَوَضَعَهُ فِي حُجْرَتِهِ وَأَلْقَى عَلَيْهِ ثوبا، ثمَّ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ:
__________
[1] يعْنى بالرءوس هُنَا: الْقُرُون. (عَن شرح السِّيرَة) .
[2] عيل عوله: أَي غلب على صبره، يُقَال: عاله الْأَمر، إِذا غَلبه.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] كَذَا فِي م، ر، ط، والطبري. وَفِي أ، ومعجم الْبلدَانِ لياقوت (ج 4 ص 752 طبع أوروبا) «فَاء جَاءَهُ» .(1/32)
يَا فَيْمِيُونُ، إنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَعْمَلَ فِي بَيْتِي عَمَلًا، فَانْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ حَتَّى تَنْظُرَ إلَيْهِ، فَأُشَارِطُكَ عَلَيْهِ. فَانْطَلَقَ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ حُجْرَتَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا تُرِيدُ أَنْ تَعْمَلَ فِي [1] بَيْتِكَ هَذَا؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ انْتَشَطَ [2] الرَّجُلُ الثَّوْبَ عَنْ الصَّبِيِّ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا فَيْمِيُونُ، عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَصَابَهُ مَا تَرَى، فَادْعُ اللَّهَ لَهُ. فَدَعَا لَهُ فَيْمِيُونُ، فَقَامَ الصَّبِيُّ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَعَرَفَ فَيْمِيُونُ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ، فَخَرَجَ مِنْ الْقَرْيَةِ وَاتَّبَعَهُ صَالِحٌ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي فِي بَعْضِ الشَّامِ إذْ مَرَّ بِشَجَرَةِ عَظِيمَةٍ. فَنَادَاهُ مِنْهَا رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا فَيْمِيُونُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا زِلْتُ أَنْظُرُكَ [3] وَأَقُولُ مَتَى هُوَ جَاءٍ، حَتَّى سَمِعْتُ صَوْتَكَ، فَعَرَفْتُ أَنَّكَ هُوَ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَقُومَ عَلَيَّ، فَإِنِّي مَيِّتٌ الْآنَ، قَالَ:
فَمَاتَ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَتَبِعَهُ صَالِحٌ، حَتَّى وَطِئَا بَعْضَ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَعَدَوْا عَلَيْهِمَا. فَاخْتَطَفَتْهُمَا سَيَّارَةٌ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ، فَخَرَجُوا بِهِمَا حَتَّى بَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ، وَأَهْلُ نَجْرَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ، يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لَهَا عِيدٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ، إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِيدُ عَلَّقُوا عَلَيْهَا كُلَّ ثَوْبٍ حَسَنٍ وَجَدُوهُ، وَحُلِيَّ النِّسَاءِ، ثُمَّ خَرَجُوا إلَيْهَا فَعَكَفُوا عَلَيْهَا يَوْمًا. فَابْتَاعَ فَيْمِيُونُ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَابْتَاعَ صَالِحًا آخَرُ. فَكَانَ فَيْمِيُونُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ فِي بَيْتٍ لَهُ- أَسْكَنَهُ إيَّاهُ سَيِّدُهُ- يُصَلِّي، اُسْتُسْرِجَ لَهُ الْبَيْتُ نُورًا حَتَّى يُصْبِحَ مِنْ غَيْرِ مِصْبَاحٍ، فَرَأَى ذَلِكَ سَيِّدُهُ، فَأَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِهِ، وَقَالَ لَهُ فَيْمِيُونُ: إنَّمَا أَنْتُمْ فِي بَاطِلٍ، إنَّ هَذِهِ النَّخْلَةَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهَا إلَهِي الَّذِي أَعْبُدُهُ لَأَهْلَكَهَا، وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ:
فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ إنْ فَعَلْتَ دَخَلْنَا فِي دِينِكَ، وَتَرَكْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَامَ فَيْمِيُونُ، فَتَطَهَّرَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا فَجَعَفَتْهَا [4] مِنْ أَصْلِهَا فَأَلْقَتْهَا، فَاتَّبَعَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِهِ، فَحَمَلَهُمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ دِينِ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الْأَحْدَاثُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ
__________
[1] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَفِي جَمِيع الْأُصُول: «من» .
[2] انتشط الثَّوْب: كشفه بِسُرْعَة.
[3] فِي الطَّبَرِيّ: أنتظرك. وَالنَّظَر والانتظار بِمَعْنى.
[4] جعفتها: قلعتها وأسقطتها.
3- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/33)
دِينِهِمْ بِكُلِّ أَرْضٍ، فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَتْ النَّصْرَانِيَّةُ بِنَجْرَانَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَهْلِ نَجْرَانَ.
أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ
(فَيْمِيُونُ وَابْنُ الثَّامِرِ وَاسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَحَدَّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا:
أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ- وَنَجْرَانُ: الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي إلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ- سَاحِرٌ يُعَلِّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السِّحْرَ، فَلَمَّا نَزَلَهَا فَيْمِيُونُ- وَلَمْ يُسَمُّوهُ لِي بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، قَالُوا: رَجُلٌ نَزَلَهَا- ابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي بِهَا السَّاحِرُ، فَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إلَى ذَلِكَ السَّاحِرِ يُعَلِّمُهُمْ السِّحْرَ فَبَعَثَ إلَيْهِ الثَّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ، مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ فَكَانَ إذَا مَرَّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ مِنْ صَلَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَجَعَلَ يَجْلِسُ إلَيْهِ، وَيَسْمَعُ مِنْهُ، حَتَّى أَسْلَمَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَكَانَ يَعْلَمُهُ، فَكَتَمَهُ إيَّاهُ، وَقَالَ (لَهُ) [1] :
يَا بن أَخِي، إنَّكَ لَنْ تَحْمِلَهُ، أَخْشَى عَلَيْكَ ضَعْفَكَ عَنْهُ. وَالثَّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَظُنُّ إلَّا أَنَّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ بِهِ عَنْهُ. وَتَخَوَّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ، عَمَدَ إلَى أَقْدَاحٍ فَجَمَعَهَا، ثُمَّ لَمْ يُبْقِ للَّه اسْمًا يَعْلَمُهُ إلَّا كَتَبَهُ فِي قِدْحٍ [2] ، وَلِكُلِّ اسْمٍ قِدْحٌ، حَتَّى إذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ لَهَا نَارًا، ثُمَّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قِدْحًا قِدْحًا، حَتَّى إذَا مَرَّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقِدْحِهِ، فَوَثَبَ الْقِدْحُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا، فَأَخَذَهُ ثُمَّ أَتَى صَاحِبَهُ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الَّذِي كَتَمَهُ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هُوَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: وَكَيْفَ
__________
[1] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[2] الْقدح: السهْم.(1/34)
عَلِمْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ، قَالَ: أَيْ ابْنَ أَخِي، قَدْ أَصَبْتَهُ فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ.
(ابْنُ الثَّامِرِ وَدَعْوَتُهُ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ) :
فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ إذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضُرٌّ إلَّا قَالَ (لَهُ) [1] يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَتُوَحِّدُ اللَّهَ وَتَدْخُلُ فِي دِينِي وَأَدْعُو اللَّهَ فَيُعَافِيكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ؟
فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُوَحِّدُ اللَّهَ وَيُسْلِمُ، وَيَدْعُو لَهُ فَيُشْفَى. حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرٌّ إلَّا أَتَاهُ فَاتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ حَتَّى رُفِعَ شَأْنُهُ إلَى مَلِكِ نَجْرَانَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ (لَهُ) [1] : أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي، وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي، لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ، قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَقَعُ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إلَى مِيَاهٍ بِنَجْرَانَ، بُحُورٍ لَا يَقَعُ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا هَلَكَ، فَيُلْقَى فِيهَا فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ: إنَّكَ وَاَللَّهِ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى قَتْلِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ فَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْتُ بِهِ، فَإِنَّكَ إنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ سُلِّطْتَ عَلَيَّ فَقَتَلْتنِي. قَالَ: فَوَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ، وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى بن مَرْيَمَ مِنْ الْإِنْجِيلِ وَحُكْمِهِ، ثُمَّ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَهْلَ دِينِهِمْ مِنْ الْأَحْدَاثِ، فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
(ذُو نُوَاسٍ وَخَدُّ الْأُخْدُودِ) :
فَسَارَ إلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنُودِهِ، فَدَعَاهُمْ إلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْقَتْلِ، فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، فَخَدَّ لَهُمْ الْأُخْدُودَ، فَحَرَقَ مَنْ حَرَقَ بِالنَّارِ، وَقَتَلَ بِالسَّيْفِ وَمَثَّلَ بِهِ حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عشْرين ألفا، فِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ تِلْكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُتِلَ أَصْحابُ 85: 4
__________
[1] زِيَادَة عَن الطبرى.(1/35)
الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ 85: 4- 8.
(الْأُخْدُودُ لُغَةً) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأُخْدُودُ: الْحَفْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ، كَالْخَنْدَقِ وَالْجَدْوَلِ وَنَحْوِهِ، وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ، وَاسْمُهُ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةَ، أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ ابْن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أدّ بن طابخة بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ:
مِنْ الْعِرَاقِيَّةِ اللَّاتِي يُحِيلُ لَهَا [1] ... بَيْنَ الْفَلَاةِ وَبَيْنَ النَّخْلِ أُخْدُودُ
يَعْنِي جَدْوَلًا. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. قَالَ: وَيُقَالُ لِأَثَرِ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ فِي الْجِلْدِ وَأَثَرِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ: أُخْدُودٌ، وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ.
(مَقْتَلُ ابْنِ الثَّامِرِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَيُقَالُ: كَانَ فِيمَنْ قَتَلَ ذُو نُوَاسٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ، رَأْسُهُمْ وَإِمَامُهُمْ [2] .
(مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ الثَّامِرِ فِي قَبْرِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ [3] أَنَّهُ حُدِّثَ:
أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَفَرَ خَرِبَةً مِنْ خَرِبِ نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَوَجَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ تَحْتَ دَفْنٍ مِنْهَا قَاعِدًا، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ، مُمْسِكًا بِيَدِهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا أُخِّرَتْ يَدُهُ عَنْهَا تَنْبَعِثُ [4] دَمًا، وَإِذَا أُرْسِلَتْ يَدُهُ رَدَّهَا عَلَيْهَا، فَأَمْسَكَتْ دَمُهَا، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ
__________
[1] يحِيل لَهَا: يصب لَهَا، يُقَال: أحَال المَاء فِي الْحَوْض، إِذا صبه.
[2] وَيُقَال: إِنَّمَا قتل عبد الله بن الثَّامِر قبل ذَلِك، قَتله ملك كَانَ قبل ذِي نواس، هُوَ أصل ذَلِك الدَّين، وَإِنَّمَا قتل ذُو نواس من كَانَ بعده من أهل دينه. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[3] قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الْعلم عَالما، توفى سنة 135 هـ، وَقيل سنة 133 هـ. وَكَانَ عمره سبعين سنة.
[4] فِي أ: «تثعبت» . وتثعبت: سَالَتْ.(1/36)
مَكْتُوبٌ فِيهِ: «رَبِّي اللَّهُ» فَكُتِبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبَرُ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْ أَقِرُّوهُ عَلَى حَالِهِ، وَرُدُّوا عَلَيْهِ الدَّفْنَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا [1] .
أَمْرُ دَوْسِ ذِي ثَعْلَبَانَ، وَابْتِدَاءُ مُلْكِ الْحَبَشَة وَذكر أرباط الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْيَمَنِ
(فِرَارُ دَوْسٍ وَاسْتِنْصَارُهُ بِقَيْصَرَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ سَبَأٍ، يُقَالُ لَهُ: دَوْسُ ذُو ثَعْلَبَانَ [2] ، عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَسَلَكَ الرَّمْلَ فَأَعْجَزَهُمْ، فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، حَتَّى أَتَى قَيْصَرَ مَلِكَ الرُّومِ، فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي نُوَاسٍ وَجُنُودِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ:
بَعُدَتْ بِلَادُكَ مِنَّا، وَلَكِنِّي سَأَكْتُبُ لَكَ إلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى بِلَادِكَ، وَكَتَبَ إلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ وَالطَّلَبِ بِثَأْرِهِ.
(انْتِصَارُ أَرْيَاطَ وَهَزِيمَةُ ذِي نُوَاسٍ وَمَوْتُهُ) :
فَقَدِمَ دَوْسٌ عَلَى النَّجَاشِيِّ بِكِتَابِ قَيْصَرَ، فَبَعَثَ مَعَهُ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ الْحَبَشَةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَرْيَاطُ، وَمَعَهُ فِي جُنْدِهِ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ، فَرَكِبَ أَرْيَاطُ الْبَحْرَ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحِلِ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ دَوْسٌ ذُو ثَعْلَبَانَ، وَسَارَ إلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ فِي حِمْيَرَ، وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا انْهَزَمَ ذُو نُوَاسٍ وَأَصْحَابُهُ. فَلَمَّا رَأَى ذُو نُوَاسٍ مَا نَزَلَ بِهِ وَبِقَوْمِهِ وَجَّهَ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَدَخَلَ بِهِ، فَخَاضَ بِهِ ضَحْضَاحَ [3] الْبَحْرِ، حَتَّى أَفْضَى بِهِ إلَى غَمْرِهِ، فَأَدْخَلَهُ فِيهِ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَدَخَلَ أَرْيَاطُ الْيَمَنَ، فَمَلَكَهَا [4]
__________
[1] وَمن ذَلِك مَا يرْوى من أَن حَمْزَة بن عبد الْمطلب رضى الله عَنهُ وجده مُعَاوِيَة حِين حفر الْعين صَحِيحا لم يتَغَيَّر، وَأَن الفأس أَصَابَت إصبعه فدميت، وَكَذَلِكَ مَا يرْوى عَن أَبى جَابر عبد الله بن حرَام، وَعَمْرو ابْن الجموح، وَطَلْحَة بن عبيد الله رضى الله عَنْهُم، وَقد أَفَاضَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِك عِنْد الْكَلَام على تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْواتاً 3: 169 ... الْآيَة.
[2] وَيُقَال: إِن الّذي أفلت هُوَ جَبَّار بن فيض، من أهل نَجْرَان، وَالأَصَح مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق.
(رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[3] الضحضاح من المَاء: الّذي يظْهر مِنْهُ القعر.
[4] هَذِه رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فِي مقتل ذِي نواس، وَدخُول الْحَبَشَة الْيمن، سَاقهَا عَنهُ ابْن هِشَام. وَأما غير(1/37)
(شِعْرٌ فِي دَوْسٍ وَمَا كَانَ مِنْهُ) :
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ- وَهُوَ يَذْكُرُ مَا سَاقَ إلَيْهِمْ دَوْسٌ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ:
«لَا كَدَوْسٍ وَلَا كَأَعْلَاقِ رَحْلِهِ
» [1] فَهِيَ مَثَلٌ بِالْيَمَنِ إلَى هَذَا الْيَوْمِ. وَقَالَ ذُو جَدَنٍ الْحِمْيَرِيُّ:
هَوْنكِ [2] لَيْسَ يَرُدُّ الدَّمْعُ مَا فَاتَا ... لَا تَهْلِكِي أَسَفًا فِي إثْرِ مَنْ مَاتَا
أَبَعْدَ بَيْنُونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... وَبَعْدَ سِلْحِينَ يَبْنِي النَّاسُ أَبْيَاتَا
بَيْنُونُ وَسِلْحِينُ وَغُمْدَانُ [3] : مِنْ حُصُونِ الْيَمَنِ الَّتِي هَدَمَهَا أَرْيَاطُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي النَّاسِ مِثْلُهَا. وَقَالَ ذُو جَدَنٍ أَيْضًا:
دَعِينِي لَا أَبَا لَكَ لَنْ تُطِيقِي [4] ... لِحَاكِ اللَّهِ قَدْ أَنْزَفْتِ رِيقِي [5]
لَدَيَّ عَزْفُ القيان إِذْ انتشبنا ... وَإِذ نُسْقَى مِنْ الْخَمْرِ الرَّحِيقِ [6]
وَشُرْبُ الْخَمْرِ لَيْسَ عَلَيَّ عَارًا ... إذَا لَمْ يَشْكُنِي فِيهَا [7] رَفِيقِي
فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا يَنْهَاهُ نَاهٍ ... وَلَوْ شَرِبَ الشِّفَاءَ مَعَ النُّشُوقِ [8]
__________
[ () ] ابْن إِسْحَاق فَيَقُولُونَ: إِن ذَا نواس أَدخل الْحَبَشَة صنعاء الْيمن حِين رأى أَن لَا قبل لَهُ بهم، بعد أَن اسْتنْفرَ جَمِيع المقاول ليكونوا مَعَه يدا وَاحِدَة عَلَيْهِم، فَأَبَوا إِلَّا أَن يحمى كل وَاحِد مِنْهُم حوزته على حِدته، فَخرج إِلَيْهِم، وَمَعَهُ مَفَاتِيح خزائنه وأمواله، على أَن يسالموه وَمن مَعَه، وَلَا يقتلُوا أحدا، فَكَتَبُوا إِلَى النَّجَاشِيّ بذلك، فَأَمرهمْ أَن يقبلُوا ذَلِك مِنْهُ، فَدَخَلُوا صنعاء وَدفع إِلَيْهِم المفاتيح، وَأمرهمْ أَن يقبضوا مَا فِي بِلَاده من خَزَائِن أَمْوَاله، ثمَّ كتب ذُو نواس إِلَى كل مَوضِع من أرضه أَن اقْتُلُوا كل ثَوْر أسود، فَقتل أَكثر الْحَبَشَة، فَلَمَّا بلغ ذَلِك النَّجَاشِيّ وَجه إِلَيْهِم جَيْشًا، وَعَلِيهِ أرياط، وَأمره أَن يقتل ذَا نواس، وَيخرب ثلث بِلَاده، وَيقتل ثلث النِّسَاء، ويسبى ثلث الرِّجَال والذرية، فَفَعَلُوا ذَلِك، ثمَّ كَانَ مَا كَانَ من اقتحام ذِي نواس الْبَحْر، وَقيام ذِي جدن بعده. (رَاجع الطَّبَرِيّ وَالرَّوْض الْأنف) .
[1] الأعلاق: جمع علق، وَهُوَ النفيس من كل شَيْء: يُرِيد مَا حمله دوس إِلَى الْحَبَشَة من النجدة.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري. يُرِيد: ترفقى وليهن عَلَيْك هَذَا الْأَمر. وَفِي أ، وتواريخ مَكَّة للأزرقى: «هُوَ نكما لن ... إِلَخ» . وَهُوَ من بَاب قَول الْعَرَب للْوَاحِد افعلا، وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن وَالْكَلَام
[3] ستذكر فِيمَا يَلِي من شعر ذِي جدن وسلحين: بِفَتْح السِّين فِي ياقوت، وبكسرها فِي الْبكْرِيّ.
[4] أَي لن تطيقى صرفى بالعذل عَن شأنى.
[5] أَي أكثرت على من العذل حَتَّى أيبست ريقي بفمي. وَقلة الرِّيق من الْحصْر، وكثرته من قُوَّة النَّفس وثبات الجأش.
[6] الرَّحِيق: الْمُصَفّى الْخَالِص.
[7] فِي أ: «فِيهِ» .
[8] كَذَا فِي أوالطبري. والشفاء بِالْكَسْرِ) : مَا يتداوى بِهِ فيشفى، تَسْمِيَة للسبب باسم الْمُسَبّب(1/38)
وَلَا مُتَرَهِّبٍ فِي أُسْطُوَانٍ [1] ... يُنَاطِحُ جُدْرَهُ بَيْضُ الْأَنُوقِ [2]
وغُمْدَانُ [3] الَّذِي حُدِّثْتِ عَنْهُ ... بَنَوْهُ مُسَمَّكا فِي رَأْسِ نِيقِ [4]
بِمَنْهَمَةِ [5] وَأَسْفَلُهُ جُرُونٌ [6] ... وَحُرُّ [7] الْمَوْحَلِ [8] اللَّثَقِ الزَّلِيقِ [9]
مصابيح السّليط [10] تاوح فِيهِ ... إذَا يُمْسِي كَتَوْمَاضِ الْبُرُوقِ
وَنَخْلَتُهُ الَّتِي غُرِسَتْ إلَيْهِ ... يَكَادُ الْيُسْرُ يَهْصِرُ [11] بِالْعُذُوقِ
فَأَصْبَحَ بَعْدَ جِدَّتِهِ رَمَادًا ... وَغَيَّرَ حُسْنَهُ لَهَبُ الْحَرِيقِ
وَأَسْلَمَ ذُو نُوَاسٍ مُسْتَكِينًا [12] ... وَحَذَّرَ قَوْمَهُ ضَنْكَ الْمَضِيقِ
وَقَالَ ابْنُ الذِّئْبَةِ الثَّقَفِيُّ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الذِّئْبَةُ أُمُّهُ، وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ ابْن عبد يَا ليل بْنُ سَالِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمَ بْنِ قَسِيِّ:
لَعَمْرُكَ مَا لِلْفَتَى مِنْ مَفَرٍّ ... مَعَ الْمَوْتِ يَلْحَقُهُ والكِبَرْ
__________
[ () ] والنشوق: مَا يشم من الدَّوَاء وَيجْعَل فِي الْأنف. يُرِيد: وَلَو شرب مَعَ كل دَوَاء يستشفى بِهِ، ونشق كل نشوق مَا نهى ذَلِك الْمَوْت عَنهُ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الشِّفَاء مَعَ السويق» .
[1] الأسطوان: جمع أسطوانة، وَهِي السارية. وَأَرَادَ بهَا هَاهُنَا مَوضِع الراهب الْمُرْتَفع.
[2] الأنوق: الرخم، وَهِي لَا تبيض إِلَّا فِي الْجبَال الْعَالِيَة.
[3] غمدان: حصن كَانَ لهوذة بن على ملك الْيَمَامَة.
[4] مسمكا: مرتفعا. والنيق: أَعلَى الْجَبَل.
[5] المنهمة: مَوضِع الرهبان. وَيُقَال للراهب: نهامى، كَمَا يُقَال للنجار أَيْضا نهامى، فَتكون المنهمة على هَذَا مَوضِع النجر أَيْضا.
[6] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والجرون: جمع جرن، وَهُوَ النقير. وَفِي أ، والطبري: «جروب» .
والجروب: الْحِجَارَة السود.
[7] الْحر: الْخَالِص من كل شَيْء.
[8] الموحل: من الوحل، وَهُوَ المَاء والطين. ويروى: «الموجل» بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة. وَهِي الْحِجَارَة الملس السود، أَي وَهِي وَاحِدَة المواجل، وَهِي مناهل المَاء.
[9] اللثق: الّذي فِيهِ بَلل. والزليق: الّذي يزلق فِيهِ. وَقد زَادَت أبعد هَذَا الْبَيْت:
بمرمرة وَأَعلاهُ رُخَام ... تحام لَا يغيب فِي الشقوق
[10] السليط: الدّهن.
[11] يهصر: يمِيل. والعذوق: جمع عذق. والعذق (بِكَسْر الْعين) : الكباسة، (وَبِفَتْحِهَا) :
النَّخْلَة، وَالْمعْنَى الثَّانِي أبلغ هُنَا.
[12] مستكينا: خاضعا ذليلا.(1/39)
لَعُمْرُكَ مَا لِلْفَتَى صُحْرَةٌ [1] ... لَعُمْرُكَ مَا إنْ لَهُ مِنْ وَزَرْ [2]
أَبَعْدَ قَبَائِلَ مِنْ حِمْيَرَ ... أُبِيدُوا صَبَاحًا بِذَاتِ الْعَبَرْ [3]
بِأَلْفِ أُلُوفٍ وحُرَّابَةٌ [4] ... كَمِثْلِ السَّمَاءِ قُبَيْلَ الْمَطَرْ
يُصِمُّ صِيَاحُهُمْ الْمُقْرَبَاتِ [5] ... وَيَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذَّفَرْ [6]
سَعَالِيَ [7] مثل عديد التُّرَاب ... تَيْبَسُ مِنْهُمْ رِطَابُ الشَّجَرْ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبٍ [8] الزُّبَيْدِيُّ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَيْسِ بْنِ مَكْشوُحٍ الْمُرَادِيَّ [9] ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَوَعَّدُهُ، فَقَالَ يَذْكُرُ حِمْيَرَ وَعِزَّهَا، وَمَا زَالَ مِنْ مُلْكِهَا عَنْهَا:
أَتُوعِدُنِي كَأَنَّكَ ذُو رُعَيْنٍ ... بِأَفْضَلِ عِيشَةٍ، أَوْ ذُو نُوَاسِ
وكائنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ نَعِيمٍ ... وَمُلْكٍ ثَابِتٍ فِي النَّاسِ رَاسِي
قَدِيمٍ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ ... عَظِيمٍ قَاهِرِ الْجَبَرُوتِ قَاسِي
فَأَمْسَى أَهْلُهُ بَادُوا وَأَمْسَى ... يُحَوَّلُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أُنَاسِ
__________
[1] الصحرة: المتسع، أَخذ من لفظ الصَّحرَاء.
[2] الْوزر: الملجأ. وَمِنْه اشتق الْوَزير لِأَن الْملك يلجأ إِلَى رَأْيه.
[3] ذَات العبر: ذَات الْحزن، وَيُقَال: عبر الرجل (من بَاب علم) ، إِذا حزن، وَيُقَال: لأمه العبر، كَمَا يُقَال لأمه الثكل، وَذَات العبر: اسْم من أَسمَاء الداهية.
[4] الْحِرَابَة: أَصْحَاب الحراب.
[5] المقربات: الْخَيل الْعتاق الَّتِي لَا تسرح فِي الرَّعْي، وَلَكِن تحبس قرب الْبيُوت معدة لِلْعَدو.
[6] كَذَا فِي الْأُصُول، وتواريخ مَكَّة للأزرقى. والذفر: الرَّائِحَة الشَّدِيدَة. يُرِيد أَنهم. بريحهم وأنفاسهم يَتَّقُونَ من قَاتلُوا، وَهَذَا إفراط فِي وَصفهم بِالْكَثْرَةِ، بل بنتن آباطهم وخبيث رائحتهم، لِأَن السودَان أنتن النَّاس آباطا وأعراقا. وَفِي الطَّبَرِيّ: «بالزمر» وَالزمر: جمع زمرة، وَهِي الْجَمَاعَة من النَّاس
[7] سعالى: جمع سعلاة، وَهِي من الْجِنّ، أَو هِيَ الساحرة مِنْهَا.
[8] معديكرب: مَعْنَاهُ بالحميرية: وَجه الْفَلاح. ومعدى: وَجه. وَالْكرب: الْفَلاح.
[9] إِنَّمَا هُوَ حَلِيف لمراد، وَاسم مُرَاد: يحابر بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، وَنسبه فِي بجيلة، ثمَّ فِي بنى أحمس، وَأَبوهُ مكشوح اسْمه: هُبَيْرَة بن هِلَال، وَيُقَال: عبد يَغُوث بن هُبَيْرَة بن الْحَارِث بن عَمْرو ابْن عَامر بن على بن أسلم بن أحمس بن الْغَوْث بن أَنْمَار، وأنمار: هُوَ وَالِد بجيلة وخثعم، وسمى أَبوهُ مكشوحا لِأَنَّهُ ضرب بِسيف على كشحة، ويكنى قيس أَبَا شَدَّاد، وَهُوَ قَاتل الْأسود العنسيّ الْكذَّاب. وَكَانَ قيس بطلا بئيسا، قَتله على- كرم الله وَجهه- يَوْم صفّين.(1/40)
(نَسَبُ زُبَيْدٍ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: زُبَيْدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ ابْن مَذْحِجَ، وَيُقَالُ زُبَيْدُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ، وَيُقَالُ زُبَيْدُ ابْن صَعْبٍ. وَمُرَادُ: يُحَابِرُ بْنُ مَذْحِجَ.
(سَبَبُ قَوْلِ عَمْرو بن معديكرب هَذَا الشِّعْرَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ:
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَبَاهِلَةَ ابْن يَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ، وَهُوَ بِأَرْمِينِيَّةِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْخَيْلِ الْمَقَارِفِ [1] فِي الْعَطَاءِ، فَعَرَضَ الْخَيْلَ، فَمَرَّ بِهِ فَرَسُ عَمْرو بن معديكرب، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: فَرَسُكَ هَذَا مُقْرِفٌ، فَغَضِبَ عَمْرٌو، وَقَالَ: هَجِينٌ عَرَفَ هَجِينًا مِثْلَهُ، فَوَثَبَ إلَيْهِ قَيْسٌ فَتَوَعَّدَهُ، فَقَالَ عَمْرُو هَذِهِ الْأَبْيَاتِ [2] .
(صِدْقُ كَهَانَةِ سَطِيحٍ وَشِقٍّ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَهَذَا الَّذِي عَنَى سَطِيحٌ الْكَاهِنُ بِقَوْلِهِ: «لَيَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ، فَلَيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى جُرَشَ» . وَاَلَّذِي عَنَى شِقٌّ الْكَاهِنُ بِقَوْلِهِ:
«لَيَنْزِلَنَّ أَرْضَكُمْ السُّودَانُ، فَلَيَغْلِبُنَّ عَلَى كُلِّ طِفْلَةٍ الْبَنَانَ، وَلَيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ» .
غَلَبَ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ عَلَى أَمْرِ الْيَمَنِ، وَقَتَلَ أَرْيَاطَ
(مَا كَانَ بَيْنَ أَرْيَاطَ وَأَبْرَهَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [3] : فَأَقَامَ أَرْيَاطُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ سِنِينَ فِي سُلْطَانِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ نَازَعَهُ
__________
[1] المقارف: جمع مقرف، وَهُوَ من الْخَيل الّذي أَبوهُ هجين وَأمه عتيقة.
[2] وَيُقَال: بل إِن عمرا قَالَ هَذَا الشّعْر لعمر بن الْخطاب حِين أَرَادَ ضربه بِالدرةِ فِي حَدِيث طَوِيل سَاقه المَسْعُودِيّ فِي كِتَابه مروج الذَّهَب (ج 1 ص 329- 330) .
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري، وَفِي أ «ابْن هِشَام» ، وَالصَّوَاب مَا أَثْبَتْنَاهُ.(1/41)
فِي أَمْرِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ أَبْرَهَةُ الْحَبَشِيُّ- (وَكَانَ فِي جُنْدِهِ) -[1] حَتَّى تَفَرَّقَتْ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمَا. فَانْحَازَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَارَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَلَمَّا تَقَارَبَ النَّاسُ أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ إلَى أَرْيَاطَ: إنَّكَ لَا تَصْنَعُ بِأَنْ تَلْقَى الْحَبَشَةُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ حَتَّى تَفِنِيهَا شَيْئًا فَابْرُزْ إلَيَّ وَأَبْرُزُ إلَيْكَ، فَأَيُّنَا أَصَابَ صَاحِبَهُ انْصَرَفَ إلَيْهِ جُنْدُهُ.
فَأرْسل إِلَيْهِ أرباط: أَنْصَفْتَ فَخَرَجَ إلَيْهِ أَبْرَهَةُ، وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا (لَحِيمًا [2] حَادِرًا) [3] وَكَانَ ذَا دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَخَرَجَ إلَيْهِ أَرْيَاطُ، وَكَانَ رَجُلًا جَمِيلًا عَظِيمًا طَوِيلًا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ. وَخَلَفَ أَبْرَهَةَ غُلَامٌ لَهُ، يُقَالُ لَهُ عَتَوْدَةُ [4] ، يَمْنَعُ ظَهْرَهُ. فَرَفَعَ أَرْيَاطُ الْحَرْبَةَ فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ، يُرِيدُ يَافُوخَهُ [5] ، فَوَقَعَتْ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ أَبْرَهَةَ فَشَرَمَتْ حَاجِبَهُ وَأَنْفَهُ وَعَيْنَهُ وَشَفَتَهُ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ، وَحَمَلَ عَتَوْدَةُ عَلَى أَرْيَاطَ مِنْ خَلْفِ أَبْرَهَةَ فَقَتَلَهُ، وَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطَ إلَى أَبْرَهَةَ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ، وَوَدَى [6] أَبْرَهَةُ أَرْيَاطَ.
(غَضَبُ النَّجَاشِيِّ عَلَى أَبْرَهَةَ لِقَتْلِهِ أَرْيَاطَ ثُمَّ رِضَاؤُهُ عَنْهُ) :
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّجَاشِيَّ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: عَدَا عَلَى أَمِيرِي فَقَتَلَهُ بِغَيْر أمرى، ثمَّ حَلَفَ لَا يَدَعُ أَبْرَهَةَ حَتَّى يَطَأَ بِلَادَهُ، وَيَجُزَّ نَاصِيَتَهُ. فَحَلَقَ أَبْرَهَةُ رَأْسَهُ وَمَلَأَ جِرَابًا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إلَى النَّجَاشِيِّ، ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهِ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ: إنَّمَا كَانَ أَرْيَاطُ عَبْدَكَ، وَأَنَا عَبْدُكَ، فَاخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِكَ، وَكُلٌّ طَاعَتُهُ لَكَ، إلَّا أَنِّي كُنْتُ أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ وَأَضْبَطَ لَهَا وَأَسْوَسَ مِنْهُ، وَقَدْ حَلَقْتُ رَأْسِي كُلَّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ الْمَلِكِ، وَبَعَثْتُ إلَيْهِ بِجِرَابِ تُرَابٍ مِنْ أَرْضِي، لِيَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَيَبَرُّ قَسَمُهُ فِيَّ.
فَلَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ إلَى النَّجَاشِيِّ رَضِيَ عَنْهُ، وَكَتَبَ إلَيْهِ: أَنْ اُثْبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ بِالْيَمَنِ.
__________
[1] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[2] اللحيم: الْكثير لحم الْجَسَد.
[3] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ. والحادر: السمين الغليظ.
[4] مَأْخُوذ من العتودة، وَهِي الشدَّة فِي الْحَرْب.
[5] اليافوخ: وسط الرَّأْس.
[6] وداه: دفع دِيَته.(1/42)
أَمْرُ الْفِيلِ، وَقِصَّةُ النَّسَأَةِ
(بِنَاءُ الْقُلَّيْسِ) :
ثُمَّ إنَّ أَبْرَهَةَ بَنَى الْقُلَّيْسَ [1] بِصَنْعَاءَ، فَبَنَى كَنِيسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءِ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ كَتَبَ إلَى النَّجَاشِيِّ: إنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكِ كَانَ قَبْلَكَ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ، فَلَمَّا تَحَدَّثَتْ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ ذَلِكَ إلَى النَّجَاشِيِّ، غَضِبَ رَجُلٌ مِنْ النَّسَأَةِ، أَحَدُ بَنِي فُقَيْمِ ابْن عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ مِنْ مُضَرَ.
(مَعْنَى النَّسَأَةِ) :
وَالنَّسَأَةُ: الَّذِينَ كَانُوا يَنْسَئُونَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيُحِلُّونَ الشَّهْرَ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَيُحَرِّمُونَ مَكَانَهُ الشَّهْرَ مِنْ أَشْهُرِ الْحِلِّ، وَيُؤَخِّرُونَ ذَلِكَ الشَّهْرَ فَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحِلُّونَهُ عَامًا، وَيُحَرِّمُونَهُ عَاما، لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ 9: 37
(الْمُوَاطَأَةُ لُغَةً) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لِيُوَاطِئُوا: لِيُوَافِقُوا. وَالْمُوَاطَأَةُ: الْمُوَافَقَةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
وَاطَأْتُكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ وَافَقْتُكَ عَلَيْهِ. وَالْإِيطَاءُ فِي الشِّعْرِ الْمُوَافَقَةُ، وَهُوَ اتِّفَاقُ الْقَافِيَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَجِنْسٍ وَاحِدٍ، نَحْوَ قَوْلِ الْعَجَّاجِ- وَاسْمُ الْعَجَّاجِ [2] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُؤْبَةَ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ أدّ بن طابخة بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ.
__________
[1] الْقليس (بِضَم الْقَاف وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة وَسُكُون الْيَاء) هِيَ الْكَنِيسَة الَّتِي أَرَادَ أَبْرَهَة أَن يصرف إِلَيْهَا حج الْعَرَب، وَسميت الْقليس لارْتِفَاع بنائها وعلوها، وَمِنْه القلانس، لِأَنَّهَا فِي أَعلَى الرُّءُوس، وَقد استذل أَبْرَهَة أهل الْيمن فِي بُنيان هَذِه الْكَنِيسَة، وجشمهم فِيهَا ألوانا من السخر، وَكَانَ ينْقل إِلَيْهَا الْعدَد من الرخام المجزع وَالْحِجَارَة المنقوشة بِالذَّهَب من قصر بلقيس، صَاحِبَة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ مَوضِع من هَذِه الْكَنِيسَة على فراسخ، وَمن شدته على الْعمَّال كَانَ الْعَامِل إِذا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس قبل أَن يَأْخُذ فِي عمله قطعت يَده.
[2] ويكنى أَبُو الشعْثَاء، وسمى العجاج لقَوْله: «حَتَّى يعج عِنْدهَا من عججا» كَذَا فِي الرَّوْض الْأنف.(1/43)
فِي أُثْعبُانَ المَنْجَنُونِ الْمُرْسَلِ
[1] ثُمَّ قَالَ:
مُدُّ الْخَلِيجِ [2] فِي الْخَلِيجِ الْمُرْسَلِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
(تَارِيخُ النَّسْءِ عِنْدَ الْعَرَبِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ، فَأَحَلَّتْ مِنْهَا مَا أُحِلَّ، وَحَرَّمَتْ مِنْهَا مَا حَرَّمَ القَلَمَّسُ [3] ، وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ. ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ (عَبَّادُ) [4] بْنُ حُذَيْفَةَ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ عَبَّادٍ: قَلَعُ بْنُ عَبَّادٍ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ قَلَعٍ: أُمَيَّةُ ابْن قَلَعٍ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ أُمَيَّةَ: عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ عَوْفٍ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ آخِرَهُمْ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ [5] ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ، فَحَرَّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ: رَجَبًا، وَذَا الْقَعْدَةِ، وَذَا الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمَ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ مِنْهَا شَيْئًا أَحَلَّ الْمُحَرَّمَ فَأَحَلُّوهُ، وَحَرَّمَ مَكَانَهُ صَفَرَ فَحَرَّمُوهُ، لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. فَإِذَا أَرَادُوا الصَّدَرَ [6] قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ:
اللَّهمّ إنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ أَحَدَ الصَّفَرَيْنِ، الصَّفَرَ الْأَوَّلَ، وَنَسَّأَتْ الْآخَرَ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ [7]
__________
[1] (ديوَان طبع ليبسك ص 46) أثعبان المنجنون: مَا ينْدَفع من المَاء من شعبه. والمنجنون:
أَدَاة السانية.
[2] (ديوَان ص 47) الخليج: الْجَبَل، وَهُوَ أَيْضا خليج المَاء.
[3] وسمى القلمس لجوده، إِذْ القلمس من أَسمَاء الْبَحْر.
[4] زِيَادَة عَن أ.
[5] يخْتَلف أهل الْخَبَر فِي هَل أسلم جُنَادَة هَذَا أم لم يسلم، غير أَن هُنَاكَ خَبرا يدل على إِسْلَامه، وَذَلِكَ أَنه حضر الْحَج فِي زمن عمر، فَرَأى النَّاس يزدحمون على الْحَج، فَنَادَى: أَيهَا النَّاس، إِنِّي قد أجرته مِنْكُم.
فخفقه عمر بِالدرةِ، وَقَالَ: وَيحك! إِن الله قد أبطل أَمر الْجَاهِلِيَّة.
[6] الصَّدْر: الرُّجُوع من مَكَّة.
[7] كَانَ النسء عِنْدهم على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا مَا ذكر ابْن إِسْحَاق من تَأْخِير شهر الْمحرم إِلَى صفر لحاجتهم إِلَى شن الغارات وَطلب الثارات. وَالثَّانِي: تأخيرهم الْحَج عَن وقته تحريا مِنْهُم للسّنة الشمسية، فَكَانُوا يؤخرونه فِي كل عَام أحد عشر يَوْمًا أَو أَكثر قَلِيلا حَتَّى يَدُور الدّور إِلَى ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة، فَيَعُود إِلَى وقته، وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي حجَّة الْوَدَاع: «إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق الله السَّمَوَات(1/44)
فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ «جِذْلُ [1] الطَّعَّانِ» أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غُنْمِ (بْنِ ثَعْلَبَةَ) بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، يَفْخَرُ بِالنَّسَأَةِ عَلَى الْعَرَبِ:
لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدُّ أَنَّ قَوْمِي ... كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا [2]
فَأَيُّ النَّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرٍ [3] ... وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ نُعْلِكْ لِجَامَا [4]
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا؟
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَوَّلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ [5] الْمُحَرَّمُ.
(إحْدَاثُ الْكِنَانِيِّ فِي الْقُلَّيْسِ، وَحَمْلَةُ أَبْرَهَةَ عَلَى الْكَعْبَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ الْكِنَانِيُّ حَتَّى أَتَى الْقُلَّيْسَ فَقَعَدَ [6] فِيهَا- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يَعْنِي أَحْدَثَ فِيهَا- قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ فَقَالَ: مَنْ صَنَعَ هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: صَنَعَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي تَحُجُّ الْعَرَبُ إلَيْهِ بِمَكَّةَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَكَ: «أَصْرِفُ إلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ» غَضِبَ فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا، أَيْ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلِ. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ، ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ، ثُمَّ سَارَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ، وَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ، فَأَعْظَمُوهُ وَفَظِعُوا بِهِ، وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ، حِينَ سَمِعُوا بِأَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ، بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ.
__________
[ () ] «وَالْأَرْض» . وَكَانَت حجَّة الْوَدَاع فِي السّنة الَّتِي عَاد فِيهَا الْحَج إِلَى وقته، وَلم يحجّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة غير تِلْكَ الْحجَّة، وَذَلِكَ لإِخْرَاج الْكفَّار الْحَج عَن وقته، ولطوافهم بِالْبَيْتِ عُرَاة.
(عَن الرَّوْض الْأنف) .
[1] سمى عُمَيْر كَذَلِك لثباته فِي الْحَرْب كَأَنَّهُ جذل شَجَرَة وَاقِف وَقيل لِأَنَّهُ كَانَ يستشفى بِرَأْيهِ.
ويستراح إِلَيْهِ كَمَا تستريح الْبَهِيمَة الجرباء إِلَى الجذل تَحْتك بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جذل الطعان: هُوَ عَلْقَمَة بن فراس بن غنم بن ثَعْلَبَة بن مَالك بن كنَانَة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف وَشرح السِّيرَة) .
[2] أَي: آبَاء كراما وأخلاقا كراما.
[3] الْوتر: طلب الثأر.
[4] لم نعلك لجاما: يُرِيد لم نقدعهم ونكفهم كَمَا يُقْدَع الْفرس باللجام، تَقول: أعلكت الْفرس لجامه، إِذا رَددته عَن تنزعه، فمضغ اللجام كالعلك من نشاطه.
[5] وَقد قيل: إِن أول الْأَشْهر الْحرم ذُو الْقعدَة، لِأَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِهِ حِين ذكر الْأَشْهر الْحرم، وَحجَّة من قَالَ إِنَّه الْمحرم، هِيَ أَنه (أَي الْمحرم) أول السّنة.
[6] فِي الْقعُود بِمَعْنى الاحداث شَاهد لقَوْل مَالك وَغَيره من الْفُقَهَاء فِي تَفْسِير الْقعُود على الْمَقَابِر الْمنْهِي عَنهُ(1/45)
(هَزِيمَةُ ذِي نَفْرٍ أَمَامَ أَبْرَهَةَ) :
فَخَرَجَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ: ذُو نَفْرٍ، فَدَعَا قَوْمَهُ، وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ، وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ، فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ مَنْ أَجَابَهُ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ، فَهُزِمَ ذُو نَفْرٍ وَأَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ لَهُ ذُو نَفْرٍ فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَا تَقْتُلْنِي فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي، فَتَرَكَهُ مِنْ الْقَتْلِ وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ، وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا.
(مَا وَقَعَ بَيْنَ نُفَيْلٍ وَأَبْرَهَةَ) :
ثُمَّ مَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ، حَتَّى إذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمَ [1] عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبيلَيْ خَثْعَمَ: شَهْرَانِ وَنَاهِسُ [2] ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ، وَأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا، فَأُتِيَ بِهِ فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَا تَقْتُلْنِي فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَهَاتَانِ يَدَايَ لَكَ عَلَى قبيلَيْ خَثْعَمَ: شَهْرَانِ وَنَاهِسُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
(ابْنُ مُعَتِّبٍ وَأَبْرَهَةُ) :
وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ، حَتَّى إذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَرْوِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ.
(نَسَبُ ثَقِيفٍ وَشِعْرُ ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي ذَلِكَ) :
وَاسْمُ ثَقِيفٍ: قَسِيُّ بْنُ النَّبِيتِ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يَقْدُمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمّى بْنِ إيَادِ [3] (بْنِ نِزَارِ) [4] بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
__________
[1] خثعم: اسْم جبل سمى بِهِ بَنو عفرس بن خلف بن أفتل بن أَنْمَار، لأَنهم نزلُوا عِنْده، وَقيل بل لأَنهم تخثعموا (تلطخوا) بِالدَّمِ عِنْد حلف عقدوه بَينهم. (رَاجع الِاشْتِقَاق لِابْنِ دُرَيْد وَالرَّوْض الْأنف) .
[2] شَهْرَان وناهس: هما بَنو عفرس من خثعم. وَيُقَال: بل خثعم ثَلَاث: شَهْرَان، وناهس، وأكلب غير أَن أكلب- عِنْد أهل النّسَب- هُوَ ابْن ربيعَة بن نزار، وَلَكنهُمْ دخلُوا فِي خثعم وانتسبوا إِلَيْهِم.
[3] بَين النسابين خلاف فِي نسب ثَقِيف، فبعضهم ينسبهم إِلَى إياد- كَمَا هُنَا- وَبَعْضهمْ ينسبهم إِلَى قيس. كَمَا ينسبهم الْبَعْض الآخر إِلَى ثَمُود. وَالْكَلَام على هَذَا مَبْسُوط فِي كثير من المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا، وَقد اكتفينا مِنْهُ هُنَا بِمَا أثبتنا.
[4] زِيَادَة عَن أ. وَالْمَعْرُوف أَن إيادا هَذَا هُوَ بن نزار بن سعد، وَلَيْسَ ابْنا لمعد لصلبه، غير أَن هُنَاكَ(1/46)
قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ [1] الثَّقَفِيُّ:
قَوْمِي إيَادٌ لَوْ أَنهم أُمَم ... أولو أَقَامُوا فَتُهْزَلَ النِّعَمُ [2]
قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ الْعِرَاقِ إذَا ... سَارُوا جَمِيعًا وَالْقِطُّ وَالْقَلَمُ
[3] وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَيْضًا:
فَإِمَّا تَسْأَلِي عَنِّي لُبَيْنَى ... وَعَنْ نَسَبِي أُخَبِّرْكَ اليَقينَا
فَإِنَّا للنَّبيتِ أَبِي قَسِيٍّ ... لَمَنْصُورُ بْنُ يَقْدُمَ الْأَقْدَمِينَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثَقِيفٌ: قَسِىُّ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
وَالْبَيْتَانِ الْأَوَّلَانِ وَالْآخِرَانِ فِي قَصِيدَتَيْنِ لِأُمَيَّةِ.
(اسْتِسْلَامُ أَهْلِ الطَّائِفِ لِأَبْرَهَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي تُرِيدُ- يَعْنُونَ اللَّاتَ- إنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ.
(اللَّاتُ) :
وَاَللَّاتُ: بَيْتٌ لَهُمْ بِالطَّائِفِ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ نَحْوَ تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ لِضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيِّ:
وَفَرَّتْ ثَقِيفٌ إلَى لَاتِهَا ... بِمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
(مَعُونَةُ أَبِي رِغَالٍ لِأَبْرَهَةَ وَمَوْتُهُ وَقَبْرُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فبعثوا مَعَه أبار غال يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ، فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ
__________
[ () ] ابْنا لمعد اسْمه إياد، وَهُوَ عَم إياد هَذَا وَلَيْسَ هُوَ. (رَاجع الِاشْتِقَاق والمعارف وَالرَّوْض الْأنف) .
[1] وَاسم أَبى الصَّلْت: ربيعَة بن وهب.
[2] الْأُمَم: الْقَرِيب. وَالنعَم: الْإِبِل، وَقيل: النعم: كل مَاشِيَة أَكْثَرهَا إبل. يُرِيد أَي لَو أَقَامُوا بالحجاز، وَإِن هزلت نعمهم، لأَنهم انتقلوا عَنْهَا لِأَنَّهَا ضَاقَتْ عَن مسارحهم فصاروا إِلَى ريف الْعرَاق.
[3] القط: مَا قطّ من الكاغد وَالرّق وَنَحْوه. وَقد كَانَت الْكِتَابَة فِي هَذِه الْبِلَاد الَّتِي سَارُوا إِلَيْهَا، فقد قيل لقريش: مِمَّن تعلمتم القط؟ فَقَالُوا: تعلمناه من أهل الْحيرَة وتعلمه أهل الْحيرَة من أهل الأنبار.(1/47)
وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتَّى أَنْزَلَهُ الْمُغَمِّسَ [1] ، فَلَمَّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ، فَرَجَمَتْ قَبْرَهُ الْعَرَبُ، فَهُوَ الْقَبْرُ الَّذِي يَرْجُمُ النَّاسُ بِالْمُغَمِّسِ.
(الْأَسْوَدُ وَاعْتِدَاؤُهُ عَلَى مَكَّةَ) :
فَلَمَّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمِّسَ، بَعَثَ رَجُلًا مِنْ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ: الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ [2] عَلَى خَيْلٍ لَهُ، حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَّةَ، فَسَاقَ إلَيْهِ أَمْوَالَ (أَهْلِ) [3] تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ، وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ (مِنْ سَائِرِ النَّاسِ) [4] بِقِتَالِهِ. ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ.
(حُنَاطَةُ وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ) :
وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إلَى مَكَّةَ، وَقَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهَا، ثُمَّ قُلْ (لَهُ) [5] : إنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكَ: إنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ، إنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا دُونَهُ بِحَرْبِ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ حُنَاطَةُ مَكَّةَ، سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا، فَقِيلَ لَهُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ (بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ) [6] ، فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاَللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ [7] طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ كَمَا قَالَ- فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ [8] ، وَإِنْ يُخَلِّ بَينه وَبَينه، فو الله مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ
__________
[1] المغمس (بِالْكَسْرِ على صِيغَة اسْم الْفَاعِل، وروى بِالْفَتْح على زنة اسْم الْمَفْعُول) : مَوضِع بطرِيق الطَّائِف على ثُلثي فَرسَخ من مَكَّة.
[2] كَذَا فِي أهنا وَفِيمَا سَيَأْتِي، والطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول: مفصود (بِالْفَاءِ) . وَهُوَ الْأسود بن مَقْصُود بن الْحَارِث بن مُنَبّه بن مَالك بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب بن عَمْرو بن عله (على وزن عمر) ابْن خَالِد بن مذْحج، وَكَانَ النَّجَاشِيّ قد بَعثه مَعَ الفيلة والجيش. وَكَانَت عدَّة الفيلة ثَلَاثَة عشر فيلا، فَهَلَكت كلهَا إِلَّا فيل النَّجَاشِيّ، وَكَانَ يُسمى مَحْمُودًا.
[3] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[4] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[5] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[6] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[7] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَفِي الْأُصُول: «مِنْهُ» .
[8] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ، وَفِي الْأُصُول «حرمته» .(1/48)
عَنْهُ، فَقَالَ (لَهُ) [1] حُنَاطَةُ: فَانْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ.
(ذُو نَفْرٍ وَأُنَيْسٌ وَتَوَسُّطُهُمَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَدَى أَبْرَهَةَ) :
فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ، فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفْرٍ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ذَا نَفْرٍ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ: وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا أَوْ عَشِيًّا مَا عِنْدَنَا غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ بِكَ إلَّا أَنَّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي، وَسَأُرْسِلُ إلَيْهِ فَأُوصِيهِ بِكَ، وَأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ، فَتُكَلِّمُهُ بِمَا بَدَا لَكَ. وَيَشْفَعُ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: حَسْبِي. فَبَعَثَ ذُو نَفْرٍ إلَى أُنَيْسٍ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، وَصَاحِبُ عِيرِ [2] مَكَّةَ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ، وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ.
فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، وَهُوَ يُطْعِمُ النَّاسَ فِي السَّهْلِ، وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْكَ، فَيُكَلِّمْكَ [3] فِي حَاجَتِهِ، (وَأَحْسِنْ إلَيْهِ) [4] قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ.
(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَحُنَاطَةُ وَخُوَيْلِدُ بَيْنَ يَدَيْ أَبْرَهَةَ) :
قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ وَأَجْمَلَهُمْ وَأَعْظَمَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ، وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يَجْلِسُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التُّرْجُمَانُ، فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ أَبْرَهَةُ لِتَرْجُمَانِهِ:
__________
[1] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[2] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي. وَفِي الأَصْل: «عين» .
[3] كَذَا فِي أوالطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فليكلمك» .
[4] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
4- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/49)
قُلْ لَهُ: قَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ قد جِئْت لهدمه، لَا تُكَلِّمْنِي فِيهِ! قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ، قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ.
وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَدْ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إلَى أَبْرَهَةَ، حِينَ بَعَثَ إلَيْهِ حُنَاطَةَ، يَعْمُرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدُّئْلِ [1] بْنِ بَكْرِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي بَكْرٍ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ [2] الْهُذَلِيُّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ هُذَيْلٍ، فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا. فَرَدَّ أَبْرَهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْإِبِلَ الَّتِي أَصَابَ لَهُ.
(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي الْكَعْبَةَ يَسْتَنْصِرُ باللَّه عَلَى رَدِّ أَبْرَهَةَ) :
فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ، انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالتَّحَرُّزِ [3] فِي شَعَفِ [4] الْجِبَالِ وَالشِّعَابِ [5] : تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ [6] الْجَيْشِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ، وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَاب الْكَعْبَة:
__________
[1] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَهُوَ بِضَم الدَّال وَكسر الْهمزَة، وَفِي الْأُصُول: «الديل» . وَمَا أَثْبَتْنَاهُ هُوَ الّذي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء. إِلَّا أَن جمَاعَة من النَّحْوِيين، وَمِنْهُم الْكسَائي، يَقُولُونَ فِيهِ «الديل» . من غير همز، ويكسرون الدَّال. وَالْمَعْرُوف أَن الدئل (بِالْهَمْز) هم الَّذين فِي كنَانَة، وَكَذَلِكَ هم فِي الْهون بن خُزَيْمَة أَيْضا.
وَأما الديل (من غير همز) فهم فِي الأزد، وَفِي إياد، وَفِي عبد الْقَيْس، وَفِي تغلب. وَهُنَاكَ غير هذَيْن «الدول» أَيْضا (بِضَم الدَّال وَإِسْكَان الْوَاو) . وَهَؤُلَاء فِي ربيعَة بن نزار، وَفِي عنزة، وَفِي ثَعْلَبَة، وَفِي الربَاب (رَاجع لِسَان الْعَرَب مَادَّة دأل) .
[2] كَذَا فِي أوالطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وائلة» بِالْهَمْز.
[3] التَّحَرُّز: التمنع، ويروى: «التحوز» ، وَهُوَ أَن ينحاز إِلَى جِهَة ويتمنع.
[4] شعف الْجبَال: رءوسها.
[5] الشعاب: الْمَوَاضِع الْخفية بَين الْجبَال.
[6] معرة الْجَيْش: شدته.(1/50)
لاهمّ [1] إنَّ الْعَبْدَ يَمْنَعُ ... رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ [2]
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا [3] مِحَالَكْ
[4] (زَادَ الْوَاقِدِيُّ [5] ) :
إنْ كنت تاركهم و ... قبلتنا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ
[6] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِنْهَا.
(شِعْرٌ لِعِكْرِمَةَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْأَسْوَدِ بْنِ مَقْصُودٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ ابْن قصىّ:
لاهمّ أَخْزِ الْأَسْوَدَ بْنَ مَقْصُودِ ... الْآخِذَ الْهَجْمَةَ [7] فِيهَا التَّقليدْ [8]
بَيْنَ حِرَاءَ وثَبِيرٍ [9] فَالْبِيدْ ... يَحْبِسُهَا وَهِيَ أُولَاتُ التَّطْرِيدْ
فَضَمَّهَا إلَى طَمَاطِمٍ سُودْ ... أَخْفِرْهُ [10] يَا رَبِّ وَأَنْتَ مَحْمُودْ
__________
[1] لاهم: أَصْلهَا اللَّهمّ، وَالْعرب تحذف الْألف وَاللَّام مِنْهَا وتكتفى بِمَا بَقِي، كَمَا تَقول: لاه أَبوك، وَهِي تُرِيدُ للَّه أَبوك، وكما قَالُوا أَيْضا: أجنك تفعل كَذَا وَكَذَا: أَي من أجل أَنَّك تفعل كَذَا وَكَذَا.
[2] الْحَلَال (بِالْكَسْرِ) : جمع حلَّة، وَهِي جمَاعَة الْبيُوت، وَيُرِيد هُنَا: الْقَوْم الْحُلُول. والحلال أَيْضا: مَتَاع الْبَيْت، وَجَائِز أَن يكون هَذَا الْمَعْنى الثَّانِي مرَادا هُنَا.
[3] غدوا: غَدا، وَهُوَ الْيَوْم الّذي يأتى بعد يَوْمك، فحذفت لامه، وَلم يسْتَعْمل تَاما إِلَّا فِي الشّعْر.
[4] الْمحَال: الْقُوَّة والشدة.
[5] زِيَادَة عَن أ.
[6] وَزَاد السهيليّ فِي الرَّوْض الْأنف:
وانصر على آل الصَّلِيب ... وعابديه الْيَوْم آلك
وَذكرت بقيتها فِي الطَّبَرِيّ، واجتزأنا مِنْهَا بِمَا ذكر هُنَا، فَارْجِع إِلَيْهَا فِي الْقسم الأول من الطَّبَرِيّ (ص 940- 941 طبع أوربا) . وَقد ذكر لعبد الْمطلب فِي الطَّبَرِيّ قصيدة أُخْرَى غير هَذِه القصيدة.
[7] الهجمة: الْقطعَة من الْإِبِل مَا بَين التسعين إِلَى الْمِائَة. وَيُقَال للمائة مِنْهَا: هنيدة، وللمائتين: هِنْد، والثلاثمائة: أُمَامَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
تبين رويدا مَا أُمَامَة من هِنْد
[8] التَّقْلِيد: يُرِيد فِي أعناقها القلائد.
[9] حراء وثبير: جبلان.
[10] أخفره: أَي انقض عَهده، ويروى بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي اجْعَلْهُ منحفرا، أَي خَائفًا وجلا.(1/51)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِنْهَا، وَالطَّمَاطِمُ: الْأَعْلَاجُ [1] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى شَعَفِ الْجِبَالِ فَتَحَرَّزُوا فِيهَا يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ بِمَكَّةَ إذَا دَخَلَهَا.
(دُخُولُ أَبْرَهَةَ مَكَّةَ، وَمَا وَقَعَ لَهُ وَلِفِيلِهِ، وَشِعْرُ نُفَيْلٍ فِي ذَلِكَ) :
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ وَعَبَّى [2] جَيْشَهُ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ، ثُمَّ الِانْصِرَافِ إلَى الْيَمَنِ. فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ إلَى مَكَّةَ، أَقْبَلَ نُفَيْلُ [3] بْنُ حَبِيبٍ (الْخَثْعَمِيُّ [4] ) حَتَّى قَامَ إلَى جَنْبِ الْفِيلِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ، فَقَالَ: اُبْرُكْ مَحْمُودُ، أَوْ ارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ. فَبَرَكَ [5] الْفِيلُ، وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَصْعَدَ [6] فِي الْجَبَلِ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا (فِي) [7] رَأْسِهِ بالطَّبَرْزِينَ [8] لِيَقُومَ فَأَبَى، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ [9] لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ [10] فَبَزَغُوهُ بِهَا [11] لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ، فَأَرْسَلَ
__________
[1] الأعلاج: كفار الْعَجم.
[2] يُقَال عبى الْجَيْش (بِغَيْر همز) وعبأت الْمَتَاع (بِالْهَمْز) . وَقد حكى: عبأت الْجَيْش (بِالْهَمْز) وَهُوَ قَلِيل.
[3] وَقيل هُوَ نفَيْل بن عبد الله بن جُزْء بن عَامر بن مَالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعَة بن عفرس بن جلف بن أفتل، وَهُوَ خثعم (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[5] لَعَلَّه يُرِيد فعل فعل البارك، لِأَن الْمَعْرُوف عَن الْفِيل أَنه لَا يبرك.
[6] أصعد: علا وَالْأَكْثَر صعد فِي الْجَبَل بتَشْديد الْعين.
[7] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[8] الطبرزين: آلَة معقفة من حَدِيد، وطبر بِالْفَارِسِيَّةِ: مَعْنَاهَا الفأس.
[9] المحاجن: جمع محجن، وَهِي عَصا معوجة، وَقد يَجْعَل فِي طرفها حَدِيد.
[10] مراقة: يعْنى أَسْفَل بَطْنه.
[11] بزغوه: أدموه. وَمِنْه المبزغ، وَهُوَ المشرط للحجام وَنَحْوه.(1/52)
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنْ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ [1] ، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، أَمْثَالُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ، لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ. وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّذِي مِنْهُ جَاءُوا، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى الْيَمَنِ [2] ، فَقَالَ نُفَيْلٌ حِينَ رَأَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ:
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ ... وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ: «لَيْسَ الْغَالِبُ» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ نُفَيْلٌ أَيْضًا:
أَلَا حُيِّيتَ عَنَّا يَا رُدَيْنَا [3] ... نَعِمْنَاكُمْ [4] مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا
(أَتَانَا قَابِسٌ مِنْكُمْ عِشَاءً ... فَلَمْ يُقْدَرْ لِقَابِسِكُمْ لَدَيْنَا) [5]
رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْتِ- وَلَا تَرَيْهِ [6] ... لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ [7] مَا رَأَيْنَا
إِذا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي [8] ... وَلَمْ تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا [9]
حَمِدْتُ اللَّهَ إذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا ... وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
وَكُلُّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
__________
[1] الخطاطيف: جمع خطَّاف (كرمان) . وَهُوَ طَائِر أسود يُقَال لَهُ «زوار الْهِنْد» ، وَهُوَ الّذي تَدعُوهُ الْعَامَّة عُصْفُور الْجنَّة.
والبلسان كَذَا فِي الأَصْل. وَفِي النِّهَايَة لِابْنِ الْأَثِير (مَادَّة بلس) فِي التَّعْلِيق على حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ عباد بن مُوسَى: «وأظنها الزرازير» وَقَالَ أَبُو ذَر الخشنيّ فِي شَرحه. والخطاطيف والبلشون ضَرْبَان من الطير.
[2] وَكَانَت قصَّة الْفِيل هَذِه أول الْمحرم من سنة ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة من تَارِيخ ذِي القرنين (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[3] ردين: مرخم ردينة، وَهُوَ اسْم امْرَأَة.
[4] هَذَا دُعَاء، يُرِيد: أَي نعمنا بكم، فَعدى الْفِعْل لما صرف الْجَار.
[5] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[6] فِي الطَّبَرِيّ: «وَلم تريه» ، وَفِي مُعْجم الْبلدَانِ فِي الْكَلَام على المغمس: «وَلنْ تريه» .
[7] المحصب (بِالضَّمِّ ثمَّ الْفَتْح وصاد مُهْملَة مُشَدّدَة على وزن اسْم الْمَفْعُول) : مَوضِع فِيمَا بَين مَكَّة وَمنى، وَهُوَ إِلَى منى أقرب، وَهُوَ بطحاء مَكَّة (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[8] فِي الطَّبَرِيّ: (رَأْيِي) .
[9] بَينا: مصدر بَان يبين، وَهُوَ مُؤَكد لفات.(1/53)
فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَيَهْلِكُونَ بِكُلِّ مَهْلِكٍ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ، وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ تَسْقُطُ (أَنَامِلُهُ) [1] أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً، [2] كُلَّمَا سَقَطَتْ أُنْمُلَةٌ أَتْبَعَتْهَا مِنْهُ مِدَّةٌ تَمُثُّ [3] قَيْحًا وَدَمًا، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ، فِيمَا يَزْعُمُونَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ [4] بْنُ عُتْبَةَ أَنَّهُ حُدِّثَ:
أَنَّ أَوَّلَ مَا رُئِيَتْ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُئِيَ بِهَا مَرَائِرُ [5] الشَّجَرِ الْحَرْمَلِ [6] وَالْحَنْظَلِ وَالْعُشَرِ [7] ذَلِكَ الْعَامَ.
(مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ قِصَّةِ الْفِيلِ، وَشَرْحُ ابْنِ هِشَامٍ لِمُفْرَدَاتِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ مِمَّا يَعُدُّ اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ، مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [8] .
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ 105: 1- 5. وَقَالَ:
__________
[1] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[2] أَي ينتثر جِسْمه. والأنملة: طرف الْأصْبع، وَتطلق على غَيره، كالجزء الصَّغِير من الشَّيْء.
[3] مث يمث: رشح.
[4] هُوَ يَعْقُوب بن عتبَة بن الْمُغيرَة بن الْأَخْنَس بن شريق الثَّقَفِيّ الْمدنِي، حَلِيف بنى زهرَة، رأى السَّائِب بن يزِيد، وروى عَن أبان بن عُثْمَان وَجَمَاعَة، وَعنهُ، غير ابْن إِسْحَاق، عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون وَجَمَاعَة. وَكَانَ فَقِيها لَهُ أَحَادِيث كَثِيرَة وَعلم بالسيرة. وَكَانَ ورعا مُسلما يسْتَعْمل على الصَّدقَات ويستعين بِهِ الْوُلَاة. وَتوفى سنة 128 هـ. (عَن تراجم رجال روى عَنْهُم ابْن إِسْحَاق) .
[5] يُقَال: شَجَرَة مرّة، وَيجمع على مرائر على غير قِيَاس، كَمَا جمعُوا حرَّة على حرائر.
[6] الحرمل: نَوْعَانِ، نوع ورقه كورق الْخلاف، ونوره كنور الياسمين. وَنَوع سنفته طوال مُدَوَّرَة. (السنفة: أوعية الثَّمر) . والحرمل: لَا يَأْكُلهُ شَيْء إِلَّا المعزى، وَقد تطبخ عروقه فيسقاها المحموم إِذا ماطلته الْحمى، وَفِي امْتنَاع الحرمل عَن الْأكلَة قَالَ طرفَة وذم قوما:
هم حرمل أعيا على كل آكل ... مبيتا وَلَو أَمْسَى سوامهم دثرا
(رَاجع اللِّسَان والمفردات) .
[7] الْعشْر (كصرد) : شجر مر لَهُ صمغ وَلبن، وتعالج بلبنه الْجُلُود قبل الدباغة.
[8] الأبابيل: الْجَمَاعَات.(1/54)
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ 106: 1- 4. أَيْ لِئَلَّا يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ لَوْ قَبِلُوهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَبَابِيلُ: الْجَمَاعَاتُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ لَهَا الْعَرَبُ بِوَاحِدِ [1] عَلِمْنَاهُ.
وَأَمَّا السِّجِّيلُ، فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النَّحْوِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الشَّدِيدُ الصُّلْبُ قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
وَمَسَّهُمْ مَا مَسَّ أَصْحَابَ الْفِيلْ ... تَرْمِيهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلْ
وَلَعِبَتْ طَيْرٌ بِهِمْ أَبَابِيلْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ، جَعَلَتْهُمَا الْعَرَبُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ سَنْجٌ وَجَلٌّ، يَعْنِي بِالسَّنْجِ: الْحَجَرَ، وَالْجَلُّ: الطِّينَ. يَعْنِي [2] : الْحِجَارَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ: الْحَجَرِ وَالطِّينِ. وَالْعَصْفُ:
وَرَقُ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُقَصَّبْ، وَوَاحِدَتُهُ عَصْفَةٌ. قَالَ [3] : وَأَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: الْعُصَافَةُ وَالْعَصِيفَةُ. وَأَنْشَدَنِي لِعَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ أَحَدِ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ:
تَسْقَى مَذَانِبَ [4] قَدْ مَالَتْ عَصِيفَتُهَا ... حَدُورُهَا [5] مَنْ أَتَّى [6] الْمَاءَ مَطْمُومُ
[7] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ الرَّاجِزُ:
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفِ مَأْكُولِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلِهَذَا الْبَيْتِ تَفْسِيرٌ فِي النَّحْوِ [8] .
__________
[1] وَقيل: إِن وَاحِدهَا أبيل وأبول وإبالة.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «يَقُول» .
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حَدثنَا ابْن هِشَام قَالَ وأخبرنى ... إِلَخ» ،
[4] المذانب: جمع مذنب، وَهُوَ مسيل المَاء إِلَى الرَّوْضَة.
[5] حدورها (بِالْحَاء الْمُهْملَة) ، أَي مَا انحدر مِنْهَا. ويروى جدروها: جمع جدر، وَهِي الحواجز الَّتِي تحبس المَاء، وَفِي الحَدِيث: «وَأمْسك المَاء حَتَّى يبلغ الْجدر ثمَّ أرْسلهُ» .
[6] الأتى: السَّيْل يأتى من بلد بعيد.
[7] مطموم: مُرْتَفع، مَأْخُوذ من قَوْلهم: طم المَاء: إِذا ارْتَفع وَعلا.
[8] الْكَلَام فِيهِ على وُرُود الْكَاف حرف جر واسما بِمَعْنى مثل، وَهِي هُنَا حرف وَلكنهَا مقحمة لتأكيد(1/55)
وَإِيلَافُ قُرَيْشٍ: إيلَافُهُمْ الْخُرُوجَ إلَى الشَّامِ فِي تِجَارَتِهِمْ، وَكَانَتْ لَهُمْ خَرْجَتَانِ:
خَرْجَةٌ فِي الشِّتَاءِ، وَخَرْجَةٌ فِي الصَّيْفِ. أَخْبَرَنِي [1] أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَلِفْتُ الشَّيْءَ إلْفًا، وَآلَفْتُهُ إيلَافًا، فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَنْشَدَنِي لِذِي الرُّمَّةِ:
مِنْ الْمُؤْلِفَاتِ الرُّمْلَ أَدْمَاءُ حرَّة [2] ... شُعَاع الضُّحَى فِي لَوْنِهَا يَتَوَضَّحُ
[3] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيُّ:
الْمُنْعِمِينَ إذَا النُّجُومُ تَغَيَّرَتْ [4] ... وَالظَّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِيلَافُ أَيْضًا:
أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ أَلْفٌ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ الْبَقَرِ، أَوْ الْغَنَمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. يُقَالُ: آلَفَ فُلَانٌ إيلَافًا. قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ، أَحَدُ بَنِي أَسْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ ابْن مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ:
بِعَامٍ يَقُولُ لَهُ الْمُؤْلِفُونَ ... هَذَا الْمُعِيمُ لَنَا الْمُرْجِلُ
[5] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْإِيلَافُ أَيْضًا: أَنْ يَصِيرَ الْقَوْمُ أَلْفًا، يُقَالُ آلَفَ الْقَوْمُ إيلَافًا. قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ:
وَآلُ مُزَيقياء غَدَاةَ لَاقَوْا ... بَنِي سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ مُؤْلِفِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْإِيلَافُ أَيْضًا: أَنْ تُؤَلِّفَ الشَّيْءَ إلَى الشَّيْءِ فَيَأْلَفُهُ وَيَلْزَمُهُ، يُقَالُ: آلَفْتُهُ إيَّاهُ إيلَافًا. وَالْإِيلَافُ أَيْضًا: أَنْ تَصِيرَ مَا دُونَ الْأَلْفِ أَلْفًا، يُقَالُ: آلَفْتُهُ إيلَافًا.
__________
[ () ] التَّشْبِيه، كَمَا أقحموا اللَّام من قَوْلهم: يَا بؤس للحرب، وَلَا يجوز أَن يقحم حرف من حُرُوف الْجَرّ سوى اللَّام وَالْكَاف. أما اللَّام فَلِأَنَّهَا تُعْطى بِنَفسِهَا معنى الْإِضَافَة، فَلم تغير مَعْنَاهَا، وَكَذَلِكَ الْكَاف تُعْطى معنى التَّشْبِيه، فأقحمت لتأكيد معنى الْمُمَاثلَة.
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: أخبرنَا ابْن هِشَام قَالَ أخبرنى ... إِلَخ.
[2] الأدماء من الظباء: السمراء الظّهْر الْبَيْضَاء الْبَطن.
[3] شُعَاع الضُّحَى: بريق لَونه. ويتوضح: يتَبَيَّن.
[4] تَغَيَّرت: استحالت عَن عَادَتهَا من الْمَطَر، على مَذْهَب الْعَرَب فِي النُّجُوم. ويروى: «تغبرت» بِالْبَاء الْمُوَحدَة: أَي قل مطرها، من الغبر، وَهُوَ الْبَقِيَّة.
[5] المعيم: من العيمة، وَهِي الشوق إِلَى اللَّبن. والمرجل: الّذي تذْهب إبِله فَيَمْشِي على أرجله. يُرِيد تِلْكَ السّنة تجْعَل صَاحب الْألف من اللَّبن يعام إِلَى اللَّبن، وَيسْعَى مَاشِيا. ويروى: «المرحل» بِالْحَاء الْمُهْملَة:
أَي الّذي يرحلهم عَن بِلَادهمْ لطلب الخصب.(1/56)
(مَا أَصَابَ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَن عمْرَة [1] بنت عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بْنِ سَعْدِ [2] بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ:
لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ.
مَا قِيلَ فِي صِفَةِ الْفِيلِ مِنْ الشِّعْرِ
(إعْظَامُ الْعَرَبِ قُرَيْشًا بَعْدَ حَادِثَةِ الْفِيلِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكَّةَ، وَأَصَابَهُمْ بِمَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنْ النِّقْمَةِ، أَعْظَمَتْ الْعَرَبُ قُرَيْشًا، وَقَالُوا: هُمْ أَهْلُ اللَّهِ، قَاتَلَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَفَاهُمْ مَئُونَةَ عَدُوِّهِمْ. فَقَالُوا فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا يَذْكُرُونَ فِيهَا مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالْحَبَشَةِ، وَمَا رَدَّ عَنْ قُرَيْشٍ مِنْ كَيْدِهِمْ.
(شِعْرُ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ) :
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى بْنِ عَدِيِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [3] بْنِ سَهْمِ ابْن عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ:
تَنَّكَّلُوا [4] عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إنَّهَا ... كَانَتْ قَدِيمًا لَا يُرَامُ حَرِيمُهَا
لَمْ تَخْلُقْ الشِّعْرَى لَيَالِيَ حُرِّمَتْ ... إذْ لَا عَزِيزَ مِنْ الْأَنَامِ يَرُومُهَا [5]
سَائِلْ أَمِيرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأَى ... وَلَسَوْفَ يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا
__________
[1] هِيَ عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة الْأَنْصَارِيَّة المدنية الفقيهة. كَانَت فِي حجر عَائِشَة فَحفِظت عَنْهَا الْكثير، وَقد رَوَت عَن غير عَائِشَة، وروى عَنْهَا حفيداها حَارِثَة وَمَالك ابْنا أَبى الرِّجَال وَغَيرهمَا.
وَكَانَت حجَّة. توفيت سنة 98 هـ، وَقيل سنة 106 عَن سبع وَسبعين سنة.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول، وتراجم رجال طبع أوربا. وَفِي أ، وَإِحْدَى الرِّوَايَات فِي الطَّبَرِيّ: «أسعد»
[3] فِي م، ر: «عدي بن سعيد بن سهم» ، وَفِي أ: «عدي بن سعد بن سعيد بن سهم» وَكِلَاهُمَا محرف عَمَّا أَثْبَتْنَاهُ (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] ويروى: «تنكبوا» . وعَلى الرِّوَايَتَيْنِ فَفِي الْبَيْت وقص.
[5] الشعرى: اسْم النَّجْم، وهما شعريان، إِحْدَاهمَا الغميصاء، وَهِي الَّتِي فِي ذِرَاع الْأسد، وَالْأُخْرَى الَّتِي تتبع الجوزاء، وَهِي أَضْوَأ من الضياء.(1/57)
سِتُّونَ ألفا لم يثوبوا أَرْضَهُمْ [1] ... وَلَمْ [2] يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا
كَانَتْ [3] بِهَا عَادٌ وَجُرْهُمُ قَبْلَهُمْ ... وَاَللَّهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقِيمُهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: يَعْنِي ابْنُ الزِّبَعْرَى بِقَوْلِهِ:
... بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا
أَبْرَهَةَ، إذْ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ حِينَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ، حَتَّى مَاتَ بِصَنْعَاءَ.
(شِعْرُ ابْنِ الْأَسْلَتِ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ) :
وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ الْخَطْمِيُّ، وَاسْمُهُ صَيْفِيٌّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ أَبُو قَيْسٍ: صَيْفِيُّ بْنُ الْأَسْلَتِ بْنِ جُشَمَ بْنِ وَائِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ ابْن عَامِرَةَ [4] ابْن مُرَّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ:
وَمِنْ صُنْعِهِ يَوْم فيل الحبوش ... إذْ كُلَّمَا بَعَثُوهُ رَزَمْ [5]
مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ ... وَقَدْ شَرَّمُوا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ [6]
وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا ... إذَا يَمَّمُوهُ قَفَاهُ كُلِمْ [7]
فَوَلَّى وَأَدْبَرَ أَدْرَاجَهُ ... وَقَدْ بَاءَ بِالظُّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمَّ
فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْقِهِمْ حَاصِبًا ... فَلَفَّهُمْ مِثْلَ لَفِّ الْقُزُمْ [8]
تَحُضُّ عَلَى الصَّبْرِ أَحْبَارُهُمْ ... وَقَدْ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الغَنَمْ
[9] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
__________
[1] لم يئوبوا: لم يرجِعوا، وَكَانَ الْوَجْه أَن يَقُول: «إِلَى أَرضهم» فَحذف حرف الْجَرّ وَوصل الْفِعْل.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر «بل لم ... إِلَخ» ، وَقد نبه السهيليّ على أَن «بل» زِيَادَة زَادهَا بَعضهم مِمَّن ظن خطأ أَن الْبَيْت مكسور. وَالْوَاقِع أَن فِي هَذَا الشّطْر وقصا كَمَا مر فِي الْبَيْت الأول.
[3] ويروى: «دَانَتْ» .
[4] كَذَا فِي شرح السِّيرَة لأبى ذَر، وَفِي الْأُصُول: «عَامر» وَهُوَ تَحْرِيف.
[5] رزم: ثَبت بمكانه فَلم يبرحه، وَأكْثر مَا يكون ذَلِك من الإعياء.
[6] المحاجن: جمع محجن، وَهِي عَصا معوجة. والأقراب: جمع قرب، وَهُوَ الخصر، وشرموا: شَقوا
[7] المغول: سكين كَبِيرَة دون المشمل (سيف صَغِير) . ويروى: معولا (بِالْعينِ الْمُهْملَة) : وَهِي الفأس. وكلم: جرح.
[8] القزم: جمع قزم، وَهُوَ الصَّغِير الجثة.
[9] ثأج: صَاح.(1/58)
وَالْقَصِيدَةُ أَيْضًا تُرْوَى لِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ:
فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ [1]
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ مُصَدَّقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكسومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسَّهْلِ تُمْسِي [2] وَرَجْلُهُ ... عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ [3]
فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ [4]
فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إلَى أَهْلِهِ مِلْحَبْشِ [5] غَيْرُ عَصَائِبِ
[6] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَوْلَهُ:
عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لِأَبِي قَيْسٍ، سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ:
«غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ-: يَعْنِي أَبْرَهَةَ، كَانَ يُكَنَّى أَبَا يَكْسُومَ.
(شِعْرُ طَالِبٍ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبِ [7] بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ [8] ... وَجَيْشِ أَبِي يَكْسُومَ إذْ مَلَئُوا الشِّعْبَا [9]
فَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَأَصْبَحْتُمْ لَا تَمْنَعُونَ لَكُمْ سِرْبَا
[10]
__________
[1] صلوا ربكُم: أَي ادعوا ربكُم. والأخاشب: جبال مَكَّة وجبال منى.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي م، ر: «تمشى» .
[3] القاذفات: أعالى الْجبَال الْبَعِيدَة. والمناقب: جمع منقبة، وَهِي الطَّرِيق فِي رَأس الْجَبَل.
[4] السافي (هُنَا) : الّذي غطاه التُّرَاب. والحاصب: الّذي أَصَابَته الْحِجَارَة، وهما على معنى النّسَب، وَقد يكون المُرَاد مِنْهُمَا اسْم الْفَاعِل الْجَارِي على الْفِعْل حَقِيقَة.
[5] كَذَا فِي م، ر. يُرِيد من الْحَبَش. وَفِي أ: «ملجيش» .
[6] العصائب: الْجَمَاعَات.
[7] ويذكرون أَن طَالبا هَذَا كَانَ أسن من جَعْفَر بِعشْرَة أَعْوَام، كَمَا كَانَ جَعْفَر أسن من على رضى الله عَنهُ بِمثل ذَلِك، وَيُقَال إِن الْجِنّ اختطفت طَالبا، وَلم يعرف عَنهُ أَنه أسلم.
[8] داحس: اسْم فرس مَشْهُور، وَكَانَت حَرْب بِسَبَبِهِ.
[9] الشّعب: الطَّرِيق فِي الْجَبَل.
[10] السرب (بِفَتْح السِّين) : المَال الرَّاعِي، والسرب (بِكَسْر السِّين) : النَّفس، أَو يُقَال الْقَوْم، وَمِنْه: أصبح آمنا فِي سربه، أَي فِي نَفسه، أَو فِي قومه.(1/59)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(شِعْرُ أَبِي الصَّلْتِ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ فِي شَأْنِ الْفِيلِ، وَيَذْكُرُ الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تُرْوَى لِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيِّ:
إنَّ آيَاتِ رَبِّنَا ثَاقِبَاتُ [1] ... لَا يُمَارِي فِيهِنَّ إلَّا الْكَفُورُ
خُلِقَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَكُلٌّ ... مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ
ثُمَّ يَجْلُو النَّهَارَ رَبٌّ رَحِيمٌ ... بِمَهَاةِ شَعَاعُهَا مَبْشُورُ [2]
حُبِسَ الْفِيلُ بِالْمُغَمِّسِ حَتَّى ... ظَلَّ يَحْبُو كَأَنَّهُ مَعْقُورُ
لَازِمًا حَلْقَةَ الْجِرَانِ كَمَا قُطِّرَ ... مِنْ صَخْرٍ كَبْكَبٍ مَحْدُورُ [3]
حَوْلَهُ مِنْ مُلُوكِ كِنْدَةَ أَبْطَالٌ ... مَلَاوِيثُ [4] فِي الْحُرُوبِ صُقُورُ
خَلَّفُوهُ ثُمَّ ابذعَرُّوا [5] جَمِيعًا ... كُلُّهُمْ عَظْمُ سَاقُهُ مَكسْورُ
كُلُّ دِينٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ... إلَّا دِينَ [6] الْحَنِيفَةِ بُورُ
[7]
(شِعْرُ الْفَرَزْدَقِ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ- وَاسْمُهُ هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ أَحَدُ بَنِي مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ- يَمْدَحُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْن مَرْوَانَ، وَيَهْجُو الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ، وَيَذْكُرُ الْفِيلَ وَجَيْشَهُ:
__________
[1] فِي أ: «باقيات» .
[2] المهاة: الشَّمْس، سميت بذلك لصفائها، والمها من الْأَجْسَام: الّذي يرى بَاطِنه من ظَاهره.
[3] كَذَا فِي أ. والجران: الصَّدْر. وقطر، أَي رمى بِهِ على جَانِبه. والقطر: الْجَانِب. وكبكب:
اسْم جبل. والمحدور: الْحجر الّذي حدر حَتَّى بلغ الأَرْض. يشبه الْفِيل ببروكه ووقوعه إِلَى الأَرْض بِهَذَا الْحجر الّذي يتحدر من جبل كبكب، وَفِي ... : « ... ... مجدور» بِالْجِيم.
[4] ملاويث: أشداء.
[5] ابذعروا: تفَرقُوا.
[6] يُرِيد بالحنيفة: الْأمة الحنيفة: أَي الْمسلمَة الَّتِي على دين إِبْرَاهِيم الحنيف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنه حنف عَمَّا كَانَ يبعد آباؤه وَقَومه: أَي عدل.
[7] كَذَا فِي م، ر. وَفِي أ: «زور» .(1/60)
فَلَمَّا طَغَى الْحَجَّاجُ حِينَ طَغَى بِهِ ... غِنَى [1] قَالَ إنِّي مُرْتَقٍ فِي السَّلَالِمِ
فَكَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ نُوحٍ سَأَرْتَقِي ... إلَى جَبَلٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَاءِ عَاصِمِ
رَمَى اللَّهُ فِي جُثْمَانِهِ مِثْلَ مَا رَمَى ... عَنْ الْقِبْلَةِ الْبَيْضَاءِ [2] ذَاتِ الْمَحَارِمِ
جُنُودًا تَسُوقُ الْفِيلَ حَتَّى أَعَادَهُمْ ... هَبَاءً وَكَانُوا مُطْرَخِمي الطَّرَاخِمِ [3]
نُصِرْتَ كَنَصْرِ الْبَيْتِ إذْ سَاقَ فِيلَهُ ... إلَيْهِ عَظِيمُ الْمُشْرِكِينَ الْأَعَاجِمِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ
: (شِعْرُ ابْنِ الرُّقَيَّاتِ فِي وَقْعَةِ الْفِيلِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتُ: أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَذْكُرُ أَبْرَهَةَ- وَهُوَ الْأَشْرَمُ- وَالْفِيلَ:
كَادَهُ الْأَشْرَمُ الَّذِي جَاءَ بِالْفِيلِ ... فَوَلَّى وَجَيْشُهُ مَهْزُومُ
وَاسْتَهَلَّتْ عَلَيْهِمْ الطَّيْرُ بِالْجَنْدَلِ ... حَتَّى كأنّه مرجوم [4]
ذَاكَ مَنْ يَغْزُهُ مِنْ النَّاسِ يَرْجِعْ ... وَهُوَ فَلٌّ [5] مِنْ الْجُيُوشِ ذَمِيمُ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
(مُلْكُ يَكْسُومَ ثُمَّ مَسْرُوقٍ عَلَى الْيَمَنِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ، مَلَّكَ الْحَبَشَةَ ابْنَهُ يَكْسُومَ بْنَ أَبْرَهَةَ، وَبِهِ
__________
[1] كَذَا فِي أ، وَهُوَ من الْغناء، بِمَعْنى الِاسْتِغْنَاء، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عَنَّا» . بِالْعينِ الْمُهْملَة.
وَهُوَ تَصْحِيف.
[2] الْقبْلَة الْبَيْضَاء: يُرِيد الْكَعْبَة.
[3] الهباء: مَا يظْهر فِي شُعَاع الشَّمْس إِذا دخلت من مَوضِع ضيق. والمطرخم: الممتلئ كبرا وغضبا.
والطراخم: جمع مطرخم، وَهُوَ المتكبر.
[4] قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على هَذَا الْبَيْت: «وَقَوله: حَتَّى كَأَنَّهُ مرجوم» وَهُوَ قد رجم، فَكيف شبهه بالمرجوم، وَهُوَ مرجوم بِالْحِجَارَةِ، وَهل يجوز أَن يُقَال فِي مقتول كَأَنَّهُ مقتول؟ فَنَقُول: لما ذكر استهلال الطير، وَجعلهَا كالسحاب يستهل بالمطر، والمطر لَيْسَ برجم، وَإِنَّمَا الرَّجْم بالأكف وَنَحْوهَا.
شبهه بالمرجوم الّذي يَرْجُمهُ الآدميون أَو من يعقل ويتعمد الرَّجْم من عَدو وَنَحْوه، فَعِنْدَ ذَلِك يكون الْمَقْتُول بِالْحِجَارَةِ مرجوما على الْحَقِيقَة، وَلما لم يكن جَيش الْحَبَشَة كَذَلِك، وَإِنَّمَا أمطروا حِجَارَة، فَمن ثمَّ قَالَ:
«كَأَنَّهُ مرجوم» .
[5] الفل: الْجَيْش المنهزم.(1/61)
كَانَ يُكَنَّى، فَلَمَّا هَلَكَ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ، مَلَكَ الْيَمَنَ فِي الْحَبَشَةِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ ابْن أَبْرَهَةَ.
خُرُوجُ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ وَمُلْكُ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ
(ابْنُ ذِي يَزَنَ عِنْدَ قَيْصَرَ) :
فَلَمَّا طَالَ الْبَلَاءُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي مُرَّةَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَشَكَا إلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ عَنْهُ وَيَلِيَهُمْ هُوَ، وَيَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ شَاءَ مِنْ الرُّومِ، فَيَكُونُ لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ فَلَمْ يُشْكِهِ (وَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُ) [1] .
(تَوَسُّطُ النُّعْمَانِ لِابْنِ ذِي يَزَنَ لَدَى كِسْرَى) :
فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ عَامِلُ كِسْرَى [2] عَلَى الْحِيرَةِ، وَمَا يَلِيهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَشَكَا إلَيْهِ أَمْرَ الْحَبَشَةِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: إنَّ لِي عَلَى كِسْرَى وِفَادَةً فِي كُلِّ عَامٍ، فَأَقِمْ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ. فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى كِسْرَى. وَكَانَ كِسْرَى يَجْلِسُ فِي إيوَانِ مَجْلِسِهِ الَّذِي فِيهِ تَاجُهُ، وَكَانَ تَاجُهُ مِثْلَ القَنْقَلِ [3] الْعَظِيمِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- يُضْرَبُ فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، مُعَلَّقًا بِسَلْسَلَةِ مِنْ ذَهَبٍ فِي رَأْسِ طَاقَةٍ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُنُقُهُ لَا تَحْمِلُ تَاجَهُ، إنَّمَا يُسْتَرُ بِالثِّيَابِ حَتَّى يَجْلِسَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِي تَاجِهِ، فَإِذَا اسْتَوَى فِي مَجْلِسِهِ كُشِفَتْ عَنْهُ الثِّيَابُ، فَلَا يَرَاهُ رَجُلٌ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ
__________
[1] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[2] هُوَ أنوشروان. وَمَعْنَاهُ مُجَدد الْملك، لِأَنَّهُ جمع ملك فَارس الْكَبِير بعد شتات.
[3] القنقل: الْمِكْيَال، وَقيل هُوَ مكيال يسع ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ منا. (الْمَنّ: وزان رطلين تَقْرِيبًا) . وَهَذَا التَّاج قد أَتَى بِهِ عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ حِين اسْتَلَبَ من يزدجرد بن شهريار- وَقد صَار إِلَيْهِ من قبل جده أنوشروان الْمَذْكُور- فَلَمَّا أَتَى بِهِ عمر رضى الله عَنهُ دَعَا سراقَة بن مَالك المدلجي، فحلاه بأسورة كسْرَى، وَجعل التَّاج على رَأسه، وَقَالَ لَهُ: قل الْحَمد للَّه نزع تَاج كسْرَى من ملك الْأَمْلَاك رَأسه، وَوَضعه على رَأس أعرابى من بنى مُدْلِج، وَذَلِكَ بعز الْإِسْلَام وبركته لَا بقوتنا، وَإِنَّمَا خص عمر سراقَة بِهَذَا لِأَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَالَ لَهُ: يَا سراقَة، كَيفَ بك إِذا وضع تَاج كسْرَى على رَأسك وسواره فِي يَديك؟(1/62)
ذَلِكَ، إلَّا بَرَكَ هَيْبَةً لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بَرَكَ.
(ابْنُ ذِي يَزَنَ بَيْنَ يَدَيْ كِسْرَى، وَمُعَاوَنَةُ كِسْرَى لَهُ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَنَّ سَيْفًا لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَقَالَ الْمَلِكُ: إنَّ هَذَا الْأَحْمَقَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ الطَّوِيلِ، ثُمَّ يُطَأْطِئُ رَأسه؟ فَقَالَ ذَلِكَ لِسَيْفِ، فَقَالَ: إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِهَمِّي، لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَنْهُ كُلُّ شَيْءٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، غَلَبَتْنَا عَلَى بِلَادِنَا الْأَغْرِبَةُ، فَقَالَ لَهُ كِسْرَى: أَيُّ الْأَغْرِبَةِ: الْحَبَشَةُ أَمْ السِّنْدُ فَقَالَ: بَلْ الْحَبَشَةُ، فَجِئْتُكَ لِتَنْصُرَنِي، وَيَكُونُ مُلْكُ بِلَادِي لَكَ، قَالَ: بَعُدَتْ بِلَادُكَ مَعَ قِلَّةِ خَيْرِهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُوَرِّطَ [1] جَيْشًا مِنْ فَارِسَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، ثُمَّ أَجَازَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ [2] وَافٍ، وَكَسَاهُ كُسْوَةً حَسَنَةً. فَلَمَّا قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ سَيْفٌ خَرَجَ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ الْوَرِقَ لِلنَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا، ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهِ، فَقَالَ: عَمَدْتَ إلَى حِبَاءِ الْمَلِكِ تَنْثُرُهُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِهَذَا مَا جِبَالُ أَرْضِي الَّتِي جِئْتُ مِنْهَا [3] إلَّا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ: يُرَغِّبُهُ فِيهَا. فَجَمَعَ كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ [4] ، فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَرَوْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَمَا جَاءَ لَهُ؟ فَقَالَ قَائِلٌ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّ فِي سُجُونِكَ رِجَالًا قَدْ حَبَسْتَهُمْ لِلْقَتْلِ، فَلَوْ أَنَّكَ بَعَثْتَهُمْ مَعَهُ، فَإِنْ يَهْلِكُوا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتَ بِهِمْ، وَإِنْ ظَفِرُوا كَانَ مُلْكًا ازْدَدْتَهُ [5] . فَبَعَثَ مَعَهُ كِسْرَى مَنْ كَانَ فِي سجونه، وَكَانُوا ثَمَان مائَة رَجُلٍ.
(وَهْرِزَ وَسَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ وَانْتِصَارُهُمَا عَلَى مَسْرُوقٍ وَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الشِّعْرِ) :
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ وَهْرِزُ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا وَبَيْتًا. فَخَرَجُوا فِي ثَمَانِ سَفَائِنَ، فَغَرِقَتْ سَفِينَتَانِ، وَوَصَلَ إلَى سَاحِلِ عَدَنَ
__________
[1] لأورط: أَي لأنتشب فِي شَرّ. والورطة: الانتشاب فِي الشَّرّ.
[2] يُقَال: وَفِي الدِّرْهَم المثقال، وَذَلِكَ إِذا عدله.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بهَا» .
[4] المرازبة: وزراء الْفرس، واحدهم مرزبان.
[5] كَذَا فِي أوالطبري، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أردته» .(1/63)
سِتُّ سَفَائِنَ [1] . فَجَمَعَ سَيْفٌ إلَى وَهْرِزَ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ لَهُ: رِجْلِي مَعَ رِجْلِكَ حَتَّى نَمُوتَ جَمِيعًا أَوْ نَظْفَرَ جَمِيعًا. قَالَ لَهُ وَهْرِزُ: أَنْصَفْتَ، وَخَرَجَ إلَيْهِ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ مَلِكُ الْيَمَنِ، وَجَمَعَ إلَيْهِ جُنْدَهُ. فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ وَهْرِزُ ابْنًا [2] لَهُ، لِيُقَاتِلَهُمْ فَيَخْتَبِرَ قِتَالَهُمْ: فَقُتِلَ ابْنُ وَهْرِزَ، فَزَادَهُ ذَلِكَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا تَوَاقَفَ النَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، قَالَ وَهْرِزُ: أَرُونِي مَلِكَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: أَتَرَى رَجُلًا عَلَى الْفِيلِ عَاقِدًا تَاجَهُ عَلَى رَأْسِهِ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا:
ذَاكَ مَلِكُهُمْ، فَقَالَ: اُتْرُكُوهُ. فَوَقَفُوا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: عَلَامَ هُوَ؟ قَالُوا:
قَدْ تَحَوَّلَ عَلَى الْفَرَسِ، قَالَ: اُتْرُكُوهُ. فَوَقَفُوا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: عَلَامَ هُوَ؟
قَالُوا: قَدْ تَحَوَّلَ عَلَى الْبَغْلَةِ. قَالَ وَهْرِزُ: بِنْتُ الْحِمَارِ ذَلَّ وَذَلَّ مُلْكُهُ، إنِّي سَأَرْمِيهِ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَصْحَابَهُ لَمْ يَتَحَرَّكُوا فَاثْبُتُوا حَتَّى أُوذِنَكُمْ، فَإِنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ الرَّجُلَ، وَإِنْ رَأَيْتُمْ الْقَوْمَ قَدْ اسْتَدَارُوا وَلَاثُوا [3] بِهِ، فَقَدْ أَصَبْتُ الرَّجُلَ، فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ وَتَرَ قَوْسَهُ، وَكَانَتْ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا يُوتِرُهَا غَيْرُهُ مِنْ شِدَّتِهَا، وَأَمَرَ بِحَاجِبَيْهِ فَعُصِّبَا لَهُ، ثُمَّ رَمَاهُ، فَصَكَّ الْيَاقُوتَةَ الَّتِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَتَغَلْغَلَتْ [4] النُّشَّابَةُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ، وَنُكِسْ عَنْ دَابَّتِهِ، وَاسْتَدَارَتْ الْحَبَشَةُ وَلَاثَتْ بِهِ، وَحَمَلَتْ عَلَيْهِمْ الْفُرْسُ، وَانْهَزَمُوا، فَقُتِلُوا وَهَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَأَقْبَلَ وَهْرِزُ لِيَدْخُلَ صَنْعَاءَ [5] ، حَتَّى إذَا أَتَى بَابَهَا، قَالَ: لَا تَدْخُلُ رَايَتِي مُنَكَّسَةً أَبَدًا، اهْدِمُوا الْبَابَ، فَهُدِمَ، ثُمَّ دَخَلَهَا نَاصِبًا رَايَتَهُ. فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ:
__________
[1] وَيُقَال إِن الْجَيْش بلغ سَبْعَة آلَاف وَخمْس مائَة، وانضافت إِلَيْهِم قبائل من الْعَرَب (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] وَكَانَ يُقَال لَهُ نوزاد. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[3] لاثوا بِهِ: اجْتَمعُوا حوله.
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فتغلغلت» . وَهُوَ تَحْرِيف.
[5] وَيُقَال: إِن صنعاء كَانَ اسْمهَا، قبل أَن يدخلهَا وهرز ويهدم بَابهَا، أوال (بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا) وَأَنَّهَا سميت كَذَلِك لقَوْل وهرز حِين دَخلهَا: «صَنْعَة صَنْعَة» . يُرِيد أَن الْحَبَشَة أحكمت صنعها. وَيُقَال إِنَّهَا سميت باسم الّذي بناها، وَهُوَ صنعاء بن وَال بن عيبر بن عَابِر بن شالخ، فَكَانَت تعرف مرّة بِصَنْعَاء، وَأُخْرَى بأوال.(1/64)
يَظُنُّ النَّاسُ بِالْمَلْكَيْنِ ... أَنَّهُمَا قَدْ الْتَأَمَا [1]
وَمَنْ يَسْمَعْ بِلَأْمِهِمَا ... فَإِنَّ الْخَطْبَ قَدْ فَقُمَا [2]
قَتَلْنَا الْقَيْلَ مَسْرُوقًا ... وَرَوَّيْنَا الْكَثِيبَ دَمَا [3]
وَإِنَّ الْقَيْلَ قَيْلُ النَّاسِ ... وَهْرِزُ مُقْسِمٌ قَسَمَا
يَذُوقُ مُشَعْشَعًا حَتَّى ... يُفِيءَ السَّبْيَ وَالنَّعما
[4] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَأَنْشَدَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ السَّدُوسِيُّ آخِرَهَا بَيْتًا لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى لِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
لِيَطْلُبَ الْوِتْرَ أَمْثَالُ ابْنِ ذِي يَزَنَ ... رَيَّمَ [5] فِي الْبَحْرِ لِلْأَعْدَاءِ أَحْوَالَا
يَمَّمَ قَيْصَرَ لَمَّا حَانَ رِحْلَتُهُ ... فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ بَعْضَ الَّذِي سَالَا [6]
ثُمَّ انْثَنَى [7] نَحْوَ كِسْرَى بَعْدَ عَاشِرَةٍ [8] ... مِنْ السِّنِينَ يُهِينُ النَّفْسَ وَالْمَالَا
حَتَّى أَتَى بِبَنِي الْأَحْرَارِ يَحْمِلُهُمْ ... إنَّكَ عَمْرِي لَقَدْ أَسْرَعَتْ قِلْقَالَا [9]
للَّه دَرَّهُمْ مِنْ عُصْبَةٍ خَرَجُوا ... مَا إنْ رَأَى لَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْثَالًا
__________
[1] التأما: يُرِيد: قد اصطلحا واتفقا.
[2] فَقُمْ: عظم.
[3] القيل: الْملك.
[4] المشعشع: الشَّرَاب الممزوج بِالْمَاءِ. ويفيء: يغنم.
[5] ريم: أَقَامَ. أَو هُوَ مَأْخُوذ من رام يريم، إِذا برح، كَأَنَّهُ يُرِيد: أَنه غَابَ زَمَانا وأحوالا، ثمَّ رَجَعَ للأعداء، ويروى: «لجج» .
[6] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي الطَّبَرِيّ، وَالشعر وَالشعرَاء (طبع ليدن) .
أَتَى هِرقل وَقد شالت نعامتهم ... فَلم يجد عِنْده بعض الّذي قَالَا
[7] فِي أ: «انتحى» .
[8] فِي الشّعْر وَالشعرَاء: «بعد تاسعة» .
[9] بَنو الْأَحْرَار: الْفرس. والقلقال: (بِالْكَسْرِ وبالفتح) : شدَّة الْحَرَكَة.
5- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/65)
بيضًا مرازبة غُلْبًا أَسَاوِرَةً ... أُسْدًا تُرَبِّبُ فِي الْغَيْضَاتِ أَشْبَالَا [1]
يَرْمُونَ عَنْ شُدُفٍ كَأَنَّهَا غُبُطٌ [2] ... بزَمْخرٍ [3] يُعَجِّلُ الْمَرْمِيَّ إعْجَالَا
أَرْسَلْتَ أُسْدًا عَلَى سُودِ الْكِلَابِ فَقَدْ ... أَضْحَى شَرِيدُهُمْ فِي الْأَرْضِ فُلَّالَا [4]
فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْكَ التَّاجُ مُرْتَفِقًا ... فِي رَأْسِ غُمْدانَ [5] دَارًا مِنْكَ مِحْلَالَا
وَاشْرَبْ هَنِيئًا فَقَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ [6] ... وَأَسْبِلْ الْيَوْمَ فِي بُرْدَيْكَ إسْبَالَا [7]
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانَ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا [8]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِمَّا رَوَى ابْنُ إسْحَاقَ مِنْهَا، إلَّا آخِرَهَا بَيْتًا قَوْلُهُ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانَ مِنْ لَبَنٍ
[9]
__________
[1] الغلب: الشداد. والأساورة: رُمَاة الْفرس. وتربب: من التربية. والغيضات: جمع غيضة، وَهِي الشّجر الْكثير الملتف.
[2] شدف: عِظَام الْأَشْخَاص، يعْنى بهَا القسي. وغبط: جمع غبيط، وَهِي عيدَان الهودج وأدواته.
[3] كَذَا فِي أ. والزمخر: الْقصب الْيَابِس، يعْنى قصب النشاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بزمجر» وَهُوَ تَصْحِيف.
[4] الفلال: المنهزمون.
[5] غمدان (بِضَم أَوله وَسُكُون ثَانِيه وَآخره نون) : قصر بناه يشْرَح بن يحصب على أَرْبَعَة أوجه:
وَجه أَبيض، وَوجه أَحْمَر، وَوجه أصفر، وَوجه أَخْضَر. وَبنى فِي دَاخله قصرا على سَبْعَة سقوف، بَين كل سقفين مِنْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعا، وَجعل فِي أَعْلَاهُ مَجْلِسا بناه بالرخام الملون، وَجعل سقفه رخامة وَاحِدَة وصير على كل ركن من أَرْكَانه تِمْثَال أَسد من شبه كأعظم مَا يكون من الْأسد، فَكَانَت الرّيح إِذا هبت إِلَى نَاحيَة تِمْثَال من تِلْكَ التماثيل دخلت من دبره، وَخرجت من فِيهِ، فَيسمع لَهُ زئير كزئير السبَاع. وَقيل:
إِن الّذي بناه سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام. وللشعراء شعر كثير فِي غمدان. وَقد هدم فِي عهد عُثْمَان رضى الله عَنهُ. وَمعنى قَوْله مرتفقا: أَي مُتكئا، كَمَا فِي لِسَان الْعَرَب.
[6] شالت نعامتهم: أهلكوا. والنعامة: بَاطِن الْقدَم. وشالت: ارْتَفَعت، وَمن هلك ارْتَفَعت رِجْلَاهُ، وانتكس رَأسه، فظهرت نعَامَة قدمه. وَالْعرب تَقول: تنعمت: إِذا مشيت حافيا.
[7] الإسبال: إرخاء الثَّوْب، وَيُرِيد بِهِ هُنَا الْخُيَلَاء والإعجاب.
[8] القعبان: تَثْنِيَة قَعْب، وَهُوَ قدح يحلب فِيهِ، وشيبا: مزجا.
[9] وَمن روى هَذَا الْبَيْت للنابغة جعله من قصيدته إِلَى مطْلعهَا:
إِمَّا ترى ظلل الْأَيَّام قد حسرت ... عَنى وشمرت ذيلا كَانَ ذيالا
وَلَقَد هجا بِهَذِهِ القصيدة رجلا من قُشَيْر يُقَال لَهُ: ابْن الحيا (الحيا أمه) . ويعنى بِهَذَا الْبَيْت (تِلْكَ المكارم ... إِلَخ) أَن ابْن الحيا فَخر عَلَيْهِ بِأَنَّهُم سقوا رجلا من جعدة أدركوه فِي سفر، وَقد جهد عطشا، لَبَنًا وَمَاء فَعَاشَ. (رَاجع الأغاني ج 5 ص 13- 15 طبع دَار الْكتب) .(1/66)
فَإِنَّهُ لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ. وَاسْمُهُ (حِبَّانُ بْنُ) [1] عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، أَحَدُ بَنِي جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ الحِيريُّ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَيُقَالُ: عَدِيٌّ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ [2] :
مَا بَعْدَ صَنْعَاءَ كَانَ يَعْمُرُهَا ... وُلَاةُ مُلْكٍ جَزْلٍ مَوَاهِبُهَا [3]
رَفَّعَهَا مَنْ بَنَى لَدَى قَزَعٍ ... الْمُزْنِ وَتَنْدَى مِسْكًا مَحَارِبُهَا [4]
مَحْفُوفَةٌ بِالْجِبَالِ دُونَ عُرَى ... الْكَائِدِ مَا تُرْتَقَى غُوَارِبُهَا [5]
يَأْنَسُ فِيهَا صَوْتُ النُّهَامِ إذَا ... جَاوَبَهَا بِالْعَشِيِّ قَاصِبُهَا [6]
سَاقَتْ إلَيْهَا [7] الْأَسْبَابُ جُنْدُ بَنِي ... الْأَحْرَارِ فُرْسَانُهَا مَوَاكِبُهَا
وفُوِّزَتْ بِالْبِغَالِ تُوسَقُ بِالْحَتْفِ ... وَتَسْعَى بِهَا تَوَالِبُهَا [8]
حَتَّى رَآهَا الْأَقْوَالُ مِنْ طَرَفِ ... الْمَنْقَلِ مُخْضَرَّةٌ كَتَائِبُهَا [9]
__________
[1] زِيَادَة عَن أَسد الغابة (ج 5 ص 2) وخزانة الْأَدَب (ج 1 ص 512) والإصابة (ج 6 ص 218) والاستيعاب (ج 1 ص 320) والأغاني (ج 5 ص 1 طبع دَار الْكتب) .
[2] الْعباد: هم من عبد الْقَيْس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة، قيل إِنَّهُم انتسلوا من أَرْبَعَة: عبد الْمَسِيح، وَعبد كلال، وَعبد الله، وَعبد يَا ليل. وَكَانُوا قدمُوا على ملك فتسموا لَهُ، فَقَالَ:
أَنْتُم الْعباد، فسموا بذلك. وَذكر الطَّبَرِيّ فِي نسب عدي: أَنه ابْن زيد بن حَمَّاد بن أَيُّوب بن مجروف ابْن عَامر بن عصية بن امْرِئ الْقَيْس بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، وَقد دخل بَنو امْرِئ الْقَيْس بن زيد مَنَاة فِي الْعباد، فَلذَلِك ينْسب عدي إِلَيْهِم.
[3] وُلَاة ملك: يُرِيد: الَّذين يدبرون أَمر النَّاس ويصلحونه. وجزل: كثير.
[4] القزع: السَّحَاب المتفرق، والمزن: السَّحَاب. والمحارب: الغرف المرتفعة.
[5] يُرِيد: دون عرى السَّمَاء وأسبابها. والكائد: هُوَ الّذي كادهم، وَهُوَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
والغوارب: الأعالي.
[6] النهام: الذّكر من البوم. والقاصب: صَاحب الزمارة.
[7] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «إِلَيْهِ» .
[8] فوزت الْمَفَازَة: قطعت. وَقَوله: توسق بالحتف، أَي أَن وسق البغال الحتوف. والتوالب:
جمع تولب، وَهُوَ ولد الْحمار.
[9] الْأَقْوَال: الْمُلُوك. والمنقل: الطَّرِيق الْمُخْتَصر، وَهُوَ أَيْضا: الأَرْض الَّتِي يكثر فِيهَا النَّقْل: أَي الْحِجَارَة، وَقَوله: من طرف المنقل، أَي من أعالى حصونها. والمنقال: الخرج ينْقل إِلَى الْمُلُوك من قَرْيَة إِلَى قَرْيَة، فَكَأَن المنقل من هَذَا. ومخضرة كتائبها: يعْنى من الْحَدِيد، وَمِنْه الكتيبة الخضراء.(1/67)
يَوْمَ يُنَادُونَ آل بربر [1] و ... اليكسوم لَا يُفْلِحُنَّ هَارِبُهَا [2]
وَكَانَ يَوْمُ بَاقِي الْحَدِيثِ وَزَالَتْ ... إِمَّةً ثَابِتٌ مَرَاتِبُهَا [3]
وَبُدِّلَ الْفَيْجُ [4] بِالزَّرَافَةِ [5] وَالْأَيَّامُ ... جُونٌ [6] جَمٌّ عَجَائِبُهَا
بَعْدَ بَنِي تُبَّعٍ نَخَاوِرَةٌ [7] ... قَدْ اطْمَأَنَّتْ بِهَا مَرَازِبُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَأَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ (الْأَنْصَارِيُّ) [8] وَرَوَاهُ لِي عَنْ الْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ، قَوْلَهُ:
يَوْمَ يُنَادُونَ آل بربر و ... اليكسوم.............
إلَخْ
(هَزِيمَةُ الْأَحْبَاشِ، وَنُبُوءَةُ سَطِيحٍ وَشِقٍّ) :
وَهَذَا الَّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ: «يَلِيهِ إرَمُ ذِي يَزَنَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنَ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ» . وَاَلَّذِي عَنَى شِقٌّ بِقَوْلِهِ: «غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيِّ وَلَا مُدَنٍّ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ» .
ذِكْرُ مَا انْتَهَى إلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ
(مُلْكُ الْحَبَشَةِ فِي الْيَمَنِ وَمُلُوكُهُمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ وَهْرِزُ وَالْفُرْسُ بِالْيَمَنِ، فَمِنْ بَقِيَّةِ ذَلِكَ الْجَيْشِ مِنْ الْفُرْسِ الْأَبْنَاءُ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ الْيَوْمَ. وَكَانَ مُلْكُ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ، فِيمَا بَيْنَ أَنْ دَخَلَهَا أَرْيَاطُ إلَى أَنْ قَتَلَتْ الْفُرْسُ مَسْرُوقَ بْنَ أَبْرَهَةَ وَأُخْرِجَتْ الْحَبَشَةُ، اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، تَوَارَثَ
__________
[1] آل بربر: يُرِيد الْحَبَشَة.
[2] فِي شعراء النَّصْرَانِيَّة: «لَا يَفْلِتَنَّ» .
[3] الإمة (بِكَسْر الْهمزَة) : النِّعْمَة.
[4] كَذَا فِي شرح السِّيرَة. والفيج: الْمُنْفَرد، أَو هُوَ الّذي يسير للسُّلْطَان بالكتب على رجلَيْهِ.
وَفِي جَمِيع الْأُصُول: «الفيح» بِالْحَاء الْمُهْملَة. وَهُوَ تَصْحِيف.
[5] الزرافة: الْجَمَاعَة من النَّاس.
[6] فِي شرح السِّيرَة لأبى ذَر: «خون» . وَهِي جمع خَائِنَة.
[7] بَنو تبع: الْيمن. والنخاورة: الْكِرَام. واحدهم: نخوار.
[8] زِيَادَة عَن أ.(1/68)
ذَلِكَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ: أَرْيَاطُ، ثُمَّ أَبْرَهَةُ، ثُمَّ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ، ثُمَّ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ.
مُلُوكُ الْفُرْسِ عَلَى الْيَمَنِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ مَاتَ وَهْرِزُ، فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ الْمَرْزُبَانَ بْنِ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرْزُبَانُ، فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ التَّيْنُجَانَ بْنَ الْمَرْزُبَانِ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ مَاتَ التَّيْنُجَانُ، فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَ التَّيْنُجَانِ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَأَمَّرَ بَاذَانَ، فَلَمْ يَزَلْ بَاذَانُ عَلَيْهَا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ) [1] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(كِسْرَى وَبَعْثَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَبَلَغَنِي عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
كَتَبَ كِسْرَى إلَى بَاذَانَ: أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ بِمَكَّةَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فسر إِلَيْهِ فاستنبه، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا فَابْعَثْ إلَيَّ بِرَأْسِهِ. فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يُقْتَلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا. فَلَمَّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ تَوَقَّفَ لِيَنْظُرَ، وَقَالَ: إنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيَكُونُ مَا قَالَ. فَقَتَلَ اللَّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قُتِلَ عَلَى يَدَيْ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ حِقٍّ الشَّيْبَانِيُّ:
وَكِسْرَى إذْ تَقَسَّمْهُ بَنُوهُ ... بِأَسْيَافٍ كَمَا اُقْتُسِمَ اللَّحَّامُ [2]
تَمَخَّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ ... أَنَّى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تِمَامُ
[3]
(إسْلَامُ بَاذَانَ) :
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ [4] وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْفُرْسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ الرُّسُلُ مِنْ الْفُرْسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ مِنَّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.
__________
[1] زِيَاد عَن أ.
[2] اللحام: جمع لحم.
[3] أَنى: حَان.
[4] كَانَ إِسْلَام باذان بِالْيمن فِي سنة عشر، وفيهَا بعث رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَبْنَاء يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام.(1/69)
(سَلْمَانُ مِنَّا) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
فَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ.
(بَعْثَةُ النَّبِيِّ، وَنُبُوءَةُ سَطِيحٍ وَشِقٍّ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَهُوَ الَّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ: «نَبِيٌّ زَكِيٌّ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ» . وَاَلَّذِي عَنَى شِقٌّ بِقَوْلِهِ: «بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ، يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مِنْ [1] أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى يَوْمِ الْفَصْلِ» .
(الْحَجَرُ الَّذِي وُجِدَ بِالْيَمَنِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ كِتَابٌ- بِالزَّبُورِ كُتِبَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ: «لِمِنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ [2] ، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارِ [3] ، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِفَارِسَ الْأَحْرَارِ [4] ، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِقُرَيْشِ التُّجَّارِ» .
وَذِمَارٌ: الْيَمَنُ أَوْ صَنْعَاءُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ذَمَارُ: بِالْفَتْحِ، فِيمَا أَخْبَرَنِي [5] يُونُسُ
(شِعْرٌ الْأَعْشَى فِي نُبُوءَةِ سَطِيحٍ وَشِقٍّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ الْأَعْشَى أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي وُقُوعِ مَا قَالَ سَطِيحٌ وَصَاحِبُهُ:
مَا نَظَرَتْ ذَاتُ أَشْفَارٍ كَنَظْرَتِهَا ... حَقَّا كَمَا صَدَقَ الذِّئْبِيُّ إذَا سَجَعَا
[6] وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ لِسَطِيحِ: الذِّئْبِيَّ، لِأَنَّهُ سَطِيحُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
__________
[1] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: بِدُونِ «من» .
[2] سموا بالأخيار: لأَنهم كَانُوا أهل دين، كَمَا تقدم فِي حَدِيث فيميون، وَابْن الثَّامِر.
[3] سموا بالأشرار: لما أَحْدَثُوا فِي الْيمن من العيث وَالْفساد وإخراب الْبِلَاد، حَتَّى هموا بهدم بَيت الله الْحَرَام.
[4] سموا بالأحرار: لِأَن الْملك فيهم متوارث من عهد جيومرت إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام، لم يدينوا لملك، وَلَا أَدّوا الإتاوة لذِي سُلْطَان من سواهُم، فَكَانُوا أحرارا لذَلِك.
[5] وَحكى الْكسر عَن ابْن إِسْحَاق. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[6] ذَات أشفار: زرقاء الْيَمَامَة، وَكَانَت الْعَرَب تزْعم أَنَّهَا ترى الْأَشْخَاص على مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فِي الصَّحرَاء، وخبرها مَشْهُور.(1/70)
قِصَّةُ مَلِكِ الْحَضْرِ
(نَسَبُ النُّعْمَانِ، وَشَيْءٌ عَنْ الْحَضْرِ، وَشِعْرُ عَدِيٍّ فِيهِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدِ السَّدُوسِيُّ عَنْ جَنَّادٍ، أَوْ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالنَّسَبِ: أَنَّهُ يُقَالُ:
إنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ وَلَدِ سَاطِرُونَ [1] مَلِكِ الْحَضْرِ. وَالْحَضْرُ: حِصْنٌ عَظِيمٌ كَالْمَدِينَةِ، كَانَ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
وَأَخُو الْحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإِذْ ... دِجْلَةُ تُجْبَى إلَيْهِ وَالْخَابُورُ [2]
شَادَهُ مَرْمَرَا وَجَلَّلَهُ كِلْسًا ... فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ [3]
لَمْ يَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَانَ [4] ... الْمُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَاَلَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد الْإِيَادِيُّ [5] فِي قَوْلِهِ:
وَأَرَى الْمَوْتَ قَدْ تَدَلَّى مِنْ الْحَضْرِ ... عَلَى رَبِّ أَهْلِهِ السَّاطِرُونَ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَيُقَالُ: إنَّهَا لِخَلَفِ الْأَحْمَرِ، وَيُقَالُ: لِحَمَّادِ الرَّاوِيَةِ.
(دُخُولُ سَابُورَ الْحَضْرَ، وَزَوَاجُهُ بِنْتِ سَاطِرُونَ، وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا) :
وَكَانَ كِسْرَى سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ غَزَا سَاطِرُونَ مَلِكِ الْحَضَر، فحصره سِتِّينَ، فَأَشْرَفَتْ بِنْتُ [6] سَاطِرُونَ يَوْمًا، فَنَظَرَتْ إلَى سَابُورَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ دِيبَاجٍ،
__________
[1] الساطرون: مَعْنَاهُ بالسُّرْيَانيَّة الْملك، وَاسم الساطرون: الضيزن بن مُعَاوِيَة، جرمقاني، وَقيل:
قضاعى، من الْعَرَب الَّذين تنخوا بِالسَّوَادِ (أَقَامُوا بِهِ) فسموا تنوخ، وهم قبائل شَتَّى. وَأمه جبهلة، وَبهَا كَانَ يعرف، وَهِي أَيْضا: قضاعية من بنى تزيد الَّذين تنْسب إِلَيْهِم الثِّيَاب التزيدية.
[2] دجلة والخابور: نهران مشهوران.
[3] المرمر: الرخام. والكلس: مَا طلى بِهِ الْحَائِط من جص وجيار. وجلله: كَسَاه. ويروى:
خلله (بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة) : أَي جعل الجص بَين حجر وَحجر. وذراه: أعاليه. ووكور: جمع وكر، وَهُوَ عش الطَّائِر.
[4] فِي أ: «فباد» .
[5] واسْمه جَارِيَة بن حجاج، وَقيل: حَنْظَلَة بن شرقى.
[6] يُقَال إِن اسْمهَا النضيرة.(1/71)
وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَكَانَ جَمِيلًا، فَدَسَّتْ إلَيْهِ: أَتَتَزَوَّجُنِي إنْ فَتَحْتُ لَكَ بَابَ الْحَضْرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا أَمْسَى سَاطِرُونَ شَرِبَ حَتَّى سَكِرَ، وَكَانَ لَا يَبِيتُ إلَّا سَكْرَانَ. فَأَخَذَتْ مَفَاتِيحَ بَابِ الْحَضْرِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ، فَبَعَثَتْ بِهَا مَعَ مَوْلًى لَهَا، فَفَتَحَ الْبَابَ [1] ، فَدَخَلَ سَابُورُ، فَقَتَلَ سَاطِرُونَ، وَاسْتَبَاحَ الْحَضْرَ وَخَرَّبَهُ، وَسَارَ بِهَا مَعَهُ فَتَزَوَّجَهَا. فَبَيْنَا هِيَ نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِهَا لَيْلًا إذْ جَعَلَتْ تَتَمَلْمَلُ لَا تَنَامُ، فَدَعَا لَهَا بِشَمْعِ، فَفُتِّشَ فِرَاشُهَا، فَوُجِدَ عَلَيْهِ وَرَقَةُ آسٍ [2] ، فَقَالَ لَهَا سَابُورُ: أَهَذَا الَّذِي أَسْهَرَكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا كَانَ أَبُوكَ يَصْنَعُ بِكِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَفْرِشُ لِي الدِّيبَاجَ، وَيُلْبِسُنِي الْحَرِيرَ، وَيُطْعِمُنِي الْمُخَّ، وَيَسْقِينِي الْخَمْرَ، قَالَ: أَفَكَانَ جَزَاءُ أَبِيكَ مَا صَنَعْتِ بِهِ؟ أَنْتَ إلَيَّ بِذَلِكَ أَسْرَعُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُبِطَتْ قُرُونُ [3] رَأْسِهَا بِذَنَبِ فَرَسٍ، ثُمَّ رَكَضَ الْفَرَسُ حَتَّى قَتَلَهَا [4] ، فَفِيهِ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
أَلَمْ تَرَ [5] لِلْحَضْرِ إذْ أَهْلُهُ ... بِنُعْمَى وَهَلْ خَالِدٌ مِنْ نِعَمْ
أَقَامَ بِهِ شاهَبُورُ [6] الْجُنُودَ ... حَوْلَيْنِ تَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُمْ [7]
فَلَمَّا دَعَا رَبَّهُ دَعْوَةً ... أَنَابَ إلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ
__________
[1] وَيُقَال: إِنَّهَا دلته على نهر وَاسع كَانَ يدْخل مِنْهُ المَاء إِلَى الْحَضَر، فَقطع لَهُم المَاء، ودخلوا مِنْهُ. وَقيل: بل دلته على طلسم كَانَ فِي الْحَضَر، وعَلى طَريقَة التغلب عَلَيْهِ. (رَاجع المَسْعُودِيّ وَالرَّوْض الْأنف) .
[2] الآس: الريحان.
[3] قُرُون رَأسهَا: يعْنى ذوائب شعرهَا.
[4] وَيُقَال إِن صَاحب هَذِه الْقِصَّة هُوَ سَابُور بن أردشير بن بابك: لِأَن أردشير هُوَ أول من جمع ملك فَارس، وأذل مُلُوك الطوائف، حَتَّى دَان الْملك لَهُ، والضيزن كَانَ من مُلُوك الطوائف، فيبعد أَن تكون هَذِه الْقِصَّة لسابور ذِي الأكتاف، وَهُوَ سَابُور بن هُرْمُز، لِأَنَّهُ كَانَ بعد سَابُور الْأَكْبَر بدهر طَوِيل، وَبينهمْ مُلُوك عدَّة، وهم هُرْمُز بن سَابُور، وبهرام بن بهْرَام، وبهرام الثَّالِث: ونرس بن بهْرَام، وَبعده كَانَ ابْنه سَابُور ذُو الأكتاف.
[5] فِي أ: «ألم ترى الْحَضَر ... إِلَخ» .
[6] شاهبور: مَعْنَاهُ: ابْن الْملك. وشاه: ملك، وبور: ابْن.
[7] الْقدَم: جمع قدوم، وَهُوَ الفأس وَنَحْوهَا.(1/72)
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ:
وَالْحَضْرُ صَابَتْ عَلَيْهِ دَاهِيَةٌ ... مِنْ فَوْقِهِ أَيِّدٌ مَنَاكِبُهَا [1]
رَبِيَّةَ [2] لَمْ تُوَقَّ وَالِدَهَا ... لِحَيْنِهَا [3] إذْ أَضَاعَ رَاقِبُهَا [4]
إذْ غَبَقَتْهُ [5] صَهْبَاءَ صَافِيَةً ... وَالْخَمْرُ وَهَلْ [6] يَهِيمُ [7] شَارِبُهَا
فَأَسْلَمَتْ أَهْلَهَا بِلَيْلَتِهَا ... تَظُنُّ أَنَّ الرَّئِيسَ خَاطِبُهَا
فَكَانَ حَظُّ الْعَرُوسِ إذْ جَشَرَ [8] ... الصُّبْحُ دِمَاءً تَجْرِي سَبَائِبُهَا [9]
وَخُرِّبَ الْحَضْرُ وَاسْتُبِيحَ وَقَدْ ... أُحْرِقَ فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا
[10] وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
ذِكْرُ وَلَدِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ
(أَوْلَادُهُ فِي رَأْيِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ نِزَارُ بْنُ مَعَدٍّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: مُضَرَ [11] بْنَ نِزَارٍ، وَرَبِيعَةَ ابْن نِزَارٍ، وأَنْمَارَ بْنَ نِزَارٍ.
__________
[1] صابت: سَقَطت وَنزلت. وأيد: شَدِيدَة.
[2] ربية: فعيلة بِمَعْنى مفعول من ربى، وَقد تكون بِمَعْنى الربو، وَهُوَ النَّمَاء وَالزِّيَادَة، لِأَنَّهَا ربت فِي نعْمَة، فَتكون بِمَعْنى فاعلة. وَقيل: بل أَرَادَ: ربيئة، بِالْهَمْز، وَسَهل الْهمزَة فَصَارَت يَاء، وَجعلهَا ربيئة، لِأَنَّهَا كَانَت طَلِيعَة حَيْثُ اطَّلَعت حَتَّى رَأَتْ سَابُور وَجُنُوده، وَيُقَال للطليعة، ذكرا أَو أُنْثَى: ربيئة.
[3] ويروى: «لخبها» : أَي لمكرها.
[4] أَي أضاع المربأ الّذي يرقبها ويحرسها، وَيحْتَمل أَن تكون الْهَاء عَائِدَة على الْجَارِيَة: أَي أضاعها حافظها.
[5] غبقته: سقته بالْعَشي.
[6] يُقَال: وَهل الرجل، إِذا أَرَادَ شَيْئا فَذهب وهمه إِلَى غَيره.
[7] يهيم: يتحير.
[8] جشر: أَضَاء وَتبين.
[9] سبائبها: طرائقها.
[10] كَذَا فِي الأَصْل. والمشاجب: جمع مشجب، وَهُوَ عود تعلق عَلَيْهِ الثِّيَاب. ويروى: «مساحبها» والمساحب: القلائد فِي الْعُنُق من قرنفل وَغَيره.
[11] وَيُقَال: إِن مُضر أول من سنّ حداء الْإِبِل، وَكَانَ ذَلِك فِيمَا يَزْعمُونَ أَنه سقط عَن بعير فوثئت(1/73)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِيَادَ بْنَ نِزَارٍ. قَالَ الْحَارِسُ بْنُ دَوْسٍ الْإِيَادِيُّ، وَيُرْوَى لِأَبِي دُوَادَ الْإِيَادِيِّ، واسْمُهُ جَارِيَةُ [1] بْنُ الْحَجَّاجِ:
وَفُتُوٌّ [2] حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
فَأُمُّ مُضَرَ وَإِيَادٍ: سَوْدَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ. وَأُمُّ رَبِيعَةَ وأَنْمَارٍ: شُفَيْقَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَيُقَالُ جُمُعَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ.
(أَوْلَادُ أَنْمَارٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَنْمَارُ: أَبُو خَثْعَمَ وَبَجِيلَةَ [3] . قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ وَكَانَ سَيِّدَ بَجِيلَةَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ:
لَوْلَا جَرِيرٌ هَلَكَتْ بَجِيلَهُ ... نِعْمَ الْفَتَى وَبِئْسَتِ الْقِبِيلَهْ
وَهُوَ يُنَافِرُ [4] الْفُرَافِصَةَ [5] الْكَلْبِيَّ إلَى الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ (بْنِ عِقَالِ بْنِ مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ) [6] :
يَا أَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ [7] تُصْرَعُ
وَقَالَ:
__________
[ () ] يَده، وَكَانَ أحسن النَّاس صَوتا، فَكَانَ يمشى خلف الْإِبِل، وَيَقُول: وَا يدياه وَا يدياه. يترنم بذلك، فأعنقت الْإِبِل وَذهب كلالها، فَكَانَ ذَلِك أصل الحداء عِنْد الْعَرَب.
[1] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حَارِثَة» وَهُوَ تَحْرِيف. (رَاجع الْحَاشِيَة رقم 2 ص 71 من هَذَا الْجُزْء) .
[2] فتو: جمع فَتى، وَهُوَ الشَّاب الْحَدث.
[3] وَأم أَوْلَاد أَنْمَار: بجيلة بنت صَعب بن سعد الْعَشِيرَة، ولد لَهُ من غَيرهَا أفتل، وَهُوَ خثعم فَلم ينْسب إِلَيْهَا. وَيُقَال: إِن بجيلة حبشية حضنت أَوْلَاد أَنْمَار، وَلم تحضن أفتل. فَلم ينْسب إِلَيْهَا. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] ينافر: يحاكم.
[5] الفرافصة (بِالضَّمِّ) : الْأسد. (وبالفتح) : اسْم الرجل، وَقد قيل: كل فرافصة فِي الْعَرَب بِالضَّمِّ إِلَّا الفرافصة أَبَا نائلة صهر عُثْمَان بن عَفَّان، فَإِنَّهُ بِالْفَتْح.
[6] زِيَادَة عَن أ.
[7] كَذَا فِي أ. وَهُوَ الْأَشْهر. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَخَاك» .(1/74)
ابْنَيْ نِزَارٍ اُنْصُرَا أَخَاكُمَا ... إنَّ أَبِي وَجَدْتَهُ أَبَاكُمَا
لَنْ يُغْلَبَ الْيَوْمَ أَخٌ وَالَاكُمَا
وَقَدْ تَيَامَنَتْ فَلَحِقَتْ بِالْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَتْ الْيَمَنُ: وَبَجِيلَةُ: أَنْمَارُ بْنُ إرَاشِ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: إرَاشُ بْنُ عَمْرِو ابْن لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ. وَدَارُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ: يَمَانِيَّةٌ.
(أَوْلَادُ مُضَرَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ مُضَرُ بْنُ نِزَارٍ رَجُلَيْنِ: إلْيَاسَ بْنَ مُضَرَ، وَعَيْلَانَ [1] ابْن مُضَرَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأُمُّهُمَا جُرْهُمِيَّةٌ
[2] .
(أَوْلَادُ إلْيَاسَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ إلْيَاسُ بْنُ مُضَرَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: مُدْرِكَةَ بْنَ إلْيَاسَ، وَطَابِخَةَ ابْن إلْيَاسَ، وَقَمْعَةَ بْنَ إلْيَاسَ، وَأُمُّهُمْ خِنْدِفُ، امْرَأَة عَن الْيَمَنِ.
(شَيْءٌ عَنْ خِنْدِفَ وَأَوْلَادِهَا) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: خِنْدِفُ [3] بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ اسْمُ مُدْرِكَةَ عَامِرًا، وَاسْمُ طَابِخَةَ عَمْرًا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا كَانَا فِي إبِلٍ لَهُمَا يَرْعَيَانِهَا، فَاقْتَنَصَا صَيْدًا فَقَعَدَا عَلَيْهِ يَطْبُخَانِهِ، وَعَدَتْ عَادِيَةٌ عَلَى إبِلِهِمَا، فَقَالَ عَامِرٌ لِعَمْرٍو: أَتُدْرِكُ الْإِبِلَ أَمْ تَطْبُخُ هَذَا الصَّيْدَ؟ فَقَالَ عَمْرٌو:
بَلْ أَطْبُخُ فَلَحِقَ عَامِرٌ بِالْإِبِلِ فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا رَاحَا عَلَى أَبِيهِمَا حَدَّثَاهُ بِشَأْنِهِمَا،
__________
[1] وَيُقَال إِن عيلان هَذَا، هُوَ قيس نَفسه لَا أَبوهُ، وسمى بفرس لَهُ اسْمه عيلان، وَقيل: عيلان اسْم كَلْبه.
[2] وَيُقَال: إِنَّهَا لَيست من جرهم، وَإِنَّمَا هِيَ الربَاب بنت حيدة بن معد بن عدنان. (رَاجع الطَّبَرِيّ وَالرَّوْض الْأنف) .
[3] وَاسْمهَا ليلى: وَأمّهَا ضرية بنت ربيعَة بن نزار الَّتِي ينْسب إِلَيْهَا حمى ضرية، وخندف هَذِه هِيَ الَّتِي ضربت الْأَمْثَال بحزنها على إلْيَاس، وَذَلِكَ أَنَّهَا تركت بنيها وساحت فِي الأَرْض تبكيه حَتَّى مَاتَت، وَإِنَّمَا نسب أَوْلَادهَا إِلَيْهَا لِأَنَّهَا حِين تَركتهم شغلا لحزنها على أَبِيهِم وَكَانُوا صغَارًا رَحِمهم النَّاس، فَقَالُوا:
هَؤُلَاءِ أَوْلَاد خندف الَّتِي تَركتهم، وهم صغَار أَيْتَام.(1/75)
فَقَالَ لِعَامِرِ: أَنْتَ مُدْرِكَةٌ، وَقَالَ لِعَمْرِو: وَأَنْتَ طَابِخَةُ (وَخَرَجَتْ أُمُّهُمْ لَمَّا بَلَغَهَا الْخَبَرُ، وَهِيَ مُسْرِعَةٌ، فَقَالَ لَهَا: تُخَنْدِفِينَ فَسُمِّيَتْ: خِنْدِفُ) [1] .
وَأَمَّا قَمَعَةُ [2] فَيَزْعُمُ نُسَّابُ مُضَرَ: أَنَّ خُزَاعَةَ مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ إلْيَاسَ.
قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَذِكْرُ أَصْنَامِ الْعَرَبِ
(رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَهُ [3] فِي النَّارِ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَ: هَلَكُوا. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ السَّمَّانَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَبْدُ اللَّهِ ابْن عَامِرٍ، وَيُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ- يَقُولُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيِّ: يَا أَكْثَمُ، رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ، وَلَا بِكَ مِنْهُ: فَقَالَ أَكْثَمُ: عَسَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، إنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ، إنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ، فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ، وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ [4] ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِي
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] وَاسم قمعة: عُمَيْر، وسمى قمعة لِأَنَّهُ انقمع وَقعد.
[3] الْقصب: الأمعاء.
[4] وَيُقَال: إِن أول من بَحر الْبحيرَة رجل من بنى مُدْلِج، كَانَت لَهُ ناقتان، فجدع آذانهما، وَحرم ألبانهما. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/76)
(جَلَبُ الْأَصْنَامِ مِنْ الشَّامِ إلَى مَكَّةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الشَّامِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ- وَهُمْ وَلَدُ عِمْلَاقٍ. وَيُقَالُ عِمْلِيقُ بْنُ لَاوِذْ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ- رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا لَهُ: هَذِهِ أَصْنَامٌ نَعْبُدُهَا، فَنَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا، ونَسْتَنْصِرُهَا فَتَنْصُرُنَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تُعْطُونَنِي مِنْهَا صَنَمًا، فَأَسِيرَ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ، فَيَعْبُدُوهُ؟ [1] فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ هُبَلُ، فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ، فَنَصَبَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ [2] .
(أَوَّلُ عِبَادَةِ الْحِجَارَةِ كَانَتْ فِي بَنِي إسْمَاعِيلَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَوَّلَ مَا كَانَتْ عِبَادَةُ الْحِجَارَةِ فِي بَنِي إسْمَاعِيلَ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَظْعَنُ مِنْ مَكَّةَ ظَاعِنٌ مِنْهُمْ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ، وَالْتَمَسُوا الفَسَحَ فِي الْبِلَادِ، إلَّا حَمَلَ مَعَهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ، فَحَيْثُمَا نَزَلُوا وَضَعُوهُ فَطَافُوا بِهِ كَطَوَافِهِمْ بِالْكَعْبَةِ، حَتَّى سَلَخَ ذَلِكَ بِهِمْ [3] إلَى أَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَا اسْتَحْسَنُوا مِنْ الْحِجَارَةِ، وَأَعْجَبَهُمْ، حَتَّى خَلَفَ الْخُلُوفُ [4] ، وَنَسُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَبْدَلُوا بِدِينِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ غَيْرَهُ، فَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ، وَصَارُوا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ مِنْ الضَّلَالَاتِ، وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا، مِنْ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ، وَالطَّوَافِ بِهِ، وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى عَرَفَةَ
__________
[1] فِي الْأُصُول: «فيعبدونه» .
[2] وَيُقَال: إِنَّه أول مَا كَانَ من أَمر عَمْرو هَذَا فِي عبَادَة الْأَصْنَام: أَنه كَانَ حِين غلبت خُزَاعَة على الْبَيْت، ونفت جرهم عَن مَكَّة، جعلته الْعَرَب رَبًّا لَا يبتدع لَهُم بِدعَة إِلَّا اتَّخَذُوهَا شرعة، لِأَنَّهُ كَانَ يطعم النَّاس ويكسوهم فِي الْمَوْسِم، فَرُبمَا نحر فِي الْمَوْسِم عشرَة آلَاف بَدَنَة، وكسا عشرَة آلَاف حلَّة، وَكَانَت هُنَاكَ صَخْرَة يلت عَلَيْهَا السويق للحجاج رجل من ثَقِيف، وَكَانَت تسمى صَخْرَة اللات (أَي الّذي يلت الْعَجِين) فَلَمَّا مَاتَ هَذَا الرجل، قَالَ لَهُم عَمْرو: إِنَّه لم يمت، وَلَكِن دخل فِي الصَّخْرَة، وَأمرهمْ بعبادتها، وَأَن يبنوا عَلَيْهَا بَيْتا يُسمى اللات. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[3] سلخ بهم: خرج بهم.
[4] الخلوف: جمع خلف (بِالْفَتْح) ، وَهُوَ الْقرن بعد الْقرن.(1/77)
وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَهَدْيِ الْبُدْنِ، وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، مَعَ إدْخَالِهِمْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. فَكَانَتْ كِنَانَةُ وَقُرَيْشٌ إذَا أَهَلُّوا قَالُوا: «لَبَّيْكَ اللَّهمّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» . فَيُوَحِّدُونَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يُدْخِلُونَ مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ، وَيَجْعَلُونَ مِلْكَهَا بِيَدِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللَّه إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» .
أَيْ مَا يُوَحِّدُونَنِي لِمَعْرِفَةِ حَقِّي إلَّا جَعَلُوا مَعِي شَرِيكًا مِنْ خَلْقِي.
(الْأَصْنَامُ عِنْدَ قَوْمِ نُوحٍ) :
وَقَدْ كَانَتْ لِقَوْمِ نُوحٍ أَصْنَامٌ قَدْ عَكَفُوا عَلَيْهَا، قَصَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً 71: 23- 24» .
(الْقَبَائِلُ وَأَصْنَامُهَا، وَشَيْءٌ عَنْهَا) :
فَكَانَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا تَلِكَ الْأَصْنَامَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِمْ وَسَمَّوْا بِأَسْمَائِهِمْ حِينَ فَارَقُوا دِينَ إسْمَاعِيلَ: هُذَيْلَ بْنَ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، اتَّخَذُوا سُوَاعًا، فَكَانَ لَهُمْ بُرْهَاطُ [1] . وَكَلْبُ بْنُ وَبْرَةَ مِنْ قُضَاعَةَ، اتَّخَذُوا وَدًّا بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ [2] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ:
وَنَنْسَى اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَوَدَّا ... وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا
[3] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(رَأْيُ ابْنِ هِشَامٍ فِي نَسَبِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَلْبُ بْنُ وَبْرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ ابْن قُضَاعَةَ.
__________
[1] رهاط: من أَرض يَنْبع.
[2] دومة الجندل (بِضَم أَوله وفتحه، وَقد أنكر ابْن دُرَيْد الْفَتْح وعده من أغلاط الْمُحدثين) : من أَعمال الْمَدِينَة، سميت بدوم بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[3] الشنوف: جمع شنف، وَهُوَ القرط الّذي يَجْعَل فِي الْأذن.(1/78)
(يَغُوثُ وَعَبَدَتُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْعُمُ مِنْ طيِّئ، وَأَهْلُ جُرَشَ [1] مِنْ مَذْحِجَ اتَّخَذُوا يَغُوثَ بِجُرَشَ [2] .
(رَأْيُ ابْنِ هِشَامٍ فِي أَنْعُمَ، وَفِي نَسَبِ طيِّئ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَنْعُمُ. وطيِّئ ابْنُ أُدَدَ بْنِ مَالِكٍ، وَمَالِكٌ:
مَذْحِجُ بْنُ أُدَدَ، وَيُقَالُ: طيِّئ ابْن أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ.
(يَعُوقُ وَعَبَدَتُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَيْوَانُ [3] بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ، اتَّخَذُوا يَعُوقَ بِأَرْضِ هَمْدَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ [4] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ [5] مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيُّ [6] :
__________
[1] الْمَعْرُوف أَن جرش فِي حمير، وَأَن مذْحج من كهلان بن سبإ. وَذكر الدارقطنيّ أَن جرش وحرش (بِالْحَاء الْمُهْملَة) أَخَوان، وأنهما ابْنا عليم بن جناب الْكَلْبِيّ، فهما قبيلان من كلب. (رَاجع الرَّوْض الْأنف ص 63، وَشرح السِّيرَة ص 29) . وَعبارَة ابْن الْكَلْبِيّ فِي الْأَصْنَام: «واتخذت مذْحج وَأهل جرش» فَلم يَجْعَل هُوَ الآخر جرش من مذْحج.
[2] جرش (بِالضَّمِّ ثمَّ الْفَتْح وشين مُعْجمَة) : من مخاليف الْيمن من جِهَة مَكَّة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[3] وخيوان أَيْضا: قَرْيَة لَهُم من صنعاء على لَيْلَتَيْنِ مِمَّا يَلِي مَكَّة، وَكَانَ بهَا يعوق هَذَا.
[4] قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ فِي كِتَابه الْأَصْنَام: «وَلم أسمع هَمدَان وَلَا غَيرهَا من الْعَرَب سمت بِهِ، وَلم أسمع لَهَا وَلَا لغَيْرهَا فِيهِ شعرًا، وأظن ذَلِك لأَنهم قربوا من صنعاء، وَاخْتلفُوا بحمير، فدانوا مَعَهم باليهودية، أَيَّام تهود ذِي نواس، فتهودوا مَعَه. وَيرد عَلَيْهِ مَا أوردهُ هُنَا ابْن هِشَام لمَالِك بن نمط الهمدانيّ فِي يعوق من الشّعْر، فَلَعَلَّ ابْن الْكَلْبِيّ لم يَقع عَلَيْهِ، أَو لَعَلَّه يُرِيد أَن يعوق كَانَ أقل خطرا وأركد ذكرا» .
[5] مَكَان هَذِه الْعبارَة وَالْبَيْت وَمَا يتَعَلَّق بِهِ، فِيمَا سَيَأْتِي بعد: « ... بن الْخِيَار» . وَقيل: «وَيُقَال هَمدَان ... إِلَخ» . وَقد رَأينَا تَقْدِيمهَا عَن موضعهَا ليتصل سِيَاق الحَدِيث عَن هَمدَان من غير فصل، وَقد يكون هَذَا مَكَانهَا الأول.
[6] هُوَ أَبُو ثَوْر: ويلقب ذَا المعشار، وَهُوَ من بنى خارف، وَقيل إِنَّه من يام بن أصى، وَكِلَاهُمَا من هَمدَان. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/79)
يَرِيشُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَبْرِي ... وَلَا يَبْرِي يَعُوقُ وَلَا يَرِيشُ
[1] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
(هَمْدَانُ وَنَسَبُهُ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اسْمُ هَمْدَانَ: أَوْسَلَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَوْسَلَةَ بْنِ الْخِيَارِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: أَوْسَلَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَوْسَلَةَ ابْن الْخِيَارِ. وَيُقَالُ: هَمْدَانُ بْنُ أَوْسَلَةَ بْنِ رَبِيعَةَ [2] بْنِ مَالِكِ بْنِ الْخِيَارِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ [3] .
(نَسْرٌ وَعَبَدَتُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذُو الْكُلَاعِ [4] مِنْ حِمْيَرَ، اتَّخَذُوا نَسْرًا بِأَرْضِ حِمْيَرَ [5] .
(عُمْيَانِسُ وَعَبَدَتُهُ) :
وَكَانَ لِخَوْلَانَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ عُمْيَانِسُ [6] بِأَرْضِ خَوْلَانَ، يَقْسِمُونَ لَهُ مِنْ أنعامهم وحروثهم قسم بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ بِزَعَمِهِمْ، فَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ عُمْيَانِسَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي سَمَّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ، وَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِّ عُمْيَانِسَ رَدُّوهُ عَلَيْهِ. وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ خَوْلَانَ، يُقَالُ لَهُمْ الْأَدِيمُ، وَفِيهِمْ أَنَزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَا يَذْكُرُونَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ 6: 136
__________
[1] يريش ويبري: من رَشَّتْ السهْم وبريته، ثمَّ استعير فِي النَّفْع والضر.
[2] فِي أ: «ربيعَة بن الْخِيَار بن مَالك ... إِلَخ» .
[3] والّذي فِي الِاشْتِقَاق لِابْنِ دُرَيْد: أَنه أوسلة بن الْخِيَار بن مَالك بن زيد بن كهلان.
[4] الّذي فِي الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ: أَن عَمْرو بن لحي دفع نسرا هَذَا إِلَى رجل من ذِي رعين من حمير يُقَال لَهُ معديكرب.
[5] كَانَ هَذَا الصَّنَم بِأَرْض يُقَال لَهَا: بلخع، مَوضِع من أَرض سبإ، وَلم تزل تعبده حمير وَمن والاها حَتَّى هودهم ذُو نواس. (رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ، ومعجم الْبلدَانِ لياقوت ج 4 ص 780 طبع أوربا) .
[6] كَذَا فِي الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ. وَفِي أَكثر الْأُصُول: «غم أنس» . وَفِي أوعمود النّسَب للشَّيْخ أَحْمد البدوي الشنقيطى: «عَم أنس» ، وَقد نبه المرحوم أَحْمد زكى باشا أَنه لم يعثر على اسْم كَهَذا الّذي ورد فِي السِّيرَة فِي كتب اللُّغَة.(1/80)
إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ مَا يَحْكُمُونَ 6: 136.
(نَسَبُ خَوْلَانَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: خَوْلَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، وَيُقَالُ: خَوْلَانُ ابْن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ [1] بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِهْسَعَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: خَوْلَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ.
(سَعْدٌ وَعَبَدَتُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ لِبَنِي [2] مِلْكَانَ [3] بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ صَنَمٌ، يُقَالُ لَهُ سَعْدٌ، صَخْرَةٌ بِفَلَاةِ [4] مِنْ أَرْضِهِمْ طَوِيلَةٌ. فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مِلْكَانَ بِإِبِلِ لَهُ مُؤَبَّلَةٌ [5] لِيَقِفَهَا عَلَيْهِ، الْتِمَاسَ بَرَكَتِهِ، فِيمَا يَزْعُمُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْإِبِلُ، وَكَانَتْ مَرْعِيَّةً لَا تُرْكَبُ، وَكَانَ يُهْرَاقُ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، نَفَرَتْ مِنْهُ، فَذَهَبَتْ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَغَضِبَ رَبُّهَا الْمِلْكَانِيُّ، فَأَخَذَ حَجَرًا فَرَمَاهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ:
لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، نَفَّرْتَ عَلَيَّ إبِلِي، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى جَمَعَهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَالَ:
أَتَيْنَا إلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا ... فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ
وَهَلْ سَعْدُ إلَّا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ [6] ... مِنْ الْأَرْضِ لَا تَدْعُو [7] لِغَيٍّ وَلَا رُشْدٍ
(صَنَمُ دَوْسٍ) :
وَكَانَ فِي دَوْسٍ صَنَمٌ [8] لِعَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيِّ.
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «برة» .
[2] عبارَة الْأَصْنَام: «وَكَانَ لمَالِك وملكان ابْني كنَانَة» .
[3] كل ملكان فِي الْعَرَب: فَهُوَ بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام، غير ملكان فِي قضاعة، وملكان فِي السّكُون، فإنّهما بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام.
[4] وَكَانَت تِلْكَ الفلاة بساحل جدة: (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ ج 3 ص 92 طبع أوربا، والأصنام لِابْنِ الْكَلْبِيّ) .
[5] إبل مؤبلة: تتَّخذ للْقنية.
[6] التنوفة: القفر من الأَرْض الّذي لَا ينْبت شَيْئا.
[7] كَذَا فِي الْأُصُول والأصنام، وَفِي مُعْجم الْبلدَانِ لياقوت: «لَا يدعى» .
[8] وَكَانَ يُقَال لهَذَا الصَّنَم: «ذُو الْكَفَّيْنِ» . وَكَانَ لبني منْهب بن دوس بعد دوس، وَلما أَسْلمُوا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّفَيْل بن عَمْرو الدوسيّ فحرقه (رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ) .
6- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/81)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(نَسَبُ دَوْسٍ) :
دوس ابْن عُدْثَانَ [1] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ. وَيُقَالُ: دَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ.
(هُبَلُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اتَّخَذَتْ صَنَمًا عَلَى بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ لَهُ: هُبَلُ [2] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَأَذْكُرُ حَدِيثه إِن سَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ.
(إسَافٌ وَنَائِلَةٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ عَنْهُمَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاتَّخذُوا إسَافًا [3] وَنَائِلَةً، عَلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ [4] يَنْحَرُونَ عِنْدَهُمَا.
وَكَانَ إسَافٌ وَنَائِلَةٌ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ- هُوَ إسَافُ بْنُ بَغْيٍ [5] ، وَنَائِلَةُ بِنْتُ [6] دِيكٍ- فَوَقَعَ إسَافٌ عَلَى نَائِلَةٍ فِي الْكَعْبَةِ، فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:
__________
[1] كَذَا فِي أوالاشتقاق لِابْنِ دُرَيْد. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عدنان» .
[2] وَكَانَ هُبل أعظم أصنام الْعَرَب الَّتِي فِي جَوف الْكَعْبَة وحولها، وَكَانَ من عقيق أَحْمَر على صُورَة إِنْسَان، مكسور الْيَد الْيُمْنَى، أَدْرَكته قُرَيْش كَذَلِك، فَجعلُوا لَهُ يدا من ذهب، وَكَانَ أول من نَصبه خُزَيْمَة ابْن مدركة بن الْيَأْس بن مُضر، وَكَانَ يُقَال لَهُ: هُبل خُزَيْمَة، وَكَانَت تضرب عِنْده القداح: (رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ) .
[3] هُوَ بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا. (رَاجع شرح الْقَامُوس مَادَّة أَسف) .
[4] وَكَانَ أحد هذَيْن الصنمين أَولا بلصق الْكَعْبَة، وَالْآخر فِي مَوضِع زَمْزَم، فنقلت قُرَيْش الّذي كَانَ بلصق الْكَعْبَة إِلَى الآخر، فَكَانَا فِي موضعهما هَذَا. (رَاجع الآلوسي وَابْن الْكَلْبِيّ) .
[5] وَقيل: هُوَ إساف بن يعلى، كَمَا قيل إِنَّه إساف بن عَمْرو، وَقيل: ابْن بغاة. (رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ. ومعجم الْبلدَانِ، وَشرح الْقَامُوس مادتي أَسف ونال، وبلوغ الأرب ج 2 ص 217) .
[6] وَيُقَال: هِيَ نائلة بنت زيد من جرهم، كَمَا قيل: إِنَّهَا نائلة بنت سهل: كَمَا يُقَال إِنَّهَا بنت ذِئْب أَو بنت زفيل. (رَاجع ابْن الْكَلْبِيّ وبلوغ الأرب ومعجم الْبلدَانِ وَشرح الْقَامُوس) .(1/82)
سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ إسَافًا وَنَائِلَةً كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ، أَحْدَثَا [1] فِي الْكَعْبَةِ، فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَجَرَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ [2] :
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السُّيُولِ مِنْ إسَافٍ وَنَائِلِ
[3] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْعَرَبُ مَعَ الْأَصْنَامِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاِتَّخَذَ أَهْلُ كُلِّ دَارٍ فِي دَارِهِمْ صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ سَفَرًا تَمَسَّحَ بِهِ حِينَ يَرْكَبُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ مَا يَصْنَعُ حِينَ يَتَوَجَّهُ إلَى سَفَرِهِ، وَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ تَمَسَّحَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَكَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظِّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ، وَتُهْدِي لَهَا كَمَا تُهْدِي لِلْكَعْبَةِ، وَتَطوف بهَا كَطَوَافِهَا بِهَا، وَتَنْحَرُ عِنْدَهَا. وَهَى تَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا بَيْتُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمَسْجِدُهُ.
(الْعُزَّى وَسَدَنَتُهَا) :
فَكَانَتْ لِقُرَيْشِ وَبَنِيَّ كِنَانَةَ الْعُزَّى [4]
__________
[1] يُرِيد الْحَدث الّذي هُوَ الْفُجُور. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: «من أحدث حَدثا أَو آوى مُحدثا فَعَلَيهِ لعنة الله» .
[2] وَقَالَ أَبُو طَالب هَذَا الشّعْر يحلف باساف ونائلة حِين تحالفت قُرَيْش على بنى هَاشم فِي أَمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ) .
[3] وَقبل هَذَا الْبَيْت:
أحضرت عِنْد الْبَيْت رهطي ومعشرى ... وَأَمْسَكت من أثوابه بالوصائل
(الوصائل: ثِيَاب يَمَانِية بيض، أَو مخططة بخطوط بيض وحمر) .
[4] والعزى: أحدث من اللات وَمَنَاة، فقد سمت الْعَرَب بهما قبل الْعُزَّى، فقد سمى تَمِيم بن مرابنه بزيد مَنَاة، كَمَا سمى ثَعْلَبَة بن عكابة ابْنه بتيم اللات، وَكَانَ عبد الْعُزَّى بن كَعْب من أقدم مَا سمت بِهِ الْعَرَب، وَكَانَ الّذي اتخذ الْعُزَّى ظَالِم بن أسعد، وَكَانَت أعظم الْأَصْنَام عِنْد قُرَيْش، وَكَانُوا يزورونها، ويهدون لَهَا، ويتقربون عِنْدهَا بِالذبْحِ. وَقد قيل: إِن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرهَا يَوْمًا، فَقَالَ: «لقد(1/83)
بِنَخْلَةٍ [1] ، وَكَانَ سَدَنَتَهَا وَحُجَّابَهَا بَنُو شَيْبَانَ [2] ، مِنْ سُلَيْمٍ، حُلَفَاءِ بَنِي هَاشِمٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حُلَفَاءُ (بَنِي) [3] أَبِي طَالِبٍ خَاصَّةً، وَسُلَيْمٌ: سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورِ ابْن عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ:
لَقَدْ أُنْكِحَتْ أَسْمَاءُ رَأْسَ [4] بُقَيْرَةٍ ... مِنْ الْأُدْمِ أَهْدَاهَا امْرُؤٌ مِنْ بَنِي غَنْمِ [5]
رَأَى قَدَعَا [6] فِي عَيْنِهَا إذْ يَسُوقُهَا ... إلَى غَبْغَبِ الْعُزَّى فَوَسَّعَ [7] فِي الْقَسْمِ
وَكَذَلِكَ كَانُوا يَصْنَعُونَ إذَا نَحَرُوا هَدْيًا قَسَّمُوهُ فِي مَنْ حَضَرَهُمْ. وَالْغَبْغَبُ:
الْمَنْحَرُ وَمِهْرَاقُ الدِّمَاءِ.
__________
[ () ] أهديت للعزى شَاة عفراء، وَأَنا على دين قومِي» . وَلَقَد بلغ من حرص قُرَيْش على عبادتها أَنه لما مرض أَبُو أحيحة مَرضه الّذي مَاتَ فِيهِ دخل عَلَيْهِ أَبُو لَهب يعودهُ، فَوَجَدَهُ يبكى، فَقَالَ: مَا يبكيك يَا أَبَا أحيحة! أَمن الْمَوْت تبكى، وَلَا بُد مِنْهُ؟ قَالَ: لَا وَالله، وَلَكِن أَخَاف أَن لَا تعبد الْعُزَّى بعدِي، قَالَ أَبُو لَهب:
وَالله مَا عبدت حياتك لِأَجلِك، وَلَا تتْرك عبادتها بعْدك لموتك، فَقَالَ أَبُو أحيحة: الْآن علمت أَن لي للَّه خَليفَة. وَأَعْجَبهُ من أَبى لَهب شدَّة نَصبه فِي عبادتها: (رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ، ومعجم الْبلدَانِ لياقوت) .
[1] هِيَ نَخْلَة الشامية، وَكَانَت الْعُزَّى بواد مِنْهَا، يُقَال لَهُ الحراض، بِإِزَاءِ الغمير عَن يَمِين المصعد إِلَى الْعرَاق من مَكَّة، وَذَلِكَ فَوق ذَات عرق إِلَى الْبُسْتَان بِتِسْعَة أَمْيَال، وَقد حمت قُرَيْش للعزى شعبًا من وَادي الحراض، يُقَال لَهُ: سقام. يضاهون بِهِ حرم الْكَعْبَة. (رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ، ومعجم الْبلدَانِ لياقوت) .
[2] وشيبان: ابْن جَابر بن مرّة بن عبس بن رِفَاعَة بن الْحَارِث بن عتبَة بن سليم بن مَنْصُور. وَكَانَ آخر من سدنها من بنى شَيبَان دبية بن حرمي السّلمِيّ، وَله يَقُول أَبُو خرَاش الْهُذلِيّ- وَكَانَ قد قدم عَلَيْهِ فحذاه نَعْلَيْنِ- أبياتا، مِنْهَا:
حذانى بعد مَا خدمت نعالى ... دبية، إِنَّه نعم الْخَلِيل
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ ج 3 ص 665 طبع أوربا، والأصنام لِابْنِ الْكَلْبِيّ) .
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] فِي الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ: «لحي» . واللحى: عظم الحنك، وَهُوَ الّذي عَلَيْهِ الْأَسْنَان.
[5] هُوَ غنم بن فراس بن كنَانَة.
[6] كَذَا فِي الْأُصُول، والقدع: السدر فِي الْعين، وَفِي الْفَائِق للزمخشري: القدع: انسلاق الْعين من كَثْرَة الْبكاء. وَفِي الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ: «قذعا» بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة. والقذع: الْبيَاض.
[7] كَذَا فِي الْأُصُول. وَفِي الْأَصْنَام: «فَوضع» . وَفِي الْفَائِق للزمخشري: «فَنصف» . يُرِيد أَن يشبه هَذَا الممدوح بِرَأْس بقرة قد قاربت أَن يذهب بصرها، فَلَا تصلح إِلَّا للذبح والتقسيم.(1/84)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِأَبِي خِرَاشٍ: الْهُذَلِيِّ [1] ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ مُرَّةَ، فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
(مَعْنَى السَّدَنَةِ) :
وَالسَّدَنَةُ: الَّذِينَ يَقُومُونَ بِأَمْرِ الْكَعْبَةِ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
فَلَا وَرَبِّ الْآمِنَاتِ الْقُطَّنِ [2] ... بِمَحْبَسِ الْهَدْى وَبَيْتِ الْمَسْدَنِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ [3] فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ، وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ.
(اللَّاتُ وَسَدَنَتُهَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ اللَّاتُ [4] لِثَقِيفِ بِالطَّائِفِ، وَكَانَ سَدَنَتَهَا وَحُجَّابَهَا بَنُو مُعَتِّبٍ [5] مِنْ ثَقِيفٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ.
(مَنَاةُ وَسَدَنَتُهَا وَهَدْمُهَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ مَنَاةُ [6] لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشَلَّلِ بِقُدَيْدٍ [7] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ بَنِي أَسْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ:
وَقَدْ آلَتْ قَبَائِلُ لَا تُوَلَّى ... مَنَاةَ ظُهُورَهَا مُتَحَرَّفِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
__________
[1] قَالَ أَبُو خرَاش هَذَا الشّعْر يهجو بِهِ رجلا تزوج امْرَأَة جميلَة يُقَال لَهَا أَسمَاء.
[2] يُرِيد حمام مَكَّة، لِأَنَّهُ آمن فِي حرمه والأرجوزة فِي ديوانه، طبع ليبسج (160- 165) .
[3] هَذَا على أَنه من مشطور الرجز.
[4] وَهِي أحدث من مَنَاة، وَكَانَت صَخْرَة مربعة.
[5] فِي الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ: «وَكَانَ سدنتها من ثَقِيف بَنو عتاب بن مَالك» .
[6] وَكَانَت مَنَاة أقدمها كلهَا، وَلم يكن أحد أَشد إعظاما لَهَا من الْأَوْس والخزرج.
(رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ) .
[7] قديد: مَوضِع قرب مَكَّة. والمشلل: جبل يهْبط مِنْهُ إِلَى قديد من نَاحيَة الْبَحْر. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/85)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَهَدَمَهَا. وَيُقَالُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ [1] .
(ذُو الْخَلَصَةِ وَسَدَنَتُهُ وَهَدْمُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ [2] لِدَوْسٍ وَخَثْعَمَ وَبَجِيلَةَ، وَمَنْ كَانَ بِبِلَادِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ بِتَبَالَةَ [3] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: ذُو الْخُلُصَةِ. قَالَ: رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ:
لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخُلُصِ الْمَوْتُورَا ... مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُكَ الْمَقْبُورَا
لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا
قَالَ: وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ، فَأَرَادَ الطَّلَبَ بِثَأْرِهِ، فَأَتَى ذَا الْخَلَصَةِ، فَاسْتَقْسَمَ عِنْدَهُ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ بِنَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْحِلُهَا امْرَأَ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيَّ [4] . فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرِيرَ ابْن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ فَهَدَمَهُ.
__________
[1] وعَلى هَذَا الرأى ابْن الْكَلْبِيّ فِي كِتَابه الْأَصْنَام، وَيُقَال إِن عليا لما هدمها أَخذ مَا كَانَ لَهَا، فَأقبل بِهِ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِيمَا أَخذ سيفان كَانَ الْحَارِث بن أَبى شمر الغساني ملك غَسَّان أهداهما لَهَا، أَحدهمَا يُسمى «مخذما» ، وَالْآخر «رسوبا» ، وهما سَيْفا الْحَارِث اللَّذَان ذكرهمَا عَلْقَمَة فِي شعره:
فَقَالَ:
مظَاهر سربالى حَدِيد عَلَيْهِمَا ... عقيلا سيوف: مخذم ورسوب
فوهبهما النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى. كَمَا يُقَال إِن عليا وجد هذَيْن السيفين فِي الْفلس، صنم للْعَرَب. وَإِلَى هَذَا الرأى الْأَخير ذهب ابْن إِسْحَاق عِنْد الْكَلَام على فلس. (رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ وبلوغ الأرب ج 2 ص 218) .
[2] وَكَانَ ذُو الخلصة مروة بَيْضَاء منقوشة عَلَيْهَا كَهَيئَةِ التَّاج، وَكَانَ سدنتها بَنو أُمَامَة، من باهلة ابْن أعصر.
[3] تبَالَة: قرب مَكَّة على مسيرَة سبع لَيَال مِنْهَا، وَذُو الْخصْلَة الْيَوْم عتبَة بَاب مَسْجِد تبَالَة (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ، والأصنام، وخزانة الْأَدَب للبغدادى ج 1 ص 92. والآلوسي ج 2 ص 223) .
[4] وَمن ينْحل هَذَا الرجز امْرأ الْقَيْس يَقُول إِنَّه هُوَ الّذي استقسم بالأزلام عِنْد ذِي الخلصة لما وترته بَنو أَسد بقتل أَبِيه، وَأَنه استقسم بِثَلَاثَة أزلام وَهِي الزاجر، والآمر، والمربض، فَخرج لَهُ الزاجر، فسب الصَّنَم ورماه بِالْحِجَارَةِ، وَقَالَ لَهُ: اعضض بظر أمك. وَأَنه لم يستقسم أحد عِنْد ذِي الخلصة بعده حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/86)
(فِلْسٌ وَسَدَنَتُهُ وَهَدْمُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ فِلْسُ [1] لِطَيِّئٍ وَمَنْ يَلِيهَا بِجَبَلَيْ طيِّئ، يَعْنِي سَلْمَى وَأَجَأَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَهَدَمَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا سَيْفَيْنِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا:
الرَّسُوبُ، وَلِلْآخِرِ: الْمِخْذَمُ. فَأَتَى بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَهُمَا لَهُ، فَهُمَا سَيْفَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(رِئَامٌ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ لِحِمْيَرَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ بَيْتٌ بِصَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ: رِئَامٌ [2] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَدْ ذَكَرْتُ حَدِيثَهُ فِيمَا مَضَى
[3] .
(رُضَاءٌ وَسَدَنَتُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ رُضَاءٌ [4] بَيْتًا لِبَنِي رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَلَهَا يَقُولُ المُسْتَوْغِرُ [5] بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ حِينَ هَدَمَهَا فِي الْإِسْلَامِ:
وَلَقَدْ شَدَدْتُ عَلَى رُضَاءٍ شَدَّةً ... فَتَرَكْتُهَا قَفْرًا بِقَاعِ أَسْحَمَا
[6]
__________
[1] كَذَا فِي الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ، وَكَانَ أنفًا أَحْمَر فِي وسط جبلهم الّذي يُقَال لَهُ أجأ، كَأَنَّهُ تِمْثَال إِنْسَان، وَكَانُوا يعبدونه ويهدون إِلَيْهِ، وَلَا يَأْتِيهِ خَائِف إِلَّا أَمن عِنْده، وَكَانَت سدنته بَنو بولان.
وبولان هُوَ الّذي بَدَأَ بِعِبَادَتِهِ. وَفِي الأَصْل: قلس (بِالْقَافِ) ، وَهُوَ تَصْحِيف.
[2] كَذَا فِي الْأُصُول، وَهُوَ يتَّفق وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْبَغْدَادِيّ. وَفِي صفة جَزِيرَة الْعَرَب للهمدانى «ريام» بِالْمُثَنَّاةِ.
[3] رَاجع الْكَلَام عَلَيْهِ (ص 28 من هَذَا الْجُزْء) .
[4] وَيذكر بعض الروَاة أَنه «رضى» بِالْقصرِ، وَأوردهُ الْبَغْدَادِيّ ممدودا، وَورد ممدودا فِي بَيت المستوغر الْمَذْكُور بعد.
[5] واسْمه كَعْب، وَقيل عَمْرو، وسمى مستوغرا لقَوْله:
ينش المَاء فِي الربلات مِنْهُ ... نشيش الرضف فِي اللَّبن الوغير
(رَاجع الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ، وَالرَّوْض الْأنف، وَكتاب المعمرين لأبى حَاتِم السجسْتانِي، ومعجم الْبلدَانِ) .
[6] القاع: المنخفض من الأَرْض. وَرِوَايَة هَذَا الشّطْر فِي الْأَصْنَام:
فتركتها تَلا تنَازع أسحما(1/87)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ:
فَتَرَكْتهَا قَفْرًا بِقَاعِ أَسْحَمَا
عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ.
(المُسْتَوْغِرُ وَعُمْرُهُ) :
وَيُقَالُ: إنَّ الْمُسْتَوْغِرَ عُمِّرَ ثَلَاثَ ماِئَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَطْوَلَ مُضَرَ [1] كُلِّهَا عُمْرًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنْ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَعَمَرْتُ مِنْ عَدَدِ السنين مئينا
مائَة حَدَتْهَا بَعْدَهَا مِائَتَانِ لِي ... وَازْدَدْتُ مِنْ عَدَدِ الشُّهُورِ سِنِينَا
هَلْ مَا بَقِيَ إلَّا كَمَا قَدْ فَاتَنَا ... يَوْمٌ يَمُرُّ وَلَيْلَةٌ تَحْدُونَا
وَبَعْضُ النَّاسِ يَرْوِي هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيِّ
[2] .
(ذُو الْكَعَبَاتِ وَسَدَنَتُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ ذُو الْكَعَبَاتِ لِبَكْرِ وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلٍ وَإِيَادٍ بِسَنْدَادٍ [3] وَلَهُ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ [4] وَالسَّدِيرِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الْكَعَبَاتِ [5] مِنْ سَنْدَادِ
__________
[1] ذكر بَعضهم أَن المستوغر حضر سوق عكاظ، وَمَعَهُ ابْن ابْنه وَقد هرم وَالْجد يَقُودهُ. فَقَالَ لَهُ رجل: ارْفُقْ بِهَذَا الشَّيْخ فقد طَال مَا رفق بك، فَقَالَ: وَمن ترَاهُ؟ قَالَ: هُوَ أَبوك أَو جدك، فَقَالَ:
مَا هُوَ إِلَّا ابْن ابْني، فَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ، وَلَا المستوغر بن ربيعَة، فَقَالَ: أَنا المستوغر، وَذكر هَذِه الأبيات، وَقد سَاق عَنهُ السجسْتانِي فِي المعمرين حَدِيثا طَويلا.
[2] هُوَ من المعمرين أَيْضا: كالمستوغر بن ربيعَة، وَيُقَال إِنَّه عَاشَ 420 سنة، وأوقع مِائَتي وقْعَة، وَمن شعره لِبَنِيهِ:
أبنى إِن أهلك فَإِنِّي ... قد بنيت لكم بنيه
وتركتكم أَبنَاء سَادَات ... زنادهم وريه
من كل مَا نَالَ الْفَتى ... قد نلته إِلَّا التَّحِيَّة
(رَاجع كتاب المعمرين) .
[3] سنداد (بِكَسْر السِّين وَفتحهَا) : منَازِل لاياد أَسْفَل سَواد الْكُوفَة، وَرَاء نَجْرَان الْكُوفَة. (عَن مُعْجم الْبلدَانِ) .
[4] الخورنق: قصر بناه النُّعْمَان الْأَكْبَر ملك الْحيرَة لسابور ليَكُون وَلَده فِيهِ عِنْده، وبناه بنيانا عجيبا لم تَرَ الْعَرَب مثله، بناه لَهُ سنمار، وَله مَعَه حَدِيث مَشْهُور، وَمعنى السدير (بِالْفَارِسِيَّةِ) : بَيت الْملك
[5] الكعبات: يُرِيد التربيع، وكل بِنَاء يبْنى مربعًا، فَهُوَ كعبة.(1/88)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ لِلْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ النَّهْشَلِيِّ. نَهْشَلُ بْنُ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ ابْن حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَأَنْشَدَنِيهِ أَبُو مُحْرِزٍ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ:
أَهْلُ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الشُّرُفَاتِ مِنْ سِنْدَادِ
أَمْرُ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي
(رَأْيُ ابْنِ إِسْحَاقَ فِيهَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَمَّا الْبَحِيرَةُ فَهِيَ بِنْتُ السَّائِبَةِ، وَالسَّائِبَةُ: النَّاقَةُ إذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، سُيِّبَتْ فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهَا، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهَا وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ، فَمَا نُتِجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّتْ أُذُنُهَا، ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهَا، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا، فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ. وَالْوَصِيلَةُ: الشَّاةُ إذَا أَتْأَمَتْ [1] عَشْرَ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ، لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، جُعِلَتْ وَصِيلَةً.
قَالُوا: قَدْ وَصَلَتْ، فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ إنَاثِهِمْ، إلَّا أَنْ يَمُوتَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَشْتَرِكُوا فِي أَكْلِهِ، ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيَرْوِي: فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِذُكُورِ بَنِيهِمْ دُونَ بَنَاتِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْحَامِي: الْفَحْلُ إذَا نُتِجَ لَهُ عَشْرُ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، حُمِيَ ظَهْرُهُ فَلَمْ يُرْكَبْ، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهُ، وَخُلِّيَ فِي إبِلِهِ يَضْرِبُ فِيهَا، لَا يُنْتَفَعُ مِنْهُ بِغَيْر ذَلِك.
(رأى ابْن هِشَام فِيهَا) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا (كُلُّهُ) [2] عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِ هَذَا إلَّا الْحَامِي، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ. فَالْبَحِيرَةُ عِنْدَهُمْ: النَّاقَةُ تُشَقُّ أُذُنُهَا فَلَا يُرْكَبُ ظَهْرُهَا، وَلَا يُجَزَّ وَبَرُهَا، وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ. أَوْ يُتَصَدَّقُ بِهِ،
__________
[1] أتأمت: جَاءَت بِاثْنَيْنِ فِي بطن وَاحِد.
[2] زِيَادَة عَن أ.(1/89)
وَتُهْمَلُ لِآلِهَتِهِمْ. وَالسَّائِبَةُ: الَّتِي يَنْذِرُ الرَّجُلُ أَنْ يسيبها إِن بَرِيء مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ إنْ أَصَابَ أَمْرًا يَطْلُبُهُ. فَإِذَا كَانَ أَسَابَ نَاقَةً مِنْ إبِلِهِ أَوْ جَمَلًا لِبَعْضِ آلِهَتهمْ، فَسَابَتْ فَرَعَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا. وَالْوَصِيلَةُ: الَّتِي تَلِدُ أُمُّهَا اثْنَيْنِ فِي كُلِّ بَطْنٍ، فَيَجْعَلُ صَاحِبُهَا لِآلِهَتِهِ الْإِنَاثَ (مِنْهَا) [1] وَلِنَفْسِهِ الذُّكُورُ مِنْهَا، فَتَلِدُهَا أُمُّهَا وَمَعَهَا ذَكَرٌ فِي بَطْنٍ، فَيَقُولُونَ: وَصَلَتْ أَخَاهَا. فَيُسَيَّبُ أَخُوهَا مَعَهَا فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ [2] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ النَّحْوِيُّ وَغَيْرُهُ، رَوَى بَعْضٌ مَا لَمْ يَرْوِ بَعْضٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَزَلَ عَلَيْهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ 5: 103 وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ 6: 139. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ 10: 59. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمن الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ 6: 143 أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 6: 144.
(الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي لُغَةً) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ الشَّاعِرُ:
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] وَالْكَلَام فِي الْبحيرَة وَأَخَوَاتهَا كثير مُخْتَلف فِيهِ، وَقد ذكر الآلوسي معظمه. (رَاجع بُلُوغ الأرب ج 3 ص 34- 39) .(1/90)
حَوْلُ الْوَصَائِلِ [1] فِي شُرَيْفٍ [2] حِقَّةٌ ... وَالْحَامِيَاتُ ظُهُورَهَا وَالسُّيَّبُ
وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أُبَيِّ (بْنِ) [3] مُقْبِلٍ أَحَدِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ:
فِيهِ مِنْ الْأَخْرَجِ [4] الْمِرْبَاعِ [5] قَرْقَرَةٌ [6] ... هَدْرَ الدِّيَافِي [7] وَسْطَ الْهَجْمَةِ الْبُحُرِ
[8] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَجَمْعُ بَحِيرَةٍ: بَحَائِرُ وَبُحُرٌ. وَجَمْعُ وَصِيلَةٍ: وَصَائِلُ وَوُصَلٌ. وَجَمْعُ سَائِبَةٍ (الْأَكْثَرُ) : سَوَائِبُ وَسُيَّبُ. وَجَمْعُ حَامٍ (الْأَكْثَرُ) : حُوَّمٌ.
عُدْنَا إلَى سِيَاقَةِ النَّسَبِ
(نَسَبُ خُزَاعَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخُزَاعَةُ تَقُولُ: نَحْنُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، مِنْ الْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتَقُولُ خُزَاعَةُ: نَحْنُ بَنُو عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو ابْن عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ، وَخِنْدِفُ أُمُّهَا [9] ، فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَيُقَالُ خُزَاعَةُ:
بَنُو حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ خُزَاعَةَ لِأَنَّهُمْ تَخَزَّعُوا [10] مِنْ وَلَدِ عَمْرِو
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الفصائل» .
[2] الشريف (مُصَغرًا) : مَاء لبني نمير، وَيُقَال إِنَّه سرة بِنَجْد، وَهُوَ أَمر نجد موضعا.
قَالَ أَبُو زِيَاد: وَأَرْض بنى نمير: الشريف، دارها كلهَا بالشريف إِلَّا بَطنا وَاحِدًا بِالْيَمَامَةِ. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[3] زِيَادَة عَن أومعجم الْبلدَانِ، والإصابة.
[4] الأخرج: الظليم الّذي فِيهِ بَيَاض وَسَوَاد، يُرِيد حمَار الْوَحْش.
[5] كَذَا فِي الْأُصُول. والمرباع: الْفَحْل الّذي يبكر بالإلقاح، وَيُقَال للناقة أَيْضا: مرباع إِذا بكرت بالنتاج، وَقيل: المرباع: الّذي رعى فِي الرّبيع، ويروى: «المرياع» بِالْيَاءِ المنقوطة بِاثْنَتَيْنِ من أَسْفَل، على أَنه مفعال من رَاع يريع: أَي رَجَعَ.
[6] القرقرة: هدير الْفَحْل.
[7] دياف: (بِكَسْر أَوله) بلد بِالشَّام. وَقيل من قرى الجزيرة.
[8] الهجمة: الْقطعَة من الْإِبِل. وَالْبَحْر: جمع بحيرة، وَهِي المشقوقة الآذان، وَجعلهَا بحرا لِأَنَّهَا تأمن من الغارات، يصفها بالمنعة والحماية كَمَا تأمن الْبحيرَة من أَن تذبح أَو تنحر.
[9] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أمنا» .
[10] تخزع: تَأَخّر وَانْقطع.(1/91)
ابْن عَامِرٍ، حِينَ أَقْبَلُوا مِنْ الْيَمَنِ يُرِيدُونَ الشَّامَ، فَنَزَلُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَأَقَامُوا بِهَا.
قَالَ عَوْنُ [1] بْنُ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ الْخَزْرَجِ فِي الْإِسْلَامِ:
فَلَمَّا هَبَطْنَا بَطْنَ مُرٍّ تَخَزَّعَتْ ... خُزَاعَةُ مِنَّا فِي خُيُولٍ [2] كَرَاكِرِ [3]
حَمَتْ كُلَّ وَادٍ مِنْ تِهَامَةَ وَاحْتَمَّتْ ... بِصُمِّ الْقَنَا وَالْمُرْهِفَاتِ الْبَوَاتِرِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْمُطَهَّرِ إسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ ابْن الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.
فَلَمَّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَكَّةَ أَحْمَدَتْ ... خُزَاعَةُ دَارَ الْآكِلِ الْمُتَحَامِلِ
فَحَلَّتْ أَكَارِيسَا [4] وَشَتَّتْ [5] قَنَابِلًا [6] ... عَلَى كُلِّ حَيٍّ بَيْنَ نَجْدٍ وَسَاحِلِ
نَفَوْا جُرْهُمًا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ وَاحْتَبَوْا ... بِعِزِّ خُزَاعِيٍّ شَدِيدِ الْكَوَاهِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَأَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَذْكُرُ نَفْيَهَا جُرْهُمًا فِي مَوْضِعِهِ.
(أَوْلَادُ مُدْرِكَةَ وَخُزَيْمَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ مُدْرِكَةُ بْنُ إلْيَاسَ رَجُلَيْنِ: خُزَيْمَةَ بْنَ مُدْرِكَةَ، وَهُذَيْلَ بْنَ مُدْرِكَةَ، وَأُمُّهُمَا امْرَأَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ. فَوَلَدَ خُزَيْمَةُ بْنُ مُدْرِكَةَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ: كِنَانَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَأَسَدَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَأَسَدَةَ بْنَ [7] خُزَيْمَةَ،
__________
[1] كَذَا فِي أ، ومعجم الْبلدَانِ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عَوْف» . وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ. وَالرَّوْض الْأنف، وَشرح السِّيرَة: «حُلُول» . والحلول:
الْبيُوت الْكَثِيرَة.
[3] كراكر: جماعات، وَقيل هُوَ خَاص بجماعات الْخَيل.
[4] كَذَا فِي أوشرح السِّيرَة. والأكاريس: الْجَمَاعَات من النَّاس. وَقد وَردت هَذِه الْكَلِمَة فِي سَائِر الْأُصُول محرفة.
[5] كَذَا فِي شرح السِّيرَة. وشتت: فرقت. وَفِي أ: «سنت» ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «شنت» ، وَالظَّاهِر أَن كليهمَا مصحف عَمَّا أَثْبَتْنَاهُ.
[6] القنابل: جمع قنبلة، وَهِي الْقطعَة من الْخَيل.
[7] لم يذكر ابْن قُتَيْبَة فِي المعارف «أسدة» ولدا لخزيمة، وَاقْتصر على إخْوَته الثَّلَاثَة.(1/92)
وَالْهُونَ بْنَ خُزَيْمَةَ، فَأُمُّ كِنَانَةَ عُوَانَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ الْهَوْنُ بْنُ خُزَيْمَةَ.
(أَوْلَادُ كِنَانَةَ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ كِنَانَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ: النَّضَرَ بْنَ كِنَانَةَ، وَمَالِكَ بْنَ كِنَانَةَ، وَعَبْدَ مَنَاةَ بْنَ كِنَانَةَ، وَمِلْكَانَ بْنَ كِنَانَةَ [1] . فَأُمُّ النَّضْرِ بَرَّةُ بِنْتُ مُرِّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَسَائِرُ بَنِيهِ لِامْرَأَةِ أُخْرَى.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُمُّ النَّضر وَمَالك زملكان: بَرَّةُ بِنْتُ مُرٍّ، وَأُمُّ عَبْدِ مَنَاةَ:
هَالَةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ الْغِطْرِيفِ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ. وَشَنُوءَةُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ، وَإِنَّمَا سُمُّوا شَنُوءَةَ، لِشَنَآنِ كَانَ بَيْنَهُمْ. والشَّنَآنُ: الْبُغْضُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: النَّضْرُ: قُرَيْشٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ. قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ أَحَدُ بَنِي كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ تَمِيمِ بْنِ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
فَمَا الْأُمُّ الَّتِي وَلَدَتْ قُرَيْشًا ... بِمُقْرِفَةِ النَّجَّارِ وَلَا عَقِيمِ [2]
وَمَا قَرْمٌ [3] بِأَنْجَبَ مِنْ أَبِيكُمْ ... وَمَا خَالٌ بِأَكْرَمَ مِنْ تَمِيمِ
يَعْنِي بَرَّةَ بِنْتَ مُرٍّ أُخْتَ تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ، أُمُّ النَّضْرِ. وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَيُقَالُ: فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ: قُرَيْشٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا مِنْ التَّقَرُّشِ، وَالتَّقَرُّشُ:
التِّجَارَةُ وَالِاكْتِسَابُ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
قَدْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنْ الشُّغُوشِ ... وَالْخَشْلِ مِنْ تَسَاقُطِ الْقُرُوشِ
شَحْمٌ وَمَحْضٌ لَيْسَ بِالْمَغْشُوشِ
[4]
__________
[1] وَزَاد الطَّبَرِيّ فِي ولد كنَانَة: عَامِرًا، والْحَارث، وَالنضير، وَغنما، وسعدا، وعوفا، وجرولا، وَالرِّجَال، وغزوان.
[2] المقرفة: اللئيمة. والنجار: الأَصْل. والعقيم: الَّتِي لَا تحمل.
[3] القرم: الْفَحْل من الْإِبِل، واستعاره هُنَا للرجل السَّيِّد.
[4] من أرجوزة لَهُ يمدح الْحَارِث بن سليم الهُجَيْمِي (ديوَان طبع ليبسج 77- 79) .(1/93)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالشُّغُوشُ: قَمْحٌ، يُسَمَّى الشُّغُوشَ. وَالْخَشْلُ: رُءُوسُ الْخَلَاخِيلِ وَالْأَسْوِرَةِ [1] وَنَحْوِهِ. وَالْقُرُوشُ: التِّجَارَةُ وَالِاكْتِسَابُ. يَقُولُ: قَدْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنْ هَذَا شَحْمٌ وَمَحْضٌ. وَالْمَحْضُ: اللَّبَنُ الْحَلِيبُ الْخَالِصُ.
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. وَقَالَ أَبُو جِلْدَةَ [2] الْيَشْكُرِيُّ، وَيَشْكُرُ بْنُ بَكْرِ ابْن وَائِلٍ:
إخْوَةٌ قَرَشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ عُمْرِنَا وَقَدِيمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَيُقَالُ: إنَّمَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا لِتَجَمُّعِهَا مِنْ بَعْدِ تَفَرُّقِهَا، وَيُقَالُ لِلتَّجَمُّعِ: التَّقَرُّشُ.
(أَوْلَادُ النَّضْرِ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
فَوَلَدَ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ رَجُلَيْنِ: مَالِكَ بْنَ النَّضْرِ، وَيَخْلُدَ بْنَ النَّضْرِ، فَأُمُّ مَالِكٍ: عَاتِكَةُ بِنْتُ عَدْوَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ، وَلَا أَدْرِي أَهِيَ أُمُّ يَخْلُدَ أَمْ لَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالصَّلْتُ بْنُ النَّضْرِ- فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيُّ- وَأُمُّهُمْ جَمِيعًا بِنْتُ سَعْدِ بْنِ ظَرِبٍ الْعَدْوَانِيِّ. وَعَدْوَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ. قَالَ كُثَيِّرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ أَحَدُ بَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ خُزَاعَةَ:
أَلَيْسَ أَبِي بِالصَّلْتِ أَمْ لَيْسَ إخْوَتِي ... لِكُلِّ هِجَانٍ مِنْ بَنِي النَّضْرِ أَزْهَرَا [3]
رَأَيْتُ ثِيَابَ الْعَصْبِ مُخْتَلِطَ السَّدَى [4] ... بِنَّا وَبِهِمْ وَالْحَضْرَمِيَّ الْمُخَصَّرَا [5]
__________
[1] وَيُقَال: الخشل (هُنَا) : الْمقل (هُوَ ثَمَر الدوم) . والقروش: مَا تساقط من حتاته، وتقشر مِنْهُ.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «أَبُو خلدَة» بخاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة وَلَام سَاكِنة، كَمَا يرْوى:
(حلزة) أَيْضا.
[3] الهجان: الْكَرِيم، مَأْخُوذ من الهجنة، وَهِي الْبيَاض. والأزهر: الْمَشْهُور.
[4] ثِيَاب العصب: ثِيَاب يمنية، لِأَنَّهَا تصبغ بالعصب. وَلَا ينْبت العصب وَلَا الورس إِلَّا بِالْيمن.
يُرِيد أَن قدورنا من قدورهم، فسدى أثوابنا مختلط بسدى أثوابهم.
[5] الحضرميّ: النِّعَال. والمخصرة: الَّتِي تضيق من جانبيها، كَأَنَّهَا نَاقِصَة الخصرين.(1/94)
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مِنْ بَنِي النَّضْرِ فَاتْرُكُوا ... أَرَاكًا بِأَذْنَابِ الْفَوَائِجِ [1] أَخْضَرَا
وَهَذِهِ [2] الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَاَلَّذِينَ يُعْزَوْنَ إلَى الصَّلْتِ بْنِ النَّضْرِ مِنْ خُزَاعَةَ، بَنُو مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو، رَهْطُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ.
(وَلَدُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ وَأُمُّهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ، وَأُمُّهُ جَنْدَلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَيْسَ بِابْنِ مُضَاضٍ الْأَكْبَرِ.
(أَوْلَادُ فِهْرٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ: غَالِبَ بْنَ فِهْرٍ، وَمُحَارِبَ ابْن فِهْرٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ فِهْرٍ، وَأَسَدَ بْنَ فِهْرٍ، وَأُمُّهُمْ لَيْلَى بِنْتُ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ ابْن مُدْرِكَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَجَنْدَلَةُ بِنْتُ فِهْرٍ، وَهِيَ أُمُّ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ يَدِ [3] مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَأُمُّهَا لَيْلَى بِنْتُ سَعْدٍ. قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ بْنِ الْخَطَفِيِّ- وَاسْمُ الْخَطَفِيِّ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ
وَإِذَا غَضِبْتُ رَمَى وَرَائِي بِالْحَصَى ... أَبْنَاءُ جَنْدَلَةٍ كَخَيْرِ الْجَنْدَلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
(أَوْلَادُ غَالِبٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ غَالِبُ بْنُ فِهْرٍ رَجُلَيْنِ: لُؤَيَّ بْنَ غَالِبٍ، وَتَيْمَ بْنَ غَالِبٍ، وَأُمُّهُمَا سَلْمَى [4] بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ. وَتَيْمُ بْنُ غَالِبٍ: الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَدْرَمِ [5] .
__________
[1] الفوائج: رُءُوس الأودية، وَقيل هِيَ عُيُون بِعَينهَا.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ: وَهَذِه ... إِلَخ» .
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «زيد بن مَنَاة» .
[4] وَيُقَال إِن أم لؤيّ عَاتِكَة بنت يخلد بن النَّضر بن كنَانَة، وَهِي أول العواتك اللَّاتِي ولدن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قُرَيْش. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[5] الأدرم: المدفون الْكَعْبَيْنِ من اللَّحْم. وَهُوَ أَيْضا المتقوس الذقن، وَيُقَال إِن تيم بن غَالب كَانَ(1/95)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَيْسُ بْنُ غَالِبٍ، وَأُمُّهُ سَلْمَى بِنْتُ كَعْبِ [1] بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ، وَهِيَ أُمُّ لُؤَيٍّ وَتَيْمٍ ابْنَيْ غَالِبٍ.
(أَوْلَادُ لُؤَيٍّ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ: كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ ابْن لُؤَيٍّ، وَسَامَةَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَوْفَ [2] بْنَ لُؤَيٍّ، فَأُمُّ كَعْبٍ وَعَامِرٍ وَسَامَةَ:
مَاوِيَّةُ [3] بِنْتُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ، مِنْ قُضَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: وَالْحَارِثُ بْنُ [4] لُؤَيٍّ، وَهُمْ جُشَمُ بْنُ الْحَارِثِ، فِي هِزَّانَ مِنْ رَبِيعَةَ. قَالَ جَرِيرٌ:
بَنِي جُشَمٍ لَسْتُمْ لِهِزَّانَ فَانْتَمُوا ... لِأَعْلَى الرَّوَابِي [5] مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ [6]
وَلَا تُنْكِحُوا فِي آلِ ضَوْرٍ نِسَاءَكُمْ ... وَلَا فِي شُكَيْسٍ بِئْسَ مَثْوَى الْغَرَائِبِ
[7] وَسَعْدُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَهُمْ بُنَانَةُ: فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ ابْن بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، مِنْ رَبِيعَةَ.
__________
[ () ] كَذَلِك. وَبَنُو الأدرم هَؤُلَاءِ هم أَعْرَاب مَكَّة، وهم من قُرَيْش الظَّوَاهِر لَا من قُرَيْش البطاح، وَكَذَلِكَ بَنو محَارب ابْن فهر، وَبَنُو معيص بن فهر.
[1] كَذَا فِي الْأُصُول. وَقد انْفَرد ابْن هِشَام بِزِيَادَة: «كَعْب» فِي نسب سلمى، والّذي ذكره ابْن إِسْحَاق أَو لَا مُجَردا من «كَعْب» يتَّفق مَعَ مَا أوردهُ الطَّبَرِيّ عِنْد الْكَلَام على أم لؤيّ وَإِخْوَته.
[2] وَأم عَوْف بن لؤيّ: الْبَارِدَة بنت عَوْف بن غنم بن عبد الله بن غطفان، وَيُقَال إِن الْبَارِدَة لما مَاتَ لؤيّ خرجت بابنها عَوْف إِلَى قَومهَا، فَتَزَوجهَا سعد بن ذبيان بن بغيض، فتبني عوفا.
[3] كَأَنَّهَا نسبت إِلَى المَاء لصفائها بعد قلب همزَة المَاء واوا، وَكَانَ الْقيَاس قَلبهَا هَاء. وَكَانَت ماوية هَذِه تحب سامة أَكثر من إخْوَته.
[4] اتّفق ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه المعارف مَعَ السِّيرَة فِي ذكر الْحَارِث ولدا للؤى، وَخَالَفَهُمَا فِي ذَلِك الطَّبَرِيّ وَابْن دُرَيْد فَلم يذكرَا ولدا الِاسْم، بِهَذَا الِاسْم، وَقد ذكر أَبُو الْفرج فِي الْجُزْء التَّاسِع من الأغاني (ص 104- 105) الْحَارِث ولدا لسامة بن لؤيّ، وَذكر أَن من النسابين من يَدْفَعهُ عَن قُرَيْش، ويدعى أَنه ابْن لناجية امْرَأَة سامة، وَلَيْسَ ابْنا لسامة.
[5] الروابي: جمع رابية، وَهِي الكدية المرتفعة، وَيُرِيد بهَا هُنَا الْأَشْرَاف من النَّاس والقبائل.
[6] وَيُقَال: إِنَّهُم أعْطوا جَرِيرًا على هَذَا الشّعْر ألف بعير، وَكَانُوا ينتسبون إِلَى ربيعَة فَمَا انتسبوا بعد إِلَّا لقريش.
[7] ضور وشكيس: بطْنَان من عنزة. 0(1/96)
وَبُنَانَةُ: حَاضِنَةٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ بْنِ جَسْرِ بْنِ شَيْعِ اللَّهِ، وَيُقَالُ سَيْعُ اللَّهِ، ابْن الْأَسْدِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ [1] بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ. وَيُقَالُ:
بِنْتُ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، مِنْ رَبِيعَةَ. وَيُقَالُ: بِنْتُ جَرْمِ بْنِ رَبَّانَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ.
وَخُزَيْمَةُ بْنُ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، وَهُمْ عَائِذَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَعَائِذَةُ:
امْرَأَةٌ مِنْ الْيَمَنِ، وَهِيَ أُمُّ بَنِي [2] عُبَيْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ لُؤَيٍّ.
وَأُمُّ بَنِي لُؤَيٍّ كُلَّهُمْ إلَّا عَامِرَ [3] بْنَ لُؤَيٍّ: مَاوِيَّةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ، وَأُمُّ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ مَخْشِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَيُقَالُ:
لَيْلَى بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ.
أَمْرُ سَامَةَ
(رِحْلَتُهُ إِلَى عَمَّانَ وَمَوْتُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَمَّا سَامَةُ بْنُ لُؤَيٍّ فَخَرَجَ إلَى عُمَانَ، وَكَانَ بِهَا. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ أَخْرَجَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَفَقَأَ سَامَةُ عَيْنَ عَامِرٍ، فَأَخَافَهُ عَامِرٌ، فَخَرَجَ إلَى عُمَانَ. فَيَزْعُمُونَ أَنَّ سَامَةَ بْنَ لُؤَيٍّ بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ، إذْ وَضَعَتْ رَأْسَهَا تَرْتَعُ، فَأَخَذَتْ حَيَّةٌ بِمِشْفَرِهَا فَهَصَرَتْهَا حَتَّى وَقَعَتْ النَّاقَةُ لِشِقِّهَا ثُمَّ نَهَشَتْ سَامَةَ فَقَتَلَتْهُ. فَقَالَ سَامَةُ حِينَ أَحَسَّ بِالْمَوْتِ فِيمَا [4] يَزْعُمُونَ:
__________
[1] فِي الطَّبَرِيّ: « ... بن تغلب» .
[2] هَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن هِشَام. وَأما ابْن جرير الطَّبَرِيّ، فقد جعل عائذة أما لخزيمة، وَهِي عِنْده عَائِدَة بنت الْخمس بن قُحَافَة، من خثعم.
[3] يذهب ابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى غير مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن هِشَام، وَهُوَ يتَّفق مَعَ ابْن إِسْحَاق فِي أَن كَعْبًا، وعامرا، وسامة إخْوَة أشقاء، وأمهم ماوية. وَقد قدمنَا عَن ابْن جرير قَوْله فِي أم عَوْف، وَأَنَّهَا الْبَارِدَة، وَأَن عوفا أَخُو هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة لأبيهم، وَكَذَلِكَ خُزَيْمَة، وَأمه العائذة، وَسعد، وَأمه بنانة، وَقد ذكر ابْن هِشَام أَن بنانة حاضنتهم.
[4] روى أَبُو الْفرج فِي الأغاني (ج 9 ص 104) قصَّة سامة هَذِه إِلَّا أَنه لم يتَّفق مَعَ ابْن إِسْحَاق فِي أَن خُرُوج سامة كَانَ بِسَبَب أَخِيه عَامر: بل جعل ذَلِك لخلاف كَانَ بَين سامة، وأخيه كَعْب، وَأَن هَذَا الشّعْر هُوَ لكعب يرثى بِهِ أَخَاهُ سامة.
7- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/97)
عَيْنِ فَابْكِي لِسَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ ... عَلَّقَتْ سَاقَ [1] سَامَةَ الْعَلَّاقَهْ [2]
لَا أَرَى مِثْلَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ ... يَوْمَ حَلُّوا بِهِ قَتِيلًا لِنَاقَهْ
بَلِّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا ... أَنَّ نَفْسِي إلَيْهِمَا مُشْتَاقَهْ
إنْ تَكُنْ فِي عُمَانَ دَارِي فَإِنِّي ... غَالِبِيٌّ، خَرَجْتُ مِنْ غَيْرِ نَاقَهْ
رُبَّ كَأْسٍ هَرَقْتَ يَا بْنَ لُؤَيٍّ ... حَذَرَ الْمَوْتِ لَمْ تَكُنْ مُهْرَاقَهْ
رُمْتَ دَفْعَ الْحُتُوفِ يَا بْنَ لُؤَيٍّ ... مَا لِمَنْ رَامَ ذَاكَ بِالْحَتْفِ طَاقَهْ
وَخَرُوسَ السَّرَى [3] تَرَكْتَ رَدِيَّا [4] ... بَعْدَ جَدٍّ وَجَدَّةٍ وَرَشَاقَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ وَلَدِهِ أُتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَسَبَ إلَى سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آلشَّاعِرُ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتَ قَوْلَهُ:
رُبَّ كَأْسٍ هَرَقْتَ يَا بْنَ لُؤَيٍّ ... حَذَرَ الْمَوْتِ لَمْ تَكُنْ مُهْرَاقَهْ
قَالَ: أَجَلْ.
أَمْرُ عَوْفِ بْنِ لُؤَيٍّ وَنَقَلَتِهِ
(سَبَبُ انْتِمَائِهِ إلَى بَنِي ذُبْيَانَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمَّا عَوْفُ بْنُ لُؤَيٍّ فَإِنَّهُ خَرَجَ- فِيمَا يُزْعِمُونَ- فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى إذَا كَانَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ، أُبْطِئَ بِهِ، فَانْطَلَقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَتَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ أَخُوهُ فِي نَسَبِ بَنِي ذُبْيَانَ [5]- ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ.
__________
[1] كَذَا فِي الأغاني. وَفِي الْأُصُول:
علقت مَا بسامة ...
إِلَخ.
[2] العلاقة (هُنَا) : الْحَيَّة الَّتِي تعلّقت بالناقة.
[3] خروس السّري: يُرِيد نَاقَة صموتا صبورا على السّري لَا تضجر مِنْهُ، فسراها كالأخرس.
[4] الردى: الَّتِي سَقَطت من الإعياء وَمثله الرذيلة: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: « ... ذبيان بن ثَعْلَبَة» بِزِيَادَة «بن» ، وَظَاهر أَنَّهَا مقحمة.(1/98)
وَعَوْفُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ- فَحَبَسَهُ وَزَوْجَهُ وَالْتَاطَهُ [1] وَآخَاهُ. فَشَاعَ نَسَبُهُ فِي بَنِي ذُبْيَانَ. وَثَعْلَبَةُ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- الَّذِي يَقُولُ لِعَوْفٍ حِينَ أُبْطِئَ بِهِ فَتَرَكَهُ قَوْمُهُ:
احْبِسْ [2] عَلَيَّ ابْنِ لُؤَيٍّ جَمَلَكْ ... تَرَكَكَ الْقَوْمُ وَلَا مَنْزِلَ [3] لَكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ [4] بْنِ الزُّبَيْرِ، أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ.
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُدَّعِيًا حَيًّا مِنْ الْعَرَبِ، أَوْ مُلْحِقَهُمْ بِنَا لَادَّعَيْتُ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، إنَّا لَنَعْرِفُ فِيهِمْ الْأَشْبَاهَ مَعَ مَا نَعْرِفُ مِنْ مَوْقِعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ حَيْثُ وَقَعَ، يَعْنِي عَوْفَ بْنَ لُؤَيٍّ.
(نَسَبُ مُرَّةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهُوَ فِي نَسَبِ غَطَفَانَ: مُرَّةُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ. وَهُمْ يَقُولُونَ إذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا النَّسَبُ: مَا نُنْكِرُهُ وَمَا نَجْحَدُهُ، وَإِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّسَبِ إلَيْنَا.
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمِ بْنِ جُذَيْمَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَحَدُ بَنِي مُرَّةَ ابْن عَوْفِ- حِينَ هَرَبَ مِنْ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ فَلَحِقَ بِقُرَيْشٍ:
فَمَا قَوْمِي بِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ ... وَلَا بِفَزَارَةِ الشُّعُرِ [5] الرِّقَابَا
وَقَوْمِي، إنْ سَأَلْتَ، بَنُو [6] لُؤَيٍّ ... بِمَكَّةَ عَلَّمُوا مُضَرَ الضِّرَابَا
سَفِهْنَا بِاتِّبَاعِ بَنِي بَغِيضِ ... وَتَرْكِ الْأَقْرَبِينَ لَنَا انْتِسَابَا
__________
[1] التاطه: ألصقه بِهِ، وضمه إِلَيْهِ، وألحقه بنسبه. وَمِنْه: كَانَ يليط أَوْلَاد الْجَاهِلِيَّة بآبائهم:
أَي يلصقهم.
[2] فِي الطَّبَرِيّ: «عرج» .
[3] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَفِي الْأُصُول: «مترك» .
[4] هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير بن الْعَوام بن خويلد الْأَسدي الْمدنِي، حدث عَن عَمه عُرْوَة وَابْن عَمه عباد بن عبيد الله، وَغَيرهمَا. وَحدث عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، وَعبيد الله بن أَبى جَعْفَر، وَغَيرهمَا.
وَكَانَ فَقِيها عَالما، وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ.
[5] الشّعْر: جمع أشعر، وَهُوَ الْكثير الشّعْر الطَّوِيلَة.
[6] كَذَا فِي الأغاني (ج 10 ص 28) . وَفِي الْأُصُول: «بنى» وَهُوَ تَحْرِيف.(1/99)
سَفَاهَةَ مُخْلِفٍ [1] لِمَا تُرَوَّى ... هَرَاقَ الْمَاءَ وَاتَّبَعَ السَّرَابَا
فَلَوْ طُووِعْتَ، عَمْرَكَ، كُنْتَ فِيهِمْ ... وَمَا أُلْفِيتُ أَنْتَجِعُ السَّحَابَا [2]
وَخَشَّ [3] رَوَاحَةُ الْقُرَشِيِّ رِحَلِي ... بِنَاجِيَةٍ وَلَمْ يَطْلُبْ ثَوَابَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ الْمُرِّيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي سَهْمِ بن مرّة، يردّ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ، وَيَنْتَمِي إلَى غَطَفَانَ:
أَلَا لَسْتُمْ مِنَّا وَلَسْنَا إلَيْكُمْ ... بَرِئْنَا إلَيْكُمْ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ
أَقَمْنَا عَلَى عِزِّ الْحِجَازِ وَأَنْتُمْ ... بِمُعْتَلَجِ الْبَطْحَاءِ [4] بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
[5] يَعْنِي قُرَيْشًا. ثُمَّ نَدِمَ الْحُصَيْنُ عَلَى مَا قَالَ، وَعَرَفَ مَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ، فَانْتَمَى إلَى قُرَيْشٍ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَقَالَ:
نَدِمْتُ عَلَى قَوْلٍ مَضَى كُنْتُ قُلْتُهُ ... تَبَيَّنْتُ فِيهِ أَنَّهُ قَوْلُ كَاذِبٍ
فَلَيْتَ لِسَانِي كَانَ نِصْفَيْنِ مِنْهُمَا ... بَكِيمٌ [6] وَنِصْفٌ عِنْدَ مَجْرَى الْكَوَاكِبِ
أَبُونَا كِنَانِيٌّ بِمَكَّةَ قَبْرُهُ ... بِمُعْتَلَجِ الْبَطْحَاءِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
لَنَا الرُّبُعُ مِنْ بَيْتِ الْحَرَامِ وِرَاثَةً ... وَرُبُعُ الْبِطَاحِ عِنْدَ دَارِ ابْنِ حَاطِبِ
أَيْ أَنَّ بَنِي لُؤَيٍّ كَانُوا أَرْبَعَةً: كَعْبًا، وَعَامِرًا، وَسَامَةَ، وَعَوْفًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [7] : وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ:
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرِجَالِ مِنْ بَنِي مُرَّةَ: إنْ شِئْتُمْ أَنْ تَرْجِعُوا إلَى نَسَبِكُمْ فَارْجِعُوا إلَيْهِ.
__________
[1] المخلف (هُنَا) : المستقى للْمَاء، يُقَال: ذهب يخلف لِقَوْمِهِ: أَي يستقى لَهُم.
[2] أنتجع السحابا: أَي أطلب مَوضِع الْغَيْث والمطر كَمَا تفعل الْقَبَائِل الَّذين يرحلون من مَوضِع إِلَى مَوضِع. يُرِيد أَنه لَو انتسب إِلَى قُرَيْش لَكَانَ مَعَهم بِمَكَّة مُقيما وَلم يكن بدويا يطْلب الْمَطَر من مَوضِع إِلَى مَوضِع.
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وخش: أصلح. والناجية: النَّاقة السريعة. وَفِي أ: «وحس ... إِلَخ» وحس (بِالْحَاء الْمُهْملَة) : قوى وَأعَاد. وَفِي الأغاني: «
... وهش رَوَاحَة الجمحيّ
» .
[4] المعتلج: الْموضع السهل الّذي يعتلج فِيهِ الْقَوْم، أَي يتصارعون. والبطحاء (هُنَا) : بطحاء مَكَّة.
[5] الأخاشب يُرِيد الأخشبين: جبلان بِمَكَّة، فجمعهما مَعَ مَا حولهما.
[6] بكيم: أبكم.
[7] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ ابْن هِشَام» .(1/100)
(سَادَاتُ مُرَّةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الْقَوْمُ أَشْرَافًا فِي غَطَفَانَ، وهم سَادَتُهُمْ وَقَادَتْهُمْ. مِنْهُمْ:
هَرِمُ بْنِ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ [بْنِ مُرَّةَ بْنِ نُشْبَةَ] [1] ، وَخَارِجَةُ بْنُ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ، وَهَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَةَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ:
أَحْيَا أَبَاهُ هَاشِمَ [2] بْنُ حَرْمَلَهُ [3] ... يَوْمَ الْهَبَاآتِ [4] وَيَوْمَ الْيَعْمَلَهْ [5]
تَرَى الْمُلُوكَ عِنْدَهُ مُغَرْبَلَهُ [6] ... يَقْتُلُ ذَا الذَّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
[7]
(هَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَعَامِرٌ الْخَصَفِيُّ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِعَامِرِ الْخَصَفِيِّ، خَصَفَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ:
أَحْيَا أَبَاهُ هَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَهُ ... يَوْمَ الْهَبَاآتِ وَيَوْمَ الْيَعْمَلَهْ
تَرَى الْمُلُوكَ عِنْدَهُ مُغَرْبَلَهُ ... يَقْتُلُ ذَا الذَّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
وَرمحه للوالدات مثكله
وَحَدَّثَنِي [8] أَنَّ هَاشِمًا قَالَ لِعَامِرِ: قُلْ فِيَّ بَيْتًا جَيِّدًا أُثِبْكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَامِرٌ الْبَيْتَ الْأَوَّلَ، فَلَمْ يُعْجِبْ هَاشِمًا: ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ، فَلَمَّا قَالَ الرَّابِعَ:
__________
[1] زِيَادَة عَن أ. وَالظَّاهِر أَنَّهَا: «بن نشبة بن مرّة» كَمَا فِي اللِّسَان (مَادَّة نشب) .
[2] هَاشم بن حَرْمَلَة: هُوَ جد مَنْظُور بن زبان بن يسَار الّذي كَانَت بنته زجلة عِنْد ابْن الزبير، فَهُوَ جد مَنْظُور لأمه، وَاسْمهَا قهطم بنت هَاشم، وَكَانَت قهطم قد حملت بمنظور أَربع سِنِين- فِيمَا يَزْعمُونَ- فَسمى منظورا لطول انتظارهم إِيَّاه: (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[3] يُرِيد أَنه أَخذ بثأره، فَكَأَنَّهُ أَحْيَاهُ.
[4] يَوْم الهباآت: يَوْم مَشْهُور من أَيَّام الْعَرَب. وهباءة: مَوضِع، فَجَمعه مَعَ مَا يَلِيهِ. (رَاجع الْحَاشِيَة رقم 1 ص 102) .
[5] يَوْم اليعملة: من أَيَّام الْعَرَب. واليعملة: اسْم مَوضِع.
[6] مغربلة: مقتولة، يُقَال: غربل، إِذا قتل أَشْرَاف النَّاس وخيارهم. وَيُقَال: إِنَّمَا أَرَادَ بالغربلة استقصاءهم وتتبعهم، كَأَنَّهُ من غربلت الطَّعَام، إِذا تتبعته بالاستخراج حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ إِلَّا الحثالة.
[7] يصفه بِالْعِزَّةِ والامتناع، وَأَنه لَا يخَاف حَاكما يعدى عَلَيْهِ، وَلَا ترة من طالبي ثأر.
[8] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ ابْن هِشَام وحَدثني ... إِلَخ» .(1/101)
يَقْتُلُ ذَا الذَّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.
أَعْجَبَهُ، فَأَثَابَهُ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ:
وَهَاشِمَ مُرَّةَ الْمُفْنِي مُلُوكًا ... بِلَا ذَنْبٍ إلَيْهِ وَمُذْنِبِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَوْلُ عَامِرٍ: «يَوْمَ الْهَبَاآتِ [1] » عَنْ غَيْرِ أَبِي عُبَيْدَةَ.
(مُرَّةُ وَالْبَسْلُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَوْمٌ لَهُمْ صِيتٌ وَذِكْرٌ فِي غَطَفَانَ وَقَيْسٍ كُلِّهَا، فَأَقَامُوا عَلَى نَسَبِهِمْ [2] ، وَفِيهِمْ كَانَ الْبَسْلُ [3] .
أَمْرُ الْبَسْلِ
(تَعْرِيفُ الْبَسْلِ، وَنَسَبُ زُهَيْرٍ الشَّاعِرِ) :
وَالْبَسْلُ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- ثَمَانِيَةُ [4] أَشْهُرٍ حُرُمٍ، لَهُمْ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ مِنْ بَيْنِ الْعَرَبِ قَدْ عَرَفَتْ ذَلِكَ لَهُمْ الْعَرَبُ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يَدْفَعُونَهُ، يَسِيرُونَ بِهِ إلَى أَيِّ بِلَادِ الْعَرَبِ شَاءُوا، لَا يَخَافُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا. قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى، يَعْنِي بَنِي مُرَّةَ.
- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: زُهَيْرُ أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ [5] بْنِ مُضَرَ، وَيُقَالُ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى مِنْ غَطَفَانَ، وَيُقَالُ حَلِيفٌ فِي غَطَفَانَ-
__________
[1] ويروى: «يَوْم الهباتين» فقصر للضَّرُورَة، وَإِنَّمَا أَرَادَ الهباءتين. وَكَثِيرًا مَا يرد الْمَكَان مثنى أَو مجموعا فِي الشّعْر العربيّ، وَيُرَاد بِهِ الْمُفْرد، وَيَوْم الهباءة كَانَ لعبس على ذبيان. والهباءة: مَوضِع بِبِلَاد غطفان: (رَاجع العقد الفريد ج 3 ص 69) .
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «سُنَنهمْ» .
[3] البسل: الْحَرَام والحلال، فَهُوَ من الأضداد.
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «نسيئهم ثَمَانِيَة ... إِلَخ» . وَلَا يَسْتَقِيم الْكَلَام بِهَذِهِ الزِّيَادَة.
[5] يحمل بَعضهم إلْيَاس بن مُضر على إلْيَاس النَّبِي فِي همز أَوله، وَالصَّوَاب فِي إلْيَاس بن مُضر أَن تعْتَبر فِيهِ الْألف وَاللَّام زائدتين، كزيادتهما فِي الْفضل وَالْعَبَّاس، وأنهما داخلتان على الْمصدر الّذي هُوَ الْيَأْس، وَقد تسهل همزته الثَّانِيَة، فَيُقَال فِيهِ إلْيَاس. أما إلْيَاس النَّبِي فَهُوَ بِقطع الْهمزَة الأولى مَفْتُوحَة أَو مَكْسُورَة (رَاجع شرح الْقَامُوس مَادَّة ألس) .(1/102)
تَأَمَّلْ [1] فَإِنْ تُقْوِ الْمَرُورَاةَ [2] مِنْهُمْ ... وَدَارَاتِهَا لَا تُقْوِ مِنْهُمْ إِذا نَخْلُ [3]
بِلَادٌ بِهَا نَادِمَتُهُمْ وَأَلِفْتُهُمْ ... فَإِنْ تُقْوِيَا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ بَسْلُ
يَقُولُ: سَارُوا فِي حَرَمِهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أعشى بن قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
أَجَارَتُكُمْ بَسْلٌ عَلَيْنَا مُحَرَّمٌ ... وَجَارَتُنَا حِلٌّ لَكُمْ وَحَلِيلُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
(أَوْلَادُ كَعْبٍ وَأُمُّهُمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَعَدِيَّ ابْن كَعْبٍ، وَهُصَيْصَ بْنَ كَعْبٍ. وَأُمُّهُمْ وَحْشِيَّةُ [4] بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ.
(أَوْلَادُ مُرَّةَ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
فَوَلَدَ مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: كِلَابَ بْنَ مُرَّةَ، وَتَيْمَ بْنَ مُرَّةَ، وَيَقَظَةَ [5] بْنَ مُرَّةَ.
فَأُمُّ كِلَابٍ: هِنْدُ بِنْتُ سُرَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ (فِهْرِ بْنِ [6] مَالِكِ)
__________
[1] فِي مُعْجم الْبلدَانِ (ج 4 ص 506) : «تربص» .
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «المرورات» . بتاء مَفْتُوحَة، كَأَنَّهُ جمع مرورى، وَلَيْسَ فِي الْكَلَام مثل هَذَا الْبناء، وَإِنَّمَا هُوَ المروراة بهاء مِمَّا ضوعفت فِيهِ الْعين وَاللَّام، فَهُوَ فعلعلة، وَالْألف فِيهِ منقلبة عَن وَاو أَصْلِيَّة. والمروراة: مَوضِع كَانَ فِيهِ يَوْم المروراة.
[3] نخل: مَوضِع بِنَجْد من أَرض غطفان، وَقيل: هُوَ مَوضِع لبني مرّة بن عَوْف على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة:
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[4] وَيُقَال: إِن أم هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة: مخشية. كَمَا يُقَال: إِن أم مرّة وهصيص: مخشية بنت شَيبَان بن محَارب بن فهر، وَأم عدي: رقاش بنت ركبة بن نائلة بن كَعْب بن حَرْب بن تيم بن سعد بن فهم بن عَمْرو بن قيس بن عيلان. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[5] هُوَ بِفَتْح الْقَاف، وَقد جَاءَ فِي شعر مدح بِهِ خَالِد بن الْوَلِيد، ساكنها، وَهُوَ:
وَأَنت لمخزوم بن يقظة جنَّة ... كلا أسميك فِيهِ ماجد وَابْن ماجد
[6] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.(1/103)
ابْن (النَّضْرِ بْنِ) [1] كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَأُمُّ يَقَظَةَ: الْبَارِقِيَّةُ [2] ، امْرَأَةٌ مِنْ بَارِقٍ، مِنْ الْأَسْدِ مِنْ الْيَمَنِ. وَيُقَالُ: هِيَ أُمُّ تَيْمٍ. وَيُقَالُ: تَيْمٌ لِهِنْدِ بِنْتِ سُرَيْرٍ أُمِّ كِلَابٍ.
(نَسَبُ بَارِقٍ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَارِقٌ: بَنُو عَدِيِّ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ، وَهُمْ فِي شَنُوءَةَ. قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ:
وَأَزْدُ شَنُوءَةَ انْدَرَءُوا [3] عَلَيْنَا ... بِجُمٍّ يَحْسِبُونَ لَهَا قُرُونَا [4]
فَمَا قُلْنَا لِبَارِقَ قَدْ أَسَأْتُمْ ... وَمَا قُلْنَا لِبَارِقَ أَعْتِبُونَا
[5] قَالَ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَإِنَّمَا سُمُّوا بِبَارِقَ، لِأَنَّهُمْ تَبِعُوا الْبَرْقَ.
(وَلَدَا كِلَابٍ وَأُمُّهُمَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ كِلَابُ بْنُ مُرَّةَ رَجُلَيْنِ: قُصَيَّ [6] بْنَ كِلَابٍ، وَزُهْرَةَ [7] بْنَ كِلَابٍ. وَأُمُّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ [8] أَحَدِ (بَنِي) [9] الْجَدَرَةِ، مِنْ جُعْثُمَةَ [10] الْأَزْدِ، مِنْ الْيَمَنِ، حُلَفَاءُ فِي بَنِي الدَّيْلِ [11] بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابْن كِنَانَةَ.
__________
[1] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[2] وَيُقَال إِن أم تيم، ويقظة: أَسمَاء بنت عدي بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر بن بارق، وَيُقَال:
هِنْد بنت حَارِثَة البارقية. كَمَا يُقَال: بل يقظة لهِنْد بنت سَرِير أم كلاب. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[3] اندرءوا: خَرجُوا.
[4] الجم: الكباش لَا قُرُون لَهَا. وَاحِدهَا: أجم. يُرِيدُونَ أَنهم يناطحون بِلَا عدَّة، وَلَا منَّة، كالكباش الجم الَّتِي لَا قُرُون لَهَا، وَيَحْسبُونَ أَن لَهُم قُوَّة.
[5] وَقيل: سموا بارقا بجبل نزلُوا عِنْده اسْمه بارق.
[6] وَاسم قصي: زيد، وسمى قصيا، لِأَن أَبَاهُ مَاتَ عَنهُ، وَعَن أَخِيه زهرَة، وَكَانَ زهرَة كَبِيرا وقصي فطيما، وتركهما لِأُمِّهِمَا فَاطِمَة، فَتزوّجت ربيعَة بن حزَام، ورحلت مَعَه، وَأخذت مَعهَا زيدا لصغره، فَسمى قصيا لبعده عَن دَار قومه (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[7] وزهرة: امْرَأَة نسب وَلَدهَا إِلَيْهَا دون الْأَب، وهم أخوال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[8] وَاسم سيل: خير بن حمالَة بن عَوْف بن غنم بن عَامر الجادر بن عَمْرو بن جعثمة.
[9] زِيَادَة عَن أ.
[10] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ، والاشتقاق لِابْنِ دُرَيْد، ولسان الْعَرَب (مَادَّة جعثم) . وَفِي الْأُصُول:
«خثعمة» وَهُوَ تَحْرِيف.
[11] رَاجع الْحَاشِيَة (رقم 1 ص 50 من هَذَا الْجُزْء) .(1/104)
(نَسَبُ جُعْثُمَةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: جُعْثُمَةُ الْأَسْدِ، وَجُعْثُمَةُ الْأَزْدِ، وَهُوَ جُعْثُمَةُ ابْن يَشْكُرَ بْنِ مُبَشِّرِ بْنِ صَعْبِ بْنِ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ، وَيُقَالُ: جُعْثُمَةُ ابْن يَشْكُرَ بْنِ مُبَشِّرِ بْنِ صَعْبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ.
وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجَدَرَةَ، لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ عَمْرِو [1] بْنِ جُعْثُمَةَ تَزَوَّجَ بِنْتَ الْحَارِثِ ابْن مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ، وَكَانَتْ جُرْهُمُ أَصْحَابَ الْكَعْبَةِ. فَبَنَى لِلْكَعْبَةِ جدارا، فسمّى عَامر بِذَلِكَ الْجَادِرِ، فَقِيلَ لِوَلَدِهِ: الْجَدَرَةُ لِذَلِكَ [2] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلِسَعْدِ بْنِ سَيَلٍ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
مَا نَرَى فِي النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... مَنْ عَلِمْنَاهُ كَسَعْدِ بْنِ سَيَلْ
فَارِسًا أَضْبَطَ فِيهِ عُسْرَةٌ ... وَإِذَا مَا وَاقَفَ الْقِرْنَ نَزَلْ [3]
فَارِسًا يَسْتَدْرِجُ الْخَيْلَ كَمَا ... اسْتَدْرَجَ الْحُرُّ الْقَطَامِيُّ [4] الْحَجَلْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ: «كَمَا اسْتَدْرَجَ الْحُرُّ» عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ.
(بَقِيَّةُ أَوْلَادِ كِلَابٍ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَنُعْمُ بِنْتُ كِلَابٍ، وَهِيَ أُمُّ أَسْعَدَ وَسُعَيْدٍ ابْنَيْ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَأُمُّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ.
(أَوْلَادُ قُصَيٍّ وَأُمُّهُمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ قُصَيُّ [5] بْنُ كِلَابٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ: عَبْدَ مَنَافِ
__________
[1] فِي الأَصْل: «عَامر بن عَمْرو بن خُزَيْمَة بن خثعمة. وَالصَّوَاب مَا أَثْبَتْنَاهُ. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] وَذَلِكَ أَن السَّيْل دخل الْكَعْبَة ذَات مرّة وصدع بنيانها، فَفَزِعت لذَلِك قُرَيْش، وخافوا انهدادها إِن جَاءَ سيل آخر، وَأَن يذهب شرفهم وَدينهمْ، فَبنى عَامر لَهَا جدارا، فَسمى الجادر لذَلِك.
[3] الأضبط: الّذي يعْمل بكلتا يَدَيْهِ، يعْمل باليسرى كَمَا يعْمل باليمنى. والعسرة: الشدَّة. والقرن:
الّذي يُقَاوم فِي الْحَرْب.
[4] الْحر الْقطَامِي: يُرِيد الصَّقْر.
[5] وَكَانَ قصي يَقُول فِيمَا زَعَمُوا: ولد لي أَرْبَعَة، فسميت اثْنَيْنِ بصنمى، وواحدا بداري، وواحدا بنفسي.(1/105)
ابْن قُصَيٍّ، وَعَبْدَ الدَّارِ بْنَ قُصَيٍّ، وَعَبْدَ الْعُزَّى بْنَ قُصَيٍّ، وَعَبْدَ (قُصَيِّ) [1] بْنَ قُصَيٍّ، وَتَخْمُرَ [2] بِنْتَ قُصَيٍّ، وَبَرَّةَ بِنْتَ قُصَيٍّ. وَأُمُّهُمْ حُبَيُّ بِنْتُ حُلَيْلِ بْنِ حَبَشِيَّةَ بْنِ سَلُولَ ابْن كَعْبِ بْنِ عَمْرِو الْخُزَاعِيِّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: حُبْشِيَّةُ [3] بْنُ سَلُولَ.
(أَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَ عَبْدُ مَنَافٍ- وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ- أَرْبَعَةَ نَفَرٍ:
هَاشِمَ [4] بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدَ شَمْسِ [5] بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ، وَالْمُطَلِّبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ [6] بِنْتُ مُرَّةَ بْنِ هِلَالِ [7] بْنِ فَالِجِ [8] بْنِ ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ، وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهُ وَاقِدَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْمَازِنِيَّةُ.
مَازِنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ.
__________
[1] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[2] لم يذكر الطَّبَرِيّ تخمر فِي أَوْلَاد قصي، وَاقْتصر على الذُّكُور الْأَرْبَعَة، وَذكرهَا الزبيدِيّ فِي كِتَابه إِيضَاح المدارك، وَقَالَ: تخمر كتنصر.
[3] ضبطت فِي الأولى بِفتْحَتَيْنِ، وَفِي الثَّانِيَة بِالضَّمِّ، وعَلى هَذَا الرأى الْأَخير الزبيدِيّ فِي كِتَابه إِيضَاح المدارك عَن العواتك، فقد ضبطت فِيهِ الْعبارَة بِالضَّمِّ.
[4] واسْمه عَمْرو، وَيُقَال لَهُ: هَاشم لِأَنَّهُ أول من هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ، وَله يَقُول مطرود بن كَعْب الْخُزَاعِيّ، وَقيل ابْن الزبعري:
عَمْرو الّذي هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ ... وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف
(رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[5] وَكَانَ عبد شمس تلوا لهاشم، وَقيل: بل كَانَا توأمين، فولد هَاشم، وَرجله فِي جبهة عبد شمس ملتصقة، فَلم يقدر على نَزعهَا إِلَّا بِدَم، فَكَانُوا يَقُولُونَ: سَيكون بَين ولديهما دِمَاء، فَكَانَت تِلْكَ الدِّمَاء مَا وَقع بَين بنى هَاشم وَبنى أُميَّة بن عبد شمس
[6] وَيُقَال: إِن لعاتكة من غير عبد منَاف: الْحَارِث بن حبش السّلمِيّ، فَهُوَ أَخُو هَاشم، وَعبد شمس وَالْمطلب، لأمهم، وَأَنه رثى هاشما لهَذِهِ الْأُخوة.
[7] وَأم عبد منَاف عَاتِكَة بنت هِلَال بن فالج بن ذكْوَان، وعَلى هَذَا تكون أم عبد منَاف عمَّة عَاتِكَة
[8] كَذَا فِي أ، وإيضاح المدارك عَن العواتك للزبيدى. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فألح» بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ تَصْحِيف.(1/106)
(نَسَبُ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبِهَذَا النَّسَبِ خَالَفَهُمْ عُتْبَةَ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ بْنِ وهب بن تسيب [1] بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ.
(عَوْدٌ إلَى أَوْلَادِ عَبْدِ مَنَافٍ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَبُو عَمْرٍو، وَتُمَاضِرُ، وَقِلَابَةُ، وَحَيَّةُ، وَرَيْطَةُ، وَأُمُّ الْأَخْثَمِ، وَأُمُّ سُفْيَانَ: بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ.
فَأُمُّ أَبِي عَمْرٍو: رَيْطَةُ، امْرَأَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ، وَأُمُّ سَائِرِ النِّسَاءِ: عَاتِكَةُ بِنْتُ مرّة ابْن هلام، أُمُّ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ، وَأُمُّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حَوْزَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَلُولَ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَأُمُّ صَفِيَّةَ: بِنْتُ عَائِذِ اللَّهِ [2] ابْن سَعْدِ [3] الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجٍ.
(أَوْلَادُ هَاشِمٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [4] : فَوَلَدَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، وَخَمْسَ نِسْوَةٍ:
عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ، وَأَسَدَ بْنَ هَاشِمٍ، وَأَبَا صَيْفِيِّ بْنَ هَاشِمٍ، وَنَضْلَةَ بْنَ هَاشِمٍ، وَالشِّفَاءَ، وَخَالِدَةَ، وَضَعِيفَةَ، وَرُقَيَّةَ، وَحَيَّةَ. فَأُمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرُقَيَّةَ: سَلْمَى [5] بِنْتُ عَمْرِو [6] بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدِ (بْنِ حَرَامِ) [7] بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ [8] بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «سيب» .
[2] ويروى: عبد الله.
[3] كَذَا: فِي الأَصْل. وَالظَّاهِر أَن صَوَاب الْعبارَة: « ... من سعد ... إِلَخ» . لِأَن سعد الْعَشِيرَة ابْن مذْحج هُوَ أَبُو الْقَبَائِل المنسوبة إِلَى مذْحج إِلَّا أقلهَا، وَلَا يكون فِي عصر هَاشم من هُوَ ابْن لَهُ لصلبه.
[4] كَذَا فِي الْأُصُول. وَلَقَد عودنا ابْن هِشَام فِيمَا مضى من الْكَلَام على النّسَب أَن ينْقل عَن ابْن إِسْحَاق ويقفى هُوَ بِرَأْيهِ، وَلكنه عرض هُنَا للْكَلَام على أَوْلَاد هَاشم غير ناقل عَن ابْن إِسْحَاق، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنه عِنْد الْكَلَام على أَوْلَاد عبد الْمطلب.
[5] وَأمّهَا عمْرَة بنت صَخْر المازنية، وَابْنهَا عَمْرو بن أحيحة بن الجلاح، وَأَخُوهُ معبد، ولدتهما لأحيحة بعد هَاشم.
[6] وَيُقَال: هِيَ سلمى بنت زيد بن عَمْرو. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[7] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[8] اتّفق الطَّبَرِيّ مَعَ السِّيرَة فِي نسب سلمى إِلَى خِدَاش، ثمَّ خالفها فِيمَا بعد هَذَا، فَقَالَ: «خِدَاش ابْن جُنْدُب بن عدي بن النجار» .(1/107)
ابْن النَّجَّارِ. وَاسْمُ النَّجَّارِ: تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ.
وَأُمُّهَا: عَمِيرَةُ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ. وَأُمُّ عَمِيرَةَ سَلْمَى بِنْتُ عَبْدِ الْأَشْهَلِ النَّجَّارِيَّةُ.
وَأُمُّ أَسَدٍ: قَيْلَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ الْخُزَاعِيِّ.
وَأُمُّ أَبِي صَيْفِيٍّ وَحَيَّةَ: هِنْدُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيَّةُ [1] .
وَأُمُّ نَضْلَةَ وَالشِّفَاءِ: امْرَأَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ.
وَأُمُّ خَالِدَةَ وَضَعِيفَةَ: وَاقِدَةُ بِنْتُ أَبِي عَدِيٍّ الْمَازِنِيَّةُ.
أَوْلَادُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ
(عَدَدُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَوَلَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ عَشَرَةَ نَفَرٍ وَسِتَّ نِسْوَةٍ: الْعَبَّاسَ وَحَمْزَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ، وَأَبَا طَالِبٍ- وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ- وَالزُّبَيْرَ [2] ، وَالْحَارِثَ، وَحَجْلًا [3] ، وَالْمُقَوِّمَ، وَضِرَارًا، وَأَبَا لَهَبٍ [4]- وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى- وَصَفِيَّةَ، وَأُمَّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ، وَعَاتِكَةَ، وَأُمَيْمَةَ، وَأَرَوَى، وبَرَّةَ.
__________
[1] هَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن إِسْحَاق وَالْمَعْرُوف عِنْد أهل النّسَب أَن أم حَيَّة: جحل بنت حبيب بن الْحَارِث ابْن مَالك بن خطيط الثقفية، وَأَن حَيَّة هَذِه كَانَت تَحت الأحجم بن دندنة الْخُزَاعِيّ، ولدت لَهُ أسيدا وَفَاطِمَة.
[2] الزبير هُوَ أكبر أعمام النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الّذي كَانَ يرقص النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ طِفْل، وَيَقُول:
مُحَمَّد بن عبدم ... عِشْت بعيش أنعم
فِي دولة ومغنم ... دَامَ سجيس الأزلم
وبنته ضباعة كَانَت تَحت الْمِقْدَاد، وَابْنه عبد الله من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم. وَكَانَ الزبير يكنى أَبَا طَاهِر، بِابْنِهِ الطَّاهِر، وَكَانَ من أظرف فتيَان قُرَيْش، وَبِه سمى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنه الطَّاهِر، وَيُقَال إِن الزبير كَانَ مِمَّن يقرونَ بِالْبَعْثِ.
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول، وَالرَّوْض الْأنف، والمعارف، والقاموس مَادَّة «حجل» . وَفِي أ:
«جحل» بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء، وَهُوَ تَصْحِيف.
[4] وَاسم أَبى لَهب عبد الْعُزَّى، وكنى أَبَا لَهب لإشراق وَجهه.(1/108)
فَأُمُّ الْعَبَّاسِ وَضِرَارٍ: نُكَيْلَةُ [1] بِنْتُ جَنَابِ بْنِ كُلَيْبِ [2] بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو ابْن عَامِرِ [3] بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَامِرٍ- وَهُوَ الضَّحْيَانُ- بْنُ سَعْدِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ تَيْمِ اللَّاتِ بْنِ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ.
وَيُقَالُ: أَفْصَى ابْنُ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ.
وَأُمُّ حَمْزَةَ وَالْمُقَوَّمِ وَحَجْلٍ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْغَيْدَاقِ لِكَثْرَةِ خَيْرِهِ، وَسَعَةِ مَالِهِ، وَصَفِيَّةَ: هَالَةُ [4] بِنْتُ [5] وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ [6] بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَجَمِيعِ النِّسَاءِ غَيْرَ صَفِيَّةَ: فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ [7] النَّضْرِ.
وَأُمُّهَا: صَخْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ.
وَأُمُّ صَخْرَةَ: تَخْمُرُ بِنْتُ عَبْدِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ.
وَأُمُّ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: سَمْرَاءُ بِنْتُ جُنْدُبِ بْنِ جُحَيْرِ بْنِ رِئَابِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ سُوَاءَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ ابْن عِكْرِمَةَ.
__________
[1] وَأم نتيلة: أم حجر، أَو أم كرز بنت الأزب من بنى بكيل من هَمدَان.
[2] فِي المعارف: «نتيلة بنت كُلَيْب بن مَالك بن جناب» .
[3] وعامر هَذَا هُوَ الّذي يعرف بالضحيان، وَكَانَ من مُلُوك ربيعَة.
[4] وَيُقَال: إِن أم الغيداق: مَنْعَة بنت عَمْرو الْخُزَاعِيَّة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، والمعارف) .
[5] كَذَا فِي المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة. وَفِي الْأُصُول: «أهيب بن عبد منَاف» .
[6] وَيُقَال: إِن أَوْلَاد فَاطِمَة فِي عبد الْمطلب هم: عبد الله، وَعبد منَاف (أَبُو طَالب) وَالزُّبَيْر، وَعبد الْكَعْبَة، وعاتكة، وبرة، وَأُمَيْمَة. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[7] فِي المعارف: صَفِيَّة بنت جُنْدُب، وَفِيه أَن ولديها اثْنَان: الْحَارِث وأروى.(1/109)
وَأُمُّ أَبِي لَهَبٍ: لُبْنَى بِنْتُ هَاجَرَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ ضَاطِرَ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ.
(رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّهَاتُهُ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَوَلَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ. وَأُمِّهِ: آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ [1] بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ.
وَأُمُّهَا: بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ. وَأُمُّ بَرَّةَ:
أُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ. وَأُمُّ أُمِّ حَبِيبٍ: بَرَّةُ [2] بِنْتُ عَوْفِ ابْن عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفُ وَلَدِ آدَمَ حَسَبًا، وَأَفْضَلُهُمْ نَسَبًا مِنْ قِبَلِ أَبِيه وَأمه صلى [3] الله عَلَيْهِ وَسلم.
إشَارَةٌ إلَى ذِكْرِ احْتِفَارِ زَمْزَمَ
(شَيْءٌ عَنْ زَمْزَمَ) :
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيُّ [4] : بَيْنَمَا عَبْدُ الْمُطَلِّبِ بْنُ هَاشِمٍ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ، إذْ
__________
[1] فِي المعارف لِابْنِ قُتَيْبَة: أَن زهرَة اسْم امْرَأَة عرف بهَا بَنو زهرَة؟ وَهَذَا مُنكر غير مَعْرُوف، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم جدهم، كَمَا قَالَ ابْن إِسْحَاق
[2] الْمَعْرُوف: أَن جَمِيع أمهاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آمِنَة إِلَى برة بنت عَوْف قرشيات، وَأما مَا بعد ذَلِك من أمهاته فلسن من قُرَيْش. فَأم برة بنت عَوْف: قلَابَة بنت الْحَارِث، وَأم قلَابَة: أُمَيْمَة بنت مَالك، وَأم أُمَيْمَة: دبة بنت الْحَارِث، وَأمّهَا: بنت كَهْف الظُّلم، من ثَقِيف
[3] ورد عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ: «مَا ولدتني بغى قطّ مُنْذُ كنت فِي صلب آدم، فَلم تزل تنازعني الْأُمَم كَابِرًا عَن كَابر حَتَّى خرجت فِي أفضل حيين فِي الْعَرَب: هَاشم وزهرة»
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام. قَالَ: وَكَانَ من حَدِيث رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَدثنَا بِهِ زِيَاد بن عبد الله البكائي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق المطلبي قَالَ ... إِلَخ» .(1/110)
أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ، وَهِيَ دَفْنٌ بَيْنَ صَنَمَيْ قُرَيْشٍ: إسَافٍ وَنَائِلَةٍ، عِنْدَ مَنْحَرِ قُرَيْشٍ. وَكَانَتْ جُرْهُمُ دَفَنَتْهَا حِينَ ظَعَنُوا مِنْ مَكَّةَ، وَهِيَ بِئْرُ إسْمَاعِيلَ ابْن إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، الَّتِي سَقَاهُ اللَّهُ حِينَ ظَمِئَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَالْتَمَسَتْ لَهُ أُمُّهُ مَاءً فَلَمْ تَجِدْهُ، فَقَامَتْ إلَى الصَّفَا تَدْعُو اللَّهَ وَتَسْتَغِيثُهُ لِإِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَفَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ. وَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَمَزَ لَهُ [1] بِعَقِبِهِ فِي الْأَرْضِ، فَظَهَرَ الْمَاءُ، وَسَمِعَتْ أُمُّهُ أَصْوَاتَ السِّبَاعِ فَخَافَتْهَا عَلَيْهِ، فَجَاءَتْ تَشْتَدُّ نَحْوَهُ، فَوَجَدَتْهُ يَفْحَصُ [2] بِيَدِهِ عَنْ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ خَدِّهِ وَيَشْرَبُ، فَجَعَلَتْهُ حِسْيًا [3] .
أَمْرُ جُرْهُمٍ وَدَفْنِ زَمْزَمَ
(وُلَاةُ الْبَيْتِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ جُرْهُمٍ، وَدَفْنُهَا زَمْزَمَ، وَخُرُوجُهَا مِنْ مَكَّةَ وَمَنْ وَلِيَ أَمْرَ مَكَّةَ بَعْدَهَا إلَى أَنْ حَفَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ زَمْزَمَ، مَا حَدَّثَنَا بِهِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيُّ، قَالَ:
لَمَّا تُوُفِّيَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَلِيَ الْبَيْتَ بَعْدَهُ ابْنُهُ نَابِتُ بْنُ إسْمَاعِيلَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلِيَهُ، ثُمَّ وَلِيَ الْبَيْتَ بَعْدَهُ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيُّ.
(جُرْهُمٌ وَقَطُورَاءُ، وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيُّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَنُو إسْمَاعِيلَ وَبَنُو نَابِتٍ مَعَ جَدِّهِمْ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو
__________
[1] وَمن هُنَا سميت زَمْزَم أَيْضا: همزَة جِبْرِيل، وهزمة جِبْرِيل. وَقَالَ المَسْعُودِيّ: سميت زَمْزَم لِأَن الْفرس كَانَت تحج إِلَيْهَا فِي الزَّمن الأول فزمزمت عَلَيْهَا، والزمزمة: صَوت تخرجه الْفرس من خياشيمها عِنْد شرب المَاء، وَقد كتب عمر رضى الله عَنهُ إِلَى عماله: أَن انهوا الْفرس عَن الزمزمة. وَقيل: بل سميت زَمْزَم لِأَنَّهَا زمت بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَأْخُذ المَاء يَمِينا وَشمَالًا.
[2] يفحص: يكْشف.
[3] الْحسي: الحفيرة الصَّغِيرَة، وَقيل: أصل الْحسي مَا يغور فِي الرمل، فَإِذا بحث عَنهُ ظهر.(1/111)
وَأَخْوَالِهِمْ مِنْ جُرْهُمٍ [1] . وَجُرْهُمٌ وَقَطُورَاءُ [2] يَوْمَئِذٍ أَهْلُ مَكَّةَ، وَهُمَا ابْنَا عَمٍّ وَكَانَا ظَعَنَا مِنْ الْيَمَنِ، فَأَقْبَلَا سَيَّارَةً، وَعَلَى جُرْهُمٍ مُضَاضُ بْنُ عَمْرِو، وَعَلَى قَطُورَاءَ السَّمَيْدَعُ [3] ، رَجُلٌ مِنْهُمْ. وَكَانُوا إذَا خَرَجُوا مِنْ الْيَمَنِ لَمْ يَخْرُجُوا إلَّا وَلَهُمْ مَلِكٌ يُقِيمُ أَمْرَهُمْ. فَلَمَّا نَزَلَا مَكَّةَ رَأَيَا بَلَدًا ذَا مَاءٍ وَشَجَرٍ، فَأَعْجَبَهُمَا فَنَزَلَا بِهِ. فَنَزَلَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جُرْهُمٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ بِقُعَيْقِعَانَ [4] فَمَا حَازَ. وَنَزَلَ السَّمَيْدَعُ بِقَطُورَاءَ، أَسْفَلَ مَكَّةَ بِأَجْيَادِ [5] فَمَا حَازَ. فَكَانَ مضاض يعثر [6] مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَعْلَاهَا، وَكَانَ السَّمَيْدَعُ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَسْفَلِهَا، وَكُلٌّ فِي قَوْمِهِ لَا يَدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. ثُمَّ إنَّ جُرْهُمَ وَقَطُورَاءَ، بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَنَافَسُوا الْمُلْكَ بِهَا، وَمَعَ مُضَاضٍ يَوْمَئِذٍ بَنُو إسْمَاعِيلَ وَبَنُو نَابِتٍ، وَإِلَيْهِ وِلَايَةُ الْبَيْتِ دُونَ السَّمَيْدَعِ، فَسَارَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَخَرَجَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو مِنْ قُعَيْقِعَانَ فِي كَتِيبَتِهِ سَائِرًا إلَى السَّمَيْدَعِ، وَمَعَ كَتِيبَتِهِ عُدَّتُهَا مِنْ الرِّمَاحِ وَالدَّرَقِ وَالسُّيُوفِ وَالْجِعَابِ، يُقَعْقِعُ بِذَلِكَ مَعَهُ، فَيُقَالُ: مَا سُمِّيَ قُعَيْقِعَانُ بِقُعَيْقِعَانَ إلَّا لِذَلِكَ. وَخَرَجَ السَّمَيْدَعُ مِنْ أَجْيَادٍ وَمَعَهُ الْخَيْلُ وَالرِّجَالُ، فَيُقَالُ: مَا سُمِّيَ أَجْيَادٌ أَجِيَادًا إلَّا لِخُرُوجِ الْجِيَادِ [7] مِنْ الْخَيْلِ مَعَ السَّمَيْدَعِ مِنْهُ. فَالْتَقَوْا بِفَاضِحٍ [8] ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ السَّمَيْدَعُ، وَفُضِحَتْ قَطُورَاءُ. فَيُقَالُ: مَا سُمِّيَ فَاضِحٌ فَاضِحًا إلَّا لِذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ الْقَوْمَ تَدَاعَوْا
__________
[1] جرهم: هُوَ قحطان بن عَابِر بن شالخ.
[2] قطوراء: هُوَ قطوراء بن كركر.
[3] السميدع: هُوَ السميدع بن هوثر بن لأى بن قطوراء بن كركر بن عملاق، وَيُقَال: إِن الزباء من ذُريَّته، وَهِي بنت عَمْرو بن أذينة بن ظرب بن حسان، وَبَين حسان والسميدع آبَاء كَثِيرَة.
[4] قعيقعان: جبل بِمَكَّة يَلِي الصَّفّ. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[5] أجياد: مَوضِع بِمَكَّة يَلِي الصَّفّ (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[6] يُقَال: عشر فلَان الْقَوْم عشرا وعشورا: إِذا أَخذ عشر أَمْوَالهم.
[7] هَذَا بعيد: لِأَن جِيَاد الْخَيل لَا يُقَال فِيهَا أجياد، وَأما أجياد فَجمع جيد. وَقد ذكر أَن مضاضا ضرب فِي ذَلِك الْموضع أجياد مائَة رجل من العمالقة، فَسمى الْموضع أجيادا لهَذَا.
[8] فاضح: مَوضِع قرب مَكَّة عِنْد أَبى قبيس، كَانَ النَّاس يخرجُون إِلَيْهِ لحاجاتهم. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/112)
إلَى الصُّلْحِ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا الْمَطَابِخَ: شِعْبًا بِأَعْلَى مَكَّةَ [1] ، وَاصْطَلَحُوا بِهِ، وَأَسْلَمُوا الْأَمْرَ إلَى مُضَاضٍ. فَلَمَّا جُمِعَ إلَيْهِ أَمْرُ مَكَّةَ فَصَارَ مُلْكُهَا لَهُ، نَحَرَ لِلنَّاسِ فَأَطْعَمَهُمْ، فاطّبخ [2] النَّاس ويأكلوا، فَيُقَالُ: مَا سُمِّيَتْ الْمَطَابِخُ الْمَطَابِخَ إلَّا لِذَلِكَ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ الْمَطَابِخَ، لَمَّا كَانَ تُبَّعٌ نَحَرَ بِهَا وَأَطْعَمَ، وَكَانَتْ مَنْزِلَهُ. فَكَانَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ مُضَاضٍ وَالسَّمَيْدَعِ أَوَّلَ بَغْيٍ كَانَ بِمَكَّةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
(أَوْلَادُ إسْمَاعِيلَ وَجُرْهُمٍ بِمَكَّةَ) :
ثُمَّ نَشَرَ اللَّهُ وَلَدَ إسْمَاعِيلَ بِمَكَّةَ، وَأَخْوَالُهُمْ مِنْ جُرْهُمٍ، وُلَاةُ الْبَيْتِ وَالْحُكَّامُ بِمَكَّةَ، لَا يُنَازِعُهُمْ وَلَدُ إسْمَاعِيلَ فِي ذَلِك لخؤولتهم وَقَرَابَتِهِمْ، وَإِعْظَامًا لِلْحُرْمَةِ أَنْ يَكُونَ بِهَا بَغْيٌ أَوْ قِتَالٌ. فَلَمَّا ضَاقَتْ مَكَّةُ عَلَى وَلَدِ إسْمَاعِيلَ انْتَشَرُوا فِي الْبِلَادِ، فَلَا يُنَاوِئُونَ قَوْمًا إلَّا أَظْهَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِدِينِهِمْ فَوَطِئُوهُمْ.
اسْتِيلَاءُ قَوْمِ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ على الْبَيْت وَفِي جُرْهُمٍ
(بَغْيُ جُرْهُمٍ بِمَكَّةَ وَطَرْدُ بَنِي بَكْرٍ لَهُمْ) :
ثُمَّ إنَّ جُرْهُمًا بَغَوْا بِمَكَّةَ، وَاسْتَحَلُّوا خِلَالًا [3] مِنْ الْحُرْمَةِ، فَظَلَمُوا مَنْ دَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَأَكَلُوا مَالَ الْكَعْبَةِ الَّذِي يُهْدَى [4] لَهَا، فَرَقَّ أَمْرَهُمْ. فَلَمَّا رَأَتْ بَنُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَغُبْشَانُ مِنْ خُزَاعَةَ ذَلِكَ، أَجَمَعُوا
__________
[1] وَفِي المطابخ يَقُول الشَّاعِر:
أَطُوف بالمطابخ كل يَوْم ... مَخَافَة أَن يشردنى حَكِيم
يُرِيد حَكِيم بن أُميَّة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] اطبخ الرجل: طبخ لنَفسِهِ خَاصَّة، أَو اتخذ طبيخا، وَيُقَال: اطبخ الرجل اللَّحْم، وَذَلِكَ إِذا طبخه.
[3] الْخلال: الْخِصَال.
[4] كَانَ كل مَا يهدى إِلَى الْكَعْبَة يلقى فِي بِئْر قريبَة القعر، كَانَ احتفرها إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد بَاب الْكَعْبَة. وَيُقَال: إِنَّه لما فسد أَمر جرهم، وسرقوا مَال الْكَعْبَة مرّة بعد مرّة، دخل رجل مِنْهُم الْبِئْر ليَسْرِق مَال الْكَعْبَة، فَسقط عَلَيْهِ حجر من شَفير الْبِئْر فحبسه فِيهَا. كَمَا يذكرُونَ أَنه أرْسلت على الْبِئْر حَيَّة، فَكَانَت تهيب من يدنو مِنْهَا.
8- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/113)
لِحَرْبِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ. فَآذَنُوهُمْ بِالْحَرْبِ فَاقْتَتَلُوا، فَغَلَبَتْهُمْ بَنُو بَكْرٍ وَغُبْشَانُ فَنَفَوْهُمْ مِنْ مَكَّةَ. وَكَانَتْ مَكَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تُقِرُّ فِيهَا ظُلْمًا وَلَا بَغْيًا، وَلَا يَبْغِي فِيهَا أَحَدٌ إلَّا أَخَرَجَتْهُ، فَكَانَتْ تُسَمَّى النَّاسَّةَ [1] ، وَلَا يُرِيدُهَا مَلِكٌ يَسْتَحِلُّ حُرْمَتَهَا إلَّا هَلَكَ مَكَانَهُ، فَيُقَالُ: إنَّهَا مَا سُمِّيَتْ بِبَكَّةِ إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَبُكُّ [2] أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ إذَا أَحْدَثُوا فِيهَا شَيْئًا.
(بَكَّةُ لُغَةً) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَنَّ بَكَّةَ اسْمٌ لِبَطْنِ مَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا، أَيْ يَزْدَحِمُونَ. وَأَنْشَدَنِي:
إذَا الشَّرِيبُ [3] أَخَذَتْهُ أَكَّهُ ... [4] ، فَخَلِّهِ حَتَّى يَبُكَّ بَكَّهُ
أَيْ فَدَعْهُ حَتَّى يَبُكَّ إبِلَهُ، أَيْ يُخَلِّيهَا إلَى الْمَاءِ فَتَزْدَحِمُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ. وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِعَامَانَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيُّ بِغَزَالِيِّ الْكَعْبَةِ وَبِحَجَرِ الرُّكْنِ، فَدَفَنَهَا فِي زَمْزَمَ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُرْهُمٍ إلَى الْيَمَنِ، فَحَزِنُوا عَلَى مَا فَارَقُوا مِنْ أَمْرِ مَكَّةَ وَمُلْكِهَا حُزْنًا شَدِيدًا. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ (بْنِ عَمْرِو) [5] بْنِ مُضَاضٍ فِي ذَلِكَ [6] ، وَلَيْسَ بِمُضَاضٍ الْأَكْبَرِ:
وَقَائِلَةٍ وَالدَّمْعُ سَكْبٌ مُبَادِرُ ... وَقَدْ شَرِقَتْ بِالدَّمْعِ مِنْهَا الْمَحَاجِرُ
__________
[1] كَمَا كَانَت تسمى النساسة، وهما من «نس» بِمَعْنى يبس وأجدب، كَمَا يُقَال لَهَا: الباسة» أَيْضا، وَهُوَ من البس بِمَعْنى التفتيت.
[2] تبك: تكسر.
[3] كَذَا فِي أولسان الْعَرَب (مادتي أك وَبِك) . والشريب: الّذي يسقى إبِله مَعَ إبلك. وَفِي الأَصْل:
«الشريت» ، وَهُوَ تَصْحِيف.
[4] الأكة: شدَّة الْحر، وَقيل شدَّة الْأَلَم.
[5] زِيَادَة عَن مُعْجم الْبلدَانِ.
[6] وَالسَّبَب فِي قَول هَذَا الشّعْر: أَن عَمْرو بن الْحَارِث كَانَ قد نزل بقنونى من أَرض الْحجاز، فضلت لَهُ إبل، فبغاها حَتَّى أَتَى الْحرم، فَأَرَادَ دُخُوله ليَأْخُذ إبِله، فَنَادَى عَمْرو بن لحي: من وجد جرهميا فَلم يقْتله قطعت يَده. فَسمع بذلك عَمْرو بن الْحَارِث، وأشرف على جبل من جبال مَكَّة، فَرَأى إبِله تنحر ويتوزع لَحمهَا، فَانْصَرف بائسا خَائفًا ذليلا، وَأبْعد فِي الأَرْض: وبغربته يضْرب الْمثل، ثمَّ قَالَ هَذَا الشّعْر(1/114)
كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ [1] إلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
فَقُلْتُ لَهَا وَالْقَلْبُ مِنِّي كَأَنَّمَا ... يُلَجْلِجُهُ [2] بَيْنَ الْجَنَاحَيْنِ طَائِرُ
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَزَالَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودِ [3] الْعَوَاثِرِ
وَكُنَّا وُلَاةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ [4]
وَنَحْنُ وَلِينَا الْبَيْتَ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... بِعَزٍّ فَمَا يَحْظَى لَدَيْنَا الْمُكَاثِرُ
مَلَكْنَا فَعَزَّزْنَا فَأَعْظِمْ بِمُلْكِنَا ... فَلَيْسَ لِحَيِّ غَيْرِنَا ثَمَّ فَاخِرُ
أَلَمْ تُنْكِحُوا مِنْ خَيْرِ شخص [5] عَلمته [6] ... فأبناوه مِنَّا وَنَحْنُ الْأَصَاهِرُ
فَإِنْ تَنْثَنِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بِحَالِهَا ... فَإِنَّ لَهَا حَالًا وَفِيهَا التَّشَاجُرُ
فَأَخْرَجَنَا مِنْهَا الْمَلِيكُ بِقُدْرَةٍ ... كَذَلِكَ يَا لِلنَّاسِ تَجْرِي الْمَقَادِرُ
أَقُولُ إذَا نَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ أَنَمْ ... أَذَا الْعَرْشِ: لَا يَبْعُدُ سُهَيْلٌ وَعَامِرٌ
وَبُدِّلْتُ مِنْهَا أَوْجُهًا لَا أُحِبُّهَا ... قَبَائِلُ مِنْهَا حِمْيَرُ وَيُحَابِرُ [7]
وَصِرْنَا أَحَادِيثَا وَكُنَّا بِغِبْطَةٍ ... بِذَلِكَ عَضَّتْنَا السِّنُونَ الْغَوَابِرُ
فَسَحَّتَ دُمُوعُ الْعَيْنِ تَبْكِي لِبَلْدَةٍ ... بِهَا حَرَمٌ أَمْنٌ وَفِيهَا الْمَشَاعِرُ [8]
وَتَبْكِي لِبَيْتٍ لَيْسَ يُوذَى حَمَامُهُ ... يَظَلُّ بِهِ أَمْنًا وَفِيهِ الْعَصَافِرُ [9]
__________
[1] الْحجُون: جبل بِأَعْلَى مَكَّة، عَلَيْهِ مدافن أَهلهَا، وَقيل: مَكَان من الْبَيْت على ميل وَنصف، وَقيل على فَرسَخ وَثلث، عَلَيْهِ سَقِيفَة آل زِيَاد بن عبد الله الْحَارِثِيّ، وَكَانَ عَاملا على مَكَّة فِي أَيَّام السفاح وَبَعض أَيَّام الْمَنْصُور. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْحجُون: هُوَ الْجَبَل المشرف الّذي بحذاء مَسْجِد الْبيعَة على شعب الجزارين. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] يلجلجه: يديره.
[3] الجدود: جمع جد، وَهُوَ الْحَظ.
[4] يُشِير بِهَذَا الْبَيْت إِلَى أَنه بعد موت نابت، وَأمه جرهمية، وَلم يكثر ولد إِسْمَاعِيل، غلبت جرهم على ولَايَة الْبَيْت.
[5] يعْنى: إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَذَلِكَ أَنه نكح امْرَأَة من جرهم.
[6] وَرِوَايَة هَذَا الشّطْر فِي الطَّبَرِيّ:
وصاهرنا من أكْرم النَّاس والدا
[7] حمير ويحابر: من قبائل الْيمن، وَيُقَال: إِن يحابر هِيَ مُرَاد.
[8] المشاعر: الْمَوَاضِع الْمَشْهُورَة فِي الْحَج الَّتِي يتعبد بهَا.
[9] أَرَادَ: العصافير، وَحذف الْيَاء للضَّرُورَة.(1/115)
وَفِيهِ وُحُوشٌ لَا تُرَامُ أَنِيسَةٌ ... إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ فَلَيْسَتْ تُغَادِرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ «فَأَبْنَاؤُهُ منا» ، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا يَذْكُرُ بَكْرًا وَغُبْشَانُ، وَسَاكِنِي مَكَّةَ الَّذِينَ خَلَفُوا فِيهَا بَعْدَهُمْ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ سِيرُوا إنَّ قَصْرَكُمْ [1] ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا تَسِيرُونَا
حُثُّوا الْمَطِيَّ وَأَرْخُوا مِنْ أَزِمَّتِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَضُّوا مَا تُقِضُّونَا
كُنَّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُمْ فَغَيَّرَنَا ... دَهْرٌ فَأَنْتُمْ كَمَا كُنَّا تَكُونُونَا
[2] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِنْهَا. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ: أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَوَّلُ شِعْرٍ قِيلَ فِي الْعَرَبِ، وَأَنَّهَا وُجِدَتْ مَكْتُوبَةً فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ، وَلَمْ يُسَمِّ لِي قَائِلَهَا [3] .
__________
[1] قصركم: نهايتكم وغايتكم.
[2] وَزَاد بَعضهم على هَذِه الأبيات:
إِن التفكر لَا يجدي لصَاحبه ... عِنْد البديهة فِي علم لَهُ دونا
فاستخبروا فِي صَنِيع النَّاس قبلكُمْ ... كَمَا استبان طَرِيق عِنْده الهونا
كُنَّا زَمَانا مُلُوك النَّاس قبلكُمْ ... بمسكن فِي حرَام الله مسكونا
[3] ويروى: أَنه وجد فِي بِئْر بِالْيَمَامَةِ ثَلَاثَة أَحْجَار. فوجدوا فِي حجر من الثَّلَاثَة مَكْتُوبًا هَذِه الأبيات، ووجدوا فِي حجر آخر مَكْتُوبًا:
يَا أَيهَا الْملك الّذي ... بِالْملكِ ساعده زَمَانه
مَا أَنْت أول من علا ... وَعلا شئون النَّاس شانه
أقصر عَلَيْك مراقبا ... فالدهر مخذول أَمَانه
كم من أَشمّ معصب ... بالتاج مرهوب مَكَانَهُ
قد كَانَ ساعده الزَّمَان ... وَكَانَ ذَا خفض جنانه
تجرى الجداول حوله ... للجند مترعة جفانه
قد فاجأته منية ... لم ينجه مِنْهَا اكتنانه
وَتَفَرَّقَتْ أجناده ... عَنهُ وناح بِهِ قيانه
والدهر من يعلق بِهِ ... يطحنه مفترسا جرانه
وَالنَّاس شَتَّى فِي الْهوى ... كالمرء مُخْتَلف بنانه
والصدق أفضل شِيمَة ... والمرء يقْتله لِسَانه
والصمت أسعد للفتى ... وَلَقَد يشرفه بَيَانه
وَوجد بِالْحجرِ الثَّالِث قصيدة على هَذَا النمط كلهَا حكم ومواعظ، ومطلعها:(1/116)
اسْتِبْدَادُ قَوْمٍ مِنْ خُزَاعَةَ بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ غُبْشَانَ مِنْ خُزَاعَةَ وَلِيَتْ الْبَيْتَ دُونَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، وَكَانَ الَّذِي يَلِيهِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ الْغُبْشَانِيُّ، وَقُرَيْشٌ إذْ ذَاكَ حُلُولٌ وَصِرَمٌ، [1] وَبُيُوتَاتٌ مُتَفَرِّقُونَ فِي قَوْمِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَوَلِيَتْ خُزَاعَةُ الْبَيْتَ يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ حُلَيْلُ بْنُ حَبَشِيَّةَ بْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيَّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ حُبْشِيَّةُ بْنُ سَلُولَ.
تَزَوُّجُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ حُبَّى بِنْتَ حُلَيْلٍ
(أَوْلَادُ قُصَيٍّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ خَطَبَ إلَى حُلَيْلِ بْنِ حُبْشِيَّةَ ابْنَتَهُ حُبَّى، فَرَغِبَ فِيهِ حُلَيْلٌ فَزَوَّجَهُ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الدَّارِ، وَعَبْدَ مَنَافٍ، وَعَبْدَ الْعُزَّى، وَعَبْدًا. فَلَمَّا انْتَشَرَ وَلَدُ قُصَيٍّ، وَكَثُرَ مَالُهُ، وَعَظُمَ شَرَفُهُ، هَلَكَ حُلَيْلٌ.
(تَوَلِّي قُصَيٍّ أَمْرَ الْبَيْتِ وَنُصْرَةَ رُزَاحٍ لَهُ) :
فَرَأَى قُصَيٌّ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ، وَبِأَمْرِ مَكَّةَ مِنْ خُزَاعَةَ وَبَنِيَّ بَكْرٍ، وَأَنَّ قُرَيْشًا قُرْعَةُ [2] إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَصَرِيحُ وَلَدِهِ. فَكَلَّمَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَبَنِيَّ كِنَانَةَ،
__________
[ () ]
كل عَيْش تعله ... لَيْسَ للدهر خله
يَوْم بؤس ونعمه ... واجتماع وقله
حبنا الْعَيْش وَالتَّكَاثُر ... جهل وضله
وَمِنْهَا:
آفَة الْعَيْش وَالنَّعِيم ... كرور الْأَهِلّة
وصل يَوْم وَلَيْلَة ... وَاعْتِرَاض بعلة
[1] الصرم: الْجَمَاعَات المتقطعة.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والقرعة: نخبة الشَّيْء وخياره. وَفِي الطَّبَرِيّ وأ: «فرعة» بِالْفَاءِ.
وفرعة الْجَبَل: أَعْلَاهُ. يُرِيد أَن قُريْشًا أَعلَى ولد إِسْمَاعِيل.(1/117)
وَدَعَاهُمْ إلَى إخْرَاجِ خُزَاعَةَ وَبَنِيَّ بَكْرٍ مِنْ مَكَّةَ، فَأَجَابُوهُ. وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ حَرَامٍ مِنْ [1] عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ قَدْ قَدِمَ مَكَّةَ بَعْدَ هُلْكِ كِلَابٍ، فَتَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ، وَزُهْرَةَ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، وَقُصَيٌّ فَطِيمٌ، فَاحْتَمَلَهَا إلَى بِلَادِهِ، فَحَمَلَتْ قُصَيًّا مَعَهَا، وَأَقَامَ زُهْرَةَ، فَوَلَدَتْ لِرَبِيعَةَ رِزَاحًا. فَلَمَّا بَلَغَ قُصَيٌّ وَصَارَ رَجُلًا أَتَى مَكَّةَ، فَأَقَامَ [2] بِهَا، فَلَمَّا أَجَابَهُ قَوْمُهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ، كَتَبَ إلَى أَخِيهِ مِنْ أُمِّهِ، رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ، يَدْعُوهُ إلَى نُصْرَتِهِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ. فَخَرَجَ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَعَهُ إخْوَتُهُ: حُنُّ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمَحْمُودُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَجُلْهُمَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُمْ لِغَيْرِ فَاطِمَةَ، فِيمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ فِي حَاجِّ الْعَرَبِ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ لِنُصْرَةِ قُصَيٍّ. وَخُزَاعَةُ تَزْعُمُ أَنَّ حُلَيْلَ بْنَ حُبْشِيَّةَ أَوْصَى بِذَلِكَ قُصَيًّا وَأَمَرَهُ بِهِ حِينَ انْتَشَرَ لَهُ مِنْ ابْنَتِهِ مِنْ الْوَلَدِ مَا انْتَشَرَ. وَقَالَ: أَنْتِ أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ، وَبِالْقِيَامِ عَلَيْهَا، وَبِأَمْرِ مَكَّةَ مِنْ خُزَاعَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ قُصَيٌّ مَا طَلَبَ. وَلَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ [3] ، فاللَّه أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
__________
[1] فِي أ: «بن» .
[2] وَالسَّبَب فِي رُجُوعه إِلَى مَكَّة، هُوَ أَنه لما كَانَ غُلَاما- وَكَانَ يدعى إِلَى ربيعَة لِأَنَّهُ لَا يعلم لَهُ أَب إِلَّا إِيَّاه- تساب هُوَ وَرجل من قضاعة، فَعَيَّرَهُ بالدعوة وَقَالَ لَهُ: لست منا، وَإِنَّمَا أَنْت فِينَا ملصق. فَدخل على أمه، وَقد وجم لذَلِك، فَقَالَت لَهُ: يَا بنى، صدق، إِنَّك لست مِنْهُم، وَلَكِن رهطك خير من رهطه، وآباءك أشرف من آبَائِهِ، وَإِنَّمَا أَنْت قرشي، وأخوك وَبَنُو عمك بِمَكَّة، وهم جيران بَيت الله الْحَرَام، فَدخل فِي سيارة حَتَّى أَتَى مَكَّة.
[3] وَيُقَال أَيْضا فِي انْتِقَال ولَايَة الْبَيْت إِلَى قصي: أَن حليلا كَانَ يعْطى مَفَاتِيح الْبَيْت إِلَى ابْنَته حبي حِين كبر وَضعف، فَكَانَت بِيَدِهَا، وَكَانَ قصي رُبمَا أَخذهَا فِي بعض الأحيان فَفتح الْبَيْت للنَّاس وأغلقه، وَلما هلك حليل أوصى بِولَايَة الْبَيْت إِلَى قصي، فَأَبت خُزَاعَة أَن تمضى ذَلِك لقصي، فَعِنْدَ ذَلِك هَاجَتْ الْحَرْب بَينه وَبَين خُزَاعَة.
كَمَا يذكر أَيْضا: أَن حليلا لما كبر وَلم يقدر على فتح الْبَاب وإغلاقه، عهد بالمفاتيح إِلَى أَبى غبشان- وَهُوَ من خُزَاعَة، واسْمه سليم بن عَمْرو- فابتاعها مِنْهُ قصي بزق خمر، فَقيل: أخسر صَفْقَة من أَبى غبشان.
وَكَانَ الأَصْل فِي الِانْتِقَال ولَايَة الْبَيْت من ولد مُضر إِلَى خُزَاعَة: أَن الْحرم حِين ضَاقَ عَن ولد نزار وبغت فِيهِ إياد، أخرجتهم بَنو مُضر بن نزار، وأجلوهم عَن مَكَّة، فعمدوا فِي اللَّيْل إِلَى الْحجر الْأسود، فاقتلعوه وَاحْتَمَلُوهُ على بعير، فرزح الْبَعِير بِهِ وَسقط إِلَى الأَرْض، وجعلوه على آخر، فرزح أَيْضا.
وعَلى الثَّالِث، فَفعل مثل ذَلِك. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك دفنوه وذهبوا، فَلَمَّا أصبح أهل مَكَّة وَلم يروه، وَقَعُوا فِي كرب عَظِيم. وَكَانَت امْرَأَة من خُزَاعَة قد بصرت بِهِ حِين دفن، فأعلمت قَومهَا بذلك، فَحِينَئِذٍ أخذت(1/118)
مَا كَانَ يَلِيهِ الْغَوْثُ بْنُ مُرَّ مِنْ الْإِجَازَةِ لِلنَّاسِ بِالْحَجِّ
وَكَانَ الْغَوْثُ بْنُ مُرَّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ يَلِي الْإِجَازَةَ [1] لِلنَّاسِ بِالْحَجِّ مِنْ [2] عَرَفَةَ، وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ولِوَلَدِهِ صُوفَةُ [3] . وَإِنَّمَا وَلِيَ ذَلِكَ الْغَوْثُ بْنُ مُرَّ، لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ امْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ، وَكَانَتْ لَا تَلِدُ، فَنَذَرَتْ للَّه إنْ هِيَ وَلَدَتْ رَجُلًا أَنْ تَصَّدَّقَ بِهِ عَلَى الْكَعْبَةِ عَبْدًا لَهَا يَخْدُمُهَا، وَيَقُومُ عَلَيْهَا. فَوَلَدَتْ الْغَوْثَ، فَكَانَ يَقُومُ عَلَى الْكَعْبَةِ فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَعَ أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمٍ، فَوَلِيَ الْإِجَازَةَ بِالنَّاسِ مِنْ عَرَفَةَ، لِمَكَانِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ مِنْ الْكَعْبَةِ، وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ حَتَّى انْقَرَضُوا [4] . فَقَالَ مُرُّ بْنُ أَدٍّ لِوَفَاءِ نَذْرِ أُمِّهِ:
إنِّي جَعَلْتُ رَبَّ مَنْ بَييَّهْ ... رَبِيطَةً بِمَكَّةَ الْعَلِيَّهْ
فَبَارِكْنَ لِي بِهَا أليَّهْ [5] ... وَاجْعَلْهُ لِي مِنْ صَالِحِ الْبَرِيَّهْ
وَكَانَ الْغَوْثُ بْنُ مُرٍّ- فِيمَا زَعَمُوا- إذَا دَفَعَ بِالنَّاسِ قَالَ:
لَا همّ إنِّي تَابِعٌ تَبَاعَهُ [6] ... إنْ كَانَ إثْمٌ فَعَلَى قُضَاعَهُ
[7]
__________
[ () ] خُزَاعَة على وُلَاة الْبَيْت أَن يتخلوا لَهُم عَن ولَايَته ويدلوهم على الْحجر، فَفَعَلُوا ذَلِك، فَمن هُنَالك صَارَت ولَايَة الْبَيْت لخزاعة إِلَى أَن صَارَت إِلَى بنى عبد منَاف. (رَاجع الرَّوْض الْأنف وَكتاب الْأَوَائِل لأبى هِلَال العسكري) .
[1] الْإِجَازَة: الْإِفَاضَة.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «من بعد عَرَفَة» .
[3] وَإِنَّمَا قيل للغوث وَولده: صوفة، لِأَن أمه حِين جعلته ربيطا للكعبة علقت بِرَأْسِهِ صوفة، وَقيل ألبسته ثوبا من صوف، وَقيل: إِنَّمَا سمى كَذَلِك، لِأَن أمه لما ربطته عِنْد الْبَيْت أَصَابَهُ الْحر فمرت بِهِ وَقد سقط وذوى واستعرض، فَقَالَت: مَا صَارا بنى إِلَّا صوفة، فَسمى صوفة. وَقيل: إِنَّمَا سمى كَذَلِك لِأَن كل من ولى الْبَيْت شَيْئا من غير أَهله، أَو قَامَ بِشَيْء من خدمَة الْبَيْت، أَو بِشَيْء من أَمر الْمَنَاسِك، يُقَال لَهُم صوفة وصوفان.
[4] وَقيل: إِن ولَايَة الْغَوْث بن مر كَانَت من قبل مُلُوك كِنْدَة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[5] الألية: فِي الأَصْل الْيَمين، وَهِي هُنَا: النّذر الّذي نذرته أمه.
[6] التباعة: مَا يتبعهُ الْإِنْسَان ويقتدى بِهِ.
[7] إِنَّمَا خص قضاعة بِهَذَا، لِأَن مِنْهُم مخلين يسْتَحلُّونَ الْأَشْهر الْحرم، كَمَا كَانَت خثعم وطيِّئ تفعل(1/119)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى [1] بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ (عَبَّادٍ) [2] . قَالَ:
(صُوفَةُ وَرَمْيُ الْجِمَارِ) :
كَانَتْ صُوفَةُ تَدْفَعُ بِالنَّاسِ مِنْ عَرَفَةَ، وَتُجِيزُ بِهِمْ إذَا نَفَرُوا مِنْ مِنًى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ أَتَوْا لِرَمْيِ الْجِمَارِ، وَرَجُلٌ مِنْ صُوفَةَ يَرْمِي لِلنَّاسِ، لَا يَرْمُونَ حَتَّى يَرْمِي [3] . فَكَانَ ذَوُو الْحَاجَاتِ الْمُتَعَجِّلُونَ يَأْتُونَهُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: قُمْ فَارْمِ حَتَّى نَرْمِيَ مَعَكَ، فَيَقُولُ: لَا وَاَللَّهِ، حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ. فَيَظَلُّ ذَوُو الْحَاجَاتِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ التَّعَجُّلَ يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَيَسْتَعْجِلُونَهُ بِذَلِكَ، وَيَقُولُونَ لَهُ: وَيْلَكَ! قُمْ فَارْمِ، فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ. حَتَّى إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ قَامَ فَرَمَى وَرَمَى النَّاسُ مَعَهُ.
(تَوَلِّي بَنِي سَعْدٍ أَمْرَ الْبَيْتِ بَعْدَ صُوفَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ وَأَرَادُوا النَّفْرَ مِنْ مِنًى، أَخَذَتْ صُوفَةُ بِجَانِبَيْ الْعَقَبَةِ، فَحَبَسُوا النَّاس وَقَالُوا: أجيرى صُوفَةَ، فَلَمْ يَجُزْ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَمُرُّوا، فَإِذَا نَفَرَتْ صُوفَةُ وَمَضَتْ خُلِّيَ سَبِيلُ النَّاسِ فَانْطَلَقُوا بَعْدَهُمْ فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى انْقَرَضُوا، فَوَرِثَهُمْ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِمْ بِالْقُعْدُدِ [4] بَنُو سعد بن زِيَاد مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ [5] ، وَكَانَتْ مِنْ بَنِي سَعْدٍ فِي آلِ صَفْوَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِجْنَةَ.
(نَسَبُ صَفْوَانَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: صَفْوَانُ بْنُ جُنَابِ بْنِ شِجْنَةَ بْنِ عُطَارِدَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ.
__________
[1] روى عَن جده، وَأَبِيهِ، وَعَمه حَمْزَة. وَعنهُ هِشَام بن عُرْوَة، ومُوسَى بن عقبَة، وَابْن إِسْحَاق وَجَمَاعَة، وَلَقَد مَاتَ شَابًّا عَن سبع وَثَلَاثِينَ سنة. (رَاجع تراجم رجال لِابْنِ إِسْحَاق) .
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «يرومى» ، وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] يُرِيد قرب النّسَب. يُقَال: رجل قعدد، إِذا كَانَ قريب الْآبَاء إِلَى الْجد الْأَكْبَر. وَمن أغرب مَا يذكر أَن يزِيد بن مُعَاوِيَة حج بِالنَّاسِ سنة خمسين، وَأَن عبد الصَّمد بن على حج بِالنَّاسِ سنة مائَة وَخمسين وآباؤهما فِي القعدد إِلَى عبد منَاف وَاحِد، وَبَينهمَا مائَة سنة.
[5] وَذَلِكَ لِأَن سَعْدا هُوَ ابْن زيد مَنَاة بن تَمِيم بن مر، وَكَانَ سعد أقعد بالغوث بن مر من غَيره من الْعَرَب.(1/120)
(صَفْوَانُ وَكَرِبٌ وَالْإِجَازَةُ فِي الْحَجِّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ صَفْوَانُ هُوَ الَّذِي يُجِيزُ لِلنَّاسِ بِالْحَجِّ مِنْ عَرَفَةَ، ثُمَّ بَنَوْهُ مِنْ بَعْدِهِ، حَتَّى كَانَ آخِرَهُمْ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، كَرِبُ بْنُ صَفْوَانَ، وَقَالَ أَوْسُ بْنُ تَمِيمِ بْنِ مَغْرَاءَ السَّعْدِيُّ:
لَا يَبْرَحُ النَّاسُ مَا حَجُّوا مُعَرَّفَهُمْ ... حَتَّى يُقَالَ أَجِيزُوا آلَ صَفْوَانَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِأَوْسِ بْنِ مَغْرَاءَ.
مَا كَانَت عَلَيْهِ عدوان من إفَاضَة الْمزْدَلِفَة
(شِعْرُ ذِي الْإِصْبَعِ فِي إفَاضَتِهِمْ بِالنَّاسِ) :
وَأَمَّا قَوْلُ ذِي الْإِصْبَعِ الْعَدْوَانِيِّ، وَاسْمُهُ حُرْثَانُ (مِنْ عَدْوَانَ) [1] بْنِ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْإِصْبَعِ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ إصْبَعٌ فَقَطَعَهَا:
عَذِيرَ [2] الْحَيِّ مِنْ عَدْوَانَ ... كَانُوا حَيَّةَ الْأَرْضِ [3]
بَغَى بَعْضُهُمْ ظُلْمًا ... فَلَمْ يُرْعِ [4] عَلَى بَعْضِ
وَمِنْهُم كَانَت السّادات ... وَالْمُوفُونَ بِالْقَرْضِ [5]
وَمِنْهُمْ من يُجِيز النّاس ... بِالسُّنَّةِ وَالْفَرْضِ
وَمِنْهُمْ حَكَمٌ يَقْضِي ... فَلَا يُنْقَضُ مَا يَقْضِي
__________
[1] زِيَادَة عَن الشّعْر وَالشعرَاء، وَهِي زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق، إِذْ لم نجد مرجعا من المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا اتّفق مَعَ الْأُصُول فِي اسْم ذِي الإصبع، وَهُوَ كَمَا نصت عَلَيْهِ: حرثان بن الْحَارِث بن محرث بن ثَعْلَبَة ابْن سيار (شباة، شَبابَة) بن ربيعَة بن هُبَيْرَة بن ثَعْلَبَة بن ظرب بن عَمْرو (عياذ) بن يشْكر بن عدوان ابْن عَمْرو بن سعد بن قيس بن عيلان بن مُضر بن نزار. وَقيل: حرثان بن موت بن الْحَارِث بن شباة بن ذهب بن ثَعْلَبَة ... إِلَخ (رَاجع خزانَة الْأَدَب ج 2، ص 408، والمفضليات ص 312 طبع بيروت، والأغاني ج 3 ص 89 طبع دَار الْكتب، وَالشعر وَالشعرَاء، وَشرح الْقَامُوس) .
[2] العذير: من يعْذر. يُرِيد: أَي هاتوا من يعْذر.
[3] يُقَال: فلَان حَيَّة الأَرْض، وحية الْوَادي: إِذا كَانَ مهيبا يذعر مِنْهُ، وَقيل: حَيَّة الأَرْض:
أَي حَيَاتهَا، لأَنهم كَانُوا يقومُونَ بِالنَّاسِ لجودهم وكرمهم، فكأنهم كَانُوا حَيَاة للْأَرْض وَأَهْلهَا.
[4] لم يرع: لم يبْق، يُقَال: مَا أرعى فلَان على فلَان: أَي مَا أبقى عَلَيْهِ.
[5] الْقَرْض هُنَا: الْجَزَاء، أَي من فعل شَيْئا جازوه بِهِ.(1/121)
(أَبُو سَيَّارَةَ وَإِفَاضَتُهُ بِالنَّاسِ) :
- وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ- فَلِأَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ كَانَتْ فِي عَدْوَانَ- فِيمَا حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ- يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. حَتَّى كَانَ آخِرَهُمْ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ أَبُو سَيَّارَةَ، عُمَيْلَةُ بْنُ الْأَعْزَلِ [1] .
فَفِيهِ يَقُولُ شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ:
نَحْنُ دَفَعْنَا عَنْ أَبِي سَيَّارَهْ ... وَعَنْ مَوَالِيهِ بَنِي فَزَارَهْ [2]
حَتَّى أَجَازَ سَالِمًا حِمَارَهْ ... مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو جَارَهُ
[3] قَالَ: وَكَانَ أَبُو سَيَّارَةَ يَدْفَعُ بِالنَّاسِ عَلَى أَتَانٍ [4] لَهُ، فَلِذَلِكَ يَقُولُ: «سَالِمًا حِمَارَهُ» .
أَمْرُ عَامِرِ بْنِ ظَرِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِيَاذِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ عَدْوَانَ
(قَضَاؤُهُ فِي خُنْثَى وَمَشْوَرَةُ جَارِيَتِهِ سُخَيْلَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَوْلُهُ «حَكَمٌ يَقْضِي» ، يَعْنِي عَامِرَ بْنَ ظَرِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِيَاذِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ عَدْوَانَ الْعَدْوَانِيَّ. وَكَانَتْ الْعَرَبُ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا نَائِرَةٌ [5] وَلَا عُضْلَةٌ [6] فِي قَضَاءٍ إلَّا أَسْنَدُوا ذَلِكَ إلَيْهِ ثُمَّ رَضُوا بِمَا قَضَى فِيهِ. فَاخْتُصِمَ إلَيْهِ فِي بَعْضِ مَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فِي رَجُلٍ خُنْثَى، لَهُ مَا لِلرَّجُلِ وَلَهُ مَا لِلْمَرْأَةِ، فَقَالُوا:
أَتَجْعَلُهُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً؟ وَلَمْ يَأْتُوهُ بِأَمْرِ كَانَ أَعْضَلَ مِنْهُ. فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمركُم، فو الله مَا نَزَلَ بِي مِثْلُ هَذِهِ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ! فَاسْتَأْخَرُوا عَنْهُ. فَبَاتَ لَيْلَتَهُ سَاهِرًا، يُقَلِّبُ أَمْرَهُ، وَيَنْظُرُ فِي شَأْنِهِ، لَا يَتَوَجَّهُ لَهُ مِنْهُ وَجْهٌ. وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا سُخَيْلَةُ تَرْعَى عَلَيْهِ غَنَمَهُ، وَكَانَ يُعَاتِبُهَا إذَا سَرَحَتْ فَيَقُولُ: صَبَّحْتِ وَاَللَّهِ
__________
[1] وَقيل اسْمه العَاصِي، وَاسم الأعزل خَالِد.
[2] يعْنى بمواليه: بنى عَمه، لِأَنَّهُ من عدوان، وعدوان وفزارة من قيس عيلان.
[3] يَدْعُو جَاره: أَي يَدْعُو الله عز وَجل يَقُول: اللَّهمّ كن لي جارا مِمَّن أخافه، أَي مجيرا.
[4] وَكَانَت تِلْكَ الأتان سَوْدَاء. وَلذَلِك يَقُول:
لاهم مَا لي فِي الْحمار الْأسود ... أَصبَحت بَين الْعَالمين أحسد
[5] النائرة: الكائنة الشنيعة تكون بَين الْقَوْم.
[6] العضلة: الْأَمر الشَّديد الّذي لَا يعلم لَهُ وَجه.(1/122)
يَا سُخَيْلُ! وَإِذَا أَرَاحَتْ عَلَيْهِ قَالَ: مَسَّيْتِ وَاَللَّهِ يَا سُخَيْلُ! وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَخِّرُ السَّرْحَ حَتَّى يَسْبِقَهَا بَعْضُ النَّاسِ، وَتُؤَخِّرُ الْإِرَاحَةَ حَتَّى يَسْبِقَهَا بَعْضٌ. فَلَمَّا رَأَتْ سَهَرَهُ وَقِلَّةَ قَرَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ قَالَتْ: مَا لَكَ لَا أَبَا لَكَ! مَا عَرَاكَ فِي لَيْلَتِكَ هَذِهِ؟
قَالَ: وَيْلَكَ! دَعِينِي، أَمْرٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِكَ، ثُمَّ عَادَتْ لَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهَا. فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: عَسَى أَنْ تَأْتِيَ مِمَّا أَنَا فِيهِ بِفَرَجٍ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! اُخْتُصِمَ إلَيَّ فِي مِيرَاثِ خُنْثَى، أَأَجْعَلُهُ رَجُلًا أَو امْرَأَة؟ فو الله مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ، وَمَا يَتَوَجَّهُ لِي فِيهِ وَجْهٌ.
قَالَ: فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ! لَا أَبَا لَكَ! أَتْبِعْ الْقَضَاءَ الْمَبَالَ [1] ، أَقْعِدْهُ، فَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرَّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ، فَهِيَ امْرَأَةٌ.
قَالَ: مَسِّي سُخَيْلُ بَعْدَهَا أَوْ صَبِّحِي، فَرَّجْتِهَا وَاَللَّهِ. ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ حِينَ أَصْبَحَ، فَقَضَى بِاَلَّذِي أَشَارَتْ عَلَيْهِ بِهِ.
غَلَبُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ عَلَى أَمْرِ مَكَّةَ وَجَمْعُهُ أَمْرَ قُرَيْشٍ وَمَعُونَةُ قُضَاعَةَ لَهُ
(هَزِيمَةُ صُوفَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ فَعَلَتْ صُوفَةُ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ، وَقَدْ عَرَفَتْ ذَلِكَ لَهَا الْعَرَبُ، وَهُوَ دِينٌ فِي أَنْفُسِهِمْ فِي عَهْدِ جُرْهُمٍ وَخُزَاعَةَ وَوِلَايَتِهِمْ.
فَأَتَاهُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، فَقَالَ: لَنَحْنُ أَوْلَى بِهَذَا مِنْكُمْ، فَقَاتِلُوهُ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَتْ صُوفَةُ، وَغَلَبَهُمْ قُصَيٌّ عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ.
(مُحَارَبَةُ قُصَيٍّ لِخُزَاعَةَ وَبَنِيَّ بَكْرٍ وَتَحْكِيمُ يَعْمُرَ بْنِ عَوْفٍ) :
وَانْحَازَتْ عِنْدَ ذَلِكَ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ عَنْ قُصَيٍّ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ سَيَمْنَعُهُمْ كَمَا مَنَعَ صُوفَةَ، وَأَنَّهُ سَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَمْرِ مَكَّةَ. فَلَمَّا انْحَازُوا عَنْهُ بَادَاهُمْ [2]
__________
[1] أَي اجْعَلْهُ تَابعا لَهُ، وَهَذَا من الِاسْتِدْلَال بالأمارات، وَله نَظَائِر كَثِيرَة فِي الشَّرِيعَة. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ 12: 18. لِأَن الْقَمِيص المدمى لم يكن فِيهِ خرق، وَلَا أثر لأنياب الذِّئْب.
[2] باداهم: كاشفهم.(1/123)
وَأَجْمَعَ لِحَرْبِهِمْ (وَثَبَتَ مَعَهُ أَخُوهُ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُضَاعَةَ) [1] .
وَخَرَجَتْ لَهُ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ فَالْتَقَوْا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا (بِالْأَبْطَحِ) [2] ، حَتَّى كَثُرَتْ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ إنَّهُمْ تَدَاعَوْا إلَى الصُّلْحِ وَإِلَى أَنْ يُحَكِّمُوا بَيْنَهُمْ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ، فَحَكَّمُوا يَعْمُرَ بْنَ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَامِرِ [3] بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ بِأَنَّ قُصَيًّا أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ وَأَمْرِ مَكَّةَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَأَنَّ كُلَّ دَمٍ أَصَابَهُ قُصَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ وَبَنِيَّ بَكْرٍ، مَوْضُوعٌ يَشْدَخُهُ [4] تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَأَنَّ مَا أَصَابَتْ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ فَفِيهِ الدِّيَةُ مُؤَدَّاةٌ، وَأَنْ يُخَلَّى بَيْنَ قُصَيٍّ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ وَمَكَّةَ.
(سَبَبُ تَسْمِيَةِ يَعْمُرَ بِالشَّدَّاخِ) :
فَسُمِّيَ يَعْمُرُ [5] بْنُ عَوْفٍ يَوْمَئِذٍ: الشَّدَّاخَ، لِمَا شَدَخَ مِنْ الدِّمَاءِ وَوَضَعَ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: الشُّدَاخُ.
(قُصَيٌّ أَمِيرًا عَلَى مَكَّةَ وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهِ مُجَمِّعًا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلِيَ قُصَيٌّ الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكَّةَ، وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إلَى مَكَّةَ، وَتَمَلَّكَ عَلَى قَوْمِهِ وَأَهْلِ مَكَّةَ فَمَلَّكُوهُ. إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ لِلْعَرَبِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ دِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي تَغْيِيرُهُ. فَأَقَرَّ آلَ صَفْوَانَ وَعَدْوَانَ وَالنِّسْأَةَ وَمُرَّةَ بْنَ عَوْفٍ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَهَدَمَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ كُلَّهُ.
فَكَانَ قُصَيٌّ أَوَّلَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَصَابَ مُلْكًا أَطَاعَ لَهُ بِهِ قَوْمُهُ، فَكَانَتْ
__________
[1] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] فِي الطَّبَرِيّ: « ... بن كَعْب بن لَيْث» .
[4] يشدخه: يكسرهُ، وَيُرِيد أَنه أبطل تِلْكَ الدِّمَاء، وَلم يَجْعَل لَهَا حظا، وَلذَلِك قيل: تَحت قَدَمَيْهِ.
[5] يعمر الشداخ: هُوَ جد بنى دأب الَّذين أَخذ عَنْهُم كثير من علم الْأَخْبَار والأنساب. وهم عِيسَى ابْن يزِيد بن دأب، وَأَبوهُ يزِيد، وَحُذَيْفَة بن دأب، ودأب: هُوَ ابْن كرز بن أَحْمَر، من بنى يعمر ابْن عَوْف.(1/124)
إلَيْهِ الْحِجَابَةُ [1] ، وَالسِّقَايَةُ [2] ، وَالرِّفَادَةُ [3] ، وَالنَّدْوَةُ [4] ، وَاللِّوَاءُ [5] ، فَحَازَ شَرَفَ مَكَّةَ كُلَّهُ. وَقَطَعَ مَكَّةَ رِبَاعًا بَيْنَ قَوْمِهِ، فَأَنْزَلَ كُلَّ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَنَازِلَهُمْ مِنْ مَكَّةَ الَّتِي أَصْبَحُوا عَلَيْهَا، وَيَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ قُرَيْشًا هَابُوا قَطْعَ شَجَرِ الْحَرَمِ فِي مَنَازِلِهِمْ فَقَطَعَهَا قُصَيٌّ بِيَدِهِ وَأَعْوَانِهِ [6] ، فَسَمَّتْهُ قُرَيْشٌ مُجَمِّعًا لِمَا جَمَعَ مِنْ أَمْرِهَا، وَتَيَمَّنَتْ بِأَمْرِهِ، فَمَا تُنْكَحُ امْرَأَةٌ، وَلَا يَتَزَوَّجُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرٍ نَزَلَ بِهِمْ، وَلَا يَعْقِدُونَ لِوَاءً لِحَرْبِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِهِمْ إلَّا فِي دَارِهِ، يَعْقِدُهُ لَهُمْ بَعْضُ وَلَدِهِ، وَمَا تَدَّرِعُ [7] جَارِيَةٌ إذَا بَلَغَتْ أَنْ تَدَّرِعَ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا فِي دَارِهِ، يَشُقُّ عَلَيْهَا فِيهَا دِرْعَهَا ثُمَّ تَدَّرِعُهُ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ بِهَا إلَى أَهْلِهَا. فَكَانَ أَمْرُهُ فِي قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي حَيَاتِهِ، وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، كَالدِّينِ الْمُتَّبِعِ لَا يُعْمَلُ بِغَيْرِهِ. وَاِتَّخَذَ لِنَفْسِهِ دَارَ النَّدْوَةِ وَجَعَلَ بَابَهَا إلَى مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، فَفِيهَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقْضِي أُمُورَهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ الشَّاعِرُ:
__________
[1] الحجابة: أَن تكون مَفَاتِيح الْبَيْت عِنْده فَلَا يدْخلهُ أحد إِلَّا بِإِذْنِهِ.
[2] السِّقَايَة: يعْنى سِقَايَة زَمْزَم، وَكَانُوا يصنعون بهَا شرابًا فِي الْمَوْسِم للْحَاج الّذي يوافي مَكَّة ويمزجونه تَارَة بِعَسَل، وَتارَة بِلَبن، وَتارَة بنبيذ، يتطوعون بذلك من عِنْد أنفسهم.
[3] الرفادة: طَعَام كَانَت قُرَيْش تجمعه كل عَام لأهل الْمَوْسِم، وَيَقُولُونَ: هم أضياف الله تَعَالَى.
وسيعرض لَهَا الْمُؤلف بالْكلَام بعد قَلِيل.
[4] الندوة: الِاجْتِمَاع للمشورة والرأى، وَكَانَت الدَّار الَّتِي اتخذها قصي لذَلِك يُقَال لَهَا دَار الندوة، وَهَذِه الدَّار صَارَت بعد بنى عبد الدَّار إِلَى حَكِيم بن حزَام بن خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي، فَبَاعَهَا فِي الْإِسْلَام بِمِائَة ألف دِرْهَم. وَذَلِكَ فِي زمن مُعَاوِيَة، فلامه مُعَاوِيَة فِي ذَلِك. وَقَالَ: أبعت مكرمَة آبَائِك وشرفهم؟ فَقَالَ حَكِيم: ذهبت المكارم إِلَّا التَّقْوَى، وَالله لقد اشْتَرَيْتهَا فِي الْجَاهِلِيَّة بزق خمر، وَقد بعتها بِمِائَة ألف دِرْهَم، وأشهدكم أَن ثمنهَا فِي سَبِيل الله، فأينا المغبون؟
[5] اللِّوَاء: يعْنى فِي الْحَرْب، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يحملهُ عِنْدهم إِلَّا قوم مخصوصون.
[6] الْمَعْرُوف وَالأَصَح أَن قُريْشًا حِين أَرَادوا الْبُنيان قَالُوا لقصي: كَيفَ نصْنَع فِي شجر الْحرم؟
فَحَذَّرَهُمْ قطعهَا وخوفهم الْعقُوبَة فِي ذَلِك، فَكَانَ أحدهم يحوف بالبنيان حول الشَّجَرَة حَتَّى تكون فِي منزله، وَإِن أول من ترخص فِي قطع شجر الْحرم للبنيان عبد الله بن الزبير حِين ابتنى دورا بقيقعان، وَلكنه جعل دِيَة كل شَجَرَة بقرة، وَكَذَلِكَ يرْوى عَن عمر رضى الله عَنهُ أَنه قطع دوحة كَانَت فِي دَار أَسد بن عبد الْعُزَّى وَكَانَت تنَال أطرافها ثِيَاب الطائفين بِالْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ قبل أَن يُوسع الْمَسْجِد، فقطعها عمر رضى الله عَنهُ، ووداها بقرة.
[7] ادرعت الْجَارِيَة: لبست الدرْع.(1/125)
قُصَيٌّ لَعَمْرِي كَانَ يُدَعَّى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ
[1] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ [2] ابْن خَبَّابٍ صَاحِبَ الْمَقْصُورَةِ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ، حَدِيثَ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، وَمَا جَمَعَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ، وَإِخْرَاجِهِ خُزَاعَةَ وَبَنِيَّ بَكْرٍ مِنْ مَكَّةَ، وَوِلَايَتِهِ الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكَّةَ، فَلَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ.
(شِعْرُ رِزَاحٍ فِي نُصْرَتِهِ قُصَيًّا وَرَدُّ قُصَيٍّ عَلَيْهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ قُصَيٌّ مِنْ حَرْبِهِ، انْصَرَفَ أَخُوهُ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ إلَى بِلَادِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ رِزَاحٌ فِي إجَابَتِهِ قُصَيًّا:
لَمَّا أَتَى مِنْ قُصَيٍّ رَسُولُ ... فَقَالَ الرَّسُولُ أَجِيبُوا الْخَلِيلَا
نَهَضْنَا إلَيْهِ نَقُودُ الْجِيَادَ ... وَنَطْرَحُ عَنَّا الْمَلُولَ الثَّقِيلَا
نَسِيرُ بِهَا اللَّيْلَ حَتَّى الصَّبَاحِ ... وَنَكْمِي [3] النَّهَارَ لِئَلَّا نَزُولَا
فَهُنَّ سِرَاعٌ كَوِرْدِ [4] الْقَطَا ... يُجِبْنَ بِنَا مِنْ قُصَيٍّ رَسُولَا
جَمَعْنَا مِنْ السِّرِّ مِنْ أَشْمَذَيْنِ [5] ... وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ جَمَعْنَا قَبِيلَا
فَيَا لَكَ حُلْبَةَ مَا لَيْلَةٌ ... تَزِيدُ على الْألف سَببا رَسِيلَا [6]
فَلَمَّا مَرَرْنَ عَلَى عَسْجَدٍ [7] ... وَأَسْهَلْنَ مِنْ مُسْتَنَاخٍ سَبِيلَا [8]
__________
[1] وَيذكر أَن هَذَا الشّعْر لحذافة بن جمح.
[2] هُوَ السَّائِب بن خباب الْمدنِي أَبُو مُسلم صَاحب الْمَقْصُورَة، وَيُقَال هُوَ مولى فَاطِمَة بنت عتبَة، وَلم نجد فِيمَن رووا عَنهُ عبد الْملك بن رَاشد، كَمَا لم نجده فِي شُيُوخ ابْن إِسْحَاق الَّذين روى عَنْهُم. (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب وتراجم رجال) .
[3] نكمى: نكمن ونستتر.
[4] الْورْد: الْوَارِدَة.
[5] أشمذان (بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر النُّون، على لفظ التَّثْنِيَة) : قبيلتان، وَيُقَال جبلان بَين الْمَدِينَة وخيبر تنزلهما جُهَيْنَة وَأَشْجَع.
[6] الحلبة: جمَاعَة الْخَيل. والسيب: الْمَشْي السَّرِيع فِي رفق كَمَا تنساب الْحَيَّة. والرسيل: الّذي فِيهِ تمهل.
[7] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عسجر» وَكِلَاهُمَا اسْم على مَوضِع بِعَيْنِه. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[8] أسهل: حل الْموضع السهل.(1/126)
وَجَاوَزْنَ بِالرُّكْنِ مِنْ وَرِقَانٍ [1] ... وَجَاوَزْنَ بِالْعَرْجِ [2] حَيَّا حُلُولَا
مَرَرْنَ عَلَى الْحِلِّ [3] مَا ذُقْنَهُ ... وَعَالَجْنَ مِنْ مَرٍّ لَيْلًا طَوِيلَا
نُدْنِي مِنْ الْعُوذِ أَفْلَاءَهَا [4] ... إرَادَةَ أَنْ يَسْتَرِقْنَ الصَّهِيلَا
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى مَكَّةَ ... أَبَحْنَا الرِّجَالَ قَبِيلًا قَبِيلًا
نُعَاوِرُهُمْ ثُمَّ حَدَّ السُّيُوفِ ... وَفِي كُلِّ أَوْبٍ خَلَسْنَا الْعَقُولَا [5]
نخبّزهم بصلاب النّسور ... خَبْزَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزَ الذَّلِيلَا [6]
قَتَلْنَا خُزَاعَةَ فِي دَارِهَا ... وَبَكْرًا قَتَلْنَا وَجِيلًا فَجِيلَا
__________
[1] ورقان (بِالْفَتْح ثمَّ الْكسر، ويروى بِسُكُون الرَّاء) : جبل أسود بَين العرج والرويثة، على يَمِين المصعد من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ لياقوت) .
[2] العرج (بِفَتْح أَوله وَسُكُون ثَانِيه) : وَاد من نواحي الطَّائِف، وَإِلَيْهِ ينْسب العرجى الشَّاعِر.
(رَاجع مُعْجم مَا استعجم، ومعجم الْبلدَانِ) .
[3] كَذَا فِي إِحْدَى رِوَايَات الرَّوْض الْأنف، وَشرح السِّيرَة. والحل (بِالْكَسْرِ) : جمع حلَّة، وَهِي شَجَرَة شاكة، أَصْغَر من القتاد، يسميها أهل الْبَادِيَة الشرق. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هِيَ شَجَرَة إِذا أكلتها الْإِبِل سهل خُرُوج أَلْبَانهَا، وَقيل هِيَ شَجَرَة تنْبت بالحجاز تظهر من الأَرْض غبراء ذَات شوك تأكلها الدَّوَابّ. وَهُوَ سريع النَّبَات ينْبت بالجدد والآكام والحصباء، وَلَا ينْبت فِي سهل وَلَا جبل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْحلَّة: شَجَرَة شاكة، تنْبت فِي غلظ الأَرْض، أَصْغَر من العوسجة، وَرقهَا صغَار وَلَا ثَمَر لَهَا، وَهِي مرعى صدق.
وَفِي رِوَايَة ثَانِيَة: «الْحِيَل» . وَهُوَ المَاء المستنقع فِي بطن وَاد.
وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة، وَهِي الرِّوَايَة الَّتِي أَجمعت عَلَيْهَا الْأُصُول: «الْحلِيّ» . وَقد ذهب السهيليّ فِي تَفْسِيره إِلَى أَنه نبت، وَهُوَ ثَمَر القلقلان. وغلطه فِي ذَلِك أَبُو ذَر فِي شرح السِّيرَة، وَقَالَ: « ... وَهَذَا غلط، لِأَن اسْم النَّبَات الْحلِيّ، بتَشْديد الْيَاء وبكسر اللَّام» . وَهَذَا مَا عَلَيْهِ معاجم اللُّغَة، وَذهب أَبُو ذَر إِلَى أَن «الْحلِيّ» اسْم مَوضِع، وَلم يتَعَرَّض للْكَلَام عَنهُ بِشَيْء. والّذي فِي المعاجم الجغرافية: أَن حلى: مَوضِع بِالْيمن على سَاحل الْبَحْر بَينه وَبَين السرين يَوْم وَاحِد، وَبَينه وَبَين مَكَّة ثَمَانِيَة أَيَّام، وَقيل هِيَ لُغَة فِي حلية، وَهِي من أَرض الْيمن، وَقيل بنواحي الطَّائِف. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح السِّيرَة، ولسان الْعَرَب، ومعجم الْبلدَانِ) .
[4] العوذ: جمع عَائِذ، وَهِي النَّاقة أَو الْفرس الَّتِي لَهَا أَوْلَاد. والأفلاء: جمع فَلَو، وَهُوَ الْمهْر الْعَظِيم أَو الْبَالِغ سنة.
[5] نعاورهم: نداولهم مرّة بعد مرّة. والأوب: الرُّجُوع.
[6] نخبزهم: نسوقهم سوقا شَدِيدا. وصلاب النسور: الْخَيل. والنسور: جمع نسر، وَهُوَ اللَّحْم الْيَابِس الّذي فِي بَاطِن الْحَافِر.(1/127)
نَفَيْنَاهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمَلِيكِ ... كَمَا لَا يَحِلُّونَ أَرْضًا سُهُولَا
فَأَصْبَحَ سَبْيُهُمْ فِي الْحَدِيدِ ... وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ شَفَيْنَا الْغَلِيلَا
وَقَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَعْدِ [1] هُذَيْمٍ الْقُضَاعِيُّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ قُصَيٍّ حِينَ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ:
جَلَبْنَا الْخَيْلَ مُضْمَرَةً تَغَالِي [2] ... مِنْ الْأَعْرَافِ [3] أَعْرَافَ الْجِنَابِ [4]
إلَى غَوْرَى تِهَامَةَ فَالْتَقَيْنَا ... مِنْ الْفَيْفَاءِ فِي قَاعٍ يَبَابِ [5]
فَأَمَّا صُوفَةُ الْخُنْثَى فَخَلَّوْا ... مَنَازِلَهُمْ مُحَاذَرَةَ الضِّرَابِ
وَقَامَ بَنُو عَلِيٍّ إذْ رَأَوْنَا ... إلَى الْأَسْيَافِ كَالْإِبِلِ الطِّرَابِ
[6] وَقَالَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ:
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ [7] بَنِي لُؤَيٍّ ... بِمَكَّةَ مَنْزِلِي وَبِهَا رَبِيتُ
إلَى الْبَطْحَاءِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ ... وَمَرْوَتُهَا رَضِيتُ بِهَا رَضِيتُ
فَلَسْتُ لِغَالِبِ إنْ لَمْ تَأَثَّلْ [8] ... بِهَا أَوْلَادُ قَيْذَرَ وَالنَّبِيتُ [9]
رِزَاحٌ نَاضِرِي وَبِهِ أُسَامِي ... فَلَسْتُ أَخَافُ ضَيْمًا مَا حَيِيتُ
__________
[1] كَذَا فِي أوالاشتقاق والمعارف. وَكَانَ هذيم عبدا حَبَشِيًّا فنسب إِلَيْهِ سعد، وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«سعد بن هذيم» . وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] تغالى: ترْتَفع فِي سَيرهَا، من المغالاة، وَهِي الِارْتفَاع والتزيد فِي السّير.
[3] الْأَعْرَاف: جمع عرف، وَهُوَ الرمل الْمُرْتَفع المستطيل.
[4] الجناب (بِالْكَسْرِ) : مَوضِع بعراض خَيْبَر وَسلَاح ووادي الْقرى، وَقيل: هُوَ من منَازِل بنى مَازِن، وَقيل: من ديار بنى فَزَارَة بَين الْمَدِينَة وفهر. وَقَالَ السهيليّ: هُوَ مَوضِع من بِلَاد قضاعة.
وَهُنَاكَ جناب آخر، إِلَّا أَنه بِفَتْح الْجِيم، وَهُوَ مَوضِع فِي أَرض كلب فِي السماوة بَين الْعرَاق وَالشَّام.
وَالظَّاهِر أَن الأول هُوَ المُرَاد هُنَا.
[5] الْغَوْر: المنخفض. والفيفاء: الصَّحرَاء. والقاع: المنخفض من الأَرْض. واليباب: القفر.
[6] كَذَا فِي الأَصْل. والطراب: الْإِبِل الَّتِي حنت إِلَى مواطنها واشتاقت. ويروى: «الظراب» .
(بالظاء الْمُعْجَمَة) : جمع ظرب، وَهُوَ الجبيل الصَّغِير، شبه الْإِبِل بِهِ.
[7] يُرِيد أَنهم يعصمون النَّاس ويمنعونهم، لكَوْنهم أهل الْبَيْت وَالْحرم.
[8] يُقَال: تأثل فلَان بِالْمَكَانِ: إِذا أَقَامَ بِهِ وَاسْتقر وَلم يبرح.
[9] أَوْلَاد قيذر والنبيت: يعْنى أَوْلَاد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام.(1/128)
(مَا كَانَ بَيْنَ رِزَاحٍ وَبَيْنَ نَهْدٍ وَحَوْتَكَةَ، وَشِعْرُ قُصَيٍّ فِي ذَلِكَ
) : فَلَمَّا اسْتَقَرَّ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي بِلَادِهِ، نشره الله ونشرحنا، فَهُمَا قَبِيلَا عُذْرَةَ [1] الْيَوْمِ. وَقَدْ كَانَ بَيْنَ رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ، حِينَ قَدِمَ بِلَادَهُ، وَبَيْنَ نَهْدِ بْنِ زَيْدِ وَحَوْتَكَةَ بْنِ أَسْلُمَ [2] ، وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ قُضَاعَةَ، شَيْءٌ، فَأَخَافَهُمْ حَتَّى لَحِقُوا بِالْيَمَنِ وَأَجْلَوْا مِنْ بِلَادِ قُضَاعَةَ، فَهُمْ الْيَوْمَ بِالْيَمَنِ. فَقَالَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ، وَكَانَ يُحِبُّ قُضَاعَةَ وَنَمَاءَهَا وَاجْتِمَاعَهَا بِبِلَادِهَا، لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِزَاحٍ مِنْ الرَّحِمِ، وَلِبَلَائِهِمْ [3] عِنْدَهُ إذْ أَجَابُوهُ إذْ دَعَاهُمْ إلَى نُصْرَتِهِ، وَكَرِهَ مَا صَنَعَ بِهِمْ رِزَاحٌ:
أَلَا مِنْ مُبْلِغٍ عَنِّي رِزَاحَا ... فَإِنِّي قَدْ لَحَيْتُكَ [4] فِي اثْنَتَيْنِ
لَحَيْتُكَ فِي بَنِي نَهْدِ بْنِ زَيْدِ ... كَمَا فَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنِي
وَحَوْتَكَةُ بْنُ أَسْلُمَ إنَّ قَوْمًا ... عَنَوْهُمْ بِالْمَسَاءَةِ قَدْ عَنَوْنِي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيِّ.
(مَا آثَرَ بِهِ قُصَيٌّ عَبْدَ الدَّارِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا كَبِرَ قُصَيٌّ وَرَقَّ عَظْمُهُ، وَكَانَ عَبْدُ الدَّارِ بِكْرَهُ، وَكَانَ عَبْدُ مَنَافٍ قَدْ شَرُفَ فِي زَمَانِ أَبِيهِ وَذَهَبَ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَعَبْدُ الْعُزَّى وَعَبْدٌ. قَالَ قُصَيٌّ لِعَبْدِ الدَّارِ: (أَمَا وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّ) [5] لِأُلْحِقَنَّكَ بِالْقَوْمِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ شَرُفُوا عَلَيْكَ: لَا يَدْخُلُ رَجُلٌ مِنْهُمْ الْكَعْبَةَ حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تَفْتَحُهَا لَهُ، وَلَا يَعْقِدُ لِقُرَيْشٍ لِوَاءً لِحَرْبِهَا إلَّا أَنْتَ بِيَدِكَ، وَلَا يَشْرَبُ أَحَدٌ بِمَكَّةَ إلَّا مِنْ سِقَايَتِكَ، وَلَا يَأْكُلُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْسِمِ طَعَامًا إلَّا مِنْ طَعَامِكَ، وَلَا تَقْطَعُ قُرَيْشٌ
__________
[1] فِي قضاعة عذرتان، عذرة بن رفيدة، وهم من بنى كلب بن وبرة، وعذرة بن سعد بن سود بن أسلم (بِضَم اللَّام) بن الحاف بن قضاعة. وَأسلم هَذَا من ولد حن بن ربيعَة أخى رزاح بن ربيعَة (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[2] هُوَ بِضَم اللَّام، وَلَيْسَ فِي الْعَرَب أسلم بِضَم اللَّام إِلَّا ثَلَاثَة اثْنَان فِي قضاعة، وهما أسلم بن الحاف هَذَا، وَأسلم بن تدول بن تيم اللات بن رفيدة بن ثَوْر بن كلب، وَالثَّالِث فِي عك، وَهُوَ أسلم بن القياتة بن الشَّاهِد بن عك. (رَاجع مؤتلف الْقَبَائِل ومختلفها لِابْنِ حبيب) .
[3] بلاؤهم: نعمتهم.
[4] لحاه: لامه.
[5] زِيَادَة عَن أ.
9- سيرة ابْن هِشَام- 2(1/129)
أَمْرًا مِنْ أُمُورِهَا إلَّا فِي دَارِكَ. فَأَعْطَاهُ دَارَهُ دَارَ النَّدْوَةِ، الَّتِي لَا تَقْضِي قُرَيْشٌ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهَا إلَّا فِيهَا، وَأَعْطَاهُ الْحِجَابَةَ واللواء والسقاية والرّفاة.
(الرفادة) :
وَكَانَتْ الرِّفَادَةُ خَرْجًا تُخْرِجُهُ قُرَيْشٌ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ مِنْ أَمْوَالِهَا إلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، فَيَصْنَعُ بِهِ طَعَامًا لِلْحَاجِّ، فَيَأْكُلُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَعَةٌ وَلَا زَادٌ. وَذَلِكَ أَنَّ قُصَيًّا فَرَضَهُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَمَرَهُمْ بِهِ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّكُمْ جِيرَانُ اللَّهِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَهْلُ الْحَرَمِ، وَإِنَّ الْحَاجَّ ضَيْفُ اللَّهِ وَزُوَّارُ بَيْتِهِ، وَهُمْ أَحَقُّ الضَّيْفِ بِالْكَرَامَةِ، فَاجْعَلُوا لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا أَيَّامَ الْحَجِّ، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْكُمْ فَفَعَلُوا. فَكَانُوا يُخْرِجُونَ لِذَلِكَ كُلَّ عَامٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ خَرْجًا فَيَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ، فَيَصْنَعُهُ طَعَامًا لِلنَّاسِ أَيَّامَ مِنًى. فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قَوْمِهِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ جَرَى فِي الْإِسْلَامِ إلَى يَوْمِكَ هَذَا. فَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يَصْنَعُهُ السُّلْطَانُ كُلَّ عَامٍ بِمَنَى لِلنَّاسِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْحَجُّ» .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بِهَذَا مِنْ أَمْرِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، وَمَا قَالَ لِعَبْدِ الدَّارِ فِيمَا دُفِعَ إلَيْهِ مِمَّا كَانَ بِيَدِهِ، أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ:
سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ لِرَجُلِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، يُقَالُ لَهُ: نُبَيْهُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ.
قَالَ الْحَسَنُ: فَجَعَلَ إلَيْهِ قُصَيٌّ كُلَّ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ، وَكَانَ قُصَيٌّ لَا يُخَالَفُ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ صَنَعَهُ.
ذِكْرُ مَا جَرَى مِنْ اخْتِلَافِ قُرَيْشٍ بَعْدَ قُصَيٍّ وَحِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ
(الْخِلَافُ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ الدِّارِ وَبَنِي أَعْمَامِهِمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ هَلَكَ، فَأَقَامَ أَمْرَهُ فِي قَوْمِهِ وَفِي غَيْرِهِمْ بَنُوهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَاخْتَطُّوا مَكَّةَ رِبَاعًا [1]- بَعْدَ الَّذِي كَانَ قَطَعَ
__________
[1] الرباع: الْمنَازل وَمَا حولهَا، وَاحِدهَا: ربع (بِالْفَتْح) .(1/130)
لِقَوْمِهِ [1] بِهَا- فَكَانُوا يَقْطَعُونَهَا [2] فِي قَوْمِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ وَيَبِيعُونَهَا، فَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ مَعَهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَازُعٌ، ثُمَّ إنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافِ ابْن قُصَيِّ [2] عَبْدَ شَمْسٍ وَهَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وَنَوْفَلًا [3] أَجَمَعُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مَا بِأَيْدِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ مِمَّا كَانَ قُصَيٌّ جَعَلَ إلَى عَبْدِ الدَّارِ، مِنْ الْحِجَابَةِ وَاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، فَتَفَرَّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى رَأْيِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ لِمَكَانِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، يَرَوْنَ أَنْ لَا يُنْزَعَ مِنْهُمْ مَا كَانَ قُصَيٌّ جَعَلَ إلَيْهِمْ.
(مَنْ نَاصَرُوا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَمَنْ نَاصَرُوا بَنِي أَعْمَامِهِمْ.) :
فَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ عَامِرُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابْن عَبْدِ الدَّارِ. فَكَانَ بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَبَنُو زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، وَبَنُو تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ.
وَكَانَ بَنُو مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ، وَبَنُو سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ، وَبَنُو جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ، وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَخَرَجَتْ عَامِرُ بْنُ لُؤَيٍّ وَمُحَارِبُ بْنُ فِهْرٍ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ.
فَعَقَدَ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى أَمْرِهِمْ حِلْفًا مُؤَكَّدًا عَلَى أَنْ لَا يَتَخَاذَلُوا، وَلَا يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا بَلَّ بَحْرَ صُوفَةَ [4] .
__________
[1] تقدم أَن قصيا أنزل كل قوم من قُرَيْش مَنَازِلهمْ من مَكَّة الَّتِي أَصْبحُوا عَلَيْهَا.
[2] فِي أ: «يعطونها» .
[3] وَقد كَانَ لعبد منَاف ولد خَامِس، وَهُوَ أَبُو عَمْرو، واسْمه عبيد، أدرج وَلَا عقب لَهُ. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] يُرِيد إِلَى الْأَبَد. وصوف الْبَحْر: شَيْء على شكل الصُّوف الحيواني، واحدته: صوفة. يُقَال:
لَا آتِيك مَا بل بَحر صوفة. أَو مَا بل الْبَحْر صوفة. يُرِيد لَا آتِيك أبدا (لِسَان الْعَرَب مَادَّة صوف) .(1/131)
(مَنْ دَخَلُوا فِي حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ) :
فَأَخْرَجَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً طِيبًا. فَيَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ نِسَاءِ [1] بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَخْرَجَتْهَا لَهُمْ، فَوَضَعُوهَا لِأَحْلَافِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ غَمَسَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ فِيهَا، فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا هُمْ وَحَلْفَاؤُهُمْ، ثُمَّ مَسَحُوا الْكَعْبَةَ بِأَيْدِيهِمْ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَسُمُّوا الْمُطَيَّبِينَ.
(مَنْ دَخَلُوا فِي حِلْفِ الْأَحْلَافِ) :
وَتَعَاقَدَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَتَعَاهَدُوا هُمْ وَحُلَفَاؤُهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حِلْفًا مُؤَكَّدًا، عَلَى أَنْ لَا يَتَخَاذَلُوا وَلَا يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَسُمُّوا الْأَحْلَافَ [2] .
(تَوْزِيعُ الْقَبَائِلِ فِي الْحَرْبِ) :
ثُمَّ سُونِدَ [3] بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَلُزَّ [4] بَعْضُهَا بِبَعْضِ، فَعُبِّيَتْ [5] بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ لِبَنِي سَهْمٍ، وَعُبِّيَتْ بَنُو أَسَدٍ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعُبِّيَتْ زُهْرَةُ لِبَنِي جُمَحَ، وَعُبِّيَتْ بَنُو تَيْمٍ لِبَنِي مَخْزُومٍ، وَعُبِّيَتْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرِ لِبَنِي عَدِّي بْنِ كَعْبٍ. ثُمَّ قَالُوا: لِتُفْنَ كُلُّ قَبِيلَةٍ مَنْ أُسْنِدَ إلَيْهَا.
(مَا تَصَالَحَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ) :
فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ قَدْ أَجَمَعُوا لِلْحَرْبِ إذْ تَدَاعَوْا إلَى الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، وَأَنْ تَكُونَ الْحِجَابَةُ وَاللِّوَاءُ وَالنَّدْوَةُ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَمَا كَانَتْ. فَفَعَلُوا وَرَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِذَلِكَ، وَتَحَاجَزَ النَّاسُ عَنْ الْحَرْبِ، وَثَبَتَ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَنْ حَالَفُوا، فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْهُ إلَّا شِدَّةً» [6] .
__________
[1] يُقَال: إِن الَّتِي أخرجت لَهُم الْجَفْنَة هِيَ أم حَكِيم الْبَيْضَاء بنت عبد الْمطلب عمَّة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوأمة أَبِيه. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح السِّيرَة) .
[2] وَيُقَال إِن عمر كَانَ من الأحلاف، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر من المطيبين.
[3] المساندة: الْمُقَابلَة والمعاونة.
[4] لز: أَي شدّ بَعْضهَا بِبَعْض.
[5] رَاجع الْحَاشِيَة (رقم 2 ص 52) .
[6] يُرِيد المعاقدة على الْخَيْر ونصرة الْحق. وبذا يجْتَمع هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر لَهُ صلى الله عَلَيْهِ(1/132)
حِلْفُ الْفُضُولِ
(سَبَب تَسْمِيَته كَذَلِك) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا حِلْفُ الْفُضُولِ [1] فَحَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ:
تَدَاعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى حِلْفٍ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ ابْن عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، لِشَرَفِهِ وَسِنِّهِ، فَكَانَ حِلْفُهُمْ عِنْدَهُ: بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَزُهْرَةُ ابْن كِلَابٍ، وَتَيْمُ بْنُ مُرَّةَ. فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ
__________
[ () ] وَسلم، وَهُوَ: «لَا حلف فِي الْإِسْلَام» . على أَن يكون المُرَاد من هَذَا الحَدِيث الثَّانِي: النهى عَمَّا كَانَت تَفْعَلهُ الْجَاهِلِيَّة من المحالفة على الْفِتَن، والقتال بَين الْقَبَائِل والغارات. وَقيل: إِن الحَدِيث الثَّانِي، وَهُوَ «لَا حلف فِي الْإِسْلَام» حاء لاحقا، قَالَه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زمن الْفَتْح، فَهُوَ نَاسخ للْحَدِيث الأول.
(لِسَان الْعَرَب: حلف) .
[1] يذكرُونَ: فِي سَبَب تَسْمِيَة هَذَا الْحلف بِهَذَا الِاسْم، أَن جرهما فِي الزَّمن الأول، قد سبقت قُريْشًا إِلَى مثل هَذَا الْحلف، فتحالف مِنْهُم ثَلَاثَة هم وَمن تَبِعَهُمْ، أحدهم: الْفضل بن فضَالة، وَالثَّانِي: الْفضل ابْن ودَاعَة، وَالثَّالِث: فُضَيْل بن الْحَارِث، وَقيل: بل هم: الفضيل بن شراعة، وَالْفضل بن ودَاعَة، وَالْفضل بن قضاعة، فَلَمَّا أشبه حلف قُرَيْش هَذَا حلف هَؤُلَاءِ الجرهميين سمى حلف الفضول.
وَقيل: بل سمى كَذَلِك لأَنهم تحالفوا أَن ترد الفضول على أَهلهَا، وَألا يَغْزُو ظَالِم مَظْلُوما.
وَكَانَ حلف الفضول هَذَا قبل الْبَعْث بِعشْرين سنة، وَكَانَ أكْرم حلف وأشرفه. وَأول من تكلم بِهِ ودعا إِلَيْهِ الزبير بن عبد الْمطلب، وَكَانَ سَببه أَن رجلا من زبيد قدم مَكَّة ببضاعة، فاشتراها مِنْهُ العَاصِي بن وَائِل، وَكَانَ ذَا قدر بِمَكَّة وَشرف، فحبس عَنهُ حَقه، فاستعدى عَلَيْهِ الزبيدِيّ الأحلاف: عبد الدَّار، ومخزوما، وجمح، وَسَهْما، وعدي بن كَعْب، فَأَبَوا أَن يعينوه على العَاصِي، وزبروه (انتهروه) .
فَلَمَّا رأى الزبيدِيّ الشَّرّ، أَو فِي على أَبى قبيس عِنْد طُلُوع الشَّمْس، وقريش فِي أَنْدِيَتهمْ حول الْكَعْبَة، فصاح بِأَعْلَى صَوته:
يَا آل فهر لمظلوم بضاعته ... بِبَطن مَكَّة نائى الدَّار والنفر
ومحرم أَشْعَث لم يقْض عمرته ... يَا للرِّجَال وَبَين الْحجر وَالْحجر
إِن الْحَرَام لمن تمت كرامته ... وَلَا حرَام لثوب الْفَاجِر الْغدر
فَقَامَ فِي ذَلِك الزبير بن عبد الْمطلب، وَقَالَ: مَا لهَذَا مترك. فاجتمعت هَاشم، وزهرة، وتيم بن مرّة فِي دَار ابْن جدعَان، فَصنعَ لَهُم طَعَاما وتعاقدوا، وَكَانَ حلف الفضول. وَكَانَ بعْدهَا أَن أنصفوا الزبيدِيّ من العَاصِي. (عَن الرَّوْض الْأنف) .(1/133)
أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلِمَتُهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ.
(حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حِلْفِ الْفُضُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ [1] التَّيْمِيُّ [2] أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ [3] حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ [4] وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ.
(نَازَعَ الْحُسَيْنُ الْوَلِيدَ فِي حَقٍّ، وَهَدَّدَ بِالدَّعْوَةِ إلَى حِلْفِ الْفُضُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [5] بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِي اللَّيْثِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ ابْن إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيَّ حَدَّثَهُ:
أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبَيْنَ الْوَلِيدِ ابْن عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَالْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ أَمَّرَهُ عَلَيْهَا عَمُّهُ مُعَاوِيَةُ
__________
[1] هُوَ مُحَمَّد بن زيد بن المُهَاجر بن قنفذ التَّيْمِيّ الجدعانى الْمدنِي. روى عَن عبد الله بن عمر، وَعُمَيْر مولى آبى اللَّحْم، وأبى سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَغَيرهم. وروى عَنهُ مَالك بن أنس، وَيَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الإسْكَنْدراني، وَبشر بن الْمفضل، وَحَفْص بن غياث، وفضيل بن سُلَيْمَان النميري، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة. (تراجم رجال) .
[2] زِيَادَة عَن أ، وتراجم رجال.
[3] هُوَ عبد الله بن جدعَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم، ويكنى أَبَا زُهَيْر. وَهُوَ ابْن عَم عَائِشَة رضى الله عَنْهَا، وَلذَلِك قَالَت لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِن ابْن جدعَان كَانَ يطعم الطَّعَام، ويقرى الضَّيْف، فَهَل يَنْفَعهُ ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّه لم يقل يَوْمًا: رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدَّين. وَكَانَ ابْن جدعَان فِي بَدْء أمره صعلوكا ترب الْيَدَيْنِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِك فاتكا لَا يزَال يجنى الْجِنَايَات، فيعقل عَنهُ أَبوهُ وَقَومه، حَتَّى أبغضته عشيرته ونفاه أَبوهُ، وَحلف أَلا يؤويه أبدا لما أثقله بِهِ من الْغرم وَحمله من الدِّيات، ثمَّ كَانَ أَن أثرى ابْن جدعَان بعثوره على ثعبان من ذهب، وَعَيناهُ ياقوتتان، فأوسع فِي الْكَرم حَتَّى كَانَ يضْرب بِعظم جفنته الْمثل، ومدحه أُميَّة بن أَبى الصَّلْت لكرمه.
[4] أَي لَا أحب نقضه، وَإِن دفع لي حمر النعم فِي مُقَابلَة ذَلِك.
[5] هُوَ يزِيد بن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَادِي اللَّيْثِيّ الْمدنِي أَبُو عبد الله. روى عَن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَغَيرهمَا. وروى عَنهُ يحيى بن أَيُّوب، وَاللَّيْث وَآخَرُونَ. قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث توفى بِالْمَدِينَةِ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. (رَاجع تراجم رجال) .(1/134)
ابْن أَبِي سُفْيَانَ- مُنَازَعَةً فِي مَالٍ كَانَ بَيْنَهُمَا بِذِي الْمَرْوَةِ [1] . فَكَانَ الْوَلِيدُ تَحَامَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّهِ لِسُلْطَانِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَحْلِفُ باللَّه لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ سَيْفِي، ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عِنْدَ الْوَلِيدِ حِينَ قَالَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ: وَأَنَا أَحْلِفُ باللَّه لَئِنْ دَعَا بِهِ لَآخُذَنَّ سَيْفِي، ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يُنْصَفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا. قَالَ: فَبَلَّغْتُ الْمِسْوَرَ ابْن مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيَّ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَلَّغْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ أَنْصَفَ الْحُسَيْنَ مِنْ حَقِّهِ حَتَّى رَضِيَ.
(سَأَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ وَدُخُولِهِمَا فِي حِلْفِ الْفُضُولِ، فَأَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِمَا مِنْهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِي اللَّيْثِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ قَالَ:
قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ- وَكَانَ مُحَمَّدُ ابْن جُبَيْرٍ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ- عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ قَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَلَمْ نَكُنْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ، يَعْنِي بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنِيَّ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فِي حِلْفِ الْفُضُولِ؟ قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لِتُخْبِرَنِّي يَا أَبَا سَعِيدٍ بِالْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، لَقَدْ خَرَجْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ مِنْهُ! قَالَ: صَدَقْتَ.
تَمَّ خَبَرُ حَلِفِ الْفُضُولِ.
(وِلَايَةُ هَاشِمٍ الرِّفَادَةَ وَالسِّقَايَةَ وَمَا كَانَ يَصْنَعُ إذَا قَدِمَ الْحَاجُّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلِيَ الرِّفَادَةَ وَالسِّقَايَةَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ كَانَ رَجُلًا سِفَارًا قَلَّمَا يُقِيمُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ مُقِلًّا ذَا وَلَدٍ، وَكَانَ هَاشِمٌ مُوسِرًا فَكَانَ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- إذَا حَضَرَ الْحَاجُّ قَامَ فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ
__________
[1] ذُو الْمَرْوَة: قَرْيَة بوادي الْقرى، وَقيل بَين خشب ووادي الْقرى. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/135)
قُرَيْشٍ، إنَّكُمْ جِيرَانُ اللَّهِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَإِنَّهُ يَأْتِيكُمْ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ زُوَّارُ اللَّهِ وَحُجَّاجُ بَيْتِهِ، وَهُمْ ضَيْفُ اللَّهِ، وَأَحَقُّ الضَّيْفِ بِالْكَرَامَةِ ضَيْفُهُ، فَاجْمَعُوا لَهُمْ مَا تَصْنَعُونَ لَهُمْ بِهِ طَعَامًا أَيَّامَهُمْ هَذِهِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الْإِقَامَةِ بِهَا، فَإِنَّهُ وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مَالِي يَسَعُ لِذَلِكَ مَا كَلَّفْتُكُمُوهُ» . فَيُخْرِجُونَ لِذَلِكَ خَرْجًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كُلُّ امْرِئِ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، فيصنع بِهِ للحجّاج طَعَامًا حَتَّى يُصْدَرُوا مِنْهَا.
(شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ هَاشِمٍ) :
وَكَانَ هَاشِمٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرِّحْلَتَيْنِ لِقُرَيْشِ: رِحْلَتَيْ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
وَأَوَّلَ مَنْ أَطْعَمَ الثَّرِيدَ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْمُهُ عَمْرًا، فَمَا سُمِّيَ هَاشِمًا إِلَّا بهشمه الْخَبَر بِمَكَّةَ [1] لِقَوْمِهِ. فَقَالَ شَاعِرٌ [2] مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ:
عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... قَوْمٌ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ [3]
سُنَّتْ إلَيْهِ الرِّحْلَتَانِ كِلَاهُمَا ... سَفَرُ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الْأَصْيَافِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ:
قَوْمٌ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ
[4]
__________
[1] وَمِمَّا يذكر فِي هَذَا أَن هاشما- وَقد كَانَ يَسْتَعِين بِقُرَيْش على إطْعَام الْحَاج- أَصَابَته وأصابت قومه أزمة شَدِيدَة، فكره أَن يُكَلف قُريْشًا أَمر الرفادة، فَاحْتمل إِلَى الشَّام بِجَمِيعِ مَاله، فَاشْترى بِهِ أجمع كعكا، ثمَّ أَتَى الْمَوْسِم فهشم ذَلِك الكعك كُله هشما، ودقه وصنع مِنْهُ للْحَاج طَعَاما شبه الثَّرِيد. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] هُوَ عبد الله بن الزبعري، وَكَانَ سَبَب مدحه لبني عبد منَاف، مَعَ أَنه سهمي، أَنه كَانَ قد هجا قصيا بِشعر كتبه فِي أَسْتَار الْكَعْبَة، فَاسْتَعدوا عَلَيْهِ بنى سهم، فأسلموه إِلَيْهِم، فضربوه وحلقوا شعره وربطوه إِلَى صَخْرَة، فاستغاث قومه فَلم يغيثوه، فَجعل يمدح قصيا ويسترضيهم، فَأَطْلقهُ بَنو عبد منَاف مِنْهُم وأكرموه، فمدحهم بِهَذَا الشّعْر، وبأشعار كَثِيرَة. وَيُقَال: إِن هذَيْن الْبَيْتَيْنِ من أَبْيَات لمطرود بن كَعْب ستجيء فِيمَا بعد من هَذَا الْكتاب أَولهَا:
يَا أَيهَا الرجل المحول رَحْله ... هلا نزلت بآل عبد منَاف
[3] المسنتون: الَّذين أَصَابَتْهُم السّنة، وَهِي الْجُوع والقحط. والعجاف: من العجف، وَهُوَ الهزال والضعف. وَذَلِكَ أَن قومه من قُرَيْش كَانَت أَصَابَتْهُم لزبة وقحط، فَرَحل إِلَى فلسطين، فَاشْترى مِنْهَا الدَّقِيق، فَقدم بِهِ مَكَّة، فَأمر بِهِ فخبز لَهُ، وَنحر جزورا، ثمَّ اتخذ لِقَوْمِهِ مرقة ثريد بذلك الْخبز. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[4] ويروى:
وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف(1/136)
(ولَايَة الْمطلب الرفادة وَالسِّقَايَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ هَلَكَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ بِغَزَّةَ [1] مِنْ أَرْضِ الشَّامِ تَاجِرًا، فَوَلِيَ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ مِنْ بَعْدِهِ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ وَفَضْلٍ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا تُسَمِّيهِ الْفَيْضَ لِسَمَاحَتِهِ وَفَضْلِهِ.
(زَوَاجُ هَاشِمٍ) :
وَكَانَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَتَزَوَّجَ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو أَحَدِ بَنِي عَدِيِّ ابْن النَّجَّارِ [2] ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ [3] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: الْحَرِيسُ- ابْنُ جَحْجَبِي بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ ابْن الْأَوْسِ. فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرَو بْنَ أُحَيْحَةَ، وَكَانَتْ لَا تَنْكِحُ الرِّجَالَ لِشَرَفِهَا فِي قَوْمِهَا حَتَّى يَشْتَرِطُوا لَهَا أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، إذَا كَرِهَتْ رَجُلًا فَارَقَتْهُ.
(مِيلَادُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهِ كَذَلِكَ) :
فَوَلَدَتْ لِهَاشِمِ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَسَمَّتْهُ شَيْبَةَ [4] . فَتَرَكَهُ هَاشِمٌ عِنْدَهَا حَتَّى كَانَ وَصِيفًا [5] أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِ عَمُّهُ الْمُطَّلِبُ لِيَقْبِضَهُ فَيُلْحِقَهُ بِبَلَدِهِ وَقَوْمِهِ، فَقَالَتْ لَهُ سَلْمَى: لَسْتُ بِمُرْسَلَتِهِ مَعَكَ، فَقَالَ لَهَا الْمُطَّلِبُ: إنِّي غَيْرُ مُنْصَرَفٍ حَتَّى
__________
[ () ] وعَلى هَذِه الرِّوَايَة يكون فِي الشّعْر إقواء. وَلَعَلَّ هَذِه الرِّوَايَة عَن غير أهل الْعلم بالشعر من أهل الْحجاز، الَّذين أَخذ عَنْهُم ابْن هِشَام الرِّوَايَة الأولى، ورفض الثَّانِيَة: لِأَنَّهَا لم تستقم فِي نظره، وأدلى بِعُذْرِهِ فِي أَنه أَخذهَا عَن أهل علم بالشعر، وَلم يكن لَهُ بِهِ دراية تَامَّة، فيقيم نَفسه فِي هَذَا الميدان حكما.
[1] غَزَّة (بِفَتْح أَوله وَتَشْديد ثَانِيه وفتحه) : مَدِينَة فِي أقْصَى الشَّام من نَاحيَة مصر، بَينهَا وَبَين عسقلان فرسخان أَو أقل. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] وَيُقَال: إِنَّه بِسَبَب هَذَا النّسَب، رحب سيف بن ذِي يزن، أَو ابْنه معديكرب بن سيف ملك الْيمن، بِعَبْد الْمطلب بن هَاشم، حِين وَفد عَلَيْهِ فِي ركب من قُرَيْش، وَقَالَ لَهُ: مرْحَبًا بِابْن أُخْتنَا: لِأَن سلمى من الْخَزْرَج، وهم من الْيمن من سبإ، وَلِأَن سَيْفا من حمير بن سبإ
[3] وَيُقَال: إِن كل من فِي الْأَنْصَار بِهَذَا الِاسْم، فَهُوَ حريس (بِالسِّين الْمُهْملَة) إِلَّا هَذَا فَهُوَ بالشين الْمُعْجَمَة. (رَاجع شرح السِّيرَة وَالرَّوْض الْأنف) .
[4] سمى شيبَة لشيبة كَانَت فِي رَأسه، ويكنى بِأبي الْحَارِث أكبر وَلَده. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[5] الوصيف (كقتيل) : الْغُلَام دون المراهقة.(1/137)
أَخْرُجَ بِهِ مَعِي، إنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ بَلَغَ، وَهُوَ غَرِيبٌ فِي غَيْرِ قَوْمِهِ، وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ فِي قَوْمِنَا، نَلِي كَثِيرًا مِنْ أُمُورِهِمْ، وَقَوْمُهُ وَبَلَدُهُ وَعَشِيرَتُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهِمْ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ شَيْبَةُ لِعَمِّهِ الْمُطَّلِبِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ-: لَسْتُ بِمُفَارِقِهَا إلَّا أَنْ تَأْذَنَ لِي، فَأَذِنَتْ لَهُ، وَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، فَاحْتَمَلَهُ فَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ مُرْدِفَهُ مَعَهُ عَلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ابْتَاعَهُ، فَبِهَا سُمِّيَ شَيْبَةُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ الْمُطَّلِبُ: وَيْحَكُمْ! إنَّمَا هُوَ ابْنُ أَخِي هَاشِمٍ، قَدِمْتُ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ.
(مَوْتُ الْمُطَّلِبِ وَمَا قِيلَ فِي رِثَائِهِ مِنْ الشِّعْرِ) :
ثُمَّ هَلَكَ الْمُطَّلِبُ بِرَدْمَانَ [1] مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَبْكِيهِ:
قَدْ ظَمِئَ الْحَجِيجُ بَعْدَ الْمُطَّلِبِ ... بَعْدَ الْجِفَانِ وَالشَّرَابِ المُنْثَعِبْ [2]
لَيْتَ قُرَيْشًا بَعْدَهُ عَلَى نَصَبْ
[3] وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيُّ، يَبْكِي الْمُطَّلِبَ وَبَنِيَّ عَبْدِ مَنَافٍ جَمِيعًا حِينَ أَتَاهُ نَعْيُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ نَوْفَلٌ آخِرَهُمْ هُلْكًا:
يَا لَيْلَةً هَيَّجَتْ لَيْلَاتِي ... إحْدَى لَيَالِيَ الْقَسِيَّاتِ [4]
وَمَا أُقَاسِي مِنْ هُمُومٍ وَمَا ... عَالَجْتُ مِنْ رُزْءِ الْمَنِيَّاتِ
إذَا تَذَكَّرْتُ أَخِي نَوْفَلًا ... ذَكَّرَنِي بِالْأَوَّلِيَّاتِ
ذَكَّرَنِي بالأزر الْحمر و ... الأردية الصُّفْرِ الْقَشِيبَاتِ
أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ سَيِّدُ ... أَبْنَاءِ سَادَاتٍ لِسَادَاتِ
مَيْتٌ بِرَدْمَانَ وَمَيْتٌ بِسَلْمَانَ ... [5] وَمَيِّتٌ عِنْدَ غَزَّاتِ [6]
__________
[1] ردمان (بِفَتْح أَوله) : مَوضِع بِالْيمن. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] المنثعب: الْكثير السَّيْل، يُقَال: انشعب المَاء: إِذا سَالَ من مَوضِع حصر فِيهِ.
[3] النصب: التَّعَب وَالْعَذَاب.
[4] كَذَا فِي الأَصْل. والقسيات: الشدائد. ويروى: العشيات. والعشيات: المظلمات.
[5] سلمَان: مَاء قديم جاهلى، وَبِه قبر نَوْفَل بن عبد منَاف، وَهُوَ طَرِيق إِلَى تهَامَة من الْعرَاق فِي الْجَاهِلِيَّة (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[6] هِيَ غَزَّة، وَلَكنهُمْ يجْعَلُونَ لكل نَاحيَة، أَو لكل ربض من الْبَلدة اسْم الْبَلدة، فَيَقُولُونَ:
غزات فِي غَزَّة، كَمَا يَقُولُونَ فِي بغدان بغادين كَقَوْل بعض الْمُحدثين:(1/138)
وَمَيِّتٌ [1] أُسْكِنَ لَحْدًا لَدَى ... الْمَحْجُوبِ شَرْقِيِّ الْبُنَيَّاتِ [2]
أَخْلَصُهُمْ عَبْدُ مَنَافٍ فَهُمْ ... مِنْ لَوْمِ مَنْ لَامَ بِمَنْجَاةِ
إنَّ الْمُغِيرَاتِ وَأَبْنَاءَهَا ... مِنْ خَيْرِ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتِ
[3] وَكَانَ اسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ الْمُغِيرَةَ، وَكَانَ أَوَّلَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ هُلْكًا هَاشِمٌ، بِغَزَّةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، ثُمَّ عَبْدَ شَمْسٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ الْمُطَّلِبَ بِرَدْمَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ ثُمَّ نَوْفَلًا بِسَلْمَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ.
فَقِيلَ لِمَطْرُودِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ-: لَقَدْ قُلْتَ فَأَحْسَنْتَ، وَلَوْ كَانَ أَفْحَلَ مِمَّا قُلْتَ كَانَ أَحْسَنَ، فَقَالَ: أَنْظِرْنِي لَيَالِيَ، فَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ:
يَا عَيْنُ جُوى وَأَذْرِي الدَّمْعَ وَانْهَمِرِي ... وَابْكِي عَلَى السِّرِّ مِنْ كَعْبِ الْمُغِيرَاتِ [4]
يَا عَيْنُ وَاسْحَنْفِرِي بِالدَّمْعِ وَاحْتَفِلِي [5] ... وَابْكِي خَبِيئَةَ نَفْسِي فِي الْمُلِمَّاتِ [6]
وَابْكِي عَلَى كُلِّ فَيَّاضٍ أَخِي ثِقَةٍ ... ضَخْمِ الدَّسِيعَةِ وَهَّابِ الْجَزِيلَاتِ [7]
مَحْضِ الضَّرِيبَةِ عَالِي الْهَمِّ مُخْتَلِقٌ ... جَلْدِ النَّحِيزَةِ نَاءٍ بِالْعَظِيمَاتِ [8]
صَعْبِ الْبَدِيهَةِ لَا نِكْسٍ وَلَا وَكِلٍ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مِتْلَافِ الْكَرِيمَاتِ [9]
__________
[ () ]
شربنا فِي بغادين ... على تِلْكَ الميادين
والّذي عِنْد غَزَّة هُوَ هَاشم بن عبد منَاف.
[1] وَرِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي مُعْجم الْبلدَانِ فِي الْكَلَام على ردمان:
وميت مَاتَ قَرِيبا من ... الْحجُون من شَرق البنيات
قَالَ ياقوت: « ... والّذي بِقرب الْحجُون عبد شمس بن عبد منَاف» .
والحجون: جبل بِأَعْلَى مَكَّة عِنْد مدافن أَهلهَا.
[2] البنيات: الْكَعْبَة.
[3] الْمُغيرَات: بَنو الْمُغيرَة.
[4] السِّرّ: الْخَالِص النّسَب.
[5] اسحنفرى: أديمى. واحتفلى: أَي اجمعيه، من احتفال الضَّرع، وَهُوَ اجْتِمَاع اللَّبن فِيهِ.
[6] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والخبيئة: الشَّيْء المخبوء. يُرِيد أَنه كَانَ ذخيرته عِنْد نزُول الشدائد.
وَفِي أ: «خبيئات» .
[7] الْفَيَّاض: الْكثير الْمَعْرُوف. وضخم الدسيعة: كثير الْعَطاء. والجزيلات الكثيرات.
[8] الضريبة: الطبيعة. والمختلق: التَّام الْخلق. والنحيزة: الطبيعة أَيْضا. وناء: ناهض.
[9] النكس: الدنىء من الرِّجَال. والوكل: الضَّعِيف الّذي يتكل على غَيره.(1/139)
صَقْرٍ تَوَسَّطَ مِنْ كَعْبٍ إذَا نُسِبُوا ... بُحْبُوحَةَ الْمَجْدِ وَالشُّمِّ الرَّفِيعَاتِ [1]
ثُمَّ اُنْدُبِي الْفَيْضَ وَالْفَيَّاضَ مُطَّلِبًا ... وَاسْتَخْرِطِي بَعْدَ فَيْضَاتٍ بِجُمَّاتِ [2]
أَمْسَى بِرَدْمَانَ عَنَّا الْيَوْمَ مُغْتَرِبًا ... يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَيْهِ بَيْنَ أَمْوَاتِ [3]
وَابْكِي، لَكَ الْوَيْلُ، إمَّا كُنْتِ بَاكِيَةً ... لِعَبْدِ شَمْسٍ بِشَرْقِيِّ الْبُنَيَّاتِ
وَهَاشِمٍ فِي ضَرِيحٍ وَسْطَ بَلْقَعَةٍ ... تَسْفَى الرِّيَاحُ عَلَيْهِ بَيْنَ غَزَّاتِ
وَنَوْفَلٌ كَانَ دُونَ الْقَوْمِ خَالِصَتِي ... أَمْسَى بِسَلْمَانَ فِي رَمْسٍ بِمَوْمَاةِ [4]
لَمْ أَلْقَ مِثْلَهُمْ عُجْمًا وَلَا عَرَبًا ... إذَا اسْتَقَلَّتْ بِهِمْ أُدْمُ الْمَطِيَّاتِ [5]
أَمْسَتْ دِيَارُهُمْ مِنْهُمْ مُعَطَّلَةً ... وَقَدْ يَكُونُونَ زَيْنًا فِي السَّرِيَّاتِ [6]
أَفْنَاهُمْ الدَّهْرُ أَمْ كَلَّتْ سُيُوفُهُمْ ... أَمْ كُلُّ مَنْ عَاشٍ أَزْوَادُ الْمَنِيَّاتِ [7]
أَصْبَحْتُ أَرْضَى مِنْ الْأَقْوَامِ بَعْدَهُمْ ... بَسْطَ الْوُجُوهِ وَإِلْقَاءَ التَّحِيَّاتِ
يَا عَيْنُ فَابْكِي أَبَا الشُّعْثِ الشَّجِيَّاتِ [8] ... يَبْكِينَهُ حُسَّرًا مِثْلَ الْبَلِيَّاتِ [9]
__________
[1] البحبوحة: وسط الشَّيْء. والشم: الْعَالِيَة.
[2] استخرطى: استكثرى. والجمات: الْمُجْتَمع من المَاء، فاستعاره هُنَا الدمع.
[3] رَاجع الْحَاشِيَة (رقم 1 ص 138 من هَذَا الْجُزْء)
[4] الموماة: القفر.
[5] الْأدم من الْإِبِل: الْبيض الْكِرَام.
[6] السريات: جمع سَرِيَّة، وَهِي الْقطعَة من الْجَيْش أقصاها أَربع مائَة، تبْعَث إِلَى الْعَدو. سموا بذلك لأَنهم يكونُونَ خُلَاصَة الْعَسْكَر وخيارهم.
[7] ويروى: «أوراد» . يُرِيد الْقَوْم الَّذين يُرِيدُونَ الْمَوْت، شبههم بالذين يردون المَاء.
[8] الشجيات: الحزينات. وينكر بعض أهل اللُّغَة تَشْدِيد يَاء الشجى وَيَقُولُونَ بِأَن يَاء الشجى مُخَفّفَة وياء الخلي مُشَدّدَة، وَقد اعْترض ابْن قُتَيْبَة على أَبى تَمام الطَّائِي فِي قَوْله:
أيا وَيْح الشجى من الخلي فَإِنَّهُ ... وويح الدمع من إِحْدَى بلَى
وَاحْتج بقول يَعْقُوب فِي ذَلِك. فَقَالَ لَهُ الطَّائِي: وَمن أفْصح عنْدك: ابْن الجرمقانية يَعْقُوب، أم أَبُو الْأسود الدؤَلِي حَيْثُ يَقُول:
ويل الشجى من الخلي فَإِنَّهُ ... وصب الْفُؤَاد بشجوه مغموم؟
وَالْقِيَاس لَا يمْنَع من أَن يكون هُنَاكَ شج وشجى، لِأَنَّهُ فِي معنى حزن وحزين.
[9] البليات: جمع بلية، وَهِي النَّاقة الَّتِي كَانَت تعقل عِنْد قبر صَاحبهَا إِذا مَاتَ حَتَّى تَمُوت جوعا وعطشا، وَيَقُولُونَ: إِن صَاحبهَا يحْشر رَاكِبًا عَلَيْهَا، وَمن لم يفعل مَعَه هَذَا حشر رَاجِلا. وَهَذَا على مَذْهَب من كَانَ يَقُول مِنْهُم بِالْبَعْثِ.(1/140)
يَبْكِينَ أَكْرَمَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... يُعْوِلْنَهُ بِدُمُوعٍ بَعْدَ عَبَرَاتِ [1]
يَبْكِينَ شَخْصًا طَوِيلَ الْبَاعِ ذَا فَجَرٍ ... آبِي الْهَضِيمَةِ فَرَّاجِ الْجَلِيلَاتِ [2]
يَبْكِينَ عَمْرَو الْعُلَا إذْ حَانَ مَصْرَعُهُ ... سَمْحَ السَّجِيَّةِ بَسَّامَ الْعَشِيَّاتِ [3]
يَبْكِينَهُ مُسْتَكِينَاتٍ عَلَى حَزَنٍ ... يَا طُولَ ذَلِكَ مِنْ حُزْنٍ وَعَوْلَاتٍ
يَبْكِينَ لَمَّا جَلَّاهُنَّ الزَّمَانُ لَهُ ... خُضْرُ الْخُدُودِ كَأَمْثَالِ الْحَمِيَّاتِ [4]
مُحْتَزِمَاتٍ عَلَى أَوْسَاطِهِنَّ لِمَا ... جَرَّ الزَّمَانُ مِنْ أَحْدَاثِ الْمُصِيبَاتِ
أَبِيتُ لَيْلِي أُرَاعِي النَّجْمَ مِنْ أَلَمٍ ... أَبْكِي وَتَبْكِي مَعِي شَجْوِي بُنَيَّاتِي
مَا فِي الْقُرُومِ لَهُمْ عِدْلٌ وَلَا خَطَرٌ ... وَلَا لِمَنْ تركُوا شروى بقبّات [5]
أَبْنَاؤُهُمْ خَيْرُ أَبْنَاءٍ وَأَنْفُسُهُمْ ... خَيْرُ النّفوس لَدَى جِهَاد الْأَلِيَّاتِ [6]
كَمْ وَهَبُوا مِنْ طِمِرٍّ سَابِحٍ أَرِنٍ ... وَمِنْ طِمِرَّةٍ نَهْبٍ فِي طِمِرَّاتِ [7]
وَمِنْ سُيُوفٍ مِنْ الْهِنْدِيِّ مُخْلَصَةٍ ... وَمِنْ رِمَاحٍ كَأَشْطَانِ الرَّكِيَّاتِ [8]
وَمِنْ تَوَابِعِ مِمَّا يُفْضِلُونَ بِهَا ... عِنْدَ الْمَسَائِلِ مِنْ بَذْلِ الْعَطِيَّاتِ
فَلَوْ حَسَبْتُ وَأَحْصَى الْحَاسِبُونَ مَعِي ... لَمْ أَقْضِ أَفَعَالَهُمْ تَلِكَ الْهَنِيَّاتِ
هُمْ الْمُدِلُّونَ إمَّا مَعْشَرٌ فَخَرُّوا ... عِنْدَ الْفَخَّارِ بِأَنْسَابٍ نَقِيَّاتٍ
زَيْنُ الْبُيُوتِ الَّتِي خَلَّوْا [9] مَسَاكِنَهَا ... فَأَصْبَحَتْ مِنْهُمْ وَحْشًا خَلِيَّاتٍ
__________
[1] كَانَ الْوَجْه أَن يَقُول «عبرات» بِالتَّحْرِيكِ: إِلَّا أَنه أسكن للتَّخْفِيف ضَرُورَة.
[2] الهضيمة: الذل وَالنَّقْص. والجليلات: الْأُمُور الْعِظَام.
[3] السجية: الطبيعة. وبسام العشيات: يُرِيد أَنه يتبسم عِنْد لِقَاء الأضياف، لِأَن الأضياف أَكثر مَا يردون عَشِيَّة.
[4] الحميات: الْإِبِل الَّتِي حميت المَاء: أَي منعت.
[5] القروم سَادَات النَّاس، وَأَصله الفحول من الْإِبِل. وَالْعدْل: الْمثل. والخطر: الْقدر والرفعة.
وشروى: مثل، يُقَال: هَذَا شروى هَذَا، أَي مثله.
[6] الأليات: الشدائد الَّتِي يقصر الْإِنْسَان بِسَبَبِهَا، وَهِي أَيْضا جمع ألية، وَهِي الْيَمين.
[7] الطمر: الْفرس الْخَفِيف. وسابح: كَأَنَّهُ يسبح فِي جريه، أَي يعوم. وأرن: نشط. والنهب:
مَا انتهب من الْغَنَائِم.
[8] الأشطان: جمع شطن، وَهُوَ الْحَبل. والركيات: جمع ركية، وَهِي الْبِئْر.
[9] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حلوا» بِالْحَاء الْمُهْملَة.(1/141)
أَقُولُ وَالْعين لَا ترقى مَدَامِعُهَا [1] ... لَا يُبْعِدُ اللَّهُ أَصْحَابَ الرَّزِيَّاتِ
[2] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفَجْرُ: الْعَطَاءُ. قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ [3] :
عَجَّفَ أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي فَجَرٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْأَرَامِلُ
[4] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَبُو الشُّعْثِ الشَّجِيَّاتِ: هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ.
(وِلَايَةُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ) :
قَالَ: ثُمَّ وَلِيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ بَعْدَ عَمِّهِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقَامَهَا لِلنَّاسِ، وَأَقَامَ لِقَوْمِهِ مَا كَانَ آبَاؤُهُ يُقِيمُونَ قَبْلَهُ لِقَوْمِهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَشَرُفَ فِي قَوْمِهِ شَرَفًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ آبَائِهِ، وَأَحَبَّهُ قَوْمُهُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ فِيهِمْ.
ذِكْرُ حَفْرِ زَمْزَمَ وَمَا جَرَى مِنْ الْخُلْفِ فِيهَا
(الرُّؤْيَا الَّتِي أُرِيهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي حَفْرِ زَمْزَمَ) :
ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إذْ أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مِنْ حَفْرِهَا، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ [5] بْنُ أَبِي حَبِيبٍ الْمِصْرِيِّ عَنْ مَرْثَدِ [6] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
__________
[1] لَا ترقا: لَا تَنْقَطِع، وَأَصله الْهَمْز فَخفف فِي الشّعْر.
[2] الرزيات: جمع رزية، لُغَة فِي الرزيئة، بِمَعْنى الْمُصِيبَة والإصابة بالانتقاص. وَيُرِيد بأصحاب الرزيات: من أصيبوا وانتقصوا وَأصْبح شَأْنهمْ كَمَا وصف.
[3] وَهَذَا الْبَيْت مطلع قصيدة لأبى خرَاش قَالَهَا فِي قتل زُهَيْر بن الْعَجْوَة أخى بنى عَمْرو بن الْحَارِث، وَكَانَ قَتله جميل بن معمر بن حبيب بن حذافة بن جمح بن عَمْرو بن هصيص، يَوْم حنين.
[4] كَذَا فِي الْأُصُول. وعجف: حبس عَن الطَّعَام. يُرِيد: أجاعهم. وَفِي أشعار الهذليين المخطوط وَالْمَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم (6 أدب ش) : «فجع» .
[5] هُوَ يزِيد بن أَبى حبيب سُوَيْد أَبُو رَجَاء الْأَسدي الْمصْرِيّ عَالم أهل مصر، مولى شريك بن الطُّفَيْل الْأَزْدِيّ، وَقيل أَبوهُ مولى بنى حسل، وَأمه مولاة لتجيب. روى عَن عبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ، وَابْن الطُّفَيْل الْكِنَانِي، وأبى الْخَيْر مرْثَد الْيَزنِي وَغَيرهم. (عَن تراجم الرِّجَال) .
[6] هُوَ مرْثَد بن عبد الله الْيَزنِي (بِفَتْح الْيَاء والزاى) أَبُو الْخَيْر الْمصْرِيّ الْفَقِيه. روى عَن عقبَة بن عَامر الجهنيّ، وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ، وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَغَيرهمَا. وروى عَنهُ غير يزِيد هَذَا ربيعَة بن جَعْفَر، وَكَعب بن عَلْقَمَة، وَعبد الرَّحْمَن بن شماسَة وَغَيرهم. توفى سنة تسعين. (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .(1/142)
ابْن زُرَيْرٍ [1] الْغَافِقِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُحَدِّثُ حَدِيثَ زَمْزَمَ حِينَ أُمِرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِحَفْرِهَا، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إنِّي لَنَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: احْفِرْ طَيْبَةَ [2] .
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا طَيْبَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ بَرَّةَ [3] . قَالَ: وَمَا بَرَّةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ الْمَضْنُونَةَ [4] .
قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا الْمَضْنُونَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ زَمْزَمَ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا زَمْزَمُ؟
قَالَ: لَا تَنْزِفُ [5] أَبَدًا وَلَا تُذَمُّ [6] ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، عِنْدَ نُقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ [7] ، عِنْدَ قَرْيَةِ [8] النَّمْلِ.
(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَابْنُهُ الْحَارِثُ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عِنْدَ حَفْرِهِمَا زَمْزَمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بُيِّنَ لَهُ شَأْنُهَا، وَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَعَرَفَ أَنَّهُ صُدِّقَ، غَدَا بِمِعْوَلِهِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ
__________
[1] هُوَ عبد الله بن زرير (بِالتَّصْغِيرِ) الغافقي الْمصْرِيّ. روى عَن على وَعمر. وَعنهُ أَبُو الْخَيْر مرْثَد الْيَزنِي وَأَبُو الْفَتْح الهمدانيّ، وَغَيرهمَا. مَاتَ فِي خلَافَة عبد الْملك سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَقيل سنة ثَمَانِينَ.
(رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .
[2] قيل لزمزم طيبَة، لِأَنَّهَا للطيبين والطيبات من ولد إِبْرَاهِيم.
[3] قيل لَهَا برة، لِأَنَّهَا فاضت على الْأَبْرَار وغاضت عَن الْفجار.
[4] قيل لَهَا مضنونة، لِأَنَّهَا ضن بهَا على غير الْمُؤمنِينَ فَلَا يتضلع مِنْهَا مُنَافِق.
[5] لَا تنزف: لَا يفرغ مَاؤُهَا وَلَا يلْحق قعرها.
[6] لَا تذم: أَي لَا تُوجد قَليلَة المَاء، تَقول: أذمت الْبِئْر: إِذا وَجدتهَا قَليلَة المَاء.
[7] الأعصم من الْغرْبَان: الّذي فِي جناحيه بَيَاض، وَقيل غير ذَلِك.
[8] إِنَّمَا خصت بِهَذِهِ العلامات الثَّلَاث لِمَعْنى زَمْزَم ومائها. فَأَما الفرث وَالدَّم، فان ماءها طَعَام طعم، وشفاء سقم، وَأما عَن الْغُرَاب الأعصم، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى مَا ورد عَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليخربن الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة» . وَأما قَرْيَة النَّمْل، فَفِيهَا من المشاكلة أَيْضا والمناسبة أَن زَمْزَم هِيَ عين مَكَّة الَّتِي يردهَا الحجيج والعمار من كل جَانب، فيحملون إِلَيْهَا الْبر وَالشعِير وَغير ذَلِك، وَهِي لَا تحرث وَلَا تزرع، وقرية النَّمْل كَذَلِك لَا تحرث وَلَا تبذر وتجلب الْحُبُوب إِلَى قريتها من كل جَانب.
(رَاجع الرَّوْض الْأنف وَمَا يعول عَلَيْهِ فِي قَرْيَة النَّمْل) .(1/143)
غَيْرَهُ، فَحَفَرَ فِيهَا. فَلَمَّا بَدَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الطَّيَّ [1] كَبَّرَ، فَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ، فَقَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، إنَّهَا بِئْرُ أَبِينَا إسْمَاعِيلَ، وَإِنَّ لَنَا فِيهَا حَقًّا فَأَشْرِكْنَا مَعَكَ فِيهَا، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلِ، إنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ خُصِصْتُ بِهِ دُونَكُمْ، وَأُعْطِيتُهُ مِنْ بَيْنِكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَأَنْصِفْنَا فَإِنَّا غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى نُخَاصِمَكَ فِيهَا، قَالَ: فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمُكُمْ إلَيْهِ، قَالُوا:
كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدٍ هُذَيْمٌ [2] ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَكَانَتْ بِأَشْرَافِ [3] الشَّامِ. فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَرَكِبَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَفَرٌ. قَالَ: وَالْأَرْضُ إذْ ذَاكَ مَفَاوِزُ. قَالَ: فَخَرَجُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَفَاوِزِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، فَنِيَ مَاءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابِهِ، فَظَمِئُوا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: إنَّا بِمَفَازَةٍ، وَنَحْنُ نَخْشَى عَلَى أَنْفُسِنَا مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ. فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَا صَنَعَ الْقَوْمُ وَمَا يَتَخَوَّفُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: مَا رَأْيُنَا إلَّا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمْ الْآنَ مِنْ الْقُوَّةِ، فَكُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ ثُمَّ وَارَوْهُ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةِ رَكْبٍ جَمِيعًا، قَالُوا: نِعْمَ مَا أَمَرْتَ بِهِ.. فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَحَفَرَ حُفْرَتَهُ، ثُمَّ قَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ عَطَشًا، ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: وَاَللَّهِ إنَّ إلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ، لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ وَلَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا، لَعَجْزٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَنَا مَاءً بِبَعْضِ الْبِلَادِ، ارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلُوا. حَتَّى إذَا فَرَغُوا، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فَاعِلُونَ، تَقَدَّمَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا. فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ، انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، فَكَبَّرَ
__________
[1] الطى: الْحِجَارَة الَّتِي طوى بهَا الْبِئْر.
[2] كَذَا فِي أ. والطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول: سعد بن هذيم وَهُوَ تَحْرِيف «لِأَن هذيما لم يكن أَبَاهُ، وَإِنَّمَا كفله بعد أَبِيه فأضيف إِلَيْهِ» . (رَاجع شرح السِّيرَة والمعارف) .
[3] أَشْرَاف الشَّام: مَا ارْتَفع من أرضه.(1/144)
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَصْحَابُهُ وَاسْتَقَوْا حَتَّى مَلِئُوا أَسْقِيَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: هَلُمَّ إلَى الْمَاءِ، فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ، فَاشْرَبُوا وَاسْتَقَوْا، فَجَاءُوا فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا. ثُمَّ قَالُوا: قَدْ وَاَللَّهِ قُضِيَ لَكَ عَلَيْنَا يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، وَاَللَّهِ لَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُوَ الَّذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ، فَارْجِعْ إلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا. فَرَجَعَ وَرَجَعُوا مَعَهُ، وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْكَاهِنَةِ، وَخَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي زَمْزَمَ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ أُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ:
ثُمَّ اُدْعُ بِالْمَاءِ الرِّوَى [1] غَيْرِ الْكَدِرْ ... يَسْقِي حَجِيجَ [2] اللَّهِ فِي كُلِّ مَبَرْ [3]
لَيْسَ يُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ
[4] فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: تَعَلَّمُوا أَنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَحْفِرَ لَكُمْ زَمْزَمَ، فَقَالُوا: فَهَلْ بُيِّنَ لَكَ أَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا:
فَارْجِعْ إلَى مَضْجَعِكَ الَّذِي رَأَيْتَ فِيهِ مَا رَأَيْتَ، فَإِنْ يَكُ حَقًّا مِنْ اللَّهِ يُبَيَّنُ لَكَ، وَإِنْ يَكُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلَنْ يَعُودَ إلَيْكَ. فَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلَى مَضْجَعِهِ فَنَامَ فِيهِ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: احْفِرْ زَمْزَمَ، إنَّكَ إنْ حَفَرْتهَا لَمْ تَنْدَمْ، وَهِيَ تُرَاثٌ مِنْ أَبِيكَ الْأَعْظَمِ، لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمُّ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ، مِثْلَ نَعَامٍ حَافِلٍ [5] لَمْ يُقْسَمْ، يَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمٍ، تَكُونُ مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَمٍ، لَيْسَتْ كَبَعْضِ مَا قَدْ تَعْلَمُ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا الْكَلَامُ وَالْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهُ، مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ (رِضْوَانُ
__________
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «رواء» . وهما بِمَعْنى، فَيُقَال: مَاء روى (بِالْكَسْرِ وَالْقصر) ورواء (بِالْفَتْح وَالْمدّ) : أَي كثير.
[2] الحجيج: جمع حَاج.
[3] مبر: يُرِيد مَنَاسِك الْحَج ومواضع الطَّاعَة، وَهُوَ مفعل من الْبر.
[4] عمر: بَقِي، أَي مَا عمر هَذَا المَاء فَإِنَّهُ لَا يُؤْذى وَلَا يخَاف مِنْهُ.
[5] الحافل: الْكثير.
10- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/145)
اللَّهِ عَلَيْهِ) [1] فِي حَفْرِ زَمْزَمَ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمُّ» إلَى قَوْلِهِ: «عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ» عِنْدَنَا سَجْعٌ وَلَيْسَ شِعْرًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّهُ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قِيلَ لَهُ:
عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ، حَيْثُ يُنْقَرُ الْغُرَابُ غَدًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
فَعَدَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرَهُ، فَوَجَدَ قَرْيَةَ النَّمْلِ، وَوَجَدَ الْغُرَابَ يَنْقُرُ عِنْدَهَا بَيْنَ الْوَثَنَيْنِ: إسَافٍ وَنَائِلَةٍ، اللَّذَيْنِ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْحَرُ عِنْدَهُمَا ذَبَائِحَهَا. فَجَاءَ بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ لِيَحْفِرَ حَيْثُ أُمِرَ، فَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ حِينَ رَأَوْا جِدَّهُ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ تَحْفِرُ بَيْنَ وَثَنَيْنَا هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ نَنْحَرُ عِنْدَهُمَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِابْنِهِ الْحَارِثِ: ذُدْ عَنِّي حَتَّى أحفر، فو الله لَأَمْضِيَنَّ لِمَا أُمِرْتُ بِهِ. فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ نَازِعٍ [2] ، خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، وَكَفُّوا عَنْهُ، فَلَمْ يَحْفِرْ إلَّا يَسِيرًا، حَتَّى بَدَا لَهُ الطَّيُّ، فَكَبَّرَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ صُدِقَ.
فَلَمَّا تَمَادَى بِهِ الْحَفْرُ وَجَدَ فِيهَا غَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، وَهُمَا الْغَزَالَانِ اللَّذَانِ دَفَنَتْ جُرْهُمٌ فِيهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعِيَّةً [3] وَأَدْرَاعًا، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، لَنَا مَعَكَ فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقٌّ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ هَلُمَّ إلَى أَمْرٍ نَصَفٍ [4] ، بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ: نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ [5] ، قَالُوا: وَكَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ:
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] يُقَال: نزع عَن الْأَمر نزوعا (وَرُبمَا قَالُوا: نزاعا) : إِذا كف وانْتهى.
[3] قلعية: نِسْبَة إِلَى القلعة (بِالْفَتْح ثمَّ السّكُون) : قيل جبل بِالشَّام. وَقَالَ مسعر بن مهلهل فِي خبر رحلته إِلَى الصين: « ... ثمَّ رجعت من الصين إِلَى كلة، وَهِي أول بِلَاد الْهِنْد من جِهَة الصين، وإليها تَنْتَهِي المراكب ثمَّ لَا تتجاوزها، وفيهَا قلعة عَظِيمَة فِيهَا مَعْدن الرصاص القلعي، لَا يكون إِلَّا فِي قلعتها، وَفِي هَذِه القلعة تضرب السيوف القلعية، وَهِي الْهِنْدِيَّة العتيقة. وَأهل هَذِه القلعة يمتنعون على ملكهم إِذا أَرَادوا ويطيعونه إِذا أَرَادوا» . وَقَالَ: «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مَعْدن الرصاص القلعي إِلَّا فِي هَذِه القلعة» ، وَبَينهَا وَبَين سندابل، مَدِينَة الصين، ثَلَاث مائَة فَرسَخ، وحولها مدن ورساتيق وَاسِعَة. وَقَالَ أَبُو الريحان: «يجلب الرصاص القلعي من سرنديب، جَزِيرَة فِي بَحر الْهِنْد» .
وبالأندلس إقليم القلعة من كورة قبرة، ويظن أَن الرصاص القلعي ينْسب إِلَيْهَا. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ، وعجائب الْهِنْد) .
[4] النّصْف: اسْم من الْإِنْصَاف.
[5] القداح: جمع قدح (بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال) ، وَهُوَ السهْم الّذي كَانُوا يستقسمون بِهِ،(1/146)
أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قِدْحَيْنِ، وَلِي قِدْحَيْنِ، وَلَكُمْ قِدْحَيْنِ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قِدْحَاهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُ، وَمَنْ تَخَلَّفَ قِدْحَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، قَالُوا: أَنْصَفْتَ. فَجَعَلَ قِدْحَيْنِ أَصْفَرَيْنِ لِلْكَعْبَةِ، وَقِدْحَيْنِ أَسْوَدَيْنِ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِدْحَيْنِ أَبْيَضَيْنِ لِقُرَيْشِ، ثُمَّ أَعْطَوْا (الْقِدَاحَ) [1] صَاحِبَ الْقِدَاحِ الَّذِي يَضْرِبُ بِهَا عِنْدَ هُبَلَ (وَهُبَلُ:
صَنَمٌ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يَعْنِي أَبُو سُفْيَانَ ابْن حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ قَالَ: أُعْلِ [2] هُبَلُ: أَيْ أَظْهِرْ دِينَكَ) وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ، فَخَرَجَ الْأَصْفَرَانِ عَلَى الْغَزَالَيْنِ لِلْكَعْبَةِ، وَخَرَجَ الْأَسْوَدَانِ عَلَى الْأَسْيَافِ، وَالْأَدْرَاعُ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَخَلَّفَ قِدْحَا قُرَيْشٍ. فَضَرَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْأَسْيَافَ بَابًا لِلْكَعْبَةِ، وَضَرَبَ فِي الْبَابِ الْغَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. فَكَانَ أَوَّلَ ذَهَبٍ حَلِيَتْهُ الْكَعْبَةُ، فِيمَا يَزْعُمُونَ. ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَقَامَ سِقَايَةَ زَمْزَمَ لِلْحُجَّاجِ.
ذِكْرُ بِئَارِ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ
(الطَّوِيُّ وَمَنْ حَفَرَهَا) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَبْلَ حَفْرِ زَمْزَمَ قَدْ احْتَفَرَتْ [3] بِئَارًا بِمَكَّةَ، فِيمَا حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ، قَالَ:
__________
[ () ] يُقَال للسهم أول مَا يقطع: قطع (بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الطَّاء) ، ثمَّ ينحت ويبري فيسمى: بريا، ثمَّ يقوم قدحا، ثمَّ يراش ويركب نصله فيسمى سَهْما، وَهَذِه هِيَ الأزلام الْمَذْكُورَة فِي قَوْله عز وَجل:
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ 5: 3.
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَمَا يَصح أَن يكون أمرا من الْفِعْل الثلاثي (علا يَعْلُو) : أَي تبوأ منزلتك من الْعُلُوّ والسمو.
[3] يُقَال إِن قصيا كَانَ يسقى الحجيج فِي حِيَاض من أَدَم، وَكَانَ ينْقل المَاء من آبار خَارِجَة من مَكَّة، مِنْهَا بِئْر مَيْمُون الحضرميّ، ثمَّ احتفر قصي العجول فِي دَار أم هَانِئ بنت أَبى طَالب، وَهِي أول سِقَايَة احتفرت بِمَكَّة، وَكَانَت الْعَرَب إِذا استقوا مِنْهَا ارتجزوا فَقَالُوا:
نروى على العجول ثمَّ ننطلق ... إِن قصيا قد وفى وَقد صدق
فَلم تزل العجول قَائِمَة حَيَاة قصي وَبعد مَوته، حَتَّى كبر عبد منَاف بن قصي، فَسقط فِيهَا رجل من بنى جعيل فعطلوا العجول واندفنت، واحتفرت كل قَبيلَة بِئْرا. (عَن الرَّوْض الْأنف) .(1/147)
حَفَرَ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ الطَّوِيَّ [1] ، وَهِي الْبِئْرُ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْبَيْضَاءِ، دَارُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ (الثَّقَفِيُّ)
[2] .
(بَذَّرُ وَمَنْ حَفَرَهَا) :
وَحَفَرَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ بَذَّرَ، وَهِيَ الْبِئْرُ الَّتِي عِنْدَ الْمُسْتَنْذَرِ، خَطْمُ الْخَنْدَمَةِ [3] عَلَى فَمِ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ. وَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَفَرَهَا: لَأَجْعَلَنَّهَا بَلَاغًا لِلنَّاسِ [4] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ الشَّاعِرُ:
سَقَى اللَّهُ أَمْوَاهًا عَرَفْتُ مَكَانَهَا ... جُرَابًا [5] وَمَلْكُومًا [6] وَبَذَّرَ وَالْغَمْرَا
[7]
(سَجْلَةُ وَمَنْ حَفَرَهَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَفَرَ سَجْلَةَ [8] ، وَهِيَ بِئْرُ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الَّتِي يَسْقُونَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ. وَيَزْعُمُ بَنُو نَوْفَلٍ أَنَّ الْمُطْعِمَ ابْتَاعَهَا مِنْ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ، وَيَزْعُمُ بَنُو هَاشِمٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ حِينَ ظَهَرَتْ زَمْزَمُ، فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنْ تِلْكَ الْآبَارِ.
__________
[1] وَفِي الطوى تَقول سبيعة بنت عبد شمس:
إِن الطوى إِذا ذكرْتُمْ ماءها ... صوب السَّحَاب عذوبة وصفاء
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] الخندمة: جبل بِمَكَّة.
[4] وَذكر ياقوت نقلا عَن أَبى عُبَيْدَة فِي كتاب الْآبَار: أَن هَاشم بن عبد منَاف قَالَ حِين حفرهَا:
أنبطت بذرا بِمَاء قلاس ... جعلت ماءها بلاغا للنَّاس
[5] جراب (بِالضَّمِّ) : اسْم مَاء، وَقيل: بِئْر بِمَكَّة قديمَة (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[6] ملكوم (على زنة اسْم الْمَفْعُول) : اسْم مَاء بِمَكَّة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[7] الْغمر (بِفَتْح أَوله وَسُكُون ثَانِيه) : بِئْر قديمَة بِمَكَّة حفرتها بَنو سهم، وَفِي ذَلِك يَقُول شَاعِرهمْ:
نَحن حفرنا الْغمر للحجيج ... تثج مَاء أَيّمَا ثجيج
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) . وسيعرض لَهَا الْمُؤلف بعد قَلِيل.
[8] وَيُقَال إِن الّذي حفر سجلة لَيْسَ هاشما، وَإِنَّمَا هُوَ قصي، ويروون عَنهُ أَنه قَالَ حِين حفرهَا:
أَنا قصي وحفرت سجلة ... تروى الحجيج زغلة فزغلة
ويروى هَذَا الْبَيْت لخالدة بنت هَاشم باخْتلَاف فِي صَدره، وَهُوَ:
نَحن وهبنا لعدي سجلة ... تروى الحجيج زغلة فزغلة
(الزغلة «بِالضَّمِّ» : الدفعة) . (رَاجع الرَّوْض الْأنف ومعجم الْبلدَانِ) .(1/148)
(الْحَفْرُ وَمَنْ حَفَرَهَا) :
وَحَفَرَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ الْحَفْرَ [1] لِنَفْسِهِ.
(سُقَيَّةُ وَمَنْ حَفَرَهَا) :
وَحَفَرَتْ بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى سُقَيَّةَ [2] ، وَهِيَ بِئْرُ بَنِي أَسَدٍ.
(أُمُّ أَحْرَادٍ وَمَنْ حَفَرَهَا) :
وَحَفَرَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ أُمَّ أَحْرَادٍ [3] .
(السُّنْبُلَةُ وَمَنْ حَفَرَهَا) :
وَحَفَرَتْ بَنُو جُمَحَ السُّنْبُلَةَ، وَهِيَ بِئْرُ خَلَفِ بْنِ وَهْبٍ.
(الْغِمْرُ وَمَنْ حَفَرَهَا) :
وَحَفَرَتْ بَنُو سَهْمٍ الْغِمْرَ، وَهِيَ بِئْرُ بَنِي سَهْمٍ
(رُمُّ وَخُمُّ وَالْحَفْرُ وَأَصْحَابُهَا) :
وَكَانَتْ آبَارُ حَفَائِرَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ قَدِيمَةً مِنْ عَهْدِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَكِلَابِ
__________
[1] ذكرهَا ياقوت عِنْد الْكَلَام على الْحفر (بِالْحَاء الْمُهْملَة) ، فَقَالَ: « ... وحفر بِئْر لبني تيم بن مرّة بِمَكَّة، وَرَوَاهُ الْحَازِمِي بِالْجِيم» .
ثمَّ ذكرهَا عِنْد الْكَلَام على الجفر (بِالْجِيم) نقلا عَن أَبى عُبَيْدَة، فَقَالَ: « ... واحتفرت كل قَبيلَة من قُرَيْش فِي رباعهم بِئْرا، فاحتفر بَنو تيم بن مرّة الجفر، وَهِي بِئْر مرّة بن كَعْب، وَقيل: حفرهَا أُميَّة ابْن عبد شمس، وسماها جفر مرّة بن كَعْب» .
[2] كَذَا فِي مُعْجم الْبلدَانِ، وَفِي الْأُصُول: «شفية» قَالَ ياقوت: «سقية» (بِلَفْظ تَصْغِير سقية، وَقد رَوَاهَا قوم «شفية» بالشين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء) : وَهِي بِئْر قديمَة كَانَت بِمَكَّة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وحفرت بَنو أَسد شفية. فَقَالَ الْحُوَيْرِث بن أَسد:
مَاء شفية كصوب المزن ... وَلَيْسَ مَاؤُهَا بطرق أجن
قَالَ الزبير: وَخَالفهُ عمى فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ سقية (بِالسِّين الْمُهْملَة وَالْقَاف) .
[3] ويروون عَن أُميَّة بنت عميلة بن السباق بن عبد الدَّار امْرَأَة الْعَوام بن خويلد حِين حفرت بَنو عبد الدَّار أم أحراد:
نَحن حفرنا الْبَحْر أم أحراد ... لَيست كبذر البرور الجماد
فأجابتها ضَرَّتهَا صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب أم الزبير بن الْعَوام رضى الله عَنهُ:
نَحن جفرنا بذر ... تسقى الحجيج الْأَكْبَر
من مقبل ومدبر ... وَأم أحراد بثر
بثر: أَي قَلِيل نزر (رَاجع الرَّوْض، ومعجم الْبلدَانِ) .(1/149)
ابْن مُرَّةَ، وَكُبَرَاءِ قُرَيْشٍ الْأَوَائِلِ مِنْهَا يَشْرَبُونَ، وَهِيَ رُمُّ، وَرُمُّ: بِئْرُ مُرَّةَ ابْن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ: وَخُمُّ، وَخُمُّ بِئْرُ بَنِي كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ، وَالْحَفْرُ [1] . قَالَ حُذَيْفَةُ [2] بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ أَبُو أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ:
وَقِدْمَا غنَينا قَبْلَ ذَلِكَ حِقْبَةً ... وَلَا نَسْتَقِي إلَّا بِخُمَّ أَوْ الْحَفْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ: سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهَا.
(فَضْلُ زَمْزَمَ وَمَا قِيلَ فِيهَا مِنْ شِعْرٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَعَفَّتْ [3] زَمْزَمُ عَلَى الْبِئَارِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا يَسْقِي عَلَيْهَا الْحَاجُّ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ إلَيْهَا لِمَكَانِهَا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلِفَضْلِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الْمِيَاهِ، وَلِأَنَّهَا بِئْرُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَافْتَخَرَتْ بِهَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَعَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ، فَقَالَ مُسَافِرُ [4] بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُوَ يَفْخَرُ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَا وُلُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ السِّقَايَةِ والرّفادة، وَمَا أَقَامُوا لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ، وَبِزَمْزَمَ حِينَ ظَهَرَتْ لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ، شَرَفُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ شَرَفٌ، وَفَضْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ فَضْلٌ:
__________
[1] لقد ذكر ابْن هِشَام «الْحفر» قبل هَذَا بِقَلِيل ونسبها إِلَى أُميَّة، وأردفنا نَحن ثمَّ بِمَا ذكر عَنْهَا فِي المعاجم. وَلَعَلَّ فِي ذكرهَا هُنَا مَعَ «رم» و «خم» إِشَارَة إِلَى الرأى الْقَائِل بِأَنَّهَا من حُفْرَة مرّة بن كَعْب. (رَاجع الْحَاشِيَة رقم 1 ص 147) .
[2] كَذَا فِي الْأُصُول، ومعجم الْبلدَانِ لياقوت، والإصابة (ج 4 ص 541) عِنْد الْكَلَام على ليلى بنت أَبى حثْمَة. وَفِي الطَّبَرِيّ: والاشتقاق لِابْنِ دُرَيْد (ص 87 طبع أوروبا) والأغاني (ج 7 ص 229 طبع دَار الْكتب المصرية) : «حذافة» .
[3] عفت على البئار: غطت عَلَيْهَا وأذهبتها.
[4] وَكَانَ مُسَافر سيدا جوادا، وَهُوَ أحد أزواد الركب، وَإِنَّمَا سموا بذلك لأَنهم كَانُوا لَا يدعونَ غَرِيبا وَلَا مارا طَرِيقا وَلَا مُحْتَاجا يجتاز بهم إِلَّا أنزلوه وتكفلوا بِهِ حَتَّى يظعن، وَهُوَ أحد شعراء قُرَيْش، وَكَانَ يُنَاقض عمَارَة بن الْوَلِيد. وَله شعر فِي هِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة وَكَانَ يهواها، فراقها، فَخَطَبَهَا إِلَى أَبِيهَا بعد ضَرَّتهَا الْفَاكِه بن الْمُغيرَة، فَلم ترض ثروته وَمَاله، وَكَانَ أَن تزَوجهَا أَبُو سُفْيَان، فَحزن مُسَافر، وانْتهى بِهِ الْحزن إِلَى أَن مَاتَ بهبالة وَدفن بهَا. (رَاجع الأغاني ج 8 ص 48- 51 طبع بلاق وَالرَّوْض الْأنف) .(1/150)
وَرِثْنَا الْمجد من آبَائِنَا ... فَنَمَى بِنَا صُعُدَا
أَلَمْ نَسْقِ الْحَجِيجَ وَنَنْحَرُ ... الدَّلَّافَةَ الرُّفُدَا [1]
وَنُلْقَى عِنْدَ تَصْرِيفِ ... الْمَنَايَا شُدَّدًا رُفُدَا [2]
فَإِنْ نَهْلِكْ فَلَمْ نُمْلَكْ [3] ... وَمَنْ ذَا خَالِدٌ أَبَدَا [4]
وَزَمْزَمُ فِي [5] أَرُومَتِنَا [6] ... وَنَفْقَأُ عَيْنَ مَنْ حَسَدَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ:
وَسَاقِي الْحَجِيجِ ثُمَّ لِلْخَيْرِ هَاشِمُ ... وَعَبْدُ مَنَافٍ ذَلِكَ السَّيِّدُ الفِهري [7]
طوى زمزما عِنْدَ الْمَقَامِ فَأَصْبَحَتْ ... سِقَايَتُهُ فَخْرًا عَلَى كُلِّ ذِي فَخْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ. وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ نَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ذَبْحَ وَلَدِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ- فِيمَا يَزْعُمُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- قَدْ نَذَرَ حِينَ لَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ مَا لَقِيَ عِنْدَ حَفْرِ زَمْزَمَ، لَئِنْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ نَفَرٍ، ثُمَّ بَلَغُوا مَعَهُ حَتَّى يَمْنَعُوهُ، لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ للَّه عِنْدَ الْكَعْبَةِ. فَلَمَّا تَوَافَى بَنُوهُ عَشَرَةً، وَعَرَفَ أَنَّهُمْ سَيَمْنَعُونَهُ، جَمَعَهُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْوَفَاء للَّه بِذَلِكَ، فَأَطَاعُوهُ وَقَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قِدْحًا
__________
[1] الدلافة: يُرِيد بهَا هُنَا الْإِبِل الَّتِي تمشى متمهلة لِكَثْرَة سمنها، يُقَال: دلف الشَّيْخ، إِذا مَشى مشيا ضَعِيفا، وَهُوَ فَوق الدبيب. والرفد: جمع رفود. وَهِي الَّتِي تملأ الرفد، وَهُوَ قدح يحلب فِيهِ.
[2] رفد: من الرفد، وَهُوَ الْإِعْطَاء.
[3] لم نملك (بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول) : أَي لم يكن علينا وَال وَلَا ملك.
[4] فِي أ: «خلدا» .
[5] فِي الأغاني: «من» .
[6] الأرومة: الأَصْل.
[7] ويروى: «الْغمر» : أَي الْكثير الْعَطاء. كَمَا يرْوى: «الْقَهْر» : أَي القاهر، وَيكون صفة بِالْمَصْدَرِ.(1/151)
ثُمَّ يَكْتُبُ فِيهِ اسْمَهُ، ثُمَّ ائْتُونِي. فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَتَوْهُ، فَدَخَلَ بِهِمْ عَلَى هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ هُبَلُ عَلَى بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ هِيَ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ.
(الضَّرْبُ بِالْقِدَاحِ عِنْدَ الْعَرَبِ) :
وَكَانَ عِنْدَ هُبَلَ قِدَاحٌ سَبْعَةٌ، كُلُّ قِدْحٍ مِنْهَا فِيهِ (كِتَابٌ. قِدْحٌ فِيهِ) [1] (الْعَقْلُ) [2] إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقْلِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ، ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ السَّبْعَةِ [3] ، فَإِنْ خَرَجَ الْعَقْلُ فَعَلَى مَنْ خَرَجَ حَمْلُهُ، وَقِدْحٌ فِيهِ «نَعَمْ» لِلْأَمْرِ إذَا أَرَادُوهُ يُضْرَبُ بِهِ فِي الْقِدَاحِ، فَإِنْ خَرَجَ قِدْحُ «نَعَمْ» عَمِلُوا بِهِ، وَقِدْحٌ فِيهِ «لَا» إذَا أَرَادُوا أَمْرًا ضَرَبُوا بِهِ فِي الْقِدَاحِ، فَإِنْ خَرَجَ ذَلِكَ الْقِدْحُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَقِدْحٌ فِيهِ «مِنْكُمْ» ، وَقِدْحٌ فِيهِ «مُلْصَقٌ» ، وَقِدْحٌ فِيهِ «مِنْ غَيْرِكُمْ» ، وَقِدْحٌ فِيهِ «الْمِيَاهُ» إذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا لِلْمَاءِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ، وَفِيهَا ذَلِكَ الْقِدْحُ، فَحَيْثُمَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ. وَكَانُوا إذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِنُوا غُلَامًا، أَوْ يُنْكِحُوا مُنْكَحًا، أَوْ يَدْفِنُوا مَيتا، أَو شكوا فِي نَسَبِ أَحَدِهِمْ، ذَهَبُوا بِهِ إِلَى هُبل وبمائة دِرْهَمٍ وَجَزُورٍ، فَأَعْطَوْهَا صَاحِبَ الْقِدَاحِ الَّذِي يَضْرِبُ بِهَا، ثُمَّ قَرَّبُوا صَاحِبَهُمْ الَّذِي يُرِيدُونَ بِهِ مَا يُرِيدُونَ، ثُمَّ قَالُوا: يَا إلَهَنَا، هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَدْ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخْرِجْ الْحَقَّ فِيهِ. ثُمَّ يَقُولُونَ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ: اضْرِبْ فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ «مِنْكُمْ» كَانَ مِنْهُمْ وَسِيطًا [4] ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ «مِنْ غَيْرِكُمْ» كَانَ حَلِيفًا، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ «مُلْصَقٌ» كَانَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا حِلْفَ، وَإِنْ خَرَجَ فِيهِ شَيْءٌ، مِمَّا سِوَى هَذَا مِمَّا يَعْمَلُونَ بِهِ «نَعَمْ» عَمِلُوا بِهِ،
__________
[1] زِيَادَة عَن أ
[2] الْعقل: الدِّيَة.
[3] ويروى أَنهم كَانُوا إِذا قصدُوا فعلا ضربوا ثَلَاثَة أقداح، مَكْتُوب على أَحدهَا: أمرنى ربى.
وعَلى الآخر: نهاني ربى. وَالثَّالِث غفل. فان خرج الْآمِر مضوا على ذَلِك، وَإِن خرج الناهي تجنبوا عَنهُ.
وَإِن خرج الغفل أجالوها ثَانِيَة. ولعلهم كَانُوا يستعملون الطريقتين.
[4] وَسِيطًا: خَالص النّسَب فيهم، وَيُقَال: إِن الْوَسِيط هُوَ الشريف فِي قومه، لِأَن النّسَب الْكَرِيم دَار بِهِ من كل جِهَة، وَهُوَ وسط.(1/152)
وَإِنْ خَرَجَ «لَا» أَخَّرُوهُ عَامَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوهُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، يَنْتَهُونَ فِي أُمُورِهِمْ إلَى ذَلِكَ مِمَّا خَرَجَتْ بِهِ الْقِدَاحُ
[1] .
(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَأَوْلَادُهُ بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِ الْقِدَاحِ) :
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ: اضْرِبْ عَلَى بَنِيَّ هَؤُلَاءِ بِقِدَاحِهِمْ هَذِهِ وَأَخْبَرَهُ بِنَذْرِهِ الَّذِي نَذَرَ، فَأَعْطَاهُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قِدْحَهُ الَّذِي فِيهِ اسْمُهُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَصْغَرَ بَنِي [2] أَبِيهِ، كَانَ هُوَ وَالزُّبَيْرُ وَأَبُو طَالِبٍ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنُ مَخْزُومٍ [3] .
(خُرُوجُ الْقَدَحِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَشُرُوعُ أَبِيهِ فِي ذَبْحِهِ، وَمَنْعُ قُرَيْشٍ لَهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- أَحَبَّ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إلَيْهِ، فَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَرَى أَنَّ السَّهْمَ إذَا أَخَطَأَهُ فَقَدْ أَشْوَى [4] ، وَهُوَ أَبُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أَخَذَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ الْقِدَاحَ لِيَضْرِبَ بِهَا، قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ هُبَلَ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِيَدِهِ وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ إلَى إسَافٍ وَنَائِلَةٍ لِيَذْبَحَهُ، فَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ أَنْدِيَتِهَا، فَقَالُوا: مَاذَا تُرِيدُ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ: أَذْبَحُهُ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ: وَاَللَّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا حَتَّى تُعْذِرَ فِيهِ. لَئِنْ فَعَلْتَ هَذَا لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَأْتِي بِابْنِهِ حَتَّى يَذْبَحَهُ، فَمَا بَقَاءُ النَّاسِ عَلَى هَذَا! وَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
__________
[1] وَقد عرض الآلوسي فِي كِتَابه بُلُوغ الأرب فِي أَحْوَال الْعَرَب (ج 3 ص 70- 75) للْكَلَام على القداح بإسهاب وتفصيل فَارْجِع إِلَيْهِ.
[2] الظَّاهِر أَنه يُرِيد أَن عبد الله كَانَ أَصْغَر ولد أَبِيه حِين أَرَادَ نَحره، أَو لَعَلَّ الرِّوَايَة «أَصْغَر بنى أمه» . وَإِلَّا فالمعروف أَن حَمْزَة كَانَ أَصْغَر من عبد الله، وَالْعَبَّاس كَانَ أَصْغَر من حَمْزَة، وَقد ذكر عَن الْعَبَّاس رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ: أذكر مولد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنا ابْن ثَلَاثَة أَعْوَام أَو نَحْوهَا، فجيء بى حَتَّى نظرت إِلَيْهِ، وَجعل النسْوَة يقلن لي: قبل أَخَاك، قبل أَخَاك، فقبلته. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن عبد الله لَيْسَ أَصْغَر أَوْلَاد عبد الْمطلب. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[3] وَهَذَا الرأى- رأى ابْن هِشَام- هُوَ الْأَصَح، فقد ذكر الزبيريون أَن «عبدا» . هُوَ أَخُو عَائِذ ابْن عمرَان، وَأَن بنت عبد هِيَ صَخْرَة امْرَأَة عَمْرو بن عَائِذ، على قَول ابْن إِسْحَاق، إِن عَائِذ: هُوَ ابْن عبد، تكون صَخْرَة عمَّة لعائذ، وعَلى قَول ابْن هِشَام بنت عَمه. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] أشوى: أبقى، يُقَال: أشويت من الطَّعَام: إِذا أبقيت.(1/153)
ابْن عَمْرِو [1] بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ: وَاَللَّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا حَتَّى تُعْذِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِدَاؤُهُ بِأَمْوَالِنَا فَدَيْنَاهُ. وَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ:
لَا تَفْعَلْ، وَانْطَلِقْ بِهِ إلَى الْحِجَازِ، فَإِنَّ بِهِ عَرَّافَةً [2] لَهَا تَابِعٌ، فَسَلْهَا، ثُمَّ أَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكَ، إنْ أَمَرَتْكَ بِذَبْحِهِ ذَبَحْتَهُ، وإنْ أَمَرَتْكَ بِأَمْرٍ لَكَ وَلَهُ فِيهِ فَرَجٌ قَبِلْتُهُ.
(عَرَّافَةُ الْحِجَازِ وَمَا أشارت بِهِ أم عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) :
فَانْطَلَقُوا حَتَّى قدمُوا الْمَدِينَة، فوجودها- فِيمَا يَزْعُمُونَ- بِخَيْبَرِ. فَرَكِبُوا حَتَّى جَاءُوهَا، فَسَأَلُوهَا، وَقَصَّ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَبَرَهُ وَخَبَرَ ابْنِهِ، وَمَا أَرَادَ بِهِ وَنَذْرَهُ فِيهِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: ارْجِعُوا عَنِّي الْيَوْمَ حَتَّى يَأْتِيَنِي تَابِعِي فَأَسْأَلُهُ. فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا عَنْهَا، قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ: قَدْ جَاءَنِي الْخَبَرُ، كَمْ الدِّيَةُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَكَانَتْ كَذَلِكَ [3] .
قَالَتْ: فَارْجِعُوا إلَى بِلَادِكُمْ، ثُمَّ قَرِّبُوا صَاحِبَكُمْ، وَقَرِّبُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، ثُمَّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ [4] ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنْ الْإِبِلِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّكُمْ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْإِبِلِ فَانْحَرُوهَا عَنْهُ، فَقَدْ رَضِيَ رَبُّكُمْ، وَنَجَا صَاحِبُكُمْ.
(نَجَاةُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الذَّبْحِ) :
فَخَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ، فَلَمَّا أَجَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ، قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ قَرَّبُوا عَبْدَ اللَّهِ وَعَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ قَائِمٌ عِنْدَ هُبَلَ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ عِشْرِينَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ ضَرَبُوا
__________
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول وَابْن الْأَثِير ووفى أوالطبري: «عمر»
[2] يُقَال إِن اسْم هَذِه العرافة: قُطْبَة. وَقيل: بل اسْمهَا: سجَاح.
[3] من هُنَا ترى أَن الدِّيَة كَانَت عِنْدهم عشرَة من الْإِبِل، وَيكون عبد الله- على هَذَا- هُوَ أول من جعلهَا مائَة من الْإِبِل.
وَالْمَعْرُوف أَن أول من ودى بِالْإِبِلِ من الْعَرَب زيد بن بكر بن هوَازن حِين قَتله أَخُوهُ مُعَاوِيَة جد بنى عَامر بن صعصعة. (عَن الرَّوْض الْأنف، وَكتاب الْأَوَائِل لأبى هِلَال العسكري) .
[4] فِي ر: «الْقدح» .(1/154)
فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ ثَلَاثِينَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبُوا، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ أَرْبَعِينَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبُوا، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ خَمْسِينَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ؛ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ سِتِّينَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ سَبْعِينَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ ثَمَانِينَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبُوا، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ تِسْعِينَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبُوا، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ، فبلغت الْإِبِل مائَة، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ حَضَرَ: قَدْ انْتَهَى رِضَا رَبِّكَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ فَزَعَمُوا أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ حَتَّى أَضْرِبَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَضَرَبُوا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَعَلَى الْإِبِلِ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ، ثُمَّ عَادُوا الثَّانِيَةَ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ قَائِمٌ يَدْعُو اللَّهَ، فَضَرَبُوا، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ، ثُمَّ عَادُوا الثَّالِثَةَ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ قَائِمٌ يَدْعُو اللَّهَ، فَضَرَبُوا، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ، فَنُحِرَتْ، ثُمَّ تُرِكَتْ لَا يُصَدُّ عَنْهَا إنْسَانٌ وَلَا يُمْنَعُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: إنْسَانٌ وَلَا سَبُعٌ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَيْنَ أَضْعَافِ هَذَا الْحَدِيثِ رَجَزٌ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ.
ذِكْرُ الْمَرْأَةِ الْمُتَعَرِّضَةِ لِنِكَاحِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
(رَفْضُ عَبْدِ اللَّهِ طَلَبَ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ آخِذًا بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ، فَمَرَّ بِهِ- فِيمَا(1/155)
يَزْعُمُونَ- عَلَى امْرَأَةٍ [1] مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ، وَهِيَ أُخْتُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَتْ لَهُ حِينَ نَظَرَتْ إلَى وَجْهِهِ: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَعَ أَبِي، قَالَتْ: لَكَ مِثْلُ الْإِبِلِ الَّتِي نُحِرَتْ عَنْكَ، وَقَعْ عَلَيَّ الْآنَ، قَالَ: أَنَا مَعَ أَبِي، وَلَا أَسْتَطِيعُ خِلَافَهُ، وَلَا فِرَاقَهُ.
(زَوَاجُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ) :
فَخَرَجَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أَتَى بِهِ وَهْبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ ابْن مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي زُهْرَةَ نَسَبًا وَشَرَفًا، فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ أَفَضْلُ امْرَأَةٍ فِي قُرَيْشٍ نَسَبًا وَمَوْضِعًا.
(أُمَّهَاتُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ) :
وَهِيَ لِبَرَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ ابْن كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ. وَبَرَّةَ: لِأُمِّ حَبِيبِ بِنْتِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْن قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ. وَأُمُّ حَبِيبٍ لِبَرَّةَ بِنْتِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
(مَا جَرَى بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمَرْأَةِ الْمُتَعَرِّضَةِ لَهُ بَعْدَ بِنَائِهِ بِآمِنَةَ) :
فَزَعَمُوا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حِينَ أُمْلِكَهَا [2] مَكَانَهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، فَأَتَى الْمَرْأَةَ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَتْ
__________
[1] وَاسم هَذِه الْمَرْأَة: رقية بنت نَوْفَل، وتكنى: أم قتال. وَيُقَال إِن عبد الله قَالَ حِين ذَاك:
أما الْحَرَام فالحمام دونه ... والحل لَا حل فأستبينه
فَكيف بِالْأَمر الّذي تبغينه ... يحمى الْكَرِيم عرضه وَدينه
كَمَا يُقَال: إِن الْمَرْأَة الَّتِي مر عَلَيْهَا عبد الله مَعَ أَبِيه اسْمهَا فَاطِمَة بنت مر، وَكَانَت من أجمل النِّسَاء وأعفهن، وَكَانَت قَرَأت نور النُّبُوَّة فِي وَجهه، فدعته إِلَى نِكَاحهَا فَأبى. فَلَمَّا أَبى قَالَت أبياتا مِنْهَا:
إِنِّي رَأَيْت مخيلة نشأت ... فتلألأت بحناتم الْقطر
للَّه مَا زهرية سلبت ... مِنْك الّذي استلبت وَمَا تَدْرِي
وَيُقَال: إِن الَّتِي عرضت نَفسهَا عَلَيْهِ هِيَ ليلى العدوية. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح السِّيرَة) .
[2] أملك الْمَرْأَة (بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول) : تزَوجهَا.(1/156)
فَقَالَ لَهَا: مَا لَكَ لَا تَعْرِضِينَ عَلَيَّ الْيَوْمَ مَا كُنْتِ عَرَضْتِ عَلَيَّ بِالْأَمْسِ؟ قَالَتْ لَهُ:
فَارَقَكَ النُّورُ الَّذِي كَانَ مَعَكَ بِالْأَمْسِ، فَلَيْسَ (لِي) [1] بِكَ الْيَوْمَ حَاجَةٌ. وَقَدْ كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ أَخِيهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ- وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ وَاتَّبَعَ الْكُتُبَ: أَنَّهُ سَيَكُونُ [2] فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيٌّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ [3] أَنَّهُ حُدِّثَ:
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ كَانَتْ لَهُ مَعَ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، وَقَدْ عَمِلَ فِي طِينٍ لَهُ، وَبَهْ آثَارٌ مِنْ الطِّينِ، فَدَعَاهَا إلَى نَفْسِهِ، فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ لِمَا رَأَتْ بِهِ مِنْ أَثَرِ الطِّينِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ مَا كَانَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الطِّينِ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى آمِنَةَ، فَمَرَّ بِهَا، فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا، فَأَبَى عَلَيْهَا، وَعَمَدَ إلَى آمِنَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَأَصَابَهَا، فَحَمَلَتْ بِمُحَمِّدِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ مَرَّ بِامْرَأَتِهِ تِلْكَ، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكَ؟ قَالَتْ: لَا، مَرَرْتَ بِي وَبَيْنَ عَيْنَيْكَ غُرَّةٌ بَيْضَاءُ، فَدَعَوْتُكَ فَأَبَيْتَ عَلَيَّ، وَدَخَلْتَ عَلَى آمِنَةَ فَذَهَبَتْ بِهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّ امْرَأَتَهُ تِلْكَ كَانَتْ تُحَدِّثُ: أَنَّهُ مَرَّ بِهَا وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ غُرَّةٌ مِثْلُ غُرَّةِ الْفَرَسِ، قَالَتْ: فَدَعَوْتُهُ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ بِي، فَأَبَى عَلَيَّ، وَدَخَلَ عَلَى آمِنَةَ، فَأَصَابَهَا، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُمْ شَرَفًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَا قِيلَ لِآمِنَةَ عِنْدَ حَمْلِهَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيَزْعُمُونَ- فِيمَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُحَدِّثُ:
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «كَائِن» .
[3] رأى مُعَاوِيَة، وروى عَن عُرْوَة ومقسم وَغَيرهمَا، وَعنهُ- غير وَلَده مُحَمَّد- يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن طحلاء. وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: هُوَ أوثق من ابْنه. (عَن تراجم رجال) .(1/157)
أَنَّهَا أُتِيَتْ، حِينَ حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهَا: إنَّكَ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ إلَى الْأَرْضِ فَقُولِي: أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ، مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ، ثُمَّ سَمِّيهِ [1] مُحَمَّدًا. وَرَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ رَأَتْ بِهِ قُصُورَ بُصْرَى، مِنْ أَرْضِ الشَّامِ.
(مَوْتُ عَبْدِ اللَّهِ) :
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ [2] ، أَبُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ هَلَكَ، وَأُمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلٌ بِهِ [3] .
وِلَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضَاعَتُهُ
(رَأَى ابْنُ إسْحَاقَ مَوْلِدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وُلِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، عَامَ الْفِيلِ [4]
__________
[1] لَا يعرف فِي الْعَرَب من تسمى بِهَذَا الِاسْم قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا ثَلَاثَة، طمع آباؤهم حِين سمعُوا بِذكر مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقرب زَمَانه وَأَنه يبْعَث فِي الْحجاز، أَن يكون ولدا لَهُم. وهم: مُحَمَّد ابْن سُفْيَان بن مجاشع، جد جد الفرزدق الشَّاعِر، وَالْآخر: مُحَمَّد بن أحيحة بن الجلاح بن الْحَرِيش بن جحجبى بن كلفة بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن الْأَوْس، وَالْآخر مُحَمَّد بن حمْرَان بن ربيعَة. وَكَانَ آبَاء هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة قد وفدوا على بعض الْمُلُوك، وَكَانَ عِنْده علم من الْكتاب الأول فَأخْبرهُم بمبعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وباسمه، وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم قد خلف امْرَأَته حَامِلا. فَنَذر كل وَاحِد مِنْهُم إِن ولد لَهُ ولد ذكر أَن يُسَمِّيه مُحَمَّدًا، فَفَعَلُوا ذَلِك. (رَاجع الْفُصُول لِابْنِ فورك، وَالرَّوْض الْأنف) .
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد بن عبد الْملك بن هِشَام. قَالَ حَدثنَا زِيَاد بن عبد الله البكائي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق المطلبي قَالَ ... إِلَخ» .
[3] أَكثر الْعلمَاء على أَن عبد الله مَاتَ وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المهد، ابْن شَهْرَيْن أَو أَكثر من ذَلِك. وَقيل: بل مَاتَ عبد الله عِنْد أَخْوَاله بنى النجار وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْن ثَمَان وَعشْرين شهرا. وَيُقَال إِنَّه دفن فِي دَار النَّابِغَة فِي الدَّار الصُّغْرَى، إِذا دخلت الدَّار على يسارك فِي الْبَيْت. (رَاجع الطَّبَرِيّ وَالرَّوْض الْأنف) .
[4] اخْتلف فِي مولده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذكر أَنه كَانَ فِي ربيع الأول، وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَقَالَ الزبير: كَانَ مولده فِي رَمَضَان. وَهَذَا القَوْل مُوَافق لقَوْل من قَالَ: إِن أمه حملت بِهِ فِي أَيَّام التَّشْرِيق.
ويذكرون أَن الْفِيل جَاءَ مَكَّة فِي الْمحرم، وَأَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد بعد مَجِيء الْفِيل بِخَمْسِينَ يَوْمًا. وَكَانَت وِلَادَته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشعبِ، وَقيل بِالدَّار الَّتِي عِنْد الصَّفَا، وَكَانَت بعد لمُحَمد بن يُوسُف أخى الْحجَّاج(1/158)
(رِوَايَةُ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ مَوْلِدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ:
وَلَدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، فَنَحْنُ لِدَانِ [1] .
(رِوَايَةُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ مَوْلِدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ [2] إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
وَاَللَّهِ إنِّي لَغُلَامٌ [3] يَفَعَةٌ، ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ، أَعْقِلُ كُلَّ مَا سَمِعْتُ، إذْ سَمِعْتُ يَهُودِيًّا يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عَلَى أَطَمَةٍ [4] بِيَثْرِبَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودِ، حَتَّى إذَا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، قَالُوا لَهُ: وَيلك مَالك؟ قَالَ: طَلَعَ اللَّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدِ الَّذِي وُلِدَ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَقُلْتُ:
ابْنُ كَمْ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ؟
فَقَالَ: ابْنُ سِتِّينَ (سَنَةً) [5] ، وَقَدِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَسَمِعَ حَسَّانُ مَا سَمِعَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ.
(إعْلَامُ أُمِّهِ جَدَّهُ بِوِلَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْسَلَتْ إلَى جَدِّهِ
__________
[ () ] ثمَّ بنتهَا زبيدة مَسْجِدا حِين حجت. (رَاجع الرَّوْض الْأنف والطبقات الْكُبْرَى لِابْنِ سعد والطبري) .
[1] كَذَا فِي أ. ولدان: مثنى لِدَة. واللدة: الترب، وَالْهَاء فِيهِ عوض عَن الْوَاو الذاهبة من أَوله، لِأَنَّهُ من الْولادَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «لدتان» . وَلم تذكره كتب اللُّغَة بِدُونِ تَاء.
[2] هُوَ صَالح بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بن عمرَان الزُّهْرِيّ الْمدنِي، روى عَن أَبِيه وَأنس ومحمود بن لبيد والأعرج وَغَيرهم. وَعنهُ- غير ابْن إِسْحَاق- ابْنه سَالم وَالزهْرِيّ وَيُونُس بن يَعْقُوب الْمَاجشون وَجَمَاعَة. مَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك. (عَن تراجم رجال) .
[3] غُلَام يفعة: قوى قد طَال قده، مَأْخُوذ من اليفاع، وَهُوَ العالي من الأَرْض.
[4] الأطمة (بِفتْحَتَيْنِ) : الْحصن.
[5] زِيَادَة عَن أ.(1/159)
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَكَ غُلَامٌ، فَأْتِهِ فَانْظُرْ إلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ، وَحَدَّثَتْهُ بِمَا رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ، وَمَا قِيلَ لَهَا فِيهِ، وَمَا أُمِرَتْ بِهِ أَنْ تُسَمِّيَهُ.
(فَرَحُ جَدِّهِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْتِمَاسُهُ لَهُ الْمَرَاضِعَ) :
فَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَخَذَهُ، فَدَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ يَدْعُو اللَّهَ، وَيَشْكُرُ لَهُ مَا أَعْطَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى أُمِّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهَا [1] . وَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّضَعَاءَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَرَاضِعُ. وَفَى كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ 28: 12 [2] .
(نَسَبُ حَلِيمَةَ، وَنَسَبُ أَبِيهَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَاسْتَرْضَعَ لَهُ [3] امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، يُقَالُ لَهَا: حَلِيمَةُ ابْنَةُ أَبِي ذُؤَيْبٍ.
وَأَبُو ذُؤَيْبٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ شِجْنَةَ بْنِ جَابِرِ بْنِ رِزَامِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ فُصَيَّةَ [4] بْنِ نَصْرِ [5] بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيَلَانَ.
__________
[1] وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَن عبد الْمطلب عوذة بِشعر مِنْهُ:
الْحَمد للَّه الّذي أعطانى ... هَذَا الْغُلَام الطّيب الأردان
قد سَاد فِي المهد على الغلمان ... أُعِيذهُ بِالْبَيْتِ ذِي الْأَركان
(رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] الْمَعْرُوف أَن المراضع: جمع مرضع. وعَلى هَذَا تخرج رِوَايَة ابْن إِسْحَاق على أحد وَجْهَيْن، أَحدهمَا:
حذف الْمُضَاف، كَأَنَّهُ قَالَ: ذَوَات الرضعاء. وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ بالرضعاء: الْأَطْفَال على حَقِيقَة اللَّفْظ، لأَنهم إِذا وجدوا لَهُ مُرْضِعَة ترْضِعه، فقد وجدوا لَهُ رضيعا يرضع مَعَه. فَلَا يبعد أَن يُقَال: التمسوا لَهُ رضيعا، علما بِأَن الرَّضِيع لَا بُد لَهُ من مرضع. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[3] كَذَا فِي أ. واسترضعت الْمَرْأَة ولدى: طلبت مِنْهَا أَن ترْضِعه. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «واسترضع لَهُ من امْرَأَة» .
[4] فِي الْأُصُول: «قصية» بِالْقَافِ. وَهُوَ تَصْحِيف. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح السِّيرَة، والطبقات) .
[5] فِي الطَّبَرِيّ هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي فِي نسب الْحَارِث: «قصية بن سعد» . بِإِسْقَاط «نصر» .(1/160)
(نَسَبُ أَبِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّضَاعِ) :
وَاسْمُ أَبِيهِ الَّذِي أَرْضَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِفَاعَةَ ابْن مَلَّانَ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ فُصَيَّةَ [1] بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ [2] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: هِلَالُ بْنُ نَاصِرَةَ.
(إخْوَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّضَاعِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِخْوَتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُنَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَحُذَافَةُ [3] بِنْتُ الْحَارِثِ، وَهِيَ الشَّيْمَاءُ [4] ، غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى اسْمِهَا فَلَا تُعْرَفُ فِي قَوْمِهَا إلَّا بِهِ. وَهُمْ لِحَلِيمَةِ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، أُمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَذْكُرُونَ أَنَّ الشَّيْمَاءَ كَانَتْ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمِّهَا [5] إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ [6] .
__________
[1] كَذَا فِي م هُنَا. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قصية» بِالْقَافِ. وَهُوَ تَصْحِيف.
[2] وَيُقَال إِن الْحَارِث قدم على رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة حِين أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن، فَقَالَت لَهُ قُرَيْش: أَلا تسمع يَا حَار مَا يَقُول ابْنك هَذَا؟ فَقَالَ: وَمَا يَقُول؟ قَالُوا: يزْعم أَن الله يبْعَث النَّاس بعد الْمَوْت وَأَن للَّه دارين يعذب فيهمَا من عَصَاهُ، وَيكرم من أطاعه، فقد شتت أمرنَا وَفرق جماعتنا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَي بنى، مَالك ولقومك يشكونك، ويزعمون أَنَّك تَقول: إِن النَّاس يبعثون بعد الْمَوْت، ثمَّ يصيرون إِلَى جنَّة ونار، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنا أزعم ذَلِك، وَلَو قد كَانَ ذَلِك الْيَوْم يَا أَبَت لقد أخذت بِيَدِك حَتَّى أعرفك حَدِيثك الْيَوْم. فَأسلم الْحَارِث بعد ذَلِك وَحسن إِسْلَامه، وَكَانَ يَقُول حِين أسلم:
لَو قد أَخذ ابْني بيَدي فعرفني مَا قَالَ لم يُرْسِلنِي إِن شَاءَ الله حَتَّى يدخلني الْجنَّة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح الْمَوَاهِب، والإصابة) .
[3] فِي الْإِصَابَة: «خذامة» ، وَهِي بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة، كَمَا نبه على ذَلِك السهيليّ وَأَبُو ذَر، وَقد ذكر السهيليّ وَأَبُو ذَر وَابْن حجر مَا أَثْبَتْنَاهُ رِوَايَة أُخْرَى، وَانْفَرَدَ أَبُو ذَر بالتنبيه على أَنه هُوَ الصَّوَاب.
وَفِي أوالطبري: والطبقات «جدامة» ، وَبهَا جزم ابْن سعد فِي الطَّبَقَات على أَنَّهَا «جدامة» بِالْجِيم وَالدَّال الْمُهْملَة.
[4] وَيُقَال إِنَّهَا: «الشماء» بلاياء (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[5] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَفِي الْأُصُول: «أمه» .
[6] وَيُقَال: إِن أول من أَرْضَعَتْه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثويبة، أَرْضَعَتْه بِلَبن ابْن لَهَا يُقَال لَهُ:
ممزوج، أَيَّامًا، قبل أَن تقدم حليمة. وَكَانَت قد أرضعت قبله حَمْزَة بن عبد الْمطلب المَخْزُومِي. كَمَا أرضعت عبد الله بن جحش، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرف ذَلِك لثويبة، ويصلها من الْمَدِينَة. فَلَمَّا افْتتح مَكَّة سَأَلَ عَنْهَا وَعَن ابْنهَا مسروح، فَأخْبر أَنَّهُمَا مَاتَا، وَسَأَلَ عَن قرابتهما، فَلم يجد أحدا مِنْهُم حَيا وَكَانَت 11- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/161)
(حَدِيثُ حَلِيمَةَ عَمَّا رَأَتْهُ مِنْ الْخَيْرِ بَعْدَ تَسَلُّمِهَا لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي جَهْمُ بْنُ أَبِي جَهْمٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبِ الْجُمَحِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. أَوْ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ. أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، تُحَدِّثُ: أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ [1] تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، قَالَتْ: وَذَلِكَ فِي سَنَةٍ [2] شَهْبَاءَ، لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا. قَالَتْ: فَخَرَجَتْ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ [3] ، مَعَنَا شَارِفٌ [4] لَنَا، وَالله مَا نبض [5] بِقَطْرَةٍ، وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الَّذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجَوْعِ، مَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَدِّيهِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: يُغَذِّيهِ [6]- وَلَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْتُ عَلَى أَتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أَدَمْتُ [7] بِالرَّكْبِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا [8] ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ [9] الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلَّا وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
__________
[ () ] ثويبة جَارِيَة لأبى لَهب. كَمَا يُقَال: إِنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضع أَيْضا من غير هَاتين. (رَاجع الطَّبَرِيّ وَالرَّوْض الْأنف، والاستيعاب، وَشرح الْمَوَاهِب) .
[1] يُقَال: إِن اسْمه عبد الله بن الْحَارِث. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب والمعارف والطبقات) .
[2] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ. وَفِي أ: «وَفِي سنة ... إِلَخ» . وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَهِي فِي سنة ... إِلَخ»
[3] القمرة (بِالضَّمِّ) : لون إِلَى الخضرة، أَو بَيَاض فِيهِ كدرة. يُقَال: حمَار أقمر، وأتان قَمْرَاء.
[4] الشارف: النَّاقة المسنة.
[5] مَا تبض: مَا ترشح بِشَيْء.
[6] وَمَا ذكره ابْن هِشَام أتم فِي الْمَعْنى من الِاقْتِصَار على ذكر الْغَدَاء دون الْعشَاء. ويروى: «مَا يعذبه» أَي مَا يقنعه حَتَّى يرفع رَأسه وَيَنْقَطِع عَن الرَّضَاع.
[7] كَذَا فِي أ. وَلَقَد شرحها أَبُو ذَر فَقَالَ: فَلَقَد أدمت بالركب، أَي أطلت عَلَيْهِم الْمسَافَة لتمهلهم عَلَيْهَا، مَأْخُوذ من الشَّيْء الدَّائِم. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أذمت» . وأذمت الركاب: أعيت وَتَخَلَّفت عَن جمَاعَة الْإِبِل، وَلم تلْحق بهَا. يُرِيد أَنَّهَا تَأَخَّرت بالركب، أَي تَأَخّر الركب بِسَبَبِهَا.
[8] العجف: الهزال.
[9] يذكرُونَ فِي دفع قُرَيْش وَغَيرهم من أَشْرَاف الْعَرَب أَوْلَادهم إِلَى المراضع أسبابا، أَحدهَا: تَفْرِيغ النِّسَاء إِلَى الْأزْوَاج، كَمَا قَالَ عمار بن يَاسر لأم سَلمَة رضى الله عَنْهَا، وَكَانَ أخاها من الرضَاعَة، حِين انتزع من حجرها زَيْنَب بنت أَبى سَلمَة، فَقَالَ: دعِي هَذِه المقبوحة المشقوحة الَّتِي آذيت بهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/162)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأْبَاهُ، إذَا قِيلَ لَهَا إنَّهُ يَتِيمٌ، وَذَلِكَ أَنَّا إنَّمَا كُنَّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فَكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ! وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ وَجَدُّهُ! فَكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْتُ لِصَاحِبِي: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، قَالَ: لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً. قَالَتْ [1] : فَذَهَبْتُ إلَيْهِ فَأَخَذْتُهُ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلَّا أَنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ. قَالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ، رَجَعْتُ بِهِ إلَى رَحْلِي، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي [2] أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتَّى رَوِيَ [3] ، ثُمَّ نَامَا، وَمَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا إنَّهَا لَحَافِلٌ، فَحَلَبَ مِنْهَا مَا شَرِبَ، وَشَرِبْتُ مَعَهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وَشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ. قَالَتْ: يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا: تَعَلَّمِي [4] وَاَللَّهِ يَا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أَخَذْتُ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا وَرَكِبْتُ (أَنَا) [5] أَتَانِي، وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا معى، فو الله لَقَطَعَتْ بِالرَّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا [6]
__________
[ () ] وَقد يكون ذَلِك مِنْهُم لينشأ الطِّفْل فِي الْأَعْرَاب، فَيكون أفْصح لِسَانا، وَأجْلَد لجسمه وأجدر أَلا يُفَارق الْهَيْئَة المعدية، كَمَا قَالَ عمر رضى الله عَنهُ: تمعددوا تمعززوا وَاخْشَوْشنُوا. وَلَقَد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لأبى بكر رضى الله عَنهُ حِين قَالَ لَهُ: مَا رَأَيْت أفْصح مِنْك يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنعنِي وَأَنا من قُرَيْش وأرضعت فِي بنى سعد. فَهَذَا وَنَحْوه كَانَ يحملهم على دفع الرضعاء إِلَى المرضعات الأعرابيات. وَقد ذكر أَن عبد الْملك بن مَرْوَان كَانَ يَقُول: أضربنا حب الْوَلِيد. لِأَن الْوَلِيد كَانَ لحانا وَكَانَ سُلَيْمَان فصيحا، لِأَن الْوَلِيد أَقَامَ مَعَ أمه، وَسليمَان وَغَيره من إخْوَته سكنوا الْبَادِيَة فتعربوا، ثمَّ أدبوا فتأدبوا. (رَاجع الرَّوْض الْأنف، وَشرح الْمَوَاهِب) .
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ» وَلَعَلَّ تذكير الْفِعْل على معنى الشَّخْص.
[2] وَيُقَال: إِن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يقبل إِلَّا على ثدي وَاحِد، وَكَانَ يعرض عَلَيْهِ الثدي الآخر فيأباه، كَأَنَّهُ قد أشعر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن مَعَه شَرِيكا فِي أَلْبَانهَا. (رَاجع الرَّوْض الْأنف)
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري. وَفِي أوالروض الْأنف: «رويا» .
[4] كَذَا فِي الْأُصُول. يُرِيد: اعلمي. وَفِي الطَّبَرِيّ: «أتعلمين ... إِلَخ» .
[5] زِيَادَة عَن أ.
[6] فِي: أ «على» .(1/163)
شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهِمْ، حَتَّى إنَّ صَوَاحِبِي لِيَقُلْنَ لي: يَا بنة أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَكَ! ارْبَعِي [1] عَلَيْنَا، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَكَ الَّتِي كُنْتُ خَرَجْتُ عَلَيْهَا؟ فَأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاَللَّهِ، إنَّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: وَاَللَّهِ إنَّ لَهَا لَشَأْنًا. قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبَّنًا، فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ، وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ، وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ، حَتَّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ: وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ، وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبَّنًا. فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرَّفُ مِنْ اللَّهِ الزِّيَادَةَ وَالْخَيْرَ [2] حَتَّى مَضَتْ سَنَتَاهُ [3] وَفَصَلْتُهُ، وَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لَا يَشِبُّهُ الْغِلْمَانُ، فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتَّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا [4] . قَالَتْ: فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ. فَكَلَّمْنَا أُمَّهُ وَقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَرَكْتُ بُنَيَّ عِنْدِي حَتَّى يَغْلُظَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَ [5] مَكَّةَ، قَالَتْ: فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتَّى رَدَّتْهُ مَعَنَا.
(حَدِيثُ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ شَقَّا بَطْنَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَتْ: فرجعنا بِهِ، فو الله إنَّهُ بَعْدَ مَقْدِمِنَا (بِهِ) بِأَشْهُرِ مَعَ أَخِيهِ لَفِي بَهْمٍ [6] لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا، إذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدُّ [7] ، فَقَالَ لِي وَلِأَبِيهِ: ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيُّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، فَأَضْجَعَاهُ، فَشَقَّا بَطْنَهُ، فَهُمَا يَسُوطَانِهِ [8] .
__________
[1] اربعى: أقيمى وانتظري. يُقَال: ربع فلَان على فلَان إِذا أَقَامَ عَلَيْهِ وانتظره. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
عودي علينا واربعى يَا فاطما
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «الزِّيَادَة والخيرة» . وَفِي الطَّبَرِيّ: «زِيَادَة الْخَيْر» .
[3] فِي الطَّبَرِيّ: «سنتَانِ» .
[4] الجفر: الغليظ الشَّديد.
[5] الوبأ: يهمز وَيقصر (والوباء) بِالْمدِّ: الطَّاعُون.
[6] البهم: الصغار من الْغنم، واحدتها: بهمة.
[7] اشْتَدَّ فِي عدوه: أسْرع.
[8] يُقَال: سطت اللَّبن أَو الدَّم أَو غَيرهمَا أسوطه: إِذا ضربت بعضه بِبَعْض. وَاسم الْعود الّذي يضْرب بِهِ: السَّوْط.(1/164)
قَالَتْ: فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبوهُ نَحوه، فَوَجَدنَا قَائِمًا مُنْتَقَعَا [1] وَجْهُهُ. قَالَتْ: فَالْتَزَمْتُهُ وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ، فَقُلْنَا لَهُ: مَالك يَا بُنَيَّ، قَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، فَأَضْجَعَانِي وَشَقَّا بَطْنِي، فَالْتَمِسَا (فِيهِ) شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَتْ: فَرَجَعْنَا (بِهِ) [2] إلَى خِبَائِنَا.
(رُجُوعُ حَلِيمَةَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُمِّهِ) :
قَالَتْ: وَقَالَ لِي أَبُوهُ يَا حَلِيمَةُ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ بِهِ، قَالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَقَدِمْنَا بِهِ على أمّه، فَقَالَت: مَا أَقْدَمَكَ بِهِ يَا ظِئْرُ [3] وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ، وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَكَ؟
قَالَتْ: فَقُلْتُ [4] : قَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ، وَتَخَوَّفْتُ الْأَحْدَاثَ، عَلَيْهِ، فَأَدَّيْتُهُ إلَيْكَ [5] كَمَا تُحِبِّينَ، قَالَتْ: مَا هَذَا شَأْنُكَ، فَاصْدُقِينِي خَبَرَكَ.
قَالَتْ: فَلَمْ تَدَعْنِي حَتَّى أَخْبَرْتُهَا. قَالَتْ: أَفَتَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ نَعَمْ، قَالَتْ: كَلَّا، وَاَللَّهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَإِنَّ لِبُنَيَّ لَشَأْنًا، أَفَلَا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ، قَالَتْ: (قُلْتُ) [2] بَلَى، قَالَتْ: رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ، أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَ [6] لِي قُصُورَ بُصْرَى [7] مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، ثُمَّ حملت بِهِ، فو الله مَا رَأَيْتُ مِنْ حَمْلٍ قَطُّ كَانَ أَخَفَّ (عَلَيَّ) [2] وَلَا أَيْسَرَ مِنْهُ، وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْتُهُ وَإِنَّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ، رَافِعٌ رَأَسَهُ إلَى السَّمَاءِ، دَعِيهِ عَنْكَ وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً.
__________
[1] منتقعا وَجهه: أَي متغيرا، يُقَال: انتقع وَجهه وامتقع (بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول) : إِذا تغير.
[2] زِيَادَة عَن أوالطبري.
[3] الظِّئْر (بِالْكَسْرِ) : العاطفة على ولد غَيرهَا الْمُرضعَة لَهُ، فِي النَّاس وَغَيرهم، فَهُوَ أَعم من الْمُرضعَة لِأَنَّهُ يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى.
[4] كَذَا فِي أوالطبري، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَقلت.. نعم قد بلغ ... إِلَخ» .
[5] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ وَفِي الْأُصُول «عَلَيْك» .
[6] كَذَا فِي أوالطبري. وَفِي سَائِر الْأُصُول «أَضَاء لي بِهِ قُصُور ... إِلَخ» .
[7] بصرى (بِالضَّمِّ وَالْقصر) : من أَعمال دمشق بِالشَّام، وَهِي قَصَبَة كورة حوران، مَشْهُورَة عِنْد الْعَرَب قَدِيما وحديثا، وَلَهُم فِيهَا أشعار كَثِيرَة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/165)
(تَعْرِيفُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي ثَوْرُ [1] بْنُ يَزِيدَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا أَحْسَبُهُ إلَّا عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ [2] الْكُلَاعِيِّ:
أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ [3] ، وَبُشْرَى (أَخِي) [4] عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ الشَّامِ [5] ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخٍ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى بَهْمًا لَنَا، إذْ أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ ثَلْجًا، ثُمَّ أَخَذَانِي فَشَقَّا بَطْنِي، وَاسْتَخْرَجَا قلبِي فشقّاه، فاستخرجنا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَطَرَحَاهَا، ثُمَّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى أَنْقَيَاهُ [6] ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ زِنْهُ بِعَشَرَةِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ، ثُمَّ قَالَ: زنه بِمِائَة مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ، ثُمَّ قَالَ: زَنِّهِ بِأَلْفِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ، فَقَالَ: دَعه
__________
[1] هُوَ ثَوْر بن يزِيد الكلَاعِي، وَيُقَال الرحبيّ، أَبُو خَالِد الْحِمصِي أحد الْحفاظ الْعلمَاء. روى عَن خَالِد هَذَا وحبِيب بن عبيد وَصَالح بن يحيى وَغَيرهم، وروى عَنهُ ابْن الْمُبَارك وَيحيى الْقطَّان، وَخلق كثير، وَكَانَ يرى الْقدر. وَمَات سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة، وَهُوَ ابْن بضع وَسِتِّينَ سنة، وَقيل مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَمِائَة. (رَاجع تراجم رجال) .
[2] هُوَ خَالِد بن معدان بن أَبى كريب الكلَاعِي أَبُو عبد الله الشَّامي الْحِمصِي. روى عَن ثَوْبَان وَابْن عَمْرو وَابْن عمر وَغَيرهم. وروى عَنهُ بجير بن سعيد وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث وَغَيرهمَا. توفى سنة 103، وَقيل سنة 104، وَقيل سنة 108. (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري. وَفِي أ: «دَعْوَة إِبْرَاهِيم» .
[4] زِيَادَة عَن الطَّبَرِيّ.
[5] وَتَأْويل هَذَا النُّور مَا فتح الله عَلَيْهِ من تِلْكَ الْبِلَاد حَتَّى كَانَت الْخلَافَة فِيهَا مُدَّة بنى أُميَّة، واستضاءت تِلْكَ الْبِلَاد وَغَيرهَا بنوره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويحكى أَن خَالِد بن سعيد بن العَاصِي رأى قبل الْبَعْث بِيَسِير نورا يخرج من زَمْزَم حَتَّى ظَهرت لَهُ الْبُسْر فِي نخيل يثرب، فَقَصَّهَا على أَخِيه عَمْرو فَقَالَ لَهُ: إِنَّهَا حفيرة عبد الْمطلب وَإِن هَذَا النُّور مِنْهُم. فَكَانَ ذَلِك سَبَب مبادرته إِلَى الْإِسْلَام. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[6] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ: ثمَّ قَالَ ... إِلَخ» .(1/166)
عَنْك، فو الله لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَوَزَنَهَا [1] .
(هُوَ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ رَعَوْا الْغَنَمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ، قِيلَ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَأَنَا» [2] .
(اعْتِزَازُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرَشِيَّتِهِ، وَاسْتِرْضَاعُهُ فِي بَنِي سَعْدٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: أَنَا أَعْرَبُكُمْ، أَنَا قُرَشِيٌّ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.
(افْتَقَدَتْهُ حَلِيمَةُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رُجُوعِهَا بِهِ، وَوَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ النَّاسُ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ أُمَّهُ السَّعْدِيَّةَ لَمَّا قَدِمَتْ بِهِ مَكَّةَ أَضَلَّهَا فِي النَّاسِ وَهِيَ مُقْبِلَةٌ بِهِ نَحْوَ أَهْلِهِ، فَالْتَمَسَتْهُ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَأَتَتْ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَتْ لَهُ: إنِّي قَدْ قَدِمْتُ بِمُحَمَّدٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. فَلَمَّا كُنْتُ بِأَعْلَى مكّة أضلّنى، فو الله مَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ، فَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ وَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ، وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَتَيَا بِهِ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَا لَهُ: هَذَا ابْنُكَ وَجَدْنَاهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَجَعَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ يُعَوِّذُهُ وَيَدْعُو لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهِ إلَى أُمِّهِ آمِنَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
أَنَّ مِمَّا هَاجَ أُمَّهُ السَّعْدِيَّةَ عَلَى رَدِّهِ إلَى أُمِّهِ، مَعَ مَا ذَكَرَتْ لِأُمِّهِ مِمَّا أَخْبَرَتْهَا عَنْهُ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْحَبَشَةِ نَصَارَى، رَأَوْهُ مَعَهَا حِينَ رَجَعَتْ بِهِ بَعْدَ فِطَامِهِ، فَنَظَرُوا إلَيْهِ وَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَقَلَّبُوهُ، ثُمَّ قَالُوا لَهَا: لَنَأْخُذَنَّ هَذَا الْغُلَامَ، فَلَنَذْهَبَنَّ بِهِ إلَى مَلِكِنَا وَبَلَدِنَا، فَإِنَّ هَذَا غُلَامٌ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ نَحْنُ نَعْرِفُ أَمْرَهُ، فَزَعَمَ الَّذِي حَدَّثَنِي أَنَّهَا لَمْ تَكَدْ تَنْفَلِتُ بِهِ مِنْهُمْ.
__________
[1] وَزَاد الطَّبَرِيّ بعد هَذَا: «قَالَ ثمَّ ضموني إِلَى صدرهم، وقبلوا رَأْسِي وَمَا بَين عَيْني، ثمَّ قَالُوا:
يَا حبيب، لم ترع، إِنَّك لَو تَدْرِي مَا يُرَاد بك من الْخَيْر لقرت عَيْنك» .
[2] الْمَعْرُوف أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رعى الْغنم فِي بنى سعد مَعَ أَخِيه من الرضَاعَة، وَأَنه رعاها بِمَكَّة أَيْضا على قراريط لأهل مَكَّة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/167)
وَفَاةُ آمِنَةَ وَحَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَعْدَهَا
(وَفَاةُ آمِنَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ.
وَجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فِي كَلَاءَةِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ، يُنْبِتُهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ سِنِينَ، تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ:
أَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنَةُ تُوُفِّيَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ بِالْأَبْوَاءِ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، كَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ بِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، تُزِيرُهُ إيَّاهُمْ، فَمَاتَتْ وَهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ إلَى مَكَّةَ [1] .
(سَبَبُ خُؤُولَةِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ: سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو النَّجَّارِيَّةُ.
فَهَذِهِ الْخُؤُولَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ.
(إكْرَامُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَغِيرٌ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْن هَاشِمٍ، وَكَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَخْرَجَ إلَيْهِ، لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إجْلَالًا لَهُ، قَالَ:
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي وَهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ، حَتَّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ، فَيَأْخُذَهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخِّرُوهُ عَنْهُ، فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، إذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ: دعوا ابْني، فو الله إنَّ لَهُ لَشَأْنًا، ثُمَّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ [2] ، وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، وَيَسُرُّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ.
__________
[1] وَيُقَال إِن قبر آمِنَة بنت وهب فِي شعب أَبى ذَر بِمَكَّة. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: « ... مَعَه عَلَيْهِ ... إِلَخ» .(1/168)
وَفَاةُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَمَا رُثِيَ بِهِ مِنْ الشِّعْرِ
(وَفَاةُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَا قِيلَ فِيهِ مِنَ الشِّعْرِ) :
فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِي سِنِينَ هَلَكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ. وَذَلِكَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَمَانِي سِنِينَ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ [1] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ:
أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ تُوُفِّيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ [2] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ:
أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَعَرَفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ جَمَعَ بَنَاتِهِ، وَكُنَّ سِتَّ نِسْوَةٍ: صَفِيَّةَ، وَبَرَّةَ، وَعَاتِكَةَ، وَأُمَّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ، وَأُمَيْمَةَ، وَأَرْوَى، فَقَالَ لَهُنَّ: ابْكِينَ عَلَيَّ حَتَّى أَسْمَعَ مَا تَقُلْنَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يَعْرِفُ هَذَا الشِّعْرَ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا [3] رَوَاهُ عَنْ مُحَمِّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَتَبْنَاهُ.
(رِثَاءُ صَفِيَّةَ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) :
فَقَالَت صفيّة بنت عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا.
أَرِقْتُ لِصَوْتِ نَائِحَةٍ بِلَيْلٍ ... عَلَى رَجُلٍ بِقَارِعَةِ الصَّعِيدِ
فَفَاضَتْ عِنْدَ ذَلِكُمْ دُمُوعِي [4] ... عَلَى خَدِّي كَمُنْحَدِرِ الْفَرِيدِ [5]
__________
[1] هُوَ الْعَبَّاس بن عبد الله بن معبد بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي الْمدنِي. روى عَن أَخِيه إِبْرَاهِيم وَأَبِيهِ وَعِكْرِمَة وَغَيرهم. وروى عَنهُ ابْن جريح وَابْن إِسْحَاق ووهيب وسُفْيَان بن عُيَيْنَة والدراوَرْديّ.
(عَن تراجم رجال) .
[2] وَبَعْضهمْ يَقُول: توفى عبد الْمطلب وَرَسُول الله ابْن عشر سِنِين. (رَاجع الطَّبَرِيّ) .
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «إِلَّا أَنه رَوَاهُ ... كَمَا كتبناه» .
[4] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ:
فَفَاضَتْ عِنْد ذَاك دموع عَيْني
[5] الفريد: الدّرّ(1/169)
عَلَى رَجُلٍ كَرِيمٍ غَيْرِ وَغْلٍ [1] ... لَهُ الْفَضْلُ الْمُبِينُ عَلَى الْعَبِيدِ
عَلَى الْفَيَّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي ... أَبِيكِ الْخَيْرِ وَارِثِ كُلِّ جُودِ [2]
صَدُوقٍ فِي الْمَوَاطِنِ غَيْرِ نِكْسٍ ... وَلَا شَخْتِ الْمَقَامِ وَلَا سَنِيدٍ [3]
طَوِيلِ الْبَاعِ أَرْوَعَ شَيْظَمِيٌّ [4] ... مُطَاعٍ فِي عَشِيرَتِهِ حَمِيدٍ
رَفِيعِ الْبَيْتِ أَبْلَجَ ذِي فُضُولٍ ... وَغَيْثِ النَّاسِ فِي الزَّمَنِ [5] الْحَرُودِ [6]
كَرِيمِ الْجَدِّ لَيْسَ بِذِي وُصُومِ [7] ... يَرُوقُ عَلَى الْمُسَوَّدِ وَالْمَسُودِ
عَظِيمِ الْحِلْمِ مِنْ نَفَرٍ كِرَامٍ ... خَضَارِمَةٍ مَلَاوِثَةٍ أُسُودٍ [8]
فَلَوْ خَلَدَ امْرُؤٌ لِقَدِيمِ مَجْدٍ ... وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْخُلُودِ
لَكَانَ مُخَلِّدًا أُخْرَى اللَّيَالِي ... لِفَضْلِ الْمَجْدِ وَالْحَسَبِ التَّلِيدِ
(رِثَاءُ بَرَّةَ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) :
وَقَالَتْ بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا:
أَعَيْنَيَّ جُودَا بِدَمْعٍ دِرَرْ ... على طيّب الخم وَالْمُعْتَصَرْ [9]
عَلَى مَاجِدِ الْجِدِّ وَارَى الزِّنَادَ ... جَمِيلِ الْمُحَيَّا عَظِيمِ الخَطَرْ
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ ذِي الْمَكْرُمَاتِ ... وَذِي الْمَجْدِ وَالْعِزِّ والمُفْتَخَرْ
__________
[1] الوغل: الضَّعِيف النذل السَّاقِط المقصر فِي الْأَشْيَاء.
[2] أَرَادَت «الْخَيْر» بِالتَّشْدِيدِ فخففت، وَيجوز أَن يكون الْخَيْر (هَاهُنَا) : ضد الشَّرّ، جعلته كُله خيرا على الْمُبَالغَة.
[3] النكس: الرجل الضَّعِيف الّذي لَا خير فِيهِ. والشخت (بِالْفَتْح وبالتحريك) : الدَّقِيق الضامر من الأَصْل لَا هزالًا. والسنيد: الضَّعِيف الّذي لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ حَتَّى يسند رَأْيه إِلَى غَيره.
[4] الشيظمى: الْفَتى الجسيم.
[5] فِي أ: «فِي الزَّمَان» . وَلَا يَسْتَقِيم بهَا الْوَزْن.
[6] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والحرود: النَّاقة القليلة الدّرّ، شبه الزَّمن فِي جدبه بهَا. وَفِي أ:
«الجرود» . والجرود: جمع جرد، وَهُوَ الْمَكَان لَا نَبَات فِيهِ.
[7] الوصوم: جمع وصم، وَهُوَ الْعَار.
[8] الخضارمة: جمع خضرم (كزبرج) . وَهُوَ الْجواد المعطاء وَالسَّيِّد الحمول. والملاوثة: جمع ملواث من اللوثة، وَهِي الْقُوَّة، وَمِنْه قَول قريط بن أنيف:
عِنْد الحفيظة إِن ذُو لوثة لأَنا
[9] الخيم (بِالْكَسْرِ) : السجية والطبيعة. وَمعنى كَونه طيب المعتصر، أَنه جواد عِنْد الْمَسْأَلَة.(1/170)
وَذِي الْحِلْمِ وَالْفَصْلِ فِي النَّائِبَاتِ ... كَثِيرِ الْمَكَارِمِ جَمِّ الْفَجَرْ [1]
لَهُ فَضْلُ مَجْدٍ عَلَى قَوْمِهِ ... مُنِيرٍ يَلُوحُ كَضَوْءِ القَمَرْ
أَتَتْهُ الْمَنَايَا فَلَمْ تُشْوِهِ [2] ... بِصَرْفِ اللَّيَالِي وَرَيْبِ القَدَرْ
[3]
(رِثَاءُ عَاتِكَةَ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) :
وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا:
أَعَيْنِيَّ جُودَا وَلَا تَبْخَلَا ... بِدَمْعِكُمَا بَعْدَ نَوْمِ النِّيَامِ
أَعَيْنِيَّ وَاسْحَنْفِرَا واسكبا ... وشوبا بكاء كَمَا بِالْتِدَامِ [4]
أَعَيْنِيَّ وَاسْتَخْرِطَا وَاسْجُمَا ... عَلَى رَجُلٍ غَيْرِ نِكْسٍ كَهَامِ [5]
عَلَى الْجَحْفَلِ الْغَمْرِ فِي النَّائِبَاتِ ... كَرِيمِ الْمَسَاعِي وَفِيِّ الذِّمَامِ [6]
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ وَارَى الزِّنَادِ ... وَذِي مَصْدَقٍ بَعْدُ ثَبْتِ الْمَقَامِ
وَسَيْفٍ لَدَى الْحَرْبِ صَمْصَامَةٍ ... وَمُرْدَى الْمُخَاصِمِ عِنْدَ الْخِصَام
وَسَهل الْخَلِيفَة طَلْقِ الْيَدَيْنِ ... وَفِي [7] عَدْمَلِيٍّ صَمِيمٍ لُهَامِ [8]
تَبَنَّكَ فِي بَاذِخٍ بَيْتُهُ ... رَفِيعُ الذُّؤَابَةِ صَعْبُ المَرَامِ
[9]
(رِثَاءُ أُمِّ حَكِيمٍ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) :
وَقَالَتْ أُمُّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءِ بنتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا:
أَلَا يَا عَيْنُ جُودِي وَاسْتَهِلِّي ... وَبَكِّي ذَا النَّدَى وَالْمَكْرُمَاتِ [10]
__________
[1] الْفجْر: الْعَطاء، وَالْكَرم، والجود، وَالْمَعْرُوف، وَالْمَال وكثرته.
[2] لم تشوه: لم تصب الشوى بل أَصَابَت المقتل. والشوى: الْأَطْرَاف.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ويبث الْقَمَر» وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] اسحنفر الْمَطَر وَغَيره: كثر صبه. والالتدام: ضرب النِّسَاء وجوههن فِي النِّيَاحَة.
[5] استخرط الرجل فِي الْبكاء: لج فِيهِ. والكهام: الرجل الكليل المسن. تُرِيدُ أَنه لَيْسَ بنكس، أَي ضَعِيف وَلَا كليل.
[6] الجحفل: الرجل الْعَظِيم، وَالسَّيِّد الْكَرِيم.
[7] خففت الْيَاء من «وفى» ليستقيم الْوَزْن.
[8] العدملى: الضخم. واللهام (كغراب) : الْكثير الْخَيْر.
[9] تبنك: تأصل وَتمكن، مَأْخُوذ من البنك (بِضَم الْبَاء) ، وَهُوَ أصل الشَّيْء وخالصة. تُرِيدُ أَن بَيته تأصل فِي باذخ من الشّرف.
[10] استهلى: أظهرى الْبكاء. وَبكى: أَمر من بكاء (بِالتَّشْدِيدِ) ، بِمَعْنى بَكَى عَلَيْهِ ورثاه.(1/171)
أَلَا يَا عَيْنُ وَيْحَكَ أَسْعِفِينِي ... بِدَمْعٍ مِنْ دُمُوعٍ هَاطِلَاتٍ [1]
وَبَكِّي خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... أَبَاكِ الْخَيْرُ تَيَّارَ الْفُرَاتِ [2]
طَوِيلَ الْبَاعِ شَيْبَةَ ذَا الْمَعَالِي ... كَرِيمَ الْخِيمِ مَحْمُودَ الْهِبَاتِ [3]
وَصُولًا لِلْقَرَابَةِ هِبْرَزِيّا ... وَغَيْثًا فِي السِّنِينَ الْمُمْحِلَاتِ [4]
وَلَيْثًا حَيْنَ تَشْتَجِرُ الْعَوَالِي ... تَرُوقُ لَهُ عُيُونُ النَّاظِرَاتِ [5]
عَقِيلَ بَنِي كِنَانَةَ وَالْمُرَجَّى ... إذَا مَا الدَّهْرُ أَقْبَلَ بِالْهَنَاتِ [6]
وَمَفْزَعَهَا إذَا مَا هَاجَ هَيْجٌ ... بِدَاهِيَةٍ وَخَصْمَ الْمُعْضِلَاتِ [7]
فَبَكِّيهِ وَلَا تسمي بِحُزْنٍ ... وَبَكِّي، مَا بَقِيَتْ، الْبَاكِيَاتُ [8]
(رِثَاءُ أُمَيْمَةَ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) :
وَقَالَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا:
أَلَا هَلَكَ الرَّاعِي الْعَشِيرَةَ ذُو الْفَقْدِ ... وَسَاقِي الْحَجِيجِ وَالْمُحَامِي عَنْ الْمَجْدِ [9]
وَمَنْ يُؤْلَفُ الضَّيْفَ الْغَرِيبَ بُيُوتَهُ ... إذَا مَا سَمَاءُ النَّاسِ تَبْخَلُ بِالرَّعْدِ
كَسَبْتَ وَلَيَدًا خَيْرَ مَا يَكْسِبُ الْفَتى ... فَلم تنفك تَزْدَادُ يَا شَيْبَةَ الْحَمْدِ
أَبُو الْحَارِثِ الْفَيَّاضُ خَلَّى مَكَانَهُ ... فَلَا تُبْعِدَنْ فَكُلُّ حَيٍّ إلَى بُعْدٍ
فَإِنِّي لَبَاكٍ مَا بَقِيتُ وَمُوجَعٌ ... وَكَانَ لَهُ أَهْلًا لِمَا كَانَ مِنْ وَجْدِي [10]
__________
[1] فِي أ: «أسعدينى» . وأسعده: أَعَانَهُ على الْبكاء.
[2] أَصله الْخَيْر (بِالتَّشْدِيدِ) فخففت الْيَاء. والتيار: مُعظم المَاء. والفرات: المَاء العذب.
[3] الخيم: الطبيعة والسجية.
[4] الهبرزى: الْجَمِيل الوسيم. وَيُقَال: الحاذق فِي أُمُوره.
[5] تشتجر: تختلط وتشتبك. والعوالي: الرماح. تُرِيدُ حِين تَجِد الْحَرْب.
[6] الهنات: جمع هنة، وَهِي كِنَايَة عَن الْقَبِيح.
[7] مفزعها: ملجؤها. والهيج: الْحَرْب، وَهُوَ من التَّسْمِيَة بِالْمَصْدَرِ.
[8] وَلَا تسمى: أَي لَا تسأمى، فسهل الْهمزَة بِالنَّقْلِ ثمَّ حذفهَا.
[9] الرَّاعِي الْعَشِيرَة: الْحَافِظ لعشيرته. وَفِي الْفَقْد: الّذي يفقد، تُرِيدُ الْبَاذِل الْمُعْطى.
[10] أخْبرت بِهَذَا الشّطْر عَن نَفسهَا إِخْبَار الْمُذكر، على معنى الشَّخْص، كَمَا قيل:
قَامَت تبكيه على قَبره ... من لي من بعْدك يَا عَامر
تَرَكتنِي فِي الدَّار ذَا غربَة ... قد ذل من لَيْسَ لَهُ نَاصِر
(تُرِيدُ: شخصا ذَا غربَة) .(1/172)
سَقَاكَ وَلِيُّ النَّاسِ فِي القَبرُ مُمْطِرًا ... فَسَوْفَ أُبَكِّيهِ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّحْدِ
فَقَدْ كَانَ زَيْنًا لِلْعَشِيرَةِ كُلِّهَا ... وَكَانَ حَمِيدًا حَيْثُ مَا كَانَ مِنْ حَمْدٍ
(رِثَاءُ أَرِوَى لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) :
وَقَالَتْ أَرْوَى بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا:
بَكَتْ عَيْنَيَّ وَحُقَّ لَهَا الْبُكَاءُ ... عَلَى سَمْحٍ سَجِيَّتُهُ الْحَيَاءُ [1]
عَلَى سَهْلِ الْخَلِيقَةِ أبْطَحيٍّ ... كَرِيمِ الْخِيمِ نِيَّتُهُ الْعَلَاءُ [2]
عَلَى الْفَيَّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي ... أَبِيكِ الْخَيْرِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ [3]
طَوِيلِ الْبَاعِ أَمْلَسَ شَيْظميٌّ ... أَغَرَّ كَأَنَّ غُرَّتَهُ ضِيَاءُ [4]
أَقَبِّ الْكَشْحِ أَرُوعَ ذِي فُضُولٍ ... لَهُ الْمَجْدُ الْمُقَدَّمُ وَالسَّنَاءُ [5]
أَبِيِّ الضَّيْمِ أَبْلَجَ هِبْرَزِيٌّ ... قَدِيمِ الْمَجْدِ لَيْسَ لَهُ [6] خَفَا
وَمَعْقِلِ مَالِكٍ وَرَبِيعِ فِهْرٍ ... وَفَاصِلِهَا [7] إذَا اُلْتُمِسَ الْقَضَاءُ
وَكَانَ هُوَ الْفَتَى كَرَمًا وَجُودًا ... وَبَأْسًا حَيْنَ تَنْسَكِبُ الدِّمَاءُ
إذَا هَابَ الْكُمَاةُ الْمَوْتَ حَتَّى ... كَأَنَّ قُلُوبَ أَكْثَرِهِمْ هَوَاءُ [8]
مَضَى قُدُمًا بِذِي رُبَدٍ خَشِيبٍ [9] ... عَلَيْهِ حَيْنَ تُبْصِرهُ الْبَهَاءُ [10]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَزَعَمَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ أَشَارَ بِرَأْسِهِ وَقَدْ أَصْمَتَ [11] : أَنَّ هَكَذَا فَابْكِينَنِي.
__________
[1] السجية: الطبيعة.
[2] أَي من قُرَيْش البطاح: وهم الَّذين ينزلون بَين أخشبى مَكَّة.
[3] الكفاء: الْمثل.
[4] الشيظمى: الْمَقُول الفصيح.
[5] الأقب: الضامر الْبَطن. والكشح: الخصر. والأروع: الّذي يُعْجِبك بحسنة، ومنظره وشجاعته.
[6] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بِهِ» .
[7] كَذَا فِي أ. والفاصل: الّذي يفصل فِي الْخُصُومَات. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وفاضلها» بالضاد الْمُعْجَمَة، وَمَا أَثْبَتْنَاهُ أولى للسياق.
[8] الكماة: الشجعان، واحدهم: كمي.
[9] الربد (كصرد) الفرند. والخشيب: الصَّقِيل.
[10] ويروى: «الهباء» . يُرِيد بِهِ مَا يظْهر على السَّيْف المجوهر تَشْبِيها بالغبار.
[11] أصمت العليل: اعتقل لِسَانه.(1/173)
(نَسَبُ الْمُسَيِّبِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: [وَ] [1] الْمُسَيِّبُ [2] بْنُ حَزْنِ [3] بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ.
(رِثَاءُ حُذَيْفَةَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ [4] حُذَيْفَةُ [5] بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ يَبْكِي عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُ وَفَضْلَ قُصَيٍّ عَلَى قُرَيْشٍ، وَفَضْلَ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُخِذَ بِغُرْمِ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ بِمَكَّةَ، فَوَقَفَ بِهَا فَمَرَّ بِهِ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَافْتَكَّهُ:
أَعَيْنِيَّ جُودَا بِالدُّمُوعِ عَلَى الصَّدْرِ ... وَلَا تَسْأَمَا أُسْقِيتُمَا سَبَلَ الْقَطْرِ [6]
وَجُودَا بِدَمْعٍ وَاسْفَحَا كُلَّ شَارِقٍ ... بُكَاءَ امْرِئٍ لَمْ يُشْوِهِ نَائِبُ الدَّهْرِ [7]
(وَسُحَّا وَجُمَّا وَاسْجُمَا مَا بَقِيتُمَا [8] ... عَلَى ذِي حَيَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَذِي سِتْرِ) [9]
عَلَى رَجُلٍ جَلْدِ الْقُوَى ذِي حَفِيظَةٍ ... جَمِيلِ الْمُحَيَّا غَيْرِ نِكْسٍ وَلَا هَذْرِ [10]
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] أهل الْعرَاق يفتحون الْيَاء من «الْمسيب» ، وَأهل الْمَدِينَة يكسرون، وَنقل عَن سعيد ابْنه أَنه كَانَ يَقُول: سيب الله من سيب أَبى، وَحكى الْكسر عِيَاض وَابْن الْمَدِينِيّ.
[3] روى سعيد بن الْمسيب، قَالَ: أَرَادَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُغير اسْم جدي ويسميه سهلا، فَأبى، وَقَالَ: لَا أغير اسْما سماني بِهِ أَبى. فَمَا زَالَت تِلْكَ الحزونة فِينَا. (رَاجع شرح الْقَامُوس مَادَّة حزن) .
[4] وَيُقَال إِن الشّعْر لحذافة بن غَانِم، وَهُوَ أَخُو حُذَيْفَة، ووالد خَارِجَة بن حذافة، وَله يَقُول فِي هَذِه القصيدة:
فخارج إِمَّا أهلكن فَلَا تزل
[5] وَهُوَ وَالِد أَبى جهم عبيد بن حُذَيْفَة، وَهُوَ الّذي أهْدى الخميصة لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنظر إِلَى علمهَا فَردهَا. وَأم أَبى جهم: يسير بنت عبد الله بن أذاة بن ريَاح. وَابْن أذاة هُوَ خَال أَبى قُحَافَة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[6] السبل: الْمَطَر.
[7] كل شارق: أَي عِنْد طُلُوع الشَّمْس كل يَوْم، وَلم يشوه: لم يخطئه.
[8] سَحا: صبا. وجما: أجمعا وأكثرا. واسجما: أسيلا.
[9] زِيَادَة عَن أ.
[10] الحفيظة: الْغَضَب مَعَ عزة. والنكس من السِّهَام: الّذي نكس فِي الكنانة ليميزه الرَّامِي فَلَا يَأْخُذهُ لرداءته، وَقيل: الّذي انْكَسَرَ أَعْلَاهُ فَنَكس ورد أَعْلَاهُ أَسْفَله، وَهُوَ غير جيد للرمي. والهذر: الْكثير الْكَلَام فِي غير فَائِدَة.(1/174)
عَلَى الْمَاجِدِ الْبُهْلُولِ ذِي الْبَاعِ وَالنَّدَى [1] ... رَبِيعِ لؤيّ فِي المحوط وَفِي الْعسر [2]
على خير حَافٍ مِنْ مُعَدٍّ وناعل ... كريم الْمُسَمّى طَيِّبَ الْخِيمِ وَالنَّجْرِ [3]
وَخَيْرُهُمْ أَصْلًا وَفَرْعًا وَمَعْدِنًا ... وَأَحْظَاهُمْ بِالْمُكْرَمَاتِ وَبِالذِّكْرِ
وَأَوْلَاهُمْ بِالْمَجْدِ وَالْحِلْمِ وَالنُّهَى ... وَبِالْفَضْلِ عِنْدَ الْمُجْحِفَاتِ مِنْ الْغُبْرِ [4]
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ الَّذِي كَانَ وَجْهُهُ ... يُضِيءُ سَوَادَ اللَّيْلِ كَالْقَمَرِ الْبَدْرِ
وَسَاقِي الْحَجِيجِ ثُمَّ لِلْخَيْرِ هَاشِمٍ [5] ... وَعَبْدُ مَنَافٍ ذَلِكَ السَّيِّدُ الفِهْري [6]
طَوَى زَمزَما عِنْدَ الْمَقَامِ فَأَصْبَحَتْ ... سِقَايَتُهُ فَخْرًا عَلَى كُلِّ ذِي فَخْرٍ
لِيَبْكِ عَلَيْهِ كُلُّ عَانٍ بِكُرْبَةٍ ... وَآلُ قُصَيٍّ مِنْ مُقِلٍّ وَذِي وَفْرٍ [7]
بَنُوهُ سَرَاةَ كَهْلُهُمْ وَشَبَابُهُمْ ... تَفَلَّقَ عَنْهُمْ بَيْضَةُ الطَّائِرِ الصَّقْرِ [8]
قُصَيُّ الَّذِي عَادَى كِنَانَةَ كُلَّهَا ... وَرَابَطَ بَيْتَ اللَّهِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
فَإِنْ تَكُ غَالَتْهُ الْمَنَايَا وَصَرْفُهَا ... فَقَدْ عَاشَ مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ وَالْأَمْرِ [9]
وَأَبْقَى رِجَالًا سَادَةً غَيْرَ عُزَّلٍ ... مَصَالِيتُ أَمْثَالَ الرُّدَيْنِيَّةِ السُّمْرِ [10]
أَبُو عُتْبَةَ الْمُلْقَى إلَيَّ حِبَاؤُهُ ... أَغَرُّ هِجَانُ اللَّوْنِ مِنْ نَفَرِ غُرٍّ [11]
وَحَمْزَةُ مِثْلُ الْبَدْرِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى ... نَقِيُّ الثِّيَابِ وَالذِّمَامِ مِنْ الْغَدْرِ
__________
[1] البهلول: السَّيِّد.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. واللهى: العطايا. وَفِي أ: «والندا» . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «والنهى» والنهى: جمع نهية، وَهِي الْعقل.
[3] النجر: الأَصْل.
[4] المجحفات: الَّتِي تذْهب بالأموال. والغبر: السنون المقحطات
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «للخبز» .
[6] كَذَا فِي الْأُصُول. وَفِي شرح السِّيرَة: «الْقَهْر» بِالْقَافِ. أَي الّذي يقهر النَّاس، فوصفه بِالْمَصْدَرِ، كَمَا تَقول: رجل عدل، أَو رجل صَوْم، أَو رجل فطر.
[7] العاني: الْأَسير.
[8] سراة: خِيَار.
[9] النقيبة: النَّفس. وَمَيْمُون النقيبة: منجح الفعال مظفر المطالب.
[10] عزل: جمع أعزل. وَلَا يجمع أفعل على فعل، وَلَكِن جَاءَ هَكَذَا، لِأَن الأعزل فِي مُقَابلَة الرامح، وَقد يحملون الصّفة على ضدها. وَقد يجوز أَن يكون أجراه مجْرى «حسر» جمع حاسر، لِأَنَّهُ قريب مِنْهُ فِي الْمَعْنى. ومصاليت: شجعان. والردينية: الرماح.
[11] الحباء: الْعَطاء. وهجان اللَّوْن: ابيض.(1/175)
وَعَبْدُ مَنَافٍ مَاجِدٌ ذُو حَفِيظَةٍ ... وَصُولٌ لِذِي الْقُرْبَى رَحِيمٌ بِذِي [1] الصِّهْرِ
كُهُولُهُمْ خَيْرُ الكهول ونسلهم ... كتسل الْمُلُوكِ لَا تَبُورُ وَلَا تَحَرَّى [2]
مَتَى مَا تُلَاقِي مِنْهُمْ الدَّهْرَ نَاشِئًا ... تَجِدْهُ بِإِجْرِيَّا أَوَائِلِهِ بَجْرَى [3]
هُمْ مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَعِزَّةً ... إذَا اُسْتُبِقَ الْخَيْرَاتُ فِي سَالِفِ الْعَصْرِ
وَفِيهِمْ بُنَاةٌ لِلْعُلَا وَعِمَارَةٌ ... وَعَبْدُ مَنَافٍ جَدُّهُمْ جَابِرُ الْكَسْرِ
بِإِنْكَاحِ عَوْفٍ بِنْتَهُ لِيُجِيرَنَا ... مِنْ أَعْدَائِنَا إذْ أَسْلَمَتْنَا بَنُو فِهْرِ
فَسِرْنَا تهامي الْبِلَادِ وَنَجْدَهَا [4] ... بِأَمْنِهِ حَتَّى خَاضَتْ الْعِيرُ فِي الْبَحْرِ [5]
وَهُمْ حَضَرُوا وَالنَّاسُ بَادٍ فَرِيقُهُمْ ... وَلَيْسَ بِهَا إلَّا شُيُوخُ بَنِي [6] عَمْرِو [7]
بَنَوْهَا دِيَارًا جَمَّةً وَطَوَوْا بِهَا ... بِئَارًا تَسُحُّ الْمَاءَ مِنْ ثَبَجِ بَحْرِ [8]
لَكَيْ يَشْرَبَ الْحُجَّاجُ مِنْهَا وَغَيْرُهُمْ ... إذَا ابْتَدَرُوهَا صُبْحَ تَابِعَةِ النَّحْرِ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «لذِي» .
[2] لَا تبور: لَا تهْلك. وَلَا تحرى: لَا تنقص.
[3] الإجريا (بِالْقصرِ وَالْمدّ) : الْوَجْه الّذي تَأْخُذ فِيهِ وتجرى عَلَيْهِ.
[4] يُرِيد مَا انخفض مِنْهَا وَمَا علا.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول «بأمنة» . وَهُوَ تَصْحِيف. وَقد قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على هَذِه الْكَلِمَة: « ... حذف الْيَاء من هَاء الْكِنَايَة (الضَّمِير) ضَرُورَة كَمَا أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ:
سأجعل عَيْنَيْهِ لنَفسِهِ مقنعا
فِي أَبْيَات كَثِيرَة أنشدها سِيبَوَيْهٍ، وَهَذَا مَعَ حذف الْيَاء وَالْوَاو وَبَقَاء حَرَكَة الْهَاء، فَإِن سكنت الْهَاء بعد الْحَذف، فَهُوَ أقل فِي الِاسْتِعْمَال من نَحْو هَذَا، وأنشدوا:
نضواى مشتاقان لَهُ أرقان
وَهَذَا الّذي ذَكرْنَاهُ هُوَ فِي الْقيَاس أقوى، لِأَنَّهُ من بَاب حمل الْوَصْل على الْوَقْف، نَحْو قَول الراجز:
لما رأى أَن لَا دعة وَلَا شبع
وَمِنْه فِي التَّنْزِيل كثير، نَحْو إِثْبَات هَاء السكت فِي الأَصْل، وَإِثْبَات الْألف من أَنا، وَإِثْبَات ألف الفواصل نَحْو: «وتظنون باللَّه الظنونا» . وَهَذَا الّذي ذكره سِيبَوَيْهٍ من الضَّرُورَة فِي هَاء الْإِضْمَار إِنَّمَا هُوَ إِذا تحرّك مَا قبلهَا نَحْو: بِهِ، وَلَا يكون فِي هَاء الْمُؤَنَّث الْبَتَّةَ لخفة الْألف، فَإِن سكن مَا قبل الْهَاء نَحْو: فِيهِ، كَانَ الْحَذف أحسن من الْإِثْبَات.
[6] شُيُوخ بنى عَمْرو: يُرِيد بنى هَاشم، لِأَن اسْمه عَمْرو.
[7] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بَنو» وَهُوَ تَحْرِيف.
[8] كَذَا فِي أ. وثبج كل شَيْء: معظمه. وَفِي سَائِر الْأُصُول: « ... ثبج الْبَحْر» .(1/176)
ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَظَلُّ رِكَابُهُمْ ... مُخَيَّسَةً [1] بَيْنَ الْأَخَاشِبِ وَالْحِجْرِ [2]
وَقِدْمًا غَنِيّنَا قَبْلَ ذَلِكَ حِقْبَةً ... وَلَا نَسْتَقِي إلَّا بِخُمَّ أَوْ الْحَفْرِ [3]
وَهُمْ يَغْفِرُونَ الذَّنْبَ يُنْقَمُ دُونَهُ ... وَيَعْفُونَ عَنْ قَوْلِ السَّفَاهَةِ وَالْهُجْرِ [4]
وَهُمْ جَمَعُوا حِلْفَ الْأَحَابِيشِ كلِّها ... وَهُمْ نَكَّلُوا عَنَّا غُوَاةَ بَنِي بَكْرِ [5]
فَخَارِجَ، إمَّا أَهْلكُنَّ فَلَا تَزَلْ ... لَهُمْ شَاكِرًا حَتَّى تُغَيَّبَ فِي الْقَبْرِ
وَلَا تَنْسَ مَا أَسُدَى ابْنُ لُبْنَى فَإِنَّهُ ... قَدْ أَسْدَى يَدًا مَحْقُوقَةً مِنْكَ بِالشُّكْرِ [6]
وَأَنْتَ ابْنُ لُبْنَى مِنْ قُصَيٍّ إذَا انْتَمَوْا ... بِحَيْثُ انْتَهَى قَصْدُ الْفُؤَادِ مِنْ الصَّدْرِ
وَأَنْتَ تَنَاوَلْتَ الْعُلَا فَجَمَعْتَهَا ... إلَى مَحْتِدٍ لِلْمَجْدِ ذِي ثَبَجِ جَسْرِ [7]
سَبَقْتَ وَفُتَّ الْقَوْمَ بَذْلًا وَنَائِلًا ... وَسُدْتُ وَلَيَدًا كُلَّ ذِي سُوْدُدِ غَمْرِ
وَأُمُّكَ سِرٌّ مِنْ خُزَاعَةَ جَوْهَرِ ... إذَا حَصَّلَ الْأَنْسَابَ يَوْمًا ذَوُو الْخُبْرِ [8]
إلَى سَبَأِ الْأَبْطَالِ تُنَمَّى وَتَنْتَمِي ... فَأَكْرِمْ بِهَا مَنْسُوبَةً فِي ذُرَا الزُّهْرِ
أَبُو شَمَرٍ مِنْهُمْ وَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ ... وَذُو جَدَنٍ مِنْ قَوْمِهَا وَأَبُو الْجَبْرِ [9]
وَأَسْعَدُ قَادَ النَّاسَ عِشْرِينَ حِجَّةً ... يُؤَيَّدُ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ بِالنَّصْرِ [10]
__________
[1] كَذَا فِي الْأُصُول. ومخيسة: مذللة. ويروى: «محبسة» والمحبسة: المحبوسة.
[2] الأخاشب: جبال بِمَكَّة، وهما جبلان، فجمعهما على مَا يليهما.
[3] خم والحفر: اسْما بئرين. وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِمَا.
[4] الهجر: الْقَبِيح من الْكَلَام الْفَاحِش.
[5] الْأَحَابِيش: أَحيَاء الفارة، انضموا إِلَى بنى لَيْث فِي محاربتهم قُريْشًا، وَقيل: حالفوا قُريْشًا تَحت جبل يُسمى حَبَشِيًّا، فسموا بذلك. ونكلوا: صرفُوا وزجروا.
[6] محقوقة كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «محفوفة» . (بفاءين) .
[7] الجسر: الْمَاضِي فِي أُمُوره القوى عَلَيْهَا.
[8] سر: خَالِصَة النّسَب.
[9] أَبُو شمر: مَالك. وَيُقَال لَهُ: ملك الْأَمْلَاك. وَابْنه شمر هُوَ الّذي بنى سَمَرْقَنْد، وَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ أَبَا شمر الغساني وَالِد الْحَارِث بن أَبى شمر. وَعَمْرو بن مَالك: قد يكون عمرا ذَا الأذعار. وَأَبُو الْجَبْر: ملك من مُلُوك الْيمن، وَيُقَال: إِن سميَّة أم زِيَاد كَانَت لأبى جبر هَذَا، وَدفعهَا إِلَى الْحَارِث بن كلدة المتطبب فِي طب طبه.
[10] أسعد: هُوَ أسعد أَبُو حسان بن أسعد، وَهُوَ وَمن ذكرهم فِي الْبَيْت السَّابِق، من التبابعة، وَإِنَّمَا جعلهم مفخرا لأبى لَهب، لِأَن أمه خزاعية من سبإ، والتبابعة كلهم من حمير بن سبإ.
12- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/177)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: «أُمُّكَ سِرٌّ مِنْ خُزَاعَةَ» ، يَعْنِي أَبَا لَهَبٍ، أُمُّهُ لُبْنَى بِنْتُ هَاجِرٍ الْخُزاَعِيِّ. وَقَوْلُهُ: «بِإِجْرِيّا أَوَائِلُهُ» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
(رِثَاءُ مَطْرُودٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبني عَبْدِ مَنَافٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزاَعِيُّ يَبْكِي عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وبَني عَبْدِ مَنَافٍ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ ... هَلَّا سَأَلْتَ عَنْ آلِ عَبْدِ مَنَافِ
هَبَلَتْكَ أُمُّكَ لَوْ حَلَلْتَ بِدَارِهِمْ ... ضَمِنُوكَ مِنْ جُرْمٍ وَمِنْ إقْرَافِ [1]
(الْخَالِطِينَ غَنِيَّهُمْ بِفَقِيرِهِمْ ... حَتَّى يَعُودَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِي) [2]
الْمُنْعِمِينَ إذَا النُّجُومُ تَغَيَّرَتْ ... وَالظَّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَالْمُطْعِمِينَ إذَا الرِّيَاحُ تَنَاوَحَتْ ... حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ فِي الرَّجَّافِ [3]
إمَّا هَلَكْتَ أَبَا الْفِعَالِ فَمَا جَرَى ... مِنْ فَوْقِ مِثْلِكَ عَقْدُ ذَاتِ نِطَافِ [4]
إلَّا أَبِيكَ أَخِي الْمَكَارِمِ وَحْدَهُ ... وَالْفَيْضِ مُطَّلِبٍ أَبِي الْأَضْيَافِ [5]
(وِلَايَةُ الْعَبَّاسِ عَلَى سِقَايَةِ زَمْزَمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [6] : فَلَمَّا هَلَكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ وَلِيَ زَمْزَمَ وَالسِّقَايَةَ عَلَيْهَا [7] بَعْدَهُ الْعَبَّاسُ ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ مِنْ أَحْدَثِ إخْوَتِهِ سِنًّا، فَلَمْ
__________
[1] هبلتك: فقدتك. وَهُوَ على جِهَة الإغراء لَا على جِهَة الدُّعَاء، كَمَا تَقول: تربت يداك، وَلَا أَبَا لَك، وأشباههما. والإقراف: مقاربة الهجنة. أَي منعوك من أَن تنْكح بناتك وأخواتك من لئيم فَيكون الابْن مقرفا للؤم أَبِيه وكرم أمه، فيلحقك وصم من ذَلِك. وَنَحْو مِنْهُ قَول مهلهل:
أنْكحهَا فقدها الأراقم فِي جنب ... وَكَانَ الحباء من آدم
(أَي أنكحت لغربتها من غير كُفْء، وَذَلِكَ أَن مهلهلا نزل فِي جنب، وَهُوَ حَيّ وضيع من مذْحج، فَخطبت ابْنَته، فَلم يسْتَطع منعهَا فَزَوجهَا، وَكَانَ مهرهَا من أَدَم) .
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] تناوحت: تقابلت. والرجاف (هُنَا) : الْبَحْر.
[4] النطاف: جمع نُطْفَة، وَهِي القرط الّذي يعلق من الْأذن. هَذَا على رِوَايَة من روى «عقد» بِكَسْر الْعين، وَمن رَوَاهُ بِفَتْح الْعين جعل النطاف جمعا لنطفة، وَهِي المَاء الْقَلِيل الصافي.
[5] يُرِيد أَنه كَانَ لأضيافه كَالْأَبِ. وَالْعرب تَقول لكل جواد: أَبُو الأضياف، كَمَا قَالَ مرّة بن محكان
أدعى أباهم وَلم أقرف بأمهم ... وَقد عمرت وَلم أعرف لَهُم نسبا
[6] زِيَادَة عَن أ.
[7] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عَلَيْهِمَا» . وَهُوَ تَحْرِيف.(1/178)
تَزَلْ إلَيْهِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِهِ. فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وِلَايَتِهِ، فَهِيَ إلَى آلِ الْعَبَّاسِ، بِوِلَايَةِ الْعَبَّاسِ إيَّاهَا، إلَى (هَذَا) [1] الْيَوْمِ.
كِفَالَةُ أَبِي طَالِبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- يُوصِي بِهِ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَبَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا طَالِبٍ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أُمُّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ.
(وِلَايَةُ أَبِي طَالِبٍ لِأَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي يَلِي أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ جَدِّهِ، فَكَانَ إلَيْهِ وَمَعَهُ.
(نُبُوءَةُ رَجُلٍ مِنْ لَهَبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى [2] بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ:
أَنَّ رَجُلًا مِنْ لَهَبٍ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَهَبٌ: مِنْ أَزْدَشَنُوءَةَ [3]- كَانَ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَانَ يحيى ثِقَة كثير الحَدِيث. روى عَن أَبِيه وجده وَعَمه حَمْزَة وَابْن عَم أَبِيه عبد الله بن عُرْوَة بن الزبير. وَعنهُ غير ابْن إِسْحَاق ابْن عَم أَبِيه هِشَام بن عُرْوَة ومُوسَى بن عقبَة وَحَفْص بن عمر بن ثَابت بن زُرَارَة وَعبد الله بن أَبى بكر بن حزم، وَيزِيد بن عبد الله بن الْهَاد. مَاتَ وَهُوَ ابْن سِتّ وَثَلَاثِينَ. (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب، وتراجم رجال) .
[3] وَقيل: هُوَ لَهب بن أحجن بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب بن عبد الله بن مَالك بن نصر بن الأزد. وَهِي الْقَبِيلَة الَّتِي تعرف بالعيافة والزجر، وَمِنْهُم اللهبي الّذي زجر حِين وَقعت الْحَصَاة بصلعة عمر رضى الله عَنهُ فأدمته وَذَلِكَ فِي الْحَج فَقَالَ: أشعر أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالله لَا يحجّ بعد هَذَا الْعَام، فَكَانَ كَذَلِك. وَفِيهِمْ يَقُول كثير
تيممت لهبا أَبْتَغِي الْعلم عِنْدهم ... وَقد رد علم العائفين إِلَى لَهب
(رَاجع شرح الْقَامُوس مَادَّة لَهب، وَالرَّوْض الْأنف) .(1/179)
عَائِفًا [1] ، فَكَانَ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَاهُ رِجَالُ قُرَيْشٍ بِغِلْمَانِهِمْ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَعْتَافُ لَهُمْ فِيهِمْ. قَالَ: فَأَتَى بِهِ أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ غُلَامٌ، مَعَ مَنْ يَأْتِيهِ، فَنَظَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ شَغَلَهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: الْغُلَامُ عَلَيَّ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ حِرْصَهُ عَلَيْهِ غَيَّبَهُ عَنْهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ، رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ الَّذِي رَأَيْت آنِفا، فو الله لَيَكُونَنَّ لَهُ شَأْنٌ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَالِبٍ.
قِصَّةُ بَحِيرَى [2]
(نُزُولُ أَبِي طَالِبٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُحَيْرَى) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرًا إلَى الشَّامِ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ لِلرَّحِيلِ، وَأَجْمَعَ الْمَسِيرَ صَبَّ بِهِ [3] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- فَرَقَّ لَهُ (أَبُو طَالِبٍ) وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأَخْرُجَنَّ بِهِ مَعِي، وَلَا يُفَارِقُنِي، وَلَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا، أَوْ كَمَا قَالَ. فَخَرَجَ بِهِ [4] مَعَهُ فَلَمَّا نَزَلَ الرَّكْبُ بُصْرَى [5] مِنْ أَرْضِ الشَّامِ،
__________
[1] العائف: الّذي يتفرس فِي خلقَة الْإِنْسَان فيخبر بِمَا يؤول حَاله إِلَيْهِ.
[2] وَاسم بحيرى بحيرى بِفَتْح الْمُوَحدَة وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة آخِره رَاء مَقْصُورا وَقيل ممدودا: هُوَ جرجيس (بِكَسْر الجيمين) . وَيُقَال: سرجس، كَمَا يُقَال: جرجس. وَكَانَ حبرًا من أَحْبَار يهود تيماء، كَمَا قيل إِنَّه كَانَ نَصْرَانِيّا من عبد الْقَيْس، وَهُوَ مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن إِسْحَاق هُنَا. وَيُقَال إِنَّه سمع قبل الْإِسْلَام بِقَلِيل هَاتِف يَهْتِف: أَلا إِن خير أهل الأَرْض ثَلَاثَة: بحيرى ورباب الشنى، وَالثَّالِث المنتظر، فَكَانَ الثَّالِث رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (رَاجع المعارف، ومروج الذَّهَب، والإصابة، وَالرَّوْض، وَشرح الْمَوَاهِب) .
[3] كَذَا فِي الْأُصُول والطبري، وَشرح الْمَوَاهِب اللدنية (ج 1 ص 192 طبع المطبعة الأزهرية) .
وصب بِهِ: مَال إِلَيْهِ. وَفِي هَامِش الطَّبَرِيّ، وَشرح السِّيرَة: «ضَب بِهِ» بالضاد الْمُعْجَمَة. وضب بِهِ:
تعلق بِهِ وامتسك. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي هَامِش الطَّبَرِيّ وَالرَّوْض، وَشرح الْمَوَاهِب: «ضبث» . وضبث بِهِ: لزمَه. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
كَأَن فُؤَادِي فِي يَد ضبثت بِهِ
[4] وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ ذَاك ابْن تسع سِنِين، وَقيل ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة، وَقيل غير ذَلِك. (رَاجع الطَّبَرِيّ، وَشرح الْمَوَاهِب، وَالرَّوْض) .
[5] بصرى: مَدِينَة حوران، فتحت صلحا لخمس بَقينَ من ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة، وَهِي أول مَدِينَة فتحت بِالشَّام، وَقد وردهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّتَيْنِ (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .(1/180)
وَبِهِمَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ بَحِيرَى فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ، وَكَانَ إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصَّوْمَعَةِ مُنْذُ قَطُّ [1] رَاهِبٌ، إلَيْهِ يَصِيرُ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ، يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. فَلَمَّا نَزَلُوا ذَلِكَ الْعَامَ بِبَحِيرَى وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَمُرُّونَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ حَتَّى كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ. فَلَمَّا نَزَلُوا بِهِ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَتِهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَزْعُمُونَ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ، فِي الرَّكْبِ حِينَ أَقْبَلُوا، وَغَمَامَةٌ تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ. قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلُوا فَنَزَلُوا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ. فَنَظَرَ إلَى الْغَمَامَةِ حَيْنَ أَظَلَّتْ الشَّجَرَةُ، وَتَهَصَّرَتْ [2] أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اسْتَظَلَّ تَحْتَهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ بَحِيرَى نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ [3] ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: إنِّي قَدْ صَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرُوا كُلُّكُمْ، صَغِيرُكُمْ وَكَبِيرُكُمْ، وَعَبْدُكُمْ وَحُرُّكُمْ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاَللَّهِ يَا بَحِيرَى إنَّ لَكَ لَشَأْنًا الْيَوْمَ، فَمَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِنَا، وَقَدْ كُنَّا نَمُرُّ بِكَ كَثِيرًا، فَمَا شَأْنُكَ الْيَوْمَ؟ قَالَ لَهُ بَحِيرَى: صَدَقْتَ، قَدْ كَانَ مَا تَقُولُ، وَلَكِنَّكُمْ ضَيْفٌ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ وَأَصْنَعَ لَكُمْ طَعَامًا فَتَأْكُلُوا [4] مِنْهُ كُلُّكُمْ. فَاجْتَمِعُوا إلَيْهِ، وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ، فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا نَظَرَ بَحِيرَى فِي الْقَوْمِ لَمْ يَرَ الصِّفَةَ الَّتِي يَعْرِفُ وَيَجِدُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا يَتَخَلَّفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي، قَالُوا لَهُ: يَا بَحِيرَى، مَا تَخَلَّفَ عَنْكَ أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَكَ إلَّا غُلَامٌ، وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنًّا، فَتَخَلَّفَ فِي رِحَالِهِمْ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، اُدْعُوهُ فَلِيَحْضُرْ هَذَا الطَّعَامَ مَعَكُمْ. قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ، وَاَللَّاتِ وَالْعُزَّى، إنْ كَانَ لَلُؤْمٌ بِنَا أَنْ يَتَخَلَّفَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنْ طَعَامٍ مِنْ
__________
[1] قطّ: أَي الدَّهْر.
[2] تهصرت: مَالَتْ وتدلت، وَتقول: هصرت الْغُصْن، وَذَلِكَ إِذا جذبته إِلَيْك حَتَّى يمِيل.
[3] كَذَا فِي الطَّبَرِيّ، وَفِي الْأُصُول: « ... نزل من صومعته، وَقد أَمر بذلك الطَّعَام فَصنعَ ثمَّ أرسل ... إِلَخ» .
[4] كَذَا فِي شرح الْمَوَاهِب وَفِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فتأكلون» . وَهُوَ تَحْرِيف.(1/181)
بَيْنَنَا، ثُمَّ قَامَ إلَيْهِ فَاحْتَضَنَهُ [1] وَأَجْلَسَهُ مَعَ الْقَوْمِ. فَلَمَّا رَآهُ بَحِيرَى جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا وَيَنْظُرُ إلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ، قَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ، حَتَّى إذَا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَتَفَرَّقُوا، قَامَ إلَيْهِ بَحِيرَى، فَقَالَ (لَهُ) [2] :
يَا غُلَامُ، أَسْأَلُكَ بِحَقِّ اللَّاتِ وَالْعُزَّى إلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ بَحِيرَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا [3] . فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَهُ) [2] : لَا تَسْأَلْنِي بِاللات والعزّى، فو الله مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضَهُمَا، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَى: فباللَّه إلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ. فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ فِي نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ، فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَى مِنْ صِفَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ إلَى ظَهْرِهِ، فَرَأَى خَاتَمَ [4] النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنْ صِفَتِهِ الَّتِي عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ مِثْلَ أَثَرِ الْمِحْجَمِ [5] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ، أَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ قَالَ: ابْنِي. قَالَ لَهُ بَحِيرَى: مَا هُوَ بِابْنِكَ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا، قَالَ: فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي، قَالَ: فَمَا فَعَلَ أَبُوهُ؟ قَالَ: مَاتَ وَأُمُّهُ حُبْلَى بِهِ، قَالَ: صَدَقْتَ، فَارْجِعْ بِابْنِ أَخِيكَ إلَى بَلَدِهِ، وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يهود، فو الله لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ [6] شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَابْنِ أَخِيكَ هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ، فَأَسْرِعْ بِهِ إلَى بِلَادِهِ.
__________
[1] احتضنه: أَخذه من حضنه، أَي مَعَ جنبه.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] وَيُقَال إِنَّه إِنَّمَا سَأَلَهُ بِاللات والعزى اختبارا، وَهُوَ أولى من قَول ابْن إِسْحَاق. (رَاجع الشِّفَاء، وَشرح الْمَوَاهِب اللدنية) .
[4] قيل سمى بذلك لِأَنَّهُ من العلامات الَّتِي يعرفهُ بهَا عُلَمَاء الْكتب السَّابِقَة. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[5] المحجم: الْآلَة، الَّتِي يحجم بهَا يعْنى أثر المحجمة القابضة على اللَّحْم حَتَّى يكون ناتئا. وَفِي الْخَبَر أَنه كَانَ حوله خيلان فِيهَا شَعرَات سود، وَأَنه كَانَ كالتفاحة، أَو كبيضة الْحَمَامَة. عِنْد نغض (غضروف) كتفه الْيُسْرَى. رَاجع (شرح الْمَوَاهِب، وَالرَّوْض) .
[6] كَذَا فِي أوالطبري وَشرح الْمَوَاهِب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ليبغينه» ، وَهُوَ تَحْرِيف.(1/182)
(رُجُوعُ أَبِي طَالِبٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ زُرَيْرٍ وَصَاحِبِيهِ) :
فَخَرَجَ بِهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشَّامِ، فَزَعَمُوا فِيمَا رَوَى النَّاسُ: أَنَّ زُرَيْرًا وَتَمَّامًا وَدَرِيسًا، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَدْ كَانُوا رَأَوْا من رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا رَآهُ بَحِيرَى فِي ذَلِكَ السَّفَرِ، الَّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرَادُوهُ فَرَدَّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى، وَذَكَّرَهُمْ اللَّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ يَخْلُصُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ، وَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ، فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ: فَشَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ، حَتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا، وَأَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً، وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ، تَنَزُّهًا وَتَكَرُّمًا، حَتَّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلَّا الْأَمِينُ، لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ.
(حَدِيثُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ فِي طُفُولَتِهِ) :
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- يُحَدِّثُ عَمَّا كَانَ اللَّهُ يَحْفَظُهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَأَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِ، أَنَّهُ قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتنِي فِي غِلْمَانِ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الْغِلْمَانُ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى، وَأَخَذَ إزَارَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لَأُقْبِلُ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ، إذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهُ، لَكْمَةً وَجِيعَةً، ثُمَّ قَالَ: شُدَّ عَلَيْكَ إزَارَكَ، قَالَ: فَأَخَذْتُهُ وَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي [1] .
__________
[1] قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على هَذِه الْقِصَّة: «وَهَذِه الْقِصَّة إِنَّمَا وَردت فِي الحَدِيث الصَّحِيح فِي حِين بُنيان الْكَعْبَة، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينْقل الْحِجَارَة مَعَ قومه إِلَيْهَا، وَكَانُوا يحملون أزرهم على عواتقهم لتقيهم الْحِجَارَة، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحملهَا على عَاتِقه وَإِزَاره مشدود عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس رضى الله عَنهُ: يَا بن أخى لَو جعلت إزارك على عاتقك، فَفعل فَسقط مغشيا عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ إزَارِي إزَارِي. فَشد عَلَيْهِ إزَاره، وَقَامَ يحمل الْحِجَارَة.(1/183)
حَرْبُ الْفِجَارِ [1]
(سَبَبُهُا) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، هَاجَتْ حَرْبُ الْفُجَّارِ بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ، وَبَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ.
وَكَانَ الَّذِي هَاجَهَا أَنَّ عُرْوَةَ الرَّحَّالَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ ابْن عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، أَجَارَ [2] لَطِيمَةً [3] لِلنُّعْمَانِ ابْن الْمُنْذَرِ [4] ، فَقَالَ لَهُ الْبَرَّاضُ بْنُ قَيْسٍ، أَحَدُ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ
__________
[ () ] وَفِي حَدِيث آخر: أَنه لما سقط ضمه الْعَبَّاس إِلَى نَفسه وَسَأَلَهُ عَن شَأْنه، فَأخْبرهُ أَنه نُودي من السَّمَاء:
أَن اشْدُد عَلَيْك إزارك يَا مُحَمَّد. قَالَ: وَإنَّهُ لأوّل مَا نُودي.
وَحَدِيث ابْن إِسْحَاق، إِن صَحَّ أَن ذَلِك كَانَ فِي صغره إِذْ كَانَ يلْعَب مَعَ الغلمان، فَحَمله على أَن هَذَا الْأَمر كَانَ مرَّتَيْنِ، مرّة فِي حَال صغره، وَمرَّة فِي أول اكتهاله عِنْد بُنيان الْكَعْبَة» .
[1] الْفجار (بِالْكَسْرِ) : بِمَعْنى المفاجرة، كالقتال والمقاتلة، وَذَلِكَ أَنه كَانَ قتالا فِي الشَّهْر الْحَرَام فَفَجَرُوا فِيهِ جَمِيعًا، فَسمى الْفجار.
وَكَانَ للْعَرَب فجارات أَرْبَعَة، آخرهَا فجار البراض هَذَا. وَأما الْفجار الأول فَكَانَ بَين كنَانَة وهوازن، وَكَانَ الّذي هاجه أَن بدر بن معشر، أحد بنى عقال بن مليك من كنَانَة، جعل لَهُ مَجْلِسا بسوق عكاظ، وَكَانَ حَدثا منيعا فِي نَفسه، ثمَّ كَانَ أَن افتخر فِي السُّوق وتصدى لَهُ الأحيمر بن مَازِن أحد بنى دهمان، ثمَّ تحاور الخيان عِنْد ذَلِك حَتَّى كَاد أَن تكون بَينهمَا الدِّمَاء، ثمَّ تراجعوا وَرَأَوا أَن الْخطب يسير.
وَكَانَ الْفجار الثَّانِي بَين قُرَيْش وهوازن، وَكَانَ الّذي هاجه فتية من قُرَيْش تعرضوا لامْرَأَة من بنى عَامر ابْن صعصعة، فهاجت الْحَرْب. وَكَانَ بَينهم قتال وَدِمَاء يسيرَة، فحملها حَرْب بن أُميَّة وَأصْلح بَينهم.
وَكَانَ الْفجار الثَّالِث بَين كنَانَة وهوازن، وَكَانَ الّذي هاجه أَن رجلا من بنى كنَانَة كَانَ عَلَيْهِ دِيَة لرجل من بنى نصر، فأعدم الْكِنَانِي، فَعير النَّصْرَانِي ذَلِك قومه بسوق عكاظ، فَقَامَ إِلَيْهِ كنانى فَضَربهُ، ثمَّ تهايج النَّاس حَتَّى كَاد أَن يكون بَينهم قتال، ثمَّ تراجعوا. (رَاجع العقد الفريد، والأغاني ج 19 ص 74- 80 طبع بلاق) .
[2] كَذَا فِي أوالعقد الفريد. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أجَاز» بالزاي، وَهُوَ تَصْحِيف.
[3] اللطيمة: الْجمال الَّتِي تحمل التِّجَارَة، وَالطّيب والبز وأشباههما.
[4] وَذَلِكَ أَن النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْحيرَة كَانَ يبْعَث بسوق عكاظ فِي كل عَام لطيمة فِي جوَار رجل شرِيف من أَشْرَاف الْعَرَب يجيرها لَهُ حَتَّى تبَاع هُنَاكَ، ويشترى لَهُ بِثمنِهَا من أَدَم الطَّائِف مَا يحْتَاج إِلَيْهِ.
(رَاجع العقد الفريد، والأغاني ج 19 ص 75 طبع بلاق) .(1/184)
ابْن كِنَانَةَ: أَتُجِيرُهَا [1] عَلَى كِنَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَى الْخَلْقِ (كُلِّهِ) [2] . فَخَرَجَ فِيهَا عُرْوَةُ الرَّحَّالُ وَخَرَجَ الْبَرَّاضُ يَطْلُبُ غَفْلَتَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِتَيْمَنَ [3] ذِي طِلَالٍ بِالْعَالِيَةِ، غَفَلَ عُرْوَةُ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْبَرَّاضُ فَقَتَلَهُ فِى الشِّهْرِ [4] الْحَرَامِ، فَلِذَلِكُ سُمِّيَ الْفِجَارُ. وَقَالَ الْبَرَّاضُ [5] فِي ذَلِكَ:
وَدَاهِيَةٍ تَهُمُّ النَّاسَ قَبْلِي ... شَدَدْتُ لَهَا بَنِي بَكْرٍ ضُلُوعِي [6]
هَدَمْتُ بِهَا بُيُوتَ بَنِي كِلَابٍ ... وَأَرْضَعْتُ الْمَوَالِي بِالضُّرُوعِ [7]
رَفَعْتُ لَهُ [8] بِذِى طَلَّالَ كَفِّي [9] ... فَخَرَّ يَمِيدُ كَالْجِذْعِ الصَّرِيعِ
__________
[1] كَذَا فِي أوالعقد الفريد. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أتجيزها» بالزاي، وَهُوَ تَصْحِيف.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] تيمن ذُو طلال: وَاد إِلَى جَانب فدك، فِي قَول بَعضهم. وَالصَّحِيح أَنه بعالية نجد، كَمَا ذكر هُنَا (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[4] وَيُقَال إِنَّمَا كَانَ ذَلِك وَعُرْوَة إِلَى جَانب فدك، إِلَى أَرض يُقَال لَهَا أوارة قريبَة من تيمن، يشرب فِيهَا من الْخمر وتغنيه قينة، إِلَى أَن قَامَ فَنَامَ، فَعندهَا دخل عَلَيْهِ البراض، فَنَاشَدَهُ عُرْوَة وَقَالَ:
كَانَت منى زلَّة،
وَكَانَت الفعلة منى ضلة،
فَلم يسمع لَهُ وَقَتله.
(رَاجع العقد الفريد والأغاني) .
[5] ويروى عَن البراض أَيْضا رجز قَالَه بعد قَتله لعروة، قبل هَذَا الشّعْر، وَهُوَ يردد فِيهِ قَول عُرْوَة وندمه على مَا كَانَ مِنْهُ:
قد كَانَت الفعلة منى ضلة ... هلا على غَيْرِي جعلت الزلة
فَسَوف أعلو بالحسام القله
[6] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي العقد الفريد:
وداهية يهال النَّاس مِنْهَا ... شددت على بنى بكر ضلوعي
[7] الضروع: جمع ضرع: يُرِيد: ألحقت الموَالِي بمنزلتهم من اللؤم ورضاع الضروع، وأظهرت فسألتهم، وهتكت بيُوت أَشْرَاف بنى كلاب وصرحائهم.
[8] كَذَا ورد هَذَا الشّطْر فِي أَكثر الْأُصُول، و «طلال» فِيهِ مُشَدّدَة، كَمَا يقْضى بذلك الْوَزْن، وَلَقَد عقد أَبُو ذَر والسهيليّ بَين «طلال» الْمُشَدّدَة هُنَا، و «طلال» المخففة فِي بَيت لبيد بعده موازنة، التمسا فِيهَا للبراض عذرا فِي إيرادها مُشَدّدَة، وَلَو أَنَّهُمَا وَقعا على رِوَايَة أوهي:
رفعت لَهُ يَدي بِذِي طلال
لغنيا عَن تلمس المعذرة، وَعقد هَذِه الموازنة هُنَا، وَعَن الْكَلَام على منع «طلال» من الصّرْف (على الرِّوَايَة الأولى) على أَنه اسْم مؤنث معرف.
[9] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي العقد الفريد والأغاني:
جمعت لَهُ يَدي بنصل سيف ... أفل فَخر كالجذع الصريع(1/185)
وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفْرِ بْنِ كِلَابٍ:
أَبْلِغْ، إِنْ عَرَضْتَ، بَنِي كِلَابٍ ... وَعَامِرَ وَالْخُطُوبُ لَهَا مَوَالِي
وَبَلِّغْ، إِنْ عَرَضْتَ، بَنِي نُمَيْرٍ ... وَأَخْوَالَ القَتِيلِ بَنِي هِلَالِ
بِأَنَّ الْوَافِدَ الرَّحَّالَ أَمْسَى ... مُقِيمًا عِنْدَ تَيْمَنَ ذِى طِلَالٍ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِى أَبْيَاتٍ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ.
(نُشُوبُ الْحَرْبِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَهَوَازِنَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَتَى آتٍ قُرَيْشًا، فَقَالَ: إِنَّ الْبَرَّاضَ قَدْ قَتَلَ عُرْوَةَ، وَهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِعُكَاظَ، فَارْتَحَلُوا وَهَوَازِنُ لَا تَشْعُرُ (بِهِمْ) [1] ، ثُمَّ بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ فَأَتْبَعُوهُمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ، وَدَخَلُوا الْحَرَمَ، فَأَمْسَكَتْ عَنْهُمْ هَوَازِنُ، ثُمَّ الْتَقَوْا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَيَّامًا، وَالْقَوْمُ مُتَسَانَدُونَ [2] عَلَى كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ، وَعَلَى كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ قَيْسٍ رَئِيسٌ مِنْهُمْ.
(حُضُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَغِيرٌ فِيهَا وَعُمْرُهُ) :
وَشَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَيَّامِهِمْ، أَخْرَجَهُ أَعْمَامُهُ مَعَهُمْ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ أَنْبُلُ عَلَى أَعْمَامِي: أَيْ أَرُدُّ عَلَيْهِمْ [3] نَبْلَ عَدُوِّهِمْ إذَا رَمَوْهُمْ بِهَا.
(سَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: هَاجَتْ حَرْبُ الْفجارِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْفجارِ، بِمَا اسْتَحَلَّ هَذَانِ الْحَيَّانِ، كِنَانَةُ وَقَيْسُ عَيْلَانَ، فِيهِ مِنْ الْمَحَارِمِ بَيْنَهُمْ.
(قُوَّادُ قُرَيْشٍ وَهَوَازِنَ فِيهَا وَنَتِيجَتُهَا) :
وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبُ (بْنُ) [4] أُمِّيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ الظَّفَرُ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] متساندون: أَي لَيْسَ لَهُم أَمِير وَاحِد يجمعهُمْ.
[3] فِي الأَصْل: «عَنْهُم» . والتصويب عَن كتب اللُّغَة.
[4] زِيَادَة عَن أ.(1/186)
فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِقَيْسٍ عَلَى كِنَانَةَ، حَتَّى إذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ كَانَ الظَّفَرُ لِكِنَانَةِ عَلَى قِيسٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدِيثُ الْفجارِ أَطْوَلُ مِمَّا ذَكَرْتُ، وَإِنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدِيثُ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
(سنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد تزَوجه مِنْ خَدِيجَةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً [1] ، تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ [2] بِنْتَ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، فِيمَا حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيِّ.
(خُرُوجُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الشَّامِ فِي تِجَارَةِ خَدِيجَةَ، وَمَا كَانَ مِنْ بَحِيرَى) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ.
__________
[1] وَقيل كَانَ سنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى وَعشْرين سنة، وَقيل ثَلَاثِينَ، كَمَا قيل سبعا وَثَلَاثِينَ، وَقيل غير ذَلِك. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب، والاستيعاب) .
[2] وَكَانَ عمر خَدِيجَة إِذْ ذَاك أَرْبَعِينَ سنة. وَقيل: خمْسا وَأَرْبَعين. وَكَانَت تدعى فِي الْجَاهِلِيَّة بالطاهرة، لشدَّة عفافها وصيانتها. وَكَانَت تَحت أَبى هَالة بن زُرَارَة التَّمِيمِي، وَمَات أَبُو هَالة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقد ولدت لَهُ خَدِيجَة هندا الصَّحَابِيّ. رَاوِي حَدِيث صفة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقد شهد بَدْرًا، وَقيل أحدا.
وَقد روى عَنهُ الْحسن بن على، فَقَالَ: حَدثنِي خَالِي، لِأَنَّهُ أَخُو فَاطِمَة لأمها. وَكَانَ هِنْد فصيحا بليغا وصافا وَكَانَ يَقُول: أَنا أكْرم النَّاس أَبَا وَأما وأخا وأختا. أَبى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخى الْقَاسِم، وأختى فَاطِمَة، وأمى خَدِيجَة، رضى الله عَنْهُم، وَقتل هِنْد مَعَ على يَوْم الْجمل، وَقيل مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي الطَّاعُون، وَيُقَال: إِن الّذي مَاتَ بالطاعون وَلَده، واسْمه هِنْد أَيْضا.
كَمَا ولدت خَدِيجَة أَيْضا لأبى هَالة: هَالة بن أَبى هَالة، وَكَانَ لَهُ صُحْبَة.
وَبعد أَن مَاتَ أَبُو هَالة عَن خَدِيجَة تزَوجهَا عَتيق بن عَابِد المَخْزُومِي، فَولدت لَهُ بِنْتا اسْمهَا هِنْد، وَقد أسلمت وصحبت. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب، والاستيعاب) .(1/187)
تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا وَتُضَارِبُهُمْ [1] إيَّاهُ، بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجَّارًا، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَلَغَهَا، مِنْ صَدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ، بَعَثَتْ إلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَتُعْطِيهِ أَفَضْلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنْ التُّجَّارِ، مَعَ غُلَامٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةَ، فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَخَرَجَ فِي مَالِهَا ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ.
فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ [2] مِنْ الرُّهْبَانِ، فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إلَى مَيْسَرَةَ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ قَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ إلَّا نَبِيٌّ [3] .
(رَغْبَةُ خَدِيجَةَ فِي الزَّوَاجِ مِنْهُ) :
ثُمَّ بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلْعَتَهُ الَّتِي خَرَجَ بِهَا، وَاشْتَرَى مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ، ثُمَّ أَقْبَلَ قَافِلًا إلَى مَكَّةَ وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ. فَكَانَ مَيْسَرَةُ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- إذَا كَانَتْ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدَّ الْحُرُّ، يَرَى مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِهِ مِنْ الشَّمْسِ- وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى بَعِيرِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ عَلَى خَدِيجَةَ بِمَالِهَا، بَاعَتْ مَا جَاءَ بِهِ، فَأَضْعَفَ أَوْ قَرِيبًا [4] .
__________
[1] تضاربهم: تقارضهم، وَالْمُضَاربَة: المقارضة.
[2] وَكَانَ اسْم هَذَا الراهب نسطورا، وَلَيْسَ هُوَ بحيرى الْمُتَقَدّم ذكره.
[3] يُرِيد مَا نزل تحتهَا هَذِه السَّاعَة إِلَّا نَبِي، وَلم يرد مَا نزل تحتهَا قطّ إِلَّا نَبِي، لبعد الْعَهْد بالأنبياء قبل ذَلِك. وَإِن كَانَ فِي لفظ الْخَبَر «قطّ» فقد تكلم بهَا على جِهَة التوكيد للنَّفْي، والشجرة لَا تعمر فِي الْعَادة هَذَا الْعُمر الطَّوِيل، حَتَّى يدرى أَنه لم ينزل تحتهَا إِلَّا عِيسَى أَو غَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام. وَيبعد فِي الْعَادة أَن تكون شَجَرَة تَخْلُو من أَن ينزل تحتهَا أحد حَتَّى يَجِيء نَبِي، إِلَّا أَن تصح رِوَايَة من قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث:
لم ينزل تحتهَا أحد بعد عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام، وَهِي رِوَايَة عَن غير ابْن إِسْحَاق، فالشجرة على هَذَا مَخْصُوصَة بِهَذِهِ الْآيَة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] وروى الزرقانى عَن الْوَاقِدِيّ وَابْن السكن فِي اخْتِيَار خَدِيجَة لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَن أَبَا طَالب قَالَ: يَا بن أخى، أَنا رجل لَا مَال لي، وَقد اشْتَدَّ الزَّمَان علينا، وألحت علينا سنُون مُنكرَة، وَلَيْسَ لنا مَادَّة وَلَا تِجَارَة، وَهَذِه عير قَوْمك قد حضر خُرُوجهَا إِلَى الشَّام، وَخَدِيجَة تبْعَث رجَالًا من قَوْمك يتجرون فِي مَالهَا ويصيبون مَنَافِع، فَلَو جِئْتهَا لفضلتك على غَيْرك، لما يبلغهَا عَنْك من طهارتك، وَإِن كنت أكره أَن تأتى الشَّام، وأخاف عَلَيْك من يهود، وَلَكِن لَا نجد من ذَلِك بدا، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ(1/188)
وَحَدَّثَهَا مَيْسَرَةُ عَنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ، وَعَمَّا كَانَ يَرَى مِنْ إظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ إيَّاهُ.
وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً شَرِيفَةً لَبِيبَةً، مَعَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهَا مَيْسَرَةُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ بَعَثَتْ [1] إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ لَهُ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- يَا بن عَمِّ. إنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِيكَ لِقَرَابَتِكَ، وَسِطَتِكَ [2] فِي قَوْمِكَ وَأَمَانَتِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ، وَصِدْقِ حَدِيثِكَ، ثُمَّ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا. وَكَانَتْ خَدِيجَةُ يَوْمئِذٍ أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُنَّ شَرَفًا، وَأَكْثَرَهُنَّ مَالًا، كُلُّ قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
(نَسَبُ خَدِيجَةَ) :
وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ. وَأُمُّهَا: فَاطِمَةُ بِنْتُ زَائِدَةَ [3] بْنِ الْأَصَمِّ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ حَجَرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فَهِرٍّ. وَأُمُّ فَاطِمَةَ: هَالَةُ بِنْتُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُنْفِذِ بْنِ عَمْرِو ابْن مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ. وَأُمُّ هَالَةَ: قِلَابَةُ بِنْتُ سَعِيدِ ابْن سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
(زَوَاجُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَدِيجَةَ) :
فَلَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر ذَلِك لَا عِمَامَة فَخَرَجَ مَعَهُ
__________
[ () ] وَسلم: لَعَلَّهَا ترسل إِلَى فِي ذَلِك، فَقَالَ أَبُو طَالب: إِنِّي أَخَاف أَن تولى غَيْرك.
فَبلغ خَدِيجَة مَا كَانَ من محاورة عَمه لَهُ. ثمَّ كَانَ أَن أرْسلت إِلَيْهِ، لعلمها قبل هَذَا بِصَدقَة وأمانته.
[1] هَذَا قَول ابْن إِسْحَاق: أَنَّهَا عرضت عَلَيْهِ نَفسهَا من غير وساطة، وَيذْهب غَيره إِلَى أَنَّهَا عرضت عَلَيْهِ نَفسهَا بوساطة، وَأَن ذَلِك كَانَ على يَد نفيسة بنت منية، وَالْجمع مُمكن، فقد تكون بعثت نفيسة أَولا لتعلم أيرضى أم لَا؟. فَلَمَّا علمت بذلك كَلمته بِنَفسِهَا. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[2] كَذَا فِي أ. وَشرح الْمَوَاهِب، وَشرح السِّيرَة، وَالرَّوْض والطبري. وسطتك: شرفك.
مَأْخُوذَة من الْوسط مصدر، كالعدة والزنة، وَالْوسط من أَوْصَاف الْمَدْح والتفضيل. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«وسطتك» ، وَهُوَ تَحْرِيف.
[3] كَذَا فِي أوالطبري، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بنت زَائِد» .(1/189)
عَمُّهُ حَمْزَةُ [1] بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدِ [2] بْنِ أَسَدٍ، فَخَطَبَهَا إلَيْهِ، فَتَزَوَّجَهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ بَكْرَةً، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا حَتَّى مَاتَتْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
(أَوْلَادُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَدِيجَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلَدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدَهُ كُلَّهُمْ إلَّا إبْرَاهِيمَ الْقَاسِمَ، وَبَهْ كَانَ يُكَنَّى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالطَّاهِرَ [3] ، وَالطَّيِّبَ، وَزَيْنَبَ، وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةَ، عَلَيْهِمْ السِّلَامُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَكْبَرُ بَنِيهِ الْقَاسِمُ، ثُمَّ الطَّيِّبُ، ثُمَّ الطَّاهِرُ، وَأَكْبَرُ بَنَاتِهِ رُقَيَّةُ، ثُمَّ زَيْنَبُ، ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَمَّا الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ فَهَلَكُوا [4] فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
__________
[1] وَيُقَال إِن الّذي نَهَضَ مَعَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَبُو طَالب، وَهُوَ الّذي خطب خطْبَة النِّكَاح.
وَقيل: لعلهما خرجا مَعَه جَمِيعًا وخطب أَبُو طَالب الْخطْبَة، لِأَنَّهُ كَانَ أسن من حَمْزَة. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب وَالرَّوْض) .
[2] وَذكر الزُّهْرِيّ أَن خويلد أبرم هَذَا الزواج، وَهُوَ سَكرَان، فَلَمَّا أَفَاق أنكر ذَلِك، ثمَّ رضيه وأمضاه وَفِي ذَلِك يَقُول راجز من أهل مَكَّة:
لَا تزهدى خديج فِي مُحَمَّد ... نجم يضيء كإضاء الفرقد
وَذكر غير ابْن إِسْحَاق أَن خويلدا كَانَ إِذْ ذَاك قد هلك، وَأَن الّذي أنكح خَدِيجَة رضى الله عَنْهَا هُوَ عَمها عَمْرو بن أَسد. كَمَا يُقَال أَيْضا إِن الّذي أنْكحهَا هُوَ أَخُوهَا عَمْرو بن خويلد. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب، وَالرَّوْض) .
[3] يشْعر سِيَاق الحَدِيث هُنَا وَفِيمَا سَيَأْتِي، أَن الطَّاهِر وَالطّيب شخصان، وَالْمَعْرُوف أَنَّهُمَا لقبان لعبد الله، وَبِهِمَا كَانَ يلقب. (رَاجع زَاد الْمعَاد، وَالرَّوْض الْأنف، والمعارف) .
[4] فِي موت الْقَاسِم فِي الْجَاهِلِيَّة خلاف، فقد ذكر السهيليّ عَن الزبير أَن الْقَاسِم مَاتَ رضيعها، وَأَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على خَدِيجَة بعد موت الْقَاسِم، وَهِي تبكى، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، لقد درت لبينة الْقَاسِم (اللبينة تَصْغِير لبنة، وَهِي قِطْعَة من اللَّبن) . فَلَو كَانَ عَاشَ حَتَّى يستكمل رضاعه لهون على، فَقَالَ: إِن شِئْت أسمعتك صَوته فِي الْجنَّة، فَقَالَت بل أصدق الله وَرَسُوله. وَفِيمَا روى الزبير دَلِيل على أَن الْقَاسِم لم يهْلك فِي الْجَاهِلِيَّة.(1/190)
وَأَمَّا بَنَاتُهُ فَكُلُّهُنَّ أَدْرَكْنَ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمْنَ وَهَاجَرْنَ مَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(أُمُّ إبْرَاهِيمَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ فَأُمُّهُ مَارِيَةُ (الْقِبْطِيَّةُ) . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ، قَالَ: أُمُّ إبْرَاهِيمَ: مَارِيَةُ سُرِّيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ مِنْ حَفْنَ مِنْ كُورَةِ أَنْصِنَا [1] .
(حَدِيثُ خَدِيجَةَ مَعَ وَرَقَةَ وَصِدْقُ نُبُوءَةِ وَرَقَةَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ قَدْ ذَكَرَتْ لِوَرَقَةَ [2] بْنِ نَوْفَلِ ابْن أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ ابْنَ عَمِّهَا، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا قَدْ تَتَبَّعَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ- مَا ذَكَرَ لَهَا غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ مِنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ، وَمَا كَانَ يَرَى مِنْهُ إذْ كَانَ الْمَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ، فَقَالَ وَرَقَةُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا يَا خَدِيجَةُ، إنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ كَائِنٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيٌّ يُنْتَظَرُ، هَذَا زَمَانُهُ، أَوْ كَمَا قَالَ.
(قَالَ) [3] : فَجَعَلَ وَرَقَةُ يَسْتَبْطِئُ الْأَمْرَ وَيَقُولُ: حَتَّى مَتَى؟ فَقَالَ وَرَقَةُ فِي ذَلِكَ:
لَجَجْتُ وَكُنْتُ فِي الذّكْرَى لَجُوجًا ... لِهَمٍّ طَالَمَا بَعَثَ النّشِيجَا [4]
وَوَصْفٌ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ ... فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يَا خَدِيجَا
بِبَطْنِ الْمَكّتَيْنِ [5] عَلَى رَجَائِي ... حَدِيثَكَ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجًا [6]
__________
[1] رَاجع الْحَاشِيَة (رقم 2، 3 ص 7 من هَذَا الْجُزْء) .
[2] أم ورقة: هِنْد بنت أَبى كَبِير بن عبد بن قصي. وَلَا عقب لورقة هَذَا، وَهُوَ أحد من آمن بالنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الْبَعْث. (رَاجع الرَّوْض) .
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] النشيج: الْبكاء مَعَ صَوت.
[5] ثنى «مَكَّة» ، وَهِي وَاحِدَة لِأَن لَهَا بطاحا وظواهر، ومقصد الْعَرَب فِي هَذَا الْإِشَارَة إِلَى جَانِبي كل بَلْدَة، أَو الْإِشَارَة إِلَى أَعلَى الْبَلدة وأسفلها، فيجعلونها اثْنَتَيْنِ على هَذَا المغزى، وَقد قَالُوا: صدنَا بقنوين، وَهُوَ قِنَا: اسْم جبل. وَقَالَ عنترة:
شربت بِمَاء الدّحرضين
وَقد ورد مثل هَذَا كثير فِي شعر الْعَرَب.
[6] الْهَاء فِي «منَّة» : رَاجِعَة على الحَدِيث. وحرف الْجَرّ مُتَعَلق بِالْخرُوجِ.(1/191)
مِمَّا خَبّرْتنَا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ ... مِنْ الرّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا
بِأَنَّ مُحَمّدًا سَيَسُودُ فِينَا ... وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونَ لَهُ حَجِيجًا
وَيَظْهَرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءُ نُورٍ ... يُقِيمُ بِهِ الْبَرِيّةُ أَنْ تَمُوجَا [1]
فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا ... وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فلوجا [2]
فيا لَيْتَني إذَا مَا كَانَ ذاكم ... شهِدت فَكنت أَوّلَهُمْ ولوجا [3]
ولوجا فِي الّذي كَرهُوا قُرَيْشٌ ... وَلَوْ عَجّتْ بمكّتها عجيجا [4]
رجىّ بِاَلّذِي كَرِهُوا جَمِيعًا ... إلَى ذِي الْعَرْشِ إنْ سَفَلُوا عُرُوجَا [5]
وَهَلْ أَمْرُ السّفَالَةِ غَيْرُ كُفْرٍ ... بِمَنْ يَخْتَارُ مِنْ سَمَكِ الْبُرُوجَا
فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ تَكُنْ أُمُورٌ ... يَضِجُّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجَا
وَإِنْ أَهْلَكَ فَكُلُّ فَتًى سَيَلْقَى ... مِنْ الأقدار متلفة [6] حروجا
حَدِيثُ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الْحَجَرِ
(سَبَبُ بُنْيَانِ قُرَيْشٍ لِلْكَعْبَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ [7] ، وَكَانُوا يُهِمُّونَ بِذَلِكَ لِيُسَقِّفُوهَا وَيَهَابُونَ هَدْمَهَا
__________
[1] تموج: تضطرب.
[2] الفلوج: الظُّهُور على الْخصم والعدو.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَكْثَرهم» .
[4] عجت: ارْتَفَعت أصواتها.
[5] العروج: الصعُود والعلو.
[6] المتلفة: الْمهْلكَة. والحروج: الْكَثِيرَة التَّصَرُّف.
ولورقة فِي هَذَا الْمَعْنى شعر ذكره السهيليّ، وَذكر أَنه من رِوَايَة يُونُس عَن ابْن إِسْحَاق، مِنْهُ:
أتبكر أم أَنْت العشية رائح ... وَفِي الصَّدْر من إضمارك الْحزن قَادِح
[7] بنيت الْكَعْبَة خمس مَرَّات. الأولى حِين بناها شِيث بن آدم. وَالثَّانيَِة حِين بناها إِبْرَاهِيم. وَالثَّالِثَة حِين بنتهَا قُرَيْش هَذِه الْمرة، وَكَانَ ذَلِك قبل الْإِسْلَام بِخمْس سِنِين. وَالرَّابِعَة حِين احترقت فِي عهد ابْن الزبير(1/192)
وَإِنَّمَا كَانَتْ رَضْمًا [1] فَوْقَ الْقَامَةِ، فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا [2] ، وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزًا لِلْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِي بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ الَّذِي وُجِدَ عِنْدَهُ الْكَنْزُ دُوَيْكًا [3] مَوْلًى لِبَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرِو مِنْ خُزَاعَةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَقَطَعَتْ قُرَيْشٌ يَدَهُ. وَتُزْعِمُ قُرَيْشٌ أَنَّ الَّذِينَ سَرَقُوهُ وَضَعُوهُ عِنْدَ دُوَيْكٍ. وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إلَى جُدَّةَ لِرَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ الرُّومِ، فَتَحَطَّمَتْ، فَأَخَذُوا خَشَبَهَا، فَأَعَدُّوهُ لِتَسْقِيفِهَا، وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ [4] قِبْطِيٌّ نَجَّارٌ، فَتَهَيَّأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضُ مَا يُصْلِحُهَا. وَكَانَتْ حَيَّةً تَخْرَجُ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ الَّتِي كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا مَا يُهْدَى لَهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَتَتَشَرَّقُ [5] عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ مِمَّا يَهَابُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إلَّا احْزَأَلَّتْ وَكَشَّتْ [6] وَفَتَحَتْ فَاهَا، وَكَانُوا يَهَابُونَهَا. فَبَيْنَا هِيَ ذَاتُ يَوْمٍ تَتَشَرَّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ، بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا، فَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا، عِنْدَنَا عَامِلٌ رَفِيقٌ، وَعِنْدَنَا خَشَبٌ، وَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ الْحَيَّةَ.
__________
[ () ] فَلَمَّا قَامَ عبد الْملك بن مَرْوَان هدمها، لِأَنَّهُ لم يعجب بِمَا فعل ابْن الزبير فِي بنائها، وبناه على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي عهد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأما الْمَسْجِد الْحَرَام فَأول من بناه عمر بن الْخطاب، ثمَّ زَاد فِيهِ عُثْمَان، ثمَّ زَاد ابْن الزبير فِي إتقانه لَا فِي سعته، ثمَّ زَاد عبد الْملك بن مَرْوَان فِي ارْتِفَاع الْمَسْجِد. (رَاجع تَارِيخ مَكَّة للأزرقى، وَالرَّوْض، وَشرح الْمَوَاهِب) .
[1] الرضم أَن تنضد الْحِجَارَة بَعْضهَا على بعض من غير ملاط.
[2] وَقيل إِن الّذي حمل قُريْشًا على بنائها أَن السَّيْل أَتَى من فَوق الرَّدْم الّذي بِأَعْلَى مَكَّة فأضربه، فخافوا أَن يدخلهَا المَاء. وَقيل بل كَانَ الّذي حملهمْ على هَذَا احتراقها وَذَلِكَ أَن امْرَأَة أجمرت الْكَعْبَة فطارت شرارة فِي ثِيَابهَا فأحرقتها. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[3] قد تقدم أَن سَارِقا سرق من مَالهَا فِي زمن جرهم، وَأَنه دخل الْبِئْر الَّتِي فِيهَا كنزها، فَسقط عَلَيْهِ حجر، فحبسه فِيهَا حَتَّى خرج مِنْهَا وانتزع المَال مِنْهُ، ثمَّ بعث الله حَيَّة لَهَا رَأس كرأس الجدي، إِلَى آخر مَا جَاءَ فِي الْخَبَر هُنَاكَ.
وَقد نبهنا على ذَلِك هُنَا ليجتمع بَين يَدي الْقَارئ مَا قيل فِي الْخَبَر الْوَاحِد مِمَّا يباين بعضه بَعْضًا، مِمَّا ذكر غير مُتَّصِل فِي الْكتاب.
[4] وَكَانَ اسْم ذَلِك الرجل: باقوم، وَقيل: باقول. (رَاجع الْإِصَابَة، وَشرح الْمَوَاهِب، وَالرَّوْض) .
[5] تتشرق: تبرز للشمس. وَيُقَال: تشرقت: إِذا قعدت للشمس لَا يحجبك عَنْهَا شَيْء.
[6] احزألت: رفعت رَأسهَا. وكشت: صوتت باحتكاك بعض جلدهَا بِبَعْض.
13- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/193)
(مَا حَدَثَ لِأَبِي وَهْبٍ عِنْدَ بِنَاءِ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ) :
فَلَمَّا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ فِي هَدْمِهَا وَبِنَائِهَا، قَامَ أَبُو وَهْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ- فَتَنَاوَلَ مِنْ الْكَعْبَةَ حَجَرًا، فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إلَّا طَيِّبًا، لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَهْرُ بِغَيٍّ، وَلَا بَيْعُ رِبًا، وَلَا مُظْلَمَةُ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ [1] . وَالنَّاسُ يَنْحُلُونَ هَذَا الْكَلَامَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ أَنَّهُ حُدِّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمِّيَّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو ابْن هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ:
أَنَّهُ رَأَى ابْنًا لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَمْرِو يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ: هَذَا ابْنٌ لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ: عِنْدَ ذَلِكَ جَدُّ هَذَا، يَعْنِي أَبَا وَهْبٍ، الَّذِي أَخَذَ حَجَرًا مِنْ الْكَعْبَةِ حَيْنَ أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ لِهَدْمِهَا فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إلَّا طَيِّبًا، لَا تُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بِغَيٍّ، وَلَا بَيْعَ رِبًا، وَلَا مُظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ.
(قَرَابَةُ أَبِي وَهْبٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو وَهْبٍ خَالُ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ شَرِيفًا، وَلَهُ يَقُولُ شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ:
وَلَوْ بِأَبِي وَهْبٍ أَنَخْتُ مَطِيَّتِي ... غَدَتْ مِنْ نَدَاهُ رَحْلُهَا غَيْرَ خَائِبٍ
بِأَبْيَضَ مِنْ فَرْعَيْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا حُصِّلَتْ أَنْسَابُهَا فِي الذَّوَائِبِ [2]
أَبِيٍّ لِأَخْذِ الضَّيْمِ يَرْتَاحُ لِلنَّدَى ... تَوَسَّطَ جَدَّاهُ فُرُوعَ الْأَطَايِبِ
__________
[1] وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: لَا تجْعَلُوا فِي نَفَقَة هَذَا الْبَيْت شَيْئا أصبتموه غصبا، وَلَا قطعْتُمْ فِيهِ رحما، وَلَا انتهكتم فِيهِ ذمَّة أحد بَيْنكُم وَبَين أحد من النَّاس.
[2] الذوائب: الأعالي، وَأَرَادَ بهَا الْأَنْسَاب الْكَرِيمَة.(1/194)
عَظِيمِ رَمَادِ الْقِدْرِ يَمَلَّا جِفَانَهُ ... مِنْ الْخُبْزِ يَعْلُوهُنَّ مِثْلُ السَّبَائِبِ [1]
(تَجْزِئَةُ الْكَعْبَةِ بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَنَصِيبُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهَا) :
ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا جَزَّأَتْ [2] الْكَعْبَةَ، فَكَانَ شِقُّ [3] الْبَابِ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَزُهْرَةَ، وَكَانَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِي لِبَنِي مَخْزُومٍ، وَقَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ، وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ وَسَهْمٍ، ابْنَيْ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شِقُّ الْحَجَرِ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَلِبَنِي أَسَدِ بْنِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَلِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَهُوَ الْحَطِيمُ [4] .
(الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَهَدْمُ الْكَعْبَةِ، وَمَا وَجَدُوهُ تَحْتَ الْهَدْمِ) :
ثُمَّ إنَّ النَّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا وَفَرِقُوا مِنْهُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهمّ لَمْ تُرَعْ [5]- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: لَمْ نَزِغْ [6]- اللَّهمّ إنَّا لَا نُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ. ثُمَّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنَيْنِ، فَتَرَبَّصَ النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَقَالُوا: نَنْظُرُ، فَإِنْ أُصِيبَ لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ، فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ صُنْعَنَا، فَهَدَمْنَا.
فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ، فَهَدَمَ وَهَدَمَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إذَا انْتَهَى الْهَدْمُ بِهِمْ إلَى الْأَسَاسِ، أَسَاسِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَفْضَوْا إلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَالْأَسْنِمَةِ [7] آخِذٌ بَعْضُهَا بَعْضًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ،
__________
[1] السبائب: جمع سبيبة: وَهِي ثِيَاب رقاق بيض، فَشبه الشَّحْم الّذي يَعْلُو الجفان بهَا.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تجزأت» . أَي تقسمتها بَيتهمْ.
[3] الشق: النَّاحِيَة والجانب.
[4] قيل: سمى حطيما، لِأَن النَّاس يزدحمون فِيهِ حَتَّى يحطم بَعضهم بَعْضًا، وَقيل بل لِأَن الثِّيَاب كَانَت تجرد فِيهِ عِنْد الطّواف. (عَن شرح السِّيرَة لأبى ذَر) .
[5] لم ترع: لم تفزع. وَالضَّمِير فِيهَا يعود على الْكَعْبَة.
[6] لم نَزغ: أَي لم نمل عَن دينك وَلَا خرجنَا عَنهُ، يُقَال: زاغ عَن كَذَا، إِذا خرج عَنهُ.
[7] الأسنمة: جمع سَنَام، وَهُوَ أَعلَى الظّهْر، وَأَرَادَ أَن الْحِجَارَة دخل بَعْضهَا فِي بعض كَمَا تدخل عِظَام السنام بَعْضهَا فِي بعض، فشبهها بهَا.
وتروى: «كالأسنة» . وَهِي جمع: سِنَان. شبهها بأسنة الرماح فِي الخضرة.(1/195)
مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا، أَدْخَلَ عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنْهَا لِيُقْلِعَ بِهَا أَحَدَهُمَا، فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْحَجَرُ تَنَقَّضَتْ [1] مَكَّةُ بِأَسْرِهَا، فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الْأَسَاسِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرُّكْنِ كِتَابًا بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ حَتَّى قَرَأَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَإِذَا هُوَ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ [2] ، خَلَقْتهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَصَوَّرْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ، لَا تَزُولُ حَتَّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا [3] ، مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي الْمَاءِ وَاللَّبَنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَخْشَبَاهَا: جَبَلَاهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي الْمَقَامِ كِتَابًا فِيهِ: مَكَّةُ بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامِ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ سُبُلٍ، لَا يُحِلُّهَا أَوَّلُ مِنْ أَهْلِهَا [4] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ أَنَّهُمْ وَجَدُوا حَجَرًا فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، إنْ كَانَ مَا ذَكَرَ حَقًّا، مَكْتُوبًا فِيهِ:
مَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا يَحْصُدْ غِبْطَةً، وَمَنْ يَزْرَعْ شَرًّا يَحْصُدْ نَدَامَةً. تَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، وَتُجْزَوْنَ الْحَسَنَاتِ! أَجَلْ، كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنْ الشَّوْكِ الْعِنَبُ.
(اخْتِلَافُ قُرَيْشٍ فِيمَنْ يَضَعُ الْحَجَرَ وَلُعْقَةَ الدَّمِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتْ الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا، كُلُّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ بَنَوْهَا، حَتَّى بَلَغَ الْبُنْيَانِ مَوْضِعَ الرُّكْنِ [5] ، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الْأُخْرَى، حَتَّى تَحَاوَزُوا [6] وَتَحَالَفُوا، وَأَعَدُّوا لِلْقِتَالِ، فَقَرَّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا، ثُمَّ تَعَاقَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيِّ
__________
[1] تنقضت: اهتزت.
[2] فِي أ: «ذُو مَكَّة» .
[3] الأخشبان: جبلان بِمَكَّة.
[4] يُرِيد لَا يحلهَا ابْتِدَاء بعض أَهلهَا. وَفِي ذَلِك إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ من استحلال قُرَيْش الْقِتَال فِيهَا أَيَّام ابْن الزبير وحصين بن نمير، ثمَّ الْحجَّاج بعده، وَلذَلِك قَالَ ابْن أَبى ربيعَة:
أَلا من لقلب معنى غزل ... يحب الْمحلة أُخْت الْمحل
يعْنى بِالْمحل: عبد الله بن الزبير لقتاله فِي الْحرم. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[5] يُرِيد بالركن: الْحجر الْأسود. وسمى ركنا، لِأَنَّهُ مبْنى فِي الرُّكْن.
[6] كَذَا فِي أ. وتحاوزوا: انْحَازَتْ كل قَبيلَة إِلَى جِهَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تحاوروا» بالراء الْمُهْملَة.(1/196)
ابْن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدَّمِ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ، فَسُمُّوا لَعَقَّةَ الدَّمِ. فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا، ثُمَّ إنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ، وَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا.
(إشَارَةُ أَبِي أُمِّيَّةَ بِتَحْكِيمِ أَوَّلِ دَاخِلٍ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَزَعَمَ بَعْضُ أهل الرِّوَايَة: أَن أَبَا أُمِّيَّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ [1] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُوم، وَكَانَ عامئذ أَسَنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ [2] هَذَا الْمَسْجِدِ يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ، فَفَعَلُوا. فَكَانَ أَوَّلَ دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا:
هَذَا الْأَمِينُ، رَضِينَا، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَيْهِمْ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلُمَّ إلَيَّ ثَوْبًا، فَأُتِيَ بِهِ، فَأَخَذَ الرُّكْنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:
لِتَأْخُذَ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ [3] مِنْ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَفَعَلُوا: حَتَّى إذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ، ثُمَّ بَنَى [4] عَلَيْهِ.
__________
[1] ويروى أَن المشير على قُرَيْش مهشم بن الْمُغيرَة، ويكنى أَبَا حُذَيْفَة.
[2] هُوَ بَاب بنى شيبَة، وَكَانَ يُقَال لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة: بَاب بنى عبد شمس، وَيُقَال لَهُ الْآن: بَاب السَّلَام وَفِي رِوَايَة: أول من يدْخل بَاب الصَّفَا.
[3] أَي بِنَاحِيَة من زواياه. وَلما فعلوا كَانَ فِي ربع عبد منَاف عتبَة بن ربيعَة، وَكَانَ فِي الرّبع الثَّانِي زَمعَة، وَفِي الثَّالِث أَبُو حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة، وَفِي الرَّابِع قيس بن عدي. وَقد تمّ بِنَاء الْكَعْبَة قبل الْهِجْرَة بثمان عشرَة سنة، بعد أَن حلت كلمة الْوِفَاق مَحل الشقاق، ورضى الْكل بِحكمِهِ صلوَات الله عَلَيْهِ. وَإِلَى قَضِيَّة التَّحْكِيم يُشِير قَول هُبَيْرَة بن أَبى وهب المَخْزُومِي:
تشاجرت الْأَحْيَاء فِي فصل خطة ... جرت بَينهم بالنحس من بعد أسعد
تلاقوا بهَا بالبغض بعد مَوَدَّة ... وأوقد نَارا بَينهم شَرّ موقد
فَلَمَّا رَأينَا الْأَمر قد جد جده ... وَلم يبْق شَيْء غير سل المهند
رَضِينَا وَقُلْنَا الْعدْل أول طالع ... يَجِيء من الْبَطْحَاء من غير موعد
ففاجأنا هَذَا الْأمين مُحَمَّد ... فَقُلْنَا رَضِينَا بالأمين مُحَمَّد
[4] وَأما وضع الرُّكْن حِين بنيت الْكَعْبَة فِي أَيَّام ابْن الزبير، فقد وَضعه فِي الْموضع الّذي هُوَ فِيهِ الْآن حَمْزَة بن عبد الله بن الزبير، وَأَبوهُ يصلى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِد، اغتنم شغل النَّاس عَنهُ بِالصَّلَاةِ لما أحس مِنْهُم التنافس فِي ذَلِك وَخَافَ الْخلاف، فأقره أَبوهُ. رَاجع (الرَّوْض الْأنف) .(1/197)
(شِعْرُ الزَّبِيرِ فِي الْحَيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا) :
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تسمّى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قبل أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي: الْأمين. فَلَمَّا فرغوا من الْبُنيان، وبنوها على مَا أَرَادوا، قَالَ الزّبير بن عبد الْمطلب، فِيمَا كَانَ من أَمر الحيّة الَّتِي كَانَت قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا:
عَجِبْتُ لِمَا تَصَوَّبَتْ الْعُقَابُ ... إلَى الثُّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا اضْطِرَابُ
وَقَدْ كَانَتْ يَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ ... وَأَحْيَانًا يَكُونُ لَهَا وِثَابُ [1]
إذَا قُمْنَا إلَى التَّأْسِيسِ شَدَّتْ ... تُهَيِّبُنَا الْبِنَاءَ وَقَدْ تُهَابُ
فَلَمَّا أَنَّ خَشِينَا الرِّجْزَ [2] جَاءَتْ ... عُقَابٌ تَتْلَئِبُّ [3] لَهَا انْصِبَابُ
فَضَمَّتْهَا إلَيْهَا ثُمَّ خَلَّتْ ... لَنَا الْبُنْيَانَ لَيْسَ لَهُ حِجَابُ
فَقُمْنَا حَاشِدِينَ إلَى بِنَاءٍ ... لَنَا مِنْهُ الْقَوَاعِدُ وَالتُّرَابُ
غَدَاةَ نَرْفَعُ التَّأْسِيسَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ عَلَى مُسَوِّينَا [4] ثِيَابُ [5]
أَعَزَّ بِهِ الْمَلِيكُ بَنِي لُؤَيٍّ ... فَلَيْسَ لِأَصْلِهِ مِنْهُمْ ذَهَابُ
وَقَدْ حَشَدَتْ هُنَاكَ بَنُو عَدِيٍّ ... وَمُرَّةُ قَدْ تَقَدَّمَهَا كِلَابُ
فَبَوَّأَنَا [6] الْمَلِيكُ بِذَاكَ عِزًّا ... وَعِنْدَ اللَّهِ يُلْتَمَسُ الثَّوَابُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
وَلَيْسَ عَلَى مَسَاوِينَا [7] ثِيَابُ
(ارْتِفَاعُ الْكَعْبَةِ وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ) :
وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِي عَشْرَةَ ذِرَاعًا،
__________
[1] الوثاب: الْوُثُوب.
[2] الرجز: الْعَذَاب. ويروى: «الزّجر» وَهُوَ الْمَنْع.
[3] تتلئب: تتَابع فِي انقضاضها.
[4] كَذَا فِي أ. يُرِيد بِهِ مسوى الْبُنيان. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مسوبنا» بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ تَصْحِيف.
[5] لقد كَانُوا ينقلون الْحِجَارَة عُرَاة ويرون ذَلِك دينا، وَأَنه من بَاب التشمير وَالْجد فِي الطَّاعَة.
[6] بوأنا: أحلنا وأوطننا.
[7] يُرِيد بالمساوي: السوآت.(1/198)
وَكَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ [1] ، ثُمَّ كُسِيتِ الْبُرُودَ [2] ، وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ [3] .
حَدِيثُ الْحُمْسِ
(الْحُمْسُ عِنْدَ قُرَيْشٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ- لَا أَدْرِي أَقَبْلَ الْفِيلِ أَمْ بَعْدَهُ- ابْتَدَعَتْ رَأْيَ [4] الْحُمْسِ [5] رَأْيًا رَأَوْهُ وَأَدَارُوهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ بَنُو إبْرَاهِيمَ وَأَهْلُ الْحُرْمَةِ، وَوُلَاةُ الْبَيْتِ، وَقُطَّانُ [6] مَكَّةَ وَسَاكِنُهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ مِثْلُ حَقِّنَا، وَلَا مِثْلُ مَنْزِلَتِنَا، وَلَا تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ مِثْلَ مَا تَعْرِفُ لَنَا، فَلَا تُعَظِّمُوا شَيْئًا مِنْ الْحِلِّ كَمَا تُعَظِّمُونَ الْحَرَمَ، فَإِنَّكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَخَفَّتْ الْعَرَبُ بِحُرْمَتِكُمْ، وَقَالُوا قَدْ عَظَّمُوا مِنْ الْحِلِّ مِثْلَ مَا عَظَّمُوا مِنْ الْحَرَمِ. فَتَرَكُوا الْوُقُوفَ عَلَى عَرَفَةَ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْهَا، وَهُمْ يَعْرِفُونَ وَيُقِرُّونَ أَنَّهَا مِنْ الْمَشَاعِرِ [7] وَالْحَجِّ وَدِينِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرَوْنَ لِسَائِرِ الْعَرَبِ أَنْ يَقِفُوا عَلَيْهَا، وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ الْحُرْمَةِ وَلَا نُعَظِّمُ غَيْرَهَا كَمَا نُعَظِّمُهَا نَحْنُ الْحُمْسُ، وَالْحُمْسُ أَهْلُ الْحَرَمِ، ثُمَّ جَعَلُوا لِمِنْ وُلِدُوا مِنْ الْعَرَبِ مِنْ سَاكِنِ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ مِثْلَ الَّذِي لَهُمْ، بِوِلَادَتِهِمْ إيَّاهُمْ، يَحِلُّ لَهُمْ مَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ.
__________
[1] الْقبَاطِي: ثِيَاب بيض كَانَت تصنع بِمصْر وَهِي جمع قبطية، بِضَم الْقَاف وَكسرهَا.
[2] البرود: ضرب من ثِيَاب الْيمن.
[3] وَكَسَاهَا ابْن الزبير قبل الْحجَّاج الديباج، وَكَانَ خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب مِمَّن كساها الديباج قبل الْإِسْلَام. (عَن الرَّوْض الْأنف) .
[4] فِي أ: «أَمر» .
[5] الحمس: جمع: أحمس. والأحمس: المشتد الصلب فِي الدَّين. وَسميت قُرَيْش حمسا لزعمهم بِأَنَّهُم اشتدوا فِي الدَّين، وَكَانُوا قد ذَهَبُوا فِي ذَلِك مَذْهَب التزهد والتأله. فَكَانَت نِسَاؤُهُم لَا ينسجن الشّعْر وَلَا الْوَبر. وسيعرض الْمُؤلف لتفصيل هَذَا بعد قَلِيل.
[6] فِي أ: «قاطن» .
[7] المشاعر: الْمَوَاضِع الْمَشْهُورَة فِي الْحَج، لَا يتم إِلَّا بهَا(1/199)
(الْقَبَائِلُ الَّتِي دَانَتْ مَعَ قُرَيْشٍ بِالْحُمْسِ) :
وَكَانَتْ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ قَدْ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ: أَنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنْشَدَنِي لعَمْرو بن معديكرب
أَعَبَّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا ... بِتَثْلِيثَ مَا نَاصَيْتَ بَعْدِي الْأَحَامِسَا
[1] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَثْلِيثُ: مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِهِمْ. وَالشِّيَارُ: [2] (السِّمَانُ) الْحِسَانُ.
يَعْنِي بِالْأَحَامِسِ: بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَبِعَبَّاسٍ: عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ أَغَارَ عَلَى بَنِي زُبَيْدٍ بِتَثْلِيثَ. وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ قَصِيدَةٍ لِعَمْرٍو.
وَأَنْشَدَنِي لِلَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ الدَّارِمِيِّ فِي [3] يَوْمِ جَبَلَةَ:
أَجْذِمْ [4] إلَيْكَ إنَّهَا بَنُو عَبْسٍ ... الْمَعْشَرُ الْجِلَّةُ [5] فِي الْقَوْمِ الْحُمْسُ
لِأَنَّ بَنِي عَبْسٍ كَانُوا يَوْمَ جَبَلَةَ حُلَفَاءَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
(يَوْمَ جَبَلَةَ) :
وَيَوْمُ جَبَلَةَ: يَوْمٌ كَانَ بَيْنَ بَنِي حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَبَيْنَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ [6] ، فَكَانَ الظَّفَرُ فِيهِ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى بَنِي حَنْظَلَةَ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ بْنُ عُدَسَ [7] ، وَأُسِرَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ
__________
[1] ناصيت: أخذت بناصيتهم ونازعتهم. وَمِنْه حَدِيث عَائِشَة: لم تكن وَاحِدَة من نسَاء النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناصينى غير زَيْنَب: أَي تنازعني وتبارينى.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] وَكَانَ يَوْم جبلة قبل الْإِسْلَام بِأَرْبَعِينَ سنة، وَهُوَ عَام مولد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَاجع العقد الفريد، وَالرَّوْض) .
[4] أَجْذم: زجر مَعْرُوف للخيل.
[5] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والجلة: العظماء. وَفِي أ: «الْحلَّة» بِالْحَاء الْمُهْملَة. والحلة: الَّذين يسكنون فِي الْحل.
[6] ذكر ابْن عبد ربه فِي كِتَابه «العقد الفريد» يَوْم شعب جبلة هَذَا. وَقَالَ إِنَّه كَانَ لعامر وَعَبس على ذبيان وَتَمِيم.
[7] هُوَ بِضَم الدَّال عِنْد الْجَمِيع إِلَّا أَبَا عُبَيْدَة، فَإِنَّهُ عِنْده بِفَتْحِهَا، وكل عدس فِي الْعَرَب، فَإِنَّهُ مَفْتُوح الدَّال. (رَاجع الرَّوْض، وَشرح السِّيرَة لأبى ذَر، ومؤتلف الْقَبَائِل ومختلفها لِابْنِ حبيب) .(1/200)
وَانْهَزَمَ عَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ عُدَسَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ. فَفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ لِلْفَرَزْدَقِ:
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعَوْا يَا لَدَارِمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
(يَوْمُ ذِي نَجَبٍ) :
ثُمَّ الْتَقَوْا يَوْمَ ذِي نَجَبٍ [1] ، فَكَانَ الظَّفَرُ لِحَنْظَلَةَ عَلَى بَنِي عَامِرٍ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ حَسَّانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيُّ، وَهُوَ ابْنُ [2] كَبْشَةَ. وَأُسِرَ يَزِيدُ بْنُ الصَّعَقِ الْكِلَابِيُّ وَانْهَزَمَ الطُّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ. فَفِيهِ يَقُولُ الْفَرَزْدَقُ: [3]
وَمِنْهُنَّ إذْ نَجَّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ ... عَلَى قُرْزَلٍ [4] رَجْلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا هَامَةَ ابْنِ خُوَيْلِدٍ [5] ... نُزِيدُ عَلَى أُمِّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمَ
[6] وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
فَقَالَ جَرِيرٌ:
وَنَحْنُ خَضَبْنَا لِابْنِ كَبْشَةَ تَاجَهُ ... وَلَاقَى امْرَأً فِي ضَمَّةِ الْخَيْلِ مِصْقَعًا
[7] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَحَدِيثُ يَوْمِ جَبَلَةَ وَيَوْمِ ذِي نَجَبٍ أَطْوَلُ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَإِنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْتُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ الْفِجَارِ.
__________
[1] ذُو نجب (محركة) : وَاد قرب ماوان. (رَاجع مَا يعول عَلَيْهِ، ومعجم الْبلدَانِ) .
[2] كَذَا فِي أهنا وَفِيمَا سَيَأْتِي من جَمِيع الْأُصُول وَفِي سَائِر الْأُصُول هُنَا: «أَبُو كَبْشَة» .
[3] نسب هَذَا الشّعْر فِي مُعْجم الْبلدَانِ عِنْد الْكَلَام على ذِي نجب لسحيم بن وثيل الريَاحي.
[4] قرزل (بِالضَّمِّ) : اسْم فرس لطفيل بن مَالك. وَكَانَ طفيل يُسمى: فَارس قرزل.
[5] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي مُعْجم الْبلدَانِ:
وَنحن ضربنا هَامة ابْن خويلد ... يزِيد وضرجنا عُبَيْدَة بِالدَّمِ
[6] أم الْفِرَاخ الجواثم: يُرِيد الهامة، وَهِي البوم، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الرجل إِذا قتل خرجت من رَأسه هَامة تصيح: اسقوني اسقوني، حَتَّى يُؤْخَذ بثأره.
[7] المصقع (هُنَا) : مَأْخُوذ من قَوْلهم صقعه: إِذا ضربه على شَيْء مصمت.(1/201)
(مَا زَادَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْحُمْسِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ ابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ، حَتَّى قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ يَأْتَقِطُوا الْأَقِطَ [1] ، وَلَا يَسْلَئُوا [2] السَّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعَرٍ، وَلَا يَسْتَظِلُّوا إنْ اسْتَظَلُّوا إلَّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ [3] مَا كَانُوا حُرُمًا، ثُمَّ رَفَعُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلِّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ، إذَا جَاءُوا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا، وَلَا يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمُوا أَوَّلَ طَوَافِهِمْ إلَّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ، فَإِنَّ لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا شَيْئًا طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَإِنْ تَكَرَّمَ مِنْهُمْ مُتَكَرِّمٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَ الْحُمْسِ، فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ الْحِلِّ، أَلْقَاهَا إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ، ثُمَّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا، وَلَمْ يَمَسَّهَا هُوَ، وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَبَدًا.
(اللَّقَى عِنْدَ الْحُمْسِ وَشِعْرٌ فِيهِ) :
فَكَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمِّي تِلْكَ الثِّيَابَ اللَّقَى [4] . فَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَرَبَ، فَدَانَتْ بِهِ. وَوَقَفُوا عَلَى عرفَاتٍ، وَأَفَاضُوا مِنْهَا، وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً: أَمَّا الرِّجَالُ فَيَطُوفُونَ عُرَاةً، وأمّا النِّسَاء فضع إحْدَاهُنَّ ثِيَابَهَا كُلَّهَا إلَّا دِرْعًا مُفَرَّجًا [5] عَلَيْهَا، ثُمَّ تَطُوفُ فِيهِ. فَقَالَتْ امْرَأَةٌ [6] مِنْ الْعَرَبِ، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
__________
[1] الأقط (مُثَلّثَة ويحرك وككتف وَرجل وإبل) : شَيْء يتَّخذ من المخيض الغنمي. وَجمعه أقطان.
وأقط الطَّعَام: عمله بِهِ.
[2] سلأت السّمن واستلأته: إِذا طبخ وعولج، وَالِاسْم: السلاء (بِالْكَسْرِ مَمْدُود) .
[3] بيُوت الْأدم: الأخبية الَّتِي تصنع من الْجلد.
[4] اللقى: الشَّيْء الْملقى المطرح، وَيُقَال: المنسي. وَجمعه: ألقاء.
[5] المفرج: المشقوق من قُدَّام أَو خلف.
[6] يُقَال إِن هَذِه الْمَرْأَة هِيَ ضباعة بنت عَامر بن صعصعة، ثمَّ من بنى سَلمَة بن قُشَيْر، وَيذكر أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبهَا، فَذكرت لَهُ عَنْهَا كبرة فَتَركهَا. وَلَعَلَّ الّذي أَخّرهَا عَن أَن تكون أما للْمُؤْمِنين وزوجا لرَسُول رب الْعَالمين، تكريم الله لنَبيه، وَعلمه بغيرته، وَالله أغير مِنْهُ، لما فِي قَوْلهَا:
الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله
من شَيْء فِيهِ مَا فِيهِ. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/202)
وَمَنْ طَافَ مِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحِلِّ أَلْقَاهَا، فَلَمْ يَنْتَفِعُ بِهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ.
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَذْكُرُ شَيْئًا تَرَكَهُ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَا يَقْرَبُهُ، وَهُوَ يحبّه [1] :
كفى جزنا كَرَّى عَلَيْهَا كَأَنَّهَا [2] ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ
[3] يَقُولُ: لَا تُمَسُّ.
(حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الطَّوَافِ، وَإِبْطَالُ عَادَاتِ الْحُمْسِ فِيهِ) :
فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ حَيْنَ أَحْكَمَ لَهُ دِينَهُ، وَشَرَعَ لَهُ سُنَنَ حَجِّهِ: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 2: 199 يَعْنِي قُرَيْشًا. وَالنَّاسُ: الْعَرَبُ.
فَرَفَعَهُمْ فِي سُنَّةِ الْحَجِّ إلَى عَرَفَاتٍ وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالْإِفَاضَةِ مِنْهَا.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيمَا كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى النَّاسِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَلَبُوسِهِمْ عِنْدَ الْبَيْتِ، حَيْنَ طَافُوا عُرَاةً، وَحَرَّمُوا مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْحِلِّ مِنْ الطَّعَامِ: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [4] 7: 31- 32. فَوَضَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْحُمْسِ، وَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْهُ عَلَى [5] النَّاسِ بِالْإِسْلَامِ، حَيْنَ بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ،
__________
[1] وَمن اللقى حَدِيث فَاخِتَة أم حَكِيم بن حزَام، وَكَانَت دخلت الْكَعْبَة، وَهِي حَامِل تمّ بِحَكِيم بن حزَام، فأجاءها الْمَخَاض، فَلم تستطع الْخُرُوج من الْكَعْبَة، فَوَضَعته فِيهَا، فلفت فِي الأقطاع هِيَ وجنينها، وَطرح مثبرها وثيابها الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا، فَجعلت لَقِي لَا تقرب. والمثبر، بِفَتْح الْمِيم: مسْقط الْوَلَد.
[2] فِي أ: ... عَلَيْهِ كَأَنَّهُ.
[3] حَرِيم: محرم، لَا يُؤْخَذ وَلَا ينْتَفع بِهِ.
[4] المُرَاد بالزينة فِي الْآيَة اللبَاس وَعدم التعري. وَقَوله تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا 2: 60. إِشَارَة إِلَى مَا كَانَت الحمس حرمته من طَعَام الْحَج إِلَى طَعَام أحمسى.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عَن» .(1/203)
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَمِّهِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَإِنَّهُ لَوَاقِفٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ بِعَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ مِنْ بَيْنَ قَوْمِهِ حَتَّى يَدْفَعُ مَعَهُمْ مِنْهَا تَوْفِيقًا [1] مِنْ اللَّهِ لَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
إخْبَارُ الْكُهَّانِ مِنْ الْعَرَبِ، وَالْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ وَالرُّهْبَانِ مِنْ النَّصَارَى
(مُعْرِفَةُ الْكُهَّانِ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ بِمَبْعَثِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ، وَالرُّهْبَانُ مِنْ النَّصَارَى، وَالْكُهَّانُ مِنْ الْعَرَبِ، قَدْ تَحَدَّثُوا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، لَمَّا تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ. أَمَّا الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ، وَالرُّهْبَانُ مِنْ النَّصَارَى، فَعَمَّا وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ زَمَانِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ إلَيْهِمْ فِيهِ. وَأَمَّا الْكُهَّانُ مِنْ الْعَرَبِ فَأَتَتْهُمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْجِنِّ فِيمَا تَسْتَرِقُ مِنْ السَّمْعِ، إذْ كَانَتْ وَهِيَ لَا تُحْجَبُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ بِالنُّجُومِ. وَكَانَ الْكَاهِنُ وَالْكَاهِنَةُ لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْهُمَا ذِكْرُ بَعْضِ أُمُورِهِ، لَا تُلْقِي الْعَرَبُ لِذَلِكَ فِيهِ بَالًا، حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي كَانُوا يَذْكُرُونَ، فَعَرَفُوهَا.
(قَذْفُ الْجِنِّ بِالشُّهُبِ، وَآيَةُ ذَلِكَ عَلَى مَبْعَثِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَلَمَّا تَقَارَبَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَضَرَ مَبْعَثُهُ، حُجِبَتْ الشَّيَاطِينُ عَنْ السَّمْعِ، وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ فِيهَا، فَرُمُوا بِالنُّجُومِ، فَعَرَفَتْ الْجِنُّ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْعِبَادِ [2] ،
__________
[1] وَذَلِكَ حَتَّى لَا يفوتهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوَاب الْحَج وَالْوُقُوف بِعَرَفَة. وَلَقَد قَالَ جُبَير حِين رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَة مَعَ النَّاس: هَذَا رجل أحمسى، فَمَا باله لَا يقف مَعَ الحمس حَيْثُ يقفون. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] وَقد قَالَت قُرَيْش حِين كثر الْقَذْف بالنجوم: قَامَت السَّاعَة، فَقَالَ عتبَة بن ربيعَة: انْظُرُوا إِلَى العيوق، فان كَانَ رمى بِهِ فقد آن قيام السَّاعَة وَإِلَّا فَلَا.(1/204)
يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ بَعَثَهُ، وَهُوَ يَقُصُّ عَلَيْهِ خَبَرَ الْجِنِّ إذْ حُجِبُوا عَنْ السَّمْعِ، فَعَرَفُوا مَا عَرَفُوا، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ حَيْنَ رَأَوْا مَا رَأَوْا: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [1] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً. وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ [2] رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً. وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً [3] . وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ، فَزادُوهُمْ رَهَقاً 72: 1- 6» ... إلَى قَوْلِهِ: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [4] . وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً 72: 9- 10» .
فَلَمَّا سَمِعَتْ الْجِنُّ الْقُرْآنَ عَرَفَتْ أَنَّهَا إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ السَّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يُشْكِلَ الْوَحْيُ بِشَيْءٍ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَيَلْتَبِسُ [5] عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَا جَاءَهُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ، لِوُقُوعِ الْحُجَّةِ، وَقَطْعِ الشُّبْهَةِ. فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا، ثُمَّ «وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ 46: 29- 30» ...
الْآيَةَ.
وَكَانَ قَوْلُ الْجِنِّ: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ، فَزادُوهُمْ رَهَقاً 72: 6» . أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ
__________
[1] أَي عجبا مباينا لسَائِر الْكتب فِي حسن نظمه وَصِحَّة مَعَانِيه. وَالْعجب: مَا يكون خَارِجا عَن الْعَادة، وَهُوَ مصدر وضع مَوضِع العجيب.
[2] الْجد: العظمة. يُقَال: جد فلَان فِي عَيْني: إِذا عظم. وَمِنْه قَول سيدنَا عمر رضى الله عَنهُ: كَانَ الرجل إِذا قَرَأَ الْبَقَرَة وَآل عمرَان جد فِينَا: أَي عظم فِي عيوننا.
[3] المُرَاد بِهِ الْكفْر. من شطت الدَّار: إِذا بَعدت. فكأنهم بنسبتهم الصاحبة وَالْولد إِلَيْهِ جلّ شَأْنه بعدوا عَن الصَّوَاب.
[4] الرصد: الراصد. أَي يجد شهابا راصدا لَهُ. أَو هُوَ اسْم جمع للراصد. على معنى: ذوى شهَاب راصدين بِالرَّجمِ، وهم الْمَلَائِكَة الَّذين يرجمونهم بِالشُّهُبِ، ويمنعونهم من الِاسْتِمَاع.
[5] وَكَذَلِكَ كَانَ رمى الْجِنّ بالنجوم فِي الْجَاهِلِيَّة، إِلَّا أَنه لما جَاءَ الْإِسْلَام غلظ وشدد.(1/205)
إذَا سَافَرَ فَنَزَلَ بَطْنَ وَادٍ مِنْ الْأَرْضِ لِيَبِيتَ فِيهِ، قَالَ: إنِّي أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي مِنْ الْجِنِّ اللَّيْلَةَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الرَّهَقُ: الطُّغْيَانُ وَالسَّفَهُ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
إذْ تَسْتَبِي الْهَيَّامَةُ الْمُرَهَّقَا
[1] وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. وَالرَّهَقُ أَيْضًا: طَلَبُكَ الشَّيْءِ حَتَّى تَدْنُوَ مِنْهُ، فَتَأْخُذُهُ أَوْ لَا تَأْخُذُهُ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ يَصِفُ حَمِيرِ وَحْشٍ:
بَصْبَصْنَ [2] وَاقْشَعْرَرْنَ مِنْ خَوْفِ الرَّهَقِ
وَهَذَا الْبَيْت فِي أجوزة لَهُ. وَالرَّهَقُ أَيْضًا: مَصْدَرٌ لِقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: رَهِقْتُ الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ، الَّذِي أَرْهَقَتْنِي رَهَقًا شَدِيدًا، أَيْ حَمَلْتُ الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ الَّذِي حَمَلَتْنِي حَمْلًا شَدِيدًا، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً 18: 80.
وَقَوْلُهُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً 18: 73.
(فَزَعُ ثَقِيفٍ مِنْ رَمْيِ الْجِنّ بالنجوم، وسؤاله عَمْرِو بْنِ أُمِّيَّةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ [3] بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ أَوَّلَ الْعَرَبِ فَزِعَ لِلرَّمْيِ بِالنُّجُومِ حَيْنَ رُمِيَ بِهَا، هَذَا الْحَيُّ مِنْ ثَقِيفٍ، وَأَنَّهُمْ جَاءُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمِّيَّةَ، أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ- قَالَ: وَكَانَ أَدْهَى الْعَرَبِ وَأَنْكَرَهَا [4] رَأْيًا- فَقَالُوا لَهُ: يَا عَمْرُو: أَلَمْ تَرَ مَا حَدَثَ فِي السَّمَاءِ مِنْ الْقَذْفِ بِهَذِهِ النُّجُومِ؟ قَالَ: بَلَى، فَانْظُرُوا، فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمَ النُّجُومِ [5] الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَتُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ مِنْ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، لِمَا يُصْلِحُ النَّاسَ
__________
[1] تستبى: تذْهب بعقله. والهيامة: الْكَثِيرَة الهيام. وأصل الهيام: دَاء يُصِيب الْإِبِل فتشتد حرارة أجوافها، فَلَا تروى من المَاء إِذا شربت.
[2] يُرِيد: حركن أذنابهن.
[3] وَقد رأى عتبَة هَذَا السَّائِب بن يزِيد، وروى عَن أبان بن عُثْمَان وَعُرْوَة وَسليمَان بن يسَار وَالزهْرِيّ.
وروى عَنهُ غير ابْن إِسْحَاق، عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون وَإِبْرَاهِيم بن سعد. وَكَانَ ثِقَة ورعا مُسلما، يسْتَعْمل على الصَّدقَات، ويستعين بِهِ الْوُلَاة. وَمَات سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة. (رَاجع تراجم رجال) .
[4] كَذَا فِي أ. يُرِيد: أهداها رَأيا، من النكر (بِفَتْح النُّون) ، وَهُوَ الدهاء. ويروى بِالْبَاء.
أَي أَشَّدهم إبداء لرَأى لم يسْبق إِلَيْهِ، من البكور فِي الشَّيْء، وَهُوَ أَوله. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أمكرها» .
[5] معالم النُّجُوم: النُّجُوم الْمَشْهُورَة.(1/206)
فِي مَعَايِشِهِمْ، هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا، فَهُوَ وَاَللَّهِ طَيُّ الدُّنْيَا، وَهَلَاكُ هَذَا الْخَلْقِ الَّذِي فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا، فَهَذَا لِأَمْرٍ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ هَذَا الْخَلْقَ، فَمَا هُوَ؟ [1] .
(حَدِيثُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْأَنْصَارِ فِي رَمْيِ الْجِنِّ بِالنُّجُومِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ابْن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُمْ: مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي هَذَا النَّجْمِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا نَقُولُ حَيْنَ رَأَيْنَاهَا يُرْمَى بِهَا: مَاتَ مَلِكٌ مُلِّكَ مُلْكٌ، وُلِدَ مَوْلُودٌ مَاتَ مَوْلُودٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَكُنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ إذَا قَضَى فِي خَلْقِهِ أَمْرًا سَمِعَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، فَسَبَّحُوا، فَسَبَّحَ مَنْ تَحْتَهُمْ، فَسَبَّحَ لِتَسْبِيحِهِمْ مَنْ تَحْتَ ذَلِكَ، فَلَا يَزَالُ التَّسْبِيحُ يَهْبِطُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسَبِّحُوا ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِمَّ سَبَّحْتُمْ فَيَقُولُونَ سَبَّحَ مَنْ فَوْقَنَا فَسَبَّحْنَا لِتَسْبِيحِهِمْ، فَيَقُولُونَ: أَلَا تَسْأَلُونَ مَنْ فَوْقَكُمْ مِمَّ سَبَّحُوا؟ فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى يَنْتَهُوا إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مِمَّ سَبَّحْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: قَضَى اللَّهُ فِي خَلْقِهِ كَذَا وَكَذَا، لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ، فَيَهْبِطُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَتَحَدَّثُوا بِهِ، فَتَسْتَرِقُهُ الشَّيَاطِينُ بِالسَّمْعِ، عَلَى تَوَهُّمٍ وَاخْتِلَافٍ، ثُمَّ يَأْتُوا بِهِ الْكُهَّانَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيُحَدِّثُوهُمْ بِهِ فَيُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ فَيَتَحَدَّثُ بِهِ الْكُهَّانُ، فَيُصِيبُونَ بَعْضًا وَيُخْطِئُونَ بَعْضًا. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَجَبَ الشَّيَاطِينَ بِهَذِهِ النُّجُومِ الَّتِي يُقْذَفُونَ بِهَا، فَانْقَطَعَتْ الْكَهَانَةُ الْيَوْمَ، فَلَا كَهَانَةَ [2] .
__________
[1] وَمثل هَذَا مَا حدث لبني لَهب عِنْد فزعهم للرمي بالنجوم فَاجْتمعُوا إِلَى كَاهِن لَهُم، يُقَال لَهُ:
خطر، فَبين لَهُم الْخَبَر، وَمَا حدث من أَمر النُّبُوَّة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] يُرِيد تَخْصِيص ذَلِك الزَّمَان. والّذي انْقَطع الْيَوْم وَإِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَن تدْرك الشَّيَاطِين مَا كَانَت تُدْرِكهُ فِي الْجَاهِلِيَّة الجهلاء، وَعند تمكنها من سَماع أَخْبَار السَّمَاء، وَمَا يُوجد الْيَوْم من كَلَام الْجِنّ على أَلْسِنَة المجانين، إِنَّمَا هُوَ خبر مِنْهُم عَمَّا يرونه فِي الأَرْض، مِمَّا لَا نرَاهُ نَحن، كسرقة سَارِق، أَو خبيئة فِي مَكَان خَفِي، أَو نَحْو ذَلِك. وَإِن أخبروا بِمَا سَيكون كَانَ تخرصا وتظنيا، فيصيبون قَلِيلا، ويخطئون كثيرا، وَذَلِكَ الْقَلِيل الّذي يصيبون هُوَ مِمَّا يتَكَلَّم بِهِ الْمَلَائِكَة (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/207)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ [1] ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ.
(الْغَيْطَلَةُ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ بَنِي سَهْمٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمٍ، يُقَالُ لَهَا الْغَيْطَلَةُ، كَانَتْ كَاهِنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، جَاءَهَا صَاحِبُهَا لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي، فَانْقَضَّ تَحْتَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَدْرِ مَا أَدْرِ [2] . يَوْمَ عَقْرٍ وَنَحْرٍ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ حَيْنَ بَلَغَهَا ذَلِكَ: مَا يُرِيدُ؟ ثُمَّ جَاءَهَا لَيْلَةً أُخْرَى، فَانْقَضَّ [3] تَحْتَهَا، ثُمَّ قَالَ: شُعُوبُ [4] مَا شُعُوبٌ، تُصْرَعُ فِيهِ كَعْبٌ [5] لَجُوبُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا. قَالُوا: مَاذَا يُرِيدُ، إنَّ هَذَا لِأَمْرٍ هُوَ كَائِنٌ، فَانْظُرُوا مَا هُوَ؟ فَمَا عَرَفُوهُ حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ بِالشِّعْبِ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ الَّذِي كَانَ جَاءَ بِهِ إلَى صَاحِبَتِهِ.
(نَسَبُ الْغَيْطَلَةِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْغَيْطَلَةُ: مِنْ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، إخْوَةِ مُدْلِجِ ابْن مُرَّةَ، وَهِيَ أُمُّ الْغَيَاطِلِ الَّذِينَ ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ:
__________
[1] كَذَا فِي أوتراجم رجال وتهذيب التَّهْذِيب، وتقريب التَّهْذِيب، وَيُقَال فِيهِ أَيْضا: «ابْن لَبِيبَة» بِفَتْح اللَّام وَكسر الْمُوَحدَة. وَيُقَال إِن لَبِيبَة أمه، وَأَبا لَبِيبَة أَبوهُ، واسْمه وردان.
روى عَن سعيد بن الْمسيب، وَعبد الله بن أَبى سُلَيْمَان، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَعَمْرو بن سعد بن أَبى وَقاص وَعبد الله بن عَمْرو وَغَيرهم. وَعنهُ ابْن ابْنه يحيى بن عبد الرَّحْمَن، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَيحيى بن أَبى كثير وَغَيرهم وَلم نجد عمرا هَذَا من تلاميذه وَكَذَلِكَ لم نجد عليا من شُيُوخه فِي المراجع الَّتِي بَين أَيْدِينَا. وَفِي سَائِر الْأُصُول: بن لبينة، وَهُوَ تَصْحِيف.
[2] وَفِي رِوَايَة: «وَمَا بدر» وَهِي أبين مِمَّا أثْبته ابْن إِسْحَاق.
[3] انقض: سقط، يُقَال: انقض الطَّائِر، إِذا سقط على الشَّيْء.
ويروى: «أنقض» : أَي صَوت وَتكلم بِصَوْت خَفِي، تَقول: سَمِعت نقيض الْبَاب ونقيض الرجل أَي صَوته.
[4] قَالَ السهيليّ: «وشعوب (هَاهُنَا) : أَحْسبهُ بِضَم الشين، وَلم أَجِدهُ مُقَيّدا، وَكَأَنَّهُ جمع شعب وَقَول ابْن إِسْحَاق يدل على هَذَا حِين قَالَ: فَلم يدر مَا قَالَت حَتَّى قتل من قتل ببدر وَأحد بِالشعبِ» .
[5] كَعْب هَاهُنَا) : هُوَ كَعْب بن لؤيّ، وَالَّذين صرعوا ببدر وَأحد أَشْرَاف قُرَيْش، معظمهم من كَعْب بن لؤيّ.(1/208)
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا [1] بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
[2] فَقِيلَ لِوَلَدِهَا: الْغَيَاطِلُ، وَهُمْ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(حَدِيثُ كَاهِنِ جَنْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ نَافِعٍ الْجُرَشِيُّ: أَنَّ جَنْبًا [3] : بَطْنًا مِنْ الْيَمَنِ، كَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَشَرَ فِي الْعَرَبِ، قَالَتْ لَهُ جَنْبٌ: اُنْظُرْ لَنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي أَسْفَلِ جَبَلِهِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ حِينَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَوَقَفَ لَهُمْ قَائِمًا مُتَّكِئًا عَلَى قَوْسٍ لَهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ طَوِيلًا، ثُمَّ جَعَلَ يَنْزُو [4] ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ مُحَمَّدًا وَاصْطَفَاهُ، وَطَهَّرَ قَلْبَهُ وَحَشَاهُ، وَمُكْثُهُ فِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَسْنَدَ [5] فِي جَبَلِهِ رَاجِعًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ.
(مَا جَرَى بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ حَدَّثَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي النَّاسِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ [6] مِنْ الْعَرَبِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، يُرِيدُ عُمْرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إنَّ هَذَا الرَّجُلُ لَعَلَى شِرْكِهِ مَا فَارَقَهُ بَعْدُ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ لَهُ:
__________
[1] قيضا: عوضا.
[2] وَيُقَال إِن الغيطلة: بنت مَالك بن الْحَارِث بن عَمْرو بن الصَّعق بن شنوق بن مرّة، وشنوق:
أَخُو مُدْلِج.
[3] جنب: من مذْحج. وهم: عيذ الله، وَأنس الله، وَزيد الله، وَأَوْس الله، وجعفي، وَالْحكم، وجروة، بَنو سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، ومذحج: هُوَ مَالك بن أدد، وَسموا جنبا، لأَنهم جانبوا بنى عمهم صداء وَيزِيد ابْني سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج.
[4] ينزو: يثب.
[5] كَذَا فِي أ. وَأسْندَ: علا وارتفع. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «اشْتَدَّ» .
[6] هَذَا الرجل هُوَ سَواد بن قَارب، كَانَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ أسلم.
14- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/209)
فَهَلْ كُنْتَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَقَدْ خِلْتَ [1] فِيَّ، وَاسْتَقْبَلْتنِي بِأَمْرٍ مَا أَرَاكَ قُلْتَهُ لِأَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ مُنْذُ وُلِّيتَ مَا وُلِّيتَ، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهمّ غُفْرًا [2] ، قَدْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى شَرٍّ مِنْ هَذَا، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَعْتَنِقُ الْأَوْثَانَ، حَتَّى أَكْرَمْنَا اللَّهُ بِرَسُولِهِ وَبِالْإِسْلَامِ، قَالَ: نَعَمْ، وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ كُنْتُ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَأَخْبرنِي مَا جَاءَكَ بِهِ صَاحِبُكَ، قَالَ: جَاءَنِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ [3] ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إلَى الْجِنِّ وَإِبْلَاسِهَا [4] ، وَإِيَاسِهَا [5] مِنْ دِينِهَا، وَلُحُوقِهَا بِالْقِلَاصِ [6] وَأَحْلَاسِهَا [7] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا الْكَلَامُ سَجْعٌ، وَلَيْسَ بِشِعْرٍ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَ ذَلِكَ يُحَدِّثُ النَّاسَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَعِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ عِجْلًا، فَنَحْنُ نَنْتَظِرُ قَسْمَهُ لِيَقْسِمَ لَنَا مِنْهُ، إذْ سَمِعْتُ مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ صَوْتًا
__________
[1] هُوَ من بَاب حذف الْجُمْلَة الْوَاقِعَة بعد خلت وظننت، كَقَوْلِهِم فِي الْمثل: من يسمع يخل.
وَلَا يجوز حذف أحد المفعولين مَعَ بَقَاء الآخر، لِأَن حكمهَا حكم الِابْتِدَاء وَالْخَبَر، فَإِذا حذفت الْجُمْلَة كلهَا جَازَ لِأَن حكمهمَا حكم الْمَفْعُول، وَالْمَفْعُول قد يجوز حذفه، وَلَكِن لَا بُد من قرينَة تدل على المُرَاد.
فَفِي قَوْلهم: من يسمع يخل، دَلِيل يدل على الْمَفْعُول، وَهُوَ يسمع. وَفِي قَوْله: «خلت فِي» . دَلِيل أَيْضا، وَهُوَ قَوْله «فِي» .
[2] غفرا: كلمة تَقُولهَا الْعَرَب إِذا أَخطَأ الرجل على الرجل. وَمَعْنَاهَا: اللَّهمّ اغْفِر لي غفرا. وَيُقَال إِن عمر مازحه. فَقَالَ: مَا فعلت كهانتك يَا سَواد؟ فَغَضب وَقَالَ: قد كنت أَنا وَأَنت على شَرّ من هَذَا من عبَادَة الْأَصْنَام، وَأكل الميتات، أفتعيرنا بِأَمْر تبت مِنْهُ؟ فَقَالَ عمر حينذاك: اللَّهمّ غفرا. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
وَلَقَد سَاق السهيليّ قصَّة سَواد مَعَ عمر عَن غير ابْن إِسْحَاق فِي سِيَاقَة حَسَنَة، وَزِيَادَة مفيدة رَأينَا أَن نجتزئ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا إِذْ يمنعنا طولهَا من إِثْبَاتهَا.
[3] شيعه: دونه بِقَلِيل.
[4] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والطبري، وأبلس الرجل: إِذا سكت ذليلا أَو مَغْلُوبًا. وَفِي أ:
«وإسلامها» . وَالْإِسْلَام: الانقياد.
[5] الْإِيَاس: الْيَأْس.
[6] القلاص من الْإِبِل: الْفتية.
[7] الأحلاس: جمع حلْس، وَهُوَ كسَاء من جلد يوضع على ظهر الْبَعِير، ثمَّ يوضع عَلَيْهِ الرحل، ليقيه من الدبر.(1/210)
مَا سَمِعْتُ صَوْتًا قَطُّ أَنْفَذَ مِنْهُ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ، يَقُولُ:
يَا ذَرِيحُ [1] ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ يَصِيحُ، يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: رَجُلٌ يَصِيحُ، بِلِسَانٍ فَصِيحٍ، يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَإِبْلَاسِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَأَنْجَاسِهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا مَا بَلَغَنَا مِنْ الْكُهَّانِ مِنْ الْعَرَب.
إنذار يهود بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(إنْذَارُ الْيَهُودِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ [2] بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا [3] : إنَّ مِمَّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ، مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَدَاهُ لَنَا، لَمَا كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ، (وَ) [3] كُنَّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوَثَانٍ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ، فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ، قَالُوا لَنَا: إنَّهُ (قَدْ) [3] تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمٍ فَكُنَّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَبْنَاهُ، حِينَ دَعَانَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَنَا بِهِ، فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ، فَآمَنَّا بِهِ، وَكَفَرُوا بِهِ، فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ مِنْ الْبَقَرَةِ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ 2: 89.
__________
[1] كَذَا فِي الْأُصُول. وَلَعَلَّه نِدَاء للعجل الْمَذْبُوح، لقَولهم: أَحْمَر ذريحى، أَي شَدِيد الْحمرَة. فَصَارَ وَصفا للعجل الذَّبِيح من أجل الدَّم.
ويروى: «يَا جليح» ، وَيُقَال إِن جليح: اسْم شَيْطَان. والجليح (لُغَة) : مَا تطاير من رُءُوس النَّبَات وخف، نَحْو الْقطن وَشبهه، الْوَاحِدَة: جليحة، وَهُوَ على هَذَا الْمَعْنى اللّغَوِيّ وصف للعجل أَيْضا، على أَن الْعجل قد جلح: أَي كشف عَنهُ الْجلد.
[2] كَذَا فِي أوتراجم رجال. وَفِي سَائِر الْأُصُول هُنَا: «عَمْرو» ، وَهُوَ تَحْرِيف.
[3] زِيَادَة عَن أ.(1/211)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَسْتَفْتِحُونَ: يَسْتَنْصِرُونَ، وَيَسْتَفْتِحُونَ (أَيْضًا) [1] :
يَتَحَاكَمُونَ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ 7: 89.
(حَدِيثُ سَلَمَةَ عَنْ الْيَهُودِيِّ الَّذِي أَنْذَرَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ مَحْمُودِ ابْن لَبِيدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عَنْ سَلَمَةَ [2] بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ [3] ، وَكَانَ سَلَمَةُ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، قَالَ: كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَالَ:
فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ- قَالَ سَلَمَةُ: وَأَنَا يَوْمئِذٍ مِنْ أَحْدَثِ مَنْ فِيهِ سِنًّا، عَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي، مُضْطَجِعٌ فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي- فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، قَالَ: فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوَثَانٍ، لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ أَوَتَرَى هَذَا كَائِنًا، أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلَى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاَلَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، وَلَوَدَّ أَنَّ لَهُ بِحَظِّهِ مِنْ تِلْكَ النَّارِ أَعْظَمَ تَنُّورٍ فِي الدَّارِ، يَحْمُونَهُ ثُمَّ يُدْخِلُونَهُ إيَّاهُ فَيُطَيِّنُونَهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا، فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ! فَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، فَقَالُوا: وَمَتَى تَرَاهُ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إلَيَّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ: إنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ. قَالَ سَلمَة:
فو الله مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَآمَنَّا بِهِ، وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ أَلَسْتَ الَّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ.
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] هُوَ سَلمَة بن سَلامَة بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الْأَشْهَل الْأنْصَارِيّ، وَأمه سلمى بنت سَلمَة بن خَالِد بن عدي أنصارية حارثية، ويكنى أَبَا عَوْف. شهد الْعقبَة الأولى والعقبة الْآخِرَة، فِي قَول جَمِيعهم، ثمَّ شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا. وَاسْتَعْملهُ عمر رضى الله عَنهُ على الْيَمَامَة، وَتوفى سنة خمس وَأَرْبَعين بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ ابْن سبعين سنة.
(رَاجع الِاسْتِيعَاب) .
[3] هُوَ بِالْفَتْح، وَقيل بِالتَّحْرِيكِ. (رَاجع شرح الْقَامُوس مَادَّة وقش) .(1/212)
(إسْلَامُ ثَعْلَبَةَ وَأَسِيدِ ابْنَيْ سَعْيَةَ، وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي عَمَّ كَانَ إسْلَامُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسِيدِ [1] بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ ابْن عُبَيْدٍ [2] ، نَفَرٍ مِنْ بَنِي هَدْلٍ، إخْوَةِ [3] بَنِي قُرَيْظَةَ، كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ ثُمَّ كَانُوا سَادَتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ: قُلْتُ: لَا وَاَللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّ رَجُلًا مِنْ يَهُودَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْهَيْبَانِ [4] ، قَدِمَ عَلَيْنَا قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ، فَحَلَّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، لَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطْ لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَفَضْلَ مِنْهُ، فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكُنَّا إذَا قَحِطَ عَنَّا الْمَطَرُ قُلْنَا لَهُ: اُخْرُجْ يَا بن الْهَيْبَانِ فَاسْتَسْقِ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا وَاَللَّهِ حَتَّى تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مَخْرَجِكُمْ صَدَقَةً، فَنَقُولُ لَهُ: كَمْ؟ فَيَقُولُ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: فَنُخْرِجُهَا ثُمَّ يَخْرُجُ بِنَا إلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا فَيَسْتَسْقِي الله لنا. فو اللَّهُ مَا يَبْرَحُ مَجْلِسَهُ حَتَّى يَمُرَّ السَّحَابُ وَنُسْقَى، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ. قَالَ: ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عِنْدَنَا. فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ؟ قَالَ: قُلْنَا: إنَّكَ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنِّي إنَّمَا قَدِمْتُ هَذِهِ
__________
[1] قَالَ السهيليّ فِي الرَّوْض عِنْد الْكَلَام على ضبط أسيد هَذَا: «وَأما أسيد بن سعية، فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْمدنِي عَن ابْن إِسْحَاق، وَهُوَ أحد رُوَاة الْمَغَازِي، عَنهُ: أسيد بن سعية، بِضَم الْألف. وَقَالَ يُونُس بن بكير عَن ابْن إِسْحَاق، وَهُوَ قَول الْوَاقِدِيّ وَغَيره: أسيد، بِفَتْحِهَا قَالَ الدارقطنيّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَلَا يَصح مَا قَالَه إِبْرَاهِيم عَن ابْن إِسْحَاق» . وسعية أبوهم، وَيُقَال لَهُ ابْن العريض.
[2] عبارَة الطَّبَرِيّ والاستيعاب عِنْد الْكَلَام على أَسد بن عبيد الْقرظِيّ، وَأسيد وثعلبة ابْني سعية:
«وهم نفر من بنى هدل، لَيْسُوا من بنى قُرَيْظَة وَلَا النَّضِير، نسبهم فَوق ذَلِك، هم بَنو عَم الْقَوْم» .
[3] فِي الرَّوْض: «أَو أَسد بن سعية» . وَفِي هَؤُلَاءِ أنزل الله عز وَجل: «من أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ 3: 113» ... الْآيَة.
[4] هُوَ من المسمين بِالصِّفَاتِ. يُقَال: قطن هيبان، أَي منتفش خَفِيف. قَالَ ذُو الرمة:
تمج اللغام الهيبان كَأَنَّهُ ... جنى عشر تنفيه أشداقها الهدل
(رَاجع اللِّسَان وَالرَّوْض) .(1/213)
الْبَلْدَةَ أتَوَكَّفُ [1] خُرُوجَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ [2] زَمَانُهُ، وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فَأَتَّبِعَهُ، وَقَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ، فَلَا تُسْبَقُنَّ إلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَلَا يَمْنَعْكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاصَرَ بَنِي [3] قُرَيْظَةَ، قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ، وَكَانُوا شَبَابًا أَحْدَاثًا: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاَللَّهِ إنَّهُ لِلنَّبِيِّ الَّذِي كَانَ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيْبَانِ، قَالُوا: لَيْسَ بِهِ، قَالُوا: بَلَى وَاَللَّهِ، إنَّهُ لَهُوَ بِصِفَّتِهِ، فَنَزَلُوا وَأَسْلَمُوا، وَأَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ أَخْبَارِ يَهُودَ.
حَدِيثُ إسْلَامِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(كَانَ سَلْمَانُ مَجُوسِيًّا، فَمَرَّ بِكَنِيسَةٍ فَتَطَلَّعَ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمْرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ ابْن لَبِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَنَا أَسْمَعُ مِنْ فِيهِ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ [4] مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جَيُّ [5] ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ [6] قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ، لَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَاجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطْنَ النَّارِ [7]
__________
[1] أتوكف: أنْتَظر.
[2] أظل: أشرف وَقرب.
[3] يُرِيد حِين غزا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنى قُرَيْظَة عقب مُنْصَرفه من غَزْوَة الخَنْدَق.
[4] أَصْبَهَان (بِفَتْح الْهمزَة وَهُوَ الْأَكْثَر، وَقيل بكثرها) : مَدِينَة عَظِيمَة مَشْهُورَة من أَعْلَام المدن وأعيانها، ويسرفون فِي وصف عظمها حَتَّى يتجاوزوا حد الاقتصاد إِلَى غَايَة الْإِسْرَاف. وأصبهان: اسْم للإقليم بأسره، وَكَانَت مدينتها أَولا جيا، ثمَّ صَارَت الْيَهُودِيَّة، وَقيل فِي سَبَب تَسْمِيَة أَصْبَهَان أَقْوَال كَثِيرَة.
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ لياقوت) .
[5] كَذَا فِي أومعجم الْبلدَانِ. وجى (بِالْفَتْح ثمَّ التَّشْدِيد) : مَدِينَة نَاحيَة أَصْبَهَان الْقَدِيم. وَهِي الْآن كالخراب مُنْفَرِدَة، وَتسَمى الْآن عِنْد الْعَجم شهرستان. وَعند الْمُحدثين الْمَدِينَة.
[6] الدهْقَان: شيخ الْقرْيَة الْعَارِف بالفلاحة وَمَا يصلح بِالْأَرْضِ، يلجأ إِلَيْهِ فِي معرفَة ذَلِك.
[7] قطن النَّار: خَادِمهَا الّذي يخدمها ويمنعها من أَن تخبو، لتعظيمهم إِيَّاهَا.(1/214)
الَّذِي يُوقِدُهَا، لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً. قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانِي هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ إلَيْهَا فَاطَّلَعَهَا. وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ قَالَ لِي: وَلَا تَحْتَبِسُ عَنِّي فَإِنَّكَ إنْ احْتَبَسْتَ عَنِّي كُنْتُ أَهَمَّ إلَيَّ مِنْ ضَيْعَتِي، وَشَغَلَتْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي. قَالَ: فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ الَّتِي بَعَثَنِي إلَيْهَا، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ، لِحَبْسِ أَبِي إيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَتْنِي صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ وَقُلْتُ: هَذَا وَاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحن عَلَيْهِ، فو الله مَا بَرِحْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ. فَرَجَعْتُ إلَى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي، وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ أَيْنَ كُنْتَ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِأُنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ من دينهم، فو الله مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَلَّا وَاَللَّهِ، إنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ:
فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.
(اتِّفَاقُ سَلْمَانَ وَالنَّصَارَى عَلَى الْهَرَبِ) :
قَالَ: وَبَعَثْتُ إلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ، وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ، فَآذَنُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ. فَلَمَّا قَدِمْتُهَا، قُلْتُ: مَنْ أَفَضْلُ أَهْلُ هَذَا الدِّينِ عِلْمًا؟ قَالُوا: الْأُسْقُفُ [1] فِي الْكَنِيسَةِ.
__________
[1] الأسقف (بِالتَّشْدِيدِ وبالتخفيف أَيْضا) : عَالم النَّصَارَى الّذي يُقيم لَهُم أَمر دينهم.(1/215)
(سَلْمَانُ وَأُسْقُفُ النَّصَارَى السَّيِّئُ) :
قَالَ فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: إنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، فَأَحْبَبْتُ أَنَّ أَكُونَ مَعَكَ، وَأَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ، فَأَتَعَلَّمَ مِنْكَ، وَأُصَلِّيَ مَعَكَ، قَالَ: اُدْخُلْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ. قَالَ: وَكَانَ رَجُلُ سَوْءٍ، يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا [1] اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ. قَالَ: فَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُركُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا، اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ: فَقَالُوا لِي: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُمْ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ، قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَوَرِقًا. قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. قَالَ:
فَصَلَبُوهُ، وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ، فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ.
(سَلْمَانُ وَالْأُسْقُفُ الصَّالِحُ) :
قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ (وَ) [2] أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْأَبَ لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ.
قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ شَيْئًا قَبْلَهُ [3] . قَالَ: فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنِّي قَدْ كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ شَيْئًا قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ:
أَيْ بُنَيَّ، وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ، وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، إلَّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ، وَهُوَ فُلَانٌ، وَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ.
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فيهم» وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: « ... قبله مثله» .(1/216)
(سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِالْمُوصِلِ) :
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ.
فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، فَإِلَى مِنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ:
يَا بُنَيَّ، وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ، إلَّا رَجُلًا بِنَصِيبِينَ [1] ، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.
(سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِنَصِيبِينَ) :
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِيهِ. فَأَقَمْتُ مَعَ خير رجل، فو الله مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْكَ، قَالَ: فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إلَّا رَجُلًا بِعَمُورِيَّةَ [2] مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
(سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِعَمُورِيَّةَ) :
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُورِيَّةَ، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ عِنْدَ خَيْرِ رَجُلٍ، عَلَى هُدَى أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَتْ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ، فَأَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَى
__________
[1] نَصِيبين (بِالْفَتْح ثمَّ الْكسر ثمَّ بَاء وعلامة الْجمع الصَّحِيح) : مَدِينَة من بِلَاد الجزيرة على جادة القوافل من الْموصل إِلَى الشَّام، وَكَانَ فِيهَا وَفِي قراها- على مَا ذكر أَهلهَا- أَرْبَعُونَ ألف بُسْتَان. وَبَينهَا وَبَين الْموصل سِتَّة أَيَّام. وَكَانَت الرّوم قد بنت عَلَيْهَا سورا وأتمه أنوشروان الْملك عِنْد فَتحه إِيَّاهَا.
[2] عمّورية (بِفَتْح أَوله وَتَشْديد ثَانِيه) : بلد فِي بِلَاد الرّوم غزاه المعتصم.
وَسميت بعمورية بنت الرّوم بن اليفز بن سَام بن نوح. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/217)
فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ بِهِ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُ نَبِيٍّ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، مُهَاجَرُهُ إلَى أَرْضٍ بَيْنَ [1] حَرَّتَيْنِ، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ.
(سَلْمَانُ وَنَقْلَتُهُ إلَى وَادِي الْقُرَى ثُمَّ إلَى الْمَدِينَةِ، وسماعه بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغُيِّبَ، وَمَكَثْتُ بِعَمُورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارٌ، فَقُلْتُ لَهُمْ: احْمِلُونِي إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ، قَالُوا: نَعَمْ. فأعْطَيْتُهُمُوها وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ، حَتَّى إذَا بَلَغُوا وَادِيَ الْقُرَى ظَلَمُونِي، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ عَبْدًا، فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِقْ فِي نَفْسِي، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ، إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَة، فو الله مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتهَا [2] بِصِفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذكَرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة، فو الله إنِّي لَفِي رَأْسِ عِذْقٍ [3] لِسَيِّدِي أَعْمَلُ لَهُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ تَحْتِي، إذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاَللَّهِ إنَّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ [4] عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
(نَسَبُ قَيْلَةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَيْلَةُ: بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سُودِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، أُمُّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.
__________
[1] الْحرَّة: كل أَرض ذَات حِجَارَة سود متشيطة من أثر احتراق بركانى.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عرفتها» .
[3] العذق (بِالْفَتْح) : النَّخْلَة. والعذق (بِالْكَسْرِ) : الكباسة.
[4] قبَاء (بِالضَّمِّ) أَصله اسْم بِئْر عرفت الْقرْيَة بهَا، وَهِي مسَاكِن بنى عَمْرو بن عَوْف من الْأَنْصَار.
وَتَقَع قَرْيَة قبَاء على ميلين من الْمَدِينَة على يسَار القاصد إِلَى مَكَّة. رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/218)
قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ يَمْدَحُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ:
بَهَالِيلُ [1] مِنْ أَوْلَادِ قَيْلَةَ لَمْ يَجِدْ ... عَلَيْهِمْ خَلِيطٌ فِي مُخَالَطَةِ عَتْبَا
مَسَامِيحُ أَبْطَالٌ يَرَاحُونَ لِلنَّدَى ... يَرَوْنَ عَلَيْهِمْ فِعْلَ آبَائِهِمْ نَحْبَا
[2] وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ. فَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالْعُرَوَاءُ: الرِّعْدَةُ مِنْ الْبَرْدِ وَالِانْتِفَاضُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَرَقٌ فَهِيَ الرُّحَضَاءُ، وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ- حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي، فَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟ (مَاذَا تَقُولُ) [2] ؟
فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ.
قَالَ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، إنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمَّا قَالَ.
(سَلْمَانُ بَيْنَ يَدَيْ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدِيَّتِهِ يَسْتَوْثِقُ) :
(قَالَ) [3] : وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ [4] ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ، قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ. قَالَ:
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ فَقُلْتُ لَهُ: إنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ ثِنْتَانِ،
__________
[1] البهاليل: جمع بهْلُول، وَهُوَ السَّيِّد.
[2] المساميح: الأجواد الْكِرَام. ويراحون: يهتزون. والنحب: النّذر، وَمَا يَجعله الْإِنْسَان على نَفسه.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] رَاجع الْحَاشِيَة (رقم 4 ص 218 من هَذَا الْجُزْء) .(1/219)
ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ [1] ، قَدْ تَبِعَ جِنَازَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ [2] ، (وَ) [3] عَلَيَّ شَمْلَتَانِ [4] لِي، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهِ، هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدْبَرْتُهُ [5] عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَأَكْبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَوَّلْ، فَتَحَوَّلْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا بن عَبَّاسٍ، فَأَعْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْمِعَ ذَلِكَ أَصْحَابَهُ. ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرٌ وَأُحُدٌ.
(أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَلْمَانَ بِالْمُكَاتَبَةِ لِيَخْلُصَ مِنْ الرِّقِّ) :
قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ، فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ ماِئَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ [6] ، وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ، فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ، الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً [7] ، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَدِيَةً، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يُعِينُ الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ ماِئَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ [8] لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ
__________
[1] بَقِيع الْغَرْقَد: مَقْبرَة أهل الْمَدِينَة، وَهِي دَاخل الْمَدِينَة.
[2] هُوَ كُلْثُوم بن الْهدم، وَكَانَ هُوَ أول من توفى من الْمُسلمين بعد مقدمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة، لم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى مَاتَ. (رَاجع الطَّبَرِيّ، وَالرَّوْض، وَشرح السِّيرَة) .
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] الشملة: الكساء الغليظ يشْتَمل بِهِ الْإِنْسَان، أَي يلتحف بِهِ.
[5] ويروى: «أستدير بِهِ» .
[6] كَذَا فِي الْأُصُول. أَي بِالْحفرِ وبالغرس، يُقَال: فقرت الأَرْض: إِذا حفرتها، وَمِنْه سميت الْبِئْر: فَقِيرا.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «بالتفقير» . مصدر «فقر» . وَلَعَلَّ هَذِه الرِّوَايَة أنسب.
[7] الودية: وَاحِدَة الودي، وَهُوَ فراخ النّخل الصغار.
[8] فقر: احْفِرْ.(1/220)
فَأْتِنِي أَكُنْ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ. قَالَ: فَفَقَّرْتُ وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إذَا فَرَغْتُ جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ إلَيْهِ الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، حَتَّى فَرغْنَا. فو الّذي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ [1] . قَالَ: فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ. فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ، مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ [2] ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ خُذْ هَذِهِ، فَأَدِّهَا مِمَّا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ» قَالَ: قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ. قَالَ: فَأَخَذْتهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَاَلَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ مِنْهَا، وَعَتَقَ سَلْمَانُ. فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ حُرًّا، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ سَلْمَانَ: أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِنْ الَّذِي عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَّبَهَا عَلَى لِسَانِهِ، ثُمَّ قَالَ: خُذْهَا فَأَوْفِهِمْ مِنْهَا، فَأَخَذْتهَا، فَأَوْفَيْتهمْ مِنْهَا حَقَّهُمْ كُلَّهُ، أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: أَنَّهُ قَالَ:
(سَلْمَانُ وَالرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ بِعَمُورِيَّةَ) :
حُدِّثْتُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ: إنَّ صَاحِبَ عَمُورِيَّةَ قَالَ لَهُ: ائْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَإِنَّ بِهَا رَجُلًا بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ [3] ، يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ الْغَيْضَةِ إلَى هَذِهِ الْغَيْضَةِ مُسْتَجِيزًا، يَعْتَرِضُهُ ذَوُو الْأَسْقَامِ، فَلَا يَدْعُو لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا شُفِيَ، فَاسْأَلْهُ عَنْ هَذَا
__________
[1] وَيُقَال: إِن سلمَان غرس بِيَدِهِ، ودية وَاحِدَة، وغرس رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سائرها فَعَاشَتْ كلهَا إِلَّا الَّتِي غرس سلمَان. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] الْمَعَادِن: جمع مَعْدن (كمجلس) : مَا تستخرج مِنْهُ الْجَوَاهِر من ذهب وَفِضة وحديد وَنَحْوه.
[3] الغيضة: الشّجر الملتف.(1/221)
الدِّينِ الَّذِي تَبْتَغِي، فَهُوَ يُخْبِرُكَ عَنْهُ. قَالَ سَلْمَانُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ حَيْثُ وُصِفَ لِي، فَوَجَدْتُ النَّاسَ قَدْ اجْتَمَعُوا بِمَرْضَاهُمْ هُنَالِكَ، حَتَّى خَرَجَ لَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، مُسْتَجِيزًا مِنْ إحْدَى الْغَيْضَتَيْنِ إلَى أُخْرَى، فَغَشِيَهُ النَّاسُ بِمَرْضَاهُمْ، لَا يَدْعُو لِمَرِيضٍ إلَّا شُفِيَ، وَغَلَبُونِي عَلَيْهِ، فَلَمْ أَخْلُصْ إلَيْهِ حَتَّى دَخَلَ الْغَيْضَةَ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ، إلَّا مَنْكِبِهِ. قَالَ: فَتَنَاوَلْتُهُ: فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ وَالْتَفَتَ إلَيَّ، فَقُلْتُ:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: إنَّكَ لَتَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ بِهَذَا الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، فَأْتِهِ فَهُوَ يَحْمِلُكَ عَلَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَلْمَانَ: لَئِنْ كُنْتَ صَدَّقْتَنِي يَا سَلْمَانُ، لَقَدْ لَقِيتُ عِيسَى بن مَرْيَمَ [1] ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ.
ذِكْرُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَعُثْمَانَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ [2]
(بَحْثُهُمْ فِي الْأَدْيَانِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا فِي عِيدٍ لَهُمْ عِنْدَ صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ وَيَنْحَرُونَ لَهُ، وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهُ، وَيُدِيرُونَ [3] بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِيدًا لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا، فَخَلَصَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ نَجِيًّا [4] ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَصَادَقُوا وَلْيَكْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالُوا: أَجَلْ. وَهُمْ: وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ،
__________
[1] قَالَ السهيليّ عِنْد الْكَلَام على هَذَا الحَدِيث: «إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مَقْطُوع. وَفِيه رجل مَجْهُول، وَيُقَال إِن الرجل هُوَ الْحسن بن عمَارَة، وَهُوَ ضَعِيف بِإِجْمَاع مِنْهُم فان صَحَّ الحَدِيث فَلَا نَكَارَة فِي مَتنه» .
ثمَّ تصدى السهيليّ لتأييده على فرض صِحَّته نَاقِلا عَن الطَّبَرِيّ فِي كَلَام طَوِيل رَأينَا أَن نجتزئ هُنَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «أَمر النَّفر الْأَرْبَعَة المتفرقين فِي عبَادَة الْأَوْثَان فِي طلب الْأَدْيَان» .
[3] فِي أ: «يدورون» . وهما بِمَعْنى.
[4] النجي: الْجَمَاعَة يتحدثون سرا عَن غَيرهم، وَيَقَع للاثنين وَالْجَمَاعَة بِلَفْظ وَاحِد.(1/222)
وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ ابْن دُودَانَ [1] بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُثْمَانِ ابْن الْحُوَيْرِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَزَيْدِ [2] بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ ابْن عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ [3] بْنِ رَزَاحِ [4] بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ ابْن لُؤَيٍّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَلَّمُوا وَاَللَّهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ! لَقَدْ أَخْطَئُوا دِينَ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ! مَا حَجَرٌ نُطِيفُ بِهِ، لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، يَا قَوْمِ الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمْ (دِينًا) [5] ، فَإِنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ. فَتَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ الْحَنِيفِيَّةَ، دِينَ إبْرَاهِيمَ.
(مَا وَصَلَ إلَيْهِ وَرَقَةُ وَابْنُ جَحْشٍ) :
فَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَاسْتَحْكَمَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَاتَّبَعَ الْكُتُبَ مِنْ أَهْلِهَا، حَتَّى عَلِمَ عِلْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَأَقَامَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الِالْتِبَاسِ حَتَّى أَسْلَمَ، ثُمَّ هَاجَرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْحَبَشَةِ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْلِمَةً، فَلَمَّا قَدِمَهَا تَنَصَّرَ، وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ، حَتَّى هَلَكَ هُنَالِكَ نَصْرَانِيًّا.
(مَا كَانَ يَفْعَلُهُ ابْنُ جَحْشٍ بَعْدَ تَنَصُّرِهِ بِمُسْلِمِي الْحَبَشَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ ابْن جَحْشٍ حِينَ تَنَصَّرَ يَمُرُّ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ هُنَالِكَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَيَقُولُ: فَقَّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ، أَيْ أَبْصَرْنَا وَأَنْتَمِ تَلْتَمِسُونَ الْبَصَرَ،
__________
[1] كَذَا فِي أوالقاموس وَشَرحه. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «داودان» وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] وَأم زيد: الحيداء بنت خَالِد الفهمية، وَهِي امْرَأَة جده نفَيْل، ولدت لَهُ الْخطاب، فَهُوَ أَخُو الْخطاب لأمه وَابْن أُخْته، وَكَانَ ذَلِك مُبَاحا فِي الْجَاهِلِيَّة. (رَاجع الرَّوْض) .
[3] الْمَعْرُوف فِي نسب عمر بن الْخطاب، وَهُوَ ابْن عَم زيد بن عَمْرو، أَنه: عمر بن الْخطاب بن نفَيْل بن ريَاح بن عبد الله بن قرط بن رزاح، بِتَقْدِيم «ريَاح» على «عبد الله» . (رَاجع الرَّوْض الْأنف)
[4] رزاح: بِفَتْح الرَّاء. وَقيل بِكَسْرِهَا، وَقيل: إِن الّذي بِالْكَسْرِ هُوَ رزاح بن ربيعَة، أَخُو قصي لأمه. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[5] زِيَادَة عَن أ.(1/223)
وَلَمْ تُبْصِرُوا بَعْدُ. وَذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ الْكَلْبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ، صَأْصَأَ لِيَنْظُرَ. وَقَوْلُهُ: فَقَّحَ: فَتَّحَ عَيْنَيْهِ.
(زَوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ امْرَأَةِ ابْنِ جَحْشٍ بَعْدَ مَوْتِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ فِيهَا إلَى النَّجَاشِيِّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، فَخَطَبَهَا عَلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا، وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ ماِئَةِ دِينَارٍ. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَا نَرَى عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَقَفَ صَدَاقَ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِ ماِئَةِ دِينَارٍ إلَّا عَنْ ذَلِكَ. وَكَانَ الَّذِي أَمْلَكَهَا النَّبِيَّ [1] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ ابْن الْعَاصِ.
(تَنَصُّرُ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَذَهَابُهُ إلَى قَيْصَرَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَقَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّوم، فتنصّر وحسلت مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلِعُثْمَانَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عِنْدَ قَيْصَرَ حَدِيثٌ، مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهِ مَا ذَكَرْتُ فِي حَدِيثِ حَرْبِ الْفِجَارِ
[2] .
(زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو وَمَا وَصَلَ إلَيْهِ، وَشَيْءٌ عَنْهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَوَقَفَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَفَارَقَ دِينَ قَوْمِهِ، فَاعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَالْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالذَّبَائِحَ الَّتِي
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «للنّبيّ» . وَالْمَعْرُوف أَن: «أملك» . تتعدى إِلَى مفعولين.
[2] وَهَذَا الحَدِيث هُوَ أَن قَيْصر كَانَ قد توج عُثْمَان وولاه أَمر مَكَّة، فَلَمَّا جَاءَهُم بذلك أنفوا من أَن يدينوا لملك، وَصَاح الْأسود بن أَسد بن عبد الْعُزَّى: أَلا إِن مَكَّة حَيّ لقاح لَا تدين لملك، فَلم يتم لَهُ مُرَاده، وَقيل غير هَذَا.
وَكَانَ يُقَال لعُثْمَان هَذَا: البطريق، وَلَا عقب لَهُ، وَمَات بِالشَّام مسموما، سمه عَمْرو بن جَفْنَة الغساني الْملك. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/224)
تُذْبَحُ عَلَى الْأَوْثَانِ [1] وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ [2] ، وَقَالَ: أَعْبُدُ رَبَّ إبْرَاهِيمَ، وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّهِ أَسَمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ شَيْخًا كَبِيرًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَلَّذِي نَفْسُ زَيْدِ ابْن عَمْرٍو بِيَدِهِ، مَا أَصْبَحَ مِنْكُمْ أَحَدٌ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ غَيْرِي، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهمّ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَيَّ الْوُجُوهِ أَحَبُّ إلَيْكَ عَبَدَتْكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُهُ، ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحَتِهِ.
__________
[1] قَالَ السهيليّ بعد مَا تعرض للْكَلَام على ترك زيد لما ذبح على النصب: «وَفِيه سُؤال، يُقَال: كَيفَ وفْق الله زيدا إِلَى ترك أكل مَا ذبح على النصب، وَمَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ، وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أولى بِهَذِهِ الْفَضِيلَة فِي الْجَاهِلِيَّة؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث حِين لقِيه ببلدح (يُشِير إِلَى لِقَاء رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببلدح قبل أَن ينزل الْوَحْي، فَقدمت إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفرة، فَأبى زيد أَن يَأْكُل مِنْهَا، وَقَالَ: إِنِّي لست آكل مَا يذبح على النصب، وَلَا آكل إِلَّا مَا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ) ، فَقدمت إِلَيْهِ السفرة أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل مِنْهَا، وَإِنَّمَا فِي الحَدِيث أَن زيدا قَالَ حِين قدمت السفرة: لَا آكل مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ.
الْجَواب الثَّانِي: أَن زيدا إِنَّمَا فعل ذَلِك بِرَأْي رَآهُ، لَا بشرع مُتَقَدم، وَإِنَّمَا تقدم شرع إِبْرَاهِيم بِتَحْرِيم الْميتَة، لَا بِتَحْرِيم مَا ذبح لغير الله وَإِنَّمَا نزل تَحْرِيم ذَلِك فِي الْإِسْلَام. وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ يَقُول: الْأَشْيَاء قبل وُرُود الشَّرْع على الْإِبَاحَة، فَإِن قُلْنَا بِهَذَا، وَقُلْنَا: إِن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُل مِمَّا ذبح على النصب، فَإِنَّمَا فعل أمرا مُبَاحا، وَإِن كَانَ لَا يَأْكُل مِنْهُ فَلَا إِشْكَال. وَإِن قُلْنَا أَيْضا: إِنَّهَا لَيست على الْإِبَاحَة، وَلَا على التَّحْرِيم، وَهُوَ الصَّحِيح، فالذبائح خَاصَّة لَهَا أصل فِي تَحْلِيل الشَّرْع الْمُتَقَدّم كالشاة وَالْبَعِير، وَنَحْو ذَلِك، مِمَّا أحله الله تَعَالَى فِي دين من كَانَ قبلنَا، وَلم يقْدَح فِي ذَلِك التَّحْلِيل الْمُتَقَدّم مَا ابتدعوه حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام، وَأنزل الله سُبْحَانَهُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ 6: 121.
أَلا ترى كَيفَ بقيت ذَبَائِح أهل الْكتاب عندنَا على أصل التَّحْلِيل بِالشَّرْعِ الْمُتَقَدّم وَلم يقْدَح فِي ذَلِك التَّحْلِيل مَا أحدثوه من الْكفْر وَعبادَة الصلبان، فَكَذَلِك كَانَ مَا ذبحه أهل الْأَوْثَان محلا بِالشَّرْعِ الْمُتَقَدّم، حَتَّى خصّه الْقُرْآن بِالتَّحْرِيمِ.
[2] وَكَانَ زيد- فِيمَا يُقَال- يَقُول للرجل إِذا أَرَادَ أَن يقتل ابْنَته: لَا تقتلها، أكفيك مئونتها، فيأخذها، فَإِذا ترعرعت قَالَ لأَبِيهَا: إِن شِئْت دفعتها إِلَيْك، وَإِن شِئْت كفيتك مئونتها.
وَقد كَانَ صعصعة بن مُعَاوِيَة جد الفرزدق رَحمَه الله يفعل مثل ذَلِك، وَلما أسلم سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل لي فِي ذَلِك أجر؟ فَقَالَ: لَك من أجره إِذْ من الله عَلَيْك بِالْإِسْلَامِ. وَفِي الْفَخر بِمُعَاوِيَة يَقُول الفرزدق:
وَمنا الّذي منع الوائدات ... وَأَحْيَا الوئيد فَلم يوأد
15- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/225)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّ ابْنَهُ، سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، قَالَا لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنستغفر [1] لِزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو؟ قَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ.
(شِعْرُ زَيْدٍ فِي فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ) :
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ، وَمَا كَانَ لَقِيَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ:
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ ... أَدِينُ إذَا تُقُسِّمَتْ الْأُمُورُ
عَزَلْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [2] جَمِيعًا ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصَّبُورُ
فَلَا الْعُزَّى أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا ... وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو أَزُورُ [3]
وَلَا هُبَلًا أَدِينُ وَكَانَ رَبًّا [4] ... لَنَا فِي الدَّهْرِ إذْ حِلْمِي يَسِيرُ
عَجِبْتُ وَفِي اللَّيَالِي مُعْجَبَاتٌ ... وَفِي الْأَيَّامِ يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ
بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْنَى رِجَالًا ... كَثِيرًا كَانَ شَأْنَهُمْ الْفُجُورُ [5]
وَأَبْقَى آخَرِينَ بِبِرِّ قَوْمٍ ... فَيَرْبِلُ مِنْهُمْ الطِّفْلُ الصَّغِيرُ [6]
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أسْتَغْفر» .
[2] وَكَانَت الْعُزَّى نخلات مجتمعة، وَكَانَ عَمْرو بن لحي قد أخْبرهُم، فِيمَا ذكر، أَن الرب يشتى بِالطَّائِف عِنْد اللات، ويصيف بالعزى، فعظموها وَبَنُو لَهَا بَيْتا، وَكَانُوا يهْدُونَ لَهَا كَمَا يهْدُونَ إِلَى الْكَعْبَة، وَهِي الَّتِي بعث رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِد بن الْوَلِيد ليهدمها، فَقَالَ لَهُ سادنها: يَا خَالِد احذرها فإنّها تجذع وتكتع، فَهَدمهَا خَالِد، وَترك مِنْهَا جذمها وأساسها، فَقَالَ قيمها: وَالله لتعودن ولتنتقمن مِمَّن فعل بهَا هَذَا، ثمَّ كَانَ أَن أَمر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدا باستئصال بقيتها، فَفعل.
[3] كَذَا فِي الْأُصُول: يُرِيد قبيل أَبِيه. وَفِي الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ (ص 22) ، وبلوغ الأرب (ج 2 ص 220) : «بنى غنم» .
[4] كَذَا فِي كتاب الْأَصْنَام لِابْنِ الْكَلْبِيّ، وهبل (كصرد) : صنم لَهُم. وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ، وَفِي جَمِيع الْأُصُول: «وَلَا غنما» . وَلم نجد بَين أصنام الْعَرَب صنما لَهُ هَذَا الِاسْم.
[5] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي الأغاني:
ألم تعلم بِأَن الله أفنى ... رجَالًا كَانَ شَأْنهمْ الْفُجُور
[6] كَذَا فِي الْأُصُول وبلوغ الأرب. وربل الطِّفْل يربل (من بَابي نصر وَضرب) : إِذا شب وَعظم وَكبر. وَفِي الأغاني: «فيربو» .(1/226)
وَبَيْنَا الْمَرْءُ يَفْتَرُّ [1] ثَابَ [2] يَوْمًا ... كَمَا يُتَرَوَّحُ الْغُصْنُ الْمَطِيرُ [3]
وَلَكِنْ أَعْبُدُ الرَّحْمَنَ رَبِّي ... لِيَغْفِرَ ذَنْبِي الرَّبُّ الْغَفُورُ
فَتَقْوَى الله ربّكم احفظ هَا ... مَتَى مَا تَحْفَظُوهَا لَا تَبُورُوا
تَرَى الْأَبْرَارَ دَارُهُمْ جِنَانٌ ... وَلِلْكَفَّارِ حَامِيَةً سَعِيرُ
وَخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ يَمُوتُوا ... يُلَاقُوا مَا تَضِيقُ بِهِ الصُّدُورُ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ نُفَيْلٍ أَيْضًا- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، إلَّا الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَالْبَيْتَ الْخَامِسَ وَآخِرَهَا بَيْتًا. وَعَجُزُ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ-:
إلَى اللَّهِ أُهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا ... وَقَوْلًا رَصِينًا [4] لَا يَنِي الدَّهْرَ بَاقِيَا [5]
إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقه ... إِلَه وَلَا رَبٌّ يَكُونُ مُدَانِيَا
أَلَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إيَّاكَ وَالرَّدَى [6] ... فَإِنَّكَ لَا تُخْفِي مِنْ اللَّهِ خَافِيَا
وَإِيَّاكَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ ... فَإِنَّ سَبِيلَ الرُّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا
حَنَانَيْكَ [7] إنَّ الْحِنَّ [8] كَانَتْ رجاءهم ... وَأَنت إلهي رَبَّنَا وَرَجَائِيَا
__________
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والأغاني وبلوغ الأرب. وَفِي أ: «يفتر» . وفتر الشَّيْء يفتر (من بَابي نصر وَضرب) : سكن بعد حِدته، ولان بعد شدته وَضعف.
[2] ثاب: رَجَعَ.
[3] يتروح: يَهْتَز ويخضر، وينبت ورقه بعد سُقُوطه.
[4] كَذَا فِي أ. والرصين: الثَّابِت الْمُحكم. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وقولا رَضِينَا» .
[5] لَا ينى: لَا يفتر وَلَا يضعف.
[6] الردى: الْهَلَاك وَالْمَوْت، وَلَيْسَ المُرَاد تحذيره الْمَوْت، وَإِنَّمَا المُرَاد تحذيره مَا يأتى بِهِ الْمَوْت ويبديه ويكشفه من جَزَاء الْأَعْمَال.
[7] حنانيك: أَي حنانا بعد حنان، كَأَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى التَّضْعِيف والتكرار، لَا إِلَى الْقصر على اثْنَيْنِ خَاصَّة دون مزِيد، وَيجوز أَن يكون المُرَاد: حنانا فِي الدُّنْيَا وَحَنَانًا فِي الْآخِرَة، وَإِذا خُوطِبَ بِهَذَا اللَّفْظ مَخْلُوق، كَقَوْل طرفَة:
حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض
فَإِنَّمَا يُرِيد حنان دفع، وحنان نفع، لِأَن كل من أمل ملكا، فَإِنَّمَا يؤمله ليدفع عَنهُ ضيرا أَو ليجلب إِلَيْهِ خيرا.
[8] قَوْله: إِن الحن. قَالَ فِي الْقَامُوس: «والحن (بِالْكَسْرِ) : حَيّ من الْجِنّ، مِنْهُم الْكلاب السود البهم، أَو سفلَة الْجِنّ وضعفاؤهم، أَو كلابهم، أَو خلق بَين الْجِنّ وَالْإِنْس» انْتهى.(1/227)
رَضِيتُ بِكَ اللَّهمّ رَبًّا فَلَنْ أرى ... أدين إِلَهًا [1] غَيْرَكَ اللَّهُ [2] ثَانِيَا
(أَدِينُ لِرَبٍّ يُسْتَجَابُ وَلَا أَرَى ... أَدِينُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ الدَّهْرَ دَاعِيَا) [3]
وَأَنْتَ الَّذِي مِنْ فَضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ ... بَعَثْتَ إلَى مُوسَى رَسُولًا مُنَادِيَا
فَقُلْتُ لَهُ يَا اذْهَبْ [4] وَهَارُونَ [5] فَادْعُوَا ... إلَى اللَّهِ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ طَاغِيَا
وَقُولَا لَهُ: أَأَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ [6] ... بِلَا وَتَدٍ حَتَّى اطْمَأَنَّتْ كَمَا هِيَا
وَقُولَا لَهُ: أَأَنْتَ رَفَّعْتَ هَذِهِ [7] ... بِلَا عُمُدٍ أَرْفِقْ إذَا بِكَ بَانِيَا [8]
وَقُولَا لَهُ: أَأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا ... مُنِيرًا إذَا مَا جَنَّهُ اللَّيْلُ هَادِيَا
وَقُولَا لَهُ: مَنْ يُرْسِلُ الشَّمْسَ غُدْوَةً ... فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنْ الْأَرْضِ ضَاحِيَا
وَقُولَا لَهُ: مَنْ يُنْبِتُ الْحَبَّ فِي الثَّرَى ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا [9]
وَيُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّهُ فِي رُءُوسِهِ ... وَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا
وَأَنْتَ بِفَضْلٍ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُونُسَا ... وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ لَيَالِيَا
وَإِنِّي [10] (وَ) [11] لَوْ سَبَّحْتُ بِاسْمِكَ رَبَّنَا ... لَأُكْثِرُ، إلَّا مَا غَفَرْتَ، خَطَائِيَا [12]
__________
[1] أدين إِلَهًا: أَي أدين لإله، وَحذف اللَّام وعدي الْفِعْل، لِأَنَّهُ فِي معنى: أعبد إِلَهًا.
[2] يُرِيد: يَا الله.
[3] زِيَادَة عَن الأغاني.
[4] يَا اذْهَبْ: على حذف الْمُنَادِي. كَأَنَّهُ قَالَ: أَلا يَا هَذَا اذْهَبْ، كَمَا قرئَ: «أَلا يَا اسجدوا» يُرِيد: يَا قوم اسجدوا، وكما قَالَ غيلَان ذُو الرمة:
أَلا يَا أسلمي يَا دَار مي على البلى
[5] يَصح عطف «هَارُون» على الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي الْفِعْل «اذْهَبْ» مَعَ عدم توكيده بضمير فصل وَهُوَ قَبِيح. والجيد نصب هَارُون على الْمَفْعُول مَعَه.
[6] يُرِيد الأَرْض، وَأَشَارَ إِلَيْهَا للْعلم بهَا.
[7] يُرِيد السَّمَاء.
[8] أرْفق: فعل تعجب، وَعَلِيهِ فالباء فِي «بك» زَائِدَة. وَهِي فِي مَحل رفع فَاعل. وَيكون الْمَعْنى:
رفقت.
[9] رابيا: ظَاهرا على وَجه الأَرْض.
[10] ويروى: «وَإِنِّي إِن ... إِلَخ» .
[11] زِيَادَة عَن أ.
[12] يُرِيد: إِنِّي لأكْثر من هَذَا الدُّعَاء الّذي هُوَ: بِاسْمِك رَبنَا إِلَّا مَا غفرت، وَمَا بعد إِلَّا زَائِدَة، وَلَو سبحت: اعْتِرَاض بَين اسْم إِن وخبرها. وَالتَّسْبِيح (هُنَا) : الصَّلَاة: أَي لَا. أعْتَمد وَإِن صليت إِلَّا على دعائك واستغفارك من خطاياي.(1/228)
فَرَبَّ الْعِبَادِ أَلْقِ سَيْبًا وَرَحْمَةً [1] ... عَلَيَّ وَبَارِكْ فِي بَنِيَّ وَمَالِيَا
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو يُعَاتِبُ امْرَأَتَهُ صَفِيَّةَ بِنْتَ الْحَضْرَمِيِّ-
(نَسَبُ الْحَضْرَمِيِّ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ الْحَضْرَمِيِّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمَادِ [2] (بْنِ أَكْبَرَ) [3] أَحَدُ الصَّدِفِ، وَاسْمُ الصَّدِفِ: عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ أَحَدُ السَّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ بْنِ كِنْدَى، وَيُقَالُ: كِنْدَةُ بْنُ ثَوْرِ بْنِ مُرَتِّعِ بْنِ عُفَيْرِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ أَدَدَ ابْن زَيْدِ بْنِ مِهْسَعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: مُرَتِّعُ ابْن مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ.
(شِعْرُ زَيْدٍ فِي عِتَابَ زَوْجَتِهِ عَلَى اتِّفَاقِهَا مَعَ الْخَطَّابِ فِي مُعَاكَسَتِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَجْمَعَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ لِيَضْرِبَ فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيِّ كَلَّمَا رَأَتْهُ قَدْ تَهَيَّأَ لِلْخُرُوجِ وَأَرَادَهُ آذَنَتْ بِهِ الْخَطَّابَ بْنَ نُفَيْلٍ، وَكَانَ الْخَطَّابُ ابْن نُفَيْلٍ عَمَّهُ [4] وَأَخَاهُ لِأُمِّهِ، وَكَانَ يُعَاتِبُهُ عَلَى فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ، وَكَانَ الْخَطَّابُ قَدْ وَكَّلَ صَفِيَّةَ بِهِ، وَقَالَ: إذَا رَأَيْتِيهِ قَدْ هَمَّ بِأَمْرٍ فَآذِنِينِي بِهِ- فَقَالَ زَيْدٌ:
لَا تحبسينى فِي الهوان ... صَفِيُّ مَا دَابِي وَدَابُهُ [5]
إنِّي إِذا خفت الهوان ... مُشَيَّعٌ ذُلُلَ رِكَابِهِ [6]
دعموص [7] أَبْوَاب الْمُلُوك ... وَجَائِبٌ لِلْخِرَقِ نَابَهُ [8]
__________
[1] السيب: الْعَطاء.
[2] فِي الْأُصُول: «عباد» . والتصويب عَن شرح السِّيرَة وَالرَّوْض والاستيعاب.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] وَذَلِكَ أَن أم زيد، وَهِي جيداء بنت خَالِد بن جَابر بن أَبى حبيب بن فهم، كَانَت عِنْد نفَيْل بن عبد الْعُزَّى، فَولدت لَهُ الْخطاب، أَبَا عمر بن الْخطاب، ثمَّ مَاتَ عَنْهَا نفَيْل، فَتَزَوجهَا ابْنه عَمْرو، فَولدت لَهُ زيدا، وَكَانَ هَذَا نِكَاحا ينكحه أهل الْجَاهِلِيَّة. (رَاجع الأغاني ج 3 ص 133 طبع دَار الْكتب) .
[5] الدأب: الْعَادة. وسهلت همزته للقافية.
[6] المشيع: الجريء الشجاع. والذلل: السهلة قد ارتاضت.
[7] الدعموص: دويبة تغوص فِي المَاء مرّة بعد مرّة، يشبه بهَا الرجل الّذي يكثر الولوج فِي الْأَشْيَاء يُرِيد: وَلَا جافى أَبْوَاب الْمُلُوك، وَأَنه يكثر الدُّخُول عَلَيْهِم.
[8] جائب: قَاطع، والخرق: الفلاة الواسعة.(1/229)
قطّاع أَسبَاب تذلّ ... بِغَيْرِ أَقْرَانٍ صِعَابُهْ [1]
وَإِنَّمَا أَخذ الهوان ... الْعِيرَ إذْ يُوهَى إهَابُهْ [2]
وَيَقُولُ إنِّي لَا أَذِّلُ ... بِصَكِّ جَنْبَيْهِ صِلَابُهْ [3]
وَأَخِي ابْنُ أمّى ثمَّ ... عمي لَا يُوَاتِينِي خِطَابُهُ [4]
وَإِذَا يُعَاتِبُنِي بِسُوء ... قُلْتُ أَعْيَانِي جَوَابُهُ
وَلَوْ أَشَاءَ لَقُلْتُ مَا ... عِنْدِي مَفَاتِحُهُ وَبَابُهُ
[5]
(شِعْرُ زَيْدٍ حِينَ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثَتْ (عَنْ) [6] بَعْضِ أَهْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: أَنَّ زَيْدًا كَانَ إذَا اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، قَالَ: لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا.
عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمْ ... مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَهُوَ قَائِمُ
إذْ قَالَ:
أَنْفِي لَكَ اللَّهمّ عَانٍ رَاغِمُ ... مَهْمَا تُجَشِّمُنِي فَإِنِّي جَاشِمُ
[7] الْبِرَّ أَبْغِي لَا الْخَالَ [8] ، لَيْسَ مُهَجِّرٌ كَمَنْ [9] قَالَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: الْبِرُّ أَبْقَى لَا الْخَالُ، لَيْسَ مُهَجِّرٌ كَمَنْ قَالَ. قَالَ وَقَوْلُهُ «مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ» عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ نُفَيْلٍ:
__________
[1] الأقران: جمع قرن، وَهُوَ الْحَبل.
[2] يوهى: يشق. وإهاب: جلد. وَفِي الْبَيْت خرم.
[3] أَي يَقُول العير ذَلِك بصك جَنْبَيْهِ، أَي صلاب مَا يوضع عَلَيْهِ. وأضافها إِلَى العير لِأَنَّهَا عبؤه وَحمله.
[4] لَا يواتينى: لَا يوافقني.
[5] فِي الْبَيْت خرم.
[6] زِيَادَة عَن أ. وَفِي السبرة على هَامِش الرَّوْض الْأنف وَحدث بعض.
[7] العاني: الْأَسير. وتجشمنى: تكلفني.
[8] الْخَال: الْخُيَلَاء وَالْكبر.
[9] المهجر: الّذي يسير فِي الهاجرة: أَي القائلة، وَقَالَ يقيل: إِذا نَام فِي القائلة: أَي لَيْسَ من هجر كمن آثر الرَّاحَة فِي القائلة وَالنَّوْم.(1/230)
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا
دَحَاهَا [1] فَلَمَّا رَآهَا اسْتَوَتْ ... عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا [2]
إذَا هِيَ سِيقَتْ إلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالًا
[3]
(الْخَطَّابُ وَوُقُوفُهُ فِي سَبِيلِ زَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، وَخُرُوجُ زَيْدٍ إلَى الشَّامِ وَمَوْتُهُ) :
وَكَانَ الْخَطَّابُ قَدْ آذَى زَيْدًا، حَتَّى أَخْرَجَهُ إلَى أَعَلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَ حِرَاءَ [4] مُقَابِلَ مَكَّةَ، وَوَكَّلَ بِهِ الْخَطَّابُ شَبَابًا مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ وَسُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَائِهَا، فَقَالَ لَهُمْ:
لَا تَتْرُكُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، فَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا سِرًّا مِنْهُمْ، فَإِذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ آذَنُوا بِهِ الْخَطَّابَ فَأَخْرَجُوهُ وَآذَوْهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَأَنْ يُتَابِعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِرَاقِهِ. فَقَالَ وَهُوَ يُعَظِّمُ حُرْمَتَهُ عَلَى مَنْ اسْتَحَلَّ مِنْهُ مَا اسْتَحَلَّ مِنْ قَوْمِهِ:
لَا هَمَّ إنِّي مُحْرِمٌ لَا حِلَّهْ [5] ... وَإِنَّ بَيْتِي أَوْسَطَ الْمَحِلَّهْ
عِنْدَ الصَّفَا لَيْسَ بِذِي مُضِلَّهُ
ثُمَّ خَرَجَ يَطْلُبُ دِينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَسْأَلُ الرُّهْبَانَ وَالْأَحْبَارَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ فَجَالَ الشَّامَ كُلَّهُ، حَتَّى انْتَهَى إلَى رَاهِبٍ بِمَيْفَعَةٍ [6] مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ [7] كَانَ يَنْتَهِي إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ، فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: إنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا أَنْتَ بِوَاجِدٍ مَنْ يَحْمِلُكَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، وَلَكِنْ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ مِنْ بِلَادِكَ الَّتِي خَرَجْتَ مِنْهَا، يُبْعَثُ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، فَالْحَقُّ بِهَا، فَإِنَّهُ مَبْعُوثٌ الْآنَ، هَذَا زَمَانُهُ. وَقَدْ كَانَ
__________
[1] دحاها: بسطها. وأرسى: أثبت عَلَيْهَا وثقلها بهَا.
[2] المزن: السَّحَاب، وَقيل الْأَبْيَض مِنْهَا.
[3] السجال: جمع سجل، وَهِي الدَّلْو المملوءة مَاء، فاستعارها لِكَثْرَة الْمَطَر.
[4] حراء (بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَالْمدّ) : جبل بَينه وَبَين مَكَّة نَحْو ثَلَاثَة أَمْيَال، على الْيَسَار الذَّاهِب إِلَى منى.
[5] محرم: سَاكن بِالْحرم. والحلة: أهل الْحل، يُقَال للْوَاحِد وَالْجمع: حلَّة.
[6] الْمِيفَعَة بِفَتْح الْمِيم: الأَرْض المرتفعة.
[7] البلقاء: كورة من أَعمال دمشق بَين الشَّام ووادي الْقرى قصبتها عمان وفيهَا قرى كَثِيرَة ومزارع وَاسِعَة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .(1/231)
شَامَّ [1] الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَلَمْ يَرْضَ شَيْئًا مِنْهُمَا، فَخَرَجَ سَرِيعًا، حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّاهِبُ مَا قَالَ، يُرِيدُ مَكَّةَ، حَتَّى إذَا تَوَسَّطَ بِلَادَ لَخْمٍ عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ.
فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسد يبكيه:
(رثاء ورقة لزيد) :
رَشَدْتَ وَأَنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وَإِنَّمَا [2] ... تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا مِنْ النَّارِ حَامِيَا
بِدِينِكَ رَبًّا لَيْسَ رَبٌّ كَمِثْلِهِ ... وَتَرْكُكَ أَوْثَانَ الطَّوَاغِي كَمَا هِيَا [3]
وَإِدْرَاكُكَ الدِّينَ الَّذِي قَدْ طَلَبْتَهُ ... وَلَمْ تَكُ عَنْ تَوْحِيدِ رَبِّكَ سَاهِيَا
فَأَصْبَحْتَ فِي دَارٍ كَرِيمٍ مُقَامُهَا ... تُعَلَّلُ فِيهَا بِالْكَرَامَةِ لَاهِيَا
تُلَاقِي خَلِيلَ اللَّهِ فِيهَا وَلَمْ تَكُنْ ... مِنْ النَّاسِ جَبَّارًا إلَى النَّارِ هَاوَيَا
وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيَا [4]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُرْوَى لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الْبَيْتَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْهَا، وَآخِرُهَا بَيْتًا فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَقَوْلُهُ: «أَوْثَانِ الطَّوَاغِي» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
صِفَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِنْجِيلِ
(تَبْشِيرٌ يَحْنُسَ الْحَوَارِيِّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ، فِيمَا بَلَغَنِي عَمَّا كَانَ وَضَعَ عِيسَى بن مَرْيَمَ فِيمَا جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ فِي الْإِنْجِيلِ لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا أَثَبَتَ يُحَنَّسُ الْحَوَارِيُّ لَهُمْ، حِينَ نَسَخَ لَهُمْ الْإِنْجِيلَ عَنْ عَهْدِ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
__________
[1] شام: استخبر، استعاره من الشم.
[2] أَنْعَمت: أَي بالغت فِي الرشد.
[3] الطواغي: جمع طاغية، وَهُوَ (هُنَا) : مَا عبد من دون الله.
[4] نصب «سبعين» على الْحَال، لِأَنَّهُ قد يكون صفة للنكرة، كَمَا قَالَ:
فَلَو كنت فِي جب ثَمَانِينَ قامة
وَمَا يكون صفة للنكرة يكون حَالا من الْمعرفَة وَهُوَ هُنَا حَال من «الْبعد» ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَو بَعدت تَحت الأَرْض سبعين، كَمَا تَقول: بعد طَويلا، أَي بعدا طَويلا، وَإِذا حذفت الْمصدر وأقمت الصّفة مقَامه لم تكن إِلَّا حَالا.(1/232)
فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ الرَّبَّ، وَلَوْلَا أَنِّي صَنَعْتُ بِحَضْرَتِهِمْ صَنَائِعَ لَمْ يَصْنَعْهَا أَحَدٌ قَبْلِي، مَا كَانَتْ لَهُمْ خَطِيئَةٌ، وَلَكِنْ مِنْ الْآنَ بَطِرُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَعِزُّونَنِي [1] ، وَأَيْضًا لِلرَّبِّ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الَّتِي فِي النَّامُوسِ: أَنَّهُمْ أَبْغَضُونِي مَجَّانًا [2] ، أَيْ بَاطِلًا. فَلَوْ قَدْ جَاءَ الْمُنْحَمَنَّا هَذَا الَّذِي يُرْسِلُهُ اللَّهُ إلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، (وَ) [3] رُوحُ الْقُدُسِ [4] ، هَذَا الَّذِي مِنْ عِنْدَ الرَّبِّ خَرَجَ، فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَيَّ وَأَنْتُمْ أَيْضًا، لِأَنَّكُمْ قَدِيمًا كُنْتُمْ مَعِي فِي هَذَا قُلْتُ لَكُمْ: لِكَيْمَا لَا تَشْكُوَا.
وَالْمُنْحَمَنَّا (بِالسُّرْيَانِيَّةِ) [3] : مُحَمَّدٌ: وَهُوَ بِالرُّومِيَّةِ: الْبَرْقَلِيطِسُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [5] : فَلَمَّا بَلَغَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعَثَهُ [6] اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا، وَكَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ قَبْلَهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالتَّصْدِيقِ لَهُ، وَالنَّصْرِ لَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا ذَلِكَ إلَى كُلِّ مَنْ آمَنْ بِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ، فَأَدَّوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَقِّ فِيهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ 3: 81، قَالَ:
__________
[1] يعزونني: يغلبوننى، يُقَال: عز الرجل الرجل: إِذا غَلبه.
[2] وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحِكْمَة: يَا بن آدم، علم مجَّانا، كَمَا علمت مجَّانا: أَي بِلَا ثمن.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والقدس: التَّطْهِير. وَفِي أ: «الْقسْط» . والقسط: الْعدْل.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام، قَالَ حَدثنَا زِيَاد ابْن عبد الله البكائي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق المطلبي قَالَ ... إِلَخ» .
[6] وَيُقَال إِن بَعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ، ويستدلون على ذَلِك بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبلَال: لَا يفتك صِيَام يَوْم الِاثْنَيْنِ، فإنّي قد ولدت فِيهِ، وَبعثت فِيهِ، وأموت فِيهِ. وَقيل غير ذَلِك (رَاجع شرح الْمَوَاهِب، وَالرَّوْض) .(1/233)
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي 3: 81: أَيْ ثِقَلَ مَا حَمَّلْتُكُمْ مِنْ عَهْدِي قالُوا أَقْرَرْنا، قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ 3: 81. فَأَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ جَمِيعًا بِالتَّصْدِيقِ لَهُ، وَالنَّصْرِ لَهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، وَأَدَّوْا ذَلِكَ إلَى مَنْ آمَنْ بِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ.
(أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّبُوَّةِ، حِينَ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ وَرَحْمَةَ الْعِبَادِ بِهِ، الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، لَا يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا فِي نُوُمِهِ إلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ. قَالَتْ: وَحَبَّبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ الْخَلْوَةَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ.
(تَسْلِيمُ الْحِجَارَةِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ ابْن جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ وَاعِيَةً [1] ، عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَرَامَتِهِ، وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتَّى تَحَسَّرَ [2] عَنْهُ الْبُيُوتُ وَيُفْضِي إلَى شِعَابِ [3] مَكَّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إلَّا قَالَ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ [4] . قَالَ: فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَهُ
__________
[1] وَاعِيَة: حَافِظًا، وَالتَّاء فِيهِ للْمُبَالَغَة.
[2] تحسر عَنهُ الْبيُوت: تبعد عَنهُ ويتخلى عَنْهَا.
[3] الشعاب: الْمَوَاضِع الْخفية بَين الْجبَال.
[4] قَالَ السهيليّ: «وَهَذَا التَّسْلِيم الْأَظْهر فِيهِ أَن يكون حَقِيقَة، وَأَن يكون الله أنطقه إنطاقا كَمَا خلق الحنين فِي الْجذع، وَلَكِن لَيْسَ من شَرط الْكَلَام الّذي هُوَ صَوت وحرف، الْحَيَاة وَالْعلم والإرادة، لِأَنَّهُ صَوت كَسَائِر الْأَصْوَات، وَالصَّوْت عرض فِي قَول الْأَكْثَرين، وَلم يُخَالف فِيهِ إِلَّا النظام، فَإِنَّهُ زعم أَنه جسم، وَجعله الْأَشْعَرِيّ اصطكاكا فِي الْجَوَاهِر بَعْضهَا لبَعض. وَقَالَ أَبُو بكر: لَيْسَ الصَّوْت نفس الاصطكاك، وَلكنه معنى زَائِد عَلَيْهِ..» إِلَى أَن قَالَ: وَلَو قدرت الْكَلَام صفة قَائِمَة بِنَفس الْحجر وَالشَّجر وَالصَّوْت عبارَة عَنهُ، لم يكن بُد من اشْتِرَاط الْحَيَاة وَالْعلم مَعَ الْكَلَام، وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ: أَكَانَ كلَاما مَقْرُونا بحياة وَعلم، فَيكون الْحجر بِهِ مُؤمنا، أَو كَانَ صَوتا مُجَردا غير مقترن بحياة، وَفِي(1/234)
وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَخَلْفِهِ، فَلَا يَرَى إلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ. فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
(ابْتِدَاءُ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ [1] ، مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ. قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللَّيْثَيَّ: حَدِّثْنَا يَا عُبَيْدُ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّبُوَّةِ، حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ قَالَ: فَقَالَ: عُبَيْدٌ- وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ ابْن الزُّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ النَّاسِ-: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ [2] فِي حِرَاءٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَحَنَّثَ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّة. والتحنث التبرّر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
(بَحْثٌ لُغَوِيٌّ لِابْنِ هِشَامٍ فِي مَعْنَى التَّحَنُّثِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ: التَّحَنُّثُ وَالتَّحَنُّفُ، يُرِيدُونَ الْحَنَفِيَّةَ فَيُبْدِلُونَ الْفَاءَ [3] مِنْ الثَّاءِ، كَمَا قَالُوا: جَدَثَ، وَجَدَفَ، يُرِيدُونَ الْقَبْرَ. قَالَ رُؤْبَةُ ابْن الْعَجَّاجِ:
__________
[ () ] كلا الْوَجْهَيْنِ هُوَ علم من أَعْلَام النُّبُوَّة ... وَقد يحْتَمل تَسْلِيم الْحِجَارَة أَن يكون مُضَافا فِي الْحَقِيقَة إِلَى مَلَائِكَة يسكنون تِلْكَ الْأَمَاكِن ويعمرونها، فَيكون مجَازًا من بَاب قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ 12: 82.
[1] هُوَ وهب بن كيسَان الْقرشِي مولى آل الزبير أَبُو نعيم الْمدنِي الْمعلم المكيّ. روى عَن أَسمَاء بنت أَبى بكر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَغَيرهم. وَعنهُ هِشَام بن عُرْوَة وَأَيوب وَعبد الله بن عمر وَغَيرهم. توفى سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة، وَقيل سنة تسع (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .
[2] يجاور: يعْتَكف.
[3] وَفِي الرَّد على ابْن هِشَام. قَالَ أَبُو ذَر: « ... والجيد فِيهِ أَن يكون فِيهِ التحنث هُوَ الْخُرُوج من الْحِنْث: أَي الْإِثْم، كَمَا يكون التأثم، الْخُرُوج عَن الْإِثْم، لِأَن تفعل قد تسْتَعْمل فِي الْخُرُوج من الشَّيْء، وَفِي الانسلاخ عَنهُ، وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْإِبْدَال الّذي ذكره ابْن هِشَام» .(1/235)
لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ [1]
يُرِيدُ: الْأَجْدَاثَ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. وَبَيْتُ أَبِي طَالِبٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فَمَّ، فِي مَوْضِعِ ثُمَّ، يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثَّاءِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ: قَالَ عُبَيْدٌ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشَّهْرَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ، إذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ، الْكَعْبَةَ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ، حَتَّى إذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ، مِنْ السّنة الَّتِي بَعثه اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا، وَذَلِكَ الشَّهْرُ (شَهْرُ) [2] رَمَضَانَ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حِرَاءٍ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ، حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ، وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهَا، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ، وَأَنَا نَائِمٌ، بِنَمَطٍ [3] مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ [4] ، فَقَالَ اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ [5] ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي [6] بِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي بِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي بِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ
__________
[1] فِي هَذَا الشّعْر شَاهد ورد على ابْن جنى حَيْثُ زعم أَن «جدف» بِالْفَاءِ لَا يجمع على أجداف (رَاجع الرَّوْض وَانْظُر ديوَان رؤبة طبعة ليبسج ص 100 وَفِيه أَحْجَار) .
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] النمط: وعَاء كالسفط.
[4] قَالَ بعض الْمُفَسّرين: فِي قَوْله تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ 2: 1- 2 إِنَّهَا إِشَارَة إِلَى الْكتاب الّذي جَاءَ بِهِ جِبْرِيل حِين قَالَ لَهُ: اقْرَأ. (رَاجع الرَّوْض) .
[5] كَذَا فِي الْأُصُول والطبري وَفِي شرح الْمَوَاهِب: «مَا أَنا بقارئ» . يُرِيد أَن حكمي كَسَائِر النَّاس من أَن حُصُول الْقِرَاءَة إِنَّمَا هُوَ بالتعلم، وَعدمهَا بِعَدَمِهِ.
[6] كَذَا فِي الْأُصُول والطبري. والغت: حبس النَّفس. وَفِي الْمَوَاهِب: «فغطني» . وَهِي بِمَعْنى غت.(1/236)
الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي [1] ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إلَّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.
عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 96: 1- 5. قَالَ: فَقَرَأْتهَا ثُمَّ انْتَهَى فَانْصَرَفَ عَنِّي وَهَبَبْتُ مِنْ [2] نَوْمِي، فَكَأَنَّمَا كَتَبْتُ فِي قَلْبِي كِتَابًا. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ، قَالَ:
فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلَى السَّمَاءِ أَنْظُرُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ. قَالَ: فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، قَالَ:
فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكَّةَ وَرَجَعُوا إلَيْهَا وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي.
(رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ عَلَى خَدِيجَةَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ مَعَهُ) :
وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إلَى أَهْلِي حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَجَلَسْتُ إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا [3] إلَيْهَا:
فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَيْن كنت؟ فو الله لَقَدْ بَعَثَتْ رُسُلِي فِي طَلَبكَ حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ
__________
[1] لَعَلَّ الْحِكْمَة فِي تَكْرِير: «اقْرَأْ 17: 14» الْإِشَارَة إِلَى انحصار الْإِيمَان الّذي ينشأ عَنهُ الْوَحْي بِسَبَبِهِ فِي ثَلَاث:
القَوْل، وَالْعَمَل، وَالنِّيَّة، وَأَن الْوَحْي يشْتَمل على ثَلَاث: التَّوْحِيد. وَالْأَحْكَام. والقصص. (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[2] قَالَ السهيليّ: «قَالَ فِي الحَدِيث: فأتانى وَأَنا نَائِم، وَقَالَ فِي آخِره: فهببت من نومي، فَكَأَنَّمَا كتبت فِي قلبِي كتابا. وَلَيْسَ ذكر النّوم فِي حَدِيث عَائِشَة وَلَا غَيرهَا، بل فِي حَدِيث عُرْوَة مَا يدل ظَاهره على أَن نزُول جِبْرِيل حِين نزل بِسُورَة «اقْرَأ» كَانَ فِي الْيَقَظَة، لِأَنَّهَا قَالَت فِي أول الحَدِيث: أول مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصادقة، كَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح، ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء ... إِلَى قَوْلهَا: حَتَّى جَاءَهُ الْحق، وَهُوَ بِغَار حراء، فَجَاءَهُ جِبْرِيل. فَذكرت فِي هَذَا الحَدِيث أَن الرُّؤْيَا كَانَت قبل نزُول جِبْرِيل على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْقُرْآنِ، وَقد يُمكن الْجمع بَين الْحَدِيثين بِأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جِبْرِيل فِي الْمَنَام قبل أَن يَأْتِيهِ فِي الْيَقَظَة، تَوْطِئَة وتيسيرا عَلَيْهِ، ورفقا بِهِ، لِأَن أَمر النُّبُوَّة عَظِيم، وعبئها ثقيل، والبشر ضَعِيف» .
[3] مضيفا: ملتصقا، يُقَال: أضفت إِلَى الرجل، إِذا ملت نَحوه ولصقت بِهِ، وَمِنْه سمى الضَّيْف ضيفا.(1/237)
وَرَجَعُوا لِي، ثُمَّ حَدَّثْتهَا بِاَلَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يَا بن عمّ واثبت، فو الّذي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
(خَدِيجَةُ بَيْنَ يَدَيْ وَرَقَةَ تُحَدِّثُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ، فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ [1] ، وَاَلَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ [2] الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَقُولِي لَهُ: فَلْيَثْبُتْ. فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ، صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ: يَا بن أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى وَلَتُكَذَّبَنَّهُ وَلَتُؤْذَيَنَّهُ وَلَتُخْرَجَنَّهُ وَلَتُقَاتَلَنَّهُ [3] ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ، فَقَبَّلَ يَافُوخَهُ [4] ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلِهِ.
(امْتِحَانُ خَدِيجَةَ بُرْهَانَ الْوَحْيِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ [5] مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ حُدِّثَ
__________
[1] قدوس قدوس: أَي طَاهِر طَاهِر، وَأَصله من التَّقْدِيس، وَهُوَ التَّطْهِير.
[2] الناموس (فِي الأَصْل) : صَاحب سر الرجل فِي خَيره وشره، فَعبر عَن الْملك الّذي جَاءَهُ بِالْوَحْي بِهِ.
[3] الْهَاء فِي هَذِه الْأَفْعَال للسكت.
[4] اليافوخ: وسط الرَّأْس.
[5] هُوَ إِسْمَاعِيل بن أَبى حَكِيم الْقرشِي. روى عَن سعيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَعبيدَة بن شعْبَان الحضرميّ وَغَيرهم، وَعنهُ مَالك وَابْن إِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَأَبُو الْأسود وَغَيرهم. وَكَانَ عَاملا لعمر بن عبد الْعَزِيز. وَتوفى سنة 130. (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .(1/238)
عَنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ ابْنَ عَمِّ، أَتَسْتَطِيعُ أَنَّ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إذَا جَاءَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ. فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَدِيجَةَ: يَا خَدِيجَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي، قَالَتْ: قُمْ يَا بن عَمِّ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى، قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَتُحَوَّلْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى، قَالَتْ: فَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ عَلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى، فَقَالَتْ:
هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي، قَالَتْ: فَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
فَتَحَسَّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَتْ يَا بن عَمِّ، اثْبتْ وأبشر، فو الله إنَّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانٍ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثْتُ عَبْدَ اللَّهِ [1] بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنٍ تُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ خَدِيجَةَ، إلَّا أَنِّي سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا، فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هَذَا لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ.
ابْتِدَاءُ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَابْتُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّنْزِيلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ 2: 185
__________
[1] هُوَ عبد الله بن حسن بن حسن بن على بن أَبى طَالب، وَأمه فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن أُخْت سكينَة، وَاسْمهَا آمِنَة، وسكينة لقب لَهَا، الَّتِي كَانَت ذَات دعابة ومزح. وَفِي سكينَة وَأمّهَا الربَاب يَقُول الْحُسَيْن ابْن على:
كَأَن اللَّيْل مَوْصُول بلَيْل ... إِذا زارت سكينَة والرباب
(أَي زارت قَومهَا، وهم بَنو عليم بن جناب بن كلب) وَعبد الله بن حسن هُوَ وَالِد الطالبيين القائمين على بنى الْعَبَّاس، وهم: مُحَمَّد وَيحيى وَإِدْرِيس. مَاتَ إِدْرِيس فِي إفريقية فَارًّا من الرشيد. (رَاجع الرَّوْض) .(1/239)
هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ 2: 185. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ 97: 1- 5. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ 44: 1- 5. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ 8: 41. وَذَلِكَ مُلْتَقَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ بِبَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَامَّ الْوَحْيُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ مُؤْمِنٌ باللَّه مُصَّدِّقٌ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، قَدْ قَبِلَهُ بِقَبُولِهِ، وَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا حَمَلَهُ عَلَى رِضَا الْعِبَادِ وَسَخَطِهِمْ، وَالنُّبُوَّةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ، لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَطِيعُ بِهَا إلَّا أهل القوّة والعرم مِنْ الرُّسُلِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ، لَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ النَّاسِ وَمَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا جَاءُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى.
قَالَ: فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْأَذَى.
إسْلَامُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ
وَآمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ، وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنْ باللَّه وَبِرَسُولِهِ، وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ. فَخَفَّفَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمَّا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدٍّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ، فَيُحْزِنُهُ ذَلِكَ، إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا إذَا رَجَعَ إلَيْهَا، تُثَبِّتُهُ وَتُخَفِّفُ عَلَيْهِ، وَتُصَدِّقُهُ وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النَّاسِ، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.(1/240)
(تَبْشِيرُ الرَّسُولِ لِخَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ [1] .
قَالَ ابْنُ هِشَام: الْقصب (هَاهُنَا) [2] : اللُّؤْلُؤُ الْمُجَوَّفُ.
(جِبْرِيلُ يُقْرِئ خَدِيجَةَ السَّلَامَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أُقْرِئْ خَدِيجَةَ السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَدِيجَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ مِنْ رَبِّكَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ:
اللَّهُ السَّلَامُ، وَمِنْهُ السَّلَامُ، وَعَلَى جِبْرِيلِ السَّلَامُ.
(فَتْرَةُ الْوَحْيِ وَنُزُولُ سُورَةِ الضُّحَى) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْرَةً مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَحْزَنَهُ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الضُّحَى، يُقْسِمُ لَهُ رَبُّهُ، وَهُوَ الَّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ، مَا وَدَّعَهُ وَمَا قَلَاهُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى 93: 1- 3. يَقُولُ: مَا صَرَمَكَ فَتَرَكَكَ، وَمَا أَبْغَضَكَ مُنْذُ أَحَبَّكَ. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى 93: 4: أَيْ لِمَا عِنْدِي مِنْ مَرْجِعِكَ إلَيَّ، خَيْرٌ لَكَ مِمَّا عَجَّلْتَ لَكَ مِنْ الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى 93: 5 مِنْ الْفُلْجِ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى 93: 6- 8 يُعَرِّفُهُ اللَّهُ مَا ابْتَدَأَهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ، وَمَنِّهِ عَلَيْهِ فِي يُتْمِهِ وَعَيْلَتِهِ وَضَلَالَتِهِ، وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِرَحْمَتِهِ.
__________
[1] هَذَا حَدِيث مُرْسل، وَقد رَوَاهُ مُسلم مُتَّصِلا عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، «قَالَت:
مَا غرت على أحد، مَا غرت على خَدِيجَة، وَلَقَد هَلَكت قبل أَن يَتَزَوَّجنِي رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاث سِنِين، وَلَقَد أَمر أَن يبشرها بِبَيْت من قصب فِي الْجنَّة» . (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] زِيَادَة عَن أ.
16- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/241)
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِمُفْرَدَاتِ سُورَةِ الضُّحَى) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَجَى: سُكْنٌ. قَالَ أُمِّيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ:
إذْ أَتَى مَوْهِنَا وَقَدْ نَامَ صَحْبِي ... وَسَجَا اللَّيْلُ بِالظَّلَامِ الْبَهِيمِ [1]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ إذَا سَكَنَ طَرَفُهَا: سَاجِيَةٌ، وَسَجَا طَرَفُهَا.
قَالَ جَرِيرُ (بْنُ الْخَطَفَى) [2] :
وَلَقَدْ رَمَيْنَكَ حِينَ رُحْنَ بِأَعْيُنٍ ... يَقْتُلْنَ مِنْ خَلَلِ السُّتُورِ سُوَاجِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْعَائِلُ: الْفَقِيرُ. قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ:
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضَّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدَّرِيسَيْنِ عَائِلُ [3]
وَجَمْعُهُ: عَالَةٌ وَعَيْلٌ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْعَائِلُ (أَيْضًا) [2] : الَّذِي يَعُولُ الْعِيَالَ. وَالْعَائِلُ (أَيْضًا) [2] : الْخَائِفُ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا 4: 3. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسُّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلٍ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهَا. وَالْعَائِلُ (أَيْضًا) [2] :
الشَّيْء المثقل المعيى. يَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ عَالَنِي هَذَا الْأَمْرُ: أَيْ أَثْقَلَنِي وَأَعْيَانِي.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ [4] :
__________
[1] الموهن: سَاعَة من اللَّيْل. والبهيم: الشَّديد السوَاد لَيْسَ فِيهِ ضِيَاء.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] الضريك: الْفَقِير والضعيف الْمُضْطَر. والمستنبح: الّذي يضل عَن الطَّرِيق فِي ظلمَة اللَّيْل، فينبح نباح الْكلاب لتسمعه الْكلاب فتجاوبه، فَيعلم مَوضِع الْبيُوت فيقصدها. والدريس: الثَّوْب الْخلق، وثناه لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِزَار والرداء، وَهُوَ أقل مَا يكون للرجل من اللبَاس.
[4] يمدح الفرزدق بِهَذَا الشّعْر سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة، وَكَانَ حِينَئِذٍ أَمِير الْمَدِينَة من قبل مُعَاوِيَة رَحمَه الله، وَكَانَ يوليه مُعَاوِيَة سنة، ويولى مَرْوَان سنة أُخْرَى، فَأَنْشد الفرزدق سعيد بن الْعَاصِ بِحَضْرَة مَرْوَان هَذِه القصيدة، وفيهَا:
قيَاما ينظرُونَ إِلَى سعيد ... كَأَنَّهُمْ يرَوْنَ بِهِ الهلالا
فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: بل قعُودا ينظرُونَ، فَقَالَ: لَا أَقُول إِلَّا قيَاما، وَإنَّك يَا أَبَا عبد الْملك لصافن من بَينهم (صفن الْفرس: إِذا وقف على ثَلَاث قَوَائِم وَرفع وَاحِدَة. وصفن الرجل أَيْضا: إِذا رفع إِحْدَى قَدَمَيْهِ ووقف على الْأُخْرَى) . (رَاجع الرَّوْض، وَشرح السِّيرَة لأبى ذَر الخشنيّ، والأغاني) .(1/242)
تَرَى الْغُرَّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إذَا مَا الْأَمْرُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا [1]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ 93: 9- 10: أَيْ لَا تَكُنْ جَبَّارًا وَلَا مُتَكَبِّرًا، وَلَا فَحَّاشًا فَظًّا عَلَى الضُّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 93: 11: أَيْ بِمَا جَاءَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ مِنْ النُّبُوَّةِ فَحَدِّثْ، أَيْ اُذْكُرْهَا وَادْعُ إلَيْهَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ بِهِ مِنْ النُّبُوَّةِ سِرًّا إلَى مَنْ يَطْمَئِنُّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ.
ابْتِدَاءُ فَرْضِ الصَّلَاةِ [2]
وَافْتُرِضَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
(اُفْتُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَتْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اُفْتُرِضَتْ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، كُلَّ صَلَاةٍ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَتَمَّهَا فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَأَقَرَّهَا فِي السَّفَرِ عَلَى فَرْضِهَا الْأَوَّلِ رَكْعَتَيْنِ [3] .
__________
[1] الغر: المشهورون. وَأَصله الْبيض، وَهُوَ جمع أغر. والجحاجح: السَّادة، واحدهم:
جحجاح. وَكَانَ الْوَجْه أَن يُقَال الجحاجيح (بِالْيَاءِ) فحذفها لإِقَامَة وزن الشّعْر. والحدثان: حوادث الدَّهْر.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ابْتِدَاء مَا افْترض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصَّلَاة وأوقاتها» .
[3] قَالَ السهيليّ: «وَذكر الْمُزنِيّ أَن الصَّلَاة قبل الْإِسْرَاء كَانَت صَلَاة قبل غرُوب الشَّمْس، وَصَلَاة قبل طُلُوعهَا، وَيشْهد لهَذَا القَوْل قَوْله سُبْحَانَهُ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ 40: 55. وَقَالَ يحيى ابْن سَلام مثله، وَقَالَ: كَانَ الْإِسْرَاء وَفرض الصَّلَوَات الْخمس قبل الْهِجْرَة بعام، فعلى هَذَا يحْتَمل قَول عَائِشَة: «فزيد فِي صَلَاة الْحَضَر» . أَي زيد فِيهَا حِين أكملت خمْسا، فَتكون الزِّيَادَة فِي الرَّكْعَات وَفِي عدد الصَّلَوَات، وَيكون قَوْلهَا: «فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ» : أَي قبل الْإِسْرَاء، وَقد قَالَ بِهَذَا طَائِفَة من السّلف، مِنْهُم ابْن عَبَّاس. وَيجوز أَن يكون معنى قَوْلهَا: «فرضت الصَّلَاة» : أَي لَيْلَة الْإِسْرَاء، حِين فرضت الْخمس فرضت رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ زيد فِي صَلَاة الْحَضَر بعد ذَلِك، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ عَن بعض رُوَاة هَذَا الحَدِيث(1/243)
(تَعْلِيمُ جِبْرِيلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الصَّلَاةَ حِينَ اُفْتُرِضَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ عَيْنٌ، فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَأَى جِبْرِيلَ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِهِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ انْصَرف جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
(تَعْلِيمُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ) :
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ، فَتَوَضَّأَ لَهَا لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ فَتَوَضَّأَتْ كَمَا تَوَضَّأَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ صَلَّى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا صَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلَّتْ بِصَلَاتِهِ [1] .
__________
[ () ] عَن عَائِشَة. وَمِمَّنْ رَوَاهُ هَكَذَا الْحسن وَالشعْبِيّ أَن الزِّيَادَة فِي صَلَاة الْحَضَر كَانَت بعد الْهِجْرَة بعام أَو نَحوه، وَقد ذكره أَبُو عمر، وَقد ذكره البُخَارِيّ من رِوَايَة معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: «فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ هَاجر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة، فَفرضت أَرْبعا» . هَكَذَا لفظ حَدِيثه. وَهَاهُنَا سُؤال، يُقَال: أهذه الزِّيَادَة فِي الصَّلَاة نسخ أم لَا؟ فَيُقَال: أما زِيَادَة رَكْعَتَيْنِ أَو رَكْعَة إِلَى مَا قبلهَا من الرُّكُوع حَتَّى تكون صَلَاة وَاحِدَة فنسخ، لِأَن النّسخ رفع الحكم، وَقد ارْتَفع حكم الْإِجْزَاء من الرَّكْعَتَيْنِ، وَصَارَ من سلم مِنْهُمَا عَامِدًا أفسدهما، وَإِن أَرَادَ أَن يتم صلَاته بعد مَا سلم، وتحدث عَامِدًا لم يجزه، إِلَّا أَن يسْتَأْنف الصَّلَاة من أَولهَا. فقد ارْتَفع حكم الْإِجْزَاء بالنسخ. وَأما الزِّيَادَة فِي عدد الصَّلَوَات حِين أكملت خمْسا بعد مَا كَانَت اثْنَتَيْنِ، فيسمى نسخا على مَذْهَب أَبى حنيفَة، فان الزِّيَادَة عِنْده على النَّص نسخ، وَجُمْهُور الْمُتَكَلِّمين على أَنه لَيْسَ بنسخ، ولاحتجاج الْفَرِيقَيْنِ مَوضِع غير هَذَا» .
[1] قَالَ السهيليّ: «هَذَا الحَدِيث مَقْطُوع فِي السِّيرَة، وَمثله لَا يكون أصلا فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، وَلكنه قد روى مُسْندًا إِلَى زيد بن حَارِثَة يرفعهُ. غير أَن هَذَا الحَدِيث الْمسند يَدُور على عبد الله بن لَهِيعَة، وَقد ضعف وَلم يخرج عَنهُ مُسلم، وَلَا البُخَارِيّ، لِأَنَّهُ يُقَال إِن كتبه احترقت، فَكَانَ يحدث من حفظه. وَكَانَ مَالك ابْن أنس يحسن فِيهِ القَوْل. وَيُقَال: إِنَّه الّذي روى عَنهُ حَدِيث بيع العربان فِي الْمُوَطَّأ: مَالك عَن الثِّقَة عِنْده، عَن عَمْرو بن شُعَيْب. فَيُقَال: إِن الثِّقَة هَاهُنَا ابْن لَهِيعَة. وَيُقَال: إِن ابْن وهب حدث بِهِ عَن ابْن لَهِيعَة، وَحَدِيث ابْن لَهِيعَة هَذَا أخبرنَا بِهِ أَبُو بكر الْحَافِظ مُحَمَّد بن العربيّ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو المطهر سعد بن عبد الله ابْن أَبى الرَّجَاء، عَن أَبى نعيم الْحَافِظ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن يُوسُف الْعَطَّار، قَالَ: حَدثنَا ابْن(1/244)
(تَعْيِينُ جِبْرِيلَ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَكَانَ نَافِعُ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اُفْتُرِضَتْ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ حِينَ مَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ مِنْ غَدٍ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلِيَّهُ، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، ثُمَّ صَلَّى بِهِ الصُّبْحَ مُسْفِرًا غَيْرَ مُشْرِقٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، الصَّلَاةُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاتِكَ الْيَوْمَ وَصَلَاتِكَ بِالْأَمْسِ [1]
ذِكْرُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ ذَكَرٍ أَسْلَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ مِنْ النَّاسِ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى مَعَهُ وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْن هَاشِمٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ.
(نَشَأَتْهُ فِي حِجْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبَبُ ذَلِكَ) :
وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ (بِهِ) عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ
__________
[ () ] أَبى أُسَامَة، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن مُوسَى، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن عقيل بن خَالِد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة عَن أُسَامَة بن زيد، قَالَ: حَدثنِي زيد بن حَارِثَة: أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول مَا أوحى إِلَيْهِ، أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَعلمه الْوضُوء، فَلَمَّا فرغ من الْوضُوء أَخذ غرفَة من مَاء، فنضح بهَا فرجه. وَحدثنَا بِهِ أَيْضا أَبُو بكر مُحَمَّد بن طَاهِر، عَن أَبى على الغساني، عَن أَبى عمر النمري، عَن أَحْمد بن قَاسم، عَن قَاسم ابْن أصبغ، عَن الْحَارِث بن أَبى أُسَامَة بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم.
فالوضوء على هَذَا الحَدِيث مكي بِالْفَرْضِ، مدنِي بالتلاوة، لِأَن آيَة الْوضُوء مَدَنِيَّة.
[1] قَالَ السهيليّ: «وَهَذَا الحَدِيث لم يكن يَنْبَغِي أَن يذكرهُ فِي هَذَا الْموضع، لِأَن أهل الصَّحِيح متفقون على أَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت فِي الْغَد من لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَذَلِكَ بعد مَا نبئ بِخَمْسَة أَعْوَام. وَقد قيل: إِن الْإِسْرَاء كَانَ قبل الْهِجْرَة بعام وَنصف، وَقيل بعام، فَذكره ابْن إِسْحَاق فِي بَدْء نزُول الْوَحْي، وَأول أَحْوَال الصَّلَاة» .(1/245)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهَدِ بْنِ جَبْرٍ [1] أَبِي الْحَجَّاجِ، قَالَ: كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُ، وَأَرَادَهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ، أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ، وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ، يَا عَبَّاسُ: إنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزْمَةِ [2] ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَيْهِ، فَلْنُخَفِّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلًا، وَتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلًا، فَنَكِلُهُمَا عَنْهُ [3] ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ، فَقَالَا لَهُ: إنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْكَ مِنْ عِيَالِكَ حَتَّى يَنْكَشِفَ عَنْ النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ: إذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلًا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَقِيلًا وَطَالِبًا [4] .
فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا، فَضَمَّهُ إلَيْهِ، وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا فَضَمَّهُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبَّاسِ حَتَّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ.
(خُرُوجُ عَلِيٍّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ يُصَلِّيَانِ، وَوُقُوفُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَمْرِهِمَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ، فَيُصَلِّيَانِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا،
__________
[1] كَذَا فِي أوتهذيب التَّهْذِيب. وَهُوَ مُجَاهِد بن جبر المكيّ أَبُو الْحجَّاج المَخْزُومِي الْمقري مولى السَّائِب ابْن أَبى السَّائِب. روى عَن على وَسعد بن أَبى وَقاص والعبادلة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَعنهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَغَيرهم. وَكَانَ مولده سنة إِحْدَى وَعشْرين فِي خلَافَة عمر، وَمَات سنة أَربع وَمِائَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «.... جبر بن أَبى الْحجَّاج» . وَكلمَة «ابْن» مقحمة.
[2] الأزمة: الشدَّة، وَأَرَادَ بهَا سنة الْقَحْط والجوع.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول «فنكفهما» .
[4] وَكَانَ من ولد أَبى طَالب غير هَؤُلَاءِ جَعْفَر. وَكَانَ على أَصْغَر من جَعْفَر بِعشر سِنِين، وجعفر أَصْغَر من عقيل بِعشر سِنِين، وَعقيل أَصْغَر من طَالب بِعشر سِنِين. وَكلهمْ أسلم إِلَّا طَالبا.(1/246)
فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا. فَمَكَثَا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَا. ثُمَّ إنَّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يَوْمًا وَهُمَا يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بن أَخِي! مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَرَاكَ تَدِينُ بِهِ؟ قَالَ: أَيْ عَمِّ، هَذَا دِينُ اللَّهِ، وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ، وَدِينُ رُسُلِهِ، وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ- أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ أَيْ عَمِّ، أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ، وَدَعَوْتُهُ إلَى الْهُدَى، وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَيْ ابْنَ أَخِي، إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ وَاَللَّهِ لَا يَخْلُصُ [1] إلَيْكَ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيتُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: أَيْ بُنَيَّ، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ:
يَا أَبَتِ، آمَنْتُ باللَّه وَبِرَسُولِ اللَّهِ، وَصَدَّقْتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ للَّه وَاتَّبَعْتُهُ. فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا إنَّهُ لَمْ يَدْعُكَ إلَّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ.
إسْلَامُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ثَانِيًا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْن امْرِئِ الْقِيسِ الْكَلْبِيُّ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ، وَصَلَّى بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
(نَسَبُهُ وَسَبَبُ تَبَنِّي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ عَوْفِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ ابْن عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللَّاتِ [2] بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ.
وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ بِرَقِيقٍ [3] ، فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَصِيفٌ
__________
[1] لَا يخلص إِلَيْك: لَا يُوصل إِلَيْك.
[2] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الله» .
[3] وَذَلِكَ أَن أم زيد، وَهِي سعدى بنت ثَعْلَبَة، من بنى معن من طيِّئ، كَانَت قد خرجت بزيد لتزيره أَهلهَا، فأصابته خيل من بنى الْقَيْن بن جسر، فباعوه بسوق حُبَاشَة، وَهِي من أسواق الْعَرَب، وَزيد يَوْمئِذٍ ابْن ثَمَانِيَة أَعْوَام.(1/247)
فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا: اخْتَارِي يَا عَمَّةُ أَيَّ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ شِئْتِ فَهُوَ لَكَ، فَاخْتَارَتْ زَيْدًا فَأَخَذَتْهُ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا، فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهَا، فَوَهَبَتْهُ لَهُ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَنَّاهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ.
(شِعْرُ حَارِثَةَ حِينَ فَقَدْ ابْنَهُ زَيْدًا، وَقُدُومُهُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ) :
وَكَانَ أَبُوهُ حَارِثَةُ قَدْ جَزِعَ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا، وَبَكَى عَلَيْهِ حِينَ فَقَدَهُ، فَقَالَ:
بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ ... أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دونه الْأَجَل
فو الله مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ ... أَغَالَكَ بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَكَ الْجَبَلْ [1]
وَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَكَ الدَّهْرُ أَوْبَةٌ ... فَحَسْبِي مِنْ الدُّنْيَا رُجُوعُكَ لِي بَجَلْ [2]
تُذَكِّرْنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... وَتَعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا أَفَلْ [3]
وَإِنْ هَبَّتْ الْأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ [4]
سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا ... وَلَا أُسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ [5]
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي ... فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الْأَمَلُ [6]
ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ شِئْتَ فَأَقِمْ عِنْدِي، وَإِنْ شِئْتَ فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيكَ، فَقَالَ: بَلْ أُقِيمُ عِنْدَكَ. فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ فَصَدَّقَهُ [7] وَأَسْلَمَ،
__________
[1] غال: أهلك.
[2] بجل. بِمَعْنى حسب.
[3] الأفول: غياب الشَّمْس. وَنسب الأفول إِلَى الْغُرُوب اتساعا ومجازا.
[4] الْأَرْوَاح: جمع ريح، جمعه على الأَصْل، لِأَن الأَصْل فِيهِ الْوَاو. والوجل: الْخَوْف
[5] النَّص: أرفع السّير.
[6] وَزَاد السهيليّ بعد هَذَا الْبَيْت:
سأوصى بِهِ قيسا وعمرا كليهمَا ... وَأوصى يزيدا ثمَّ أوصى بِهِ جبل
(يعْنى بِيَزِيد: كَعْبًا، وَهُوَ ابْن عَم زيد وَأَخُوهُ، ويعنى بجبل: جبلة بن حَارِثَة أَخا زيد، وَكَانَ أسن مِنْهُ)
[7] وَيُقَال إِنَّه لما بلغ زيدا قَول أَبِيه قَالَ:
أحن إِلَى أَهلِي وَإِن كنت نَائِيا ... بأنى قعيد الْبَيْت عِنْد المشاعر(1/248)
وَصَلَّى مَعَهُ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ 33: 5. قَالَ: أَنَا زَيْدُ ابْن حَارِثَةَ.
إسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَشَأْنُهُ
(نَسَبُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَاسْمُهُ عَتِيقٌ، وَاسْمُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي بَكْرٍ: عَبْدُ اللَّهِ، وَعَتِيقٌ: لَقَبٌ لِحَسَنٍ وَجْهُهُ وَعِتْقُهُ [1]
(إِسْلَامُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرَ إسْلَامَهُ، وَدَعَا إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ.
__________
[ () ]
فكفوا من الوجد الّذي قد شجاكم ... وَلَا تعملوا فِي الأَرْض نَص الأباعر
فإنّي بِحَمْد الله فِي خير أسرة ... كرام معد كَابِرًا بعد كَابر
فَبلغ أَبَاهُ، فجَاء هُوَ وَعَمه كَعْب، حَتَّى وَقفا على رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة، وَذَلِكَ قبل الْإِسْلَام، فَقَالَا لَهُ: يَا بن عبد الْمطلب: يَا بن سيد قومه، أَنْتُم جيران الله، وتفكون العاني، وتطعمون الجائع، وَقد جئْتُك فِي ابننا عَبدك، فتحسن إِلَيْنَا فِي فدائه، فَقَالَ: أوغير ذَلِك؟ فَقَالَا: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَدْعُوهُ، وأخيره، فَإِن اختاركما فَذَاك، وَإِن اختارني فو الله مَا أَنا بِالَّذِي أخْتَار على من اختارني أحدا، فَقَالَا لَهُ:
قد زِدْت على النّصْف، فَدَعَاهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: من هَذَانِ؟ فَقَالَ: هَذَا أَبى حَارِثَة بن شرَاحِيل، وَهَذَا عمى كَعْب بن شرَاحِيل، فَقَالَ: قد خيرتك: إِن شِئْت ذهبت مَعَهُمَا، وَإِن شِئْت أَقمت معى، فَقَالَ: بل أقيم مَعَك، فَقَالَ لَهُ أَبوهُ: يَا زيد، أتختار العبوديّة على أَبِيك وأمك وبلدك وقومك؟ فَقَالَ: إِنِّي قد رَأَيْت من هَذَا الرجل شَيْئا، وَمَا أَنا بِالَّذِي أفارقه أبدا، فَعِنْدَ ذَلِك أَخذ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَقَامَ بِهِ إِلَى الْمَلأ من قُرَيْش فَقَالَ: اشْهَدُوا أَن هَذَا ابْني وَارِثا وموروثا.
فطابت نفس أَبِيه عِنْد ذَلِك، وَكَانَ يدعى زيد بن مُحَمَّد، حَتَّى أنزل الله تَعَالَى ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ 33: 5.
[1] وَقيل سمى عتيقا، لِأَن أمه كَانَت لَا يعِيش لَهَا ولد، فنذرت إِن ولد لَهَا ولد أَن تسميه عبد الْكَعْبَة وَتَتَصَدَّق بِهِ عَلَيْهَا فَلَمَّا عَاشَ وشب سمى عتيقا كَأَنَّهُ أعتق من الْمَوْت، وَكَانَ يُسمى أَيْضا عبد الْكَعْبَة إِلَى أَن أسلم، فَسَماهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله. وَقيل سمى عتيقا، لِأَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِين أسلم: أَنْت عَتيق من النَّار، وَقيل بل كَانَ لِأَبِيهِ ثَلَاثَة من الْوَلَد: مُعتق ومعيتق وعتيق، وَهُوَ أَبُو بكر.(1/249)
(مَنْزِلَتُهُ فِي قُرَيْشٍ، وَدَعْوَتُهُ لِلْإِسْلَامِ) :
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ [1] رَجُلًا مَأْلَفًا [2] لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلًا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِدَعْوَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(إسْلَامُ عُثْمَانَ، وَالزَّبِيرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعْدٍ وَطَلْحَةَ) :
قَالَ: فَأَسْلَمَ بِدُعَائِهِ- فِيمَا بَلَغَنِي- عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ [3] وَالزُّبَيْرُ [4] بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ
__________
[1] وَأم أَبى بكر: أم الْخَيْر بنت صَخْر بن عَمْرو، بنت عَم أَبى قُحَافَة، وَاسْمهَا سلمى، وَهِي من المبايعات، وَأم أَبِيه عُثْمَان أَبى قُحَافَة: قيلة بنت أذاة بن ريَاح بن عبد الله بن قرط، وَامْرَأَة أَبى بكر، أم ابْنه عبد الله، قيلة بنت عبد الْعُزَّى.
(اعتمدنا أُمَّهَات المراجع فِي التَّرْجَمَة لكل من سيرد عَنْهُم شَيْء هُنَا مِمَّن أَسْلمُوا، كالاستيعاب، والإصابة، وَأسد الغابة، والتهذيب. وَنحن نكتفي بِالْإِشَارَةِ هُنَا إِلَى هَذِه المراجع، تفاديا من تكْرَار الْإِشَارَة إِلَيْهَا عِنْد كل تَرْجَمَة) .
[2] كَذَا فِي أ. والمألف: الّذي يألفه الْإِنْسَان، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مؤلفا» .
[3] ويكنى عُثْمَان أَبَا عبد الله وَأَبا عَمْرو، كنيتان مشهورتان لَهُ، وَأَبُو عَمْرو أشهرهما، قيل إِنَّه ولدت لَهُ رقية بنت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنا فَسَماهُ عبد الله، واكتنى بِهِ وَمَات، ثمَّ ولد لَهُ عَمْرو، فاكتنى بِهِ إِلَى أَن مَاتَ رَحمَه الله. وَقيل إِنَّه كَانَ يكنى أَبَا ليلى. وَولد عُثْمَان فِي السّنة السَّادِسَة بعد الْفِيل، وَأمه أروى بنت كرز بن ربيعَة، وَأمّهَا الْبَيْضَاء أم حَكِيم بنت عبد الْمطلب عمَّة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هَاجر إِلَى الْحَبَشَة فَارًّا بِدِينِهِ مَعَ زَوجته رقية، وَكَانَ أول خَارج إِلَيْهَا ثمَّ تَابعه سَائِر الْمُهَاجِرين. وَلم يشْهد بَدْرًا لتخلفه على تمريض زَوجته رقية، وَكَانَت عليلة، فَأمره رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتخلف عَلَيْهَا.
وَقيل: بل تخلف لِأَنَّهُ كَانَ مَرِيضا بالجدري. وَهُوَ أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ.
[4] ويكنى أَبَا عبد الله، وَأمه صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب بن هَاشم، عمَّة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأسلم الزبير وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة، وَقيل وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة، كَمَا قيل إِنَّه أسلم هُوَ وعَلى وهما ابْنا ثَمَانِي سِنِين، وَولد الزبير هُوَ وعَلى وَطَلْحَة وَسعد بن أَبى وَقاص فِي عَام وَاحِد. وَلم يتَخَلَّف الزبير عَن(1/250)
ابْن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ [1] بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ ابْن زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَسَعْدُ [2] بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَاسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبُ [3] بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَطَلْحَةُ [4] بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ ابْن سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
__________
[ () ] غَزْوَة غَزَاهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآخى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَينه وَبَين عبد الله بن مَسْعُود حِين آخى بَين الْمُهَاجِرين بِمَكَّة، فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة وآخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار آخى بَين الزبير وَبَين سَلمَة بن سَلامَة بن وقش، وَيُقَال إِن الزبير أول رجل سل سَيْفه فِي الْإِسْلَام، كَمَا يُقَال: إِنَّه كَانَ لَهُ ألف مَمْلُوك يؤدون إِلَيْهِ الْخراج، فَمَا يدْخل بَيته مِنْهَا دِرْهَم وَاحِد. يعْنى أَنه كَانَ يتَصَدَّق بذلك كُله. وَقتل رَحمَه الله فِي مُنْصَرفه من وقْعَة الْجمل، قَتله عميرَة بن جرموز وفضالة بن حَابِس ونقيع، وَكَانَت سنه إِذْ ذَاك سبعا وَسِتِّينَ، وَقيل سِتا وَسِتِّينَ.
وَكَانَ للزبير من الْوَلَد عشرَة: عبد الله وَعُرْوَة وَمصْعَب وَالْمُنْذر وَعَمْرو وَعبيدَة وجعفر وعامر وَعُمَيْر وَحَمْزَة.
[1] ويكنى أَبَا مُحَمَّد، وَكَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة عبد عَمْرو، وَقيل عبد الْكَعْبَة، فَسَماهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الرَّحْمَن. وَأمه الشِّفَاء بنت عَوْف بن عبد بن الْحَارِث بن زهرَة. ولد بعد الْفِيل بِعشر سِنِين وَأسلم قبل أَن يدْخل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم. وَكَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، جمع الهجرتين جَمِيعًا، هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ قدم قبل الْهِجْرَة وَهَاجَر إِلَى الْمَدِينَة. وآخى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَينه وَبَين سعد بن الرّبيع. شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعثه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى دومة الجندل إِلَى بنى كلب، وَقَالَ لَهُ: إِن فتح الله عَلَيْك فَتزَوج بنت شريفهم، وَكَانَ الْأَصْبَغ بن ثَعْلَبَة الْكَلْبِيّ شريفهم، فَتزَوج بنته تماضر بنت الْأَصْبَغ، وَهِي أم ابْنه أَبى سَلمَة الْفَقِيه.
وَتوفى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَقيل سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْن خمس وَسبعين سنة، وَدفن بِالبَقِيعِ.
[2] وَأم سعد: حمدونة بنت سُفْيَان بن أُميَّة بن عبد شمس، ويكنى أَبَا إِسْحَاق، وَهُوَ أحد الْعشْرَة، دَعَا لَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يسدد الله سَهْمه، وَأَن يُجيب دَعوته، فَكَانَ دعاؤه أسْرع الدُّعَاء إِجَابَة.
وَفِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: احْذَرُوا دَعْوَة سعد، وَلَقَد مَاتَ سعد فِي خلَافَة مُعَاوِيَة.
[3] وأهيب هَذَا هُوَ عَم آمِنَة بنت وهب، أم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[4] وَأمه الحضرمية، اسْمهَا الصعبة بنت عبد الله بن عماد بن مَالك بن ربيعَة بن أكبر بن مَالك بن عويف بن مَالك بن الْخَزْرَج، وَيعرف أَبوهَا عبد الله بالحضرمي. ويكنى طَلْحَة أَبَا مُحَمَّد الْفَيَّاض. وَلما قدم طَلْحَة الْمَدِينَة آخى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَينه وَبَين كَعْب بن مَالك، حِين آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. وَقتل طَلْحَة رَحمَه الله وَهُوَ ابْن سِتِّينَ سنة يَوْم الْجمل.(1/251)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ فَأَسْلَمُوا وَصَلَّوْا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، فِيمَا بَلَغَنِي: مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَتْ فِيهِ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ [1] ، وَنَظَرٌ وَتَرَدُّدٌ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ: «بِدُعَائِهِ» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ: عَكَمَ: تَلَبَّثَ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
وَانْصَاعَ [2] وَثَّابٌ بِهَا وَمَا عَكَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ سَبَقُوا النَّاسَ بِالْإِسْلَامِ، فَصَلَّوْا وَصَدَّقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ.
(إسْلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَرْقَمِ، وَأَبْنَاءِ مَظْعُونٍ، وَعُبَيْدَةَ ابْن الْحَارِثِ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَامْرَأَتِهِ، وَأَسْمَاءَ، وَعَائِشَةَ، وَخَبَّابٍ) :
ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ [3] بْنُ الْجَرَّاحِ، وَاسْمُهُ عَامِرُ [4] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بْنِ هِلَالِ [5] بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ. وَأَبُو سَلَمَةُ [6] ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْن عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ
__________
[1] الكبوة: التَّأْخِير وَقلة الْإِجَابَة. وَهُوَ من قَوْلهم: كبا الزند: إِذا لم يور نَارا.
[2] انصاع: ذهب.
[3] وَأم أَبى عُبَيْدَة أُمَيْمَة بنت غنم بن جَابر بن عبد الْعُزَّى بن عامرة بن وَدِيعَة. شهد بَدْرًا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد كلهَا، وَهُوَ الّذي انتزع من وَجه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلقتى الدرْع يَوْم أحد، فَسَقَطت ثنيتاه، وَهُوَ أحد الْعشْرَة الَّذين شهد لَهُم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجنَّةِ. وَتوفى رَحْمَة الله عَلَيْهِ، وَهُوَ ابْن ثَمَان وَخمسين سنة فِي طاعون عمواس سنة ثَمَانِي عشرَة بالأردن من الشَّام، وَبهَا قَبره.
[4] وَقيل اسْمه عبد الله بن عَامر. وَالصَّحِيح أَن اسْمه عَامر. (رَاجع الِاسْتِيعَاب) .
[5] فِي الِاسْتِيعَاب: «حَلَال» .
[6] وَأمه برة بنت عبد الْمطلب بن هَاشم. وَكَانَ مِمَّن هَاجر بامرأته أم سَلمَة بنت أَبى أُميَّة إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ شهد بَدْرًا بعد أَن هَاجر الهجرتين، وجرح يَوْم بدر جرحا اندمل، ثمَّ انْتقض فَمَاتَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لثلاث مضين لجمادى الْآخِرَة سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة. وَتزَوج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَته أم سَلمَة.(1/252)
ابْن لُؤَيٍّ، وَالْأَرْقَمُ [1] بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ. وَاسْمُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدُ مَنَافِ بْنِ أَسَدٍ- وَكَانَ أَسَدٌ يُكَنَّى أَبَا جُنْدُبِ- بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ ابْن لُؤَيٍّ. وَعُثْمَانُ [2] بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ بْنِ عَمْرِو ابْن هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَأَخَوَاهُ قَدَامَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ.
وَعُبَيْدَةُ [3] بْنُ الْحَارِثِ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَسَعِيدُ [4] بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
__________
[1] ويكنى أَبَا عبد الله. وَأمه من بنى سهم بن عَمْرو بن هصيص، وَاسْمهَا أُمَيْمَة بنت عبد الْحَارِث.
وَيُقَال: بل اسْمهَا تماضر بنت حذيم، من بنى سهم. وَكَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، أسلم بعد عشرَة أنفس. وَفِي دَار الأرقم بن أَبى الأرقم هَذَا، كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستخفيا من قُرَيْش بِمَكَّة، يَدْعُو النَّاس فِيهَا إِلَى الْإِسْلَام فِي أول الْإِسْلَام حَتَّى خرج عَنْهَا، وَكَانَت دَاره بِمَكَّة على الصَّفَا، فَأسلم فِيهَا جمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ صَاحب حلف الفضول، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَار ابى الأرقم عِنْد الصَّفَا حَتَّى تكاملوا أَرْبَعِينَ رجلا مُسلما. وَكَانَ آخِرهم إسلاما عمر بن الْخطاب، فَلَمَّا تكاملوا أَرْبَعِينَ رجلا خَرجُوا. وَتوفى الأرقم يَوْم مَاتَ أَبُو بكر الصّديق رضى الله عَنهُ، وَقيل توفى سنة خمس وَخمسين بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ ابْن بضع وَثَمَانِينَ سنة.
[2] ويكنى أَبَا السَّائِب. وَأمه سخيلة بنت العنبس بن أهبان بن حذافة بن حجح. وَهِي أم السَّائِب وَعبد الله. وَأسلم عُثْمَان بن مَظْعُون بعد ثَلَاثَة عشر رجلا، وَهَاجَر الهجرتين وَشهد بَدْرًا. وَكَانَ أول رجل مَاتَ بِالْمَدِينَةِ من الْمُهَاجِرين بعد مَا رَجَعَ من بدر، وَكَانَ أول من دفن ببقيع الْغَرْقَد.
وَكَانَ عُثْمَان بن مَظْعُون أحد من حرم الْخمر فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقَالَ: لَا أشْرب شرابًا يذهب عَقْلِي، ويضحك بى من هُوَ أدنى منى، ويحملني على أَن أنكح كَرِيمَتي. فَلَمَّا حرمت الْخمر أَتَى وَهُوَ بالعوالي، فَقيل لَهُ: يَا عُثْمَان، قد حرمت: فَقَالَ: تَبًّا لَهَا، قد كَانَ بصرى فِيهَا ثاقبا (وَفِي هَذَا نظر لِأَن تَحْرِيم الْخمر عِنْد أَكْثَرهم بعد أحد) .
[3] ويكنى أَبَا الْحَارِث، وَقيل أَبَا مُعَاوِيَة: وَكَانَ أسن من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعشر سِنِين، وَكَانَ إِسْلَامه قبل دُخُول رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم، وَكَانَت هجرته إِلَى الْمَدِينَة مَعَ أَخَوَيْهِ الطُّفَيْل وَالْحصين، وَكَانَ لعبيدة بن الْحَارِث قدر ومنزلة عِنْد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[4] ويكنى أَبَا الْأَعْوَر، وَأمه فَاطِمَة بنت بعجة بن خلف الْخُزَاعِيَّة. وَهُوَ ابْن عَم عمر بن الْخطاب وصهره، وَكَانَت تَحْتَهُ فَاطِمَة بنت الْخطاب أُخْت عمر بن الْخطاب، وَكَانَت أُخْته عَاتِكَة بنت زيد بن عَمْرو تَحت عمر بن الْخطاب. وبسبب زَوْجَة سعيد كَانَ إِسْلَام عمر بن الْخطاب.
وَقد أقطع عُثْمَان سعيدا أَرضًا بِالْكُوفَةِ، فنزلها وسكنها إِلَى أَن مَاتَ، وسكنها من بعده من بنيه الْأسود ابْن سعيد، وَكَانَ لَهُ غير الْأسود: عبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَزيد، وَكلهمْ أعقب وأنجب. وَتوفى سعيد بِأَرْض العقيق. وَدفن رَحمَه الله بِالْمَدِينَةِ فِي أَيَّام مُعَاوِيَة سنة خمسين أَو إِحْدَى وَخمسين، وَهُوَ ابْن بضع وَسبعين سنة.(1/253)
ابْن قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ [1] بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ ابْن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَأَسْمَاءُ [2] بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ. وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ صَغِيرَةٌ. وَخَبَّابُ [3] بْنُ الْأَرَتِّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَيُقَالُ: هُوَ مِنْ خُزَاعَةَ.
(إسْلَامُ عُمَيْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الْقَارِّيِّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعُمَيْرُ [4] بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ [5] بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ [6]
__________
[1] فِي الِاسْتِيعَاب: « ... عبد الْعُزَّى بن رَبَاح بن عبد الله بن قرط» وَقد تقدم الْكَلَام على هَذَا عِنْد الْكَلَام على نسب زيد بن عَمْرو بن نفَيْل.
[2] وَأم أَسمَاء: قيلة، وَقيل: قتيلة بنت عبد الْعُزَّى بن عبد أَسد. وَكَانَت أَسمَاء تَحت الزبير بن الْعَوام وَكَانَ إسْلَامهَا قَدِيما بِمَكَّة، وَهَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة وَهِي حَامِل بِعَبْد الله بن الزبير. وَتوفيت أَسمَاء بِمَكَّة فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَسبعين بعد قتل ابْنهَا عبد الله بن الزبير بِيَسِير، وَكَانَت تسمى ذَات النطاقين.
وَيُقَال: إِنَّهَا عمرت مائَة سنة.
[3] اخْتلف فِي نسب خباب كَمَا ترى، فَقيل: إِنَّه خزاعيّ، وَقيل تميمى، وَالصَّحِيح أَنه تميمى النّسَب، لحقه سباء فِي الْجَاهِلِيَّة فاشترته امْرَأَة: (هِيَ أم أَنْمَار بنت سِبَاع الْخُزَاعِيَّة) من خُزَاعَة وأعتقته.
وَكَانَت من حلفاء بنى عَوْف بن عبد عَوْف بن عبد الْحَارِث بن زهرَة، فَهُوَ تميمى بِالنّسَبِ، خزاعيّ بِالْوَلَاءِ زهري بِالْحلف. وَهُوَ خباب بن الْأَرَت بن جندلة بن سعد بن خُزَيْمَة بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم وَكَانَ قينا يعْمل السيوف فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقد شهد بَدْرًا، وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد. ويكنى أَبَا عبد الله، وَقيل:
أَبُو يحيى، وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، وَكَانَ قديم الْإِسْلَام مِمَّن عذب فِي الله وصبر على دينه. نزل الْكُوفَة وَمَات بهَا سنة سبع وَثَلَاثِينَ. وَكَانَت سنه ثَلَاثًا وَسِتِّينَ. وَقيل: بل مَاتَ سنة تسع عشرَة بِالْمَدِينَةِ.
[4] وَقد قتل عُمَيْر هَذَا يَوْم بدر، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استصغر سنه يَوْمهَا، وَأَرَادَ أَن يردهُ فَبكى، ثمَّ أجَازه بعد قَتله، فَقتل يَوْمئِذٍ وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة. (رَاجع الِاسْتِيعَاب) .
[5] سَاق نسبه ابْن عبد الْبر فِي الِاسْتِيعَاب، وَهُوَ يخْتَلف عَمَّا هُنَا، قَالَ: «عبد الله بن مَسْعُود بن غافل (بالغين المنقوطة وَالْفَاء) بن حبيب بن شمخ بن فار بن مَخْزُوم» ، ثمَّ اتّفق مَعَ الأَصْل فِيمَا بعد ذَلِك.
[6] يرْوى بِفَتْح الْهَاء، كَأَنَّهُ سمى بِالْفِعْلِ من كَاهِل يكاهل: إِذا أسن وقوى.(1/254)
ابْن الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ [1] . وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارِّيِّ، وَهُوَ مَسْعُودُ [2] ابْن رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ [3] بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ حَمَالَةَ بْنِ غَالِبِ بْنِ مُحَلِّمِ بْنِ عَائِذَةَ ابْن سُبَيْعِ [4] بْنِ الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ الْقَارَّةِ.
(شَيْءٌ عَنْ الْقَارَّةِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالْقَارَّةُ [5] : لَقَبٌ (لَهُمْ) [6] وَلَهُمْ يُقَالُ:
قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَّةَ مَنْ رَامَاهَا [7]
وَكَانُوا قَوْمًا رُمَاةً [8] .
__________
[1] ويكنى عبد الله: أَبَا عبد الرَّحْمَن. وَأم عبد الله: أم عبد بنت عبد ود بن سَوَاء بن قديم بن صاهلة، من بنى هُذَيْل أَيْضا. وَكَانَ إِسْلَامه قَدِيما فِي أول الْإِسْلَام حِين أسلم سعيد بن زيد وَزَوجته فَاطِمَة، وَكَانَ سَبَب إِسْلَامه أَنه كَانَ يرْعَى غنما لعقبة بن أَبى معيط، فَمر بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأخذ شَاة حَائِلا من تِلْكَ الْغنم، فَدرت عَلَيْهِ لَبَنًا غزيرا، وَلَقَد شهد بَدْرًا والحديبيّة. وَشهد لَهُ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجنَّةِ، وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَدفن بِالبَقِيعِ، وَكَانَ يَوْم توفى ابْن بضع وَسِتِّينَ سنة.
[2] ويكنى أَبَا عُمَيْر. وَقد أسلم مَسْعُود قبل دُخُول رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم وَشهد بَدْرًا، وَهُوَ أحد حلفاء بنى زهرَة، وَقد مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ، وَقد زَادَت سنه على السِّتين.
[3] فِي الِاسْتِيعَاب: «عَمْرو بن عبد الْعُزَّى» .
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي م: «سبع» . وَفِي ر: «سميع» .
[5] والقارة قَبيلَة، وهم عضل والديش ابْنا الْهون بن خُزَيْمَة. وَإِنَّمَا سموا قارة لِاجْتِمَاعِهِمْ لما أَرَادَ الشداخ أَن يُفَرِّقهُمْ فِي بنى كنَانَة، فَقَالَ شَاعِرهمْ:
دَعونَا قارة لَا تذعرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم
[6] زِيَادَة عَن أ.
[7] هَذَا مثل، يُقَال إِنَّه قيل فِي حَرْب كَانَت بَين قُرَيْش وَبَين بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة.
وَكَانَت القارة مَعَ قُرَيْش، وهم قوم رُمَاة. فَلَمَّا التقى الْفَرِيقَانِ راماهم الْآخرُونَ، فَقيل: قد أنصفهم هَؤُلَاءِ، إِذْ ساووهم فِي الْعَمَل الّذي هُوَ شَأْنهمْ وصناعتهم. (رَاجع الْأَمْثَال، وفرائد اللآل، وَالرَّوْض) .
[8] يَزْعمُونَ أَن رجلَيْنِ التقيا أَحدهمَا قارى، فَقَالَ الْقَارِي: إِن شِئْت صارعتك، وَإِن شِئْت سابقتك، وَإِن شِئْت راميتك، فَقَالَ الآخر: قد اخْتَرْت المراماة، فَقَالَ الْقَارِي: قد أنصفتنى، وَأَنْشَأَ يَقُول:
قد علمت سلمى وَمن والاها ... أَنا نرد الْخَيل عَن هَواهَا
نردها رامية كلاها ... قد أنصف القارة من راماها
إِنَّا إِذا مَا فِئَة نلقاها ... نرد أولاها على أخراها
(رَاجع الْأَمْثَال، وَالرَّوْض) .(1/255)
(إسْلَامُ سَلِيطٍ وَأَخِيهِ، وَعَيَّاشٍ وَامْرَأَتِهِ، وَخُنَيْسٍ، وَعَامِرٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَسَلِيطُ [1] بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ ابْن مَالِكِ بْنِ (حِسْلِ بْنِ) [2] عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، (وَأَخُوهُ حَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو) [3] وَعَيَّاشُ [3] بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ [4] بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرِ ابْن مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَامْرَأَتُهُ أَسَمَاءُ [5] بِنْتُ سَلَامَةَ [6] ابْن مُخَرَّبَةِ التَّمِيمِيَّةُ [7] . وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [8] بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو ابْن هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَعَامِرُ [9] بْنُ رَبِيعَةَ،
__________
[1] وَهُوَ أَخُو سُهَيْل بن عَمْرو، وَكَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، وَهُوَ الّذي بَعثه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَوْذَة بن على الْحَنَفِيّ وَإِلَى ثُمَامَة بن أَثَال الْحَنَفِيّ، وهما رَئِيسا الْيَمَامَة، وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ أَو سبع.
وَقتل سليط سنة أَربع عشرَة.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] ويكنى عَيَّاش: أَبَا عبد الرَّحْمَن، وَقيل أَبُو عبد الله، وَهُوَ أَخُو أَبى جهل بن هِشَام لأمه، أمهما أم الْجلاس أَسمَاء بنت مخرمَة. وأخو عبد الله بن أَبى ربيعَة لِأَبِيهِ وَأمه. وَكَانَ إِسْلَامه قبل أَن يدْخل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم. وَهَاجَر عَيَّاش إِلَى أَرض الْحَبَشَة مَعَ امْرَأَته أَسمَاء بنت سَلمَة، وَولد لَهُ بهَا ابْنه عبد الله، ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَمَات بِمَكَّة.
[4] وَاسم أَبى ربيعَة: عَمْرو.
[5] وَكَانَت من الْمُهَاجِرَات، هَاجَرت مَعَ زَوجهَا إِلَى الْحَبَشَة. وَولدت لَهُ عبد الله، ثمَّ هَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة، وتكنى أم الْجلاس.
[6] وَقيل: أَسمَاء بنت سَلمَة.
[7] وَكَانَ خُنَيْس على حَفْصَة زوج النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبله، وَكَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، شهد بَدْرًا بعد هجرته إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ شهد أحدا ونالته جِرَاحَة مَاتَ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَخُو عبد الله ابْن حذافة السَّهْمِي.
[8] كَذَا فِي الِاسْتِيعَاب، وَشرح السِّيرَة. وَفِي الْأُصُول: «سعيد» وَهُوَ تَحْرِيف. قَالَ السهيليّ «وحيثما تكَرر نسب عدي بن سعد بن سهم، يَقُول فِيهِ ابْن إِسْحَاق: سعيد. وَالنَّاس على خِلَافه، إِنَّمَا هُوَ سعد ... وَإِنَّمَا سعيد بن سهم أَخُو سعد، وَهُوَ جد آل عَمْرو بن الْعَاصِ بن وَائِل بن هَاشم بن سعيد ابْن سهم. وَفِي سهم سعيد آخر وَهُوَ ابْن سعد الْمَذْكُور، وَهُوَ جد الْمطلب بن أَبى ودَاعَة. وَاسم أَبى ودَاعَة عَوْف بن جبيرَة بن سعيد بن سعد» .
[9] فِي نسب عَامر خلاف، فَمن النسابين من ينْسبهُ إِلَى عنز، وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى مذْحج فِي الْيمن، إِلَّا أَنهم مجمعون على أَنه حَلِيف للخطاب بن نفَيْل، لِأَنَّهُ تبناه. وَأسلم عَامر وَهَاجَر إِلَى الْحَبَشَة مَعَ امْرَأَته، ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَشهد بَدْرًا وَسَائِر الْمشَاهد، وَتوفى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ، وَقيل سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، كَمَا قيل سنة خمس وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ يكنى أَبَا عبد الله.(1/256)
مِنْ [1] عَنْزِ [2] بْنِ وَائِلٍ، حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَنْزُ بْنُ وَائِلِ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، مِنْ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ.
(إسْلَامُ ابْنَيْ جَحْشٍ، وَجَعْفَرٍ وَامْرَأَتِهِ، وَأَوْلَادِ الْحَارِثِ وَنِسَائِهِمْ، وَالسَّائِبِ، وَالْمُطَّلِبِ وَامْرَأَتِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ [3] بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبِرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَبِيرِ [4] بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَأَخُوهُ أَبُو أَحَمْدَ بْنُ جَحْشٍ، حَلِيفَا بَنِي أُمِّيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ [5] . وَجَعْفَرِ [6] بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَامْرَأَتُهُ أَسَمَاءُ [7] بِنْتُ عُمَيْسٍ [8] بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ، مِنْ خَثْعَمَ [9] .
وَحَاطِبُ [10] بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ بْنِ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ابْن» وَهُوَ تَحْرِيف لِأَن بَين ربيعَة وعنز غير وَاحِد من الْآبَاء.
[2] هُوَ بِسُكُون النُّون، وَقيل بِفَتْحِهَا، والسكون أعرف. (رَاجع الرَّوْض) .
[3] وَأم عبد الله أُمَيْمَة بنت عبد الْمطلب، وَكَانَ عبد الله حليفا لبني عبد شمس، أسلم قبل دُخُول رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم، وَكَانَ هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو أَحْمد عبد بن جحش من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، مِمَّن هَاجر الهجرتين. وَلَقَد تنصر أخوهما عبيد الله بن جحش بِأَرْض الْحَبَشَة، وَمَات بهَا نَصْرَانِيّا، وَتزَوج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوجته أم حَبِيبَة، وَلَقَد شهد عبد الله بَدْرًا، وَاسْتشْهدَ يَوْم أحد
[4] فِي الِاسْتِيعَاب: «ابْن كثير» .
[5] وَقيل بل كَانَا حليفين لِحَرْب بن أُميَّة. (رَاجع الِاسْتِيعَاب فِي تَرْجَمَة عبد الله وأخيه أَبى أَحْمد) .
[6] وَكَانَ جَعْفَر يكنى أَبَا عبد الله، وَكَانَ أشبه النَّاس خلقا وخلقا برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أكبر من على بِعشر سِنِين، كَمَا كَانَ عقيل أكبر من جَعْفَر بِعشر سِنِين، وَكَانَ طَالب أكبر من عقيل بِعشر سِنِين. وَلَقَد هَاجر جَعْفَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَقدم مِنْهَا على رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين فتح خَيْبَر، فَتَلقاهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واعتنقه وَقَالَ: مَا أدرى بِأَيِّهِمَا أَنا أَشد فَرحا بقدوم جَعْفَر، أم بِفَتْح خَيْبَر؟ وَقتل جَعْفَر فِي غَزْوَة مُؤْتَة.
[7] وَأم أَسمَاء هِنْد بنت عَوْف بن زُهَيْر، وَأَسْمَاء أُخْت مَيْمُونَة زوج النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُخْت لبَابَة أم الْفضل زَوْجَة الْعَبَّاس. وَهَاجَرت أَسمَاء مَعَ زَوجهَا جَعْفَر إِلَى الْحَبَشَة فَولدت لَهُ هُنَاكَ مُحَمَّدًا وَعبد الله وعونا ثمَّ هَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة فَلَمَّا قتل جَعْفَر زَوجهَا تزَوجهَا أَبُو بكر، فَولدت لَهُ مُحَمَّد بن أَبى بكر، ثمَّ مَاتَ عَنْهَا، فَتَزَوجهَا على بن أَبى طَالب، فَولدت لَهُ يحيى بن على بن أَبى طَالب.
[8] فِي الِاسْتِيعَاب: «عُمَيْس بن مَالك بن النُّعْمَان ... إِلَخ» .
[9] وَقيل فِي نَسَبهَا: إِنَّهَا أَسمَاء بنت عُمَيْس بن سعد بن الْحَارِث بن تيم بن كَعْب بن مَالك بن قُحَافَة ابْن عَامر بن ربيعَة بن عَامر بن مُعَاوِيَة بن زيد بن مَالك بن بشر بن وهب بن شَهْرَان بن عفرس بن خلف ابْن أقبل، وَهُوَ جمَاعَة خثعم بن أَنْمَار.
[10] وَلَقَد مَاتَ حَاطِب بِأَرْض الْحَبَشَة، وَكَانَ خرج إِلَيْهَا مَعَ امْرَأَته فَاطِمَة بنت المجلل مُهَاجِرين، وَولدت لَهُ فَاطِمَة هُنَاكَ ابنيه: مُحَمَّد بن حَاطِب، والْحَارث بن حَاطِب، وأتى بهما من هُنَاكَ غلامين.
17- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/257)
عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلَّلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ وَأَخُوهُ حَطَّابُ [1] بْنُ الْحَارِثِ، وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ. وَمَعْمَرُ [2] بْنُ الْحَارِثِ ابْن مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَالسَّائِبُ [3] بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبٍ. وَالْمُطَّلَبُ [4] ابْن أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَامْرَأَتُهُ: رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ [5] بْنِ سَعِيدِ (بْنِ سَعْدِ) [6] بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَالنَّحَّامُ، وَاسْمُهُ نُعَيْمُ [7] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدٍ، أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
(إسْلَامُ نُعَيْمٍ وَنَسَبُهُ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدِ [8] بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ
__________
[1] كَذَا فِي الِاسْتِيعَاب. وَفِي الْأُصُول خطاب «بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة» وَهُوَ تَصْحِيف، وَلَقَد هَاجر حطاب مَعَ أَخِيه إِلَى أَرض الْحَبَشَة، فَمَاتَ فِي الطَّرِيق. وَقيل إِنَّه مَاتَ فِي الطَّرِيق مُنْصَرفه مِنْهَا.
[2] وَهُوَ أَخُو حَاطِب وحطاب، وَهُوَ مِمَّن أَسْلمُوا قبل دُخُول رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم، وَلَقَد شهد بَدْرًا وأحدا والمشاهد كلهَا، وَتوفى فِي خلَافَة عمر رضى الله عَنهُ.
[3] وَلَقَد هَاجر السَّائِب مَعَ أَبِيه عُثْمَان بن مَظْعُون، وَمَعَ عميه قدامَة وَعبد الله إِلَى أَرض الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة، وَقتل السَّائِب وَهُوَ ابْن بضع وَثَلَاثِينَ سنة، قتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا.
[4] وَهُوَ أَخُو عبد الرَّحْمَن وطليب ابْني أَزْهَر، وَكَانَ الْمطلب وطليب من مهاجرة الْحَبَشَة وَبهَا مَاتَا، وَكَانَ خُرُوج الْمطلب إِلَى الْحَبَشَة مَعَ امْرَأَته رَملَة، وَقد ولدت لَهُ بِأَرْض الْحَبَشَة عبد الله بن الْمطلب.
[5] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «ضبيرة» ، بالضاد الْمُعْجَمَة، وَهِي لُغَة فِيهِ. وَهُوَ الّذي كَانَ شَابًّا جميلا يلبس حلَّة وَيَقُول للنَّاس: هَل ترَوْنَ بى بَأْسا؟ إعجابا بِنَفسِهِ فأصابته الْمنية بَغْتَة فَقَالَ الشَّاعِر فِيهِ:
من يَأْمَن الْحدثَان بعد ... ضبيرة الْقرشِي مَاتَا
سبقت منيته المشيب ... وَكَأن ميتَته افتلاتا
[6] زِيَادَة يقتضيها السِّيَاق. (رَاجع الْحَاشِيَة رقم ص 274) .
[7] وَيُقَال إِن نعيم هَذَا أسلم بعد عشرَة نفر قبل إِسْلَام عمر بن الْخطاب، وَكَانَ يكتم إِسْلَامه، وَمنعه قومه لشرفه فيهم من الْهِجْرَة، لِأَنَّهُ كَانَ ينْفق على أرامل بنى عدي وأيتامهم ويمونهم، وَقتل بأجنادين شَهِيدا سنة ثَلَاث عشرَة فِي آخر خلَافَة أَبى بكر، وَقيل: قتل يَوْم اليرموك شَهِيدا فِي رَجَب سنة خمس عشرَة، فِي خلَافَة عمر.
[8] كَذَا فِي الِاسْتِيعَاب وَشرح السِّيرَة. وَفِي الْأُصُول: « ... أسيد بن عبد الله بن عَوْف ... إِلَخ» وَهُوَ تَحْرِيف.(1/258)
ابْن عَوِيجِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ النَّحَّامَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ نَحْمَهُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نَحْمُهُ: صَوْتُهُ. (وَنَحْمُهُ) [1] : حِسُّهُ [2] .
(إسْلَامُ عَامِرِ بْنِ فَهَيْرَةَ وَنَسَبُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ [3] مُوَلَّدٌ مِنْ مُوَلَّدِي الْأَسْدِ، أَسْوَدُ اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهُمْ.
(إسْلَامُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ [4] بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ [5] بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسَعْدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جُعْثُمَةَ [6] بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ خُزَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: هُمَيْنَةُ [7] بِنْتُ خَلَفٍ.
(إسْلَامُ حَاطِبٍ وَأَبِي حُذَيْفَةَ وَإِسْلَامُ وَاقِدٍ، وَشَيْءٌ عَنْهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو [8] بن عبد شمس بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حسنه» .
[3] وفهيرة أمه، وَكَانَ عبدا للطفيل بن الْحَارِث بن سَخْبَرَة. وَأسلم عَامر قبل دُخُول النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم، وَقَتله عَامر بن الطُّفَيْل يَوْم بِئْر مَعُونَة.
[4] ويكنى خَالِد: أَبَا سعيد، وَيُقَال: إِنَّه أسلم بعد أَبى بكر الصّديق، فَكَانَ ثَالِثا أَو رَابِعا، وَقيل: كَانَ خَامِسًا. وَقد هَاجر إِلَى الْحَبَشَة مَعَ امْرَأَته الْخُزَاعِيَّة، وَولد لَهُ بهَا ابْنه سعيد بن خَالِد، وَابْنَته أم خَالِد، وَهَاجَر مَعَه إِلَى أَرض الْحَبَشَة أَخُوهُ عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ.
[5] فِي الِاسْتِيعَاب: «أُمَيْمَة» وَقد نَص أَبُو ذَر على أَن مَا أَثْبَتْنَاهُ هُوَ الصَّوَاب.
[6] فِي الْأُصُول: خثعمة. والتصويب عَن شرح السِّيرَة.
[7] فِي الِاسْتِيعَاب وَفِي الْأُصُول: «هميمة» .
[8] وَهُوَ أَخُو سُهَيْل وسليط والسكران أَبنَاء عَمْرو، وَقد أسلم حَاطِب قبل دُخُول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم، وَقد هَاجر إِلَى الْحَبَشَة الهجرتين جَمِيعًا، وَهُوَ أول من قدم الْحَبَشَة فِي الْهِجْرَة الأولى(1/259)
ابْن مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ. وَأَبُو حُذَيْفَةَ، وَاسْمُهُ مُهَشَّمٌ [1]- فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابْن قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَوَاقِدُ [2] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عبد منَاف ابْن عَرِينَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ ابْن كَعْبٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: جَاءَتْ بِهِ بَاهِلَةُ، فَبَاعُوهُ مِنْ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ 33: 5 قَالَ: أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيُّ.
(إسْلَامُ بَنِي الْبَكِيرِ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَالِدٌ [3] وَعَامِرٌ [4] وَعَاقِلٌ [5] وَإِيَاسٌ [6] بَنُو الْبَكِيرِ [7]
__________
[1] قَالَ السهيليّ: قَالَ ابْن هِشَام: واسْمه مهشم، وَهُوَ وهم عِنْد أهل النّسَب، فَإِن مهشما إِنَّمَا هُوَ أَبُو حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة أَخُو هَاشم وَهِشَام ابْني الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم، وَأما أَبُو حُذَيْفَة بن عتبَة فاسمه قيس فِيمَا ذكرُوا.
[2] وَلَقَد أسلم وَاقد قبل دُخُول رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَار الأرقم، وَهُوَ الّذي قتل عَمْرو ابْن الحضرميّ، وَشهد وَاقد مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وأحدا والمشاهد كلهَا، وَتوفى فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب.
[3] وَلَقَد شهد هُوَ وَإِخْوَته بَدْرًا، وَقتل يَوْم الرجيع فِي صفر سنة أَربع من الْهِجْرَة، وَكَانَ يَوْم قتل ابْن أَربع وَثَلَاثِينَ سنة، وَكَانَت السّريَّة يَوْم الرجيع مَعَ عَاصِم بن ثَابت بن أَبى الْأَفْلَح، ومرثد بن أَبى مرْثَد الغنوي، قَاتلُوا هذيلا ورهطا من عضل والفارة حَتَّى قتلوا وَمن مَعَهم، وَأخذ خبيب بن عدي ثمَّ صلب، وَله يَقُول حسان:
أَلا لَيْتَني فِيهَا شهِدت ابْن طَارق ... وزيدا وَمَا تغني الْأَمَانِي ومرثدا
فدافعت عَن حبي خبيب وَعَاصِم ... وَكَانَ شِفَاء لَو تداركت خَالِدا
[4] وَشهد عَامر بَدْرًا مَعَ إخْوَته، وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَقتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا.
[5] شهد مَعَ إخْوَته بَدْرًا وَقتل بهَا، قَتله مَالك بن زُهَيْر الخطميّ، وَهُوَ ابْن أَربع وَثَلَاثِينَ سنة، وَكَانَ اسْمه غافلا، فَلَمَّا أسلم سَمَّاهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاقِلا، وَكَانَ من أول من أسلم وَبَايع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَار الأرقم.
[6] وَلَقَد شهد إِيَاس بَدْرًا وأحدا وَالْخَنْدَق والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِسْلَامه وَإِسْلَام أَخِيه عَامر فِي دَار الأرقم. وَإيَاس هَذَا هُوَ وَالِد مُحَمَّد بن إِيَاس بن البكير الّذي يرْوى عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وأبى هُرَيْرَة، فِيمَن طلق امْرَأَته ثَلَاثًا قبل أَن يَمَسهَا أَنَّهَا لَا تحل لَهُ.
[7] قَالَ ابْن عبد الْبر: «هَذَا كَلَام ابْن إِسْحَاق وَغَيره. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ ... أَبى الْكَبِير» .(1/260)
ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ نَاشِبِ بْنِ غَيْرَةَ بْنِ [1] سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةِ بْنِ كِنَانَةِ حَلْفَاءُ بَنِي [2] عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ [3] ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَنْسِيٌّ مِنْ مَذْحِجَ [4] .
(إسْلَامُ صُهَيْبٍ وَنَسَبُهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ [5] ، أَحَدُ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، حَلِيفُ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: النَّمِرُ بْنُ قَاسِطِ بْنِ هِنْبٍ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ ابْن رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ، وَيُقَالُ: أَفْصَى بْنُ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدٍ، وَيُقَالُ:
صُهَيْبٌ: مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ [6] بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ،
__________
[1] كَذَا فِي أوالاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «غيرَة من بنى سعد» .
[2] وَذَلِكَ أَن عبد ياليل كَانَ قد حَالف فِي الْجَاهِلِيَّة نفَيْل بن عبد الْعُزَّى جد عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ.
[3] وَكَانَ عمار وَأمه سميَّة مِمَّن عذب فِي الله، ثمَّ أَعْطَاهُم عمار مَا أَرَادوا بِلِسَانِهِ، وَاطْمَأَنَّ بِالْإِيمَان قلبه، فَنزلت فِيهِ: إِلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ 16: 106. وَهَاجَر عمار إِلَى أَرض الْحَبَشَة، وَلَقَد شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا، وأبلى ببدر بلَاء حسنا، ثمَّ شهد الْيَمَامَة فأبلى فِيهَا أَيْضا، ويومئذ قطعت أُذُنه، وَقيل فِي صفّين، وَكَانَت سنه إِذْ ذَاك تزيد على التسعين.
[4] وَقَالَ الْوَاقِدِيّ، وَطَائِفَة من أهل الْعلم بِالنّسَبِ وَالْخَبَر: «إِن ياسرا وَالِد عمار عرنى قحطانى مذحجى من عنس فِي مذْحج، إِلَّا أَن ابْنه عمارا مولى لبني مَخْزُوم، لِأَن أَبَاهُ ياسرا تزوج أمة لبَعض بنى مَخْزُوم، فَولدت لَهُ عمارا، وَذَلِكَ أَن ياسرا وَالِد عمار قدم مَكَّة مَعَ أَخَوَيْنِ لَهُ، أَحدهمَا يُقَال لَهُ الْحَارِث وَالثَّانِي مَالك، فِي طلب أَخ لَهُم رَابِع، فَرجع الْحَارِث وَمَالك إِلَى الْيمن، وَأقَام يَاسر بِمَكَّة، فحالف أَبَا حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم، فَزَوجهُ أَبُو حُذَيْفَة أمة لَهُ يُقَال لَهَا سميَّة بنت خياط فَولدت لَهُ عمارا، فَأعْتقهُ أَبُو حُذَيْفَة، فَمن هَذَا هُوَ عمار مولى لبني مَخْزُوم ... وللحلف وَالْوَلَاء الّذي بَين بنى مَخْزُوم وَابْن عمار وَأَبِيهِ يَاسر كَانَ اجْتِمَاع بنى مَخْزُوم إِلَى عُثْمَان حِين نَالَ من عمار غلْمَان عُثْمَان، مَا نالوا من الضَّرْب حَتَّى انفتق لَهُ فتق فِي بَطْنه. فاجتمعت بَنو مَخْزُوم وَقَالُوا: وَالله لَئِن مَاتَ مَا قتلنَا بِهِ أحدا غير عُثْمَان» .
[5] وَهُوَ مِمَّن شهد بَدْرًا مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ إِسْلَامه هُوَ وعمار بن يَاسر فِي يَوْم وَاحِد، وَمَات صُهَيْب بِالْمَدِينَةِ سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ فِي شَوَّال، وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسبعين سنة، وَقيل ابْن تسعين وَدفن بِالبَقِيعِ.
[6] وَذَلِكَ أَن أَبَاهُ سِنَان بن مَالك، أَو عَمه، كَانَ عَاملا لكسرى على الأبلة، وَكَانَت مَنَازِلهمْ بِأَرْض الْموصل فِي قَرْيَة من شط الْفُرَات مِمَّا يَلِي الجزيرة والموصل، فأغارت الرّوم على تِلْكَ النَّاحِيَة فسبت صهيبا وَهُوَ غُلَام صَغِير، فَنَشَأَ صُهَيْب بالروم، فَصَارَ ألكن، فابتاعته مِنْهُم كلب، ثمَّ قدمت بِهِ مَكَّة، فَاشْتَرَاهُ(1/261)
وَيُقَالُ: إنَّهُ رُومِيٌّ. فَقَالَ بَعْضُ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، إنَّمَا كَانَ أَسِيرًا فِي أَرْضِ الرُّومِ، فَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُهَيْبٌ سَابِقُ الرُّومِ.
مباداة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه، وَمَا كَانَ مِنْهُم
(أَمْرُ اللَّهِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُبَادَاةِ قَوْمِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْسَالًا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، حَتَّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَتُحَدِّثَ بِهِ. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، وَأَنْ يُبَادِيَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ، وَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ وَاسْتَتَرَ بِهِ إلَى أَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِ دِينِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ- فِيمَا بَلَغَنِي- مِنْ مَبْعَثِهِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ:
فَاصْدَعْ [1] بِما تُؤْمَرُ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 15: 94. وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ 6: 51
__________
[ () ] عبد الله بن جدعَان التَّيْمِيّ مِنْهُم، فَأعْتقهُ، فَأَقَامَ مَعَه بِمَكَّة حَتَّى هلك عبد الله بن جدعَان، وَبعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأما صُهَيْب وَولده، فيزعمون أَنه إِنَّمَا هرب من الرّوم حِين عقل وَبلغ، فَقدم مَكَّة فحالف عبد الله بن جدعَان، وَأقَام مَعَه إِلَى أَن هلك.
[1] قَالَ السهيليّ: «وَالْمعْنَى: اصدع بِالَّذِي تُؤمر بِهِ، وَلكنه لما عدي الْفِعْل إِلَى الْهَاء حسن حذفهَا، وَكَانَ الْحَذف هَاهُنَا أحسن من ذكرهَا، لِأَن «مَا» فِيهَا من الْإِبْهَام أَكثر مِمَّا يَقْتَضِيهِ «الّذي» . وَقَوْلهمْ «مَا» مَعَ الْفِعْل بِتَأْوِيل الْمصدر، رَاجع إِلَى معنى «الّذي» إِذا تأملته، وَذَلِكَ أَن «الّذي» تصلح فِي كل مَوضِع تصلح فِيهِ «مَا» الَّتِي يسمونها المصدرية. نَحْو قَول الشَّاعِر:
عَسى الْأَيَّام أَن يرجعن ... قوما كَالَّذي كَانُوا
أَي كَمَا كَانُوا. فَقَوْل الله عز وَجل إِذن: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ 15: 94» : إِمَّا أَن يكون مَعْنَاهُ: بِالَّذِي تُؤمر بِهِ من التَّبْلِيغ وَنَحْوه، وَإِمَّا أَن يكون مَعْنَاهُ: اصدع بِالْأَمر الّذي تؤمره، كَمَا تَقول: عجبت ... من الضَّرْب الّذي تضربه، فَتكون «مَا» هَاهُنَا عبارَة عَن الْأَمر الّذي هُوَ أَمر الله تَعَالَى، وَلَا يكون للباء فِيهِ دُخُول وَلَا تَقْدِير. وعَلى الْوَجْه الأول تكون «مَا» مَعَ صلتها عبارَة عَمَّا هُوَ فعل للنّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْأَظْهَر أَنَّهَا مَعَ صلتها، عبارَة عَن الْأَمر الّذي هُوَ قَول الله ووحيه، بِدَلِيل حذف الْهَاء الراجعة إِلَى مَا، وَإِن كَانَت بِمَعْنى الّذي فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، إِلَّا أَنَّك إِذا أردْت معنى الْأَمر لم تحذف إِلَّا الْهَاء وَحدهَا، وَإِذا أردْت معنى الْمَأْمُور بِهِ حذفت بَاء وهاء، فَحذف وَاحِد أيسر من حذفين، مَعَ أَن صدعه وَبَيَانه إِذا علقته بِأَمْر الله ووحيه كَانَ حَقِيقَة، وَإِذا علقته بِالْفِعْلِ الّذي أَمر بِهِ كَانَ مجَازًا، وَإِذا صرحت بِلَفْظ الّذي(1/262)
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 26: 214- 215.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ 15: 89.
(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اصْدَعْ: اُفْرُقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ، يَصِفُ أُتُنَ [1] وَحْشٍ وَفَحْلَهَا:
وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ [2]
أَيْ يُفَرَّقُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيُبَيِّنُ أَنْصِبَاءَهَا. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ رُؤْبَةُ ابْن الْعَجَّاجِ:
أَنْتَ الْحَلِيمُ وَالْأَمِيرُ الْمُنْتَقِمُ ... تَصْدَعُ بِالْحَقِّ وَتَنْفِي مَنْ ظَلِمْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ [3] فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
(خُرُوجُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ، وَمَا فَعَلَهُ سَعْدٌ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّوْا، ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ، فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ، إذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَنَاكَرُوهُمْ، وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ حَتَّى قَاتَلُوهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ [4] بَعِيرٍ، فَشَجَّهُ [5] ، فَكَانَ أوّل دم هريق فِي الْإِسْلَامِ.
__________
[ () ] لم يكن حذفهَا بذلك الْحسن، وتأمله فِي الْقُرْآن تَجدهُ كَذَلِك، نَحْو قَوْله تَعَالَى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 2: 33. وَإِنَّمَا كَانَ الْحَذف مَعَ «مَا» أحسن لما قدمْنَاهُ من إبهامها، فَالَّذِي فِيهَا من الْإِبْهَام قربهَا من «مَا» الَّتِي هِيَ للشّرط لفظا وَمعنى.
[1] الأتن: جمع أتان، وَهِي الْأُنْثَى من الْحمر.
[2] الربابة (بِكَسْر الرَّاء) : خرقَة تلف فِيهَا القداح. وَتَكون أَيْضا جلدا. واليسر: الّذي يدْخل فِي الميسر. والقداح: جمع قدح، وَهُوَ السهْم.
[3] هَذَا على أَنَّهُمَا من مشطور الرجز.
[4] اللحى: الْعظم الّذي على الْفَخْذ، وَهُوَ من الْإِنْسَان: الْعظم الّذي تنْبت عَلَيْهِ اللِّحْيَة.
[5] شجه: جرحه.(1/263)
(إظْهَارُ قَوْمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدَاوَةَ لَهُ، وَحَدَبُ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَصَدَعَ بَهْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ- فِيمَا بَلَغَنِي- حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ، وَأَجْمَعُوا خِلَافَهُ وَعَدَاوَتَهُ، إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ، وَحَدِبَ [1] عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ، لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ. فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْتِبُهُمْ [2] مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ، وَقَامَ دُونَهُ، فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ. وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَاسْمُهُ الْعَاصِ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ ابْن عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: الْعَاصِ بْنُ هَاشِمٍ [3] .
__________
[1] أصل الحدب: الانحناء فِي الظّهْر، ثمَّ استعير فِيمَن عطف على غَيره ورق لَهُ، كَمَا قَالَ النَّابِغَة:
حدبت على بطُون ضبة كلهَا ... إِن ظَالِما فيهم وَإِن مَظْلُوما
وَقد يكون الحدب أَيْضا مُسْتَعْملا فِي معنى الْمُخَالفَة إِذا قرن بالقعس، كَقَوْل الشَّاعِر:
وَإِن حدبوا فاقعس وَإِن هم تقاعسوا ... لينتزعوا مَا خلف ظهرك فاحدب
[2] لَا يعتبهم من شَيْء: أَي لَا يرضيهم، يُقَال: استعتبني فأعتبته: أَي أرضيته وأزلت العتاب عَنهُ.
[3] قَالَ السهيليّ: «الّذي قَالَه ابْن إِسْحَاق، هُوَ قَول ابْن الْكَلْبِيّ، والّذي قَالَه ابْن هِشَام، هُوَ قَول الزبير بن أَبى بكر وَقَول مُصعب، وَهَكَذَا وجدت فِي حَاشِيَة كتاب الشَّيْخ أَبى بَحر سُفْيَان بن الْعَاصِ» .(1/264)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَأَبُو جَهْلٍ- وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ- بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ ابْن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ ابْن مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْعَاصِ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ [1] بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
(وَفْدُ قُرَيْشٍ مَعَ أَبِي طَالِبٍ فِي شَأْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ. فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفَّهُ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا، وَإِمَّا أَنَّ تُخِلِّي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، فَنَكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلًا، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ.
(اسْتِمْرَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَتِهِ، وَرُجُوعُ وَفْدِ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ ثَانِيَةً) :
وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ دِينَ اللَّهِ، وَيَدْعُو إلَيْهِ، ثُمَّ شَرَى [2] الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ وَتَضَاغَنُوا [3] ، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهَا، فَتَذَامَرُوا [4] فِيهِ، وَحَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا لَهُ:
يَا أَبَا طَالِبٍ، إنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا، وَإِنَّا قَدْ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهُ عَنَّا، وَإِنَّا وَاَللَّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا، حَتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: هِشَام.
[2] شرى: كثر وَاشْتَدَّ.
[3] تضاغنوا: تعادوا.
[4] تذامروا: حض بَعضهم بَعْضًا.(1/265)
الْفَرِيقَيْنِ، أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ. (ثُمَّ) [1] انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ وَلَا خِذْلَانِهِ.
(طَلَبُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَّ عَنْ الدَّعْوَةِ وَجَوَابُهُ لَهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ، قَالَ: فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ بَدَاءٌ [2] أَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي [3] عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ. قَالَ: ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَى ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: أَقْبِلْ يَا بن أَخِي، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اذْهَبْ يَا بن أَخِي، فَقُلْ مَا أَحْبَبْت، فو الله لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءِ أَبَدًا.
(مَشْيُ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ ثَالِثَةً بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيِّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْلَامَهُ، وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ، مَشَوْا إلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالُوا لَهُ- فِيمَا بَلَغَنِي- يَا أَبَا طَالِبٍ، هَذَا عُمَارَةُ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أ. والبداء: الِاسْم من بدا. يُرِيد: ظهر لَهُ رأى، فَسمى الرأى بداء، لِأَنَّهُ شَيْء يَبْدُو بعد مَا خَفِي. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بَدو» .
[3] قَالَ السهيليّ: «خص الشَّمْس بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا الْآيَة المبصرة، وَخص الْقَمَر بالشمال لِأَنَّهَا الْآيَة الممحوة وَقد قَالَ عمر رَحمَه الله لرجل قَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَن الشَّمْس وَالْقَمَر يقتتلان، وَمَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا نُجُوم، فَقَالَ عمر: مَعَ أَيهمَا كنت؟ فَقَالَ: مَعَ الْقَمَر، قَالَ: كنت مَعَ الْآيَة الممحوة، اذْهَبْ فَلَا تعْمل لي عملا. وَكَانَ عَاملا لَهُ فَعَزله، فَقتل الرجل فِي صفّين مَعَ مُعَاوِيَة، واسْمه حَابِس بن سعد.
وَخص رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النيرين حِين ضرب الْمثل بهما، لِأَن نورهما محسوس، والنور الّذي جَاءَ بِهِ من عِنْد الله» .(1/266)
ابْن الْوَلِيدِ، أَنْهَدُ [1] فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ فَلَكَ عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ، وَاِتَّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ إلَيْنَا ابْنَ أَخِيكَ هَذَا، الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِكَ، وَسَفَّهُ أَحْلَامَهُمْ، فَنَقْتُلَهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي [2] ! أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ! هَذَا وَاَللَّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. قَالَ: فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ: وَاَللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وَجَهَدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ: وَاَللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، أَوْ كَمَا قَالَ. فَحَقَبَ [3] الْأَمْرُ، وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ، وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُطْعِمِ وَمَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ) :
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ، يُعَرِّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَيَعُمُّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ، وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ أَمرهم:
أَلا قل لِعَمْرٍو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ [4]
مِنْ الْخُورِ [5] حَبْحَابٌ [6] كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يَرُشُّ عَلَى السَّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ
__________
[1] أنهد: أَشد وَأقوى. وأصل هَذِه الْكَلِمَة للتقدم، يُقَال: نهد ثدي الْجَارِيَة، أَي برز قدما.
[2] تسوموننى: تكلفوننى.
[3] حقب: زَاد وَاشْتَدَّ: وَهُوَ من قَوْلك. حقب الْبَعِير: إِذا راغ عَنهُ الحقب من شدَّة الْجهد وَالنّصب، وَإِذا عسر عَلَيْهِ الْبَوْل أَيْضا لشدَّة الحقب على ذَلِك الْموضع
[4] يُرِيد: أَي أَن بكرا من الْإِبِل أَنْفَع لي مِنْكُم، فليته لي بَدَلا من حياطتكم، كَمَا قَالَ طرفَة فِي عَمْرو ابْن هِنْد:
لَيْت لنا مَكَان الْملك عَمْرو ... رغوثا حول قبتنا تخور
[5] الخور: الضِّعَاف.
[6] كَذَا فِي الْأُصُول. والحبحاب: الْقصير. ويروى: «جبجاب» بِالْجِيم. وَهُوَ الْكثير الهدر.
كَمَا يرْوى «خبخاب» بِالْخَاءِ، وَهُوَ الضَّعِيف.(1/267)
تَخَلَّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ بِلَاحِقِ ... إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ [1]
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمِّنَا ... إذَا سُئِلَا قَالَا إلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ
بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجَمَا [2] ... كَمَا جُرْجِمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي [3] عَلَقِ الصَّخْرِ [4]
أَخُصُّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
هُمَا أَغْمَزَا [5] لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا ... فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ أَكُفُّهُمَا [6] صِفْرُ [7]
هُمَا أَشْرَكَا فِي الْمَجْدِ مَنْ لَا أَبَا لَهُ ... مِنْ النَّاسِ إلَّا أَنْ يُرَسَّ [8] لَهُ ذِكْرُ
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمْ ... وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إذَا بغى النّصر
فو الله لَا تَنْفَكُّ مِنَّا عَدَاوَةٌ ... وَلَا مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ [9]
فَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُهُمْ وَعُقُولُهُمْ ... وَكَانُوا كَجَفْرٍ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ جَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا.
(ذِكْرُ مَا فَتَنَتْ بَهْ قُرَيْشٌ الْمُؤْمِنِينَ وَعَذَّبَتْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ
__________
[1] الْوَبر: دويبة على شكل الْهِرَّة. يُشبههُ بهَا لصغره، وَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ أَنه يصغر فِي الْعين لعلو الْمَكَان وَبعده.
[2] تجرجم: سقط وَانْحَدَرَ.
[3] ذُو علق: جبل فِي ديار بنى أَسد.
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «صَخْر» . وعَلى الرِّوَايَة الأولى يكون حذف التَّنْوِين من «علق لالتقاء الساكنين، كَمَا قرئَ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، الله الصَّمَدُ 112: 1- 2. بِحَذْف التَّنْوِين من «أحد» . وعَلى الرِّوَايَة الثَّانِيَة يكون ترك صرف «علق» على أَنه اسْم بقْعَة، وَإِمَّا لِأَنَّهُ اسْم علم، وَترك صرف الِاسْم الْعلم سَائِغ فِي الشّعْر، وَإِن لم يكن مؤنثا وَلَا أعجميا، نَحْو قَول عَبَّاس بن مرداس:
وَمَا كَانَ حصن وَلَا حَابِس ... يَفُوقَانِ مرداس فِي الْمجمع
[5] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وأغمز فلَان فِي فلَان: إِذا اسْتَضْعَفَهُ وعابه وَصغر شَأْنه. وَفِي أ:
«أغمرا» .
[6] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أكفهم» .
[7] الصفر: الْخَالِي.
[8] يرس: يذكر. يُقَال: رسست الحَدِيث، إِذا حدثت بِهِ فِي خَفَاء.
[9] شفر: أحد.(1/268)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ، وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ، حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيَّ الْمُطَّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقِيَامِ دُونَهُ، فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ، عَدُوِّ اللَّهِ الْمَلْعُونِ.
(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي مَدْحِ قَوْمِهِ لِحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ) :
فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مَا سَرَّهُ فِي جَهْدِهِمْ مَعَهُ، وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ، جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ قَدِيمَهُمْ، وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ، لِيَشُدَّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ، وَلِيَحْدَبُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَالَ:
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّهَا وَصَمِيمُهَا [1]
وَإِنْ حَصَلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا [2] ... فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا ... هُوَ الْمُصْطَفَى مَنْ سِرِّهَا وَكَرِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثَّهَا وَسَمِينُهَا ... عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا [3]
وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً ... إذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا [4]
وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلَّ يَوْمٍ كَرِيهَةً ... وَنَضْرِبُ عَنْ أَجْحَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا [5]
بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذَّوَاءُ وَإِنَّمَا ... بِأَكْنَافِنَا تَنْدَى وَتَنْمَى أُرُومُهَا [6]
__________
[1] سرها، وَسطهَا. وصميمها: خالصها.
[2] وَفِي رِوَايَة: «أَنْسَاب» .
[3] الغث: فِي الأَصْل، اللَّحْم الضَّعِيف فاستعاره هُنَا لمن لَيْسَ نسبه هُنَالك. وطاشت: ذهبت.
[4] ثنوا: عطفوا. وصعر الخدود: المائلة. يُقَال: صعر خَدّه، إِذا أماله إِلَى جِهَة، فعل المتكبر قَالَ الله تَعَالَى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ 31: 18.
[5] كَذَا فِي الْأُصُول. يُرِيد بهَا حصونها ومعاقلها. وَفِي رِوَايَة: «أحجارها» . والأحجار: جمع حجر، وَالْحجر (هُنَا) : مستعار، وَإِنَّمَا يُرِيد: عَن بيوتها ومساكنها.
[6] الذواء: الّذي جَفتْ رطوبته. والأروم: جمع أرومة، وَهِي الأَصْل.(1/269)
تَحَيُّرُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِيمَا يَصِفُ بِهِ الْقُرْآنَ
(اجْتِمَاعُهُ بِنَفَرِ مِنْ قُرَيْشٍ لِيَبِيتُوا ضِدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتِّفَاقُ قُرَيْشٍ أَنْ يَصِفُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّاحِرِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ) :
ثُمَّ إنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ، وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالُوا:
فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ [1] بِهِ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعْ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ [2] الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ، قَالُوا: فَنَقُولُ: مَجْنُونٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونِ.
لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلَا تَخَالُجِهِ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ، قَالُوا:
فَنَقُولُ: شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرِ، لَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ، قَالُوا: فَنَقُولُ: سَاحِرٌ، قَالَ:
مَا هُوَ بِسَاحِرِ، لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ [3] ، قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ [4] ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ لَغَدِقٌ [5]- وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ، جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «نقل» .
[2] الزمزمة: الْكَلَام الخلفى الّذي لَا يسمع.
[3] إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ يفعل السَّاحر بِأَن يعْقد خيطا ثمَّ ينفث فِيهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: وَمن شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ 113: 4. يعْنى الساحرات.
[4] العذق (بِالْفَتْح) : النَّخْلَة. يُشبههُ بالنخلة الَّتِي ثَبت أَصْلهَا وقوى وطاب فرعها إِذا جنى.
[5] الغدق: المَاء الْكثير. وَمِنْه يُقَال: غيدق الرجل: إِذا كثر بصاقه. وَكَانَ أحد أجداد النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسمى الغيدق، لِكَثْرَة عطائه.(1/270)
وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ. فَتُفَرِّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النَّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ، لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إلَّا حَذَّرُوهُ إيَّاهُ، وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ذَرْنِي وَمن خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً 74: 11- 16: أَيْ خَصِيمًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَنِيدٌ: مُعَانِدٌ مُخَالِفٌ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
وَنَحْنُ ضَرَّابُونَ رَأْسَ [1] الْعُنَّدِ [2]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ 74: 17- 22.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَسَرَ: كَرَّهَ وَجْهَهُ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
مُضَبَّرُ اللَّحْيَيْنِ بَسْرًا مِنْهَسَا [3]
يَصِفُ كَرَاهِيَةَ وَجْهِهِ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ:
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ 74: 23- 25.
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْمُغِيرَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [4] : فِي النَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُصَنِّفُونَ الْقَوْلَ
__________
[1] فِي أ: «هام» .
[2] فِي استشهاد ابْن هِشَام بِبَيْت رؤبة عقب تَفْسِيره لكلمة «العنيد» مَا يشْعر بِأَن «عِنْد» : جمع «لعنيد» . والّذي فِي اللِّسَان والراغب أَن عِنْد: جمع لعاند، وَهِي مماتة.
[3] المضبر: الشَّديد الْخلق. واللحيان: العظمان اللَّذَان فِي الْوَجْه، والمنهس: الّذي يَأْخُذ اللَّحْم بِمقدم أَسْنَانه، وَقد روى هَذَا الْبَيْت فِي اللِّسَان (مادتي ضبر ونهس) هَكَذَا:
مضبر اللحيين نسرا منهسا
وَنسبه ابْن مَنْظُور فِي مَادَّة (نهس) للعجاج، قَالَ: « ... وَفِي الحَدِيث: أَنه أَخذ عظما فنهس مَا عَلَيْهِ من اللَّحْم» أَي أَخذه بِفِيهِ، ونسر منهس. قَالَ العجاج ثمَّ سَاق الْبَيْت.
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أنزل الله تَعَالَى فِي رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ من الله تَعَالَى و ... إِلَخ» .(1/271)
فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 15: 90- 93.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاحِدَةُ الْعِضِينَ: عِضَةٌ، يَقُولُ: عَضَّوْهُ: فَرَّقُوهُ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
وَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ بِالْمُعَضَّى
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
(تَفَرُّقُ النَّفَرِ فِي قُرَيْشٍ يُشَوِّهُونَ رِسَالَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَعَلَ أُولَئِكَ النَّفَرُ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ لَقُوا مِنْ النَّاسِ، وَصَدَرَتْ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ كُلِّهَا.
(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي اسْتِعْطَافِ قُرَيْشٍ) :
فَلَمَّا خَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دَهْمَاءَ الْعَرَبِ أَنْ يَرْكَبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ، قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي تَعَوَّذَ فِيهَا بِحَرَمِ مَكَّةَ وَبِمَكَانِهِ مِنْهَا، وَتَوَدَّدَ فِيهَا أَشْرَافُ قَوْمِهِ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ شِعْرِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَارِكُهُ لِشَيْءِ أَبَدًا حَتَّى يَهْلِكَ دُونَهُ، فَقَالَ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدَّ فِيهِمْ ... وَقَدْ قَطَعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى ... وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ
وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنَّةً ... يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالْأَنَامِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ ... وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ [1]
__________
[1] المقاول: الْمُلُوك، يُرِيد بهم آباءه، وَلم يَكُونُوا ملوكا وَلَا كَانَ فيهم من ملك، بِدَلِيل حَدِيث أَبى سُفْيَان حِين قَالَ لَهُ هِرقل: هَل كَانَ فِي آبَائِهِ من ملك؟ فَقَالَ: لَا، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا السَّيْف الّذي ذكره أَبُو طَالب من هبات الْمُلُوك لِأَبِيهِ، فقد وهب ابْن ذِي يزن لعبد الْمطلب هبات جزيلة حِين وَفد عَلَيْهِ مَعَ قُرَيْش يهنئونه بظفره بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ بعد مولد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعامين.(1/272)
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي ... وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابهِ بِالْوَصَائِلِ [1]
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ ... لُدًى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلُّ نَافِلِ [2]
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السُّيُولِ مِنْ إسَافٍ وَنَائِلِ
مُوَسَّمَةُ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصَرَاتُهَا ... مُخَيَّسَةٌ بَيْنَ السَّدِيسِ وَبَازِلِ [3]
تَرَى الْوَدْعَ فِيهَا وَالرُّخَامَ وَزِينَةً ... بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةٌ كَالْعَثَاكِلِ [4]
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ ... عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ ... وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ [5]
وَبِالْبَيْتِ، حَقُّ الْبَيْتِ، مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ ... وباللَّه إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إذْ يَمْسَحُونَهُ ... إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ [6]
وَمَوْطِئِ [7] إبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
__________
[1] الوصائل: ثِيَاب حمر فِيهَا خطوط، كَانَ يكسى بهَا الْبَيْت.
[2] كل نافل: أَي كل متبرئ، يُقَال: انتفل من كَذَا، إِذا تَبرأ مِنْهُ، فَاسْتعْمل اسْم الْفَاعِل من الثلاثي غير الْمَزِيد. قَالَ الْأَعْشَى:
لَا تلفنا من دِمَاء الْقَوْم ننتفل
[3] موسمة: معلمة، وَيُقَال لذَلِك الوسم الّذي فِي الأعضاد: السطاع والرقمة أَيْضا، وللذي فِي الْفَخْذ: الْخياط، وللذي فِي الكشح: الكشاح، وَلما فِي قصرة الْعُنُق: العلاط. والقصرات: جمع قصرة، وَهِي أصل الْعُنُق، وخفضها بالْعَطْف على الأعضاد. والمخيسة: المذللة. والسديس من الْإِبِل:
الّذي دخل فِي السّنة الثَّامِنَة. والبازل: الّذي خرج نابه، وَذَلِكَ فِي السّنة التَّاسِعَة.
[4] الودع (بِالسُّكُونِ وَالْفَتْح) : خَرَزَات تنظم ويتحلى بهَا النِّسَاء وَالصبيان. قَالَ الشَّاعِر:
إِن الروَاة بِلَا فهم لما حفظوا ... مثل الْجمال عَلَيْهَا يحمل الودع
لَا الودع يَنْفَعهُ حمل الْجمال لَهُ ... وَلَا الْجمال بِحمْل الودع تنْتَفع
والرخام: أَي مَا قطع من الرخام. والعثاكل الأغصان الَّتِي ينْبت عَلَيْهَا الثَّمر وَاحِدهَا عثكول وَجَمعهَا.
عثاكيل، وحذفت الْيَاء للضَّرُورَة.
[5] ثَوْر وثبير وحراء. جبال بِمَكَّة، وَيُقَال إِن ثبيرا سمى كَذَلِك باسم رجل من هُذَيْل مَاتَ فِيهِ فَعرف بِهِ.
[6] اكتنفوه: أحاطوا بِهِ.
[7] يعْنى مَوضِع قَدَمَيْهِ، وَذَلِكَ فِيمَا يُقَال: حِين غسلت كنته رَأسه وَهُوَ رَاكب، فاعتمد بقدمه على الصَّخْرَة حَتَّى أمال رَأسه ليغسل، وَكَانَت سارة قد أخذت عَلَيْهِ عهدا حِين استأذنها فِي أَن يطالع تركته بِمَكَّة، فَحلف لَهَا أَنه لَا ينزل عَن دَابَّته، وَلَا يزِيد على السَّلَام واستطلاع الْحَال، غيرَة من سارة عَلَيْهِ من هَاجر، فحين اعْتمد على الصَّخْرَة أبقى الله فِيهَا أثر قدمه آيَة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
18- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/273)
وَأَشْوَاطٌ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا ... وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثُلِ [1]
وَمنْ حَجَّ بَيْتِ اللهِ مِنْ كُلِّ رَاكِبٍ ... وَمِنْ كُلِّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلِّ رَاجِلِ
وَبِالْمُشْعِرِ [2] الْأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ ... إلَالٌ إلَى مُفْضَى الشِّرَاجِ الْقَوَابِلِ [3]
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيَّةً ... يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ الرَّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ [4] وَالْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى ... وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ ومنازل
وَجمع إِذْ مَا الْمُقْرَبَاتِ أَجَزْنَهُ ... سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ [5]
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا ... يَؤُمُّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالْجَنَادِلِ
وَكِنْدَةُ إذَا هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيَّةً ... تُجِيزُ بِهِمْ حُجَّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ [6]
حَلِيفَانِ شَدَّا عَقْدَ مَا احْتَلَفَا لَهُ ... وَرَدَّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الْوَسَائِلِ
وَحَطْمِهِمْ [7] سُمْرَ [8] الصَّفَاحِ [9] وَسَرْحُهُ [10] ................
__________
[1] الشوط: الجرى إِلَى الْغَايَة مرّة وَاحِدَة، وَأَرَادَ بالأشواط السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة. والمروتين:
يُرِيد الصَّفَا والمروة، فغلب. والتماثيل: الصُّور، وَأَصلهَا تماثيل، وواحدها تِمْثَال، وَأسْقط الْيَاء ضَرُورَة.
[2] الْمشعر الْأَقْصَى: عَرَفَة.
[3] إلال (كسحاب وَكتاب) : جبل بِعَرَفَات، أَو جبل رمل عَن يَمِين الإِمَام بِعَرَفَة. قَالَ النَّابِغَة:
يزرن إلالا سيرهن التدافع
وسمى كَذَلِك لِأَن الحجيج إِذا رَأَوْهُ ألوا فِي السّير: أَي اجتهدوا فِيهِ ليدركوا الْموقف. قَالَ الراجز:
مهر أَبى الحبحاب لَا تشلى ... بَارك فِيك الله من ذِي أل
أَي من فرس ذِي سرعَة. والشراج: جمع شرج، وَهُوَ مسيل المَاء. والقوابل: المتقابلة.
[4] جمع: الْمزْدَلِفَة، معرفَة، وَسميت الْمزْدَلِفَة بذلك لِاجْتِمَاع النَّاس بهَا.
[5] المقربات: الْخَيل الَّتِي تقرب مرابطها من الْبيُوت لكرمها، والوابل: الْمَطَر الشَّديد.
[6] الحصاب: مَوضِع رمى الْجمار، مَأْخُوذ من الْحَصْبَاء، وَهُوَ مصدر نقل إِلَى مَكَان.
[7] الحطم: الْكسر.
[8] قَالَ أَبُو ذَر. والسمر: «من شجر الطلح، وَسكن الْمِيم تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا فِي عضد: عضد (بالإسكان) . وَمن ضم السِّين فَإِنَّهُ نقل حَرَكَة الْمِيم إِلَيْهَا، ثمَّ أسكن الْمِيم. وَقَالَ السهيليّ:
«يجوز أَن يكون أَرَادَ بِهِ السمر، يُقَال فِيهِ سمر وَسمر (بِسُكُون الْمِيم) ، وَيجوز نقل ضمة الْمِيم إِلَى مَا قبلهَا إِلَى السِّين، كَمَا قَالُوا فِي حسن: حسن، وَكَذَا وَقع فِي الأَصْل بِضَم السِّين، غير أَن هَذَا النَّقْل إِنَّمَا يَقع غَالِبا فِيمَا يُرَاد بِهِ الْمَدْح أَو الذَّم نَحْو حسن وقبح، كَمَا قَالَ: وَحسن ذَا أدبا، أَي حسن ذَا أدبا.
وَجَائِز أَن يُرَاد بالسمر هَاهُنَا: جمع أسمر وسمراء، وَيكون وَصفا للنبات وَالشَّجر، كَمَا يُوصف بالدهمة إِذا كَانَ مخضرا. وَفِي التَّنْزِيل: مُدْهامَّتانِ 55: 64. أَي خضراوان إِلَى السوَاد.
[9] كَذَا فِي أوالصفاح: جمع صفح، وَهُوَ عرض الْجَبَل، وَيُقَال هُوَ أَسْفَله حَيْثُ يسيل مَاؤُهُ.
وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الرماح» .
[10] السَّرْح: شجر عِظَام، وَقيل: كل شجر لَا شوك لَهُ.(1/274)
.............. وَشَبْرِقَهٌ ... [1] وَخْدَ النَّعَامِ الْجَوَافِلِ [2]
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مُعَاذٍ لِعَائِذٍ ... وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتَّقِي اللَّهَ عَاذِلِ
يُطَاعُ بِنَا الْعُدَّى وَوَدُّوا لَوْ انَّنَا [3] ... تُسَدُّ بِنَّا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ [4]
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَتْرُكُ مَكَّةَ ... وَنَظْعَنُ إلَّا أَمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ [5]
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نُبْزَى مُحَمَّدًا ... وَلَمَّا نُطَاعِنُ دُونَهُ وَنُنَاضِلْ [6]
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ [7]
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الْحَدِيدِ [8] إلِيْكُمُ ... نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلَاصِلِ [9]
وَحَتَّى تَرَى ذَا الضِّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ ... مِنْ الطَّعْنِ فِعْلَ الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ [10]
وَإِنَّا لَعَمْرُ اللَّهِ إنْ جَدَّ مَا أَرَى ... لَتَلْتَبِسَنَّ أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ
بِكَفَّيْ فَتًى مِثْلَ الشِّهَابِ سَمَيْدَعِ ... أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الْحَقِيقَةِ بَاسِلِ [11]
__________
[1] الشبرق: نَبَات يُقَال ليابسه الْحلِيّ، ولرطبه الشبرق.
[2] الوخد: السّير السَّرِيع. والجوافل: الذاهبة المسرعة.
[3] كَذَا ورد هَذَا الشّطْر فِي أ. والعدي: جمع عَاد، من عدا عَلَيْهِ يعدو. كَمَا قَالُوا: غاز وغزي، وعاف وَعفى. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
يطاع بِنَا أَمر الْعَدَاوَة أننا
[4] ترك وكابل: جيلان من النَّاس. (رَاجع شرح السِّيرَة لأبى ذَر) .
[5] كَذَا فِي الْأُصُول. والبلابل: وساوس الهموم، وَاحِدهَا بلبال. ويروى: فِي «تلاتل» . أَي فِي حَرَكَة واضطراب.
[6] نبزى مُحَمَّدًا: أَي نسلبه ونغلب عَلَيْهِ. وَرِوَايَة اللِّسَان وَالنِّهَايَة: يبزى مُحَمَّد أَي يقهر ويغلب، أَرَادَ «لَا يبزى» فَحذف «لَا» من جَوَاب الْقسم وَهِي مُرَادة. ونناضل: نرامى بِالسِّهَامِ.
[7] الحلائل: الزَّوْجَات، واحدتها: حَلِيلَة.
[8] فِي أ: «فِي الْحَدِيد» .
[9] الروايا: الْإِبِل الَّتِي تحمل المَاء والأسقية، واحدتها: راوية. وأصل هَذَا الْجمع: رواوى، ثمَّ يصير فِي الْقيَاس روائى، مثل حوائل جمع حَائِل. وَلَكنهُمْ قلبوا الكسرة فَتْحة بعد مَا قدمُوا الْيَاء قبلهَا، وَصَارَ وَزنه فوالع. وَإِنَّمَا قلبوه كَرَاهِيَة اجْتِمَاع واوين: وَاو فواعل وَالْوَاو الَّتِي هِيَ عين الْفِعْل. وَوجه آخر:
وَهُوَ أَن الْوَاو الثَّانِيَة قياسها أَن تنْقَلب همزَة فِي الْجمع لوُقُوع الْألف بَين واوين، فَلَمَّا انقلبت همزَة قلبوها يَاء كَمَا فعلوا فِي خَطَايَا وبابه، مِمَّا الْهمزَة فِيهِ مُعْتَرضَة فِي الْجمع. والصلاصل: المزادات لَهَا صلصلة بِالْمَاءِ.
[10] الضغن: الْعَدَاوَة. وَركب ردعه: إِذا خر صَرِيعًا لوجهه. والأنكب: المائل إِلَى جِهَة، والّذي مَشى على شقّ.
[11] السميدع: السَّيِّد. والباسل: الشجاع.(1/275)
شُهُورًا وَأَيَّامًا وَحَوْلًا مُجَرَّمًا [1] ... عَلَيْنَا وَتَأْتِي حَجَّةٌ بَعْدَ قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ، لَا أَبَا لَكَ، سَيِّدًا ... يَحُوطُ الذِّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ [2]
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ [3]
يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّافُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَة وفواضل
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أُسَيْدٌ وَبِكْرُهُ ... إلَى بُغْضِنَا وَجَزَّآنَا لِآكُلْ [4]
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ [5] ... وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيًّا وَابْنَ عَبْدِ يُغِوثْهُمْ ... وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ ... وَكُلٌّ تَوَلَّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ
فَإِنْ يُلْقِيَا [6] أَوْ يُمْكِنْ اللَّهُ مِنْهُمَا ... نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ الْمُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أَبَى غَيْرَ بُغْضِنَا ... لِيَظْعَنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ [7]
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلِّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ ... فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍو بِنَا ثُمَّ خَاتِلِ [8]
وَيُؤْلَى [9] لَنَا باللَّه مَا إنْ يَغُشُّنَا ... بَلَى قَدْ نَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلَّ تَلْعَةٍ ... مِنْ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمُجَادِلِ [10]
__________
[1] حولا مجرما: حولا كَامِلا، يُقَال: تجرم الْعَام، والشتاء، والصيف: تصرم. وجرمناه قطعناه، وأتممناه، وعام مجرم، وَفِي الْأُصُول: «محرما» بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ تَصْحِيف.
[2] الذمار: مَا يلزمك حمايته. والذرب (مخففا) : الْفَاحِش الْمنطق. والمواكل: الّذي لَا جد عِنْده، فَهُوَ يكل أُمُوره إِلَى غَيره.
[3] ثمال الْيَتَامَى: الّذي يثملهم وَيقوم بهم، يُقَال: هُوَ ثمال مَال: أَي يقوم بِهِ.
[4] سيعرض ابْن إِسْحَاق للْكَلَام على الْأَعْلَام الَّتِي وَردت فِي هَذِه القصيدة بعد الْفَرَاغ مِنْهَا.
[5] لم يربع: لم يقم وَلم يعْطف.
[6] كَذَا فِي أ. وَيُرِيد بالإلقاء: التَّسْلِيم والخضوع. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «يلفيا» بِالْفَاءِ.
[7] كَذَا فِي أ. وَالشَّاء: اسْم للْجمع. والجامل: اسْم لجَماعَة الْجمال، وَمثله الباقر، اسْم لجَماعَة الْبَقر. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ليطغنا ... إِلَخ» .
[8] الختل: الخداع وَالْمَكْر.
[9] يُولى: يقسم وَيحلف.
[10] التلعة: المشرف من الأَرْض. وأخشب (بِضَم) الشين. جمع الأخشبين، وَهِي جبلان بِمَكَّة، جمعهَا مَعَ اتَّصل بهما على غير قِيَاس، إِذْ الْقيَاس: أخاشب، ويروى، بِفَتْح الشين على الْإِفْرَاد، وَيُرَاد بِهِ التَّثْنِيَة لشهرة الأخشبين. والمجادل: الْقُصُور والحصون فِي رُءُوس الْجبَال. كَأَنَّهُ يُرِيد مَا بَين جبال مَكَّة فقصور الشَّام وَالْعراق.(1/276)
وَسَائِلْ أَبَا الْوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتَنَا ... بِسَعْيِكَ فِينَا مُعْرِضًا كَالْمُخَاتِلِ
وَكُنْتَ امْرَأً مِمَّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ ... وَرَحْمَتُهُ فِينَا وَلَسْتَ بِجَاهِلِ
فَعُتْبَةُ لَا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ [1] ... حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ [2]
وَمَرَّ أَبُو سُفْيَانَ عَنِّي مُعْرِضًا ... كَمَا مَرَّ قَيْلٌ [3] مِنْ عِظَامِ الْمَقَاوِلِ
يَفِرُّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ ... وَيَزْعُمُ أَنِّي لَسْتُ عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ الْمُنَاصِحِ أَنَّهُ ... شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ [4] الدَّوَاخِلِ [5]
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْكَ فِي يَوْمٍ نَجْدَةٍ ... وَلَا مُعْظِمٍ عِنْدَ الْأُمُورِ الْجَلَائِلِ
وَلَا يَوْمَ خَصْمٍ [6] إذَا أَتَوْكَ أَلِدَّةً [7] ... أُولِي جَدَلٍ مِنْ الْخُصُومِ الْمَسَاجِلِ [8]
أَمُطْعِمُ إنَّ الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً ... وَإِنِّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْتُ بِوَائِلِ [9]
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسُّ [10] شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ عَائِلٍ [11]
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «كاسح» بِالسِّين، وَهُوَ تَصْحِيف.
[2] الدغاول: الْأُمُور الْفَاسِدَة، وَقيل: الدغاول: الغوائل.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قبل» بِالْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ تَصْحِيف.
[4] كَذَا فِي الْأُصُول. والعارمات: الشديدات. ويروى: «عازمات» بالزاي. أَي الَّتِي عزم على إنقاذها.
[5] كَذَا فِي الْأُصُول. والدواخل: النمائم والإفساد بِهن بَين النَّاس. ويروى: «الذواحل» . والذواحل العداوات، مَأْخُوذ من الذحل. وَهُوَ الثأر.
[6] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «خسم» وَهُوَ تَحْرِيف.
[7] فِي أ: «أشدة» .
[8] كَذَا فِي الْأُصُول. والمساجل: الَّذين يعارضونه فِي الْخُصُومَة ويغالبونه، وَأَصله من المساجلة، وَهُوَ أَن يأتى الرجل بِمثل مَا أَتَى بِهِ صَاحبه. ويروى: «بالمساحل» بِالْحَاء الْمُهْملَة. والمساحل: الخطباء البلغاء، واحدهم: مسحل.
[9] ساموك خطة: كلفوك. وَلست بوائل: لست بناج. يُقَال: مَا وأل من كَذَا: أَي مَا نجا.
وَفِي الْخَبَر: فَلَا وألت نفس الجبان: أَي لَا نجت.
[10] كَذَا فِي أ. وأخس: أنقص. وَفِي سَائِر الْأُصُول: لَا يخيس، وَهُوَ من قَوْلهم: خاس بالعهد، إِذا نقضه وأفسده ويروى: «يحص» بالصَّاد. من حص الشّعْر: إِذا أذهبه.
[11] العائل: الحائر.(1/277)
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ [1]
وَنَحْنُ الصَّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ ... وَآلِ قُصَيٍّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلَّبُوا ... عَلَيْنَا الْعِدَا مِنْ كُلِّ طِمْلٍ وَخَامِلٍ [2]
فَعَبْدُ مَنَافٍ أَنْتُمْ خَيْرُ قَوْمِكُمْ ... فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلَّ وَاغِلِ [3]
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمْ وَعَجَزْتُمْ ... وَجِئْتُمْ بِأَمْرٍ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ [4]
وَكُنْتُمْ حَدِيثًا حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ ... الْآنَ حِطَابُ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ [5]
لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا ... وَخِذْلَانُنَا وَتَرْكُنَا فِي الْمَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْمًا نَتَّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ [6] ... وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ [7]
وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلُّ صَقْرٍ حُلَاحِلِ [8]
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرُّ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى ... وَأَلْأَمُ حَافٍ مِنْ مَعَدِّ وَنَاعِلِ
فَأَبْلِغْ قُصَيًّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا ... وَبَشِّرْ قُصَيًّا بَعْدَنَا بِالتَّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلًا قُصَيًّا عَظِيمَةٌ ... إِذا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي الْمَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْبًا خِلَالَ بُيُوتِهِمْ ... لَكُنَّا أُسًى عِنْدَ النِّسَاءِ الْمَطَافِلِ [9]
فَكُلُّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدُّهُ ... لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبَّهُ غَيْرَ طَائِلِ
__________
[1] قيضا: عوضا. والغياطل: بَنو سهم، قيل سموا كَذَلِك لِأَن رجلا مِنْهُم قتل جانا طَاف بِالْبَيْتِ سبعا، ثمَّ خرج من الْمَسْجِد فَقتله، فأظلمت مَكَّة حَتَّى فزعوا من شدَّة الظلمَة الَّتِي أَصَابَتْهُم. والغيطلة: الظلمَة الشَّدِيدَة.
[2] ألبوا: اجْتَمعُوا. والطمل: الرجل الْفَاحِش، وَالْفَقِير أَيْضا.
[3] الواغل: الدَّاخِل على الْقَوْم وهم يشربون وَلم يدع.
[4] مُخطئ للمفاصل: أَي بعيد عَن الجادة وَالصَّوَاب.
[5] حطب: اسْم للْجمع، مثل ركب، وَلَيْسَ بِجمع، لِأَنَّك تَقول فِي تصغيره: حطيب. وحطاب:
جمع حَاطِب. والمراجل: الْقُدُور، وَاحِدهَا: مرجل. وَقيل: هن الْقُدُور من النّحاس خَاصَّة، وَمعنى الْبَيْت: كُنْتُم متفقين لَا تحتطبون إِلَّا لقدر وَاحِدَة، فَأنْتم الْآن بِخِلَاف ذَلِك.
[6] كَذَلِك فِي الْأُصُول. ونتئر: نَأْخُذ بثأرنا مِنْكُم. ويروى: «نبتئر» أَي ندخره حَتَّى ننتصف مِنْكُم، يُقَال: ابتأرت الشَّيْء: إِذا خبأته وادخرته.
[7] اللقحة: النَّاقة ذَات اللَّبن. والباهل: النَّاقة الَّتِي لَا صرار على أخلافها، فَهِيَ مُبَاحَة الْحَلب.
[8] الحلاحل: السَّيِّد فِي عشيرته، الشجاع الركين فِي مَجْلِسه، وَهَذَا الْبَيْت والّذي بعده ساقطان من.
[9] الأسى: جمع أُسْوَة، أَي لاقتدى بَعْضنَا بِبَعْض فِي الدّفع عَنْهُم. والمطافل: ذَوَات الْأَطْفَال.(1/278)
سِوَى أَنَّ رَهْطًا مِنْ كِلَابِ بْنِ مُرَّةٍ ... بَرَاءٌ [1] إلَيْنَا مِنْ مَعَقَّةِ خَاذِلِ
وَهَنَّا لَهُمْ حَتَّى تَبَدَّدَ جَمْعُهُمْ ... وَيَحْسُرَ عَنَّا كُلَّ بَاغٍ وَجَاهِلِ [2]
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السِّقَايَةِ فِيهِمْ ... وَنَحْنُ الْكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالْكَوَاهِلِ [3]
شَبَابٌ مِنْ الْمُطَيِّبِينَ وَهَاشِمٍ ... كَبِيضِ السُّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصَّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا ... وَلَا حَالَفُوا إلَّا شِرَارَ الْقَبَائِلِ
بِضَرْبٍ تَرَى الْفِتْيَانَ فِيهِ كَأَنَّهُمْ ... ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ [4]
بَنِي أَمَةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكِيَّةٍ [5] ... بَنِي جُمَحٍ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ
وَلَكِنَّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةٍ ... بِهِمْ نُعِيَ الْأَقْوَامُ عِنْدَ الْبَوَاطِلِ
وَنِعْمَ ابْنِ أُخْتِ الْقَوْمِ غَيْرَ مُكَذَّبٍ ... زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مِنْ حَمَائِلِ
أَشَمُّ مِنْ الشُّمِّ الْبَهَالِيلِ يَنْتَمِي ... إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ الْمَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْدًا بِأَحْمَدَ ... وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ الْمُحِبِّ الْمُوَاصِلِ
فَلَا [6] زَالَ فِي الدُّنْيَا جَمَالًا لِأَهْلِهَا ... وَزِيَنًا لِمَنْ وَالَاهُ رَبُّ الْمَشَاكِلِ [7]
__________
[1] قَالَ السهيليّ: «يُقَال قوم برَاء، (بِالْفَتْح وبالكسر) . فَأَما برَاء (بِالْكَسْرِ) فَجمع بَرِيء، مثل كريم وكرام. وَأما برَاء (بِالْفَتْح) فمصدر مثل سَلام. والهمزة فِيهِ وَفِي الّذي قبله لَام الْفِعْل، يُقَال:
رجل برَاء ورجلان برَاء. وَإِذا كسرتها أَو ضممتها لم يجز فِي الْجمع. وَأما برَاء (بِضَم الْبَاء) فَالْأَصْل فِيهِ بُرَآء مثل كرماء، فاستثقلوا اجْتِمَاع الهمزتين فحذفوا الأولى، وَكَانَ وَزنه فعلاء، فَلَمَّا حذفوا الَّتِي هِيَ لَام الْفِعْل صَار وَزنه فعاء وَانْصَرف لِأَنَّهُ أشبه فعالا. وَالنّسب إِلَيْهِ، إِذا سميت بِهِ براوى. وَالنّسب إِلَى الآخرين: برائى وبرائى. وَزعم بَعضهم إِلَى أَن برَاء (بِضَم أَوله) من الْجمع الّذي جَاءَ على فعال» .
[2] هَذَا الْبَيْت والأبيات السِّتَّة الَّتِي بعده غير مَوْجُودَة فِي أ.
[3] الكدى: جمع كدية، وَهِي الصفاة الْعَظِيمَة الشَّدِيدَة. يشبههم بهَا فِي الْمَنْفَعَة والعزة، والكواهل:
جمع كَاهِل، وَهُوَ سَنَد الْقَوْم وعهدتهم.
[4] الخرادل: الْقطع الْعَظِيمَة.
[5] هندكى (بِكَسْر الْهَاء وَالدَّال) : من أهل الْهِنْد، وَلَيْسَ من لَفظه، لِأَن الْكَاف لَيست من حُرُوف الزِّيَادَة وَقد تكون عَلامَة للنسب من بعض اللُّغَات.
[6] هَذَا الْبَيْت سَاقِط فِي أ.
[7] كَذَا فِي الأَصْل، وَلَعَلَّه يُرِيد بهَا العظيمات من الْأُمُور. وَإِن صَحَّ أَن هَذَا اللَّفْظ من هَذَا الْبَيْت فَمَا أقربه بِهِ إِلَى أَنه مَصْنُوع، ويلاحظ أَن الأبيات الَّتِي استبعدتها «أ» وَلم تثبتها، على أَكْثَرهَا، إِن لم يكن كلهَا مسحة الضعْف والانحطاط عَن مستوى القصيدة، حَتَّى ليكاد يبلغ الظَّن بهَا إِلَى أَنَّهَا دخيلة، ويرجح ذَلِك عدم تعرض السهيليّ وأبى ذَر لَهَا بِشَيْء مِمَّا يدل على أَنَّهُمَا لم يقعا على شَيْء مِنْهَا.(1/279)
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمَّلٍ ... إذَا قَاسَهُ الْحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طائش ... يوالي إِلَهًا لَيْسَ عَنهُ بغافل
فو الله لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُنَّةٍ [1] ... تَجُرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ
لَكِنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ... مِنْ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ... لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحَمْدٌ فِي أَرُومَةٍ ... تُقَصِّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ [2]
حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْتُهُ ... ودافعت عَنهُ بالذّرى وَالْكَلَاكِلِ [3]
فَأَيَّدَهُ رَبُّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ ... وَأَظْهَرَ دِينًا حَقُّهُ غَيْرُ بَاطِلِ [4]
رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ ... إلَى الْخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ الْمَحَاصِلِ [5]
فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيٍّ صُقَيْبَةً [6] ... فَلَا بُدَّ يَوْمًا مَرَّةً مِنْ تَزَايُلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لِي مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ أَكْثَرَهَا.
(دَعَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ حِينَ أَقْحَطُوا، فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَوَدَّ لَوْ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ حَيٌّ، فَرَأَى ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، قَالَ: أَقْحَطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَاسْتَسْقَى، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ مِنْ الْمَطَرِ مَا أَتَاهُ أَهْلُ الضَّوَاحِي [7] يَشْكُونَ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بسبة» .
[2] السُّورَة «بِضَم السِّين» : الْمنزلَة. وَالسورَة (بِفَتْح السِّين) : الشدَّة والبطش.
[3] حدبت: عطفت ومنعت. والذرا: جمع ذرْوَة، وَهِي أَعلَى ظهر الْبَعِير. والكلاكل: جمع كلكل، وَهُوَ عظم الصَّدْر.
[4] هَذَا الْبَيْت والبيتان اللَّذَان بعده سَاقِطَة فِي أ.
[5] ميل: جمع أميل، وَهُوَ الجبان والّذي لَا يحسن الرّكُوب، أَو الّذي لَا يمِيل عَن الْحق.
[6] الصقب (بِوَزْن فَرح) الْقَرِيب.
[7] الضواحي: جمع ضاحية، وَهِي الأَرْض البرَاز الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يكن من الْمَطَر وَلَا منجاة من للسيول. وَقيل: ضاحية كل بلد: خَارِجَة.(1/280)
مِنْهُ الْغَرَقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهمّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا [1] ، فَانْجَابَ السَّحَابُ عَنْ الْمَدِينَةِ فَصَارَ حَوَالَيْهَا كَالْإِكْلِيلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْيَوْمَ لَسَرَّهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتَ قَوْلَهُ:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
قَالَ: أَجَلْ [2] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَوْلُهُ «وَشَبْرِقَهٌ» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
(الْأَسْمَاءُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي قَصِيدَةِ أَبِي طَالِبٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْغَيَاطِلِ: مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنُ هُصَيْصٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابْن حَرْبِ ابْن أُمَيَّةَ. وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَزُهَيْرُ
__________
[1] هُوَ من حسن الْأَدَب فِي الدُّعَاء: لِأَنَّهَا رَحْمَة الله وَنعمته الْمَطْلُوبَة مِنْهُ، فَكيف يطْلب مِنْهُ رفع نعْمَته وكشف رَحمته؟
[2] قَالَ السهيليّ: «فان قيل كَيفَ قَالَ أَبُو طَالب:
وأبيض يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ
وَلم يره قطّ استسقى وَإِنَّمَا كَانَت استسقا آته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْمَدِينَةِ فِي سفر وَحضر وفيهَا شوهد مَا كَانَ من سرعَة إِجَابَة الله لَهُ؟ فَالْجَوَاب: أَن أَبَا طَالب قد شَاهد من ذَلِك أَيْضا فِي حَيَاة عبد الْمطلب مَا دله على مَا قَالَ.
روى أَبُو سُلَيْمَان حمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم البستي النيسابورىّ أَن رقيقَة بنت أَبى صَيْفِي بن هَاشم قَالَت: تَتَابَعَت على قُرَيْش سنو جَدب قد أقحلت الظلْف وأرقت الْعظم، فَبينا أَنا رَاقِدَة للهم أَو مهدمة ومعى صنوي. إِذا أَنا بهاتف صيت يصْرخ بِصَوْت صَحِلَ يَقُول: يَا معشر قُرَيْش: إِن هَذَا النَّبِي الْمَبْعُوث مِنْكُم، هَذَا إبان نجومه، فَحَيَّهَلا بالحيا وَالْخصب، أَلا فانظروا مِنْكُم رجلا طوَالًا عظاما أَبيض أَشمّ الْعرنِين لَهُ فَخر يَكْظِم عَلَيْهِ، أَلا فليخص هُوَ وَولده وليدلف إِلَيْهِ من كل بطن رجل فليشنوا من المَاء وليمسوا من الطّيب وليطوفوا بِالْبَيْتِ سبعا إِلَّا وَفِيهِمْ الطّيب الطَّاهِر لذاته، أَلا فَليدع الرجل وليؤمن الْقَوْم، إِلَّا فغثتم أبدا مَا عشتم. قَالَت:
فَأَصْبَحت مَذْعُورَة قد قف جلدي، وَوَلِهَ عَقْلِي، فَاقْتَصَصْت رُؤْيَايَ، فو الْحُرْمَة وَالْحرم، إِن بَقِي أبطحي إِلَّا قَالَ هَذَا شيبَة الْحَمد، وتتامت عِنْده قُرَيْش وانقض إِلَيْهِ النَّاس من كل بطن رجل فَشُنُّوا وَمَسُّوا واستلموا وطوفوا، ثمَّ ارْتَقَوْا أَبَا قبيس وطفق الْقَوْم يدقون حوله مَا إِن يدْرك سَعْيهمْ مهلة حَتَّى قروا بِذرْوَةِ الْجَبَل، واستكفوا جنابيه. فَقَامَ عبد الْمطلب فاعتضد ابْن ابْنه مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرفعه على عَاتِقه وَهُوَ يَوْمئِذٍ غُلَام قد أَيفع، أَو قد كرب ثمَّ قَالَ: اللَّهمّ سَاد الْخلَّة وَكَاشف الْكُرْبَة أَنْت عَالم غير معلم، وَمَسْئُول غير مبخل، وَهَذِه عبداؤك وإماؤك بِعَذِرَاتٍ حَرمك يَشكونَ إِلَيْك سنتهمْ فاسمعن اللَّهمّ وأمطرن علينا غيثا مريعا مُغْدِقًا. فَمَا راموا وَالْبَيْت حَتَّى انفجرت السَّمَاء بِمَائِهَا وكظ الْوَادي بثجيجه» .(1/281)
ابْن أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَسِيدٌ، وَبِكْرُهُ: عَتَّابُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعَيْصِ بْنِ أُمَيَّةَ ابْن عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ. وَعُثْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ. وَقُنْفُذُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ. وَأَبُو الْوَلِيدِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَأُبَيٌّ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثَّقَفِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْأَخْنَسُ. لِأَنَّهُ خَنَسَ بِالْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا اسْمُهُ أُبَيٌّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عِلَاجٍ، وَهُوَ عِلَاجُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْبَةَ.
وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ. وَسُبَيْعُ ابْن خَالِدٍ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ. وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْن قُصَيٍّ، وَهُوَ ابْنُ الْعَدَوِيَّةِ. وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ الَّذِي قَرَنَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَبْلٍ حِينَ أَسْلَمَا، فَبِذَلِكَ كَانَا يُسَمَّيَانِ الْقَرِينَيْنِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبى طَالب عَلَيْهِ السَّلَام يَوْمَ بَدْرٍ.
وَأَبُو عَمْرٍو قَرَظَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. «وَقَوْمٌ عَلَيْنَا أَظِنَّةٌ» : بَنُو بَكْرِ ابْن عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَدَّدَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ مِنْ الْعَرَبِ.
(انْتِشَارُ ذِكْرِ الرَّسُولِ فِي الْقَبَائِلِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ) :
فَلَمَّا انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرَبِ، وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ، ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنْ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذُكِرَ، وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَكَانُوا لَهُمْ حُلَفَاءَ، وَمَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا وَقَعَ ذِكْرُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَتَحَدَّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ [1] . أَخُو بَنِي وَاقِفٍ.
(نَسَبُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نَسَبُ ابْنِ إسْحَاقَ أَبَا قَيْسٍ هَذَا هَاهُنَا إلَى بَنِي وَاقِفٍ، وَنَسَبُهُ
__________
[1] وَاسم الأسلت: عَامر.(1/282)
فِي حَدِيثِ الْفِيلِ إلَى خَطْمَةَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَنْسِبُ الرَّجُلَ إلَى أَخِي جَدِّهِ الَّذِي هُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ مِنْ وَلَدِ نُعَيْلَةَ أَخِي غِفَارٍ. وَهُوَ غِفَارُ بْنُ مُلَيْلٍ، وَنُعَيْلَةُ بْنُ مُلَيْلِ بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ ابْن عَبْدِ مَنَاةَ، وَقَدْ قَالُوا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورٍ وَسُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ: مِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَوَائِلٌ، وَوَاقِفٌ، وَخَطْمَةُ إخْوَةٌ مِنْ الْأَوْسِ.
(شِعْرُ ابْنُ الْأَسْلَتِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ- وَكَانَ يُحِبُّ قُرَيْشًا، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا، كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْنَبُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ يُقِيمُ عِنْدَهُمْ السِّنِينَ بِامْرَأَتِهِ- قَصِيدَةً يُعَظِّمُ فِيهَا الْحُرْمَةَ، وَيَنْهَى قُرَيْشًا فِيهَا عَنْ الْحَرْبِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُذَكِّرُهُمْ بَلَاءَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، وَدَفْعَهُ عَنْهُمْ الْفِيلَ وَكَيْدَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ:
يَا رَاكِبًا إمَّا عَرَضَتْ فَبَلِّغْنَ ... مُغَلْغِلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ غَالِبِ [1]
رَسُولُ امْرِئٍ قَدْ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ ... عَلَى النَّأْيِ مَحْزُونٍ بِذَلِكَ نَاصِبِ [2]
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مَعَرَّسٌ ... فَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي وَمَآرِبِي [3]
نُبَيِّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلَّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبِ [4]
__________
[1] المغلغلة. الرسَالَة. وَقَالَ السهيليّ: «المغلغلة: الدَّاخِلَة إِلَى أقْصَى مَا يُرَاد بُلُوغه مِنْهَا» .
[2] الناصب: المعيى التَّعَب.
[3] المعرس: الْمَكَان ينزل فِيهِ المسافرون فِي آخر اللَّيْل، يقفون فِيهِ وَقْفَة للاستراحة ثمَّ يرتحلون.
[4] شرجين: نَوْعَيْنِ. والأزمل: الصَّوْت الْمُخْتَلط. والمذكى: الّذي يُوقد النَّار. والحاطب: الّذي يحطب لَهَا. ضرب هَذَا مثلا لنار الْحَرْب. كَمَا قَالَ الآخر:
أرى خلل الرماد وميض نَار ... ويوشك أَن يكون لَهَا ضرام
فَإِن النَّار بالعودين تذكى ... وَإِن الْحَرْب أَولهَا كَلَام(1/283)
أُعِيذُكُمْ باللَّه مِنْ شَرِّ صُنْعِكُمْ ... وَشَرِّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسِّ الْعَقَارِبِ
وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ ... كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا حَقُّ صَائِبِ [1]
فَذَكِّرْهُمْ باللَّه أَوَّلَ وَهْلَةٍ ... وَإِحْلَالِ أَحْرَامِ الظِّبَاءِ الشَّوَازِبِ [2]
وَقُلْ لَهُمْ وَاَللَّهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ ... ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ فِي الْمَرَاحِبِ [3]
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ... هِيَ الْغُولُ لِلْأَقْصَيْنَ أَوْ لِلْأَقَارِبِ [4]
تُقَطِّعُ أَرْحَامًا وَتُهْلِكُ أُمَّةً ... وَتَبْرِي السَّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ وَغَارِبِ [5]
وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيَّةِ بَعْدَهَا ... شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ الْمُحَارِبِ [6]
وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا سَوَابِغًا ... كَأَنَّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ الْجَنَادِبِ [7]
فَإِيَّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنَّكُمْ ... وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرَّ الْمَشَارِبِ
تَزَيَّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمَّ يَرَوْنَهَا ... بِعَاقِبَةٍ إذْ بَيَّنَتْ، أُمَّ صَاحِبِ [8]
تُحَرِّقُ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا وَتَنْتَحِي ... ذَوِي الْعِزِّ مِنْكُمْ بِالْحُتُوفِ الصَّوَائِبِ [9]
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ ... فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ فِي حَرْبِ حَاطِبِ [10]
وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مُسَوَّدٍ ... طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ غَيْرُ خَائِبِ
__________
[1] الأشافي: جمع إشفى، وَهِي المخرز.
[2] أحرام الظباء: هِيَ الَّتِي يحرم صيدها فِي الْحرم. يُقَال لمن دخل فِي الشَّهْر الْحَرَام، أَو فِي الْبَلَد الْحَرَام محرم. والشوازب: الضامرة الْبُطُون. أَي إِن بلدكم بلد حرَام تأمن فِيهِ الظباء الشوازب الَّتِي تَأتيه من بعد لتأمن فِيهِ، فَهِيَ شازبة ضامرة من بعد الْمسَافَة، وَإِذا لم تحلوا بالظباء فِيهِ فأحرى أَلا تحلوا بدمائكم.
[3] المراحب: الْمَوَاضِع المتسعة.
[4] الغول: الْهَلَاك.
[5] تبرى: تقطع. والسديف: لحم السنام. وَالْغَارِب: أَعلَى الظّهْر.
[6] الأتحمية: ثِيَاب رقاق تصنع بِالْيمن. والشليل: درع قَصِيرَة. والأصداء: جمع صدأ: الْحَدِيد.
[7] القتير: حلق الدرْع، شبهها بعيون الْجَرَاد. وَأخذ هَذَا الْمَعْنى التنوخي فَقَالَ:
كأثواب الأراقم مزقتها ... فخاطتها بأعينها الْجَرَاد
[8] بيّنت: اتضحت. وَأم صَاحب: أَي عجوزا كَأُمّ صَاحب لَك، إِذْ لَا يصحب الرجل إِلَّا رجل فِي سنه.
[9] لَا تشوى: لَا تخطئ. وتنتحى: تقصد.
[10] سيعرض ابْن إِسْحَاق للْكَلَام على داحس وحاطب بعد الِانْتِهَاء من القصيدة.(1/284)
عَظِيمِ رَمَادِ النَّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ ... وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمٍ الْمَضَارِبِ [1]
وَمَاءِ هُرِيقَ فِي الضَّلَالِ [2] كَأَنَّمَا ... أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصَّبَا وَالْجَنَائِبِ [3]
يُخَبِّرُكُمْ عَنْهَا امْرُؤٌ حَقُّ عَالِمٌ ... بِأَيَّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ التَّجَارِبِ
فَبِيعُوا الْحِرَابَ مِلْمُحَارِبِ وَاذْكُرُوا ... حِسَابَكُمْ وَاَللَّهُ خَيْرُ مُحَاسِبِ
وَلِيُّ امْرِئٍ فَاخْتَارَ دِينًا فَلَا يَكُنْ ... عَلَيْكُمْ رَقِيبًا غَيْرَ رَبِّ الثَّوَاقِبِ [4]
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا فَأَنْتُمْ ... لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى بِالذَّوَائِبِ [5]
وَأَنْتُمْ لِهَذَا النَّاسِ نُورٌ وَعِصْمَةٌ ... تُؤَمُّونَ، وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ [6]
وَأَنْتُمْ، إذَا مَا حُصِّلَ النَّاسُ، جَوْهَرٌ ... لَكُمْ سُرَّةُ الْبَطْحَاءِ شُمُّ الْأَرَانِبِ [7]
تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا عَتِيقَةً ... مُهَذَّبَةَ الْأَنْسَابِ غَيْرَ أَشَائِبِ [8]
تَرَى طَالِبَ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ ... عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنَّ سَرَاتَكُمْ ... عَلَى كُلِّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ الْجَبَاجِبِ [9]
وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا وَأَعْلَاهُ سُنَّةً ... وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقِّ وَسْطَ الْمَوَاكِبِ
فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ [10]
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمَصْدَقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسَّهْلِ تُمْسِي وَرَجْلُهُ ... عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ [11]
__________
[1] كَذَا فِي الْأُصُول. يُرِيد أَن مضَارب سيوفه غير مذمومة وَلَا رَاجِعَة عَلَيْهِ إِلَّا بالثناء وَالْوَصْف بالمكارم. ويروى الضرائب. والضرائب: الطباع.
[2] كَذَا فِي الْأُصُول. ويروى: «فِي الصلال» . والصلال: جمع صلَة، وَهِي الأَرْض الَّتِي لَا تمسك المَاء.
[3] أذاعت بِهِ: بددته. والجنائب: جمع جنوب. يُرِيد ريح الشمَال وريح الْجنُوب.
[4] الثواقب: النُّجُوم.
[5] الذوائب: الأعالي.
[6] الأحلام: الْعُقُول. وعوازب: بعيدَة.
[7] سرة الشَّيْء: خَيره وَأَعلاهُ. وشم: مُرْتَفعَة. والأرانب: جمع أرنبة، وَهِي الَّتِي فِيهَا ثقب الْألف
[8] غير أشائب: غير مختلطة، يعْنى أَنَّهَا خَالِصَة النّسَب.
[9] الجباجب: الْمنَازل. وَاحِدهَا جبجبة.
[10] صلوا: ادعوا. والأخاشب: أَرَادَ الأخشبين، وهما جبلا مَكَّة، فجمعهما مَعَ مَا حولهما.
[11] القاذفات: أعالى الْجبَال. والمناقب: الطّرق فِي أعالى الجبالى، وَاحِدهَا: منقبة.(1/285)
فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ [1]
فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إلَى أَهْلِهِ مِلْحُبْشِ [2] غَيْرُ عَصَائِبِ
فَإِنْ تَهْلِكُوا نَهْلِكْ وَتَهْلِكْ مَوَاسِمٌ ... يُعَاشُ بِهَا، قَوْلُ امْرِئٍ غَيْرِ كَاذِبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ: «وَمَاءٌ هُرِيقَ» ، وَبَيْتَهُ: «فَبِيعُوا الْحِرَابَ» ، وَقَوْلَهُ: «وَلِيُّ امْرِئِ فَاخْتَارَ» ، وَقَوْلَهُ:
عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
(حَرْبٌ دَاحِسً) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ:
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ
فَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحَوِيُّ: أَنَّ دَاحِسًا فَرَسٌ كَانَ لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ ابْن غَطَفَانَ، أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ [3] بْنِ جُؤَيَّةَ بْنِ لَوْذَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ فَزَارَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، يُقَالُ لَهَا: الْغَبْرَاءُ. فَدَسَّ حُذَيْفَةُ قَوْمًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا وَجْهَ دَاحِسٍ إنْ رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ سَابِقًا، فَجَاءَ دَاحِسٌ سَابِقًا فَضَرَبُوا وَجْهَهُ، وَجَاءَتْ الْغَبْرَاءُ. فَلَمَّا جَاءَ فَارِسُ دَاحِسٍ أَخْبَرَ قَيْسًا الْخَبَرَ، فَوَثَبَ أَخُوهُ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ فَلَطَمَ وَجْهَ الْغَبْرَاءِ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ فَلَطَمَ مَالِكًا. ثُمَّ إنَّ أَبَا الْجُنَيْدِبِ الْعَبْسِيَّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَالِكًا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ أَخُو حُذَيْفَةَ ابْن بَدْرٍ:
__________
[1] السافي: الّذي أَصَابَهُ الْغُبَار. والحاصب الّذي أَصَابَته الْحَصْبَاء، وَهُوَ على معنى النّسَب، كَمَا قَالُوا:
تامر وَلابْن. وَقد يكون السافي: الّذي يثير الْغُبَار، والحاصب: الّذي يثير الْحَصْبَاء، أَي يقتلعها.
[2] فِي أ: «ملجيش» .
[3] فِي أ: « ... بن عَمْرو بن جؤية ... إِلَخ» .(1/286)
قَتَلْنَا بِعَوْفٍ مَالِكًا وَهُوَ ثَأْرُنَا ... فَإِنْ تَطْلُبُوا مِنَّا سِوَى الْحَقِّ تَنْدَمُوا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ:
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النِّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ [1]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ عَبْسٍ وَفَزَارَةَ، فَقُتِلَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ يَرْثِي حُذَيْفَةَ، وَجَزِعَ عَلَيْهِ:
كَمْ فَارِسٍ يُدْعَى وَلَيْسَ بِفَارِسٍ ... وَعَلَى الْهَبَاءَةِ فَارِسٌ ذُو مَصْدَقِ [2]
فَابْكُوا حُذَيْفَةَ لَنْ تُرَثُّوا مِثْلَهُ [3] ... حَتَّى تَبِيدَ قَبَائِلٌ لَمْ تُخْلَقْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَقَالَ قَيْسُ (بْنُ) [4] زُهَيْرٍ:
عَلَى أَنَّ الْفَتَى حَمَلَ بْنَ بَدْرٍ ... بَغَى وَالظُّلْمُ [5] مَرْتَعُهُ وَخِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ زُهَيْرٍ أَخُو قَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ:
تَرَكْتُ عَلَى الْهَبَاءَةِ غَيْرَ فَخْرٍ ... حُذَيْفَةُ عِنْدَهُ قَصْدُ الْعَوَالِي [6]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَرْسَلَ قَيْسٌ دَاحِسًا وَالْغَبْرَاءَ، وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطَّارَ وَالْحَنْفَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ الْحَدِيثَيْنِ. وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حَرْبُ حَاطِبٍ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: «حَرْبُ حَاطِبٍ» . فَيَعْنِي حَاطِبَ بْنَ الْحَارِثِ
__________
[1] الْأَطْهَار: جمع طهر. وَهُوَ كَقَوْل الأخطل:
قوم إِذا حَاربُوا شدوا مآزرهم ... دون النِّسَاء وَلَو باتت بأطهار
[2] الهباءة: مَوضِع فِي بِلَاد غطفان.
[3] لن ترثوا: من الرثاء. وَمن رَوَاهُ: تربوا، (بِضَم التَّاء) فَهُوَ من التربية. وَمن رَوَاهُ:
تربوا (بِفَتْح التَّاء) فَمَعْنَاه تصيرونه رَبًّا عَلَيْكُم، أَي أَمِيرا.
[4] زِيَادَة عَن أ.
[5] فِي أ: «وَالْبَغي» .
[6] الْقَصْد: جمع قصدة، وَهِي الْقطعَة المتكسرة. والعوالي: الرماح.(1/287)
ابْن قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو ابْن عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، كَانَ قَتَلَ يَهُودِيَّا جَارًا لِلْخَزْرَجِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ يَزِيدُ [1] بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ- وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ فُسْحُمٍ، وَفُسْحُمٌ [2] أُمُّهُ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ- لَيْلًا فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَتَلُوهُ، فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَ الظَّفَرُ لِلْخَزْرَجِ عَلَى الْأَوْسِ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ سُوَيْدُ بْنُ صَامِتِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ حَوْطِ ابْن حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، قَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ [3] ذِيَادٍ الْبَلَوِيُّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ خَرَجَ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ ابْن صَامِتٍ، فَوَجَدَ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ غِرَّةً [4] مِنْ الْمُجَذَّرِ فَقَتَلَهُ بِأَبِيهِ. وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهَا وَاسْتِقْصَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا ذَكَرْتُ فِي (حَدِيثِ) [5] حَرْبِ دَاحِسٍ.
(شِعْرُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ فِي صَدِّ قَوْمِهِ عَنْ عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ، يُوَرِّعُ [6] قَوْمَهُ عَمَّا أَجَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِيهِمْ شَرِيفًا مُطَاعًا:
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «زيد» . وَهُوَ تَحْرِيف. (رَاجع شرح الْقَامُوس مَادَّة: فسحم) .
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قسحم» بِالْقَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ تَصْحِيف. (رَاجع شرح الْقَامُوس مَادَّة: فسحم) .
[3] ضبط فِي شرح: أَسمَاء أهل بدر للجبرتى المخطوط وَالْمَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية (تَحت رقم 1420 تَارِيخ) بِضَم الْمِيم وَفتح الْجِيم وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة ثمَّ رَاء. وذياد: بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمُثَنَّاة من تَحت بعْدهَا ألف آخِره دَال مُهْملَة، وَيُقَال فِيهِ ذياد بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمُثَنَّاة.
[4] غرَّة: غَفلَة.
[5] زِيَادَة عَن أ.
[6] يورع: يصرف وَيرد.(1/288)
هَلْ قَائِلٌ قَوْلًا هُوَ [1] الْحَقُّ قَاعِدٌ ... عَلَيْهِ وَهَلْ غَضْبَانُ لِلرُّشْدِ سَامِعُ
وَهَلْ سَيِّدٌ تَرْجُو الْعَشِيرَةُ نَفْعَهُ ... لِأَقْصَى الْمَوَالِي وَالْأَقَارِبِ جَامِعُ
تَبَرَّأْتُ إلَّا وَجْهَ مَنْ يَمْلِكُ الصِّبَا ... وَأَهْجُرُكُمْ مَا دَامَ مُدْلٍ وَنَازِعُ [2]
وَأُسْلِمُ وَجْهِي لِلْإِلَهِ وَمَنْطِقِي ... وَلَوْ رَاعَنِي مِنْ الصَّدِيقِ رَوَائِعُ
ذِكْرُ لُقَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ
(سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَرَمْيُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ قُرَيْشًا اشْتَدَّ أَمْرُهُمْ لِلشَّقَاءِ الَّذِي أَصَابَهُمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُمْ، فَأَغْرَوْا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُفَهَاءَهُمْ، فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ، وَرَمَوْهُ بِالشِّعْرِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالْجُنُونِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُظْهِرٌ لِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَسْتَخْفِي بِهِ، مُبَادٍ لَهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ مِنْ عَيْبِ دِينِهِمْ، وَاعْتِزَالِ أَوْثَانِهِمْ، وَفِرَاقِهِ إيَّاهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
(حَدِيثُ ابْنِ الْعَاصِ عَنْ أَكْثَرِ مَا رَأَى قُرَيْشًا نَالَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟ قَالَ:
حَضَرْتُهُمْ، وَقَدْ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي [3] الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا: فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إذْ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ [4]
__________
[1] كَذَا فِي أوفي سَائِر الْأُصُول: «من الْحق» .
[2] المدلي: الْمُرْسل الدَّلْو. والنازع: الجاذب لَهَا.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: يوافي الْحجر، وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] غَمَزُوهُ: طعنوا فِيهِ.
(19) - سيرة ابْن هِشَام- 1(1/289)
بِبَعْضِ الْقَوْلِ. قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَوَقَفَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ [1] . قَالَ: فَأَخَذَتْ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً [2] قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ [3] بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ، حَتَّى إنَّهُ لِيَقُولَ:
انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِم، فو الله مَا كُنْتَ جَهُولًا. قَالَ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ:
ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ، وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إذَا بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ (عَلَيْهِمْ) [4] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَثَبُوا إلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَحَاطُوا بِهِ، يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، لِمَا كَانَ يَقُولُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ: أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمِجْمَعِ رِدَائِهِ. قَالَ: فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَهُ، وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا نَالُوا مِنْهُ قَطُّ.
(بَعْضُ مَا نَالَ أَبَا بَكْرٍ فِي سَبِيلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ:
(لَقَدْ) [4] رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ صَدَعُوا [5] فَرْقَ [6] رَأْسِهِ، مِمَّا جَبَذُوهُ بِلِحْيَتِهِ وَكَانَ رَجُلًا. كَثِيرَ الشَّعْرِ.
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَالنِّهَايَة لِابْنِ الْأَثِير (مَادَّة رفأ) . وَلَعَلَّه مجَاز عَن الْهَلَاك. وَمِنْه فِي حَدِيث الْقَضَاء:
من تصدى للْقَضَاء وتولاه، فقد تعرض للذبح فليتحذره. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الذَّبِيح» .
[2] الوصاة: الْوَصِيَّة.
[3] يرفؤه: يهدئه ويسكنه ويرفق بِهِ وَيَدْعُو لَهُ.
[4] زِيَادَة عَن أ.
[5] صدعوا: شَقوا.
[6] الْفرق: حَيْثُ يتفرق الشّعْر من مقدم الْجَبْهَة إِلَى وسط الرَّأْس.(1/290)
(أَشَدُّ مَا أُوذِيَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَشَدَّ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا كَذَّبَهُ وَآذَاهُ، لَا حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَتَدَثَّرَ مِنْ شِدَّةِ مَا أَصَابَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ [1] 74: 1- 2.
إسْلَامُ حَمْزَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ [2]
(أَذَاةُ أَبِي جَهْلٍ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوُقُوفُ حَمْزَةَ عَلَى ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، كَانَ وَاعِيَةً: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، وَنَالَ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ مِنْ الْعَيْبِ لِدِينِهِ، وَالتَّضْعِيفِ لِأَمْرِهِ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ
__________
[1] قَالَ السهيليّ: «قَالَ بعض أهل الْعلم: فِي تَسْمِيَته إِيَّاه بالمدثر فِي هَذَا الْمقَام ملاطفة وتأنيس، وَمن عَادَة الْعَرَب إِذا قصدت الملاطفة أَن تسمى الْمُخَاطب باسم مُشْتَقّ من الْحَالة الَّتِي هُوَ فِيهَا، كَقَوْلِه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِحُذَيْفَة: قُم يَا نومان. وَقَوله لعلى بن أَبى طَالب وَقد ترب جنبه قُم أَبَا تُرَاب. فَلَو ناداه سُبْحَانَهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال من الكرب باسمه، أَو بِالْأَمر الْمُجَرّد من هَذِه الملاطفة لهاله ذَلِك، وَلَكِن لما بُدِئَ بيا أَيهَا المدثر أنس، وَعلم أَن ربه رَاض عَنهُ، أَلا ترَاهُ كَيفَ قَالَ عِنْد مَا لَقِي من أهل الطَّائِف من شدَّة الْبلَاء وَالْكرب مَا لَقِي: رب إِن لم يكن بك غضب على فَلَا أبالى. إِلَى آخر الدُّعَاء، فَكَانَ مَطْلُوبَة رضَا ربه، وَبِه كَانَت تهون عَلَيْهِ الشدائد» . ثمَّ قَالَ: «فان قيل: كَيفَ يَنْتَظِم «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 74: 1» مَعَ قَوْله: «قُمْ فَأَنْذِرْ 74: 2» ؟ وَمَا الرابط بَين الْمَعْنيين حَتَّى يلتئما فِي قانون البلاغة، ويتشاكلا فِي حكم الفصاحة؟ قُلْنَا: من صفته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَا وصف بِهِ نَفسه حِين قَالَ: أَنا النذير الْعُرْيَان. وَهُوَ مثل مَعْرُوف عِنْد الْعَرَب، يُقَال لمن أنذر بِقرب الْعَدو، وَبَالغ فِي الْإِنْذَار: هُوَ النذير الْعُرْيَان. وَذَلِكَ أَن النذير الجاد يجرد ثَوْبه، وَهُوَ يُشِير بِهِ إِذا خَافَ أَن يسْبق الْعَدو صَوته. وَقد قيل: إِن أصل الْمثل لرجل من خثعم، سلبه الْعَدو ثَوْبه، وَقَطعُوا يَده، فَانْطَلق إِلَى قومه نذيرا على تِلْكَ الْحَال، فَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَنا النذير الْعُرْيَان أَي مثلي مثل ذَلِك. والنذير بالثياب، مضاد للتعرى، فَكَانَ فِي قَوْله: «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 74: 1» . مَعَ قَوْله «قُمْ فَأَنْذِرْ 74: 2» ، والنذير الجاد يُسمى الْعُرْيَان، تشاكل بَين، والتئام بديع، وسياقة فِي الْمَعْنى، وجزالة فِي اللَّفْظ» .
[2] وَأم حَمْزَة: هَالة بنت أهيب بن عبد منَاف بن زهرَة، وأهيب عَم آمِنَة بنت وهب، تزَوجهَا عبد الْمطلب وَتزَوج ابْنه عبد الله آمِنَة فِي سَاعَة وَاحِدَة، فَولدت هَالة لعبد الْمطلب حَمْزَة، وَولدت آمِنَة لعبد الله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ أرضعتهما ثويبة.(1/291)
فِي مَسْكَنٍ لَهَا تَسْمَعُ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَعَمَدَ إلَى نَادٍ [1] مِنْ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشِّحًا [2] قَوْسَهُ، رَاجِعًا مِنْ قَنْصٍ [3] لَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ قَنْصٍ يَرْمِيهِ وَيَخْرُجُ لَهُ، وَكَانَ إذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، وَكَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَمُرَّ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا وَقَفَ وَسَلَّمَ وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ، وَكَانَ أَعَزَّ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَأَشَدَّ شَكِيمَةً. فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَوْلَاةِ، وَقَدْ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِهِ، قَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدٌ آنِفًا مِنْ أَبِي الْحَكَمِ بن هِشَام: وجنده هَاهُنَا جَالِسًا فَآذَاهُ وَسَبَّهُ، وَبَلَغَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(إيقَاعُ حَمْزَةَ بِأَبِي جَهْلٍ وَإِسْلَامُهُ) :
فَاحْتَمَلَ حَمْزَةَ الْغَضَبُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَخَرَجَ يَسْعَى وَلَمْ يَقِفْ عَلَى أَحَدٍ، مُعِدًّا لِأَبِي جَهْلٍ إذَا لَقِيَهُ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ نَظَرَ إلَيْهِ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ، فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، ثُمَّ قَالَ: أَتَشْتِمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ؟ فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ اسْتَطَعْتُ. فَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ، فَإِنِّي وَاَللَّهِ قَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا، وَتَمَّ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى إسْلَامِهِ، وَعَلَى مَا تَابَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ. فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ، فَكَفُّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا يَنَالُونَ [4] مِنْهُ.
__________
[1] النادي: مجْلِس الْقَوْم وَقد يُسمى الْقَوْم المجتمعون نَادِيًا، وَمِنْه «فَليدع نَادِيه» .
[2] متوشحا: مُتَقَلِّدًا.
[3] القنص (بِالْفَتْح وبالتحريك) : الصَّيْد.
[4] وَزَاد غير ابْن إِسْحَاق فِي إِسْلَام حَمْزَة أَنه قَالَ: لما احتملنى الْغَضَب وَقلت: أَنا على قَوْله، أدركنى النَّدَم على فِرَاق دين آبَائِي وقومي، وَبت من الشَّك فِي أَمر عَظِيم، لَا أكتحل بنوم، ثمَّ أتيت الْكَعْبَة وتضرعت إِلَى الله سُبْحَانَهُ أَن يشْرَح صَدْرِي للحق، وَيذْهب عَنى الريب، فَمَا استتممت دعائي حَتَّى زاح عَنى الْبَاطِل، وامتلأ قلبِي يَقِينا، فَغَدَوْت إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرته بِمَا كَانَ من أمرى، فَدَعَا(1/292)
قَوْلُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَا دَارَ بَيْنَ عُتْبَةَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ:
حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سَيِّدًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيَّهَا شَاءَ، وَيَكُفُّ عَنَّا؟ وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، قُمْ إلَيْهِ فَكَلِّمْهُ، فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا بن أَخِي، إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنْ السِّطَةِ [1] فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا [2] بَعْضَهَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ، قَالَ: يَا بن أَخِي، إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا [3] تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ
__________
[ () ] لي بِأَن يثبتني الله. وَقَالَ حَمْزَة حِين أسلم أبياتا، مِنْهَا:
حمدت الله حِين هدى فُؤَادِي ... إِلَى الْإِسْلَام وَالدّين الحنيف
لدين جَاءَ من رب عَزِيز ... خَبِير بالعباد بهم لطيف
إِذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذِي اللب الحصيف
رسائل جَاءَ أَحْمد من هداها ... بآيَات مبينَة الْحُرُوف
[1] كَذَا فِي أ. والسطة: الشّرف. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «البسطة» .
[2] فِي أ: «منا» .
[3] الرئى (بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا) : مَا يتَرَاءَى للْإنْسَان من الْجِنّ.(1/293)
أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ [1] عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ. حَتَّى إذَا فَرَغَ عُتْبَةُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ: أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْمَعْ مِنِّي، قَالَ: أَفْعَلُ، فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ 41: 0- 5 ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ، أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ ثُمَّ قَالَ: قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ.
(مَا أَشَارَ بِهِ عُتْبَةُ عَلَى أَصْحَابِهِ) :
فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: نَحْلِفُ باللَّه لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمَّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ:
وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاَللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فاعتزلوه، فو الله لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاَللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ.
مَا دَارَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، وَتَفْسِيرٌ لِسُورَةِ الْكَهْفِ
(اسْتِمْرَارُ قُرَيْشٍ عَلَى تَعْذِيبِ مَنْ أَسْلَمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ الْإِسْلَامَ جَعَلَ يَفْشُو بِمَكَّةَ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَقُرَيْشٌ تَحْبِسُ مَنْ قَدَرَتْ عَلَى حَبْسِهِ، وَتَفْتِنُ مَنْ اسْتَطَاعَتْ
__________
[1] التَّابِع: من يتبع النَّاس من الْجِنّ.(1/294)
فِتْنَتَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إنَّ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، كَمَا حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
(حَدِيثُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
اجْتَمَعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالنَّضْرُ ابْن الْحَارِثِ (بْنِ كَلَدَةَ) [1] ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ ابْن هِشَامٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ السَّهْمِيَّانِ [2] ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَوْ مَنْ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ. قَالَ: اجْتَمِعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: ابْعَثُوا إلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذِرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إلَيْهِ: إنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدْ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ، فَأْتِهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنْ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِيمَا كَلَّمَهُمْ فِيهِ بَدَاءٌ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ، وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ [3] ، حَتَّى جَلَسَ إلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّا قَدْ بَعَثْنَا إلَيْكَ لِنُكَلِّمَكَ، وَإِنَّا وَاَللَّهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مِثْلَ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إلَّا قَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ- أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ- فَإِنْ كُنْتَ إنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إنَّمَا تَطْلُبُ بِهِ الشَّرَفَ فِينَا، فَنَحْنُ نُسَوِّدُكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ- وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنْ الْجِنِّ رِئْيًا- فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا لَكَ أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ لَكَ حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، أَوْ نُعْذِرَ فِيكَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: « ... الْحجَّاج والسهميان» . وَهُوَ تَحْرِيف.
[3] الْعَنَت: مَا شقّ على الْإِنْسَان فعله.(1/295)
مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا شَيْئًا مِمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَضْيَقَ بَلَدًا، وَلَا أَقَلَّ مَاءً، وَلَا أَشَدَّ عَيْشًا مِنَّا، فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ، فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيُفَجِّرْ [1] لَنَا فِيهَا أَنَهَارًا كَأَنْهَارِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يُبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ، فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخَ صِدْقٍ، فَنَسْأَلَهُمْ عَمَّا تَقُولُ: أَحَقُّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَصَنَعْتَ مَا سَأَلْنَاكَ صَدَّقْنَاكَ، وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَكَ مِنْ اللَّهِ، وَأَنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ لَهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إلَيْكُمْ، إنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، وَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ إلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي [2] وَبَيْنَكُمْ، قَالُوا: فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا لَنَا،
__________
[1] فِي أ: «وليخرق» .
[2] قَالَ السهيليّ: «وَذكر مَا سَأَلَهُ قومه من الْآيَات وَإِزَالَة الْجبَال عَنْهُم وإنزال الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ وَغير ذَلِك جهلا مِنْهُم بحكمة الله تَعَالَى فِي امتحانه الْخلق وتعبدهم بِتَصْدِيق الرُّسُل، وَأَن يكون إِيمَانهم عَن نظر وفكر فِي الْأَدِلَّة فَيَقَع الثَّوَاب على حسب ذَلِك وَلَو كشف الغطاء وَحصل لَهُم الْعلم الضروريّ بطلت الْحِكْمَة الَّتِي من أجلهَا يكون الثَّوَاب وَالْعِقَاب إِذْ لَا يُؤجر الْإِنْسَان على مَا لَيْسَ من كَسبه كَمَا لَا يُؤجر على مَا خلق فِيهِ من لون وَشعر وَنَحْو ذَلِك، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُم من الدَّلِيل مَا يَقْتَضِي النّظر فِيهِ الْعلم الكسبي، وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بِفعل من أَفعَال الْقلب وَهُوَ النّظر فِي الدَّلِيل وَفِي وَجه دلَالَة المعجزة على صدق الرَّسُول، وَإِلَّا فقد كَانَ قَادِرًا سُبْحَانَهُ أَن يَأْمُرهُم بِكَلَامِهِ يسمعونه ويغنيهم عَن إرْسَال الرُّسُل إِلَيْهِم، وَلكنه سُبْحَانَهُ قسم الْأَمر بَين الدَّاريْنِ فَجعل الْأَمر بِعلم فِي الدُّنْيَا بِنَظَر واستدلال وتفكر وَاعْتِبَار، لِأَنَّهَا دَار تعبد واختبار، وَجعل الْأَمر بِعلم فِي الْآخِرَة بمعاتبة واضطرار لَا يسْتَحق بِهِ ثَوَاب وَلَا جَزَاء، وَإِنَّمَا يكون الْجَزَاء فِيهَا على مَا سبق فِي الدَّار الأولى، حِكْمَة دبرهَا وَقَضِيَّة أحكمها، وَقد قَالَ الله تَعَالَى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ 17: 59، يُرِيد فِيمَا قَالَ أهل التَّأْوِيل: أَن التَّكْذِيب بِالْآيَاتِ نَحْو مَا سَأَلُوهُ من إِزَالَة الْجبَال عَنْهُم، وإنزال الْمَلَائِكَة يُوجب فِي حكم الله(1/296)
فَخُذْ لِنَفْسِكَ، سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ، وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ وَسَلْهُ فَلْيَجْعَلْ لَكَ جَنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يُغْنِيكَ بِهَا عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ كَمَا نَقُومُ، وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ، حَتَّى نَعْرِفَ فَضْلَكَ وَمَنْزِلَتَكَ مِنْ رَبِّكَ إنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا بِفَاعِلِ، وَمَا أَنَا بِاَلَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا- أَوْ كَمَا قَالَ- فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا: فَأَسْقِطْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا كِسَفًا كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إنْ شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّا لَا نُؤْمِنُ لَكَ إلَّا أَنْ تَفْعَلَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ إلَى اللَّهِ، إنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكُمْ فَعَلَ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَفَمَا عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ وَنَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيَتَقَدَّمَ إلَيْكَ فَيُعَلِّمَكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرُكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا، إذْ لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتنَا بِهِ! إنَّهُ قَدْ بَلَغْنَا أَنَّكَ إنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ: الرَّحْمَنُ، وَإِنَّا وَاَللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَإِنَّا وَاَللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا بَلَغْتَ منّا حَتَّى نملكك، أَوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا باللَّه وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا.
__________
[ () ] أَلا يلبث الْكَافرين بهَا، وَأَن يعاجلهم بالنقمة كَمَا فعل بِقوم صَالح وبآل فِرْعَوْن، فَلَو أَعْطَيْت قُرَيْش مَا سَأَلُوهُ من الْآيَات وجاءهم بِمَا اقترحوا ثمَّ كذبُوا لم يَلْبَثُوا، وَلَكِن الله أكْرم مُحَمَّدًا فِي الْأمة الَّتِي أرْسلهُ إِلَيْهِم، إِذْ قد سبق فِي علمه أَن يكذب بِهِ من يكذب وَيصدق من يصدق، وابتعثه رَحْمَة للْعَالمين بر وَفَاجِر، أما الْبر فرحمته إيَّاهُم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَأما الْفَاجِر فإنّهم أمنُوا من الْخَسْف وَالْغَرق وإرسال حاصب عَلَيْهِم من السَّمَاء، كَذَلِك قَالَ بعض أهل التَّفْسِير فِي قَوْله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ 21: 107. مَعَ أَنهم لم يسْأَلُوا مَا سَأَلُوا من الْآيَات إِلَّا تعنتا واستهزاء لَا على جِهَة الاسترشاد وَدفع الشَّك، فقد رَأَوْا من دَلَائِل النُّبُوَّة مَا فِيهِ شِفَاء لمن أنصف، قَالَ الله سُبْحَانَهُ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ 29: 51 الْآيَة. وَفِي هَذَا الْمَعْنى قيل:
لَو لم تكن فِيهِ آيَات مبينَة ... كَانَت بداهته تنبيك بالْخبر
وَقد ذكر ابْن إِسْحَاق فِي غير هَذِه الرِّوَايَة أَنهم سَأَلُوهُ أَن يَجْعَل لَهُم الصَّفَا ذَهَبا، فهم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يَدْعُو الله لَهُم فَنزل جِبْرِيل فَقَالَ لَهُم: مَا شِئْتُم، إِن شِئْتُم فعلت مَا سَأَلْتُم، ثمَّ لَا نلبثكم إِن كَذبْتُمْ بعد مُعَاينَة الْآيَة، فَقَالُوا لَا حَاجَة لنا بهَا.(1/297)
(حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَامَ عَنْهُمْ، وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْن أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ- وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ، فَهُوَ لِعَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ. عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنْ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، وَيُصَدِّقُوكَ وَيَتَّبِعُوكَ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِكَ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَكَ عَلَيْهِمْ، وَمَنْزِلَتَكَ مِنْ اللَّهِ، فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ بَعْضَ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ، فَلَمْ تَفْعَلْ- أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ- فو الله لَا أُومِنُ بِكَ أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا، ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَهَا، ثُمَّ تَأْتِي مَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ، وَاَيْمُ اللَّهِ، لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَا ظَنَنْتُ أَنِّي أُصَدِّقُكَ [1] ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِهِ حَزِينًا آسِفًا لِمَا فَاتَهُ مِمَّا كَانَ يَطْمَعُ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ، وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ إيَّاهُ.
(مَا تَوَعَّدَ بِهِ أَبُو جَهْلٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَلَمَّا قَامَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَبَى إلَّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامنَا، وَشتم آلِهَتنَا، وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَجْلِسَنَّ لَهُ غَدًا بِحَجَرٍ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ- أَوْ كَمَا قَالَ- فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ، فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ امْنَعُونِي، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ، قَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نُسْلِمُكَ لِشَيْءِ أَبَدًا، فَامْضِ لِمَا تُرِيدُ.
(مَا حَدَثَ لِأَبِي جَهْلٍ حِينَ هَمَّ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ، أَخَذَ حَجَرًا كَمَا وَصَفَ، ثُمَّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُهُ، وَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يَغْدُو. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَقِبْلَتُهُ إلَى الشَّامِ، فَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَّى بَيْنَ
__________
[1] وَقد أسلم أَبُو أُميَّة قبل فتح مَكَّة.(1/298)
الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ [1] الْأَسْوَدِ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ فَجَلَسُوا فِي أَنْدِيَتِهِمْ يَنْتَظِرُونَ مَا أَبُو جَهْلٍ فَاعِلٌ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَمَلَ أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ [2] مَرْعُوبًا قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حَجَرِهِ، حَتَّى قَذَفَ الْحَجَرَ مِنْ يَدِهِ، وَقَامَتْ إلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُ:
مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: قُمْتُ إلَيْهِ لِأَفْعَلَ بِهِ مَا قُلْتُ لَكُمْ الْبَارِحَةَ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنْ الْإِبِلِ، لَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتهِ، وَلَا مِثْلَ قَصَرَتِهِ [3] وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي [4] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَوْ دَنَا لَأَخَذَهُ.
(نَصِيحَةُ النَّضْرِ لِقُرَيْشِ بِالتَّدَبُّرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ، قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ ابْن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّهُ وَاَللَّهِ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا أَتَيْتُمْ لَهُ بِحِيلَةِ بَعْدُ، قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ، وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ، وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، قُلْتُمْ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: « ... بَين الرُّكْنَيْنِ البراني وَالْأسود» . وَقد عرض ابْن بطوطة فِي رحلته فِي الْجُزْء الأول (ص 315 طبع أوربا) للْكَلَام على الْأَركان فَقَالَ: «وَمن عِنْد الْحجر الْأسود مُبْتَدأ الطّواف، وَهُوَ أول الْأَركان الَّتِي يلقاها الطَّائِف، فَإِذا استلمه تقهقر عَنهُ قَلِيلا، وَجعل الْكَعْبَة الشَّرِيفَة عَن يسَاره وَمضى فِي طَوَافه، ثمَّ بعده الرُّكْن الْعِرَاقِيّ وَهُوَ إِلَى جِهَة الشمَال، ثمَّ ألْقى الرُّكْن الشَّامي وَهُوَ إِلَى جِهَة الغرب، ثمَّ يلقى الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَهُوَ إِلَى جِهَة الْمغرب، ثمَّ يعود إِلَى الْحجر الْأسود وَهُوَ إِلَى جِهَة الشرق» .
[2] منتقع: متغير.
[3] القصرة: أصل الْعُنُق.
[4] وروى هَذَا الحَدِيث النَّسَائِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبى هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ أَبُو جهل، وَذكر الحَدِيث « ... فَقَالُوا مَا لَك؟ فَقَالَ: إِن بيني وَبَينه لَخَنْدَقًا من نَار وَهولا وَأَجْنِحَة، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَو دنا لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَة عضوا عضوا» . (رَاجع الرَّوْض) .(1/299)
سَاحِرٌ، لَا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا السَّحَرَةَ وَنَفْثَهُمْ وَعَقْدَهُمْ [1] ، وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ، لَا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، قَدْ رَأَيْنَا الْكَهَنَةَ وَتَخَالُجَهُمْ وَسَمِعْنَا سَجْعَهُمْ، وَقُلْتُمْ شَاعِرٌ، لَا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَدْ رَأَيْنَا الشِّعْرَ، وَسَمِعْنَا أَصْنَافَهُ كُلَّهَا:
هَزَجَهُ وَرَجَزَهُ، وَقُلْتُمْ مَجْنُونٌ، لَا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ، وَلَا تَخْلِيطِهِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَانْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ، فَإِنَّهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
(مَا كَانَ يُؤْذِي بِهِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحِيرَةَ، وَتَعَلَّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَاسْبِنْدِيَارَ [2] ، فَكَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا فَذَكَّرَ فِيهِ باللَّه، وَحَذَّرَ قَوْمَهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، خَلَفَهُ فِي مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا وَاَللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، فَهَلُمَّ إلَيَّ، فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ وَرُسْتُمَ وَاسْبِنْدِيَارَ [2] ، ثمَّ يَقُول: بِمَاذَا مُحَمَّدٌ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنِّي؟.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيمَا بَلَغَنِي: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ، فِيمَا بَلَغَنِي: نَزَلَ فِيهِ ثَمَانِ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قَالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 68: 15. وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الْأَسَاطِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ.
(أَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ وَابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى أَحْبَارِ يَهُودَ يَسْأَلَانِهِمْ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بَعَثُوهُ، وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لَهُمَا: سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأُوَلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ
__________
[1] العقد: بِفَتْح وَسُكُون، أَو بِضَم فَفتح على أَن يكون جمع عقدَة، وَهِي الَّتِي يعقدها السَّاحر فِي الْخَيط ينْفخ فِيهَا بِشَيْء يَقُوله بِلَا ريق أَو مَعَه.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي م: «إسفنديار» . وَفِي سَائِر الْأُصُول: «اسفندياذ» .(1/300)
الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ، وَأَخْبَرَاهُمْ بِبَعْضِ قَوْلِهِ، وَقَالَا لَهُمْ: إنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا، فَقَالَتْ لَهُمَا أَحْبَارُ يَهُودَ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ. سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ أَمْرُهُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجَبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ، وَسَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ مَا هِيَ؟ فَإِذَا أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَاتَّبِعُوهُ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوَّلٌ، فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَقْبَلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَخْبَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ أَمَرُونَا بِهَا، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ عَنْهَا فَهُوَ نَبِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ.
(سُؤَالُ قُرَيْشٍ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَسْئِلَةٍ وَإِجَابَتُهُ لَهُمْ) :
فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ قِصَّةٌ عَجَبٌ، وَعَنْ رَجُلٍ كَانَ طَوَّافًا قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَأَخْبِرْنَا عَنْ الرُّوحِ مَا هِيَ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ [1] ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ. فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- خَمْسَ عَشْرَةَ [2] لَيْلَةً لَا يُحْدِثُ اللَّهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيل، حَتَّى أرحف [3] أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا، وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، قَدْ أَصْبَحْنَا مِنْهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءِ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكْثُ الْوَحْيِ
__________
[1] كَذَا فِي أ. يُرِيد: لم يقل: إِن شَاءَ الله. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «لم يسْتَثْن» .
[2] وَفِي سير التَّيْمِيّ ومُوسَى بن عقبَة: إِن الْوَحْي إِنَّمَا أَبْطَأَ عَنهُ ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ جَاءَهُ جِبْرِيل بِسُورَة الْكَهْف. (رَاجع الرَّوْض) .
[3] أرجف الْقَوْم: خَاضُوا فِي الْأَخْبَار السَّيئَة، وَذكر الْفِتَن على أَن يوقعوا فِي النَّاس الِاضْطِرَاب من غير أَن يَصح عِنْدهم شَيْء.(1/301)
عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ: ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَبَرُ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الْفِتْيَةَ، وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَالرُّوحِ.
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي قُرَيْشٍ حِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَابَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةً) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ حِينَ جَاءَهُ: لَقَدْ احْتَبَسْتَ عَنِّي يَا جِبْرِيلُ حَتَّى سُؤْتُ ظَنًّا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا 19: 64. فَافْتَتَحَ السُّورَةَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِحَمْدِهِ وَذِكْرِ نُبُوَّةِ رَسُولِهِ، لِمَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ 18: 1 يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنَّكَ رَسُولٌ مِنِّي: أَيْ تَحْقِيقٌ لِمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ نُبُوَّتِكَ. وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً 18: 1- 2: أَيْ مُعْتَدِلًا، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ 18: 2: أَيْ عَاجِلَ عُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَعَذَابًا أَلِيمًا فِي الْآخِرَةِ: أَيْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ الَّذِي بَعَثَ رَسُولًا. وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً، ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً 18: 2- 3: أَيْ دَارُ الْخُلْدِ. لَا يَمُوتُونَ فِيهَا الَّذِينَ صَدَّقُوكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِمَّا كَذَّبَكَ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرْتهمْ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً 18: 4 يَعْنِي قُرَيْشًا فِي قَوْلِهِمْ: إنَّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ. مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ 18: 5 الَّذِينَ أَعْظَمُوا فِرَاقَهُمْ وَعَيْبَ دِينِهِمْ. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ 18: 5: أَيْ لِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً، فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ 18: 5- 6 يَا مُحَمَّدُ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً 18: 6: أَيْ لِحُزْنِهِ عَلَيْهِمْ حِينَ فَاتَهُ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُمْ: أَيْ لَا تَفْعَلْ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَاخِعٌ نَفْسَكَ، أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ، فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ.
قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
وَجَمْعُهُ: بَاخِعُونَ وَبَخَعَةٌ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ بَخَعْتُ(1/302)
لَهُ نُصْحِي وَنَفْسِي، أَيْ جَهَدْتُ لَهُ. إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا 18: 7.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ أَيُّهُمْ أَتْبَعُ لِأَمْرِي، وَأَعْمَلُ بِطَاعَتِي. وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً 18: 8: أَيْ الْأَرْضِ، وَإِنَّ مَا عَلَيْهَا لَفَانٍ وَزَائِلٌ، وَإِنَّ الْمَرْجِعَ إلَيَّ، فَأَجْزِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، فَلَا تَأْسَ وَلَا يَحْزُنْكَ مَا تَسْمَعُ وَتَرَى فِيهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الصَّعِيدُ: الْأَرْضُ، وَجَمْعُهُ: صُعُدٌ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ ظَبْيًا صَغِيرًا:
كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ ... دَبَّابَةٌ فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ [1]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالصَّعِيدُ (أَيْضًا) : الطَّرِيقُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
إيَّاكُمْ وَالْقُعُودَ عَلَى الصُّعَدَاتِ. يُرِيدُ الطُّرُقَ. وَالْجُرُزُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَجَمْعُهَا: أَجْرَازٌ. وَيُقَالُ: سَنَةٌ جُرُزٌ، وَسُنُونَ أَجْرَازٌ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا مَطَرٌ، وَتَكُونُ فِيهَا جُدُوبَةٌ وَيُبْسٌ وَشِدَّةٌ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ إبِلا:
طوى النحز [2] وَالْأَجْرَازُ مَا فِي بُطُونِهَا ... فَمَا بَقِيَتْ إلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ [3]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
(مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَ قِصَّةَ الْخَبَرِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ شَأْنِ الْفِتْيَةِ، فَقَالَ:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً 18: 9: أَيْ قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِي فِيمَا وَضَعْتُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَجِي مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالرَّقِيمُ: الْكِتَابُ الَّذِي رُقِمَ فِيهِ بِخَبَرِهِمْ [4] ، وَجَمْعُهُ: رُقُمٌ.
قَالَ الْعَجَّاجُ:
__________
[1] كَذَا فِي أ. والدبابة: الْخمر. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ذُبَابَة» . وَهُوَ تَصْحِيف. والخرطوم:
الْخمر أَيْضا.
[2] كَذَا فِي أ. والنحز: النخس. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «النَّحْر» . بالراء الْمُهْملَة، وَهُوَ تَصْحِيف.
[3] الجراشع: المنتفخة المتسعة، وَاحِدهَا: جرشع.
[4] كَمَا قيل بِأَن الرقيم هُوَ اسْم الْجَبَل الّذي كَانَ فِيهِ الْكَهْف، أَو اسْم الْقرْيَة الَّتِي كَانُوا فِيهَا، كَمَا قيل بِأَنَّهُ الدواة، حَكَاهُ ابْن دُرَيْد.(1/303)
وَمُسْتَقَرُّ الْمُصْحَفِ الْمُرَقَّمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً 18: 10- 12. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ 18: 13: أَيْ بِصِدْقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً 18: 13- 14: أَيْ لَمْ يُشْرِكُوا بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالشَّطَطُ: الْغُلُوُّ وَمُجَاوَزَةُ الْحَقِّ. قَالَ أَعْشَى بَنِي [1] قَيْسِ ابْن ثَعْلَبَةَ:
لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ [2] فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتْلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ 18: 15.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ بِحُجَّةٍ بَالِغَةٍ.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ 18: 15- 17.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَزَاوَرُ: تَمِيلُ، وَهُوَ مِنْ الزُّورِ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنِ حَجَرٍ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بن» .
[2] فِي أ: «يهْلك» .(1/304)
وَإِنِّي زَعِيمٌ [1] إنْ رَجَعْتُ مُمَلَّكًا ... بِسَيْرٍ تَرَى مِنْهُ الْفُرَانِقَ أَزْوَرَا [2]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ أَبُو الزّحف الكليبي [3] يَصِفُ بَلَدًا:
جَأْبُ [4] الْمُنَدَّى [5] عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ ... يُنْضِي الْمَطَايَا خِمْسُهُ الْعَشَنْزَرُ [6]
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ [7] فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. وتَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ 18: 17: تُجَاوِزُهُمْ وَتَتْرُكُهُمْ عَنْ شِمَالِهَا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
إلَى ظُعْنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ [8]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْفَجْوَةُ: السَّعَةُ، وَجَمْعُهَا: الْفِجَاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلْبَسْتَ قَوْمَكَ مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ... حَتَّى أُبِيحُوا وَخَلَّوْا فَجْوَةَ الدَّارِ
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ 7: 26 أَيْ فِي الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِمَّنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ بِمَسْأَلَتِكَ عَنْهُمْ فِي صِدْقِ نُبُوَّتِكَ بِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ.
مَنْ يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً.
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ، وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ 18: 17- 18.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْوَصِيدُ: الْبَابُ. قَالَ الْعَبْسِيُّ، وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ وَهْبٍ:
بِأَرْضٍ فَلَاةٍ لَا يُسَدُّ وَصِيدُهَا ... عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَالْوَصِيدُ (أَيْضًا) : الْفِنَاءُ، وَجَمْعُهُ: وَصَائِدُ، وَوُصُدٌ، وَوُصْدَانُ، وَأُصُدٌ، وَأُصْدَانٌ.
__________
[1] فِي لِسَان الْعَرَب (مَادَّة فرنق) : «أذين» .
[2] الفرانق: الّذي يسير بالكنب على رجلَيْهِ، وَالْأَزْوَر: المائل.
[3] كَذَا فِي أواللسان مَادَّة (عشنزر) ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الْكَلْبِيّ» .
[4] كَذَا فِي الْأُصُول. والجأب: الغليظ الجافي. وَفِي لِسَان الْعَرَب «مَادَّة (عشنزر) : «جَدب» .
[5] المندى: مرعى الْإِبِل إِذا امْتنعت عَن شرب المَاء.
[6] ينضى: يهزل. وَخَمْسَة: هُوَ أَن ترد الْإِبِل المَاء عَن خَمْسَة أَيَّام. والعشنزر: الشَّديد الْخلق.
[7] هَذَا على أَنَّهُمَا من مشطور الرجز.
[8] الظعن: الْإِبِل الَّتِي عَلَيْهَا الهوادج. وأقواز: جمع قوز، وَهُوَ المستدير من الرمل. ومشرف:
مَوضِع. والفوارس (هُنَا) : رمال بِعَينهَا. ويروى:
إِلَى ظعن يقرضن أجواز.
.. إِلَخ.
والأجواز: جمع جوز، وَهُوَ الْوسط.
20- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/305)
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً، وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً 18: 18 ... إلَى قَوْلِهِ: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ 18: 21 أَهْلُ السُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ مِنْهُمْ:
لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً، سَيَقُولُونَ 18: 21- 22 يَعْنِي أَحْبَارَ يَهُودَ الَّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، رَجْماً بِالْغَيْبِ 18: 22: أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ. وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً 18: 22: أَيْ لَا تُكَابِرْهُمْ. وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً 18: 22 فَإِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِمْ. وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ [1] اللَّهُ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً 18: 23- 24: أَيْ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءِ سَأَلُوكَ عَنْهُ كَمَا قُلْتُ فِي هَذَا: إنِّي مُخْبِرُكُمْ غَدًا. وَاسْتَثْنِ شِيئَةَ [2] اللَّهِ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي 18: 24 لِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ رَشَدًا، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَنَا صَانِعٌ فِي ذَلِكَ. وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [3] وَازْدَادُوا تِسْعاً 18: 25: أَيْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ. قُلِ اللَّهِ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً 18: 26 أَيْ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا سَأَلُوكَ عَنْهُ.
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خَبَرِ الرَّجُلِ الطَّوَّافِ) :
وَقَالَ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرجل الطوّاف: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ 18: 83
__________
[1] فِي الْكَلَام حذف وإضمار تَقْدِيره: وَلا تَقُولَنَّ 18: 23 إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً 18: 23 إِلَّا ذَاكِرًا إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله، 18: 24 أَو ناطقا بِأَن يَشَاء الله.
[2] كَذَا فِي أور. والشيئة: مصدر شَاءَ يَشَاء. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مَشِيئَة» .
[3] كَانَ الْقيَاس أَن يَقُول «سنة» بَدَلا من: «سِنِين» . وَلَكِن سِنِين هُنَا بدل مِمَّا قبله وَلَيْسَت مُضَافَة.
وَفِي الْعُدُول عَن الْإِضَافَة إِلَى الْبَدَل حِكْمَة عَظِيمَة، لِأَنَّهُ لَو قَالَ «سنة» لَكَانَ الْكَلَام كَأَنَّهُ جَوَاب لطائفة وَاحِدَة من النَّاس. وَالنَّاس فيهم طَائِفَتَانِ: طَائِفَة عرفُوا طول لبثهم وَلم يعلمُوا مِقْدَار السنين، فعرفهم أَنَّهَا ثَلَاث مائَة، وَطَائِفَة لم يعرفوا طول لبثهم وَلَا شَيْئا من خبرهم، فَلَمَّا قَالَ ثَلَاث مائَة مُعَرفا للأولين بالمدة الَّتِي شكوا فِيهَا، مُبينًا للآخرين أَن هَذِه الثَّلَاث مائَة سنُون وَلَيْسَت أَيَّامًا وَلَا شهورا. فانتظم الْبَيَان للطائفتين من ذكر الْعدَد. وَجمع الْمَعْدُود وَتبين أَنه بدل، إِذْ الْبَدَل يُرَاد بِهِ تبين مَا قبله. (رَاجع الرَّوْض) .(1/306)
قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً 18: 83- 85 حَتَّى انْتَهَى إلَى آخِرِ قِصَّةِ خَبَرِهِ.
وَكَانَ مِنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَّهُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَمُدَّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ حَتَّى انْتَهَى مِنْ الْبِلَادِ إلَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، لَا يَطَأُ أَرْضًا إلَّا سُلِّطَ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى انْتَهَى مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلَى مَا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ الْخَلْقِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مِنْ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ عَنْ الْأَعَاجِمِ فِيمَا تَوَارَثُوا مِنْ عِلْمِهِ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ. اسْمُهُ مَرْزُبَانُ بْنُ مَرْذُبَةَ الْيُونَانِيُّ، مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ فَنُسِبَتْ إلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكُلَاعِيُّ، وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [1] فَقَالَ: مَلِكٌ مَسَحَ الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا بِالْأَسْبَابِ. وَقَالَ خَالِدٌ: سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهمّ غَفْرًا، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تَسَمَّوْا بِالْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَسَمَّيْتُمْ بِالْمَلَائِكَةِ [2] .
__________
[1] عقد السهيليّ عَن ذِي القرنين وَالْخلاف فِي اسْمه فصلا طَويلا رَأينَا أَن نمسك عَنهُ إِذْ الْخلاف فِيهِ كثير وَلَا طائل تَحْتَهُ.
[2] قَالَ السهيليّ: «وَكَانَ مَذْهَب عمر رَحمَه الله كَرَاهِيَة التسمي بأسماء الْأَنْبِيَاء، فقد أنكر على الْمُغيرَة تكنيته بِأبي عِيسَى، وَأنكر على صُهَيْب تكنيته بِأبي يحيى، فَأخْبرهُ كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كناه بذلك فَسكت. وَكَانَ عمر إِنَّمَا كره من ذَلِك الْإِكْثَار، وَأَن يظنّ أَن للْمُسلمين شرفا فِي الِاسْم إِذا سمى باسم نَبِي، أَو أَنه يَنْفَعهُ ذَلِك فِي الْآخِرَة، فَكَأَنَّهُ استشعر من رَعيته هَذَا الْغَرَض أَو نَحوه. وَهُوَ أعلم بِمَا كره من ذَلِك، وَإِلَّا فقد سمى بِمُحَمد طَائِفَة من الصَّحَابَة مِنْهُم أَبُو بكر وعَلى وَطَلْحَة، وَكَانَ لطلْحَة عشرَة من الْوَلَد كل يُسمى باسم نَبِي، مِنْهُم مُوسَى بن طَلْحَة وَعِيسَى، وَإِسْحَاق، وَيَعْقُوب، وَإِبْرَاهِيم، وَمُحَمّد. وَكَانَ للزبير عشرَة كلهم يُسمى باسم شَهِيد، فَقَالَ لَهُ طَلْحَة: أَنا أسميهم بأسماء الْأَنْبِيَاء وَأَنت تسميهم بأسماء الشُّهَدَاء؟ فَقَالَ لَهُ الزبير: فإنّي أطمع أَن يكون بنى شُهَدَاء وَلَا تطمع أَنْت أَن يكون بنوك أَنْبيَاء. وسمى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنه إِبْرَاهِيم. والْآثَار فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة.
وَفِي السّنَن لأبى دَاوُد أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سموا بأسماء الْأَنْبِيَاء، وَهَذَا مَحْمُول على الْإِبَاحَة لَا على الْوُجُوب. وَأما التسمي بِمُحَمد، فَفِي مُسْند الْحَارِث عَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من كَانَ لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد وَلم يسم أحدهم بِمُحَمد فقد جهل. وَفِي المعيطي عَن مَالك أَنه سُئِلَ عَمَّن اسْمه مُحَمَّد ويكنى أَبَا الْقَاسِم، فَلم ير بِهِ بَأْسا. فَقيل لَهُ: أكنيت ابْنك أَبَا الْقَاسِم واسْمه مُحَمَّد؟ فَقَالَ: مَا كنيته بهَا، وَلَكِن أَهله يكنونه بهَا. وَلم أسمع فِي ذَلِك نهيا وَلَا أرى بذلك بَأْسا، وَهَذَا يدل على أَن مَالِكًا لم يبلغهُ أَو لم يَصح عِنْده(1/307)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، أَقَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ لَا؟ (فَإِنْ كَانَ قَالَهُ) [1] ، فَالْحَقُّ [2] مَا قَالَ.
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الرُّوحِ) :
وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمر الرّوح: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85.
(سُؤَالُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85.) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85 إيَّانَا تُرِيدُ، أَمْ قَوْمَكَ؟ قَالَ: كُلًّا، قَالُوا:
فَإِنَّكَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ: أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَعِنْدَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ لَوْ أَقَمْتُمُوهُ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِك: وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 31: 27: أَيْ أَنَّ التَّوْرَاةَ فِي هَذَا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ.
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِشَأْنِ طَلَبِهِمْ تَسْيِيرَ الْجِبَالِ) :
قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ،
__________
[ () ] حَدِيث النهى عَن ذَلِك، وَقد رَوَاهُ أهل الصَّحِيح فاللَّه أعلم. وَلَعَلَّه بلغه حَدِيث عَائِشَة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: مَا الّذي أحل اسمى وَحرم كنيتي؟ وَهَذَا هُوَ النَّاسِخ لحَدِيث النهى. وَالله أعلم. وَكَانَ ابْن سِيرِين يكره لكل أحد أَن يتكنى بِأبي الْقَاسِم، كَانَ اسْمه مُحَمَّدًا أَو لم يكن. وَطَائِفَة إِنَّمَا يكرهونه لمن اسْمه مُحَمَّد. وَفِي المعيطي أَيْضا: أَنه سُئِلَ عَن التَّسْمِيَة بمهدى فكره وَقَالَ وَمَا علمه بِأَنَّهُ مهْدي. وأباح التَّسْمِيَة بالهادي الْهَادِي وَقَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الّذي يهدى إِلَى الطَّرِيق. وَقد قدمنَا كَرَاهِيَة مَالك التسمي بِجِبْرِيل. وَقد ذكر ابْن إِسْحَاق كَرَاهِيَة عمر للتسمى بأسماء الْمَلَائِكَة، وَكره مَالك التسمي بياسين» .
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] فِي الْأُصُول: «الْحق» .(1/308)
وَتَقْطِيعِ الْأَرْضِ، وَبَعْثِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ مِنْ الْمَوْتَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى، بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً 13: 31: أَيْ لَا أَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا شِئْتَ.
(مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ لِنَفْسِكَ) :
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: خُذْ لِنَفْسِكَ، مَا سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا، وَيَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا يُصَدِّقُهُ بِمَا يَقُولُ، وَيَرُدُّ عَنْهُ:
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها، وَقال الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا، تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ 25: 7- 10: أَيْ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسَ الْمَعَاشَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً 25: 10.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ، وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً، أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً 25: 20: أَيْ جَعَلْتُ بَعْضَكُمْ لِبَعْضِ بَلَاءً لِتَصْبِرُوا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدُّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالَفُوا لَفَعَلْتُ.
(مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي أُمَيَّةَ) :
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا 17: 90- 93.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْيَنْبُوعُ: مَا نَبَعَ مِنْ الْمَاءِ مِنْ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا، وَجَمْعُهُ(1/309)
يَنَابِيعُ. قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ، وَاسْمُهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ [1] الْفِهْرِيُّ [2] .
وَإِذَا هَرَقْتَ بِكُلِّ دَارٍ [3] عَبْرَةً ... نُزِفَ الشُّئُونُ وَدَمْعُكَ الْيَنْبُوعُ [4]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْكِسَفُ: الْقِطَعُ مِنْ الْعَذَابِ، وَوَاحِدَتُهُ: كِسْفَةٌ، مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ. وَهِيَ أَيْضًا: وَاحِدَةُ الْكِسْفِ. وَالْقَبِيلُ: يَكُونُ مُقَابَلَةً وَمُعَايَنَةً، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا 18: 55: أَيْ عِيَانًا.
وَأَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
أُصَالِحُكُمْ حَتَّى تَبُوءُوا بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا
يَعْنِي الْقَابِلَةُ، لِأَنَّهَا تُقَابِلُهَا وَتَقْبُلُ وَلَدَهَا. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَيُقَالُ:
الْقَبِيلُ: جَمْعُهُ قُبُلٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَاتُ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا 6: 111 فَقُبُلٌ: جَمْعُ قَبِيلٍ، مِثْلُ سُبُلٍ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَسُرُرٍ: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَقُمُصٍ: جَمْعُ قَمِيصٍ. وَالْقَبِيلُ (أَيْضًا) : فِي مَثَلٍ مِنْ الْأَمْثَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْ دَبِيرٍ: أَيْ لَا يَعْرِفُ مَا أَقْبَلَ مِمَّا أَدْبَرَ، قَالَ الْكُمَيْتُ ابْن زَيْدٍ:
تَفَرَّقَتْ الْأُمُورُ بِوَجْهَتَيْهِمْ ... فَمَا عَرَفُوا الدَّبِيرَ مِنْ الْقَبِيلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَيُقَالُ: إنَّمَا أُرِيدَ بِهَذَا (الْقَبِيلِ) [5] : الْفَتْلُ، فَمَا فُتِلَ إلَى الذِّرَاعِ فَهُوَ الْقَبِيلُ، وَمَا فُتِلَ إلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فَهُوَ الدَّبِيرُ، وَهُوَ مِنْ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ الَّذِي ذَكَرْتُ. وَيُقَالُ: فَتْلُ الْمِغْزَلِ. فَإِذَا فُتِلَ (الْمِغْزَلُ) [5] إلَى الرُّكْبَةِ
__________
[1] كَذَا فِي الرَّوْض والأغاني. وَفِي الْأُصُول: «إِبْرَاهِيم بن عبد الله» .
[2] كَذَا فِي الْأُصُول. وَابْن هرمة خلجى، قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي الطَّبَقَات: «هُوَ من الخلج من قيس عيلان وَيُقَال إِنَّهُم من قُرَيْش» . وَفِي الأغاني: أَن نسبه ينتهى إِلَى قيس بن الْحَارِث: وَقيس هم الخلج، وَكَانُوا فِي عدوان، ثمَّ انتقلوا إِلَى بنى نصر بن مُعَاوِيَة بن بكر فَلَمَّا اسْتخْلف عمر أَتَوْهُ ليفرض لَهُم فَأنْكر نسبهم، فَلَمَّا تولى عُثْمَان أثبتهم فِي بنى الْحَارِث بن فهر، وَجعل لَهُم ديوانا فسموا الخلج، لأَنهم اختلجوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ من عدوان، وَقيل لأَنهم نزلُوا بِموضع فِيهِ خلج من مَاء ونسبوا إِلَيْهِ.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَاد» .
[4] الشئون: مجاري الدمع. ونزف: ذهب.
[5] زِيَادَة عَن أ.(1/310)
فَهُوَ الْقَبِيلُ، وَإِذَا فُتِلَ إلَى الْوَرِكِ فَهُوَ الدَّبِيرُ. وَالْقَبِيلُ (أَيْضًا) : قَوْمُ الرَّجُلِ.
وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ. وَالْمُزَخْرَفُ: الْمُزَيَّنُ بِالذَّهَبِ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
مِنْ طَلَلٍ أَمْسَى تَخَالُ الْمُصْحَفَا ... رُسُومَهُ وَالْمُذْهَبَ الْمُزَخْرَفَا [1]
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ [2] فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِكُلِّ مُزَيَّنٍ: مُزَخْرَفٌ.
(مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّمَا يُعَلِّمُكَ رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّا قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكَ إنَّمَا يُعَلِّمُكَ رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ، يُقَالُ لَهُ الرَّحْمَنُ [3] ، وَلَنْ نُؤْمِنَ بِهِ أَبَدًا: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ، قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ مَتابِ 13: 30.
(مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ وَمَا هَمَّ بِهِ) :
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَمَا هَمَّ بِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ 96: 9- 19.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَنَسْفَعًا: لَنَجْذِبَنْ وَلَنَأْخُذَنْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصُّرَاخَ رَأَيْتَهُمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ [4]
وَالنَّادِي: الْمَجْلِسُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْقَوْمُ وَيَقْضُونَ [5] فِيهِ أُمُورَهُمْ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ
__________
[1] هَذَا على أَنه من مشطور الرجز.
[2] هَذَا على أَنَّهُمَا من مشطور الرجز.
[3] كَانَ مُسَيْلمَة بن حبيب الْحَنَفِيّ ثمَّ أحد بنى الدول قد تسمى بالرحمن فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ من المعمرين.
ذكر وثيمة بن مُوسَى أَن مُسَيْلمَة تسمى بالرحمن قبل أَن يُولد عبد الله أَبُو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] الصُّرَاخ: الاستغاثة. والسافع: الْآخِذ بالناصية.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ويقصون» بالصَّاد الْمُهْملَة.(1/311)
تَعَالَى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ 29: 29 وَهُوَ النَّدِيُّ. (قَالَ [1] عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
اذْهَبْ إلَيْكَ فَإِنِّي مِنْ بَنِي أَسَدٍ ... أَهْلُ النَّدِيِّ وَأَهْلُ الْجُودِ وَالنَّادِي) [2]
وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا 19: 73. وَجَمْعُهُ: أَنْدِيَةٌ. فَلْيَدْعُ أَهْلَ نَادِيهِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ 12: 82 يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ، أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ:
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ [3]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ:
لَا مَهَاذِيرَ فِي الندىّ مكاثير ... وَلَا مُصْمِتِينَ بِالْإِفْحَامِ [4]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَيُقَالُ: النَّادِي: الْجُلَسَاءُ. وَالزَّبَانِيَةُ: الْغِلَاظُ الشِّدَادُ، وَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: خَزَنَةُ النَّارِ. وَالزَّبَانِيَةُ (أَيْضًا) فِي الدُّنْيَا: أَعْوَانُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَخْدُمُونَهُ وَيُعِينُونَهُ، وَالْوَاحِدُ: زِبْنِيَةٌ. قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى فِي ذَلِكَ:
مَطَاعِيمُ فِي الْمَقْرَى مَطَاعِينُ فِي الْوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غُلْبٌ عِظَامٌ حُلُومُهَا [5]
يَقُولُ: شَدَّادٌ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَقَالَ صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهُذَلِيُّ، وَهُوَ صَخْرُ الْغَيِّ:
وَمِنْ كَبِيرٍ [6] نَفَرٌ زَبَانِيَهْ [7]
__________
[1] زِيَادَة عَن أ:
[2] ويروى:
أهل القباب وَأهل الجرد والنادي
[3] التأويب: سير النَّهَار كُله.
[4] المهاذير: جمع مهذار، وَهُوَ الْكثير الْكَلَام من غير فَائِدَة.. وأصمت: تسْتَعْمل لَازِمَة ومتعدية.
والإفحام: انْقِطَاع الرجل عَن الْكَلَام، إِمَّا عيا وَإِمَّا غَلَبَة.
[5] الْمقري: من الْقرى، وَهُوَ الطَّعَام الّذي يصنع للضيف. والوغى: الْحَرْب. والغلب: الْغِلَاظ الشداد.
[6] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول وَالرَّوْض وَشرح السِّيرَة. وكبير: حَيّ من هُذَيْل، وَهُوَ كَبِير بن طابخة ابْن لحيان بن سعد بن هُذَيْل. وَفِي أَسد أَيْضا: كَبِير بن غنم بن دودان بن أَسد، وَمن ذُريَّته بَنو جحش ابْن رَيَّان بن يعمر بن صبوة بن مرّة بن كَبِير. وَلَعَلَّ الراجز أَرَادَ هَؤُلَاءِ فإنّهم أشهر. وَبَنُو كَبِير أَيْضا:
بطن من بنى غامد، وهم من الأزد. وَفِي أ: «كثير» .
[7] وَبعده:
لَو أَن أصحابى بَنو مُعَاوِيَة ... مَا تركونى للذئاب العادية
وَلَا لبرذون أغر الناصية(1/312)
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
(مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى فِيمَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا عَرَضُوا (عَلَيْهِ) [1] مِنْ أَمْوَالِهِمْ:
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 34: 47.
(اسْتِكْبَارُ قُرَيْشٍ عَنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ، وَعَرَفُوا صِدْقَهُ فِيمَا حَدَّثَ، وَمَوْقِعَ نُبُوَّتِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ حِينَ سَأَلُوهُ عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ، حَالَ الْحَسَدُ مِنْهُمْ لَهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اتِّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ، فَعَتَوْا عَلَى اللَّهِ وَتَرَكُوا أَمْرَهُ عِيَانًا، وَلَجُّوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، 41: 26 أَيْ اجْعَلُوهُ لَغْوًا وَبَاطِلًا، وَاِتَّخِذُوهُ هُزُوًا لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّكُمْ إنْ نَاظَرْتُمُوهُ أَوْ خَاصَمْتُمُوهُ يَوْمًا غَلَبَكُمْ.
(تَهَكُّمُ أَبِي جَهْلٍ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْفِيرُ النَّاسِ عَنْهُ) :
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمًا وَهُوَ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّمَا جُنُودُ اللَّهِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَكُمْ فِي النَّارِ وَيَحْبِسُونَكُمْ فِيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَدَدًا، وَكَثْرَةً، أَفَيَعْجِزُ [2] كُلُّ ماِئَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا 74: 31 إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ، جَعَلُوا إذَا جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، وَيَأْبَوْنَ أَنْ يَسْتَمِعُوا لَهُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ مَا يَتْلُو مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، اسْتَرَقَ [3] السَّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فيعجز» .
[3] فِي أ: «أَتَى سرا واستمع دونهم ... إِلَخ» .(1/313)
قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ فَلَمْ يَسْتَمِعْ، وَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، فَظَنَّ الَّذِي يَسْتَمِعُ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَمِعُونَ شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا دُونَهُمْ أَصَاخَ لَهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ.
(سَبَبُ نُزُولِ آيَةِ: وَلا تَجْهَرْ 17: 110 ... إلَخْ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، مَوْلَى عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَهُمْ:
إنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا 17: 110 مِنْ أَجْلِ أُولَئِكَ النَّفَرِ. يَقُولُ: لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ فَيَتَفَرَّقُوا عَنْكَ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فَلَا يَسْمَعْهَا مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَهَا مِمَّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ دُونَهُمْ لَعَلَّهُ يَرْعَوِي إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ فَيَنْتَفِعَ بِهِ.
أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمَا نَالَهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَبِيلِ جَهْرِهِ بِالْقُرْآنِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا:
وَاَللَّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطُّ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ؟
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ [1] : أَنَا، قَالُوا: إنَّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْكَ، إنَّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ الْقَوْمِ إنْ أَرَادُوهُ، قَالَ: دَعُونِي فَإِنَّ اللَّهَ سَيَمْنَعُنِي. قَالَ:
فَغَدَا ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضُّحَى، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا، حَتَّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمَّ قَرَأَ [2] : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ 55: 1- 2 قَالَ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَؤُهَا. قَالَ: فَتَأَمَّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ
__________
[1] هُوَ عبد الله بن مَسْعُود بن عَمْرو بن عُمَيْر، عَم جُبَير بن أَبى جُبَير، أَخُو أَبى عبيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، اسْتشْهد مَعَ أَخِيه فِي الجسر.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَقَالَ» .(1/314)
ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ؟ قَالَ: ثُمَّ قَالُوا: إنَّهُ لَيَتْلُو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَقَامُوا إلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنَّ يَبْلُغَ. ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَثَّرُوا فِي وَجْهِهِ [1] ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا الَّذِي خَشِينَا عَلَيْكَ، فَقَالَ: مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْهُمْ الْآنَ، وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنَّهُمْ بِمِثْلِهَا غَدًا، قَالُوا: لَا، حَسْبُكَ، قَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ.
قِصَّةُ اسْتِمَاعِ قُرَيْشٍ إلَى قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالْأَخْنَسُ، وَحَدِيثُ اسْتِمَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ، خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا.
فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ أَلَا نَعُودَ: فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
(ذَهَابُ الْأَخْنَسِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ مَعْنَى مَا سَمِعَ) :
فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاَللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا،
__________
[1] فِي أ: «يوجهه» .(1/315)
وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا، قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا الَّذِي حَلَفْتَ بِهِ (كَذَلِكَ) [1] .
(ذَهَابُ الْأَخْنَسِ إلَى أَبِي جَهْلٍ يَسْأَلُهُ عَنْ مَعْنَى مَا سَمِعَ) :
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ:
يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ، تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إذَا تَجَاذَيْنَا [1] عَلَى الرَّكْبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ، وَاَللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.
(تَعَنُّتُ قُرَيْشٍ فِي عَدَمِ اسْتِمَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ، قَالُوا يَهْزَءُونَ بِهِ: (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ 41: 5) [1] لَا نَفْقَهُ مَا تَقُولُ (وَفي آذانِنا وَقْرٌ 41: 5) لَا نَسْمَعُ مَا تَقُولُ (وَمن بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ 41: 5) قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ (فَاعْمَلْ 41: 5) بِمَا أَنْتَ عَلَيْهِ (إِنَّنا عامِلُونَ 41: 5) بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ، إنَّا لَا نَفْقَهُ عَنْكَ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (عَلَيْهِ) [2] فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً 17: 45 [3] ... إلَى قَوْلِهِ وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً 17: 46:
أَيْ كَيْفَ فَهِمُوا تَوْحِيدَكَ رَبَّكَ إنْ كُنْتُ جَعَلْتُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا بِزَعْمِهِمْ، أَيْ إنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ، إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَإِذْ هُمْ نَجْوى، إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً 17: 47: أَيْ ذَلِكَ مَا تَوَاصَوْا بِهِ مِنْ تَرْكِ مَا بَعَثْتُكَ بِهِ إلَيْهِمْ. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا 17: 48
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أ. وتجاذى: أقعى. وَرُبمَا جعلُوا الجاذى والجائي سَوَاء. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تحاذينا» بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ تَصْحِيف.
[3] مسطورا: ساترا.(1/316)
: أَيْ أَخْطَئُوا الْمَثَلَ الَّذِي ضَرَبُوا (لَكَ) [1] ، فَلَا يُصِيبُونَ بِهِ هُدًى، وَلَا يَعْتَدِلُ لَهُمْ فِيهِ قَول وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً 17: 49: أَيْ قَدْ جِئْتَ تُخْبِرُنَا أَنَّا سَنُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِنَا إذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا، وَذَلِكَ مَا لَا يَكُونُ. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا، قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ 17: 50- 51: أَيْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِمَّا تَعْرِفُونَ، فَلَيْسَ خَلْقُكُمْ مِنْ تُرَابٍ بِأَعَزَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ 17: 51 مَا الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِهِ؟ فَقَالَ: الْمَوْتُ.
ذِكْرُ عُدْوَانِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالْأَذَى وَالْفِتْنَةِ
(قَسْوَةُ قُرَيْشٍ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّهُمْ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَبِرَمْضَاءِ مَكَّةَ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، مَنْ اُسْتُضْعِفُوا مِنْهُمْ، يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ الَّذِي يُصِيبُهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَصْلُبُ لَهُمْ، وَيَعْصِمُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ.
(مَا كَانَ يَلْقَاهُ بِلَالٌ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي تَخْلِيصِهِ) :
وَكَانَ بَلَالٌ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِبَعْضِ بَنِي جُمَحٍ، مُوَلَّدًا مِنْ مُوَلَّدِيهِمْ، وَهُوَ بَلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وَكَانَ اسْمُ أُمِّهِ حَمَامَةَ، وَكَانَ صَادِقَ الْإِسْلَامِ طَاهِرَ الْقَلْبِ، وَكَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ يُخْرِجُهُ إذَا
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.(1/317)
حَمِيَتْ الظَّهِيرَةُ، فَيَطْرَحَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ، ثُمَّ يَأْمُرُ بالصّخرة الْعَظِيمَة فتتوضع عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: (لَا وَاَللَّهِ) [1] لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدِ، وَتَعْبُدَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَاَللَّهِ يَا بِلَالُ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَيَقُولُ أَحْلِفُ باللَّه لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا [2] ، حَتَّى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ) [1] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا، وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ بِهِ، وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَحٍ، فَقَالَ لِأُمَيَّةِ بْنِ خَلَفٍ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ؟
حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَفْسَدْتَهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَفْعَلُ، عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى، عَلَى دِينِكَ، أُعْطِيكَهُ بِهِ، قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ فَقَالَ: هُوَ لَكَ. فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غُلَامَهُ ذَلِكَ، وَأَخَذَهُ فَأَعْتَقَهُ
(مَنْ أَعْتَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ مَعَ بِلَالٍ) :
ثُمَّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ سِتَّ رِقَابٍ، بِلَالٌ سَابِعُهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأُمُّ عُبَيْسٍ [3] وَزِنِّيرَةُ [4] ، وَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَذْهَبَ بَصَرَهَا إلَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى، فَقَالَتْ: كَذَبُوا وَبَيْتِ اللَّهِ مَا تَضُرُّ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَا تَنْفَعَانِ، فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرَهَا.
وَأَعْتَقَ النَّهْدِيَّةَ وَبِنْتَهَا، وَكَانَتَا لِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَمَرَّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا
__________
[1] زِيَادَة عَن.
[2] أَي لأجعلن قَبره مَوضِع حنان: أَي عطف وَرَحْمَة، فأتمسح بِهِ متبركا، كَمَا يتمسح بقبور الصَّالِحين وَالشُّهَدَاء.
[3] قَالَ الزرقانى: «وَهِي بِعَين مُهْملَة مَضْمُومَة فنون، وَقيل بموحدة، فتحتية فسين مُهْملَة» .
[4] هِيَ بزاى مَكْسُورَة بعْدهَا نون مَكْسُورَة مُشَدّدَة. وَبَعْضهمْ يَقُول فِيهَا: زنبرة بِفَتْح الزاى وَسُكُون النُّون وباء بعْدهَا رَاء. وَلَا تعرف زنبرة فِي النِّسَاء. وَأما فِي الرِّجَال فزنبرة بن زبير بن مَخْزُوم بن صاهلة ابْن كَاهِل، وَابْنه خَالِد بن زنبرة. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .(1/318)
سَيِّدَتُهُمَا بِطَحِينٍ لَهَا، وَهِيَ تَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أُعْتِقُكُمَا أَبَدًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حِلِّ [1] يَا أُمَّ فُلَانٍ، فَقَالَتْ: حِلَّ، أَنْتَ أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا، قَالَ:
فَبِكَمْ هُمَا؟ قَالَتْ: بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُمَا وَهُمَا حُرَّتَانِ، أَرْجِعَا إلَيْهَا طَحِينَهَا، قَالَتَا: أَوَنَفْرُغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ نَرُدُّهُ إلَيْهَا؟ قَالَ: وَذَلِكَ إنْ شِئْتُمَا.
وَمَرَّ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمِّلٍ، حَيٌّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَذِّبُهَا لِتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ يَضْرِبُهَا، حَتَّى إذَا مَلَّ قَالَ: إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ، إِنِّي لم أتركك إلَّا مَلَالَةً، فَتَقُولُ: كَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ. فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْتَقَهَا.
(لَامَ أَبُو قُحَافَةَ ابْنَهُ لِعِتْقِهِ مِنْ أَعْتَقَ فَرَدَّ عَلَيْهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ عَامِرِ [2] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ:
قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا بُنَيَّ، إنِّي أَرَاكَ تُعْتِقُ رِقَابًا ضِعَافًا، فَلَوْ أَنَّكَ إذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ رِجَالًا جُلْدًا يَمْنَعُونَكَ وَيَقُومُونَ دُونَكَ؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَبَتْ، إنِّي إنَّمَا أُرِيدُ مَا أُرِيدُ [3] ، للَّه (عَزَّ وَجَلَّ) [4] .
قَالَ: فَيُتَحَدَّثُ أَنَّهُ مَا نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إلَّا فِيهِ، وَفِيمَا قَالَ لَهُ أَبُوهُ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى 92: 5- 6 ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى 92: 19- 21.
(تَعْذِيبُ قُرَيْشٍ لَابْنِ يَاسِرٍ، وَتَصْبِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمَّارِ [5] بْنِ يَاسِرٍ، وَبِأَبِيهِ
__________
[1] حل: يُرِيد: تحللى من يَمِينك وَاسْتثنى فِيهَا، وَأكْثر مَا تَقوله الْعَرَب بِالنّصب.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مَا أُرِيد يعْنى للَّه» . وَلَا معنى لهَذِهِ الزِّيَادَة.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَبى عَامر» . وَهُوَ تَحْرِيف: (رَاجع تَهْذِيب التَّهْذِيب) .
[4] زِيَادَة عَن أ.
[5] روى أَن عمارا قَالَ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد بلغ منا الْعَذَاب كل مبلغ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صبرا أَبَا الْيَقظَان، ثمَّ قَالَ: اللَّهمّ لَا تعذب أحدا من آل عمار بالنَّار. وعمار وَالْحُوَيْرِث وعبود بَنو يَاسر. وَمن ولد عمار عبد الله بن سعد، وَهُوَ الْمَقْتُول بالأندلس، قَتله عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة.(1/319)
وَأُمِّهِ [1] ، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ، إذَا حَمِيَتْ الظَّهِيرَةُ، يُعَذِّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ [2] مَكَّةَ، فَيَمُرُّ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ، فِيمَا بَلَغَنِي: صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدُكُمْ الْجَنَّةُ. فَأَمَّا أُمُّهُ فَقَتَلُوهَا، وَهِيَ تَأْبَى إلَّا الْإِسْلَامَ.
(مَا كَانَ يُعَذِّبُ بِهِ أَبُو جَهْلٍ مَنْ أَسْلَمَ) :
وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ الَّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، إذَا سَمِعَ بِالرَّجُلِ قَدْ أَسْلَمَ، لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ، أَنَّبَهُ وَأَخْزَاهُ [3] وَقَالَ: تَرَكْتَ دِينَ أَبِيكَ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، لَنُسَفِّهَنَّ حِلْمَكَ، وَلَنُفَيِّلَنَّ [4] رَأْيَكَ، وَلَنَضَعَنَّ شَرَفَكَ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا قَالَ: وَاَللَّهِ لَنُكَسِّدَنَّ تِجَارَتَكَ، وَلَنُهْلِكَنَّ مَالَكَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ضَرَبَهُ وَأَغْرَى بِهِ.
(سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُذْرِ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ لِسَبَبِ تَعْذِيبِهِ فَأَجَازَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاَللَّهِ، إنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ حَتَّى مَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَوِيَ [5] جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، حَتَّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ مِنْ الْفِتْنَةِ، حَتَّى يَقُولُوا لَهُ، آللَّاتُ وَالْعُزَّى إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، حَتَّى إنَّ الْجُعَلَ لَيَمُرُّ بِهِمْ، فَيَقُولُونَ لَهُ: أَهَذَا الْجُعَلُ إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، افْتِدَاءً مِنْهُمْ مِمَّا يَبْلُغُونَ مِنْ جَهْدِهِ.
__________
[1] وَاسْمهَا سميَّة: وَهِي بنت خياط، كَانَت مولاة لأبى حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة، واسْمه مهشم، وَهُوَ عَم أَبى جهل، وَقد غلط ابْن قُتَيْبَة فِيهَا، فَزعم أَن الْأَزْرَق مولى الْحَارِث بن كلدة خلف عَلَيْهَا بعد يَاسر، فَولدت لَهُ سَلمَة بن الْأَزْرَق، وَالصَّحِيح أَن أم سَلمَة بن الْأَزْرَق سميَّة أُخْرَى، وَهِي أم زِيَاد بن أَبى سُفْيَان لَا أم عمار.
[2] الرمضاء: الرمل الحارة من شدَّة حرارة الشَّمْس.
[3] فِي الْأُصُول: «أخذاه» . ويروى: «خذله» : أَي ذلله.
[4] لنفيلن رَأْيك: أَي لنقبحنه ونخطئنه.
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: لَا «وَأَن يَسْتَوِي» وَلَا معنى لَهُ.(1/320)
(رَفْضُ هِشَامٍ تَسْلِيمَ أَخِيهِ لِقُرَيْشِ لِيَقْتُلُوهُ عَلَى إسْلَامِهِ، وَشِعْرِهِ فِي ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ عُكَاشَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مَشَوْا إلَى هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ، حِينَ أَسْلَمَ أَخُوهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ (بْنِ الْمُغِيرَةِ) [1] ، وَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا فِتْيَةً مِنْهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، مِنْهُمْ: سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ. قَالَ: فَقَالُوا لَهُ:
وَخَشُوا شَرَّهُمْ: إنَّا قَدْ أَرَدْنَا أَنْ نُعَاتِبَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَحْدَثُوا، فَإِنَّا نَأْمَنُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ [2] . قَالَ: هَذَا، فَعَلَيْكُمْ بِهِ، فَعَاتِبُوهُ وَإِيَّاكُمْ وَنَفْسَهُ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَلَا لَا يُقْتَلَنَّ أَخِي عُيَيْسٍ [3] ... فَيَبْقَى بَيْنَنَا أَبَدًا تَلَاحِي
احْذَرُوا عَلَى نَفْسِهِ، فَأُقْسِمُ اللَّهَ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَقْتُلَنَّ أَشْرَفَكُمْ رَجُلًا. قَالَ: فَقَالُوا:
اللَّهمّ الْعَنْهُ، مَنْ يُغَرِّرُ بِهَذَا الحَدِيث [4] ، فو الله لَوْ أُصِيبَ فِي أَيْدِينَا لَقُتِلَ أَشْرَفُنَا رَجُلًا. (قَالَ) [1] ، فَتَرَكُوهُ وَنَزَعُوا عَنْهُ. قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا دَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ.
ذِكْرُ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ
(إشَارَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [5] : فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ، بِمَكَانِهِ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ [6] عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] عبارَة ر هَكَذَا: فَإنَّا لَا نَأْمَن بذلك فِي غَيره.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عييش» .
[4] كَذَا فِي أ. يُرِيد أَي من يلطخ نَفسه بِهِ ويؤذيها. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «يغرر بِهَذَا الْخَبيث» .
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالَ حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام، قَالَ حَدثنَا زِيَاد بن عبد الله البكائي، عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق المطلبي، قَالَ ... » . هُوَ ابْتِدَاء الْجُزْء الْخَامِس من السِّيرَة، كَمَا فِي أَبى ذَر.
[6] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَابْن عَمه» وَهُوَ تَحْرِيف.
21- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/321)
مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ. فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَفِرَارًا إلَى اللَّهِ بِدِينِهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
(مَنْ هَاجَرُوا الْهِجْرَةَ الْأُولَى إلَى الْحَبَشَةِ) :
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابْن قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ مَعَهُ امْرَأَتُهُ: سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ. وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ:
الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ. وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْن عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ (بْنِ) [1] الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ ابْن يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ [2] هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ. وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرِو [3] بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ. وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ: عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، مِنْ عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ- (قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مِنْ عَنَزَةَ ابْن أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ) [4]- مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ (بْنِ حُذَافَةَ) [4] بْنِ غَانِمِ (ابْن عَامِرِ) [4] بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَابْن هِلَال» . وَهُوَ تَحْرِيف.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عمر» وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] زِيَادَة عَن أ.(1/322)
ابْن عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَيُقَالُ: بَلْ أَبُو حَاطِبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ (بْنِ لُؤَيٍّ) [1] ، وَيُقَالُ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَهَا. وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ.
فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْعَشْرَةِ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فِيمَا بَلَغَنِي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى اجْتَمَعُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَكَانُوا بِهَا، مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِأَهْلِهِ مَعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ لَا أَهْلَ لَهُ مَعَهُ.
(مَنْ خَرَجَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) :
(و) [1] مِنْ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ: جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ بْنِ خَثْعَمٍ، وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، رَجُلٌ.
(مَنْ خَرَجَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ) :
وَمِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ابْن أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ابْن مُحَرِّثِ (بْنِ خُمْلِ) [1] بْنِ شِقِّ بْنِ رَقَبَةَ بْنِ مُخْدِجٍ الْكِنَانِيُّ، وَأَخُوهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جُعْثُمَةَ [2] بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ خُزَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ، وَأَمَةَ بِنْتَ خَالِدٍ،
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] فِي الْأُصُول: «خثعمة» . وَقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك.(1/323)
فَتَزَوَّجَ أَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ، وَخَالِدُ بْنُ الزُّبَيْرِ.
(مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ) :
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ، مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبِرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ، وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ ابْن جَحْشٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَقَيْسُ ابْن عَبْدِ اللَّهِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ بَرَكَةُ بِنْتُ يَسَارٍ، مَوْلَاةُ أَبِي سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ. وَهَؤُلَاءِ آلُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، سَبْعَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مُعَيْقِيبُ مِنْ دَوْسٍ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ ابْن رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، حَلِيفُ آلِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، رَجُلَانِ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ) :
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ بْنِ وهب بن نسيب بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ، حَلِيفٌ لَهُمْ، رَجُلٌ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ) :
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ ابْن أَسَدٍ. وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، أَرْبَعَةُ نَفَرٍ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ) :
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ: طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي كَبِيرِ [1] بْنِ عَبْدِ (ابْن قُصَيٍّ) [2] ، رَجُلٌ.
__________
[1] كَذَا فِي أوشرح السِّيرَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول والاستيعاب: «كثير» .
[2] زِيَادَة عَن شرح السِّيرَة لأبى ذَر.(1/324)
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ) :
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَسُوَيْبِطُ [1] بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْلَةَ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَجَهْمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَرْمَلَةَ بِنْتُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ بْنِ جُذَيْمَةَ بْنِ أُقَيْشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جُعْثُمَةَ [2] بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ خُزَاعَةَ، وَابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ جَهْمٍ وَخُزَيْمَةُ [3] بْنُ جَهْمٍ، وَأَبُو الرُّومِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابْن عَبْدِ الدَّارِ، وَفِرَاسُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابْن عَبْدِ الدَّارِ، خَمْسَةُ نَفَرٍ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ) :
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ ابْن الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَعَامِرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو وَقَّاصٍ، مَالِكُ بْنُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابْن زُهْرَةَ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ ابْن زُهْرَةَ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ ضُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُطَّلِبِ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ) :
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ هُذَيْلٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ. وَأَخُوهُ:
عُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَهْرَاءَ) :
وَمِنْ بَهْرَاءَ: الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ ثُمَامَةَ بْنِ مَطْرُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ لُؤَيِّ [4] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الشَّرِّيدِ
__________
[1] كَذَا فِي أوالاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «سويط بن حُرَيْمِلَة» .
[2] فِي الْأُصُول: «خثعمة» وَهُوَ تَحْرِيف. وَقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «خُزَيْمَة بنت جِهَة» وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] فِي الْأُصُول: «ثَوْر» والتصويب عَن شرح السِّيرَة لأبى ذَر الخشنيّ (ص 99 طبع الْقَاهِرَة سنة 1329) .(1/325)
ابْن أَبِي أَهْوَزَ [1] بْنِ أَبِي فَائِشِ بْنِ دُرَيْمِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ أَهْوَدَ [2] بْنِ بَهْرَاءَ بْنِ عَمْرِو ابْن الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ هَزْلُ بْنُ فَاسِ [3] بْنِ ذَرِّ، وَدُهَيْرُ [4] بْنُ ثَوْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ (بْنِ وَهْبِ) [5] ابْن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَبَنَّاهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَحَالَفَهُ سِتَّةُ نَفَرٍ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي تَيْمٍ) :
وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ: الْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ (بْنِ عَمْرِو) [5] ابْن كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رَيْطَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ جَبَلَةَ [6] بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مُوسَى بْنَ الْحَارِثِ، وَعَائِشَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَزَيْنَبَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَفَاطِمَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَعَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، رَجُلَانِ.
(مَنْ رَحَلَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ) :
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، وَاسْمُ أَبِي سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ، وَاسْمُ أُمِّ سَلَمَةَ: هِنْدٌ: وَشَمَّاسُ (بْنُ) [5] عُثْمَانَ بْنِ [7] الشَّرِّيدِ ابْن سُوَيْدِ بْنِ هَرْمِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ.
(اسْمُ الشَّمَّاسِ وَشَيْءٌ عَنْهُ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ شَمَّاسٍ: عُثْمَانُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَمَّاسًا، لِأَنَّ شَمَّاسًا مِنْ
__________
[1] فِي الْأُصُول: «بن هزل بن فائش» . والتصويب عَن شرح السِّيرَة. وَقد عرض لهَذَا ابْن هِشَام بعد أسطر.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: أهوذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.
[3] كَذَا فِي أوفي سَائِر الْأُصُول: «قاش» .
[4] قَالَ أَبُو ذَر: «وروى أَيْضا: دهير (بِالتَّصْغِيرِ) . وروى أَيْضا: دهير (بِالْيَاءِ الْمُوَحدَة مَفْتُوحَة) وَالصَّوَاب فِيهِ: دهير بِفَتْح الدَّال وَكسر الْهَاء.
[5] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والاستيعاب. وَفِي أ: « ... بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب ... إِلَخ» .
[6] كَذَا فِي الِاسْتِيعَاب. وَفِي أَكثر الْأُصُول: «جبيلة» . وَفِي أ: «حبيلة» .
[7] كَذَا فِي الِاسْتِيعَاب. وَفِي أَكثر الْأُصُول: « ... بن عبد بن الشريد» .(1/326)
الشَّمَامِسَةِ [1] ، قَدِمَ مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ جَمِيلًا فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ جَمَالِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكَانَ خَالَ شَمَّاسٍ: أَنَا آتِيكُمْ بِشَمَّاسِ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَجَاءَ بِابْنِ أُخْتِهِ عُثْمَانَ بْنِ عُثْمَانَ، فَسُمِّيَ شَمَّاسًا. فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَهَبَّارُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ، وَهِشَامُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ.
(مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي مَخْزُومٍ) :
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: مُعَتِّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَفِيفِ بْنِ كُلَيْبِ ابْن حَبَشِيَّةَ بن سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:
عَيْهَامَةُ، ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ حَبَشِيَّةُ بْنُ سَلُولَ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مُعَتِّبُ بْنُ حَمْرَاءَ.
(مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي جُمَحٍ) :
وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ ابْن وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، وَابْنُهُ السَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَخَوَاهُ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ ابْن وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلَّلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ: مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، وَهُمَا لِبِنْتِ الْمُجَلَّلِ، وَأَخُوهُ حَطَّابُ بْنُ الْحَارِثِ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ ابْن جُمَحٍ، مَعَهُ ابْنَاهُ جَابِرُ بْنُ سُفْيَانَ، وَجُنَادَةُ بْنُ سُفْيَانَ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ حَسَنَةُ، وَهِيَ أُمُّهُمَا [2] ، وَأَخُوهُمَا مِنْ أُمِّهِمَا شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، أَحَدُ الْغَوْثِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: شُرَحْبِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ الْغَوْثِ بْنِ مُرٍّ، أَخِي تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ.
__________
[1] الشمامسة: هم الرهبان. لأَنهم يشمسون أنفسهم. يُرِيدُونَ تَعْذِيب النُّفُوس بذلك.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أمهَا» وَهُوَ تَحْرِيف.(1/327)
(مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أَهْبَانَ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ، خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْلٍ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْعَاصِ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ [2] بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ ابْن عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] ابْن سَهْمٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ، وَأَخٌ لَهُ مِنْ أُمِّهِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، يُقَالُ لَهُ: سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ، وَالسَّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ [1] ابْن سَهْمٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ رِئَابِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ مُهَشَّمِ بْنِ سَعْدِ [1] بْنِ سَهْمٍ. وَمَحْمِيَّةُ بْنُ الْجَزَاءِ [3] ، حَلِيفٌ لَهُمْ، مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
(مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ) :
وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ: مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ حَرْثَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيٍّ، وَعُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ حَرْثَانَ ابْن عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيٍّ، وَعَدِيُّ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ حَرْثَانَ
__________
[1] فِي الْأُصُول: «سعيد. وَهُوَ تَحْرِيف. وَقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك فِي هَذَا الْجُزْء.
[2] كَذَا فِي أوالاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: بن قيس بن حذافة بن قيس بن عدي ... إِلَخ.
وَالظَّاهِر أَن فِي النّسَب إقحاما.
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول والاستيعاب، وَأسد الغابة: «الْجُزْء» . وَفِي أ: «الْجَزَاء» . قَالَ أَبُو ذَر «ومحمية بن الْجَزَاء، ويروى هُنَا أَيْضا: ابْن الجز بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا وبالزاي الْمُشَدّدَة، والصوب فِيهِ الجز وَالله أعلم» .(1/328)
ابْن عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيٍّ، وَابْنُهُ النُّعْمَانُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفٌ لِآلِ الْخَطَّابِ، مِنْ عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ ابْن غَانِمٍ. خَمْسَةُ نَفَرٍ.
(مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ) :
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ [1] بْنِ لُؤَيٍّ: أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ ابْن حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ ابْن نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ ابْن عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَسُلَيْطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ ابْن عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَأَخُوهُ السَّكْرَانُ بْنُ عَمْرٍو، مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمَعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَمَالِكُ بْنُ زَمَعَةَ [2] بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ ابْن نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ السَّعْدِيِّ بْنِ وَقْدَانَ ابْن عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَحَاطِبُ [3] بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ، وَسَعْدُ ابْن خَوْلَةُ، حَلِيفٌ لَهُمْ. ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ مِنْ الْيَمَنِ.
(مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ [4] ،
__________
[1] ذكر الْمُؤلف فِي ص 345 من هَذَا الْجُزْء من هَاجر من بنى عَامر وَذكر أَبَا سُبْرَة هَذَا.
[2] كَذَا فِي أوالاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ربيعَة» . وَهُوَ تَحْرِيف.
[3] كَذَا فِي أوالاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول هُنَا، وَفِيمَا تقدم من جَمِيع الْأُصُول: «وَأَبُو حَاطِب» وهما رِوَايَتَانِ فِيهِ. (رَاجع أَسد الغابة) .
[4] زِيَادَة عَن أ.(1/329)
وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ ابْن الْحَارِثِ، وَلَكُنَّ أُمَّهُ غَلَبَتْ عَلَى نَسَبِهِ، فَهُوَ يُنْسَبُ إلَيْهَا، وَهِيَ دَعْدُ بِنْتُ جَحْدَمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، وَكَانَتْ تُدْعَى بَيْضَاءَ، وَعَمْرُو ابْن أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعِيَاضُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَيُقَالُ:
بَلْ رَبِيعَةُ بْنُ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبَّةَ (بْنِ الْحَارِثِ) [1] ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعُثْمَانُ [2] ابْن عَبْدِ غَنْمِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ (بْنِ فِهْرٍ) [1] وَالْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ [3] بْنِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ. ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ.
(عَدَدُ الْمُهَاجِرِينَ إلَى الْحَبَشَةِ) :
فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهَاجَرَ إلَيْهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، سِوَى أَبْنَائِهِمْ الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ مَعَهُمْ صِغَارًا وَوُلِدُوا بِهَا، ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، إنْ كَانَ عَمَّارُ ابْن يَاسِرٍ فِيهِمْ، وَهُوَ يُشَكُّ فِيهِ.
(شِعْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ فِي الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ) :
وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنْ الشِّعْرِ فِي الْحَبَشَةِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ ابْن سَعْدِ [4] بْنِ سَهْمٍ، حِينَ أَمِنُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَحَمِدُوا جِوَارَ النَّجَاشِيِّ، وَعَبَدُوا اللَّهَ لَا يَخَافُونَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا، وَقَدْ أَحْسَنَ النَّجَاشِيُّ جِوَارَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِهِ، قَالَ:
يَا رَاكِبًا بَلِّغَنْ عَنَّى مُغَلْغِلَةً [5] ... مَنْ كَانَ يَرْجُو بَلَاغَ اللَّهِ وَالدِّينِ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أوالاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عَمْرو» وَهُوَ تَحْرِيف.
[3] كَذَا فِي أوالاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بن فهر بن لَقِيط» . وَفِي النّسَب إقحام.
[4] فِي الْأُصُول: «سعيد» . (رَاجع الْحَاشِيَة رقم 8 ص 256 من هَذَا الْجُزْء) .
[5] المغلغلة: الرسَالَة ترسل من بلد إِلَى بلد.(1/330)
كُلُّ امْرِئِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مُضْطَهَدٌ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ مَقْهُورٍ وَمَفْتُونِ
أَنَّا وَجَدْنَا بِلَادَ اللَّهِ وَاسِعَةً ... تُنْجِي مِنْ الذُّلِّ وَالْمَخْزَاةِ وَالْهُونِ
فَلَا تُقِيمُوا عَلَى ذلّ الْحَيَاة وخزى ... فِي الْمَمَاتِ وَعَيْبٍ غَيْرِ مَأْمُونِ
إنَّا تَبِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَاطَّرَحُوا ... قَوْلَ النَّبِيِّ وَعَالُوا [1] فِي الْمَوَازِينِ
فَاجْعَلْ عَذَابَكَ بِالْقَوْمِ [2] الَّذِينَ بَغَوْا ... وَعَائِذًا [3] بِكَ أَنْ يَعْلُوَا [4] فَيُطْغُونِي
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا، يَذْكُرُ نَفْيَ قُرَيْشٍ إيَّاهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَيُعَاتِبُ بَعْضَ قَوْمِهِ فِي ذَلِكَ:
أَبَتْ كَبِدِي، لَا أَكْذِبَنْكَ، قِتَالَهُمْ ... عَلَيَّ وَتَأْبَاهُ عَلَيَّ أَنَامِلِي
وَكَيْفَ قِتَالِي مَعْشَرًا أَدَّبُوكُمْ ... عَلَى الْحَقِّ أَنْ لَا تَأْشِبُوهُ بِبَاطِلِ [5]
نَفَتْهُمْ عِبَادُ الْجِنِّ مِنْ حُرِّ أَرْضِهِمْ ... فَأَضْحَوْا عَلَى أَمْرٍ شَدِيدِ الْبَلَابِلِ [6]
فَإِنْ تَكُ كَانَتْ فِي عَدِيٍّ أَمَانَةٌ ... عَدِيِّ بْنِ سَعْدٍ عَنْ تُقًى أَوْ تَوَاصُلِ
فَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنَّ ذَلِكَ فِيكُمْ ... بِحَمْدِ الَّذِي لَا يُطَّبَى بِالْجَعَائِلِ [7]
وبدّلت شبلا شل كُلِّ خَبِيثَةٍ ... بِذِي فَجْرٍ مَأْوَى الضِّعَافِ الْأَرَامِلِ [8]
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا:
وَتِلْكَ قُرَيْشٌ تَجْحَدُ اللَّهَ حَقَّهُ ... كَمَا جَحَدَتْ عَادٌ وَمَدْيَنُ وَالْحِجْرُ [9]
فَإِنْ أَنَا لَمْ أُبْرِقْ فَلَا يَسَعَنَّنِي ... مِنْ الْأَرْضِ بَرٌّ ذُو فَضَاءٍ وَلَا بَحْرُ [10]
بِأَرْضٍ بِهَا عَبَدَ الْإِلَهَ مُحَمَّدٌ ... أُبَيِّنُ مَا فِي النَّفْسِ إذْ بُلِغَ النَّقْرُ [11]
__________
[1] عَال فِي الْمِيزَان يعول: خَان.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فِي الْقَوْم» .
[3] كَذَا فِي أ. وَنصب «عائذا» على الْفِعْل الْمَتْرُوك إِظْهَاره. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وعائذ» .
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «يغلوا» . (بالغين الْمُعْجَمَة) .
[5] يأشبه: يخلطه.
[6] حر أَرضهم: أَرضهم الْكَرِيمَة. والبلابل: وساوس الأحزان.
[7] لَا يطبى: لَا يستمال وَلَا يستدعى. والجعائل: جمع جعَالَة (بِالْفَتْح) وَهِي الرِّشْوَة.
[8] الْفجْر: الْعَطاء الْكثير.
[9] الْحجر: يُرِيد أهل الْحجر، وهم ثَمُود.
[10] أبرق: أهدد.
[11] النقر: الْبَحْث عَن الشَّيْء، ويروى: «النَّفر» بِالْفَاءِ.(1/331)
فَسُمِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ- يَرْحَمُهُ اللَّهُ- لَبَيْتِهِ الَّذِي قَالَ: «الْمُبْرِقُ» .
(شِعْرُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فِي ذَلِكَ) :
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ يُعَاتِبُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، وَكَانَ يُؤْذِيهِ فِي إسْلَامِهِ، وَكَانَ أُمَيَّةُ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ:
أَتَيْمَ بْنَ عَمْرٍو لِلَّذِي جَاءَ بِغْضَةً [1] ... وَمِنْ دُونِهِ الشَّرْمَانُ وَالْبَرْكُ أَكْتَعُ [2]
أَأَخْرَجْتَنِي مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ آمِنًا ... وَأَسْكَنْتنِي فِي صَرْحِ بَيْضَاءَ [3] تَقْذَعُ [4]
تَرِيشُ نِبَالًا لَا يُوَاتِيكَ رِيشُهَا [5] ... وَتُبْرَى نِبَالًا رِيشُهَا لَكَ أَجْمَعُ
وَحَارَبْتَ أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزَّةً ... وَأَهْلَكْتَ أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْتَ تَفْزَعُ [6]
سَتَعْلَمُ إنْ نَابَتْكَ يَوْمًا مُلِمَّةٌ ... وَأَسْلَمَكَ الْأَوْبَاشُ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ [7]
وَتَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، الَّذِي يَدْعُو عُثْمَانَ، جُمَحُ، كَانَ اسْمُهُ تَيْمًا [8] .
__________
[1] أَرَادَ عجبا للَّذي جَاءَ وَالْعرب تكتفى بِهَذِهِ اللَّام فِي التَّعَجُّب كَقَوْلِه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: لهَذَا العَبْد الحبشي جَاءَ من أرضه وسمائه إِلَى الأَرْض الَّتِي خلق مِنْهَا. قَالَه فِي عبد حبشِي دفن فِي الْمَدِينَة. وَقَالَ فِي جَنَازَة سعد بن معَاذ وَهُوَ وَاقِف على قَبره وتقهقر، ثمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الله! لهَذَا العَبْد الصَّالح ضم عَلَيْهِ الْقَبْر، ثمَّ فرج عَنهُ.
[2] قَالَ أَبُو ذَر: والشرمان (بِالْفَتْح) : مَوضِع. وَمن رَوَاهُ الشرمان (بِكَسْر النُّون) فَهُوَ تَثْنِيَة شرم، وَهُوَ لجة الْبَحْر. والبرك: جمَاعَة الْإِبِل الباركة، وَقيل هُوَ اسْم مَوضِع هُنَا، وَهُوَ أشبه. وَقَوله:
«والبرك أَكْتَع» هَذِه رِوَايَة غَرِيبَة، لِأَنَّهُ أكد بأكتع دون أَن يتقدمه أجمع.
[3] صرح بَيْضَاء، يُرِيد مَدِينَة الْحَبَشَة. وأصل الصرح: الْقصر، يُرِيد أَنه سَاكن عِنْد قصر النَّجَاشِيّ، ويروى: صرح بيطاء (بِفَتْح الْبَاء وَكسرهَا) . والبيطاء: اسْم سفينة.
[4] تقذع: تكره، كَأَنَّهُ من أقذعت الشَّيْء: إِذا صادفته قذعا، وَيُقَال أَيْضا: قذعت الرجل إِذا رميته بالفحش. يُرِيد أَن أَرض الْحَبَشَة مقذوعة. ويروى «نقدع» بِالدَّال الْمُهْملَة، وتقدع: تدفع.
قَالَ السهيليّ مَا مَعْنَاهُ: وأحسب أَن «صرح بَيْضَاء تقذع» محرفة عَن: «صرح بيطاء تقدع» .
[5] ريشها، من رَوَاهُ بِفَتْح الرَّاء، فَهُوَ مصدر راشه يريشه ريشا: إِذا نَفعه وجبره، وَمن رَوَاهُ بِكَسْر الرَّاء فَهُوَ جمع ريشة.
[6] تفزع: تغيث وَتَنصر. ويروى: «تقرع» : أَي تضارب.
[7] الأوباش: الضُّعَفَاء الداخلون فِي الْقَوْم وَلَيْسوا مِنْهُم.
[8] كَذَا فِي أ، ط. وسمى تيم بن عَمْرو جمح، لِأَن أَخَاهُ سهم بن عَمْرو، وَكَانَ اسْمه زيدا، سابقه إِلَى غَايَة فجمح عَنْهَا تيم، فَسمى جمح، ووقف عَلَيْهَا زيد فَقيل: قد سهم زيد فَسمى سَهْما. وَفِي سَائِر الْأُصُول «وتيم بن عَمْرو الّذي كَانَ يدعى عُثْمَان بن جمح» وَهُوَ تَحْرِيف.(1/332)
إرْسَالُ قُرَيْشٍ إلَى الْحَبَشَةِ فِي طَلَبِ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا
(رَسُولَا قُرَيْشٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ لِاسْتِرْدَادِ الْمُهَاجِرِينَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمِنُوا وَاطْمَأَنُّوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَصَابُوا بِهَا دَارًا وَقَرَارًا، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنَّ يَبْعَثُوا فِيهِمْ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ جَلْدَيْنِ إلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ، لِيَفْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دَارِهِمْ، الَّتِي اطْمَأَنُّوا بِهَا وَأَمِنُوا فِيهَا، فَبَعَثُوا عَبْدَ اللَّهِ [1] بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَجَمَعُوا لَهُمَا هَدَايَا لِلنَّجَاشِيِّ وَلِبَطَارِقَتِهِ [2] ، ثُمَّ بَعَثُوهُمَا إلَيْهِ [3] فِيهِمْ.
(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّجَاشِيِّ يَحُضُّهُ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْمُهَاجِرِينَ) :
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ، حِينَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِمْ وَمَا بَعَثُوهُمَا فِيهِ، أَبْيَاتًا لِلنَّجَاشِيِّ يَحُضُّهُ عَلَى حُسْنِ جِوَارِهِمْ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النَّأْيِ [4] جَعْفَرٌ ... وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ الْعَدُوِّ الْأَقَارِبُ
__________
[1] وَعبد الله بن أَبى ربيعَة هَذَا كَانَ اسْمه بحيرى، فَسَماهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أسلم عبد الله. وَأَبوهُ: أَبُو ربيعَة ذُو الرمحين، وَفِيه يَقُول ابْن الزبعري:
بحيرى بن ذِي الرمحين قرب مجلسى ... وَرَاح علينا فَضله وَهُوَ غَانِم
وَاسم أَبى ربيعَة: عَمْرو:، وَقيل حُذَيْفَة. وَأم عبد الله بن أَبى ربيعَة أَسمَاء بنت مخربة التميمية، وَهِي:
أم أَبى جهل بن هِشَام. وَعبد الله بن أَبى ربيعَة هَذَا هُوَ وَالِد عمر بن عبد الله بن أَبى ربيعَة الشَّاعِر، ووالد الْحَارِث أَمِير الْبَصْرَة الْمَعْرُوف بالقباع، وَكَانَ فِي أَيَّام عمر واليا على الْجند وَفِي أَيَّام عُثْمَان، فَلَمَّا سمع بحصر عُثْمَان جَاءَهُ لِيَنْصُرهُ فَسقط عَن دَابَّته فَمَاتَ.
[2] البطارقة: جمع بطرِيق، وَهُوَ الْقَائِد أَو الحاذق بِالْحَرْبِ.
[3] وَيُقَال إِن قُريْشًا بعثت مَعَ ابْن أَبى ربيعَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ، عمَارَة بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، الّذي عرضته قُرَيْش على أَبى طَالب ليأخذه، وَيدْفَع إِلَيْهِم مُحَمَّدًا ليقتلوه. وَالظَّاهِر أَن إرسالهم إِيَّاه مَعَ عَمْرو كَانَ فِي الْمرة الْأُخْرَى، ويروون فِيهَا: أَن عمرا سَافر بامرأته، فَلَمَّا ركبُوا الْبَحْر، وَكَانَ عمَارَة قد هوى امْرَأَة عَمْرو وهويته، فعزما على دفع عَمْرو فِي الْبَحْر، فدفعاه فَسقط فِيهِ ثمَّ سبح، ونادى أَصْحَاب السَّفِينَة فَأَخَذُوهُ ورفعوه إِلَى السَّفِينَة، وأضمرها عَمْرو فِي نَفسه، وَلم يبدها لعمارة. فَلَمَّا أَتَيَا أَرض الْحَبَشَة مكر بِهِ عَمْرو، فِي حَدِيث طَوِيل ذكره أَبُو الْفرج الْأَصْفَهَانِي فِي كِتَابه الأغاني.
[4] النأى: الْبعد.(1/333)
وَهَلْ [1] نَالَتْ أَفْعَالُ النَّجَاشِيِّ جَعْفَرًا ... وَأَصْحَابَهُ أَوْ عَاقَ ذَلِكَ شَاغِبُ [2]
تَعَلَّمْ، أَبَيْتَ اللَّعْنَ، أَنَّكَ مَاجِدٌ ... كَرِيمٌ فَلَا يَشْقَى لَدَيْكَ الْمُجَانِبُ [3]
تَعَلَّمْ بِأَنَّ اللَّهَ زَادَكَ بَسْطَةً ... وَأَسْبَابَ خَيْرٍ كُلُّهَا بِكَ لَازِبُ [4]
وَأَنَّكَ فَيْضٌ ذُو سِجَالٍ غَزِيرَةٍ ... يَنَالُ الْأَعَادِي نَفْعَهَا وَالْأَقَارِبُ [5]
(حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ رَسُولَيْ قُرَيْشٍ مَعَ النَّجَاشِيِّ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الْأُدْمُ [6] ، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمَا إلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلَاهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلَّا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، وَقَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إنَّهُ قَدْ ضَوَى [7] إلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَهَل نَالَ أَفعَال» .
[2] عَاق: منع. وشاغب: من الشغب، ويروى: شاعب (بِالْعينِ الْمُهْملَة) . والشاعب: المفرق.
[3] أَبيت اللَّعْن: هِيَ تَحِيَّة كَانُوا يحيون بهَا الْمُلُوك فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمَعْنَاهُ: أَبيت أَن تأتى مَا تذم عَلَيْهِ.
وَقيل مَعْنَاهُ: أَبيت أَن تذم من يقصدك. والمجانب: الدَّاخِل فِي حمى الْإِنْسَان المنضوى إِلَى جَانِبه.
[4] لازب: لاصق.
[5] الْفَيْض: الْجواد. والسجال: العطايا، وَاحِدهَا: سجل، وأصل السّجل: الدَّلْو المملوءة، ثمَّ يستعار للعطية.
[6] الْأدم: الْجُلُود، وَهُوَ اسْم جمع.
[7] ضوى: لَجأ ولصق وأتى لَيْلًا.(1/334)
سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْنَا وَلَا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا [1] ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إنَّهُمَا قَدَّمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو ابْن الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ النَّجَاشِيُّ. قَالَتْ: فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَتْ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ، إذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا، وَرَدَدْتُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.
(إِحْضَار النَّجَاشِيّ للمهاجرين، وَسُؤَالُهُ لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَجَوَابُهُمْ عَنْ ذَلِكَ) :
قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إذَا جِئْتُمُوهُ؟
قَالُوا: نَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا عَلِمْنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا جَاءُوا، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ [2] ، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا (بِهِ) [3]
__________
[1] أَعلَى بهم عينا: أبْصر بهم: اى عينهم وأبصارهم فَوق عين غَيرهم.
[2] الأساقفة: عُلَمَاء النَّصَارَى الَّذين يُقِيمُونَ لَهُم دينهم، واحدهم أَسْقُف، وَقد يُقَال بتَشْديد الْفَاء.
[3] زِيَادَة عَن أ.(1/335)
فِي دِينِي، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [1] ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ- قَالَتْ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ- فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللَّهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لِيَرُدُّونَا إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إلَى بِلَادِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ:
فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ: «كهيعص 19: 1» . قَالَتْ: فَبَكَى وَاَللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ [2] لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُّوا مَصَاحِفَهُمْ، حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ (لَهُمْ) [1] النَّجَاشِيُّ: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى [3] لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ [4] وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا،
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. واخضلت لحيته: ابتلت. وَفِي أ: «حَتَّى أخضل لحيته» : أَي بلها.
[3] فِي أ: «مُوسَى» .
[4] الْمشكاة: قَالَ فِي لِسَان الْعَرَب: «وَفِي حَدِيث النَّجَاشِيّ: إِنَّمَا يخرج من مشكاة وَاحِدَة. الْمشكاة:
الكوة غير النافذة، وَقيل هِيَ الحديدة الَّتِي يعلق عَلَيْهَا الْقنْدِيل» أَرَادَ أَن الْقُرْآن وَالْإِنْجِيل كَلَام الله تَعَالَى، وأنهما من شَيْء وَاحِد.(1/336)
فَلَا وَاَللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا، وَلَا يُكَادُونَ [1] .
(مَقَالَةُ الْمُهَاجِرِينَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ) :
قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاَللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا عَنْهُمْ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ [2] . قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي ربيعَة، وَكَانَ أثقى [3] الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا نَفْعَلُ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا، قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثُمَّ غَدًا عَلَيْهِ (مِنْ) [4] الْغَدِ فَقَالَ (لَهُ) [4] : أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ. قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا قَطُّ. فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ إذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاَللَّهِ مَا قَالَ اللَّهُ، وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (يَقُولُ) [4] : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ [5] ، قَالَتْ: فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاَللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي- وَالشُّيُومُ [6] : الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَبَّكُمْ
__________
[1] فِي أ: «أكاد» .
[2] خضراءهم: شجرتهم الَّتِي مِنْهَا تفرعوا.
[3] فِي أ: «أبقى» .
[4] زِيَادَة عَن أ.
[5] كَذَا فِي أ. وَهَذَا الْعود: مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة: أَي مِقْدَار هَذَا الْعود. يُرِيد أَن قَوْلك لم يعد عِيسَى بن مَرْيَم بِمِقْدَار هَذَا الْعود. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مَا عدا عِيسَى ابْن مَرْيَم مِمَّا قلت» .
[6] قَالَ السهيليّ: «يحْتَمل أَن تكون لَفْظَة حبشية غير مُشْتَقَّة، وَيحْتَمل أَن يكون لَهَا أصل فِي الْعَرَبيَّة، وَأَن تكون من شمت السَّيْف، أَي أغمدته، لِأَن الآمن مغمد عَنهُ السَّيْف أَو لِأَنَّهُ مصون فِي حرز كالسيف فِي غمده.
32- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/337)
غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ [1] . مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ، وَيُقَالُ: فَأَنْتُمْ سُيُومٌ وَالدَّبَرُ:
(بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ) : الْجَبْلُ- رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلَا حَاجَةَ لي بهَا، فو الله مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، مَعَ خَيْرِ جَارٍ.
(فَرَحُ الْمُهَاجِرِينَ بِنُصْرَةِ النَّجَاشِيِّ عَلَى عدوه) :
قَالَت: فو الله إنَّا لِعَلَى ذَلِكَ، إذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي ملكه.
قَالَت: فو الله مَا عَلِمْتُنَا حَزِنَّا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ (عَلَيْنَا) [2] مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِي رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ إلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقِيعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا.
قَالُوا: فَأَنْتَ. وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا. قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: فَدَعَوْنَا اللَّهَ تَعَالَى لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَاده. قَالَت: فو الله إنَّا لَعَلَى ذَلِكَ مُتَوَقِّعُونَ لِمَا هُوَ كَائِنٌ، إذْ طَلَعَ الزُّبَيْرُ وَهُوَ يَسْعَى، فَلَمَعَ [3] بِثَوْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَفِرَ [4] النَّجَاشِيُّ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ، وَمَكَّنَّ لَهُ فِي بِلَاده. قَالَت: فو الله مَا عَلِمْتنَا فَرِحْنَا فَرْحَةً قَطُّ مِثْلَهَا.
قَالَتْ: وَرَجَعَ النَّجَاشِيُّ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَاسْتَوْسَقَ [5] عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ.
__________
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَقد وَردت هَذِه الْعبارَة فِي أمكررة مرَّتَيْنِ فَقَط.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] لمع بِثَوْبِهِ وألمع بِهِ: إِذا رَفعه وحركه ليراه غَيره فَيَجِيء إِلَيْهِ.
[4] فِي أ: «ظهر» .
[5] كَذَا فِي أد ط. واستوسق: تتَابع وَاسْتمرّ وَاجْتمعَ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «استوثق» .(1/338)
قِصَّةُ تَمَلُّكِ النَّجَاشِيِّ عَلَى الْحَبَشَةِ
(قَتْلُ أَبِي النَّجَاشِيِّ، وَتَوْلِيَةُ عَمِّهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَحَدَّثْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدِيثَ أَبِي بَكْرِ ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ [1] فَأُطِيعَ النَّاسَ فِيهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ إلَّا النَّجَاشِيَّ، وَكَانَ لِلنَّجَاشِيِّ عَمٌّ، لَهُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ مَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ، فَقَالَتْ الْحَبَشَةُ بَيْنَهَا: لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ فَإِنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ غَيْرَ هَذَا الْغُلَامِ، وَإِنَّ لِأَخِيهِ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَتَوَارَثُوا مُلْكَهُ مِنْ بَعْدِهِ، بَقِيَتْ الْحَبَشَةُ بَعْدَهُ دَهْرًا، فَغَدَوْا عَلَى أَبِي النَّجَاشِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَمَلَّكُوا أَخَاهُ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ حِينًا.
(غَلَبَةُ النَّجَاشِيِّ عَمَّهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَسَعْيُ الْأَحْبَاشِ لِإِبْعَادِهِ) :
وَنَشَأَ النَّجَاشِيُّ مَعَ عَمِّهِ، وَكَانَ لَبِيبًا حَازِمًا مِنْ الرِّجَالِ، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، وَنَزَلَ مِنْهُ بِكُلِّ مَنْزِلَةٍ، فَلَمَّا رَأَتْ الْحَبَشَةُ مَكَانَهُ (مِنْهُ) [2] قَالَتْ بَيْنَهَا: وَاَللَّهِ لَقَدْ غَلَبَ هَذَا الْفَتَى عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، وَإِنَّا لَنَتَخَوَّفُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا، وَإِنْ مَلَّكَهُ عَلَيْنَا لَيَقْتُلنَا أَجْمَعِينَ، لَقَدْ عَرَفَ أَنَّا نَحْنُ قَتَلْنَا أَبَاهُ. فَمَشَوْا إلَى عَمِّهِ فَقَالُوا: إمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الْفَتَى، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَإِنَّا قَدْ خِفْنَاهُ عَلَى أَنْفُسِنَا، قَالَ:
وَيْلَكُمْ! قَتَلْتُ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ، وَأَقْتُلهُ الْيَوْمَ! بَلْ أُخْرِجُهُ مِنْ بِلَادِكُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجُوا بِهِ إلَى السُّوقِ، فَبَاعُوهُ مِنْ رَجُلٍ مِنْ التُّجَّارِ بِسِتِّ ماِئَةِ دِرْهَمٍ، فَقَذَفَهُ فِي سَفِينَةٍ فَانْطَلَقَ بِهِ، حَتَّى إذَا كَانَ الْعَشِيُّ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، هَاجَتْ سَحَابَةٌ مِنْ سَحَائِبِ الْخَرِيفِ فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا، فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ. قَالَتْ: فَفَزِعَتْ الْحَبَشَةُ إلَى
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول هُنَا: «فِيهِ» .
[2] زِيَادَة عَن أ.(1/339)
وَلَدِهِ، فَإِذَا هُوَ مُحَمَّقٌ، لَيْسَ فِي وَلَدِهِ خَيْرٌ، فَمَرَجَ عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرُهُمْ [1] .
(تَوَلِّيهِ الْمُلْكَ بِرِضَا الْحَبَشَةِ) :
فَلَمَّا ضَاقَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: تَعْلَمُوا وَاَللَّهِ أَنَّ مَلِكَكُمْ الَّذِي لَا يُقِيمُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ لَلَّذِي بِعْتُمْ غَدْوَةً، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ بِأَمْرِ الْحَبَشَةِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوهُ (الْآنَ) [2] . قَالَتْ: فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، وَطَلَبِ الرَّجُلِ الَّذِي بَاعُوهُ مِنْهُ حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذُوهُ مِنْهُ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ، فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ، وَأَقْعَدُوهُ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ، فَمَلَّكُوهُ.
(حَدِيثُ التَّاجِرِ الَّذِي ابْتَاعَ النَّجَاشِيَّ) :
فَجَاءَهُمْ التَّاجِرُ الَّذِي كَانُوا بَاعُوهُ مِنْهُ، فَقَالَ: إمَّا أَنْ تُعْطُونِي مَالِي، وَإِمَّا أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ؟ قَالُوا: لَا نُعْطِيكَ شَيْئًا، قَالَ: إذَنْ وَاَللَّهِ أُكَلِّمُهُ، قَالُوا:
فَدُونَكَ وَإِيَّاهُ. قَالَتْ: فَجَاءَهُ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، ابْتَعْتُ غُلَامًا مِنْ قَوْمٍ بِالسُّوقِ بِسِتِّ ماِئَةِ دِرْهَمٍ، فَأَسْلَمُوا إلَيَّ غُلَامِي وَأَخَذُوا دَرَاهِمِي، حَتَّى إذَا سِرْتُ بِغُلَامِي أَدْرَكُونِي، فَأَخَذُوا غُلَامِي، وَمَنَعُونِي دَرَاهِمِي. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُمْ النَّجَاشِيُّ: لَتُعْطُنَّهُ دَرَاهِمَهُ، أَوْ لَيَضَعَنَّ غُلَامُهُ يَدَهُ فِي يَدِهِ، فَلَيَذْهَبَنَّ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، قَالُوا: بَلْ نُعْطِيهِ دَرَاهِمُهُ. قَالَتْ: فَلِذَلِكَ يَقُولُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي رِشْوَةً حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ النَّاسَ فِيهِ.
قَالَتْ: وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ صَلَابَتِهِ فِي دينه، وعدله فِي حُكْمِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ، كَانَ يُتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ.
خُرُوجُ الْحَبَشَةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اجْتَمَعَتْ الْحَبَشَةُ
__________
[1] مرج: قلق وَاخْتَلَطَ وَهَذَا يدل على طول الْمدَّة فِي مغيب النَّجَاشِيّ عَنْهُم. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] زِيَادَة عَن أ.(1/340)
فَقَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ: إنَّكَ قَدْ فَارَقْتَ دِينَنَا، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَهَيَّأَ لَهُمْ سُفُنًا، وَقَالَ: ارْكَبُوا فِيهَا وَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ، فَإِنْ هُزِمْتُ فَامْضُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِحَيْثُ شِئْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا. ثُمَّ عَمَدَ إلَى كِتَابٍ فَكَتَبَ فِيهِ: هُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قُبَائِهِ عِنْدَ الْمَنْكِبِ الْأَيْمَنِ، وَخَرَجَ إلَى الْحَبَشَةِ، وَصُفُّوا لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ، أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ؟
قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيرَتِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ سِيرَةٍ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ [1] ؟
قَالُوا: فَارَقْتَ دِينَنَا، وَزَعَمْتَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ، قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِي عِيسَى؟
قَالُوا: نَقُولُ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ عَلَى قُبَائِهِ:
هُوَ يَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَعْنِي [2] مَا كَتَبَ، فَرُضُّوا وَانْصَرَفُوا (عَنْهُ) [3] . فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ صَلَّى عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ [4]
__________
[1] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَمَا لكم» .
[2] قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على هَذَا الْكتاب: «وَفِيه من الْفِقْه أَنه لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَن يكذب كذبا صراحا، وَلَا أَن يعْطى بِلِسَانِهِ الْكفْر وَإِن أكره، مَا أمكنته الْحِيلَة، وَفِي المعاريض مندوحة عَن الْكَذِب، وَكَذَلِكَ قَالَ أهل الْعلم فِي قَول النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: لَيْسَ بالكاذب. من أصلح بَين اثْنَيْنِ فَقَالَ خيرا. روته أم كُلْثُوم بنت عقبَة، قَالُوا: مَعْنَاهُ أَن يعرض وَلَا يفصح بِالْكَذِبِ، مثل أَن يَقُول: سمعته يسْتَغْفر لَك وَيَدْعُو لَك، وَهُوَ يعْنى أَنه سَمعه يسْتَغْفر للْمُسلمين وَيَدْعُو لَهُم، لِأَن الآخر من جملَة الْمُسلمين، ويحتال فِي التَّعْرِيض مَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يختلق الْكَذِب اختلاقا، وَكَذَلِكَ فِي خدعة الْحَرْب، يورى ويكنى وَلَا يختلق الْكَذِب يستحله، بِمَا جَاءَ من إِبَاحَة الْكَذِب فِي خدع الْحَرْب. هَذَا كُله مَا وجد إِلَى الْكِنَايَة سَبِيلا.
[3] زِيَادَة عَن.
[4] وَكَانَ موت النَّجَاشِيّ فِي رَجَب من سنة تسع، ونعاه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاس فِي الْيَوْم الّذي مَاتَ فِيهِ، وَصلى عَلَيْهِ بِالبَقِيعِ، رفع إِلَيْهِ سَرِيره بِأَرْض الْحَبَشَة حَتَّى رَآهُ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فصلى عَلَيْهِ، وَتكلم المُنَافِقُونَ، فَقَالُوا: أيصلى على هَذَا العلج؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: وَإِنَّ من أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ 3: 199.
وَيُقَال: إِن أَبَا نيزر، مولى على بن أَبى طَالب، كَانَ ابْنا للنجاشي نَفسه، وَإِن عليا وجده عِنْد تَاجر بِمَكَّة، فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ وَأعْتقهُ، مُكَافَأَة لما صنع أَبوهُ مَعَ الْمُسلمين. وَيُقَال: إِن الْحَبَشَة مرج عَلَيْهَا أمرهَا بعد النَّجَاشِيّ، وَإِنَّهُم أرْسلُوا وَفْدًا مِنْهُم إِلَى أَبى نيزر وَهُوَ مَعَ على ليملكوه ويتوجوه، وَلم يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَأبى وَقَالَ: مَا كنت لأطلب الْملك بعد أَن من الله على بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ أَبُو نيزر من أطول النَّاس قامة وَأَحْسَنهمْ(1/341)
إسْلَامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(اعْتِزَازُ الْمُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ عُمَرَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُدْرِكُوا مَا طَلَبُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّهُمَا النَّجَاشِيُّ بِمَا يَكْرَهُونَ، وَأَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ رَجُلًا ذَا شَكِيمَةٍ لَا يُرَامُ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، امْتَنَعَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَمْزَةِ حَتَّى عَازُوا قُرَيْشًا [1] ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُصَلِّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ (بْنُ الْخَطَّابِ) [2] ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحَبَشَةِ.
قَالَ الْبُكَائِيُّ [3] ، قَالَ: حَدَّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، قَالَ:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ إسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنَّ إمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً، وَلَقَدْ كُنَّا مَا نُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ.
(حَدِيثُ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَتْ:
وَاَللَّهِ إنَّا لَنَتَرَحَّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بعض حاجاتنا، إِذا
__________
[ () ] وَجها، وَلم يكن لَونه كألوان الْحَبَشَة، وَلَكِن إِذا رَأَيْته قلت: هَذَا رجل من الْعَرَب. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[1] عازوا قُريْشًا: غلبوهم.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ ابْن هِشَام ... إِلَخ» .(1/342)
أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ- قَالَتْ: وَكُنَّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلَاءَ أَذًى لَنَا وَشِدَّةً عَلَيْنَا- قَالَتْ: فَقَالَ: إنَّهُ لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَتْ:
فَقُلْتُ: نَعَمْ وَاَللَّهِ، لَنَخْرُجَنَّ فِي أَرْضِ اللَّهِ، آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ مَخْرَجًا [1] . قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمْ اللَّهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ- فِيمَا أَرَى- خُرُوجُنَا. قَالَتْ: فَجَاءَ عَامِرٌ بِحَاجَتِهِ تِلْكَ، فَقُلْتُ لَهُ:
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا وَرِقَّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا. قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إسْلَامِهِ؟
قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا يُسْلِمُ الَّذِي رَأَيْتِ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ، قَالَتْ:
يَأْسًا مِنْهُ، لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ.
(حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ فِيمَا بَلَغَنِي أَنَّ أُخْتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ بَعْلُهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُمَا مُسْتَخْفِيَانِ بِإِسْلَامِهِمَا مِنْ عُمَرَ، وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ [2] ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمَ، وَكَانَ أَيْضًا يَسْتَخْفِي بِإِسْلَامِهِ فَرَقًا مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ [3] يَخْتَلِفُ إلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطَّابِ يُقْرِئُهَا الْقُرْآنَ، فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَهْطًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ ذُكِرُوا لَهُ أَنَّهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مَا بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمُّهُ حَمْزَةُ
__________
[1] فِي أ: «فرجا» .
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي أَكثر الْأُصُول: « ... النحام من مَكَّة ... إِلَخ» .
[3] وَكَانَ خباب تميميا بِالنّسَبِ، كَمَا كَانَ خزاعيا بِالْوَلَاءِ لأم أَنْمَار بنت سِبَاع الْخُزَاعِيّ، وَكَانَ قد وَقع عَلَيْهِ سباء، فاشترته وأعتقته، فولاؤه لَهَا. وَكَانَ أَبوهَا حليفا لعوف بن عبد عَوْف بن عبد الْحَارِث ابْن زهرَة، فَهُوَ زهري بِالْحلف. وَهُوَ ابْن الْأَرَت بن جندلة بن سعد بن خُزَيْمَة بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، كَانَ قينا يعْمل السيوف فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقد قيل: إِن أمه كَانَت أم سِبَاع الْخُزَاعِيَّة، وَلم يلْحقهُ سباء، وَلكنه انْتَمَى إِلَى حلفاء أمه بنى زهرَة، ويكنى أَبَا عبد الله وَقيل أَبَا يحيى، وَقيل أَبَا مُحَمَّد. مَاتَ بِالْكُوفَةِ سنة تسع وَثَلَاثِينَ بعد مَا شهد صفّين مَعَ على والنهروان. وَقيل: مَاتَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ. ذكر أَن عمر بن الْخطاب سَأَلَهُ عَمَّا لَقِي فِي ذَات الله، فكشف ظَهره. فَقَالَ عمر: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ! فَقَالَ:
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لقد أوقدت لي نَار، فَمَا أطفأها إِلَّا شحمي.(1/343)
ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِمَّنْ كَانَ أَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَخْرَجْ فِيمَنْ خَرَجَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا هَذَا الصَّابِئَ، الَّذِي فَرَّقَ أَمْرَ قُرَيْشٍ، وَسَفَّهُ أَحْلَامَهَا، وَعَابَ دِينَهَا، وَسَبَّ آلِهَتَهَا، فَأَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمٌ: وَاَللَّهِ لَقَدْ غَرَّتْكَ نَفْسُكَ مِنْ نَفْسِكَ يَا عُمَرُ، أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيكَ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا! أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى أَهْلِ بَيْتِكَ فَتُقِيمَ أَمْرَهُمْ؟ قَالَ: وَأَيُّ أَهْلِ بَيْتِي؟
قَالَ: خَتَنُكَ وَابْنُ عَمِّكَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَأُخْتُكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ، فَقَدْ وَاَللَّهِ أَسْلَمَا، وَتَابَعَا مُحَمَّدًا عَلَى دِينِهِ، فَعَلَيْكَ بِهِمَا، قَالَ: فَرَجَعَ عُمَرُ عَامِدًا إلَى أُخْتِهِ وَخَتَنِهِ، وَعِنْدَهُمَا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مَعَهُ صَحِيفَةٌ، فِيهَا: «طَه» يُقْرِئُهُمَا إيَّاهَا، فَلَمَّا سَمِعُوا حِسَّ عُمَرَ، تَغَيَّبْ خَبَّابٌ فِي مِخْدَعٍ [1] لَهُمْ، أَوْ فِي بَعْضِ الْبَيْتِ، وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ الصَّحِيفَةَ فَجَعَلَتْهَا تَحْتَ فَخِذِهَا، وَقْدَ سَمِعَ عُمَرُ حِينَ دَنَا إلَى الْبَيْتِ قِرَاءَةَ خَبَّابٍ عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ [2] الَّتِي سَمِعْتُ؟ قَالَا لَهُ: مَا سَمِعْتَ شَيْئًا، قَالَ: بَلَى وَاَللَّهِ، لَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمَّدًا عَلَى دِينِهِ، وَبَطَشَ بِخَتَنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَامَتْ إلَيْهِ أُخْتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ لَتَكُفَّهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَضَرَبَهَا فَشَجَّهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ وَخَتَنُهُ: نَعَمْ قَدْ أَسْلَمْنَا وَآمَنَّا باللَّه وَرَسُولِهِ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنْ الدَّمِ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاِرْعَوى [3] ، وَقَالَ لِأُخْتِهِ: أَعْطِينِي هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الَّتِي سَمِعْتُكُمْ تَقْرَءُونَ آنِفًا أَنْظُرْ مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ عُمَرُ كَاتِبًا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إنَّا نَخْشَاكَ عَلَيْهَا، قَالَ: لَا تَخَافِي، وَحَلَفَ لَهَا بِآلِهَتِهِ لَيَرُدَّنَّهَا إذَا قَرَأَهَا إلَيْهَا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، طَمِعَتْ فِي إسْلَامِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، إنَّكَ نَجِسٌ، عَلَى
__________
[1] المخدع: الْبَيْت الصَّغِير الّذي يكون دَاخل الْبَيْت الْكَبِير، وتضم ميمه وتفتح: (رَاجع النِّهَايَة لِابْنِ الْأَثِير) .
[2] الهينمة: صَوت كَلَام لَا يفهم.
[3] ارعوى: رَجَعَ.(1/344)
شِرْكِكَ، وَإِنَّهُ لَا يَمَسُّهَا إلَّا الطَّاهِرُ [1] ، فَقَامَ عُمَرُ فَاغْتَسَلَ، فَأَعْطَتْهُ الصَّحِيفَةَ، وَفِيهَا: «طَه 20: 1» [2] . فَقَرَأَهَا، فَلَمَّا قَرَأَ مِنْهَا صَدْرًا، قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَكْرَمَهُ! فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ خَبَّابٌ خَرَجَ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَصَّكَ بِدَعْوَةِ نَبِيَّهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ أَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهمّ أَيِّدْ الْإِسْلَامَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ، فاللَّه اللَّهَ يَا عُمَرُ. فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ عُمَرُ: فَدُلَّنِي يَا خَبَّابُ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى آتِيَهُ فَأُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ خَبَّابٌ:
هُوَ فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، مَعَهُ فِيهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ فَتَوَشَّحَهُ، ثُمَّ عَمَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْبَابَ، فَلَمَّا سَمِعُوا
__________
[1] قَالَ السهيليّ عِنْد الْكَلَام على تَطْهِير عمر ليمس الْقُرْآن وَقَول أُخْته لَهُ: «لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ 56: 79» :
والمطهرون فِي هَذِه الْآيَة هم الْمَلَائِكَة، وَهُوَ قَول مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَاحْتج بِالْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِي سُورَة عبس وَلَكنهُمْ وَإِن كَانُوا الْمَلَائِكَة، فَفِي وَصفهم بِالطَّهَارَةِ مَقْرُونا بِذكر الْمس مَا يَقْتَضِي أَلا يمسهُ إِلَّا طَاهِر، اقْتِدَاء بِالْمَلَائِكَةِ المطهرين، فقد تعلق الحكم بِصفة التَّطْهِير، وَلكنه حكم مَنْدُوب إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مَحْمُولا على الْفَرْض وَإِن كَانَ الْفَرْض فِيهِ أبين مِنْهُ فِي الْآيَة، لِأَنَّهُ جَاءَ بِلَفْظ النهى عَن مَسّه على غير طَهَارَة، وَلَكِن فِي كتاب إِلَى هِرقل بِهَذِهِ الْآيَة: يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ 3: 64 دَلِيل على مَا قُلْنَاهُ. وَقد ذهب دَاوُد وَأَبُو ثَوْر، وَطَائِفَة مِمَّن سلف، مِنْهُم: الحكم بن عتيبة وَحَمَّاد بن أَبى سُلَيْمَان، إِلَى إِبَاحَة مس الْمُصحف على غير طَهَارَة، وَاحْتَجُّوا بِمَا ذكرنَا من كِتَابه إِلَى هِرقل، وَقَالُوا: حَدِيث عَمْرو بن حزم مُرْسل، فَلم يروه حجَّة، والدارقطنيّ قد أسْندهُ من طرق حسان، أقواها رِوَايَة أَبى دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن الزُّهْرِيّ، عَن أَبى بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه، عَن جد. وَمِمَّا يقوى أَن المطهرين فِي الْآيَة هم الْمَلَائِكَة، أَنه لم يقل: «المتطهرون» ، وَإِنَّمَا قَالَ: «الْمُطَهَّرُونَ 56: 79» . وَفرق مَا بَين المتطهر والمطهر، أَن المتطهر من فعل الطّهُور، وَأدْخل نَفسه فِيهِ، كالمتفقه من يدْخل نَفسه فِي الْفِقْه، وَكَذَلِكَ (المتفعل) فِي أَكثر الْكَلَام. وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:
وَقيس عيلان وَمن تقيسا
فالآدميون متطهرون إِذا تطهروا، وَالْمَلَائِكَة خلقَة، والآدميات إِذا تطهرن متطهرات. وَفِي التَّنْزِيل:
فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ من حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله 2: 222. والحور الْعين: مطهرات. وَفِي التَّنْزِيل: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ 2: 25. وَهَذَا فرق بَين، وَقُوَّة لتأويل مَالك رَحمَه الله، وَالْقَوْل عِنْدِي فِي الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه متطهر ومطهر، أما متطهر، فَلِأَنَّهُ بشر آدَمِيّ يغْتَسل من الْجَنَابَة، وَيتَوَضَّأ من الْحَدث، وَأما مطهر فَلِأَنَّهُ قد غسل بَاطِنه، وشق عَن قلبه، وملئ حِكْمَة وإيمانا، فَهُوَ مطهر ومتطهر» .
[2] وَفِي رِوَايَة: أَن عمر حِين قَرَأَ فِي الصَّحِيفَة سُورَة «طه» انْتهى مِنْهَا إِلَى قَوْله: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى 20: 15. فَقَالَ: مَا أطيب هَذَا الْكَلَام وَأحسنه! وَقيل: إِن الصَّحِيفَة كَانَ فِيهَا مَعَ سُورَة طه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ 81: 1. وَإِن عمر انْتهى فِي قرَاءَتهَا إِلَى قَوْله: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ 81: 14.(1/345)
صَوْتَهُ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ فَرَآهُ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فَزِعٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: فَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَاهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ (جَاءَ) يُرِيدُ شَرًّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائْذَنْ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ الرَّجُلُ، وَنَهَضَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَقِيَهُ فِي الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَ حُجْزَتَهُ [1] ، أَوْ بِمِجْمَعِ رِدَائِهِ، ثُمَّ جَبَذَهُ (بِهِ) [2] جَبْذَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا بن الخطّاب؟ فو الله مَا أَرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ بِكَ قَارِعَةً [3] ، فَقَالَ عُمَرُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ لِأُومِنَ باللَّه وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَةً عَرَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ.
فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَانِهِمْ، وَقَدْ عَزُّوا [4] فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ مَعَ إسْلَامِ حَمْزَةَ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمَا [5] سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْتَصِفُونَ بِهِمَا مِنْ عَدُوِّهِمْ. فَهَذَا حَدِيثُ الرُّوَاةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ أَسْلَمَ.
(رِوَايَةُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ أَصْحَابِهِ: عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، أَوْ عَمَّنْ رَوَى ذَلِكَ: أَنَّ إسْلَامَ عُمَرَ فِيمَا تَحَدَّثُوا بِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
كُنْتُ لِلْإِسْلَامِ مُبَاعِدًا، وَكُنْتُ صَاحِبَ خَمْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أُحِبُّهَا وَأُسِرُّ بِهَا، وَكَانَ لَنَا مَجْلِسٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِالْحَزْوَرَةِ [6] ، عِنْدَ دُورَ آلِ عُمَرَ
__________
[1] الحجزة: مَوضِع شدّ الْإِزَار.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] القارعة: الداهية.
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَقد عزما فِي أنفسهم» .
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَنهم» وَلَا يَسْتَقِيم بهَا الْكَلَام.
[6] الْحَزْوَرَة بِالْفَتْح ثمَّ السّكُون وَفتح الْوَاو وَرَاء وهاء، والمحدثون يفتحون الرَّاء ويشددون الْوَاو،(1/346)
ابْن عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَ: فَخَرَجْتُ لَيْلَةً أُرِيدُ جُلَسَائِي أُولَئِكَ فِي مَجْلِسِهِمْ ذَلِكَ، قَالَ: فَجِئْتهمْ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مِنْهُمْ أَحَدًا [1] . قَالَ: فَقُلْتُ: لَوْ أَنِّي جِئْتُ فُلَانًا الْخَمَّارَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ يَبِيعُ الْخَمْرَ، لَعَلِّي أَجِدُ عِنْدَهُ خَمْرًا فَأَشْرَبَ مِنْهَا.
قَالَ: فَخَرَجْتُ فَجِئْتُهُ فَلَمْ أَجِدْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: فَلَوْ أَنِّي جِئْتُ الْكَعْبَةَ فَطُفْتُ بِهَا سَبْعًا أَوْ سَبْعِينَ. قَالَ: فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ أُرِيدُ أَنْ أَطُوِّفَ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، وَكَانَ إذَا صَلَّى اسْتَقْبَلَ الشَّامَ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، وَكَانَ مُصَلَّاهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ.
قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ، وَاَللَّهِ لَوْ أَنِّي اسْتَمَعْتُ لِمُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَسْمَعَ مَا يَقُولُ! (قَالَ) [2] فَقُلْتُ: لَئِنْ دَنَوْتُ مِنْهُ أَسْتَمِعُ مِنْهُ لَأُرَوِّعَنَّهُ، فَجِئْتُ مِنْ قِبَلِ الْحِجْرِ، فَدَخَلْتُ تَحْتَ ثِيَابِهَا، فَجَعَلْتُ أَمْشِي رُوَيْدًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، حَتَّى قُمْتُ فِي قِبْلَتِهِ مُسْتَقْبِلَهُ، مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إلَّا ثِيَابُ الْكَعْبَةِ.
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ الْقُرْآنَ رَقَّ لَهُ قَلْبِي، فَبَكَيْتُ وَدَخَلَنِي الْإِسْلَامُ، فَلَمْ أَزَلْ قَائِمًا فِي مَكَانِي ذَلِكَ، حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ إذَا انْصَرَفَ خَرَجَ عَلَى دَارِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، وَكَانَتْ طَرِيقَهُ، حَتَّى يَجْزَعَ [3] الْمَسْعَى، ثُمَّ يَسْلُكُ بَيْنَ دَارِ عَبَّاسِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَبَيْنَ دَارِ ابْنِ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ، ثُمَّ عَلَى دَارِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ. وَكَانَ مَسْكَنُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّارِ الرَّقْطَاءِ [4] ، الَّتِي كَانَتْ بِيَدَيْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَتَبِعْتُهُ حَتَّى إذَا دَخَلَ بَيْنَ دَارِ عَبَّاسٍ، وَدَارِ ابْن أَزْهَرَ، أَدْرَكْتُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِسِّي عَرَفَنِي، فَظَنَّ
__________
[ () ] وَهُوَ تَصْحِيف: كَانَت سوق مَكَّة، وَقد دخلت فِي الْمَسْجِد لما زيد فِيهِ. وَفِي الحَدِيث: وقف النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحزورة فَقَالَ: يَا بطحاء مَكَّة، مَا أطيبك من بَلْدَة وَأَحَبَّك إِلَى! وَلَوْلَا أَن قومِي أخرجونى مِنْك مَا سكنت غَيْرك.
[1] كَذَا فِي أ، ط، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أحد» وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ. ويجزع الْمَسْعَى: يقطعهُ، يُقَال جزعت الْوَادي: إِذا قطعته. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«حَتَّى يُجِيز على الْمَسْعَى» .
[4] الرقطاء: الَّتِي فِيهَا ألوان.(1/347)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي إنَّمَا تَبِعْتُهُ لِأُوذِيَهُ فَنَهَمَنِي [1] ، ثُمَّ قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا بن الْخَطَّابِ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: (جِئْتُ) [2] لِأُومِنَ باللَّه وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ:
قَدْ هَدَاكَ اللَّهُ يَا عُمَرُ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرِي، وَدَعَا لِي بِالثَّبَاتِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ [3] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
(ذِكْرُ قُوَّةِ عُمَرَ فِي الْإِسْلَامِ وَجَلَدِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
لَمَّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ [4] لَهُ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ [5]
__________
[1] نهمنى: زجرني.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] وَذكر ابْن سنجر زِيَادَة فِي إِسْلَام عمر قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة قَالَ: حَدثنَا صَفْوَان بن عَمْرو قَالَ: حَدثنِي شُرَيْح بن عبيد قَالَ: قَالَ عمر بن الْخطاب: خرجت أتعرض رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أَن أسلم فَوَجَدته قد سبقني إِلَى الْمَسْجِد، فَقُمْت خَلفه، فَاسْتَفْتَحَ «سُورَة الحاقة» فَجعلت أتعجب من تأليف الْقُرْآن. قَالَ: قلت: هَذَا وَالله شَاعِر كَمَا قَالَت قُرَيْش، فَقَرَأَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ 69: 40- 41 قَالَ: قلت كَاهِن علم مَا فِي نَفسِي، فَقَالَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ 69: 42 إِلَى آخر السُّورَة، قَالَ: فَوَقع الْإِسْلَام فِي قلبِي كل موقع، ويذكرون أَن عمر قَالَ حِين أسلم:
الْحَمد الله ذِي الْمَنّ الّذي وَجَبت ... لَهُ علينا أياد مَا لَهَا غير
وَقد بدأنا فكذبنا فَقَالَ لنا ... صدق الحَدِيث نَبِي عِنْده الْخَبَر
وَقد ظلمت ابْنة الْخطاب ثمَّ هدى ... ربى عَشِيَّة قَالُوا قد صبا عمر
وَقد نَدِمت على مَا كَانَ من زلل ... بظلمها حِين تتلى عِنْدهَا السُّور
لما دعت رَبهَا ذَا الْعَرْش جاهدة ... والدمع من عينهَا عجلَان يبتدر
أيقنت أَن الّذي تَدعُوهُ خَالِقهَا ... فكاد تسبقني من عِبْرَة دُرَر
فَقلت اشْهَدْ أَن الله خالقنا ... وَأَن أَحْمد فِينَا الْيَوْم مشتهر
نَبِي صدق أَتَى بِالْحَقِّ من ثِقَة ... وافى الْأَمَانَة مَا فِي عوده خور
(رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ قيل» .
[5] وَجَمِيل هَذَا هُوَ الّذي كَانَ يُقَال لَهُ: ذُو القلبين، وَفِيه نزلت، فِي أحد الْأَقْوَال: مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ من قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ 33: 4. وَفِيه قيل:
وَكَيف ثرائى بِالْمَدِينَةِ بعد مَا ... قضى وطرا مِنْهَا جميل بن معمر(1/348)
الْجُمَحِيُّ. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ، وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ، وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ، حَتَّى جَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ: وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّد؟ قَالَ: فو الله مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ، وَاتَّبَعْتُ أَبِي، حَتَّى إذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ [1] ، أَلَا إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ.
قَالَ: (و) [2] يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، وَلَكِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَثَارُوا إلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ. قَالَ: وَطَلِحَ [3] ، فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ باللَّه أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلَاثَ ماِئَةِ رَجُلٍ (لَقَدْ) [2] تَرَكْنَاهَا لَكُمْ، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حِبْرَةٌ [4] ، وَقَمِيصٌ مُوَشًّى، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟
قَالُوا: صَبَا عُمَرُ، فَقَالَ: فَمَهْ، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟
أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا! خَلُّوا عَنْ الرجل. قَالَ:
فو الله لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ:
يَا أَبَتْ، مَنْ الرَّجُلُ: الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتُ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟
فَقَالَ: ذَاكَ، أَيْ بُنَيَّ، الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا أَبَتْ، مَنْ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ (بِمَكَّةَ) [2] يَوْمَ أَسْلَمْتَ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
__________
[ () ] وَهُوَ الْبَيْت الّذي تغني بِهِ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي منزله، وَاسْتَأْذَنَ عمر فَسَمعهُ وَهُوَ يتَغَنَّى وينشد بالركبانية:
(وَهُوَ غناء يحدى بِهِ الركاب) . فَلَمَّا دخل عمر قَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن: إِنَّا إِذا خلونا قُلْنَا مَا يَقُول النَّاس فِي بُيُوتهم، وَقد قلب الْمبرد هَذَا الحَدِيث، وَجعل المنشد عمر، والمستأذن عبد الرَّحْمَن، وَفِيمَا ذهب إِلَيْهِ الْمبرد بعد عَن الصَّوَاب. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حول بَاب الْكَعْبَة» .
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] طلح: أعيا.
[4] الْحبرَة: ضرب من برود الْيمن.(1/349)
قَالَ: يَا بُنَيَّ، ذَاكَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ، لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بَعْضِ آلِ عُمَرَ، أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَمَّا أَسْلَمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، تَذَكَّرْتُ أَيَّ أَهْلِ مَكَّةَ أَشَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَاوَةً حَتَّى آتِيَهُ فَأُخْبِرَهُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، قَالَ:
قُلْتُ: أَبُو جَهْلٍ- وَكَانَ عُمَرُ لِحَنْتَمَةَ بِنْتِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ- قَالَ: فَأَقْبَلْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ حَتَّى ضَرَبْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ. قَالَ: فَخَرَجَ إلَيَّ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِ أُخْتِي، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ [1] : جِئْتُ لِأُخْبِرَكَ أَنِّي قَدْ آمَنْتُ باللَّه وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وَصَدَّقْتُ بِمَا جَاءَ بِهِ، قَالَ: فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ.
خَبَرُ الصَّحِيفَةِ
(تَحَالُفُ الْكُفَّارِ ضِدَّ الرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا بِهِ أَمْنًا وَقَرَارًا، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ، اجْتَمَعُوا وَائْتَمَرُوا (بَيْنَهُمْ) [2] أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِيَّ الْمُطَّلِبِ، عَلَى أَنْ لَا يُنْكِحُوا إلَيْهِمْ وَلَا يُنْكَحُوهُمْ، وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ [3] فِي صَحِيفَةٍ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ ابْن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ- فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشُلَّ بَعْضُ أَصَابِعِهِ.
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ قلت ... إِلَخ» .
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «كتبُوا» .(1/350)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا فَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ إلَى أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ وَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو لَهَبٍ، عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إلَى قُرَيْشٍ، فَظَاهَرَهُمْ.
(تَهَكُّمُ أَبِي لَهَبٍ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَقِيَ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ، وَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا، فَقَالَ: يَا بِنْتَ عُتْبَةَ، هَلْ نَصَرْتِ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَفَارَقْتِ مَنْ فَارَقَهُمَا وَظَاهَرَ عَلَيْهِمَا [1] ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ: يَعِدُنِي مُحَمَّدٌ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا، يَزْعُمُ أَنَّهَا كَائِنَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَمَاذَا وَضَعَ فِي يَدَيَّ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِي يَدَيْهِ وَيَقُولُ: تَبًّا لَكُمَا، مَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [2] 111: 1.
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عَلَيْهَا» وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] قَالَ السهيليّ: «هَذَا الّذي ذكره بن إِسْحَاق يشبه أَن يكون سَببا لذكر الله سُبْحَانَهُ «يَدَيْهِ» حَيْثُ يَقُول: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ 111: 1. وَأما قَوْله «وَتب» . فتفسير مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح من رِوَايَة مُجَاهِد وَسَعِيد ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما أنزل الله تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 26: 214. خرج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الصَّفَا، فَصَعدَ عَلَيْهِ فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاه. فَلَمَّا اجْتَمعُوا إِلَيْهِ قَالَ: أَرَأَيْتُم: لَو أَخْبَرتكُم أَن خيلا تخرج من سفح هَذَا الْجَبَل.، أَكُنْتُم مصدقي؟ قَالُوا: مَا جربنَا عَلَيْك كذبا، قَالَ: «فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ 34: 46» . فَقَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك أَلِهَذَا جمعتنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ.
وَتَبَّ 111: 1 هَكَذَا قَرَأَ مُجَاهِد وَالْأَعْمَش وَهِي- وَالله أعلم- قِرَاءَة مَأْخُوذَة عَن ابْن مَسْعُود، لِأَن فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود ألفاظا كَثِيرَة تعين على التَّفْسِير. قَالَ مُجَاهِد: لَو كنت قَرَأت قِرَاءَة ابْن مَسْعُود قبل أَن أسأَل ابْن عَبَّاس مَا احتجت أَن أسأله عَن كثير مِمَّا سَأَلته، وَكَذَلِكَ زِيَادَة «قد» فِي هَذِه الْآيَة فسرت أَنه خبر من الله تَعَالَى، وَأَن الْكَلَام لَيْسَ على جِهَة الدُّعَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى قاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ 9: 30 أَي أَنهم أهل أَن يُقَال لَهُم هَذَا. ف تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ 111: 1: لَيْسَ من بَاب «قاتَلَهُمُ الله 9: 30» ، وَلكنه خبر مَحْض بِأَن قد خسر أَهله وَمَاله وَالْيَدَانِ آلَة الْكسْب وَأَهله وَمَاله مِمَّا كسب.، فَقَوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ 111: 1. يفسره قَوْله: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ 111: 2. وَولد الرجل من كَسبه كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: أَي خسرت يَدَاهُ هَذَا الّذي كسبت. وَقَوله «وَتب» . تَفْسِير: سَيَصْلى نَارا ذاتَ لَهَبٍ 111: 3. أَي قد خسر نَفسه بِدُخُولِهِ النَّار. وَقَول أَبى لَهب تَبًّا لَكمَا، مَا أرى فيكما شَيْئا، يعْنى يَدَيْهِ، سَبَب لنزول «تَبَّتْ يَدا 111: 1» كَمَا تقدم.(1/351)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَبَّتْ: خَسِرَتْ. وَالتَّبَابُ: الْخُسْرَانُ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ خُدْرَةَ [1] الْخَارِجِيُّ: أَحَدُ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ:
يَا طَيِّبُ إنَّا فِي مَعْشَرٍ ذَهَبَتْ ... مَسْعَاتُهُمْ فِي التَّبَارِ وَالتَّبَبِ [2]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي قُرَيْشٍ حِينَ تَظَاهَرُوا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ، وَصَنَعُوا فِيهِ الَّذِي صَنَعُوا.
قَالَ أَبُو طَالِبٍ:
أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي عَلَى ذَاتِ [3] بَيْنِنَا [4] ... لُؤَيًّا وَخُصَّا مِنْ لُؤَيٍّ بَنِي كَعْبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجَدْنَا مُحَمَّدًا ... نَبِيًّا كَمُوسَى خُطَّ فِي أَوَّلِ الْكُتُبِ
وَأَنَّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبَّةً ... وَلَا خَيْرَ مِمَّنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِالْحُبِّ [5]
__________
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول، بخاء مُعْجمَة مَضْمُومَة ودال سَاكِنة وَفِي أ: «جدرة» بِالْجِيم وَالدَّال المفتوحتين. ويروى أَيْضا: «جدره» . بجيم مَكْسُورَة ودال سَاكِنة. وَهَذِه كلهَا رِوَايَات فِيهِ.
[2] التبار: الْهَلَاك. والتبب كالتباب والتتبيب، وَهِي الْهَلَاك.
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول، وَفِي م: «ذَات وبيننا» وَهُوَ تَحْرِيف.
[4] ذَات بَيْننَا، وَذَات يَده، وَمَا كَانَ نَحوه: صفة لمَحْذُوف مؤنث، كَأَنَّهُ يُرِيد الْحَال الَّتِي هِيَ ذَات بَينهم، كَمَا قَالَ الله سُبْحَانَهُ: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ 8: 1. فَكَذَلِك إِذا قلت ذَات يَده تُرِيدُ أَمْوَاله أَو مكتسباته.
وَكَذَلِكَ إِذا قلت: لَقيته ذَات يَوْم: أَي لقاءة، أَو مرّة ذَات يَوْم. فَلَمَّا حذف الْمَوْصُوف وَبقيت الصّفة صَارَت كالحال.
[5] قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على الشّطْر الْأَخير من هَذَا الْبَيْت: «وَهُوَ مُشكل جدا، لِأَن: «لَا» .
فِي بَاب التبرئة لَا تنصب مثل هَذَا إِلَّا منونا، تَقول: لَا خيرا من زيد فِي الدَّار، وَلَا شرا من فلَان، وَإِنَّمَا تنصب بِغَيْر تَنْوِين إِذا كَانَ الِاسْم غير مَوْصُول بِمَا بعده كَقَوْلِه تَعَالَى: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ 12: 92.
لِأَن «عَلَيْكُم» لَيْسَ من صلَة التثريب، لِأَنَّهُ فِي مَوضِع الْخَبَر. وأشبه مَا يُقَال فِي بَيت أَبى طَالب أَن «خيرا» مخفف من خير (كهين وميت) . وَفِي التَّنْزِيل: خَيْراتٌ حِسانٌ 55: 70. وَهُوَ مخفف من خيرات، وَقَوله: «مِمَّن» . من مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا خير أخير مِمَّن خصّه الله. وَخير وأخير: لفظان من جنس وَاحِد، فَحسن الْحَذف استثقالا لتكرار اللَّفْظ. وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن يكون حذف التَّنْوِين مُرَاعَاة لأصل الْكَلِمَة: لِأَن «خيرا من زيد، إِنَّمَا مَعْنَاهُ أخير من زيد» . وَكَذَلِكَ: «شَرّ من فلَان» .
إِنَّمَا أَصله أشر، على وزن أفعل، وحذفت الْهمزَة تَخْفِيفًا،. وأفعل لَا ينْصَرف، فَإِذا انحذفت الْهمزَة انْصَرف وَنون، فَإِذا توهمتها غير سَاقِطَة التفاتا إِلَى أصل الْكَلِمَة لم يبعد حذف التَّنْوِين على هَذَا الْوَجْه مَعَ مَا يقويه من ضَرُورَة الشّعْر» .(1/352)
وَأَنَّ الَّذِي أَلْصَقْتُمْ مِنْ كِتَابكُمْ ... لَكُمْ كَائِنٌ نَحْسًا كَرَاغِيَةِ السَّقْبِ [1]
أَفِيقُوا أَفِيقُوا قَبْلَ أَنْ يُحْفَرَ الثَّرَى ... وَيُصْبِحَ مَنْ لَمْ يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذَّنْبِ
وَلَا تَتْبَعُوا أَمْرَ الْوُشَاةِ وَتَقْطَعُوا ... أَوَاصِرَنَا بَعْدَ الْمَوَدَّةِ وَالْقُرْبِ [2]
وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا [3] وَرُبَّمَا ... أَمُرُّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ جَلَبُ الْحَرْبِ
فَلَسْنَا وَرَبِّ الْبَيْتِ نُسْلِمُ أَحْمَدًا ... لِعَزَّاءِ [4] مَنْ عَضَّ الزَّمَانُ وَلَا كَرْبِ [5]
وَلَمَّا تَبِنْ مِنَّا وَمِنْكُمْ سَوَالِفُ [6] ... وَأَيْدٍ أُتِرَّتْ بِالْقَسَاسِيَّةِ الشُّهْبِ [7]
بِمُعْتَرَكٍ ضَيْقٍ تَرَى كَسْرَ الْقَنَا ... بِهِ وَالنُّسُورَ الطُّخْمَ يَعْكُفْنَ كَالشَّرْبِ [8]
كَأَنَّ مُجَالَ [9] الْخَيْلِ فِي حَجَرَاتِهِ [10] ... وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ مَعْرَكَةُ الْحَرْبِ
أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِمٌ شَدَّ أَزْرَهُ ... وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطِّعَانِ وَبِالضَّرْبِ
وَلَسْنَا نَمَلُّ الْحَرْبَ حَتَّى تَمَلَّنَا ... وَلَا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ مِنْ النَّكْبِ
وَلَكِنَّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنُّهَى ... إذَا طَارَ أَرْوَاحُ الْكُمَاةِ مِنْ الرُّعْبِ [11]
فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى جَهَدُوا لَا يَصِلُ إلَيْهِمْ شَيْءٌ، إلَّا سِرًّا مُسْتَخْفِيًا (بِهِ) [12] مَنْ أَرَادَ صِلَتَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ.
(تَعَرُّضُ أَبِي جَهْلٍ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَتَوَسُّطُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) :
وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ
__________
[1] كراغية السقب: هُوَ من الرُّغَاء، وَهُوَ أصوات الْإِبِل. والسقب: ولد النَّاقة، وَأَرَادَ بِهِ هُنَا ولد نَاقَة صَالح عَلَيْهِ السَّلَام.
[2] الأواصر: أَسبَاب الْقَرَابَة والمودة.
[3] الْحَرْب الْعوَان: الَّتِي قوتل فِيهَا مرَارًا.
[4] العزاء: الشدَّة.
[5] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وعض الزَّمَان: شدته. وَفِي أ: «عظ الزَّمَان» . والعظ: الشدَّة.
[6] السوالف: صفحات الْأَعْنَاق.
[7] أترت: قطعت. والقساسية: سيوف تنْسب إِلَى قساس، وَهُوَ جبل لبني أَسد فِيهِ مَعْدن الْحَدِيد.
[8] الطخم: السود الرُّءُوس. ويعكفن: يقمن ويلازمن. وَالشرب: الْجَمَاعَة من الْقَوْم يشربون.
[9] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ضحال» وَلَا معنى لَهَا.
[10] الحجرات: النواحي.
[11] الرعب (بِالْفَتْح) : الْوَعيد.
[12] زِيَادَة عَن أ.
23- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/353)
ابْن أَسَدٍ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ فِي الشِّعْبِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ وَقَالَ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ؟ وَاَللَّهِ لَا تَبْرَحُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أفضحك بِمَكَّة. فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ ابْن هَاشِمِ [1] بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسد، فَقَالَ: مَالك وَلَهُ؟ فَقَالَ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ (لَهُ) [2] أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثَتْ إلَيْهِ (فِيهِ) [2] أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا! خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَخَذَ (لَهُ) [2] أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَحْيَ بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فشجّه، ووطئه وطأ شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَيَشْمَتُوا بِهِمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا وَجَهَارًا، مُبَادِيًا [3] بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَتَّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ.
ذِكْرُ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْأَذَى
(مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي لَهَبٍ) :
فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَقَامَ عَمُّهُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِيَّ الْمُطَّلِبِ دُونَهُ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ [4] وَبَيْنَ مَا أَرَادُوا مِنْ الْبَطْشِ بِهِ، يهمزونه ويستهزءون بِهِ وَيُخَاصِمُونَهُ، وَجَعَلَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ فِي قُرَيْشٍ بِأَحْدَاثِهِمْ، وَفِيمَنْ نُصِبَ لِعَدَاوَتِهِ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُمِّيَ لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي عَامَّةِ مَنْ ذُكِرَ اللَّهُ مِنْ الْكُفَّارِ، فَكَانَ مِمَّنْ سُمِّيَ لَنَا مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ عَمُّهُ أَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: هِشَام.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مناديا» .
[4] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بَينه» .(1/354)
وَامْرَأَتُهُ أُمُّ جَمِيلٍ [1] بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ- فِيمَا بَلَغَنِي- تَحْمِلُ الشَّوْكَ فَتَطْرَحَهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَمُرُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ، سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [2] 111: 1- 5.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْجِيدُ: الْعُنُقُ. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
يَوْمَ تُبْدَى لَنَا قُتَيْلَةُ عَنْ جِيدٍ ... أَسِيلٍ [3] تُزَيِّنُهُ الْأَطْوَاقُ [4]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَجَمْعُهُ: أَجْيَادٌ. وَالْمَسَدُّ: شَجَرٌ يُدَقُّ كَمَا يُدَقُّ الْكَتَّانُ فَتُفْتَلُ مِنْهُ حِبَالٌ. قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ، وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ:
مَقْذُوفَةٍ بِدَخِيسِ النَّحْضِ بَازِلُهَا ... لَهُ صَرِيفٌ صَرِيفَ الْقَعْوِ بِالْمَسَدِ [5]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَوَاحِدَتُهُ: مَسَدَةٌ.
(أُمُّ جَمِيلٍ وَرَدُّ اللَّهِ كَيْدَهَا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي: أَنَّ أُمَّ جَمِيلٍ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، حِينَ سَمِعَتْ
__________
[1] وَهِي عمَّة مُعَاوِيَة.
[2] لما كنى الله تَعَالَى عَن ذَلِك الشوك بالحطب، والحطب لَا يكون إِلَّا فِي حَبل، من ثمَّ جعل الْحَبل فِي عُنُقهَا ليقابل الْجَزَاء الْفِعْل.
[3] جيد أسيل: فِيهِ طول. والأطواق: جمع طوق، وَهِي القلادة.
[4] قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على هَذَا الْبَيْت: «وَقَوله: تزينه: أَي نزينه حسنا، وَهَذَا من الْقَصْد فِي الْكَلَام، وَقد أَبى المولدون إِلَّا الغلو فِي هَذَا الْمَعْنى وَأَن يقلبوه. فَقَالَ فِي الحماسة حُسَيْن بن مطير:
مبتلة الْأَطْرَاف زانت عقودها ... بِأَحْسَن مِمَّا زينتها عقودها
وَقَالَ خَالِد الْقَسرِي لعمر بن عبد الْعَزِيز: وَمن تكن الْخلَافَة زينته فَأَنت زينتها، وَمن تكن شرفته فَأَنت شرفتها، وَأَنت كَمَا قَالَ:
وتزيدين أطيب الطّيب طيبا ... أَن تمسيه أَيْن مثلك أَيّنَا
وَإِذا الدّرّ زَان حسن وُجُوه ... كَانَ للدر حسن وَجهك زينا
فَقَالَ عمر: إِن صَاحبكُم أعْطى مقولا، وَلم يُعْط معقولا» . ثمَّ سَاق السهيليّ أبياتا كَثِيرَة فِي هَذَا الْمَعْنى اجتزأنا مِنْهَا بذلك.
[5] الدخيس: اللَّحْم الْكثير. والنحض: اللَّحْم. وبازلها: نابها. والصريف: الصَّوْت. والقعو:
الّذي تَدور فِيهِ البكرة، إِذا كَانَ من خشب، فَإِن كَانَ من حَدِيد فَهُوَ الخطاف.(1/355)
مَا نَزَلَ فِيهَا، وَفِي زَوْجِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ [1] مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَرَى إلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ: أَيْنَ صَاحِبُكَ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي، وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَضَرَبْتُ بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ، أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَشَاعِرَةٌ، ثُمَّ قَالَتْ [2] :
مُذَمَّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا [3]
ثُمَّ انْصَرَفَتْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَرَاهَا رَأَتْكَ؟ فَقَالَ: مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهَا «
وَدِينَهُ قَلَيْنَا
» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا تُسَمِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذَمَّمًا، ثُمَّ يَسُبُّونَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ [4] اللَّهُ عَنِّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ، يَسُبُّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ.
(ذِكْرُ مَا كَانَ يُؤْذِي بِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، كَانَ إذَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ، نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ 104: 1- 9.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْهُمَزَةُ: الَّذِي يَشْتُمُ الرَّجُلَ عَلَانِيَةً، وَيَكْسِرُ عَيْنَيْهِ عَلَيْهِ، وَيَغْمِزُ بِهِ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
__________
[1] الفهر: حجر على مِقْدَار ملْء الْكَفّ. وَالْمَعْرُوف فِي الفهر التَّأْنِيث، إِلَّا أَنه وَقع هُنَا مذكرا.
[2] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَقَالَت» .
[3] قلينا: أبغضنا.
[4] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «صرف» .(1/356)
هَمَزْتُكَ فَاخْتَضَعْتُ لِذُلِّ نَفْسٍ ... بِقَافِيَةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِ [1]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَجَمْعُهُ: هَمَزَاتٌ. وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَعِيبُ النَّاسَ سِرًّا وَيُؤْذِيهِمْ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
فِي ظِلِّ عَصْرِي بَاطِلِي وَلَمْزِي [2]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ، وَجَمْعُهُ: لَمَزَاتٌ.
(مَا كَانَ يُؤْذِي بِهِ الْعَاصِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نَزَلَ فِيهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، كَانَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَيْنًا بِمَكَّةَ يَعْمَلُ السُّيُوفَ، وَكَانَ قَدْ بَاعَ مِنْ الْعَاصِ ابْن وَائِلٍ سُيُوفًا عَمِلَهَا لَهُ حَتَّى كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لَهُ يَا خَبَّابُ أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ صَاحِبُكُمْ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَى دِينِهِ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا ابْتَغَى أَهْلُهَا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ ثِيَابٍ، أَوْ خَدَمٍ! قَالَ خَبَّابٌ: بَلَى. قَالَ: فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَا خَبَّابُ حَتَّى أَرْجِعَ إلَى تِلْكَ الدَّارِ فَأَقْضِيَكَ هُنَالك حقّك، فو الله لَا تَكُونُ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ [3] يَا خَبَّابُ آثَرَ عِنْدَ اللَّهِ مِنِّي، وَلَا أَعْظَمَ حَظًّا فِي ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقال لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ 19: 77- 78 ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ، وَيَأْتِينا فَرْداً 19: 80.
(مَا كَانَ يُؤْذِي بِهِ أَبُو جَهْلٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نَزَلَ فِيهِ) :
وَلَقِيَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- فَقَالَ لَهُ:
وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَتَتْرُكَنَّ سَبَّ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَسُبَّنَّ إلَهَكَ الَّذِي تَعْبُدُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ 6: 108. فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَجَعَلَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ.
__________
[1] اختضعت: تذللت. وتأجج: تتوقد. والشواظ: لَهب النَّار.
[2] الْبَيْت ال 42 من الأرجوزة ال 23 يمدح بهَا أبان بن الْوَلِيد البَجلِيّ (ديوانه طبع ليبسج.
سنة 1903 ص 64) .
[3] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَأَصْحَابك» .(1/357)
(مَا كَانَ يُؤْذِي بِهِ النَّضْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نَزَلَ فِيهِ) :
وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ [1] بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، كَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا، فَدَعَا فِيهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وتلا فِيهِ الْقُرْآنَ، وَحَذَّرَ (فِيهِ) [2] قُرَيْشًا مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ، خَلَفَهُ فِي مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ، فَحَدَّثَهُمْ عَنْ رُسْتُمَ السِّنْدِيدِ [3] ، وَعَنْ أَسْفِنْدِيَارَ، وَمُلُوكِ فَارِسَ، ثُمَّ يَقُولُ وَاَللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ بِأَحْسَنَ حَدِيثًا مِنِّي، وَمَا حَدِيثُهُ إلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبْتهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً 25: 5- 6. وَنَزَلَ فِيهِ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قَالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 68: 15. وَنَزَلَ فِيهِ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها 45: 7- 8 كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ 31: 7.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَفَّاكُ: الْكَذَّابُ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 37: 151- 152. وَقَالَ رُؤْبَةُ (بْنُ الْعَجَّاجِ) [2]
مَا لِامْرِئٍ أَفَّكَ قَوْلًا إفْكًا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ [4] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا- فِيمَا بَلَغَنِي- مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ، وَفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ،
__________
[1] فِي الْأُصُول: «ابْن كلدة بن عَلْقَمَة» وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي شرح السِّيرَة لأبى ذَر. والسنديد (بلغَة فَارس) : طُلُوع الشَّمْس، وهم ينسبون إِلَيْهِ كل جميل. وَفِي الْأُصُول: «الشَّديد» .
[4] ديوانه طبعة ليبسج سنة 1903 وَهُوَ الْبَيْت السَّادِس فِي الأرجوزة 44 يعْتَذر فِيهَا إِلَى مَوْلَاهُ، وَيَلُوم حساده.(1/358)
ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ، لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ، لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ، وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ 21: 98- 100. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَصَبُ جَهَنَّمَ: كُلُّ مَا أُوقِدَتْ بِهِ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدِ بْنُ خَالِدٍ:
فَأَطْفِئْ وَلَا تُوقِدْ وَلَا تَكُ مِحْضَأً ... لِنَارِ [1] الْعُدَاةِ أَنْ تَطِيرَ شَكَاتُهَا [2]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَيُرْوَى «وَلَا تَكُ مِحْضَأً [3] » . قَالَ الشَّاعِرُ:
حَضَأْتُ لَهُ نَارِي فَأَبْصَرَ [4] ضَوْءَهَا ... وَمَا كَانَ لَوْلَا حَضْأَةِ النَّارِ يَهْتَدِي
(مَقَالَةُ ابْنِ الزِّبَعْرَى، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى: وَاَللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آنِفًا وَمَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، فَسَلُوا مُحَمَّدًا: أَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ؟
فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى بن مَرْيَمَ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) [5] ، فَعَجِبَ الْوَلِيدُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى، وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ وَخَاصَمَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إنَّ) [5] كُلَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، إنَّهُمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ، وَمَنْ أَمَرَتْهُمْ بِعِبَادَتِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى، أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها، وَهُمْ 21: 101- 102
__________
[1] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «لنا العداة» ، وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] الشكاة: الشدَّة. وَفِي اللِّسَان: «
لنار الأعادي أَن تطير شداتها
» .
[3] المحضأ: الْعود الّذي تحرّك بِهِ النَّار لتلتهب.
[4] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَأَبْصَرت» ، وَلَا يَسْتَقِيم بهَا الْكَلَام.
[5] زِيَادَة عَن أ، ط.(1/359)
فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ 21: 102: أَيْ عِيسَى بن مَرْيَمَ، وَعُزَيْرًا، وَمَنْ عُبِدُوا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَاِتَّخَذَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ، أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ 21: 26- 27 ... إلَى قَوْلِهِ: وَمن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ 21: 29.
وَنَزَلَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى بن مَرْيَمَ أَنَّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَعَجَبِ الْوَلِيدِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ حُجَّتِهِ وَخُصُومَتِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ 43: 57: أَيْ يَصُدُّونَ عَنْ أَمْرِكَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ [1] ثُمَّ ذَكَرَ عِيسَى بن مَرْيَمَ فَقَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ 43: 59- 61: أَيْ مَا وَضَعْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ، يَقُولُ: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ، هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ 43: 61.
(الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) :
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ) [2] : وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَمِمَّنْ يُسْتَمَعُ مِنْهُ، فَكَانَ يُصِيبُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ 68: 10- 11 ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: زَنِيمٍ 68: 13، وَلَمْ يَقُلْ: «زَنِيمٍ» لِعَيْبِ فِي نَسَبِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَعِيبُ أَحَدًا بِنَسَبِ، وَلَكِنَّهُ حَقَّقَ
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَوْله» .
[2] زِيَادَة عَن أ.(1/360)
بِذَلِكَ نَعْتَهُ لِيُعْرَفَ. وَالزَّنِيمُ: الْعَدِيدُ [1] لِلْقَوْمِ. وَقَدْ قَالَ الْخَطِيمُ التَّمِيمِيُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ:
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً ... كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الْأَكَارِعُ [2] .
(الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ) :
وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: أَيُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأُتْرَكُ وَأَنَا كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا! وَيُتْرَكُ أَبُو مَسْعُودٍ عَمْرُو بْنُ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ سَيِّدُ ثَقِيفٍ، وَنَحْنُ عَظِيمَا الْقَرْيَتَيْنِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، فِيمَا بَلَغَنِي: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ 43: 31 ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا يَجْمَعُونَ 43: 32.
(أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا) :
وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَا مُتَصَافِيَيْنِ، حَسَّنَا مَا بَيْنَهُمَا. فَكَانَ عُقْبَةُ قَدْ جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أُبَيًّا، فَأَتَى عُقْبَةَ فَقَالَ (لَهُ) [3] : أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكَ جَالَسْتَ مُحَمَّدًا وَسَمِعْتَ مِنْهُ! [4]- وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ أَنْ أُكَلِّمَكَ- وَاسْتَغْلَظَ مِنْ الْيَمِينِ- إنْ أَنْتَ جَلَسْتَ إلَيْهِ أَوْ سَمِعْتَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ تَأْتِهِ فَتَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ لَعَنَهُ اللَّهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا 25: 27 ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْإِنْسانِ خَذُولًا 25: 29.
وَمَشَى أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ بَالٍ قَدْ ارْفَتَّ [5] ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ [6] ، ثُمَّ فَتَّهُ
__________
[1] العديد: من يعد فِي الْقَوْم، وَهُوَ الدعي.
[2] الأكارع: جمع كرَاع. والكراع من الْإِنْسَان: مَا دون الرّكْبَة إِلَى الكعب، وَمن الدَّوَابّ:
مَا دون الكعب.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] فِي الْأُصُول: « ... قَالَ: وَجْهي ... إِلَخ» .
[5] أرفت: تحطم وتكسر.
[6] أرم: بلَى.(1/361)
فِي يَدِهِ [1] ، ثُمَّ نَفَخَهُ فِي الرِّيحِ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ وَإِيَّاكَ بَعْدَ مَا تَكُونَانِ هَكَذَا، ثُمَّ يُدْخِلُكَ اللَّهُ النَّارَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ: من يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ 36: 78- 80.
(سَبَبُ نُزُولِ سُورَةِ «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ» ) :
وَاعْتَرَضَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ- فِيمَا بَلَغَنِي- الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ، كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا تَعْبُدُ، كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ 109: 1- 6 أَيْ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ، إلَّا أَنْ أَعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ مِنْكُمْ، لَكُمْ دِينُكُمْ جَمِيعًا، وَلِي دِينِي.
(أَبُو جَهْلٍ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) :
وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ تَخْوِيفًا بِهَا لَهُمْ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ تَدْرُونَ مَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الَّتِي يُخَوِّفُكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ؟
قَالُوا: لَا، قَالَ: عَجْوَةُ [2] يَثْرِبَ بِالزُّبْدِ، وَاَللَّهِ لَئِنْ اسْتَمْكَنَّا مِنْهَا لَنَتَزَقَّمَنَّها [3] تَزَقُّمًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ 44: 43- 46: أَيْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ.
__________
[1] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «بِيَدِهِ» .
[2] الْعَجْوَة: ضرب من التَّمْر.
[3] تزقم: ابتلع.(1/362)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمُهْلُ: كُلُّ شَيْءٍ أَذَبْتُهُ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ.
(كَيْفَ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ «الْمُهْلَ» ) :
وَبَلَغَنَا عَنْ الْحَسَنِ (الْبَصْرِيِّ) [1] أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالِيًا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ يَوْمًا بِفِضَّةٍ فَأُذِيبَتْ، فَجُعِلَتْ تُلَوَّنُ أَلْوَانًا، فَقَالَ: هَلْ بِالْبَابِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَأَدْخِلُوهُمْ، فَأُدْخِلُوا فَقَالَ: إنَّ أَدْنَى مَا أَنْتُمْ رَاءُونَ شَبَهًا بِالْمُهْلِ، لَهَذَا [2] . وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَسْقِيهِ رَبِّي حَمِيمَ الْمُهْلِ يَجْرَعُهُ ... يَشْوِي الْوُجُوهَ فَهُوَ فِي بَطْنِهِ صِهَرُ [3]
وَيُقَالُ: إنَّ الْمُهْلَ: صَدِيدُ الْجَسَدِ.
(اسْتِشْهَادٌ فِي تَفْسِيرِ «الْمُهْلِ» بِكَلَامِ لِأَبِي بَكْرٍ) :
بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حُضِرَ أَمَرَ بِثَوْبَيْنِ لَبِيسَيْنِ يُغْسَلَانِ فَيُكَفَّنُ فِيهِمَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: قَدْ أَغْنَاكَ اللَّهُ يَا أَبَتِ عَنْهُمَا، فَاشْتَرِ كَفَنًا، فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ سَاعَةٌ حَتَّى يَصِيرَ إلَى الْمُهْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
شَابَ بِالْمَاءِ مِنْهُ مُهْلًا كَرِيهًا ... ثُمَّ عَلَّ الْمُتُونَ بَعْدَ النِّهَالِ [4]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً 17: 60.
(ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَنُزُولُ سُورَةِ «عَبَسَ» ) :
وَوَقَفَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ، وَقَدْ طَمِعَ فِي إسْلَامِهِ، فَبَيْنَا هُوَ فِي ذَلِكَ، إذْ مَرَّ بِهِ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ، ط.
[2] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «إِن أدنى مَا رَأَيْتُمْ رأون شبها بالمهل لهَذَا» .
[3] صهر: ذائب. وَقد زَادَت «م» بعد هَذَا الْبَيْت:
وَقَالَ عبد الله بن الزبير «بِفَتْح الزاى» الْأَسدي:
فَمن عَاشَ مِنْهُم عَاشَ عبدا وَإِن يمت ... فَفِي النَّار يسقى مهلها وصديدها
وَهَذَا الْبَيْت فِي قصيدة لَهُ.
[4] الْعِلَل: الشّرْب بعد الشّرْب. والمتون: الظُّهُور. والنهال: جمع نهل، وَهُوَ الشّرْب الأول.(1/363)
ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يَسْتَقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَشَقَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَضْجَرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَغَلَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ، وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِنْ إسْلَامِهِ. فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ انْصَرَفَ عَنْهُ عَابِسًا وَتَرَكَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى 80: 1- 2 ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ 80: 13- 14 أَيْ إنَّمَا بَعَثْتُكَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، لَمْ أَخُصَّ بِكَ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ، فَلَا تَمْنَعُهُ مِمَّنْ ابْتَغَاهُ، وَلَا تَتَصَدَّيَنَّ بِهِ لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ابْنُ أمّ مَكْتُوم، أحدا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَيُقَالُ: عَمْرٌو.
ذِكْرُ مَنْ عَادَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ إسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ
(سَبَبُ رُجُوعِ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ خَرَجُوا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، إسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ، بَلَغَهُمْ أَنَّ مَا كَانُوا تَحَدَّثُوا بِهِ مِنْ إسْلَامِ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ بَاطِلًا، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا بِجِوَارٍ أَوْ مُسْتَخْفِيًا [1] .
__________
[1] قَالَ السهيليّ: «وَسبب ذَلِك: أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَة النَّجْم، فَألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته: أَي فِي تِلَاوَته، عِنْد ذكر اللات والعزى، وَأَنَّهُمْ لَهُم الغرانقة الْعلَا وَأَن شفاعتهم لترتجى. فطار ذَلِك بِمَكَّة، فسر الْمُشْركُونَ وَقَالُوا: قد ذكر آلِهَتنَا بِخَير. فَسجدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخرهَا، وَسجد الْمُشْركُونَ والمسلمون، وَأنزل الله تَعَالَى: فَيَنْسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ 22: 52 ... الْآيَة. فَمن هَاهُنَا اتَّصل بهم فِي أَرض الْحَبَشَة أَن قُريْشًا قد أَسْلمُوا. ذكره مُوسَى بن عقبَة وَابْن إِسْحَاق من غير رِوَايَة البكائي، وَأهل الْأُصُول يدْفَعُونَ هَذَا الحَدِيث بِالْحجَّةِ، وَمن صَححهُ قَالَ فِيهِ أقوالا، مِنْهَا أَن الشَّيْطَان قَالَ ذَلِك وأذاعه، وَالرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم ينْطق بِهِ. وَهَذَا جيد لَوْلَا أَن فِي حَدِيثهمْ أَن جِبْرِيل قَالَ لمُحَمد: مَا أَتَيْتُك بِهَذَا! إِن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا من قبل نَفسه، وعنى بهَا الْمَلَائِكَة أَن شفاعتهم لترتجى. وَمِنْهَا:(1/364)
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَحُلَفَائِهِمْ) :
فَكَانَ مِمَّنْ [1] قَدِمَ عَلَيْهِ مَكَّةَ مِنْهُمْ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا (وَأُحُدًا) [2] ، وَمَنْ حُبِسَ عَنْهُ حَتَّى فَاتَهُ بَدْرٌ وَغَيْرُهُ، وَمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ابْن أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، (وَ) [2] مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، (وَ) [2] امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ (بْنِ عَمْرٍو) [2] .
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ.
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ) :
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، حَلِيفٌ لَهُمْ، مِنْ قَيْسِ (بْنِ) [2] عَيْلَانَ.
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ) :
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ.
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ) :
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ، (بْنِ عَبْدِ الدَّارِ) [2] . وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ [3] .
__________
[ () ] أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَه حاكيا عَن الْكَفَرَة، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِك، فَقَالَهَا مُتَعَجِّبا من كفرهم.
والْحَدِيث على مَا خيلت غير مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ، وَالله أعلم» .
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ: «من» .
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ، ط، والاستيعاب، وَأسد الغابة، والإصابة. وَهُوَ سويبط بن سعد بن حَرْمَلَة بن مَالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدَّار بن قصي بن كلاب الْقرشِي، وَأمه امْرَأَة من خُزَاعَة تسمى هنيدة. وَلَقَد شهد سويبط رضى الله عَنهُ بَدْرًا، وَكَانَ مزاحا يفرط فِي الدعابة، وَله قصَّة ظريفة مَعَ نعيمان وأبى بكر للصديق رضى الله عَنْهُم، وَهِي: أَن أَبَا بكر رضى الله عَنهُ خرج فِي تِجَارَة إِلَى بصرى قبل موت النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعام، وَمَعَهُ نعيمان وسويبط، وَكَانَا قد شَهدا بَدْرًا، وَكَانَ نعيمان على الزَّاد، فَقَالَ لَهُ سويبط: أطعمنى، فَقَالَ: لَا، حَتَّى يَجِيء أَبُو بكر، فَقَالَ: أما وَالله لأغيظنك، فَمروا بِقوم فَقَالَ لَهُم سويبط: تشترون منى عبدا؟ فَقَالُوا: نعم: قَالَ: إِنَّه عبد لَهُ كَلَام، وَهُوَ قَائِل لكم إِنِّي حر، فان(1/365)
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ) :
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ: طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ [1] بْنِ عَبْدٍ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ (بْنِ) [2] الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو. حَلِيفٌ لَهُمْ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَحُلَفَائِهِمْ) :
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْن عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَشَمَّاسُ [3]
__________
[ () ] كُنْتُم إِذا قَالَ لكم هَذِه الْمقَالة تَرَكْتُمُوهُ، فَلَا تفسدوا على عَبدِي، قَالُوا: بل نشتريه مِنْك، قَالَ: فاشتروه مِنْهُ بِعشر قَلَائِص. قَالَ: فَجَاءُوا فوضعوا فِي عُنُقه عباءة أَو حبلا، فَقَالَ نعيمان: إِن هَذَا يستهزئ بكم، وَإِنِّي حر لست بِعَبْد، قَالُوا: قد أخبرنَا خبرك، فَانْطَلقُوا بِهِ، فجَاء أَبُو بكر رضى الله عَنهُ، فَأخْبرهُ سويبط، فأتبعهم، فَرد عَلَيْهِم القلائص وَأَخذه. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «سويبط بن سعد بن حُرَيْمِلَة» وَهُوَ تَحْرِيف.
[1] فِي أ: «طليب بن وهب بن أَبى كَبِير بن عبد» . فِي سَائِر الْأُصُول والاستيعاب: «طليب بن وهب بن أَبى كثير بن عبد» . وَالظَّاهِر أَن كليهمَا محرف عَمَّا أَثْبَتْنَاهُ. قَالَ السهيليّ: وَذكر فيهم طليبا، وَقَالَ فِي نسبه: ابْن أَبى كَبِير بن عبد بن قصي، وَزِيَادَة «أَبى كَبِير» فِي هَذَا الْموضع لَا يُوَافق عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ وجدت فِي حَاشِيَة كتاب الشَّيْخ التَّنْبِيه على هَذَا. وَذكره أَبُو عمر، وَنسبه كَمَا نسبه ابْن إِسْحَاق بِزِيَادَة أَبى كَبِير» . وَقَالَ أَبُو ذَر: «فِي نسب طليب: ابْن وهب بن أَبى كَبِير بن عبد. كَذَا وَقع، وَإِنَّمَا هُوَ ابْن عبد بن قصي» .
وَلَقَد شهد طيب بَدْرًا، وَقتل بأجنادين شَهِيدا لَيْسَ لَهُ عقب، وَقيل: قتل باليرموك. وَيُقَال: إِن طليبا لما أسلم فِي دَار الأرقم خرج فَدخل على أمه أروى بنت عبد الْمطلب، فَقَالَ: اتبعت مُحَمَّدًا وَأسْلمت للَّه عز وَجل، فَقَالَت أمه: إِن أَحَق من وازرت وعضدت ابْن خَالك، وَالله لَو كُنَّا نقدر على مَا يقدر عَلَيْهِ الرِّجَال لمنعناه وذببنا عَنهُ» .
[2] زِيَادَة عَن أ، ط. والاستيعاب، والإصابة، وَأسد الغابة.
[3] وَاسم شماس: عَامر، وشماس: لقب غلب عَلَيْهِ. وَأمه صَفِيَّة بنت ربيعَة بن عبد شمس، وَلَقَد شهد بَدْرًا، وَقتل يَوْم أحد شَهِيدا، وَكَانَ يَوْم قتل ابْن أَربع وَثَلَاثِينَ سنة. وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا وجدت لشماس شبها إِلَّا الْجنَّة. يعْنى مِمَّا يُقَاتل عَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يرْمى ببصره يَمِينا وَلَا شمالا إِلَّا رأى شماسا فِي ذَلِك الْوَجْه يذب بِسَيْفِهِ، حَتَّى غشي رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فترس بِنَفسِهِ دونه حَتَّى قتل، فَحمل إِلَى الْمَدِينَة وَبِه رَمق، فَأدْخل على عَائِشَة رضى الله عَنْهَا، فَقَالَت أم سَلمَة: ابْن عمى يدْخل على غَيْرِي! فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ(1/366)
ابْن عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ هَرْمِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ. وَسَلَمَةُ [1] بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، حَبَسَهُ عَمُّهُ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يَقْدَمْ إلَّا بَعْدَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، هَاجَرَ مَعَهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَحِقَ بَهْ أَخَوَاهُ لِأُمِّهِ:
أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَرَجَعَا بِهِ إلَى مَكَّةَ فَحَبَسَاهُ [2] بِهَا حَتَّى مَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: عُمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، يُشَكُّ فِيهِ، أَكَانَ خَرَجَ إلَى الْحَبَشَةِ أَمْ لَا؟
وَمُعَتِّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرٍ مِنْ خُزَاعَةَ.
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي جُمَحٍ) :
وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ ابْن وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ. وَابْنُهُ السَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ، وَقُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ.
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ) :
وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ: خُنَيْسُ [3] بْنُ حُذَافَةَ بْنِ
__________
[ () ] وَسلم: احملوه إِلَى أم سَلمَة، فَحمل إِلَيْهَا، فَمَاتَ عِنْدهَا، فَأمر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَن يرد إِلَى أحد فيدفن هُنَالك كَمَا هُوَ فِي ثِيَابه الَّتِي مَاتَ فِيهَا، بعد أَن مكث يَوْمًا وَلَيْلَة. وَفِي رثائه يَقُول حسان بن ثَابت:
اقنى حياءك فِي ستر وَفِي كرم ... فَإِنَّمَا كَانَ شماس من النَّاس
قد ذاق حَمْزَة سيف الله فاصطبرى ... كأسا رواء ككأس الْمَرْء شماس
[1] كَانَ سَلمَة من خِيَار الصَّحَابَة وفضلائهم، وَكَانَ أحد إخْوَة خَمْسَة: أَبى جهل والْحَارث وَسَلَمَة وَالْعَاص وخَالِد، فَأَما أَبُو جهل وَالْعَاص فقتلا ببدر كَافِرين، وَأسر خَالِد يَوْمئِذٍ، ثمَّ فدى وَمَات كَافِرًا، وَأسلم الْحَارِث وَسَلَمَة، وَكَانَا من خِيَار الْمُسلمين رضى الله عَنْهُمَا. وَكَانَ سَلمَة قديم الْإِسْلَام، وَاحْتبسَ بِمَكَّة، وعذب فِي الله عز وَجل، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُ فِي صلَاته، وَقتل يَوْم خرج فِي خلَافَة عمر، وَقيل: بل قتل بأجنادين قبل موت أَبى بكر رضى الله عَنهُ بِأَرْبَع وَعشْرين سَاعَة سنة 13 هـ
[2] يذكر فِي ذَلِك أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ حَتَّى خدعاه: إِن أمه حَلَفت أَلا يدْخل رَأسهَا دهن وَلَا تَغْتَسِل حَتَّى ترَاهُ، فَرجع مَعَهُمَا، فَأَوْثَقَاهُ رِبَاطًا، وحبساه بِمَكَّة، فَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُ.
[3] كَانَ خُنَيْس بن حذافة على حَفْصَة زوج النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقد شهد بَدْرًا، ثمَّ شهد أحدا، ونالته ثمَّة جِرَاحَة مَاتَ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ.(1/367)
قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، حُبِسَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى قَدِمَ بَعْدَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ.
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ) :
وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ: عَامِرُ [1] بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ، مَعَه امْرَأَتُهُ لَيْلَى [2] بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ (بْنِ حُذَافَةَ) [3] بْنِ غَانِمٍ.
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَحُلَفَائِهِمْ) :
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: عَبْدُ اللَّهِ [4] بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ:
وَعَبْدُ اللَّهِ [5] بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ حُبِسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، فَانْحَازَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالسَّكْرَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ، مَاتَ بِمَكَّةَ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] فِي نسب عَامر هَذَا خلاف، فَمنهمْ من ينْسبهُ إِلَى عنز بن وَائِل، كَمَا ينْسبهُ بَعضهم إِلَى مذْحج فِي الْيمن، إِلَّا أَنه لَا خلاف فِي أَنه حَلِيف للخطاب بن نفَيْل. وَلَقَد شهد بَدْرًا وَسَائِر الْمشَاهد، وَتوفى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، كَمَا قيل سنة خمس وَثَلَاثِينَ، بعد قتل عُثْمَان بأيام.
[2] يُقَال: إِنَّهَا أول ظَعِينَة دخلت الْمَدِينَة مهاجرة، وَقيل: بل تِلْكَ أم سلمى.
[3] زِيَادَة عَن الِاسْتِيعَاب.
[4] يكنى عبد الله: أَبَا مُحَمَّد، وَأمه أم نهيك بنت صَفْوَان من بنى مَالك بن كنَانَة، وَلَقَد آخى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَينه وَبَين فَرْوَة بن عمر، وَلَقَد شهد بَدْرًا وَسَائِر الْمشَاهد، وَاسْتشْهدَ يَوْم الْيَمَامَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة، وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة، وَمن وَلَده: نَوْفَل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمَة.
[5] يكنى عبد الله: أَبَا سُهَيْل، وَكَانَ الّذي حَبسه، هُوَ أَبوهُ، أَخذه عِنْد مَا رَجَعَ من الْحَبَشَة إِلَى مَكَّة، فأوثقه عِنْده، وفتنه فِي دينه. وَلَقَد شهد مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير بدر الْمشَاهد كلهَا، وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة، وَهُوَ أحد الشُّهُود فِي صلح الحديبيّة، وَهُوَ الّذي أَخذ الْأمان لِأَبِيهِ يَوْم الْفَتْح، أَتَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَبى تؤمنه؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نعم هُوَ آمن بِأَمَان الْإِلَه، فليظهر، ثمَّ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن حوله: من رأى سُهَيْل بن عَمْرو فَلَا يشد إِلَيْهِ النّظر، فلعمري إِن سهيلا لَهُ عقل وَشرف. وَلَقَد اسْتشْهد عبد الله يَوْم الْيَمَامَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة، وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَلَاثِينَ سنة.(1/368)
إلَى الْمَدِينَةِ، فَخَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَتِهِ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ [1] .
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ [2] .
(مَنْ عَادَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ) :
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْن الْجَرَّاحِ، وَعَمْرُو [3] بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ، وَسُهَيْلُ [4] بْنُ بَيْضَاءَ، وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ [5] ، وَعَمْرُو [6] بْنُ أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ ابْن هِلَالٍ.
(عَدَدُ الْعَائِدِينَ مِنْ الْحَبَشَةِ، وَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي جِوَارٍ) :
فَجَمِيعُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا.
فَكَانَ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ بِجِوَارٍ، فِيمَنْ سُمِّيَ لَنَا: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ الْجُمَحِيُّ، دَخَلَ بِجِوَارِ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ [7] ، دَخَلَ بِجِوَارٍ مِنْ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ خَالَهُ. وَأُمُّ أَبِي سَلَمَةَ: بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
__________
[1] هَذَا قَول ابْن إِسْحَاق والواقدي. وَأما مُوسَى بن عقبَة وَأَبُو معشر، فَيَقُولَانِ: إِن السَّكْرَان مَاتَ بِالْحَبَشَةِ.
[2] كَذَا فِي الْأُصُول. وَفِي الِاسْتِيعَاب: «سعد بن خولى» . قَالَ ابْن عبد الْبر: «سعد بن خولى من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين ذكر إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن إِسْحَاق، قَالَ: وَمِمَّنْ شهد بَدْرًا من بنى عَامر بن لؤيّ:
سعد بن خولى، حَلِيف لَهُم من أهل الْيمن» .
[3] وَيُقَال فِيهِ: عَامر بن الْحَارِث، وَلم يذكرهُ ابْن عقبَة وَلَا أَبُو معشر فِيمَن هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة، وَذكره ابْن عقبَة فِي الْبَدْرِيِّينَ.
[4] يكنى سُهَيْل: أَبَا أُميَّة، فِيمَا زعم بَعضهم. والبيضاء أمه، الَّتِي كَانَ ينْسب إِلَيْهَا، اسْمهَا: دعد بنت الجحدم، وَلَقَد قدم سُهَيْل على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ مَعَه حَتَّى هَاجر، وَمَات بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة تسع من الْهِجْرَة.
[5] وَقيل هُوَ: سُهَيْل بن عَمْرو بن وهب بن ربيعَة بن هِلَال.
[6] ويكنى عَمْرو: أَبَا سعيد. وَشهد مَعَ أَخِيه وهب بن أَبى سرح بَدْرًا، وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة ثَلَاثِينَ فِي خلَافَة عُثْمَان.
[7] كَذَا فِي أوالاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَبُو سَلمَة بن عبد الْأسد بن هِلَال المَخْزُومِي» .
24- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/369)
قِصَّةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فِي رَدِّ جِوَارِ الْوَلِيدِ
(تَأَلُّمُهُ لِمَا يُصِيبُ إِخْوَانَهُ فِي اللَّهِ، وَمَا حَدَثَ لَهُ فِي مَجْلِسِ لَبِيدَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَإِنَّ صَالِحَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عُثْمَانَ، قَالَ: لَمَّا رَأَى عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مَا فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَلَاءِ، وَهُوَ يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي أَمَانٍ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ غُدُوِّي وَرَوَاحِي آمِنًا بِجِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَأَصْحَابِي وَأَهْلُ دِينِي يَلْقَوْنَ مِنْ الْبَلَاءِ وَالْأَذَى فِي اللَّهِ مَا لَا يُصِيبُنِي، لَنَقْصٌ كَبِيرٌ فِي نَفْسِي. فَمَشَى إلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، وَفَّتْ ذِمَّتُكَ، قَدْ رَدَدْتُ إلَيْكَ جِوَارَكَ، فَقَالَ لَهُ: (لِمَ) [1] يَا بن أَخِي؟ لَعَلَّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ:: لَا، وَلَكِنِّي أَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ؟ قَالَ: فَانْطَلِقْ إلَى الْمَسْجِدِ، فَارْدُدْ عَلَيَّ جِوَارِي عَلَانِيَةً كَمَا أَجَرْتُكَ عَلَانِيَةً. قَالَ: فَانْطَلَقَا فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: هَذَا عُثْمَانُ قَدْ جَاءَ يَرُدُّ عَلَيَّ جِوَارِي، قَالَ: صَدَقَ، قَدْ وَجَدْتُهُ وَفِيًّا كَرِيمَ الْجِوَارِ، وَلَكِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عُثْمَانُ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ فِي مَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُنْشِدُهُمْ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ لَبِيدٌ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
قَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ. قَالَ (لَبِيدٌ) [1] :
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
قَالَ عُثْمَانُ: كَذَبْتَ، نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ. قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللَّهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ، فَمَتَى حَدَثَ هَذَا فِيكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إنَّ هَذَا سَفِيهٌ فِي سُفَهَاءَ مَعَهُ، قَدْ فَارَقُوا دِينَنَا، فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حَتَّى شَرِيَ [2] أَمْرُهُمَا، فَقَامَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَضَّرَهَا [3]
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] شرى: زَاد وَعظم.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فخصرها» . وَهُوَ تَصْحِيف.(1/370)
وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ مِنْ عُثْمَانَ، فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ يَا بن أَخِي إنْ كَانَتْ عَيْنُكَ عَمَّا أَصَابَهَا لَغَنِيَّةٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي ذِمَّةٍ مَنِيعَةٍ. قَالَ: يَقُولُ عُثْمَانُ: بَلْ وَاَللَّهِ إنَّ عَيْنِي الصَّحِيحَةَ لَفَقِيرَةٌ إلَى مِثْلِ مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللَّهِ، وَإِنِّي لَفِي جِوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزُّ مِنْكَ وَأَقْدَرُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: هَلُمَّ يَا بن أَخِي، إنْ شِئْتَ فَعُدْ إلَى جِوَارِكَ، فَقَالَ: لَا.
قِصَّةُ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جِوَارِهِ
(ضَجَرُ الْمُشْرِكِينَ بِأَبِي طَالِبٍ لِإِجَارَتِهِ، وَدِفَاعُ أَبِي لَهَبٍ، وَشِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمَّا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، فَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمَّا اسْتَجَارَ بِأَبِي طَالِبٍ، مَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالُوا (لَهُ) [1] : يَا أَبَا طَالِبٍ، لَقَدْ [2] مَنَعْتَ مِنَّا ابْنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا، فَمَا لَكَ وَلِصَاحِبِنَا تَمْنَعُهُ مِنَّا؟ قَالَ: إنَّهُ اسْتَجَارَ بِي، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِي، وَإِنْ أَنَا لَمْ أَمْنَعْ ابْنَ أُخْتِي لَمْ أَمْنَعْ ابْنَ أَخِي، فَقَامَ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللَّهِ لَقَدْ أَكْثَرْتُمْ عَلَى هَذَا الشَّيْخِ، مَا تَزَالُونَ تَوَثَّبُونَ [3] عَلَيْهِ فِي جِوَارِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ، وَاَللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ عَنْهُ أَوْ لَنَقُومَنَّ مَعَهُ فِي كُلِّ مَا قَامَ فِيهِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَا أَرَادَ. قَالَ: فَقَالُوا: بَلْ نَنْصَرِفُ عَمَّا تَكْرَهُ يَا أَبَا عُتْبَةَ، وَكَانَ لَهُمْ وَلِيًّا وَنَاصِرًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبْقَوْا عَلَى ذَلِكَ. فَطَمِعَ فِيهِ أَبُو طَالِبٍ حَيْنَ سَمِعَهُ يَقُولُ مَا يَقُولُ، وَرَجَا أَنْ يَقُومَ مَعَهُ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ يُحَرِّضُ أَبَا لَهَبٍ عَلَى نُصْرَتِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَإِنَّ امْرَأً أَبُو عُتَيْبَةَ عَمُّهُ ... لَفِي رَوْضَةٍ مَا إنْ يُسَامُ الْمَظَالِمَا [4]
أَقُولُ لَهُ، وَأَيْنَ مِنْهُ نَصِيحَتِي ... أَبَا مُعْتِبٍ ثَبِّتْ سَوَادَكَ قَائِمًا [5]
__________
[1] زِيَادَة عَن أ:
[2] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «هَذَا منعت ... إِلَخ» .
[3] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تتواثبون» .
[4] يسأم: يُكَلف.
[5] السوَاد (هُنَا) : الشَّخْص.(1/371)
وَلَا تَقْبَلَنَّ الدَّهْرَ مَا عِشْت خطة ... تُسَبُّ بِهَا إمَّا هَبَطْتَ الْمَوَاسِمَا
وَوَلِّ سَبِيلَ الْعَجْزِ غَيْرَكَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّكَ لَمْ تُخْلَقْ عَلَى الْعَجْزِ لَازِمَا
وَحَارِبْ فَإِنَّ الْحَرْبَ نُصْفٌ وَلَنْ تَرَى [1] ... أَخَا الْحَرْبِ يُعْطَى الْخَسْفَ حَتَّى يُسَالَمَا
وَكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْكَ عَظِيمَةً ... وَلَمْ يَخْذُلُوكَ غَانِمًا أَوْ مُغَارِمَا
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... وَتَيْمًا وَمَخْزُومًا عُقُوقًا وَمَأْثَمَا
بِتَفْرِيقِهِمْ مِنْ بَعْدِ وُدٍّ وَأُلْفَةٍ ... جَمَاعَتَنَا كَيْمَا يَنَالُوا الْمَحَارِمَا [2]
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نُبْزَى مُحَمَّدًا ... وَلَمَّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى الشِّعْبِ قَائِمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نُبْزَى: نُسْلَبُ [3] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَقِيَ مِنْهَا بَيْتٌ تَرَكْنَاهُ.
دُخُولُ أَبِي بَكْرٍ فِي جِوَارِ ابْنِ الدُّغُنَّةِ وَرَدُّ جِوَارِهِ عَلَيْهِ
(سَبَبُ جِوَارِ ابْنِ الدُّغُنَّةِ لِأَبِي بَكْرٍ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْن مُسْلِمِ (ابْنِ شِهَابٍ) [4] الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ وَأَصَابَهُ فِيهَا الْأَذَى، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا [5] ، حَتَّى إذَا سَارَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، لَقِيَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ [6] ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ.
__________
[1] كَذَا فِي أ، ط. وَالنّصف: الْإِنْصَاف. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «نصف مَا ترى» . والمواسم: مَوَاطِن اجْتِمَاعهم فِي الْحَج أَو فِي الْأَسْوَاق الْمَشْهُورَة.
[2] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ينَال» .
[3] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ. وَفِي اللِّسَان: يبزى مُحَمَّد. قَالَ شمر: مَعْنَاهُ: يقهر ويستذل. وَأَرَادَ: لَا يبزى،
[4] زِيَادَة عَن أ.
[5] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مُهَاجرا مَعَه» . وَلَا يَسْتَقِيم الْكَلَام بِهَذِهِ الزِّيَادَة.
[6] وَاسم ابْن الدغنة: مَالك، وَقد ضَبطه الْقُسْطَلَانِيّ بِفَتْح الدَّال وَكسر الْغَيْن وَفتح النُّون مُخَفّفَة، الْغَيْن بِضَم الدَّال وَفتح النُّون مُشَدّدَة.(1/372)
(الْأَحَابِيشُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْأَحَابِيشُ: بَنُو الْحَارِثِ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَالْهُونُ ابْن خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَحَالَفُوا جَمِيعًا، فَسُمُّوا الْأَحَابِيشَ (لِأَنَّهُمْ تَحَالَفُوا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الْأَحْبَشُ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ) [1] لِلْحِلْفِ [2] .
وَيُقَالُ: ابْنُ الدُّغَيْنَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ (بْنِ الزُّبَيْرِ) [1] ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَقَالَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ: أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي وَآذَوْنِي، وَضَيَّقُوا عَلَيَّ، قَالَ: وَلم؟ فو الله إنَّكَ لَتَزِينُ الْعَشِيرَةَ، وَتُعِينُ عَلَى النَّوَائِبِ، وَتَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ [3] ، ارْجِعْ فَأَنْتَ فِي جِوَارِي.
فَرَجَعَ مَعَهُ، حَتَّى إذَا دَخَلَ مَكَّةَ، قَامَ [4] ابْنُ الدُّغُنَّةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَلَا يَعْرِضَنَّ لَهُ أَحَدٌ إلَّا بِخَيْرِ. قَالَتْ: فَكَفُّوا عَنْهُ.
(سَبَبُ خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ جِوَارِ ابْنِ الدُّغُنَّةِ) :
قَالَتْ: وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحٍ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا، إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَى. قَالَتْ: فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ، يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ هَيْئَتِهِ. قَالَتْ: فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى ابْنِ الدُّغُنَّةِ، فَقَالُوا (لَهُ) [1] : يَا بن الدُّغُنَّةِ، إنَّكَ لَمْ تُجِرْ هَذَا الرَّجُلَ لِيُؤْذِيَنَا! إنَّهُ رَجُلٌ إذَا صَلَّى وَقَرَأَ مَا جَاءَ بَهْ مُحَمَّدٌ يَرِقُّ وَيَبْكِي [5] ، وَكَانَتْ لَهُ هَيْئَةٌ وَنَحْوٌ، فَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ عَلَى صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضَعَفَتِنَا أَنْ يَفْتِنَهُمْ، فَأْتِهِ فَمُرْهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ. قَالَتْ: فَمَشَى ابْنُ الدُّغُنَّةِ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ،
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] وَيُقَال: إِنَّهُم تحالفوا عِنْد جبيل يُقَال لَهُ: حبشِي، فاشتق لَهُم مِنْهُ هَذَا الِاسْم.
[3] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول: أَي تكسب غَيْرك مَا هُوَ مَعْدُوم عِنْده. وَقَالَ ابْن سراج: الْمَعْدُوم هُنَا النفيس. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وتكسب المعدم» .
[4] فِي أ: «قَالَ» وَهُوَ تَحْرِيف.
[5] هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.(1/373)
إنِّي لَمْ أُجِرْكَ لِتُؤْذِيَ قَوْمَكَ، إنَّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَكَانَكَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، وَتَأَذَّوْا بِذَلِكَ مِنْكَ، فَادْخُلْ بَيْتَكَ، فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْتَ، قَالَ: أَوَأَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَارْدُدْ عَلَيَّ جِوَارِي، قَالَ: قَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْكَ. قَالَتْ [1] :
فَقَامَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ رَدَّ عَلَيَّ جِوَارِي فَشَأْنُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَقِيَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ عَامِدٌ إلَى الْكَعْبَةِ، فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا. قَالَ: فَمَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَوْ الْعَاصُ [2] بْنُ وَائِلٍ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَا تَرَى إلَى مَا يَصْنَعُ هَذَا السَّفِيهُ؟ قَالَ: أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ.
قَالَ [3] : وَهُوَ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، مَا أَحْلَمَكَ! أَيْ رَبِّ، مَا أَحْلَمَكَ! أَيْ رَبِّ، مَا أَحْلَمَكَ!.
حَدِيثُ نَقْضِ الصَّحِيفَةِ
(بَلَاءُ هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي مَنْزِلِهِمْ الَّذِي تَعَاقَدَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ عَلَيْهِمْ فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبُوهَا، ثُمَّ إنَّهُ قَامَ فِي نَقْضِ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ الَّتِي تَكَاتَبَتْ فِيهَا قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيَّ الْمُطَّلِبِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُبْلَ فِيهَا أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْ بَلَاءِ هِشَامِ [4] بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ [5] بْنِ نَصْرِ بْنِ (جَذِيمَةَ) [6] ابْن مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمِ ابْن عَبْدِ مَنَافٍ لِأُمِّهِ، فَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ [7] وَاصَلًا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ،
__________
[1] فِي الْأُصُول: «قَالَ» . ويلاحظ أَن رَاوِي الْخَبَر هُوَ عَائِشَة.
[2] فِي أ: «وَالْعَاص بن وَائِل» . وَلَا يَسْتَقِيم بهَا الْكَلَام.
[3] هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
[4] كَذَا فِي أ، ط، والاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «هَاشم» وَهُوَ تَحْرِيف.
[5] كَذَا فِي أ، ط، والاستيعاب. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «خبيب» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
[6] زِيَادَة عَن أ.
[7] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَكَانَ هَاشم لبني هِشَام» وَهُوَ تَحْرِيف.(1/374)
فَكَانَ- فِيمَا بَلَغَنِي- يَأْتِي بِالْبَعِيرِ، وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ لَيْلًا، قَدْ أَوْقَرَهُ طَعَامًا، حَتَّى إذَا أَقْبَلَ بِهِ فَمَ الشِّعْبِ خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبِهِ، فَيَدْخُلُ الشِّعْبَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ قَدْ أَوْقَرَهُ بَزًّا [1] ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.
(سَعْيُ هِشَامٍ فِي ضَمِّ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ لَهُ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّهُ مَشَى إلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ، وَتَلْبَسَ الثِّيَابَ، وَتَنْكِحَ النِّسَاءَ، وَأَخْوَالُكَ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا يُنْكَحُ إلَيْهِمْ؟ أَمَا إنِّي أَحْلِفُ باللَّه أَنْ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، ثُمَّ دَعَوْتَهُ إلَى (مِثْلِ) [2] مَا دَعَاكَ إلَيْهِ مِنْهُمْ، مَا أَجَابَكَ إلَيْهِ [3] أَبَدًا، قَالَ: وَيْحَكَ يَا هِشَامُ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْتُ فِي نَقْضِهَا حَتَّى أَنْقُضَهَا، قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ رَجُلًا قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: أَبْغِنَا رَجُلًا ثَالِثًا
(سَعْيُ هِشَامٍ فِي ضَمِّ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ لَهُ) :
فَذَهَبَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ (بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ) [2] ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُطْعِمُ أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، مُوَافِقٌ لِقُرَيْشِ فِيهِ! أَمَا وَاَللَّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُمْ [4] إلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا، قَالَ [5] وَيْحَكَ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ ثَانِيًا، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: أَبْغِنَا ثَالِثًا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ:
زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: أَبْغِنَا رَابِعًا.
(سَعْيُ هِشَامٍ فِي ضَمِّ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ إلَيْهِ) :
فَذَهَبَ إلَى الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَام، فَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ،
__________
[1] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول برا قَالَ السهيليّ: «بزا» (بالزاي الْمُعْجَمَة) ، وَفِي غير نُسْخَة الشَّيْخ أَبى بَحر: «برا» ، وَفِي رِوَايَة يُونُس: «بزا أَو برا» على الشَّك من الراويّ» .
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «إِلَيْك» .
[4] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «لتجدنها» .
[5] كَذَا فِي أ، وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَقَالَ» وَهُوَ تَحْرِيف.(1/375)
فَقَالَ: وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ ابْن أَبِي أُمَيَّةَ، وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأَنَا مَعَكَ، قَالَ: أَبْغِنَا خَامِسًا.
(سَعْيُ هِشَامٍ فِي ضَمِّ زَمْعَةَ لَهُ) :
فَذَهَبَ إلَى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، فَكَلَّمَهُ، وَذكر لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقَّهُمْ، فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُونِي إلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ:
نَعَمْ، ثُمَّ سَمَّى لَهُ الْقَوْمَ.
(مَا حَدَثَ بَيْنَ هِشَامٍ وَزُمَلَائِهِ، وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ، حِينَ اعْتَزَمُوا تَمْزِيقَ الصَّحِيفَةِ) :
فَاتَّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ [1] لَيْلًا بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ. فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا [2] عَلَى الْقِيَامِ فِي [3] الصَّحِيفَةِ حَتَّى يَنْقُضُوهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَتَكَلَّمُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يُبَاعُ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَاَللَّهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: كَذَبْتَ وَاَللَّهِ لَا تُشَقُّ، قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاَللَّهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كُتِبَتْ، قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ:
صَدَقَ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نُقِرُّ بِهِ، قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ:
صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا، قَالَ هِشَامُ ابْن عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلِ، تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ. (قَالَ) [4] : وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَامَ الْمُطْعِمُ إلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا، فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا، إلَّا «بِاسْمِكَ اللَّهمّ» .
__________
[1] الْحجُون: مَوضِع بِأَعْلَى مَكَّة. وخطمه: مقدمه.
[2] فِي أ: «وتعاهدوا» .
[3] فِي أ: «فِي أَمر الصَّحِيفَة» .
[4] زِيَادَة عَن أ.(1/376)
(كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ وَشَلُّ يَدِهِ) :
وَكَانَ كَاتِبَ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورُ [1] بْنُ عِكْرِمَةَ. فَشُلَّتْ يَدُهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
(إخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِ الْأَرَضَةِ لِلصَّحِيفَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْقَوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمِّ، إنَّ رَبِّي اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ للَّه إلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهُ الظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ، فَقَالَ:
أَرَبُّكَ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فو الله مَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا، فَهَلُمَّ صَحِيفَتُكُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَخِي، فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا، وَانْزِلُوا عَمَّا فِيهَا، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِبًا دَفَعْتُ إلَيْكُمْ ابْنَ أَخِي، فَقَالَ الْقَوْمُ: رَضِينَا، فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَظَرُوا، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرًّا. فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرَّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا [2] .
(شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي مَدْحِ النَّفَرِ الَّذِينَ نَقَضُوا الصَّحِيفَةَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا مُزِّقَتْ الصَّحِيفَةُ وَبَطَلَ مَا فِيهَا. قَالَ أَبُو طَالِبٍ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ قَامُوا فِي نَقْضِهَا يَمْدَحُهُمْ:
__________
[1] قَالَ السهيليّ: «وللنساب من قُرَيْش فِي كَاتب الصَّحِيفَة قَولَانِ: أَحدهمَا أَن كَاتب الصَّحِيفَة هُوَ بغيض بن عَامر بن هَاشم بن عبد الدَّار، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه مَنْصُور بن عبد شُرَحْبِيل بن هَاشم من بنى عبد الدَّار أَيْضا وَهُوَ خلاف قَول ابْن إِسْحَاق، وَلم يذكر الزبير فِي كَاتب الصَّحِيفَة غير هذَيْن الْقَوْلَيْنِ، والزبيريون أعلم بأنساب قَومهمْ» .
[2] يحْكى أَن الْمُؤمنِينَ جهدوا من ضيق الْحصار، حَتَّى إِنَّهُم كَانُوا يَأْكُلُون الْخبط، وورق السمر، حَتَّى إِن أحدهم ليضع كَمَا تضع الشَّاة. وَكَانَ فيهم سعد بن أَبى وَقاص، روى أَنه قَالَ: لقد جعت حَتَّى إِنِّي وطِئت ذَات لَيْلَة على شَيْء رطب، فَوَضَعته فِي فمي وبلعته، وَمَا أدرى مَا هُوَ إِلَى الْآن. وَكَانُوا إِذا قدمت العير مَكَّة، وأتى أحدهم السُّوق ليشترى شَيْئا من الطَّعَام لِعِيَالِهِ، يقوم أَبُو لَهب عَدو الله فَيَقُول: يَا معشر التُّجَّار، غالوا على أَصْحَاب مُحَمَّد حَتَّى لَا يدركوا مَعكُمْ شَيْئا، فقد علمْتُم مَالِي ووفاء ذِمَّتِي، فَأَنا ضَامِن أَن لَا خسار عَلَيْكُم. فيزيدون عَلَيْهِم فِي السّلْعَة قيمتهَا أضعافا، حَتَّى يرجع إِلَى أطفاله، وهم يتضاغون من الْجُوع، وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ شَيْء يُطعمهُمْ بِهِ، وَيَغْدُو التُّجَّار على أَبى لَهب فيربحهم فِيمَا اشْتَروا من الطَّعَام واللباس، حَتَّى جهد الْمُسلمُونَ، وَمن مَعَهم جوعا وعريا» .(1/377)
أَلَا هَلْ أَتَى بَحْرِيَّنَا صُنْعُ رَبِّنَا ... عَلَى نَأْيِهِمْ وَاَللَّهُ بِالنَّاسِ أَرْوَدُ [1]
فَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ الصَّحِيفَةَ مُزِّقَتْ ... وَأَنْ كُلُّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللَّهُ مُفْسَدُ
تُرَاوِحُهَا إفْكٌ وَسِحْرٌ مُجَمَّعٌ ... وَلَمْ يُلْفَ سِحْرٌ آخِرَ الدَّهْرِ يَصْعَدُ
تَدَاعَى لَهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرٍ [2] ... فَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا يَتَرَدَّدُ [3]
وَكَانَتْ كِفَاءً رَقْعَةٌ بِأَثِيمَةٍ ... لِيُقْطَعَ مِنْهَا سَاعِدٌ وَمُقَلَّدُ [4]
وَيَظْعَنُ أَهْلُ الْمَكَّتَيْنِ فَيَهْرُبُوا ... فَرَائِصُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الشَّرِّ تُرْعَدُ [5]
وَيُتْرَكُ حَرَّاثٌ يُقَلِّبُ أَمْرَهُ ... أَيُتْهِمُ فِيهِمْ [6] عِنْدَ ذَاكَ وَيُنْجِدُ [7]
وَتَصْعَدُ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ كَتِيبَةٌ [8] ... لَهَا حُدُجٌ [9] سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ [10]
فَمَنْ يَنْشَ [11] مِنْ حُضَّارِ مَكَّةَ عِزُّهُ ... فَعِزَّتُنَا فِي بَطْنِ مَكَّةَ أَتْلَدُ
نَشَأْنَا بِهَا وَالنَّاسُ فِيهَا قَلَائِلُ ... فَلَمْ نَنْفَكِكْ نَزْدَادُ خَيْرًا وَنَحْمَدُ [12]
__________
[1] البحري (هُنَا) : من كَانَ هَاجر من الْمُسلمين إِلَى الْحَبَشَة فِي الْبَحْر. وأرود: أرْفق.
[2] القرقر: اللين السهل. يُرِيد: من لَيْسَ فِيهَا بذليل. وَيجوز أَنه يُرِيد بِهِ: لَيْسَ بِذِي هزل، لِأَن القرقرة: الضحك.
[3] يُرِيد حظها من الشؤم وَالشَّر. وَفِي التَّنْزِيل: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ 17: 13.
[4] الْمُقَلّد: الْعُنُق.
[5] الفرائص: جمع فريصة، وَهِي بضعَة فِي الْجنب ترْعد إِذا فزع الْإِنْسَان.
[6] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فِيهَا» .
[7] الحراث: المكتسب. وأتهم: أَتَى تهَامَة، وَهِي مَا انخفض عَن أَرض الْحجاز إِلَى الْبَحْر. وأنجد:
أَتَى نجدا، وَهِي مَا ارْتَفع عَن أَرض الْحجاز إِلَى الشرق.
[8] الأخشبان: جبلان بِمَكَّة. والكتيبة: الْجَيْش.
[9] حدج (بِضَمَّتَيْنِ) : جمع حدج (بِالْكَسْرِ) ، وَهُوَ الْحمل (بِالْكَسْرِ) : أَي أَن يقوم مقَام الْحمل سهم وقوس ومرهد. وَقيل: هُوَ من الحدج بِمَعْنى الحسك، فَجعل السهْم وَغَيره كالحسك.
[10] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ، ط: «مزهد» . قَالَ السهيليّ: « ... ومرهد هَكَذَا فِي الأَصْل بالراء وَكسر الْمِيم، فَيحْتَمل أَن يكون من: رهد الثَّوْب: إِذا مزقه، ويعنى بِهِ رمحا أَو سَيْفا، وَيحْتَمل أَن يكون من الرهيد، وَهُوَ الناعم، أَي ينعم صَاحبه بالظفر، أَو ينعم هُوَ بِالريِّ من الدَّم. وَفِي بعض النّسخ (مزهد) بِفَتْح الْمِيم، والزاى، فَإِن صحت الرِّوَايَة بِهِ، فَمَعْنَاه: مزهد فِي الْحَيَاة وحرص على الْمَمَات» .
وَقَالَ أَبُو ذَر: «ومرهد: رمح لين. وَمن رَوَاهُ: فرهد، فَمَعْنَاه: الرمْح الّذي إِذا طعن بِهِ وسع الْخرق.
وَمن رَوَاهُ: مزهد، بالزاء، فَهُوَ ضَعِيف لَا معنى لَهُ، إِلَّا أَن يُرَاد بِهِ الشدَّة على معنى الِاشْتِقَاق» .
[11] كَذَا فِي أ، ط. أَرَادَ: ينشأ، فَحذف الْهمزَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ينسى» . بِالسِّين الْمُهْملَة.
[12] كَذَا فِي ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَلم تنفكك تزداد خيرا وتحمد» .(1/378)
وَنُطْعِمُ حَتَّى يَتْرُكَ النَّاسُ فَضْلَهُمْ ... إذَا جُعِلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تُرْعَدُ [1]
جَزَى اللَّهُ رَهْطًا بِالْحَجُونِ تَبَايَعُوا [2] ... عَلَى مَلَأٍ يُهْدِي لِحَزْمٍ وَيُرْشِدُ
قُعُودًا لَدَى خَطْمِ الْحَجُونِ كَأَنَّهُمْ ... مَقَاوِلَةٌ بَلْ هُمْ أَعَزُّ وَأَمْجَدُ [3]
أَعَانَ عَلَيْهَا كُلُّ صَقْرٍ كَأَنَّهُ ... إذَا مَا مَشَى فِي رَفْرَفِ الدِّرْعِ أَحْرَدُ [4]
جَرِيٌّ عَلَى جُلَّى [5] الْخُطُوبِ كَأَنَّهُ ... شِهَابٌ بِكَفَّيْ قَابِسٍ يَتَوَقَّدُ
مِنْ الْأَكْرَمِينَ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ يَتَرَبَّدُ [6]
طَوِيلُ النِّجَادِ خَارِجٌ نِصْفُ سَاقِهِ ... عَلَى وَجْهِهِ يُسْقَى الْغَمَامُ وَيُسْعِدُ
عَظِيمُ الرَّمَادِ سَيِّدٌ وَابْنُ سَيِّدٍ ... يَحُضُّ عَلَى مَقْرَى الضُّيُوفِ وَيَحْشِدُ [7]
وَيَبْنِي لِأَبْنَاءِ الْعَشِيرَةِ صَالِحًا ... إذَا نَحْنُ طُفْنَا فِي الْبِلَادِ وَيَمْهَدُ
أَلَظَّ [8] بِهَذَا الصُّلْحِ كُلُّ مُبَرَّأٍ ... عَظِيمِ اللِّوَاءِ أَمْرُهُ ثَمَّ يُحْمَدُ
قَضَوْا مَا قَضَوْا فِي لَيْلِهِمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا ... عَلَى مَهَلٍ وَسَائِرُ النَّاسِ رُقَّدُ
هُمٌ رَجَعُوا سَهْلَ بْنَ بَيْضَاءَ [9] رَاضِيًا ... وَسُرَّ أَبُو بَكْرٍ بِهَا وَمُحَمَّدُ
مَتَى شُرِّكَ الْأَقْوَامُ فِي جُلِّ أَمْرِنَا ... وَكُنَّا قَدِيمًا قَبْلَهَا نُتَوَدَّدُ
وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً ... وَنُدْرِكُ مَا شِئْنَا وَلَا نتشدّد
__________
[1] المفيضون: الضاربون بقداح الميسر. وَكَانَ لَا يفِيض مَعَهم فِي الميسر إِلَّا سخى، ويسمون من لَا يدْخل مَعَهم فِي ذَلِك: الْبرم. وَقَالَت امْرَأَة لبعلها، وَكَانَ برما بَخِيلًا، ورأته يقرن بضعتين فِي الْأكل:
أبرما قرونا!
[2] كَذَا فِي ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تتابعوا» .
[3] المقاولة: الْمُلُوك.
[4] كَذَا فِي ط. ورفرف الدرْع: مَا فضل مِنْهُ. وأحرد: بطيء الْمَشْي لثقل الدرْع الّذي عَلَيْهِ.
وَفِي سَائِر الْأُصُول: « ... أجرد» (بِالْجِيم) وَهُوَ تَصْحِيف.
[5] كَذَا فِي ط، والجلي: الْأَمر الْعَظِيم. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «جلّ» . وَجل الخطوب:
معظمها» .
[6] سيم: كلف. والخسف: الذل. ويتربد: يتَغَيَّر إِلَى السوَاد.
[7] مقرى الضيوف: طعامهم. والقرى: مَا يصنع للضيف من الطَّعَام.
[8] ألظ: لزم وألح.
[9] سهل هَذَا هُوَ ابْن وهب بن ربيعَة بن هِلَال بن ضبة بن الْحَارِث بن فهر، فَهُوَ يعرف بِابْن الْبَيْضَاء، وَهِي أمه، وَاسْمهَا دعد بنت جحدم بن أُميَّة بن ضرب بن الْحَارِث بن فهر، ولسهل أَخَوان: سُهَيْل، وَصَفوَان، وهم جَمِيعًا بَنو الْبَيْضَاء.(1/379)
فيا لقصىّ هَلْ لَكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ ... وَهَلْ لَكُمْ فِيمَا يَجِيءُ بَهْ غَدُ
فَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ ... لَدَيْكَ الْبَيَانُ لَوْ تَكَلَّمْتَ أَسْوَدُ [1]
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي رِثَاءِ الْمُطْعِمِ، وَذِكْرُ نَقْضِهِ الصَّحِيفَةَ) :
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: يَبْكِي الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ حِينَ مَاتَ، وَيَذْكُرُ قِيَامَهُ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ:
أَيَا عَيْنُ [2] فَابْكِي سَيِّدَ الْقَوْمِ [3] وَاسْفَحِي [4] ... بِدَمْعٍ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدَّمَا [5]
وَبَكِّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا ... عَلَى النَّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ مَا تَكَلَّمَا
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدَّهْرَ وَاحِدًا ... مِنْ النَّاسِ، أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا [6]
أَجَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا ... عَبِيدَكَ مَا لَبَّى مُهِلٌّ وَأَحْرَمَا
فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدٌّ بِأَسْرِهَا ... وَقَحْطَانُ أَوْ بَاقِي بَقِيَّةِ جُرْهُمَا
لَقَالُوا هُوَ الْمُوفِي بِخُفْرَةِ [7] جَارِهِ ... وَذِمَّتِهِ يَوْمًا إذَا مَا تَذَمَّمَا [8]
فَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ ... عَلَى مِثْلِهِ فِيهِمْ أَعَزَّ وَأَعْظَمَا
وَآبَى إذَا يَأْبَى وَأَلْيَنَ [9] شِيمَةً ... وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا
__________
[1] أسود: اسْم جبل كَانَ قد قتل فِيهِ قَتِيل فَلم يعرف قَاتله، فَقَالَ أَوْلِيَاء الْمَقْتُول هَذِه الْمقَالة، فَذَهَبت مثلا.
[2] فِي أ، ط: «أعيني أَلا أبكى ... إِلَخ» .
[3] فِي أ: «النَّاس» .
[4] اسفحى: أسيلى.
[5] أنزفته: أنفدته.
[6] قَالَ السهيليّ فِي التَّعْلِيق على هَذَا الْبَيْت: «وَهَذَا عِنْد النَّحْوِيين من أقبح الضَّرُورَة، لِأَنَّهُ قدم الْفَاعِل وَهُوَ مُضَاف إِلَى ضمير الْمَفْعُول، فَصَارَ فِي الضَّرُورَة مثل قَوْله:
جزى ربه عَنى عدي بن حَاتِم
غير أَنه فِي هَذَا الْبَيْت أشبه قَلِيلا، لتقدم ذكر (مطعم) فَكَأَنَّهُ قَالَ: أبقى مجد هَذَا الْمَذْكُور الْمُتَقَدّم ذكره مطعما، وَوضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر كَمَا لَو قلت: إِن زيدا ضربت جَارِيَته زيدا، أَي ضربت جَارِيَته إِيَّاه. وَلَا بَأْس بِمثل هَذَا، وَلَا سِيمَا إِذا قصدت قصد التَّعْظِيم وتفخيم ذكر الممدوح، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وَمَا لي أَن أكون أعيب يحيى ... وَيحيى طَاهِر الأثواب بر
[7] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والخفرة: الْعَهْد. وَفِي أ: «حُفْرَة» . بِالْحَاء الْمُهْملَة.
[8] تذمم: طلب الذِّمَّة، وَهِي الْعَهْد.
[9] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَأعظم» .(1/380)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَوْلُهُ «كِلَيْهِمَا» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
(كَيْفَ أَجَارَ الْمُطْعِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: «أَجَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهُمْ» ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَلَمْ يُجِيبُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ، مِنْ تَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ، صَارَ إلَى حِرَاءٍ، ثُمَّ بَعَثَ إلَى الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ:
أَنَا حَلِيفٌ، وَالْحَلِيفُ لَا يُجِيرُ. فَبَعَثَ إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: إنَّ بَنِي عَامِرٍ لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبٍ. فَبَعَثَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَسَلَّحَ الْمُطْعِمُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْا الْمَسْجِدَ، ثُمَّ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اُدْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى عِنْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَعْنِي حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ.
(مَدْحُ حَسَّانَ لِهِشَامِ بْنِ عَمْرٍو لِقِيَامِهِ فِي الصَّحِيفَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ (الْأَنْصَارِيُّ) [1] أَيْضًا: يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو [2] لِقِيَامِهِ فِي الصَّحِيفَةِ:
هَلْ يُوَفِّيَنَّ بَنُو أُمَيَّةَ ذِمَّةً ... عقدا كَمَا أَو فِي جِوَارُ هِشَامِ
مِنْ مَعْشَرٍ لَا يَغْدِرُونَ بِجَارِهِمْ ... لِلْحَارِثِ بْنِ حُبَيِّبِ [3] بْنِ سُخَامِ
وَإِذَا بَنُو حِسْلٍ أَجَارُوا ذِمَّةً ... أَوْفَوْا وَأَدَّوْا جَارَهُمْ بِسَلَامِ
وَكَانَ هِشَامٌ أَحَدَ [4] سُحَامِ [5] (بِالضَّمِّ) [1]
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] وَقد أسلم هِشَام بن عَمْرو هَذَا، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رجلا فِيمَا ذكرُوا
[3] هُوَ حبيب بِالتَّخْفِيفِ، تَصْغِير (حب) . وَجعله حسان تَصْغِير (حبيب) فشدده، وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الضَّرُورَة، إِذْ لَا يسوغ أَن يُقَال فِي فَلَيْسَ: فَلَيْسَ، وَلَا فِي كُلَيْب: كُلَيْب، فِي شعر وَلَا فِي غَيره، وَلَكِن لما كَانَ الْحبّ والحبيب بِمَعْنى وَاحِد جعل أَحدهمَا مَكَان الآخر. وَهُوَ حسن فِي الشّعْر وسائغ فِي الْكَلَام. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[4] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَخا» .
[5] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول،: «سخام» . قَالَ السهيليّ: «وَقَوله (ابْن سخام) هُوَ اسْم أمه، وَأكْثر أهل النّسَب يَقُولُونَ فِيهِ (شخام) بشين مُعْجمَة. وألفيت فِي حَاشِيَة كتاب الشَّيْخ أَن أَبَا عُبَيْدَة النسابة وعوانة يَقُولَانِ فِيهِ (سحام) بسين وحاء مهملتين. والّذي فِي الأَصْل من قَول ابْن هِشَام (سخام)(1/381)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: سُخَامٌ [1] .
قِصَّةُ إسْلَامِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ
(تَحْذِيرُ قُرَيْشٍ لَهُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا يَرَى مِنْ قَوْمِهِ، يَبْذُلُ لَهُمْ النَّصِيحَةَ، وَيَدْعُوهُمْ إلَى النَّجَاةِ مِمَّا هُمْ فِيهِ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ، حِينَ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، يُحَذِّرُونَهُ النَّاسَ وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَرَبِ.
وَكَانَ الطُّفَيْلُ بْنُ [2] عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ يُحَدِّثُ: أَنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، فَمَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ الطُّفَيْلُ رَجُلًا شَرِيفًا شَاعِرًا لَبِيبًا، فَقَالُوا لَهُ: يَا طُفَيْلُ، إنَّكَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا، وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ [3] بِنَا، وَقَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتْ أَمْرَنَا، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ كَالسِّحْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا، فَلَا تُكَلِّمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعَنَّ مِنْهُ شَيْئًا.
(اسْتِمَاعُهُ لِقَوْلِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ عُدُولُهُ وَسَمَاعُهُ مِنَ الرَّسُول) :
قَالَ: فو الله مَا زَالُوا بِي حَتَّى أَجْمَعْتُ أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلِّمَهُ، حَتَّى حَشَوْتُ فِي أُذُنَيَّ حِينَ غَدَوْتُ إلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا [4] فَرَقًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ. قَالَ: فَغَدَوْتُ إلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ. قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفسِي:
__________
[ () ] بسين مُهْملَة وخاء مُعْجمَة. وَلَفظ (شخام) من شخم الطَّعَام: إِذا تَغَيَّرت رَائِحَته. قَالَه أَبُو حنيفَة» .
[1] فِي ط: «شخام» .
[2] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَبُو عَمْرو» . وعَلى هَذِه الرِّوَايَة، فَهُوَ مكنى بِابْنِهِ عَمْرو.
[3] أعضل: اشْتَدَّ أمره.
[4] الكرسف: الْقطن.(1/382)
وَا ثكل أُمِّي، وَاَللَّهِ إنِّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيَّ الْحَسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ! فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي بَهْ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُهُ.
(الْتِقَاؤُهُ بِالرَّسُولِ وَقَبُولُهُ الدَّعْوَةَ) :
قَالَ: فَمَكَثْتُ حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، حَتَّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّ قَوْمَكَ قَدْ قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، للَّذي قَالُوا، فو الله مَا بَرِحُوا يُخَوِّفُونَنِي أَمْرَكَ حَتَّى سَدَدْتُ أُذُنَيَّ بِكُرْسُفٍ لِئَلَّا أَسْمَعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَكَ، فَسَمِعْتُهُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمْرَكَ. قَالَ: فَعَرَضَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَلَا وَاَللَّهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ.
قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنِّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، وَأَنَا رَاجِعٌ إلَيْهِمْ، وَدَاعِيهمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهمّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً.
(الْآيَةُ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُ) :
قَالَ: فَخَرَجْتُ إلَى قَوْمِي، حَتَّى إذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةٍ [1] تُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ [2] وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيَّ مِثْلُ الْمِصْبَاحِ، فَقُلْتُ: اللَّهمّ فِي غَيْرِ وَجْهِي، إنِّي أَخْشَى، أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا مُثْلَةٌ وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِي دِينَهُمْ. قَالَ: فَتَحَوَّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي. قَالَ: فَجَعَلَ الْحَاضِرُ يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النُّورَ فِي سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ، وَأَنَا أَهْبِطُ إلَيْهِمْ مِنْ الثَّنِيَّةِ، قَالَ: حَتَّى جِئْتُهُمْ فَأَصْبَحْتُ فِيهِمْ.
(دَعْوَتُهُ أَبَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ) :
قَالَ: فَلَمَّا نَزَلْتُ أَتَانِي أَبِي، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَالَ: فَقُلْتُ: إلَيْكَ عَنِّي يَا أَبَتِ، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، قَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَسْلَمْتُ وَتَابَعْت دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، فَدِينِي دِينُكَ، قَالَ:
__________
[1] الثَّنية: الفرجة بَين الجبلين.
[2] الْحَاضِر: الْقَوْم النازلون على المَاء.(1/383)
فَقُلْتُ: فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، ثُمَّ تَعَالَ حَتَّى أُعَلِّمَكَ مَا عُلِّمْتُ. قَالَ:
فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ.
(دَعْوَتُهُ زَوْجَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ) :
(قَالَ) [1] : ثُمَّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي، فَقُلْتُ: إلَيْكَ عَنِّي، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، قَالَتْ: لِمَ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: (قُلْتُ: قَدْ) [2] فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْإِسْلَامُ، وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَدِينِي دِينُكَ، قَالَ: قُلْتُ:
فَاذْهَبِي إلَى حِنَا ذِي الشَّرَى- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: حِمَى [3] ذِي الشَّرَى- فَتَطَهَّرِي مِنْهُ.
(قَالَ) [4] : وَكَانَ ذُو الشَّرَى صَنَمًا لِدَوْسٍ، وَكَانَ الْحِمَى حِمَى حَمَوْهُ لَهُ، (وَ) [4] بِهِ وَشَلٌ [5] مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ.
قَالَ: فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَتَخْشَى عَلَى الصَّبِيَّةِ مِنْ ذِي الشَّرَى شَيْئًا، قَالَ:
قُلْتُ: لَا، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ، فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَتْ.
(دَعْوَتُهُ قَوْمَهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْهُمْ، وَلِحَاقُهُمْ بِالرَّسُولِ) :
ثُمَّ دَعَوْتُ دَوْسًا إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبْطَئُوا عَلَيَّ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنَّهُ قَدْ غَلَبَنِي على دوس الزّنا [6] ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اللَّهمّ اهْدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] زِيَادَة عَن أ، ط.
[3] قَالَ السهيليّ: «فَإِن صحت رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فالنون قد تبدل من الْمِيم كَمَا قَالُوا: حلان وحلام، للجدى، وَيجوز أَن يكون من حنوت الْعود، وَمن محنية الْوَادي، وَهُوَ مَا انحنى مِنْهُ.
[4] زِيَادَة عَن أ، ط.
[5] الوشل: المَاء الْقَلِيل.
[6] الزِّنَا: لَهو مَعَ شغل قلب وبصر.(1/384)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرِ، حَتَّى نَزَلْتُ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، ثُمَّ لَحِقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرِ، فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
(ذَهَابُهُ إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ ليحرقه، وشعره فِي ذَلِك) :
ثُمَّ لَمْ أَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْعَثْنِي إلَى ذِي الْكَفَّيْنِ، صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ حَتَّى أُحْرِقَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ إلَيْهِ، فَجَعَلَ طُفَيْلٌ يُوقِدُ عَلَيْهِ النَّارَ وَيَقُولُ:
يَا ذَا الْكَفَّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا [1] ... مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا
إنِّي حَشَوْتُ النَّارَ فِي فُؤَادِكَا
(جِهَادُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ قَبْضِ الرَّسُولِ، ثُمَّ رُؤْيَاهُ وَمَقْتَلُهُ) :
قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ، خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ مَعَهُمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْ طُلَيْحَةَ، وَمِنْ أَرْضِ نَجْدٍ كُلِّهَا. ثُمَّ سَارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْيَمَامَةِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ الطُّفَيْلِ، فَرَأَى رُؤْيَا وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْيَمَامَةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا فَاعْبُرُوهَا لِي، رَأَيْتُ أَنَّ رَأْسِي حُلِقَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ، وَأَنَّهُ لَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ فَأَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا، وَأَرَى ابْنِي يَطْلُبُنِي حَثِيثًا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ حُبِسَ عَنِّي، قَالُوا: خَيْرًا، قَالَ: أَمَّا أَنَا وَاَللَّهِ فَقَدْ أَوَّلْتُهَا، قَالُوا: مَاذَا؟ قَالَ: أَمَّا حَلْقُ رَأْسِي فَوَضْعُهُ، وَأَمَّا الطَّائِرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ فَمِي فَرُوحِي، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي أَدَخَلَتْنِي فَرْجَهَا فَالْأَرْضُ تُحْفَرُ لِي، فَأُغَيَّبُ فِيهَا، وَأَمَّا طَلَبُ ابْنِي إيَّايَ ثُمَّ حَبْسُهُ عَنِّي، فَإِنِّي أُرَاهُ سَيَجْهَدُ أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَنِي. فَقُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ، وَجُرِحَ ابْنُهُ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ اسْتَبَلَّ [2] مِنْهَا، ثُمَّ قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهِيدًا.
__________
[1] قَالَ السهيليّ: قَوْله: «
يَا ذَا الْكَفَّيْنِ لست من عبادكا
» أَرَادَ: الْكَفَّيْنِ (بِالتَّشْدِيدِ) فَخفف للضَّرُورَة.
[2] استبل: أَفَاق وشفى.
25- سيرة ابْن هِشَام- 1(1/385)
أَمْرُ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
(شِعْرُهُ فِي مَدْحِ الرَّسُولِ عِنْدَ مَقْدَمِهِ عَلَيْهِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدِ السَّدُوسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ ابْن عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا ... وَبِتَّ كَمَا بَاتَ السَّلِيمُ مُسَهَّدَا [1]
وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا ... تَنَاسَيْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ صُحْبَةَ [2] مَهْدَدَا [3]
وَلَكِنْ أَرَى الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ خَائِنٌ ... إذَا أَصْلَحَتْ كَفَّايَ عَادَ فَأَفْسَدَا
كُهُولًا وَشُبَّانًا فَقَدْتُ وَثَرْوَةً ... فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهْرُ كَيْفَ تَرَدَّدَا
وَمَا زِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ ... وَلِيدًا وَكَهْلًا حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا [4]
وَأَبْتَذِلُ الْعِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَغْتَلِي ... مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النُّجَيْرِ فَصَرْخَدَا [5]
أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ ... فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا [6]
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ ... حَفِيٍّ عَنْ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا [7]
أَجَدَّتْ بِرِجْلَيْهَا النَّجَاءَ وَرَاجَعَتْ ... يَدَاهَا خِنَافًا لَيِّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا [8]
__________
[1] الأرمد: الّذي يشتكي عَيْنَيْهِ من الرمد. والسليم: الملدوغ. والمسهد: الّذي منع من النّوم.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول، وَشرح قصيدة الْأَعْشَى (المخطوط وَالْمَحْفُوظ بدار الْكتب المصرية برقم 1736 أدب) : «خلة» وَكَذَلِكَ فِي شرح للسيرة لأبى ذَر صفحة 110.
[3] مهدد: اسْم امْرَأَة، وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم، ووزنه: فعلل.
[4] اليافع: الّذي قَارب الِاحْتِلَام.
[5] العيس: الْإِبِل الْبيض تخالطها حمرَة. والمراقيل: من الإرقال، وَهُوَ السرعة فِي السّير. وتغتلى:
يزِيد بَعْضهَا على بعض فِي السّير. والنجير: مَوضِع فِي حَضرمَوْت من الْيمن. وصرخد: مَوضِع بالجزيرة.
[6] يممت: قصدت.
[7] أصعد: ذهب.
[8] النَّجَاء: السرعة. والخناف: أَن تلوي يَديهَا فِي السّير من النشاط. والأحرد: الّذي لَا ينبعث فِي الْمَشْي ويعتقل.(1/386)
وَفِيهَا إذَا مَا هَجَّرَتْ عَجْرَفِيَّةٌ ... إذَا خِلْتُ حِرْبَاءَ الظَّهِيرَةِ أَصْيَدَا [1]
وَآلَيْتُ لَا آوِي [2] لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ ... وَلَا مِنْ حَفًى [3] حَتَّى تُلَاقِي مُحَمَّدَا
مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ ... تُرَاحِي وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى [4]
نَبِيًّا يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ ... أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا [5]
لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبُّ وَنَائِلٌ ... وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا [6]
أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ ... نَبِيِّ الْإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
إذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادِ مَنْ الْتَقَى ... وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... فَتُرْصِدَ لِلْأَمْرِ [7] الَّذِي كَانَ أَرْصَدَا [8]
فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَقْرَبَنَّهَا ... وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتُفْصِدَا
وَذَا النُّصَبَ [9] الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ ... وَلَا تَعْبُدْ الْأَوْثَانَ وَاَللَّهَ فَاعْبُدَا [10]
__________
[1] هجرت: مشت فِي الهاجرة، وَهِي القائلة. والحرباء: دويبة أكبر من العظاءة يَدُور بِوَجْهِهِ مَعَ الشَّمْس حَيْثُ دارت. والأصيد: المائل الْعُنُق تكبرا أَو من دَاء أَصَابَهُ. وَلما كَانَ الحرباء يَدُور بِوَجْهِهِ مَعَ الشَّمْس كَيفَ دارت كَانَ فِي وسط السَّمَاء فِي أول الزَّوَال كالأصيد، وَذَلِكَ أحر مَا تكون الرمضاء.
يصف نَاقَته بالنشاط وَقُوَّة الْمَشْي فِي ذَلِك الْوَقْت.
[2] لَا آوى: لَا أشْفق وَلَا أرْحم. ويروى: لَا أرثى، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ.
[3] ويروى: «وجى» ، وَهُوَ بِمَعْنى الحفي.
[4] كَذَا فِي الْأُصُول. والندى: الْجُود. ويروى: «يدا» . وَالْيَد: النِّعْمَة.
[5] أغار: بلغ الْغَوْر، وَهُوَ مَا انخفض من الأَرْض. وأنجد: بلغ النجد، وَهُوَ مَا ارْتَفع من الأَرْض.
[6] أَي لَيْسَ الْعَطاء الّذي يُعْطِيهِ الْيَوْم مَانِعا لَهُ غَدا من أَن يُعْطِيهِ، فالهاء عَائِدَة على الممدوح، فَلَو كَانَت عَائِدَة على الْعَطاء لقَالَ:
وَلَيْسَ عَطاء الْيَوْم مانعه هُوَ،
بإبراز الضَّمِير الْفَاعِل، لِأَن الصّفة إِذا جرت على غير من هِيَ لَهُ برز الضَّمِير الْمُسْتَتر بِخِلَاف الْفِعْل. وَلَو «نصب الْعَطاء» لجَاز على إِضْمَار الْفِعْل الْمَتْرُوك إِظْهَاره، لِأَنَّهُ من بَاب اشْتِغَال الْفِعْل عَن الْمَفْعُول بضميره، وَيكون اسْم لَيْسَ على هَذَا مضمرا فِيهَا عَائِدًا على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[7] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «للْمَوْت» .
[8] أرصد: أعد.
[9] كَذَا فِي أ، ط، وَشرح قصيدة الْأَعْشَى. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وَلَا النصب» .
[10] وقف على النُّون الْخَفِيفَة بِالْألف هُنَا، وَفِي غير هَذَا من الْأَفْعَال الْآتِيَة، وَقد قيل إِنَّه لم يرد النُّون الْخَفِيفَة، وَإِنَّمَا خَاطب الْوَاحِد بخطاب الِاثْنَيْنِ.(1/387)
وَلَا تَقْرَبَنَّ حُرَّةً [1] كَانَ سِرُّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامًا فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا [2]
وَذَا الرَّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنَّهُ ... لِعَاقِبَةِ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا
وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّاتِ وَالضُّحَى ... وَلَا تَحْمَدْ الشَّيْطَانَ وَاَللَّهَ فَاحْمَدَا
وَلَا تَسْخَرًا مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ [3] ... وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدَا
(رُجُوعُهُ لَمَّا عَلِمَ بِتَحْرِيمِ الرَّسُولِ لِلْخَمْرِ، وَمَوْتُهُ) :
فَلَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاءَ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ:
يَا أَبَا بَصِيرٍ، إنَّهُ يُحَرِّمُ الزِّنَا، فَقَالَ الْأَعْشَى: وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَأَمْرٌ مَا لِي فِيهِ مِنْ أَرَبٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ، فَقَالَ الْأَعْشَى: أمّا هَذِه فو الله إنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا لَعُلَالَاتٍ، وَلَكِنِّي مُنْصَرِفٌ فَأَتَرَوَّى مِنْهَا عَامِي هَذَا، ثُمَّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ.
فَانْصَرَفَ فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعُدْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [4] .
(ذُلُّ أَبِي جَهْلٍ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ مَعَ عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُغْضِهِ إيَّاهُ، وَشِدَّتِهِ عَلَيْهِ، يُذِلُّهُ اللَّهُ لَهُ إذَا رَآهُ.
__________
[1] فِي ط: «جَارة» .
[2] السِّرّ: النِّكَاح. وتأبد: تعزب وَبعد عَن النِّسَاء.
[3] ذُو ضرارة: مُضْطَر. ويروى: ذُو ضَرُورَة. كَمَا يرْوى: ذُو ضراعة.
[4] قَالَ السهيليّ: «وَهَذِه غَفلَة من ابْن هِشَام وَمن قَالَ بقوله، فَإِن النَّاس مجمعون على أَن الْخمر لم ينزل تَحْرِيمهَا إِلَّا بِالْمَدِينَةِ بعد أَن مَضَت بدر وَأحد، وَحرمت فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَهِي من آخر مَا نزل.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من ذَلِك قصَّة حَمْزَة حِين شربهَا وغنته الْقَيْنَتَانِ. فَإِن صَحَّ خبر الْأَعْشَى، وَمَا ذكر لَهُ فِي الْخمر، فَلم يكن هَذَا بِمَكَّة، وَإِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَيكون الْقَائِل لَهُ: «أما علمت أَنه يحرم الْخمر» من الْمُنَافِقين أَو من الْيَهُود. وَفِي القصيدة مَا يدل على هَذَا، وَهُوَ قَوْله:
فَإِن لَهَا فِي أهل يثرب موعدا
وَقد ألفيت للقالى رِوَايَة عَن أَبى حَاتِم عَن أَبى عُبَيْدَة، قَالَ: لَقِي الْأَعْشَى عَامر بن الطُّفَيْل فِي بِلَاد قيس، وَهُوَ مقبل إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذكر لَهُ أَنه يحرم الْخمر فَرجع. فَهَذَا أولى بِالصَّوَابِ» .(1/388)
أَمْرُ الْإِرَاشِيِّ الَّذِي بَاعَ أَبَا جَهْلٍ إبِلَهُ
(مُمَاطَلَةُ أَبِي جَهْلٍ لَهُ، وَاسْتِنْجَادُهُ بِقُرَيْشِ، وَاسْتِخْفَافُهُمْ بِالرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ وَاعِيَةً، قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشٍ [1]- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: إرَاشَةَ [2]- بِإِبِلِ لَهُ مَكَّةَ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ، فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُؤَدِّينِي [3] عَلَى أَبِي [4] الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، فَإِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقِّي؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ: أَتَرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ الْجَالِسَ- لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَهْزَءُونَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ- اذْهَبْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيكَ عَلَيْهِ.
(إنْصَافُ الرَّسُولِ لَهُ مِنْ أَبِي جَهْلٍ) :
فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إنَّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ هِشَامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقٍّ لِي قِبَلَهُ، وَأَنَا (رَجُلٌ) [5] غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ سَأَلْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدِّينِي عَلَيْهِ، يَأْخُذُ لِي حَقِّي مِنْهُ، فَأَشَارُوا لِي إلَيْكَ، فَخُذْ لِي حَقِّي مِنْهُ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: انْطَلِقْ إلَيْهِ، وَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ. قَالُوا لِرَجُلِ مِمَّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ.
قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ.
__________
[1] إراش هُوَ ابْن الْغَوْث، أَو ابْن عَمْرو بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان بن سبإ، وَهُوَ وَالِد أَنْمَار الّذي ولد بجيلة وخثعم.
[2] قَالَ السهيليّ: «وإراشة، الّذي ذكر ابْن هِشَام: بطن من خثعم، وإراشة مَذْكُورَة فِي العماليق فِي نسب فِرْعَوْن صَاحب مصر، وَفِي بلَى أَيْضا بَنو إراشة» .
[3] يؤدينى: يُعِيننِي على أَخذ حَقي.
[4] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أَبَا» وَهُوَ تَحْرِيف.
[5] زِيَادَة عَن أ، ط.(1/389)
فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ إلَيَّ، فَخَرَجَ إلَيْهِ، وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ رَائِحَةٍ [1] ، قَدْ اُنْتُقِعَ [2] لَوْنُهُ، فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ، قَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُعْطِيَهُ الَّذِي لَهُ، قَالَ: فَدَخَلَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ. (قَالَ) [3] :
ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لِلْإِرَاشِيِّ: الْحَقْ بِشَأْنِكَ، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَاَللَّهِ أَخَذَ لِي حَقِّي.
(مَا رَوَاهُ أَبُو جَهْلٍ عَنْ سَبَبِ خَوْفِهِ مِنْ الرَّسُولِ) :
قَالَ: وَجَاءَ الرَّجُلُ الَّذِي بَعَثُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ! مَاذَا رَأَيْتُ؟ قَالَ:
عَجَبًا مِنْ الْعَجَبِ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ فَقَالَ لَهُ: أَعْطِ هَذَا حَقَّهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُخْرِجَ إلَيْهِ حَقَّهُ، فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ. قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَبُو جَهْلٍ أَنْ جَاءَ، فَقَالُوا (لَهُ) [3] وَيْلَكَ! مَا لَكَ؟ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْتُ قَطُّ! قَالَ: وَيْحَكُمْ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيَّ بَابِي، وَسَمِعْتُ صَوْتَهُ، فَمُلِئَتْ رُعْبًا، ثُمَّ خَرَجْتُ إلَيْهِ، وَإِنَّ فَوْقَ رَأْسِهِ لَفَحْلًا مِنْ الْإِبِلِ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ، وَلَا قَصَرَتِهِ [4] ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، وَاَللَّهِ لَوْ أَبَيْتُ لَأَكَلَنِي.
أَمْرُ رُكَانَةَ الْمُطَّلِبِيِّ وَمُصَارَعَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(غَلَبَةُ النَّبِيِّ لَهُ، وَآيَةُ الشَّجْرَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، قَالَ: كَانَ رُكَانَةُ [5]
__________
[1] أَي بَقِيَّة روح، فَكَأَن مَعْنَاهُ: روح بَاقِيَة، فَلذَلِك جَاءَ بِهِ على وزن فاعلة. وَالدَّلِيل على أَنه أَرَادَ معنى الرّوح، وَإِن جَاءَ بِهِ على بِنَاء فاعلة، مَا جَاءَ فِي آخر الحَدِيث: خرج إِلَى وَمَا عِنْده روحه. وَقيل يُرِيد:
مَا فِي وَجهه قَطْرَة من دم.
[2] انتقع لَونه: تغير. ويروى: امتقع، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] القصرة: أصل الْعُنُق.
[5] توفى ركَانَة فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، وَهُوَ الّذي طلق امْرَأَته الْبَتَّةَ، فَسَأَلَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/390)
ابْن عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَشَدَّ قُرَيْشٍ، فَخَلَا يَوْمًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رُكَانَةُ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوكَ إلَيْهِ؟ قَالَ: إنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَقُولُ حَقٌّ لَاتَّبَعْتُكَ، فَقَالَ (لَهُ) [1] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَرَأَيْتَ إنْ صَرَعْتُكَ، أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقُمْ حَتْي أُصَارِعَكَ. قَالَ:
فَقَامَ إلَيْهِ رُكَانَةُ يُصَارِعُهُ، فَلَمَّا بَطَشَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْجَعَهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: عُدْ يَا مُحَمَّدُ، فَعَادَ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ- يَا مُحَمَّدُ، وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا لَلْعَجْبُ، أَتَصْرَعُنِي! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إنْ شِئْتَ أَنْ أُرِيَكَهُ، إنْ اتَّقَيْتَ اللَّهَ وَاتَّبَعْتَ أَمْرِي، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ:
أَدْعُو لَكَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي تَرَى فَتَأْتِينِي، قَالَ: اُدْعُهَا، فَدَعَاهَا، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إلَى مَكَانِكَ. قَالَ: فَرَجَعَتْ إلَى مَكَانِهَا. قَالَ: فَذَهَبَ رُكَانَةُ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، سَاحِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أهل الأَرْض، فو الله مَا رَأَيْتُ أَسْحَرَ مِنْهُ قَطُّ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِاَلَّذِي رَأَى وَاَلَّذِي صَنَعَ.
أَمْرُ وَفْدِ النَّصَارَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا
(مُحَاوَلَةُ أَبِي جَهْلٍ رَدَّهَمُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْفَاقِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِمَكَّةَ، عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ النَّصَارَى، حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنْ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسُوا إلَيْهِ وَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ. فَلَمَّا سَمِعُوا
__________
[ () ] عَن نِيَّته. فَقَالَ: إِنَّمَا أردْت وَاحِدَة، فَردهَا عَلَيْهِ. وَمن حَدِيثه عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: «إِن لكل دين خلقا وَخلق هَذَا الدَّين الْحيَاء» . ولابنه يزِيد بن ركَانَة صُحْبَة أَيْضا.
[1] زِيَادَة عَن أ، ط.(1/391)
الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعَيْنُهُمْ مِنْ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا للَّه [1] ، وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ. فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ ابْن هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُمْ: خَيَّبَكُمْ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ. أَوْ كَمَا قَالُوا. فَقَالُوا لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا خَيْرًا [2] .
(مَوَاطِنُهُمْ وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ) :
وَيُقَالُ: إنَّ النَّفَرَ مِنْ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، فاللَّه أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
فَيُقَالُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ 28: 52- 53 ... إلَى قَوْلِهِ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ 28: 55.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِيمَنْ أُنْزِلْنَ فَقَالَ لِي: مَا أَسْمَعُ مِنْ عُلَمَائِنَا أَنَّهُنَّ أُنْزِلْنَ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ. وَالْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ 5: 82 ... إلَى قَوْلِهِ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ 5: 83.
(تَهَكُّمُ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَنُزُولُ آيَاتٍ فِي ذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ إلَيْهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ: خَبَّابٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو فَكِيهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُحَرِّثٍ، وَصُهَيْبٌ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، هَزِئَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ:: هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ كَمَا تَرَوْنَ، أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْهُدَى وَالْحَقِّ! لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بَهْ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إلَيْهِ،
__________
[1] فِي أ: «ثمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ» .
[2] أَي نقصرها عَن بُلُوغ الْخَيْر. يُقَال: مَا ألوت أَن أَفعلهُ كَذَا وَكَذَا أَي مَا قصرت.(1/392)
وَمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ دُونَنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا، فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 6: 52- 54
(ادِّعَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ بِتَعْلِيمِ جَبْرٍ لَهُ، وَمَا أَنَزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ) :
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إلَى مَبْيَعَةِ غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ، يُقَالُ لَهُ: جَبْرٌ، عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: وَاَللَّهِ مَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مِمَّا يَأْتِي بَهْ إلَّا جَبْرٌ النَّصْرَانِيُّ، غُلَامُ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ 16: 103.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُلْحِدُونَ إلَيْهِ: يَمِيلُونَ إلَيْهِ. وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ.
قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
إذَا تَبِعَ الضَّحَّاكَ كُلُّ مُلْحِدٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي الضَّحَّاكَ الْخَارِجِيَّ، وَهَذَا الْبَيْت فِي أُرْجُوزَةٌ لَهُ.
نُزُولُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ
(مَقَالَةُ الْعَاصِ فِي الرَّسُولِ، وَنُزُولُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ- فِيمَا بَلَغَنِي- إذَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: دَعُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ، لَوْ مَاتَ لَانْقَطَعَ ذِكْرُهُ وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ 108: 1 مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَالْكَوْثَرُ: الْعَظِيمُ.(1/393)
(صَاحِبَا مَلْحُوبٍ وَالرِّدَاعِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِلَابِيُّ:
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ [1] فُجِعْنَا بِيَوْمِهِ [2] ... وَعِنْدَ الرِّدَاعِ [3] بَيْتُ آخِرَ كَوْثَرِ
يَقُولُ: عَظِيمٌ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ: عَوْفُ بْنُ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، مَاتَ بِمَلْحُوبِ. وَقَوْلُهُ: «
وَعِنْدَ الرِّدَاعِ بَيْتُ آخِرَ كَوْثَرِ
» : يَعْنِي شُرَيْحَ بْنَ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ [4] ، مَاتَ بِالرِّدَاعِ.
وَكَوْثَرٌ: أَرَادَ: الْكَثِيرَ. وَلَفْظُهُ مُشْتَقٌّ مِنْ لَفْظِ الْكَثِيرِ. قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ... وَكَانَ أَبُوكَ ابْنُ الْعَقَائِلِ كَوْثَرَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي عَائِذٍ الْهُذَلِيُّ يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ:
يُحَامِي الْحَقِيقَ إذَا مَا احْتَدَمْنَ ... وحَمْحَمْنَ فِي كَوْثَرٍ كَالْجِلَالْ [5]
يَعْنِي بِالْكَوْثَرِ: الْغُبَارَ الْكَثِيرَ، شَبَّهَهُ لِكَثْرَتِهِ عَلَيْهِ بِالْجِلَالِ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
(سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَوْثَرِ مَا هُوَ؟ فَأَجَابَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو [6]
__________
[1] ملحوب: اسْم مَاء لبني أَسد بن خُزَيْمَة، وَقيل: قَرْيَة لبني عبد الله بن الدول بن حنيفَة بِالْيَمَامَةِ.
[2] فِي مُعْجم الْبلدَانِ عِنْد الْكَلَام على «ملحوب» و «رداع» : بِمَوْتِهِ. وَكَذَلِكَ فِي اللِّسَان.
[3] الرداع: مَاء لبني الْأَعْرَج بن كَعْب.
[4] ذهب ياقوت فِي مُعْجَمه عِنْد الْكَلَام على «الرداع» إِلَى أَن الّذي مَاتَ بالرداع هُوَ عَوْف.
[5] كَذَا ورد هَذَا الْبَيْت فِي لِسَان الْعَرَب (مَادَّة كثر) . والحقيق: حُرْمَة الْإِنْسَان وَمَا يحميه، وَيُرِيد بِهِ هُنَا أتانه. والجلال: جمع جلّ (بِالضَّمِّ وَالْفَتْح) ، وَهُوَ مَا تلبسه الدَّابَّة لتصان بِهِ. وَرِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي الأَصْل:
يحمى الْحقيق، إِذا مَا احتدمن ... حمحم فِي كوثر كالجلال
واحتدمن: أسر عَن الجرى فأكثرته.
[6] فِي الْأُصُول: «جَعْفَر بن جَعْفَر بن عَمْرو بن عَمْرو بن أُميَّة الضمريّ» وَالْمَعْرُوف أَن جَعْفَر بن عَمْرو الّذي يرْوى عَنهُ ابْن إِسْحَاق هُوَ هَذَا الّذي أَثْبَتْنَاهُ والّذي كَانَت وَفَاته سنة 96 هـ. وبعيد أَن يكون مَا ذهبت إِلَيْهِ الْأُصُول صَحِيحا، إِذْ لَو صَحَّ هَذَا لكَانَتْ وَفَاة جَعْفَر الّذي ذهبت إِلَيْهِ الْأُصُول فِي حُدُود سنة 200 أَي بعد وَفَاة ابْن إِسْحَاق، وَيظْهر أَن مَا زَاد فِي النّسَب جَاءَ مقحما من النساخ. (رَاجع الْأَنْسَاب للسمعاني والطبري وتهذيب التَّهْذِيب وتراجم رجال) .(1/394)
ابْن أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي مُحَمَّدِ (بْنِ مُسْلِمِ) [1] بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ؟ قَالَ: نَهْرٌ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إلَى أَيْلَةَ [2] ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، تَرِدُهُ طُيُورٌ لَهَا أَعْنَاقٌ كَأَعْنَاقِ الْإِبِلِ. قَالَ:
يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَنَاعِمَةٌ، قَالَ: آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ أَبَدًا.
نُزُولُ وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ 6: 8
(مَقَالَةُ زَمْعَةَ وَصَحْبِهِ، وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَكَلَّمَهُمْ فَأَبْلَغَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ (لَهُ) [3] زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ: لَوْ جُعِلَ مَعَكَ يَا مُحَمَّدُ مَلَكٌ يُحَدِّثُ عَنْكَ النَّاسَ وَيُرَى [4] مَعَكَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ 6: 8- 9.
نُزُولُ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ 6: 10
(مَقَالَةُ الْوَلِيدِ وَصَحْبِهِ، وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- بِالْوَلِيدِ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ، ط.
[2] أَيْلَة: هِيَ الْعقبَة الْآن.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «ويروى» .(1/395)
ابْن الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَبِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَهَمَزُوهُ [1] وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 6: 10
ذِكْرُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيِّ قَالَ:
ثُمَّ أُسْرِيَ [2] بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ إيلِيَاء [3] ، وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكَّةَ فِي قُرَيْشٍ، وَفِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَانَ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ مَسْرَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ (الْبَصْرِيِّ) ، وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأُمِّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، مَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كُلٌّ يُحَدِّثُ عَنْهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ، وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ، وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِ
__________
[1] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَغَمَزُوهُ وهمزوه ... إِلَخ» .
[2] قَالَ السهيليّ: «اتّفقت الروَاة على تَسْمِيَته إسراء وَلم يسمه أحد مِنْهُم «سرى» وَإِن كَانَ أهل اللُّغَة قد قَالُوا: سرى وَأسرى، بِمَعْنى وَاحِد، فَدلَّ على أَن أهل اللُّغَة لم يحققوا الْعبارَة، وَذَلِكَ أَن الْقُرَّاء لم يَخْتَلِفُوا فِي التِّلَاوَة من قَوْله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ 17: 1. وَلم يقل: سرى، وَقَالَ: اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ 89: 4.
وَلم يقل: «يسرى» فَدلَّ على أَن «السّري» من «سريت» إِذا سرت لَيْلًا وَهِي مُؤَنّثَة تَقول: طَالَتْ سراك اللَّيْلَة والاسراء مُتَعَدٍّ فِي الْمَعْنى، وَلَكِن حذف مَفْعُوله كثيرا حَتَّى ظن أهل اللُّغَة أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد لما رأوهما غير متعديين إِلَى مفعول فِي اللَّفْظ، وَإِنَّمَا «أَسْرى بِعَبْدِهِ 17: 1» : أَي جعل الْبراق يسرى كَمَا تَقول: أمضيته أَي جعلته يمضى. لَكِن كثر حذف الْمَفْعُول لقُوَّة الدّلَالَة عَلَيْهِ أَو للاستغناء عَن ذكره، إِذْ الْمَقْصُود بالْخبر ذكر مُحَمَّد لَا ذكر الدَّابَّة الَّتِي سَارَتْ بِهِ، وَجَاز فِي قصَّة لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُقَال لَهُ: «فَأسر بأهلك» أَي سر بهم، وَأَن يقْرَأ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ 11: 81 بِالْقطعِ، أَي فَأسر بهم مَا يتحملون عَلَيْهِ من دَابَّة أَو نَحْوهَا، وَلم يتَصَوَّر ذَلِك فِي السّري بالنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يجوز أَن يُقَال: «سرى بِعَبْدِهِ» بِوَجْه من الْوُجُوه، فَلذَلِك لم تأت التِّلَاوَة إِلَّا بِوَجْه وَاحِد فِي هَذِه الْقِصَّة» .
[3] إيلياء (بِكَسْر أَوله وَاللَّام وياء وَألف ممدودة) : مَدِينَة بَيت الْمُقَدّس.(1/396)
اللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) [1] فِي قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى يَقِينٍ، فَأَسْرَى بَهْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَيْفَ شَاءَ، لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ، حَتَّى عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَقُدْرَتِهِ الَّتِي يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ.
(رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ مَسْرَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ- يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُرَاقِ- وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، تَضَعُ حَافِرَهَا فِي مُنْتَهَى طَرْفِهَا- فَحُمِلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ، يَرَى الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى انْتَهَى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ. ثُمَّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيَةٍ، إنَاءٌ فِيهِ لَبَنٌ، وَإِنَاءٌ فِيهِ خَمْرٌ، وَإِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ. (قَالَ) [1] .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيَّ: إنْ أَخَذَ الْمَاءَ غَرِقَ وَغَرِقَتْ أُمَّتُهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْخَمْرَ غَوَى وَغَوَتْ أُمَّتُهُ، وَإِنْ أَخَذَ اللَّبَنَ هُدِيَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُهُ. قَالَ: فَأَخَذْتُ إنَاءَ اللَّبَنِ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ يَا مُحَمَّدُ.
(حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ مَسْرَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ، إذْ جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ إلَى مَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثَّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ إلَى مَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأَخَذَ بِعَضُدِي، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَخَرَجَ (بِي) [1] إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا دَابَّةٌ أَبْيَضُ، بَيْنَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، فِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِزُ [2] بِهِمَا رِجْلَيْهِ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مَعِي لَا يَفُوتُنِي وَلَا أَفُوتُهُ.
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] يحفز: يدْفع.(1/397)