منها التفسير في ألف جزء، والمسند في ألف وخمسمائة جزء، والتاريخ في مائة وخمسين جزءا، والزهد في مائة جزء توفى فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ رحمه الله.
الحافظ الدار قطنى
عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَهْدِيِّ بن مسعود بن دينار بن عبد الله الحافظ الكبير، أستاذ هذه الصناعة، وقبله بمدة وبعده إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وألف وأجاد وأفاد، وأحسن النظر والتعليل والانتقاد وَالِاعْتِقَادَ، وَكَانَ فَرِيدَ عَصْرِهِ، وَنَسِيجَ وَحْدِهِ، وَإِمَامَ دَهْرِهِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَصَنَاعَةِ التَّعْلِيلِ، وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيفِ، وَاتِّسَاعِ الرِّوَايَةِ، وَالِاطِّلَاعِ التام في الدراية، له كتابه الْمَشْهُورِ مِنْ أَحْسَنِ الْمُصَنَّفَاتِ فِي بَابِهِ، لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ وَلَا يُلْحَقُ فِي شَكْلِهِ إِلَّا مَنِ اسْتَمَدَّ مِنْ بَحْرِهِ وَعَمِلَ كَعَمَلِهِ، وَلَهُ كِتَابُ الْعِلَلِ بَيَّنَ فِيهِ الصَّوَابَ مِنَ الدخل، وَالْمُتَّصِلَ مِنَ الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَالْمُعْضَلِ، وَكِتَابُ الْأَفْرَادِ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْظِمَهُ، إِلَّا مَنْ هُوَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْأَفْرَادِ، وَالْأَئِمَّةِ النقاد، والجهابذة الْجِيَادِ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي هي كالعقود في الأجياد، وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر، والفهم الثاقب، والبحر الزاخر، جَلَسَ مَرَّةً فِي مَجْلِسِ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارِ وَهُوَ يملى على الناس الأحاديث، والدار قطنى يَنْسَخُ فِي جُزْءِ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ: إِنْ سَمَاعَكَ لَا يصح وأنت تنسخ، فقال الدار قطنى: فهمي للاملاء أحسن من فهمك وأحضر، ثم قال له ذلك الرجل: أنحفظ كم أملى حديثا؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَمْلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا إِلَى الآن، والحديث الْأَوَّلُ مِنْهَا عَنْ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ، ثُمَّ ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ الله النيسابوري: لم ير الدار قطنى مِثْلَ نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدِ اجْتَمَعَ له مع معرفة الحديث والعلم بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الإمامة وَالْعَدَالَةِ، وَصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يوم الثلاثاء السابع من ذي القعدة منها، وله من العمر سبع وَسَبْعُونَ سَنَةً وَيَوْمَانِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِمَقْبَرَةِ معروف الكرخي رحمه الله.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَأَكْرَمَهُ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ خنزابة وزير كافور الإخشيدي، وساعده هو الحافظ عبد الغنى على إكمال مسندة، وحصل قطنى منه مال جزيل. قال: والدار قطنى نِسْبَةٌ إِلَى دَارِ الْقُطْنِ وَهِيَ مَحَلَّةٌ كَبِيرَةٌ ببغداد، وقال عبد الغنى بن سعيد الضرير: لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى الْأَحَادِيثِ مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ فِي زَمَانِهِ، وَمُوسَى بْنِ هَارُونَ فِي زمانه، والدار قطنى في زمانه. وسئل الدار قطنى: هَلْ رَأَى مِثْلَ نَفْسِهِ؟ قَالَ: أَمَّا فِي فَنٍّ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا رَأَيْتُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ منى، وأما فيما اجتمع لي مِنَ الْفُنُونِ فَلَا. وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عن الأمير أبى نصر هبة الله بْنِ مَاكُولَا قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي أسأل عن حال أبى الحسن الدار قطنى وما آل أمره إليه في(11/317)
الْآخِرَةِ، فَقِيلَ لِي ذَاكَ يُدْعَى فِي الْجَنَّةِ الامام.
عَبَّادُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبَّادٍ
أَبُو الْحَسَنِ الطالقانيّ، والد الوزير إسماعيل بن عباد المتقدم ذكره، سَمِعَ أَبَا خَلِيفَةَ الْفَضْلَ بْنَ الْحُبَابِ وَغَيْرَهُ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْأَصْفَهَانِيِّينَ وَالرَّازِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابنه الوزير أبو الفضل الْقَاسِمِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَلِعَبَّادٍ هَذَا كِتَابٌ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ مَوْتُهُ وَمَوْتُ ابْنِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
عُقَيْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدَ
أَبُو الْحَسَنِ الْأَحْنَفُ الْعُكْبَرِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ دِيوَانٌ مفرد، ومن مستجاد شعره ما ذكره ابن الجوزي في منتظمه قَوْلُهُ:
أَقْضَى عَلَيَّ مِنَ الْأَجَلْ ... عَذْلُ الْعَذُولِ إذا عذل
وأشد من عذل العذول ... صُدُودُ إِلْفٍ قَدْ وَصَلْ
وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا وذا ... طلب النوال من السفل
وقوله
من أراد العز والراحة ... من هم طويل
فليكن فردا في الناس ... ويرضى بالقليل
ويرى أن سيرى ... كافيا عما قليل
ويرى بالحزم أن الحزم ... في ترك الفضول
ويداوي مرض الوحدة ... بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ
لَا يُمَارِي أَحَدًا مَا ... عَاشَ في قال وقيل
يلزم الصمت فان الصمت ... تهذيب العقول
يذر الكبر لأهل الكبر ... ويرضى بالخمول
أي عيش لامرئ ... يصبح فِي حَالٍ ذَلِيلِ
بَيْنَ قَصْدٍ مِنْ عَدُوٍّ ... ومداراة جهول
واعتلال من صديق ... وتجنى من ملول
واحتراس من ظنون السوء ... مع عذل العذول
ومقاسات بغيض ... ومداناة ثقيل
أف من معرفة الناس ... على كل سبيل
وتمام الأمر لا يعرف ... سمحا من بخيل
فإذا أكمل هذا كان ... في ظل ظليل
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُكَّرَةَ
أَبُو الحسين الهاشمي، من ولد على بن المهدي، كان شاعرا خَلِيعًا ظَرِيفًا، وَكَانَ يَنُوبُ فِي نِقَابَةِ الْهَاشِمِيِّينَ. فَتَرَافَعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ اسْمُهُ عَلَيٌّ وَامْرَأَةٌ اسْمُهَا عَائِشَةُ يَتَحَاكَمَانِ فِي جَمَلٍ فَقَالَ هَذِهِ قَضِيَّةٌ لَا أَحْكُمُ فِيهَا بِشَيْءٍ لِئَلَّا يَعُودَ الْحَالُ خُدْعَةً. وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ وَلَطِيفِ قَوْلِهِ:
فِي وَجْهِ إَنْسَانَةٍ كَلِفْتُ بِهَا ... أَرْبَعَةٌ مَا اجْتَمَعْنَ فِي أَحَدِ
الْوَجْهُ بَدْرٌ، وَالصُّدْغُ غَالِيَةٌ ... وَالرِّيقُ خمر، والثغر من برد
وله في قوله وقد دخل حماما فسرق نعليه فَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ حَافِيًا فَقَالَ:
إِلَيْكَ أَذُمُّ حَمَّامَ ابْنِ مُوسَى ... وَإِنْ فَاقَ الْمُنَى طِيبًا وحرا(11/318)
تَكَاثَرَتِ اللُّصُوصُ عَلَيْهِ حَتَّى ... لَيَحْفَى مَنْ يُطِيفُ بِهِ وَيَعْرَى
وَلَمْ أَفْقِدْ بِهِ ثَوْبًا وَلَكِنْ ... دَخَلْتُ مُحَمَّدًا وَخَرَجْتُ بِشْرًا
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ
أَبُو الْفَتْحِ الْقَوَّاسُ، سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنَ صَاعِدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الخلال والعشاري والبغدادي والتنوخي وغيرهم، وكان ثقة ثبتا، يعد من الأبدال. قال الدار قطنى: كنا نتبرك به وهو صغير. توفى لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
يُوسُفُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ
السِّيرَافِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ النَّحْوِيِّ، وَهُوَ الَّذِي تَمَّمَ شَرْحَ أَبِيهِ لِكِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَكَانَ يَرْجِعُ إِلَى عِلْمٍ وَدِينٍ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَنْ خَمْسٍ وخمسين سنة.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة
في محرمها كَشَفَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ قَبْرٍ عَتِيقٍ فَإِذَا هُمْ بِمَيِّتٍ طَرِيٍّ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ وَسَيْفُهُ، فَظَنُّوهُ الزبير ابن الْعَوَّامِ، فَأَخْرَجُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ وَاتَّخَذُوا عِنْدَ قَبْرِهِ مسجدا، ووقف عَلَيْهِ أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ، وَجُعِلَ عِنْدَهُ خُدَّامٌ وَقُوَّامٌ وَفُرُشٌ وَتَنْوِيرٌ. وَفِيهَا مَلَكَ الْحَاكِمُ الْعُبَيْدِيُّ بِلَادَ مصر بعد أبيه الْعَزِيزُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقَامَ بتدبير المملكة أرجوان الخادم، وأمير الدولة الحسن بن عمارة، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ قَتَلَهُمَا وَأَقَامَ غَيْرَهُمَا، ثُمَّ قَتَلَ خَلْقًا حَتَّى اسْتَقَامَ لَهُ الْأَمْرُ عَلَى ما سنذكره. وحج بالناس الْأَمِيرُ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْخُطْبَةُ لَهُمْ.
وفيها توفى من الأعيان
أحمد بن إبراهيم
ابن محمد بن يحيى بن سحنويه أبو حامد بن إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي النَّيْسَابُورِيُّ، سَمِعَ الْأَصَمَّ وَطَبَقَتَهُ وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ مِنْ صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ، وَصَامَ فِي عُمُرِهِ سَرْدًا تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَكْتُبْ عَلَيْهِ خطيئة، توفى في شعبان منها عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ
صَاحِبُ قُوتِ الْقُلُوبِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَطِيَّةَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ الْوَاعِظُ الْمُذَكِّرُ، الزَّاهِدُ الْمُتَعَبِّدُ، الرَّجُلُ الصَّالِحُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ. قَالَ الْعَتِيقِيُّ: كَانَ رَجُلًا صَالِحًا مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ وَصَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ قُوتَ الْقُلُوبِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ لَا أَصْلَ لَهَا، وكان يعظ الناس في جامع بغداد، وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْجَبَلِ، وَأَنَّهُ نَشَأَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُ دَخَلَ الْبَصْرَةَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ، فَانْتَمَى إِلَى مَقَالَتِهِ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسُ الْوَعْظِ بِهَا، فَغَلِطَ فِي كَلَامٍ وَحُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ أَضَرُّ مِنَ الْخَالِقِ، فَبَدَّعَهُ النَّاسُ وَهَجَرُوهُ، وَامْتَنَعَ من الكلام(11/319)
عَلَى النَّاسِ: وَقَدْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا يبيح السماع، فدعا عليه عبد الصمد بن على ودخل عليه فَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْشَدَ أَبُو طَالِبٍ:
فَيَا ليل كم فيك من متعب ... وَيَا صُبْحُ لَيْتَكَ لَمْ تَقْرَبِ
فَخَرَجَ عَبْدُ الصمد مغضبا. وقال أبو القاسم بن سرات: دَخَلْتُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَهُوَ يموت فقلت له: أوص، فَقَالَ: إِذَا خُتِمَ لِي بِخَيْرٍ فَانْثُرْ عَلَى جنازتي لوزا وسكرا فقلت: كيف أعلم بذلك؟ فَقَالَ: اجْلِسْ عِنْدِي وَيَدُكَ فِي يَدِي، فَإِنْ قَبَضْتُ عَلَى يَدِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ خُتِمَ لي بخير. قال ففعلت فَلَمَّا حَانَ فِرَاقُهُ قَبَضَ عَلَى يَدِيَ قَبْضًا شَدِيدًا، فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى جِنَازَتِهِ نَثَرْتُ اللَّوْزَ وَالسُّكَّرَ عَلَى نَعْشِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: تُوُفِّيَ في جمادى الآخرة منها وقبره ظاهر في جامع الرصافة.
العزيز صاحب مصر
نزار بن المعز سعد أبى تميم، ويكنى نزار بأبي منصور، ويلقب بالعزيز، توفى عن اثنين وأربعين سنة منها، وكانت ولايته بعد أبيه إحدى وعشرين سَنَةً، وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ من بعده ولده الحاكم قبحه الله، والحاكم هذا هو الّذي ينسب إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ الْمُضِلَّةُ الزَّنَادِقَةُ الْحَاكِمِيَّةُ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ أَهْلُ وَادِي التِّيمَ مِنَ الدَّرْزِيَّةِ أَتْبَاعِ هستكر غُلَامِ الْحَاكِمِ الَّذِي بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الكفر المحض فأجابوه، لعنه الله وإياهم أجمعين، أَمَّا الْعَزِيزُ هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَوْزَرَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا يُقَالُ لَهُ عِيسَى بْنُ نِسْطُورِسَ، وَآخَرَ يَهُودِيًّا اسْمُهُ مِيشَا، فَعَزَّ بِسَبَبِهِمَا أَهْلُ هذين الْمِلَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى كَتَبَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ قِصَّةً فِي حَاجَةٍ لَهَا تَقُولُ فِيهَا: بِالَّذِي أَعَزَّ النَّصَارَى بِعِيسَى بْنِ نسطورس، واليهود بميشا وأذل المسلمين بهما لما كَشَفَتْ ظُلَامَتِي. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى هذين الرجلين وأخذ من النصارى ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ عَضُدِ الدولة امرأة الطائع فَحُمِلَتْ تَرِكَتُهَا إِلَى ابْنِ أَخِيهَا بِهَاءِ الدَّوْلَةِ، وكان فيها جوهر كثير وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
فِيهَا تُوُفِّيَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن ركن الدولة بن بويه، وأقيم ولده رستم في الملك مكانه، وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقَامَ خَوَاصُّ أَبِيهِ بتدبير الملك في الرعايا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو أَحْمَدَ العسكري اللغوي.
الحسن بن عبيد الله
ابن سعيد بن أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ اللُّغَوِيُّ، الْعَلَّامَةُ فِي فَنِّهِ وَتَصَانِيفِهِ، الْمُفِيدُ فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا، يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يميل إلى الاعتزال، وَلَمَّا قَدِمَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ هُوَ وَفَخْرُ الدَّوْلَةِ الْبَلْدَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَبُو أَحْمَدَ العسكري- وكان قد كبر وأسن- بعث إليه الصاحب رقعة فِيهَا هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:(11/320)
وَلَمَّا أَبَيْتُمْ أَنْ تَزُورُوا وَقُلْتُمُ ... ضَعُفْنَا فَمَا نقوى على الوحدان
أتيناكم من بعد أرض تزوركم ... فَكَمْ مِنْ مَنْزِلٍ بِكْرٍ لَنَا وَعَوَانِ
نُنَاشِدْكُمُ هَلْ مِنْ قِرًى لِنَزِيلِكُمْ ... بَطُولِ جِوَارٍ لَا يمل جفان
تضمنت بنت ابن الرشيد كَأَنَّمَا ... تَعَمَّدَ تَشْبِيهِي بِهِ وَعَنَانِي
أَهُمُّ بِأَمْرِ الحزم لا أَسْتَطِيعُهُ ... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ وَالنَّزَوَانِ
ثُمَّ ركب بغلته تحاملا وَصَارَ إِلَى الصَّاحِبِ فَوَجَدَهُ مَشْغُولًا فِي خَيْمَتِهِ بِأُبَّهَةِ الْوِزَارَةِ فَصَعِدَ أَكَمَةً ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صوته:
مَا لِي أَرَى الْقُبَّةَ الْفَيْحَاءَ مُقْفَلَةً ... دُونِي وَقَدْ طَالَ مَا اسْتَفْتَحْتُ مُقْفَلَهَا
كَأَنَّهَا جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مُعْرِضَةً ... وَلَيْسَ لِي عَمَلٌ زَاكٍ فَأَدْخُلُهَا
فَلَمَّا سَمِعَ الصَّاحِبُ صَوْتَهُ نَادَاهُ: ادْخُلْهَا يَا أَبَا أَحْمَدَ فَلَكَ السَّابِقَةُ الْأُولَى، فَلَمَّا صَارَ إليه أحسن إليه. توفى في يوم التروية منها. قال ابن خلكان: وكانت ولادته يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاثة وتسعين ومائتين، وتوفى يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
ابن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ مهران، أبو القاسم الشاعر الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الثَّلَّاجِ، لِأَنَّ جَدَّهُ أَهْدَى لِبَعْضِ الْخُلَفَاءِ ثَلْجًا، فَوَقَعَ مِنْهُ مَوْقِعًا، فَعُرِفَ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ بِالثَّلَّاجِ، وَقَدْ سَمِعَ أَبُو الْقَاسِمِ هَذَا من البغوي وابن صاعد وأبى داود، وحدث عن التنوخي والأزهري والعقيقي وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحُفَّاظِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدِ اتهمه المحدثون منهم الدار قطنى وَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُرَكِّبُ الْإِسْنَادَ وَيَضَعُ الحديث على الرجال. توفى فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَجْأَةً.
ابْنُ زُولَاقٍ
الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ على بن خلد بن راشد بن عبيد اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ زُولَاقٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ الْحَافِظُ، صَنَّفَ كِتَابًا فِي قُضَاةِ مِصْرَ ذيل به كِتَابِ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يعقوب الْكِنْدِيُّ، إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَذَيَّلَ ابْنُ زُولَاقٍ مِنَ الْقَاضِي بَكَّارٍ إِلَى سَنَةِ ست وثمانين وثلاثمائة، وهي أيام محمد بن النعمان قاضى الفاطميين، الّذي صنف البلاغ الّذي انتصب فيه للرد على القاضي الباقلاني، وهو أخو عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ النُّعْمَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ وفاته فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً.
ابن بطة عبيد الله بن محمد
ابن حمران، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُكْبَرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَطَّةَ، أحد علماء الحنابلة، وله التصانيف(11/321)
الكثيرة الحافلة في فنون من العلوم، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَخَلْقٍ فِي أَقَالِيمَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، مِنْهُمْ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ، وَالْأَزَجِيُّ وَالْبَرْمَكِيُّ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وينهى عن المنكر، وقد رأى بعضهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِ اخْتَلَفَتْ عَلَيَّ الْمَذَاهِبُ. فقال: عليك بأبي عبد الله ابن بَطَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ إِلَيْهِ لِيُبَشِّرَهُ بِالْمَنَامِ فَحِينَ رَآهُ ابْنُ بَطَّةَ تَبَسَّمَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ- قَبْلَ أَنْ يُخَاطِبَهُ- صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَقَدْ تَصَدَّى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ لِلْكَلَامِ فِي ابْنِ بَطَّةَ والطعن عليه وفيه بسبب بعض الجرح في ابن بطة الّذي أسنده إِلَى شَيْخِهِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَسَدِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ بُرْهَانَ اللُّغَوِيِّ، فَانْتُدِبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِلرَّدِّ عَلَى الْخَطِيبِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ أَيْضًا بِسَبَبِ بَعْضِ مَشَايِخِهِ وَالِانْتِصَارِ لِابْنِ بَطَّةَ، فَحَكَى عَنْ أبى ألوفا بْنِ عَقِيلٍ أَنَّ ابْنَ بُرْهَانَ كَانَ يَرَى مَذْهَبَ مُرْجِئَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، فِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يخلدون في النار، وإنما قالوا ذلك لأن دوام ذلك إنما هو للتشفي ولا مَعْنَى لَهُ هُنَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَصَفَ نفسه بأنه غفور رحيم، وأنه أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ عَقِيلٍ يَرُدُّ عَلَى ابْنِ بُرْهَانَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَكَيْفَ يقبل الجرح مِنْ مِثْلِ هَذَا!؟. ثُمَّ رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ بَطَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْمُعْجَمَ مِنَ الْبَغَوِيِّ، قَالَ: وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. قَالَ الْخَطِيبُ:
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ بُرْهَانَ قال: ثنا محمد بن أبى الفوارس روى عن ابْنُ بَطَّةَ عَنِ الْبَغَوِيِّ عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ عن مالك بن الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَالْحَمْلُ فِيهِ عَلَى ابْنِ بطة. قال ابن الجوزي:
والجواب عن هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وُجِدَ بِخَطِّ ابن برهان: ما حكاه الخطيب في القدح في ابن بطة وَهُوَ شَيْخِي أَخَذْتُ عَنْهُ الْعِلْمَ فِي الْبِدَايَةِ، الثَّانِي أَنَّ ابْنَ بُرْهَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَدْحُ فِيهِ بِمَا خَالَفَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، فَكَيْفَ قَبِلْتَ الْقَوْلَ فِي رَجُلٍ قَدْ حَكَيْتَ عَنْ مَشَايِخِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مُجَابُ الدَّعْوَةِ، نَعُوذُ باللَّه مِنَ الْهَوَى
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بن مدرك
أبو الحسن البردعي، رَوَى عَنْ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ المال فترك الدنيا وأقبل على الآخرة، فاعتكف في المسجد، وكان كثير الصلاة والعبادة.
فخر الدولة بن بويه
على بن ركن الدولة أبى على الحسن بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ، مَلِكُ بِلَادِ الرَّيِّ وَنَوَاحِيهَا، وحين مات أخوه مؤيد الدولة كتب إليه الوزير ابن عباد بالإسراع إليه فولاه الملك بعده، وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ عَبَّادٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. تُوُفِّيَ عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، مِنْهَا مُدَّةَ مُلْكِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةُ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، مِنَ الذَّهَبِ مَا يُقَارِبُ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دينار،(11/322)
وَمِنَ الْجَوَاهِرِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ قطعة، يقارب قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار ذهبا. وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ زِنَتُهُ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْفِضَّةِ زِنَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ألف درهم، كلها آنية، وَمِنَ الثِّيَابِ ثَلَاثَةُ آلَافِ حِمْلٍ، وَخِزَانَةُ السِّلَاحِ ألف حِمْلٍ، وَمِنَ الْفُرُشِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ حِمْلٍ، وَمِنَ الأمتعة مما يليق بالملوك شيئا كثيرا لا يحصر، ومع هذا لم يصلوا ليلة موته إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ كفن إلا ثوب مِنَ الْمُجَاوِرِينَ فِي الْمَسْجِدِ، وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ بِالْمُلْكِ حَتَّى تَمَّ لِوَلَدِهِ رُسْتُمَ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَنْتَنَ الْمَلِكُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فربطوه في حبال وجروه على درج القلمة من نتن ريحه، فتقطع، جزاء وفاقا.
ابْنُ سَمْعُونَ الْوَاعِظُ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونَ الْوَاعِظُ، أَحَدُ الصلحاء والعلماء، كان يُقَالُ لَهُ النَّاطِقُ بِالْحِكْمَةِ، رَوَى عَنْ أَبِي بكر بن دَاوُدَ وَطَبَقَتِهِ، وَكَانَ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْوَعْظِ وَالتَّدْقِيقِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ ومكاشفات، كان يوما يعظ عَلَى الْمِنْبَرِ وَتَحْتَهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْقَوَّاسِ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَشْهُورِينَ، فَنَعَسَ ابْنُ الْقَوَّاسِ فَأَمْسَكَ ابْنُ سَمْعُونَ عَنِ الْوَعْظِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَحِينَ اسْتَيْقَظَ قَالَ ابْنُ سَمْعُونَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِكَ هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ! قَالَ فَلِهَذَا أَمْسَكْتُ عَنِ الْوَعْظِ حَتَّى لَا أُزْعِجَكَ عَمَّا كُنْتَ فِيهِ. وَكَانَ لِرَجُلٍ ابْنَةٌ مَرِيضَةٌ مُدْنِفَةٌ فَرَأَى أَبُوهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ سمعون ليأتى منزلك فيدعو لابنتك تبرأ باذن الله. فلما أصبح ذهب إليه فلما رآه نهض ولبس ثيابه وخرج مع الرجل، فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى مَجْلِسِ وَعْظِهِ، فقال في نفسه أَقُولُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا مَرَّ بدار الرجل دخل إليها فَأَحْضَرَ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ فَدَعَا لَهَا وَانْصَرَفَ، فَبَرِأَتْ مِنْ سَاعَتِهَا. وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ للَّه من أحضره إليه وهو مغضب عليه، فَخِيفَ عَلَى ابْنِ سَمْعُونَ مِنْهُ فَلَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَذَ فِي الْوَعْظِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَا أَوْرَدَهُ مِنْ كَلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب، فبكى الخليفة حتى سمع نشيجه، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَهُوَ مُكْرَمٌ، فَقِيلَ لِلْخَلِيفَةِ: رَأَيْنَاكَ طَلَبْتَهُ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَقَالَ: بلغني أنه ينتقص عَلِيًّا فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَاقِبَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ أَكْثَرَ من ذكر على فعلمت أنه موفق، فذكرني وشفى ما كَانَ فِي خَاطِرِي عَلَيْهِ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جانبه عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَلَيْسَ مِنْ أمتى الأحبار أليس من أمتى أصحاب الصوامع. فبينا هو يقول ذلك إِذْ دَخَلَ ابْنُ سَمْعُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعيسى عليه السلام: أفي أمتك مثل هذا؟ فسكت عيسى. ولد ابْنِ سَمْعُونَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثم أخرج بعد سنتين إلى مقبرة أحمد بن حنبل وأكفانه لم تبل رحمه الله.
آخر ملوك السامانية نوح بن منصور
ابن نُوحِ بْنِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو الْقَاسِمِ السَّامَانِيُّ، مَلِكُ خُرَاسَانَ وَغَزْنَةَ وَمَا وراء(11/323)
النهر، ولى الملك وعمره ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاسْتَمَرَّ فِي الْمُلْكِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَيْهِ خواصه وأجلسوا مكانه أخاه عبد الملك، فَقَصَدَهُمْ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ فَانْتَزَعَ الْمُلْكَ مِنْ أيديهم، وقد كان لهم الملك مائة وستين سنة، فباد ملكهم في هذا العام، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد.
أبو الطيب سهل بن محمد
ابن سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الصُّعْلُوكِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ إِمَامُ أَهْلِ نَيْسَابُورَ، وَشَيْخُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، كان يحضر مجلسه خَمْسِمِائَةِ مَحْبَرَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ في الإرشاد: مات في سنة ستين وأربعمائة فاللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قال ابن الجوزي: في ذي الحجة منها سقط في بغداد برد عظيم، بِحَيْثُ جَمَّدَ الْمَاءَ فِي الْحَمَّامَاتِ، وَبَوْلِ الدَّوَابِّ فِي الطُّرُقَاتِ. وَفِيهَا جَاءَتْ رُسُلُ أَبِي طَالِبٍ بن فخر الدولة في البيعة له فبايعه الخليفة وأمّره على بلاد الري ولقبه مجد الدولة كهف الأمة، وبعث إليه بالخلع والألوية، وكذلك فعل ببدر ابن حَسْنَوَيْهِ وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصدقات. وفيها هرب أبو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْوَثَّابِ، الْمُنْتَسِبُ إِلَى جَدِّهِ الطَّائِعِ، مِنَ السِّجْنِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى الْبَطِيحَةِ، فَآوَاهُ صَاحِبُهَا مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ، ثم أرسل القادر باللَّه في أمره فَجِيءَ بِهِ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فَاعْتَقَلَهُ، ثُمَّ هَرَبَ مِنَ الِاعْتِقَالِ أَيْضًا فَذَهَبَ إِلَى بِلَادِ كِيلَانَ فَادَّعَى أَنَّهُ الطَّائِعُ للَّه، فَصَدَّقُوهُ وَبَايَعُوهُ وَأَدُّوا إِلَيْهِ الْعُشْرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَجِيءُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ فَسَأَلُوا عَنِ الْأَمْرِ فَإِذَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَا حَقِيقَةٌ، فَرَجَعُوا عَنْهُ وَاضْمَحَلَّ أَمْرُهُ وَفَسَدَ حَالُهُ، فَانْهَزَمَ عنهم. وحج بالناس فيها أَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ لِلْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ قَبَّحَهُ الله.
وممن توفى فيها من الأعيان
الخطابي
أَبُو سُلَيْمَانَ حَمْدُ وَيُقَالُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيُّ، أَحَدُ المشاهير الأعيان، والفقهاء المجتهدين المكثرين، له من المصنفات معالم السنن وشرح البخاري، وغير ذلك. وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ.
مَا دُمْتَ يا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُ ... فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ الْمُدَارَاةِ
مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سوف يرى ... عما قليل نديما للندامات
توفى بِمَدِينَةِ بُسْتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بكر بن عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْرَفِيُّ الْحَافِظُ الْمُطَبِّقُ سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارَ وَابْنَ السَّمَّاكِ(11/324)
والنجاد والخلدى وأبا بكر الشاشي. وَعَنْهُ ابْنُ شَاهِينَ وَالْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَجْزَاءٌ كِبَارٌ فَجَعَلَ إِذَا سَاقَ إِسْنَادًا أَوْرَدَ مَتْنَهُ مِنْ حفظه وإذا سرد متنا ساق إسناده من حفظه. قَالَ: وَفَعَلْتُ هَذَا مَعَهُ مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يُورِدُ الْحَدِيثَ إِسْنَادًا وَمَتْنًا كَمَا فِي كِتَابِهِ.
قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً فَحَسَدُوهُ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ. وَحَكَى الْخَطِيبُ أَنَّ ابْنَ أَبِي الْفَوَارِسِ اتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي سَمَاعِ الشُّيُوخِ، وَيُلْحِقُ رِجَالًا فِي الأحاديث ويصل المقاطيع. توفى في ربيع الأول منها عن إحدى وسبعين سنة.
صمصامة الدولة
ابن عَضُدِ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ بِلَادِ فَارِسَ، خَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو نَصْرِ بْنُ بَخْتِيَارَ فَهَرَبَ منه ونجا في جماعة من الأكراد، فلما وغلوا به أخذوا ما في خَزَائِنَهُ وَحَوَاصِلَهُ، وَلَحِقَهُ أَصْحَابُ ابْنِ بَخْتِيَارَ فَقَتَلُوهُ وحملوا رأسه إليه، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ بَخْتِيَارَ قَالَ: هَذِهِ سُنَّةٌ سَنَّهَا أَبُوكَ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ قُتِلَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ وَأَشْهَرٌ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يوسف الحطان
أَبُو الْقَاسِمِ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ وَزَرَ لِابْنِهِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يقول الشعر. توفى في شعبان منها
محمد بن أحمد
ابن إبراهيم أبو الفتح الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ الشَّنَبُوذِيِّ، كَانَ عَالِمًا بِالْقِرَاءَاتِ وَتَفْسِيرِهَا، يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ خَمْسِينَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ، شَوَاهِدَ لِلْقُرْآنِ، وَمَعَ هَذَا تَكَلَّمُوا في روايته عن أبى الحسين بن شنبوذ وأساء الدار قطنى القول فيه. توفى في صفر منها، وولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة
فيها قَصَدَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ خُرَاسَانَ فَاسْتَلَبَ مُلْكَهَا مِنْ أَيْدِي السَّامَانِيَّةِ، وَوَاقَعَهُمْ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا قَبْلَهَا، حَتَّى أَزَالَ اسْمَهُمْ وَرَسْمَهُمْ عَنِ الْبِلَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَانْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ بالكلية، ثم صمد لقتال مَلِكُ التُّرْكِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ موت الخاقان الْكَبِيرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فَائِقٌ، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ فَارِسٍ وَخُوزِسْتَانَ، وَفِيهَا أَرَادَتِ الشِّيعَةُ أن يصنعوا مَا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ مِنَ الزِّينَةِ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ، فَقَاتَلَهُمْ جَهَلَةٌ آخَرُونَ مِنَ المنتسبين إلى السنة فَادَّعَوْا أَنَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ حُصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْغَارِ فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ في أوائل رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ أَوَّلِ سِنِي الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُمَا أَقَامَا فِيهِ ثَلَاثًا، وَحِينَ خَرَجَا مِنْهُ قَصَدَا الْمَدِينَةَ فَدَخَلَاهَا بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ أَوْ نَحْوِهَا، وكان دخولها الْمَدِينَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الأول، وهذا أمر معلوم مقرر محرر. وَلَمَّا كَانَتِ الشِّيعَةُ يَصْنَعُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مأتما يظهرون فيه الحزن على الحسين(11/325)
ابن عَلِيٍّ، قَابَلَتْهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ جَهَلَةِ أَهْلِ السنة فادعوا أن في اليوم الثاني عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَعَمِلُوا لَهُ مَأْتَمًا كَمَا تَعْمَلُ الشِّيعَةُ لِلْحُسَيْنِ، وزاروا قبره كما زاروا قَبْرُ الْحُسَيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْبِدْعَةِ بِبِدْعَةٍ مِثْلِهَا، وَلَا يَرْفَعُ الْبِدْعَةَ إِلَّا السُّنَّةُ الصحيحة. وَفِيهَا وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مَعَ غَيْمٍ مُطْبِقٍ، وريح قوية، بِحَيْثُ أَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ بِبَغْدَادَ، فَلَمْ يَتَرَاجَعْ حَمْلُهَا إِلَى عَادَتِهَا إِلَّا بَعْدَ سنتين. وفيها حج بِرَكْبِ الْعِرَاقِ الشَّرِيفَانِ الرَّضِيُّ وَالْمُرْتَضِي فَاعْتَقَلَهُمَا أَمِيرُ الأعراب ابن الجراح فافتديا أنفسهما مِنْهُ بِتِسْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ مِنْ أَمْوَالِهِمَا فَأَطْلَقَهُمَا.
وممن توفى فيها من الأعيان
زاهد بن عبد الله
ابن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى السَّرَخْسِيُّ الْمُقْرِئُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ، شَيْخُ عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ، قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ، وَتَفَقَّهَ بِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِمَامِ الشافعية، وأخذ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَالنَّحْوِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الأنباري. توفى فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق
ابن سليمان بن مخلد بن إبراهيم بن مروز أَبُو الْقَاسِمِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ حَبَابَةَ، رَوَى عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَطَبَقَتِهِمَا، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا مُسْنِدًا، وُلِدَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ تسع وتسعين ومائتين، ومات فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الأسفراييني شيخ الشافعية، ودفن في مقابر جامع المنصور.
ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة من الهجرة النبويّة
فيها ظَهَرَ بِأَرْضِ سِجِسْتَانَ مَعْدِنٌ مِنْ ذَهَبٍ كَانُوا يَحْفِرُونَ فِيهِ مِثْلَ الْآبَارِ، وَيُخْرِجُونَ مِنْهُ ذَهَبًا أَحْمَرَ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ بَخْتِيَارَ صَاحِبُ بِلَادِ فَارِسٍ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا بَهَاءُ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا قَلَّدَ الْقَادِرُ باللَّه الْقَضَاءَ بِوَاسِطٍ وأعمالها أبا حازم مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيِّ، وَقُرِئَ عَهْدُهُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَكَتَبَ لَهُ الْقَادِرُ وَصِيَّةً حَسَنَةً طَوِيلَةً أوردها ابن الجوزي في منتظمه، وفيها مواعظ وأوامر ونواهى حسنة جيدة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد
ابن أَبِي مُوسَى أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ الْقَاضِي بِالْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا، وَخَطَبَ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَسَمِعَ الكثير، وروى عنه الجم الغفير، وعنه الدار قطنى الْكَبِيرِ، وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا ثِقَةً دَيِّنًا. تُوَفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى
أبو القاسم الدقاق، ويعرف بابن حنيفا قال القاضي العلامة أبو يعلى بن الفراء- وهذا جده- وروى باللام لا بالنون- حليفا- وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ سَمَاعًا صَحِيحًا، وَرَوَى عَنْهُ الأزهري وكان ثقة(11/326)
مَأْمُونًا حَسَنَ الْخُلُقِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ فِي معناه.
الحسين بن محمد بن خلف
ابن الْفَرَّاءِ وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَكَانَ صَالِحًا فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ وروى عنه ابنه أبو حازم مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْبَغْدَادِيُّ، نَزِيلُ مِصْرَ، وحدث بِهَا فَسَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سعيد المصري.
عمر بن إبراهيم
ابن أحمد أبو نصر المعروف بالكتانى المقري، ولد سنة ثلاثمائة، روى عنه الْبَغَوِيِّ وَابْنِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ صَاعِدٍ، وَعَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بن الحسين
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَارُونَ، أَبُو الْحُسَيْنِ الدَّقَّاقُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَخِي مِيمِي، سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا دَيِّنًا فَاضِلًا حَسَنَ الأخلاف، توفى ليلة الجمعة لثمان وعشرين من شعبان منها.
محمد بن عمر بن يحيى
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الشريف أبو الحسين الْعَلَوِيُّ، الْكُوفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَسَمِعَ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عُقْدَةَ وَغَيْرِهِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَضَيَاعٌ، وَدَخْلٌ عَظِيمٌ وَحِشْمَةٌ وَافِرَةٌ، وَهِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الطَّالِبِيِّينَ فِي وَقْتِهِ، وَقَدْ صَادَرَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي وَقْتٍ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى جُمْهُورِ أَمْوَالِهِ وَسَجَنَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ صَادَرَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِأَلْفِ أَلْفِ دينار ثُمَّ سَجَنَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى بَغْدَادَ. ويقال إن غلاته كانت تساوى في كل سنة بألفي أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَهُ وَجَاهَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا، وَرِيَاسَةٌ باذخة.
الأستاذ أبو الفتوح بن بَرْجَوَانُ
النَّاظِرُ فِي الْأُمُورِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ الْحَاكِمِيَّةِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ حَارَةُ بَرْجَوَانَ بِالْقَاهِرَةِ، كَانَ أَوَّلًا مِنْ غِلْمَانِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ، ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْحَاكِمِ نَافِذَ الْأَمْرِ مُطَاعًا كَبِيرًا فِي الدَّوْلَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فِي الْقَصْرِ فَضَرَبَهُ الْأَمِيرُ رَيْدَانُ- الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الرَّيْدَانِيَّةُ خَارِجَ بَابِ الْفُتُوحِ- بِسِكِّينٍ فِي بَطْنِهِ فَقَتَلَهُ. وَقَدْ تَرَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَثَاثِ والثياب، من ذلك ألف سراويل بيدقى بِأَلْفِ تِكَّةٍ مِنْ حَرِيرٍ، قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ. وَوَلَّى الْحَاكِمُ بَعْدَهُ فِي مَنْصِبِهِ الْأَمِيرَ حُسَيْنَ بن القائد جوهر.(11/327)
الجريريّ المعروف بابن طرار
الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى بْنِ حُمَيْدِ بْنِ حَمَّادِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو الْفَرَجِ النَّهْرَوَانِيُّ الْقَاضِي- لِأَنَّهُ نَابَ فِي الْحُكْمِ- الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طرار الجريريّ، لأنه اشتغل على ابن جرير الطبري، وسلك وراءه في مذهبه، فنسب إليه. سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَخَلْقٍ، وروى عنه جماعة، وكان ثقة مأمونا عالما فاضلا كثير الآداب والتمكن فِي أَصْنَافِ الْعُلُومِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ مِنْهَا كتابه المسمى بالجليس والأنيس، فيه فوائد كثيرة جمة، وكان الشيخ أبو محمد الباقلاني أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ يَقُولُ:
إِذَا حَضَرَ الْمُعَافَى حَضَرَتِ الْعُلُومُ كُلُّهَا، وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْلَمِ النَّاسِ لَوَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ فِي دار بعض الرؤساء وفيهم المعافى فقالوا: هل نَتَذَاكَرْ فِي فَنٍّ مِنَ الْعُلُومِ؟ فَقَالَ الْمُعَافَى لصاحب المنزل- وكان عِنْدَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فِي خِزَانَةٍ عَظِيمَةٍ- مُرْ غُلَامَكَ أَنْ يَأْتِيَ بِكِتَابٍ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ، أي كتاب كان نتذاكر فيه. فتعجب الحاضرون من تمكنه وتبحره في سائر العلوم، وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَنْشَدَنَا الشَّيْخُ أَبُو الطَّيِّبِ الطبري أَنْشَدَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا لِنَفْسِهِ:
أَلَا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِدًا ... أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أسأت الأدب
أسأت على الله سبحانه ... لأنك لا ترضى لِي مَا وَهَبْ
فَجَازَاكَ عَنِّي بِأَنْ زَادَنِي ... وسد عليك وجوه الطلب
تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ابْنُ فَارِسٍ
صَاحِبُ الْمُجْمَلِ، وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سنة خمس وتسعين كما سيأتي.
أم السلامة
بنت القاضي أبى بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شنخرة، أُمُّ الْفَتْحِ، سَمِعَتْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ النصلانى وَغَيْرِهِ، وَعَنْهَا الْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ وَغَيْرُهُمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ فِي دِينِهَا وَفَضْلِهَا وَسِيَادَتِهَا. وَكَانَ مَوْلِدُهَا فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَتُوُفِّيَتْ فِي رَجَبٍ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وثلاثمائة
فيها بايغ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ باللَّه لِوَلَدِهِ أَبِي الْفَضْلِ بِوِلَايَةِ العهد من بعده، وخطب له على المنابر بعد أبيه، وَلُقِّبَ بِالْغَالِبِ باللَّه، وَكَانَ عُمُرُهُ حِينَئِذٍ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَشُهُورًا، وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ سبب ذلك أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عثمان الواقفي ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ الْأَطْرَافِ مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ، وادعى أن(11/328)
القادر باللَّه جعله ولى العهد مِنْ بَعْدِهِ، فَخَطَبُوا لَهُ هُنَالِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ القادر أمره بعث يتطلبه فهرب في البلاد وتمزق، ثُمَّ أَخَذَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ فَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةٍ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَلِهَذَا بَادَرَ الْقَادِرُ إِلَى هَذِهِ الْبَيْعَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وُلِدَ الْأَمِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْقَادِرِ باللَّه، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَارَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِأَمَرِ اللَّهِ. وَفِيهَا قُتِلَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدَّوْلَةِ الْمُقَلَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْعُقَيْلِيُّ غِيلَةً بِبِلَادِ الْأَنْبَارِ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ بِتِلْكَ الْبِلَادِ وَرَامَ الْمَمْلَكَةَ فَجَاءَهُ الْقَدَرُ الْمَحْتُومُ فَقَتَلَهُ بَعْضُ غِلْمَانِهِ الْأَتْرَاكِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ قِرْوَاشٌ. وَحَجَّ بالناس المصريون.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَعْفَرِ
ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ أَبُو الْفَضْلِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ حِنْزَابَةَ الْوَزِيرُ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، ونزل الديار المصرية ووزر بها للأمير كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ، وَكَانَ أَبُوهُ وَزِيرًا لِلْمُقْتَدِرِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْحَضْرَمِيِّ وَطَبَقَتِهِ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مَجْلِسًا من البغوي، ولم يكن عنده، وكان يَقُولُ: مَنْ جَاءَنِي بِهِ أَغْنَيْتُهُ، وَكَانَ لَهُ مجلس للاملاء بمصر، وبسببه رحل الدار قطنى إلى مصر فَنَزَلَ عِنْدَهُ وَخَرَّجَ لَهُ مُسْنَدًا، وَحَصَلَ لَهُ منه مال جزيل، وحدث عنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَكَابِرِ. وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
مَنْ أَخْمَلَ النَّفْسَ أَحْيَاهَا وَرَوَّحَهَا ... وَلَمْ يَبِتْ طَاوِيًا مِنْهَا عَلَى ضَجَرِ
إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا اشْتَدَّتْ عَوَاصِفُهَا ... فَلَيْسَ تَرْمِي سِوَى الْعَالِي مِنَ الشَّجَرِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صفر، وقيل في ربيع الأول منها، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَقِيلَ بداره، وقيل إنه كان قد اشترى بالمدينة النبويّة دارا فجعل له فيها تربة، فَلَمَّا نُقِلَ إِلَيْهَا تَلَقَّتْهُ الْأَشْرَافُ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ فحملوه وحجوا به ووقفوا به بِعَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَعَادُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَنُوهُ بِتُرْبَتِهِ
ابْنُ الْحَجَّاجِ الشَّاعِرُ
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَجَّاجِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ الْمُقْذِعُ في نظمه، يَسْتَنْكِفُ اللِّسَانُ عَنِ التَّلَفُّظِ بِهَا وَالْأُذُنَانِ عَنِ الاستماع لها، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ كِبَارِ الْعُمَّالِ، وَوَلِيَ هُوَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ عِزِّ الدَّوْلَةِ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا نُوَّابًا سِتَّةً، وَتَشَاغَلَ هُوَ بِالشِّعْرِ السَّخِيفِ وَالرَّأْيِ الضَّعِيفِ، إِلَّا أَنَّ شِعْرَهُ جَيِّدٌ من حيث اللفظ، وفيه قوة تدل على تمكين وَاقْتِدَارٍ عَلَى سَبْكِ الْمَعَانِي الْقَبِيحَةِ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْفَضِيحَةِ، فِي الْأَلْفَاظِ الْفَصِيحَةِ وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْعَارِ الْمُسْتَجَادَةِ، وَقَدِ امْتَدَحَ مَرَّةً صَاحِبَ مِصْرَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ. وقول ابن خلكان بأنه عُزِلَ عَنْ حِسْبَةِ بَغْدَادَ بِأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ قول ضعيف لا يسامح بمثله، فَإِنَّ أَبَا سَعِيدٍ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَكَيْفَ يُعْزَلُ بِهِ ابْنُ الْحَجَّاجِ وهو لا يمكن ادعاء أن يلي الحسبة بعده أبو سعيد الإصطخري، وابن خلكان قد أرخ وفاة(11/329)
هَذَا الشَّاعِرِ بِهَذِهِ السَّنَةِ، وَوَفَاةَ الْإِصْطَخْرِيِّ بِمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ جَمَعَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ أَشْعَارَهُ الْجَيِّدَةَ عَلَى حِدَةٍ فِي دِيوَانٍ مُفْرَدٍ وَرَثَاهُ حِينَ تُوُفِّيَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ:
عَبْدُ الْعَزِيزِ بن أحمد بن الحسن الجزري
القاضي بالحرم وَحَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجِهَاتِ، كان ظاهريا على مذهب داود، وكان لطيفا، تَحَاكَمَ إِلَيْهِ وَكِيلَانِ فَبَكَى أَحَدُهُمَا فِي أَثْنَاءِ الْخُصُومَةِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: أَرِنِي وِكَالَتَكَ، فَنَاوَلَهُ فَقَرَأَهَا ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَمْ يَجْعَلْ إِلَيْكَ أَنْ تَبْكِيَ عَنْهُ. فَاسْتَضْحَكَ النَّاسَ وَنَهَضَ الْوَكِيلُ خَجِلًا.
عِيسَى بْنُ الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى
ابن دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ كِبَارِ الْوُزَرَاءِ، وَكَتَبَ هُوَ لِلطَّائِعِ أَيْضًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ صَحِيحَ السَّمَاعِ كَثِيرَ الْعُلُومِ، وَكَانَ عَارِفًا بِالْمَنْطِقِ وَعِلْمِ الْأَوَائِلِ فانتهموه بِشَيْءٍ مِنْ مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ، وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
رُبَّ مَيِّتٍ قَدْ صَارَ بِالْعِلْمِ حَيًّا ... وَمُبَقًّى قَدْ مَاتَ جَهْلًا وَغَيًّا
فَاقْتَنُوا الْعِلْمَ كَيْ تَنَالُوا خُلُودًا ... لَا تَعُدُّوا الْحَيَاةَ فِي الجهل شيئا
ولد فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ بِبَغْدَادَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وثلاثمائة
في محرمها غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الهند فقصده ملكها جِيبَالُ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ففتح الله على المسلمين، وانهزمت الهنود، وأسر ملكهم جيبال، وأخذوا مِنْ عُنُقِهِ قِلَادَةٌ قِيمَتُهَا ثَمَانُونَ [1] أَلْفَ دِينَارٍ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، وَفَتَحُوا بِلَادًا كثيرة، ثم إن محمودا سلطان المسلمين أطلق مَلِكَ الْهِنْدِ احْتِقَارًا لَهُ وَاسْتِهَانَةً بِهِ، لِيَرَاهُ أهل مملكته والناس في المذلة فحين وصل جيبال إِلَى بِلَادِهِ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاحْتَرَقَ، لَعَنَهُ اللَّهُ. وفي ربيع الأول مِنْهَا ثَارَتِ الْعَوَامُّ عَلَى النَّصَارَى بِبَغْدَادَ فَنَهَبُوا كنيستهم التي بقطيعة الدقيق وَأَحْرَقُوهَا، فَسَقَطَتْ عَلَى خَلْقٍ فَمَاتُوا، وَفِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ. وَفِي رَمَضَانَ منها قوى أمر العيارين وكثرت العملات ونهبت بغداد وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي لَيْلَةِ الإثنين منها ثالث الْقَعْدَةِ انْقَضَّ كَوْكَبٌ أَضَاءَ كَضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ التَّمَامِ، وَمَضَى الشُّعَاعُ وَبَقِيَ جِرْمُهُ يَتَمَوَّجُ نَحْوَ ذراعين في ذراعين في رأى الْعَيْنِ ثُمَّ تَوَارَى بَعْدَ سَاعَةٍ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قَدِمَ الْحُجَّاجُ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى بَغْدَادَ ليسيروا إلى الحجاز فبلغهم عيث الأعراب في الأرض بالفساد، وأنه لا ناصر لهم ولا ناظر ينظر في أمرهم، فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَلَمْ يَحُجَّ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي يَوْمِ عرفة منها ولد لبهاء
__________
[1] قال ابن الأثير: قوموها بمائتي ألف دينار.(11/330)
الدَّوْلَةِ ابْنَانِ تَوْأَمَانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ سَبْعِ سنين، وأقام الْآخَرُ حَتَّى قَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، ولقب شرف الدولة، وحج المصريون فيها بالناس.
وممن توفى فيها من الأعيان
ابن جنى
أَبُو الْفَتْحِ [عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ] الْمَوْصِلِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْفَائِقَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي النَّحْوِ واللغة، وكان جِنِّيٌّ عَبْدًا رُومِيًّا مَمْلُوكًا لِسُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَزْدِيِّ الْمَوْصِّلِيِّ، وَمِنْ شِعْرِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ:
فَإِنْ أُصْبِحْ بِلَا نَسَبٍ ... فَعِلْمِي فِي الْوَرَى نَسَبِي
عَلَى أَنِّي أَؤُولُ إِلَى ... قروم سادة نجب
قياصرة إذا نطقوا ... أرمّوا الدهر ذا الْخُطُبِ
أُولَاكَ دَعَا النَّبِيُّ لَهُمْ ... كَفَى شَرَفًا دُعَاءُ نَبِي
وَقَدْ أَقَامَ بِبَغْدَادَ وَدَرَسَ بِهَا الْعِلْمَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ خلتا من صفر منها، قال ابْنُ خَلِّكَانَ: وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ أَعْوَرَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ:
صُدُودُكَ عَنِّي وَلَا ذَنْبَ لِي ... يَدُلُّ عَلَى نِيَّةٍ فَاسِدَهْ
فَقَدْ- وَحَيَاتِكَ- مِمَّا بَكَيْتُ ... خَشِيتُ عَلَى عَيْنِيَ الْوَاحِدَهْ
وَلَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ لَا أَرَاكَ ... لَمَا كَانَ فِي تَرْكِهَا فائدة
ويقال: إن هذه الأبيات لغيره، وكان قائلها أعور. وله في مملوك حسن الصورة أعور قوله:
لَهُ عَيْنٌ أَصَابَتْ كُلَّ عَيْنٍ ... وَعَيْنٌ قَدْ أصابتها العيون
أبو الحسن الجرجاني الشاعر الماهر.
على بن عبد العزيز
القاضي بالري، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَرَقَّى فِي الْعُلُومِ حَتَّى أَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالتَّفَرُّدِ، وَلَهُ أَشْعَارٌ حِسَانٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا ... رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سلما
إذا قيل لي هذا مطمع قُلْتُ قَدْ أَرَى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي ... لا خدم من لاقيت ولكن لا خدما
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إِذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لعظما(11/331)
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ، فَهَانَ، وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ أَيْضًا:
مَا تَطَعَّمْتُ لَذَّةَ الْعَيْشِ حَتَّى ... صِرْتُ لِلْبَيْتِ وَالْكِتَابِ جَلِيسًا
ليس عندي شيء ألذ من ... العلم فما أبتغي سواه أنيسا
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا ... عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ
فَسَلْ نَفْسَكَ الْإِنْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا ... عَلَيْكَ وَإِنْظَارًا إِلَى زَمَنِ الْيُسْرِ
فَإِنْ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ ... فَكُلُّ مُنَوَّعٍ بَعْدَهَا واسع العذرا
تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى جُرْجَانَ فَدُفِنَ بِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة
وفيها كَانَتْ وَفَاةُ الطَّائِعِ للَّه عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَفِيهَا مُنِعَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ الشِّيعَةِ مِنَ النَّوْحِ عَلَى الْحُسَيْنِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمُنِعَ جَهَلَةُ السنة بباب البصرة وباب الشعير من النوح عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، فَامْتَنَعَ الْفَرِيقَانِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ خَلَعَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَزِيرَهُ أَبَا غَالِبٍ مُحَمَّدَ بْنَ خَلَفٍ عَنِ الْوِزَارَةِ وَصَادَرَهُ بمائة ألف دينار قاشانية، وَفِي أَوَائِلِ صَفَرٍ مِنْهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا، وَعُدِمَتِ الْحِنْطَةُ حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا. وَفِيهَا بَرَزَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ إِلَى سرمن رأى وَاسْتَدْعَى سَيِّدَ الدَّوْلَةِ أَبَا الْحَسَنِ، عَلِيَّ بْنَ مَزْيَدٍ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَرْبَعِينَ ألف دينار، فالتزم بذلك فقرره عَلَى بِلَادِهِ. وَفِيهَا هَرَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ الضَّبِّيُّ وَزِيرُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ مِنَ الرَّيِّ إِلَى بَدْرِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ، وَوَلِيَ بَعْدَ ذَلِكَ وِزَارَةَ مَجْدِ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْخَطِيرُ. وَفِيهَا اسْتَنَابَ الْحَاكِمُ عَلَى دِمَشْقَ وَجُيُوشِ الشَّامِ أَبَا مُحَمَّدٍ الْأَسْوَدَ ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُ عزر رجلا مغربيا سب أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، فَخَافَ مِنْ مَعَرَّةِ ذَلِكَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَعَزَلَهُ مَكْرًا وَخَدِيعَةً. وَانْقَطَعَ الْحَجُّ فيها من العراق بسبب الأعراب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو إِسْحَاقَ الطَّبَرِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، مُقَدَّمُ الْمُعَدِّلِينَ بِبَغْدَادَ، وَشَيْخُ الْقِرَاءَاتِ، وَقَدْ سمع الكثير من الحديث، وخرج له الدار قطنى خَمْسَمِائَةِ جُزْءِ حَدِيثٍ، وَكَانَ كَرِيمًا مُفَضَّلًا عَلَى أهل العلم.
الطَّائِعُ للَّه عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْمُطِيعِ
تَقَدَّمَ خلعه وذكر ما جرى له، توفى ليلة عيد الفطر منها عن خمس أو ست وسبعين سنة، منها سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ خليفة، وصلى عليه الخليفة القادر فكبر عليه خمسا، وشهد جنازته الأكابر، ودفن بالرصافة.(11/332)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ زكريا
أبو طاهر المخلص، شيخ كبير الرِّوَايَةِ، سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَابْنَ صَاعِدٍ وَخَلْقًا، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ وَالْأَزْهَرِيُّ وَالْخَلَّالُ وَالتَّنُوخِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً مِنَ الصالحين. توفى في رمضان منها عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو الْحَسَنِ السَّلَامِيُّ الشَّاعِرُ الْمُجِيدُ، لَهُ شِعْرٌ مَشْهُورٌ، وَمَدَائِحُ فِي عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَغَيْرِهِ.
مَيْمُونَةُ
بِنْتُ شَاقُولَةَ الْوَاعِظَةُ الَّتِي هِيَ لِلْقُرْآنِ حَافِظَةٌ، ذَكَرَتْ يَوْمًا فِي وَعْظِهَا أَنَّ ثَوْبَهَا الَّذِي عَلَيْهَا- وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ- لَهُ فِي صُحْبَتِهَا تَلْبَسُهُ مُنْذُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَمَا تَغَيَّرَ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ غَزْلِ أُمِّهَا. قَالَتْ وَالثَّوْبُ إِذَا لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فِيهِ لَا يَتَخَرَّقُ سَرِيعًا، وَقَالَ ابْنُهَا عَبْدُ الصَّمَدِ: كَانَ فِي دَارِنَا حَائِطٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فقلت لأمى: أَلَا نَدْعُوَ الْبَنَّاءَ لِيُصْلِحَ هَذَا الْجِدَارَ؟ فَأَخَذَتْ رُقْعَةً فَكَتَبَتْ فِيهَا شَيْئًا ثُمَّ أَمَرَتْنِي أَنْ أَضَعَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْجِدَارِ، فَوَضَعْتُهَا فَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَعْلِمَ مَا كَتَبَتْ فِي الرُّقْعَةِ، فَحِينَ أَخَذْتُهَا مِنَ الْجِدَارِ سَقَطَ، وَإِذَا فِي الرُّقْعَةِ (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) 35: 41 اللَّهمّ ممسك السموات وَالْأَرْضِ أَمْسِكْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وثلاثمائة
وَفِيهَا وَلَّى بَهَاءُ الدَّوْلَةِ الشَّرِيفَ أَبَا أَحْمَدَ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى الْمُوسَوِيَّ، قَضَاءَ الْقُضَاةِ وَالْحَجَّ وَالْمَظَالِمَ، وَنِقَابَةَ الطَّالِبِيِّيِنَ، وَلُقِّبَ بِالطَّاهِرِ الأوحد، ذوى المناقب، وكان التقليد له بسيراج، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ فِي قَضَاءِ الْقُضَاةِ، فَتَوَقَّفَ حَالُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا مَلَكَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ وَاصِلٍ بِلَادَ الْبَطِيحَةِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ، فَقَصَدَهُ زَعِيمُ الْجُيُوشِ لِيَأْخُذَهَا مِنْهُ، فَهَزَمَهُ ابْنُ وَاصِلٍ وَنَهَبَ أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أَصَابَ فِي خَيْمَةِ الْخِزَانَةِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَمْسُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَفِيهَا خَرَجَ الركب العراقي إلى الحجاز في جحفل عظيم كَبِيرٍ وَتَجَمُّلٍ كَثِيرٍ، فَاعْتَرَضَهُمُ الْأُصَيْفِرُ أَمِيرُ الْأَعْرَابِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ بِشَابَّيْنِ قَارِئَيْنِ مُجِيدَيْنِ كَانَا مَعَهُمْ، يقال لهما أبو الحسن الرفّاء وأبو عبد الله بن الزجاجي، وَكَانَا مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قِرَاءَةً، لِيُكَلِّمَاهُ فِي شَيْءٍ يَأْخُذُهُ مِنَ الْحَجِيجِ، وَيُطْلِقُ سَرَاحَهُمْ لِيُدْرِكُوا الحج، فلما جلسا بين يديه قرءا جميعا عشرا بأصوات هائلة مطربة مَطْبُوعَةٍ، فَأَدْهَشَهُ ذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ جِدًّا، وَقَالَ لَهُمَا: كَيْفَ عَيْشُكُمَا بِبَغْدَادَ؟ فَقَالَا: بِخَيْرٍ لَا يَزَالُ الناس يكرموننا ويبعثون إلينا بالذهب والفضة والتحف. فقال لهما: هل أطلق لكما أحد منهم بألف ألف دينار في يوم واحد؟ فقالا: لا، ولا ألف درهم فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَإِنِّي أُطْلِقُ لَكُمَا ألف ألف دينار في هذه اللحظة، أطلق لكما الحجيج كله، ولولا كما لما قنعت منهم بألف ألف دينار. فأطلق(11/333)
الحجيج كله بسببهما، فلم يتعرض أحد من الأعراب لهم، وذهب الناس إلى الحج سالمون شاكرون لذينك الرجلين المقرءين. وَلَمَّا وَقَفَ النَّاسُ بِعَرَفَاتٍ قَرَأَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ قِرَاءَةً عَظِيمَةً عَلَى جَبَلِ الرَّحْمَةِ فَضَجَّ النَّاسُ بالبكاء مِنْ سَائِرِ الرُّكُوبِ لِقِرَاءَتِهِمَا، وَقَالُوا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مَعَكُمْ بِهَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُصَابَا جَمِيعًا، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَخْرُجُوا بأحدهما وتدعوا الآخر، فَإِذَا أُصِيبَ سَلِمَ الْآخَرُ. وَكَانَتِ الْحُجَّةُ وَالْخُطْبَةُ لِلْمِصْرِيِّينَ كَمَا هِيَ لَهُمْ مِنْ سِنِينَ مُتَقَدِّمَةٍ، وقد كان أمير العراق عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ سَرِيعًا إِلَى بَغْدَادَ عَلَى طريقهم التي جاءوا منها، وأن لا يسيروا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ خَوْفًا مِنَ الْأَعْرَابِ، وَكَثْرَةِ الْخِفَارَاتِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَوَقَفَ هَذَانِ الرجلان الْقَارِئَانِ عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ الَّتِي مِنْهَا يُعْدَلُ إلى المدينة النبويّة، وقرءا (مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمن حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) 9: 120 الْآيَاتِ فَضَجَّ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ وَأَمَالَتِ النُّوقُ أَعْنَاقَهَا نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والأمير إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَزَارُوا وَعَادُوا سَالِمِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَمَّا رَجَعَ هَذَانِ الْقَارِئَانِ رَتَّبَهُمَا وَلِيُّ الْأَمْرِ مَعَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبُهْلُولِ- وَكَانَ مُقْرِئًا مُجِيدًا أَيْضًا- لِيُصَلُّوا بِالنَّاسِ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ، فَكَثُرَ الْجَمْعُ وراءهم لحسن تلاوتهم، وكانوا يطيلون الصلاة جدا ويتناوبون في الإمامة، يقرءون في كل ركعة بقدر ثلاثين آية، والناس لا ينصرفون من التراويح إلا في الثلث الأول من الليل، أو قريب النصف منه. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ الْبُهْلُولِ يَوْمًا فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ قَوْلَهُ تَعَالَى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ من الْحَقِّ) 57: 16 فَنَهَضَ إِلَيْهِ رَجُلٌ صُوفِيٌّ وَهُوَ يَتَمَايَلُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَأَعَادَ الْآيَةَ، فَقَالَ الصُّوفِيُّ: بَلَى وَاللَّهِ، وَسَقَطَ مَيِّتًا رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْخَشَّابِ شيخ ابن الرفّاء، وَكَانَ تِلْمِيذًا لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَدَمِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَكَانَ جَيِّدَ الْقِرَاءَةِ حَسَنَ الصَّوْتِ أَيْضًا، قرأ ابن الخشاب هذا فِي جَامِعِ الرُّصَافَةِ فِي الْإِحْيَاءِ هَذِهِ الْآيَةَ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) 57: 16 فَتَوَاجَدَ رَجُلٌ صُوفِيٌّ وَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ قَدْ آنَ، وَجَلَسَ وَبَكَى بُكَاءً طَوِيلًا، ثُمَّ سَكَتَ سكتة فإذا هو ميت رحمه الله.
وممن توفى فيها من الأعيان
أبو على الإسكافي
ويلقب بالموفى، وكان مُقَدَّمًا عِنْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَوَلَّاهُ بَغْدَادَ فَأَخَذَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً مِنَ الْيَهُودِ ثُمَّ هَرَبَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَتَيْنِ، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَلَّاهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ الْوِزَارَةَ، وَكَانَ شَهْمًا مَنْصُورًا في الحرب ثُمَّ عَاقَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَتَلَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة خمس وتسعين وثلاثمائة
فِيهَا عَادَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْبَطِيحَةِ وَلَمْ يمانعه ابن واصل، وقرر عليه في كل سنة لبهاء الدولة(11/334)
خمسين ألف دينار. وفيها كان غلاء عظيم بِإِفْرِيقِيَّةَ، بِحَيْثُ تَعَطَّلَتِ الْمَخَابِزُ وَالْحَمَّامَاتُ، وَذَهَبَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَنَاءِ، وَهَلَكَ آخَرُونَ مِنْ شِدَّةِ الغلاء، فنسأل الله حسن العافية والخاتمة آمين. وَفِيهَا أَصَابَ الْحَجِيجَ فِي الطَّرِيقِ عَطَشٌ شَدِيدٌ بِحَيْثُ هَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَكَانَتِ الْخِطْبَةُ لِلْمِصْرِيِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مُحَمَّدُ بْنُ أحمد بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ
أَبُو نَصْرٍ الْبُخَارِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْمَلَاحِمِيِّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ مَحْمُودِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَى عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ كُلَيْبٍ وَغَيْرِهِ، وَحَدَّثَ عنه الدار قطنى، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ بِبُخَارَى في شعبان منها، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ أبى الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ، وُلِدَ بِهَمَذَانَ وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ، وَكَتَبَ الْحَدِيثَ عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَسَمِعَ بِنَيْسَابُورَ مِنَ الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِ، وَدَرَسَ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ فَصَحِبَ الصُّوفِيَّةَ حَتَّى صَارَ مِنْ كِبَارِهِمْ، وَحَجَّ مرات على الوحدة، توفى في محرم هذه السنة
أبو الحسين أحمد بن فارس
ابن زكريا بن محمد بن حبيب اللغوي الرازيّ، صَاحِبُ الْمُجْمَلِ فِي اللُّغَةِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِهَمَذَانَ، وَلَهُ رَسَائِلُ حِسَانٌ، أَخَذَ عَنْهُ الْبَدِيعُ صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ، وَمِنْ رَائِقِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
مَرَّتْ بِنَا هَيْفَاءُ مَجْدُولَةٌ ... تُرْكِيَّةٌ تَنْمِي لِتُرْكِيِّ
تَرْنُو بِطَرْفٍ فَاتِرٍ فَاتِنٍ ... أَضْعَفَ مِنْ حُجَّةِ نَحْوِيِّ
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا كُنْتَ فِي حَاجَةِ مُرْسِلًا ... وَأَنْتَ بِهَا كَلِفٌ مُغْرَمُ
فَأَرْسِلْ حَكِيمًا وَلَا تُوصِهِ ... وَذَاكَ الْحَكِيمُ هُوَ الدِّرْهَمُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وتسعين وثلاثمائة
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ طَلَعَ نَجْمٌ يُشْبِهُ الزُّهَرَةَ فِي كِبَرِهِ وكثرة ضوئه عن يسار الْقِبْلَةِ يَتَمَوَّجُ، وَلَهُ شُعَاعٌ عَلَى الْأَرْضِ كَشُعَاعِ الْقَمَرِ، وَثَبَتَ إِلَى النِّصْفِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ غَابَ. وَفِيهَا وَلِيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَكْفَانِيِّ قضاء جميع بغداد. وفيها جلس القادر باللَّه للأمير قرواش بن أبى حسان وأقره فِي إِمَارَةِ الْكُوفَةِ، وَلَقَّبَهُ مُعْتَمِدَ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا قُلِّدَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ، وَلُقِّبَ بِالرَّضِيِّ ذي الحسنيين، وَلُقِّبَ أَخُوهُ الْمُرْتَضَى ذَا الْمَجْدَيْنِ. وَفِيهَا غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ فافتتح مدنا كبارا، وَأَخَذَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَسَرَ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ وَهُوَ ملك كراشى حِينَ هَرَبَ مِنْهُ لَمَّا افْتَتَحَهَا، وَكَسَّرَ أَصْنَامَهَا، فألبسه منطقته وَشَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ،(11/335)
وَقَطَعَ خِنْصَرَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ إِهَانَةً لَهُ، وَإِظْهَارًا لعظمة الإسلام وأهله. وفيها كانت الخطبة للحاكم العبيدي، وتجدد في الْخُطْبَةِ أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْحَاكِمَ يَقُومُ الناس كلهم إجلالا له، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا بِدِيَارِ مِصْرَ مَعَ زِيَادَةِ السُّجُودِ له، وَكَانُوا يَسْجُدُونَ عِنْدَ ذِكْرِهِ، يَسْجُدُ مَنْ هُوَ في الصلاة ومن هو في الأسواق يسجدون لسجودهم، لعنه الله وقبحه.
وممن توفى فيها من الأعيان
أبو سعيد الإسماعيلي
إبراهيم بن إسماعيل أبو سعيد الجرجاني، المعروف بالإسماعيلي، ورد بغداد والدار قطنى حىّ فحدث عن أبيه أبى بكر الإسماعيلي والأصم بن عَدِيٍّ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الْخَلَّالُ وَالتَّنُوخِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً فقيها فاضلا، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ، سَخِيًّا جَوَّادًا على أهل العلم، وله ورع ورياسة إِلَى الْيَوْمِ فِي بَلَدِهِ إِلَى وَلَدِهِ. قَالَ الخطيب: سمعت الشيخ أبا الطيب يقول: ورد أبو سعيد الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَغْدَادَ فَعَقَدَ لَهُ الْفُقَهَاءُ مَجْلِسَيْنِ تَوَلَّى أَحَدَهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَتَوَلَّى الثَّانِيَ أَبُو محمد الباجي، فبعث الباجي إِلَى الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنِ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيِّ يَسْتَدْعِيهِ إلى حضور المجلس ليجمل المجلس، وَكَانَتِ الرِّسَالَةُ مَعَ وَلَدِهِ أَبِي الْفَضْلِ، وَكَتَبَ عَلَى يَدِهِ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
إِذَا أَكْرَمَ الْقَاضِي الْجَلِيلُ وَلِيَّهُ ... وَصَاحَبَهُ أَلْفَاهُ لِلشُّكْرِ مَوْضِعَا
وَلِي حَاجَةٌ يَأْتِي بُنَيَّ بِذَكْرِهَا ... وَيَسْأَلُهُ فِيهَا التَّطَوُّلَ أَجْمَعَا
فَأَجَابَهُ الْجَرِيرِيُّ مَعَ وَلَدِ الشَّيْخِ:
دَعَا الشيخ مطواعا سميعا لأمره ... نواتيه طوعا حيث يرسم أصنعا
وَهَا أَنَا غَادٍ فِي غَدٍ نَحْوَ دَارِهِ ... أبادر ما قد حده لي مسرعا
توفى الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَجْأَةً بِجُرْجَانَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فلما قرأ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) 1: 5 فاضت نفسه فمات رحمه الله.
محمد بن أحمد
ابن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بن بحير أبو عمر والمزكي، الحافظ النيسابورىّ، ويعرف بالحيرى، رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَكَانَ حَافِظًا جَيِّدَ الْمُذَاكَرَةِ، ثِقَةً ثَبْتًا، حَدَّثَ بِبَغْدَادَ وغيرها من البلاد، وتوفى في شعبان عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ
الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ أَبُو عَبْدِ الله الأصفهانيّ الحافظ، كان ثبت الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ، رَحَلَ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، وَسَمِعَ الكثير وصنف التاريخ، والناسخ والمنسوخ. قال أبو العباس جعفر بن محمد: ما رأيت أحفظ من ابن مندة، توفى في أصفهان في صفر منها.(11/336)
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة
فِيهَا كَانَ خُرُوجُ أَبِي رَكْوَةَ عَلَى الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ. وَمُلَخَّصُ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ سُلَالَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْأُمَوِيِّ، وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ، وَإِنَّمَا لقب بأبي ركوة لركوة كان يصحبها في أسفاره على طريق الصوفية، وقد سَمِعَ الْحَدِيثَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثم رحل إلى اليمن ثم دخل الشام، وهو في غضون ذلك يُبَايِعُ مَنِ انْقَادَ لَهُ، مِمَّنْ يَرَى عِنْدَهُ همة ونهضة للقيام في نصرة ولد هشام، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ بِبَعْضِ بِلَادِ مِصْرَ فِي محلة من محال العرب، يعلم الصبيان ويظهر التقشف وَالْعِبَادَةَ وَالْوَرَعَ، وَيُخْبِرُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، حَتَّى خَضَعُوا لَهُ وَعَظَّمُوهُ جِدًّا، ثُمَّ دَعَا إِلَى نفسه وذكر لهم أنه الّذي يدعى إليه من الأمويين، فاستجابوا له وَخَاطَبُوهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلُقِّبَ بِالثَّائِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْمُنْتَصِرِ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَدَخَلَ بَرْقَةَ فِي جحفل عظيم، فَجَمَعَ لَهُ أَهْلُهَا نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخَذَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ اتُّهِمَ بِشَيْءِ مِنَ الْوَدَائِعِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ أَيْضًا، وَنَقَشُوا الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بِأَلْقَابِهِ، وَخَطَبَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَعَنَ الْحَاكِمَ فِي خُطْبَتِهِ وَنِعِمَّا فَعَلَ، فَالْتَفَّ عَلَى أَبِي رَكْوَةَ مِنَ الْجُنُودِ نَحْوٌ مَنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَاكِمَ أَمْرُهُ وَمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُ بَعَثَ بخمسمائة ألف دينار وخمسة آلاف ثوب إِلَى مُقَدَّمِ جُيُوشِ أَبِي رَكْوَةَ وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ وَيَثْنِيهِ عَنْ أبى ركوة، فحين وصلت الأموال إليه رجع عن أبى ركوة وقال له: إِنَّا لَا طَاقَةَ لَنَا بِالْحَاكِمِ، وَمَا دُمْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَنَحْنُ مَطْلُوبُونَ بِسَبَبِكَ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ بَلَدًا تَكُونُ فِيهَا. فَسَأَلَ أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ فَارِسَيْنِ يُوصِّلَانِهِ إِلَى النَّوْبَةِ فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَلِكِهَا مَوَدَّةً وَصُحْبَةً، فَأَرْسَلَهُ، ثُمَّ بَعَثَ وَرَاءَهُ مَنْ رَدَّهُ إِلَى الْحَاكِمِ بِمِصْرَ، فَلَمَّا وَصَلَ إليه أركبه جملا وشهره ثُمَّ قَتَلَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ أَكْرَمَ الحاكم الفضل وأقطعه أقطاعا كَثِيرَةً.
وَاتَّفَقَ مَرَضُ الْفَضْلِ فَعَادَهُ الْحَاكِمُ مَرَّتَيْنِ، فلما عوفي قتله وألحقه بصاحبه. وهذه مُكَافَأَةَ التِّمْسَاحِ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا عُزِلَ قِرْوَاشٌ عَمَّا كَانَ بِيَدِهِ وَوَلِيَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن يزيد، وَلُقِّبَ بِسَنَدِ الدَّوْلَةِ. وَفِيهَا هَزَمَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ محمود بن سبكتكين مَلِكَ التُّرْكِ عَنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَقَتَلَ مِنَ الْأَتْرَاكِ خَلْقًا كَثِيرًا.
وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ بن واصل وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ فَطِيفَ بِهِ بِخُرَاسَانَ وَفَارِسٍ. وَفِيهَا ثَارَتْ عَلَى الْحَجِيجِ وَهُمْ بِالطَّرِيقِ رِيحٌ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ جِدًّا، وَاعْتَرَضَهُمُ ابْنُ الْجَرَّاحِ أَمِيرُ الْأَعْرَابِ فَاعْتَاقَهُمْ عَنِ الذَّهَابِ فَفَاتَهُمُ الحج فرجعوا إلى بلادهم فَدَخَلُوهَا فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ. وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ للمصريين.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ
أَبُو الْقَاسِمِ الدينَوَريّ الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ، قَرَأَ القرآن ودرس على مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَسَمِعَ الحديث من النجاد، وروى عنه الصيمري، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا، يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي مجاهدة النفس، واستعمال الصدق المحض، والتعفف والتفقه وَالتَّقَشُّفِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ(11/337)
عن المنكر، وحسن وعظه ووقعه في القلوب، وجاءه يَوْمًا رَجُلٌ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ: أَنَا غَنِيٌّ عَنْهَا، قَالَ خُذْهَا فَفَرِّقْهَا عَلَى أَصْحَابِكَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: ضَعْهَا عَلَى الْأَرْضِ. فَوَضَعَهَا ثُمَّ قَالَ لِلْجَمَاعَةِ. لِيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ حَاجَتَهُ مِنْهَا، فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ بِقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ حَتَّى أَنْفَذُوهَا، وَجَاءَ وَلَدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَشَكَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُمْ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى الْبَقَّالِ فَخُذْ عَلَيَّ رُبُعَ رِطْلِ تَمْرٍ. وَرَآهُ رَجُلٌ وَقَدِ اشْتَرَى دَجَاجَةً وَحَلْوَاءَ فتعجب من ذلك فاتبعه إلى دار فيها امرأة ولها أيتام فَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ يَدُقُّ السُّعْدَ لِلْعَطَّارِينَ بِالْأُجْرَةِ وَيَقْتَاتُ مِنْهُ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يقول: سيدي لهذه الساعة خبأتك. توفى يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة منها، وصلى عليه بالجامع المنصوري، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ واصل
صاحب سيراف والبصرة وغيرهما، كَانَ أَوَّلًا يَخْدِمُ بِالْكَرْخِ، وَكَانَ مُتَصَوَّرًا لَهُ أنه سيملك، كان أصحابه يهزءون به، فيقول أحدهم: إذا ملكت فأى شيء تعطيني؟ ويقول الآخر: ولنى، ويقول الآخر: استخدمنى، ويقول الآخر: اخلع على. فقدر له أنه تقلبت به الأحوال حتى ملك سيراف والبصرة، وَأَخَذَ بِلَادَ الْبَطِيحَةِ مِنْ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا طَرِيدًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ احْتَاجَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى أَنْ رَكِبَ بَقَرَةً. وَاسْتَحْوَذَ ابْنُ واصل على ما هناك، وَقَصَدَ الْأَهْوَازَ وَهَزَمَ بِهَاءَ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ ظَفِرَ به بهاء الدولة فقتله في شعبان منها، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْبِلَادِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وتسعين وثلاثمائة
فِيهَا غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ، فَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَأَخَذَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا وَجَدَ بَيْتٌ طُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ خَمْسَةَ عشر ذراعا مملوء فِضَّةً، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى غَزْنَةَ بَسَطَ هَذِهِ الأموال كُلَّهَا فِي صَحْنِ دَارِهِ وَأَذِنَ لِرُسُلِ الْمَلِكِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَرَأَوْا مَا بَهَرَهُمْ وَهَالَهُمْ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَقَعَ بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ، بِحَيْثُ بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، وَمَكَثَ أُسْبُوعًا لَمْ يَذُبْ، وَبَلَغَ سُقُوطُهُ إِلَى تِكْرِيتَ وَالْكُوفَةِ وَعَبَّادَانَ والنهروان. وفي هذا الشهر كثرت العملات جهرة وخفية، حَتَّى مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ ثُمَّ ظَفِرَ أَصْحَابُ الشرطة بكثير منهم فقطعوا أيديهم وكحلوهم.
قصة مصحف ابن مسعود وتحريقه
«على فتيا الشيخ أبى حامد الأسفراييني فيما ذكره ابن الجوزي في منتظمه» وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة والرافضة، سَبَبُهَا أَنَّ بَعْضَ الْهَاشِمِيِّينَ قَصَدَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ النُّعْمَانِ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ- وكان فقيه الشيعة- في مسجده بدرب رباح، فَعَرَضَ لَهُ بِالسَّبِّ فَثَارَ أَصْحَابُهُ لَهُ وَاسْتَنْفَرَ أَصْحَابَ الْكَرْخِ وَصَارُوا إِلَى دَارِ الْقَاضِي أَبِي محمد الْأَكْفَانِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ،(11/338)
وجرت فتنة عظيمة طَوِيلَةٌ، وَأَحْضَرَتِ الشِّيعَةُ مُصْحَفًا ذَكَرُوا أَنَّهُ مُصْحَفُ عبد الله بن مسعود، وهو مخالف للمصاحف كُلَّهَا، فَجُمِعَ الْأَشْرَافُ وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ فِي يَوْمِ جمعة لِلَّيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ، وَعُرِضَ الْمُصْحَفُ عَلَيْهِمْ فَأَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَالْفُقَهَاءُ بِتَحْرِيقِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ، فَغَضِبَ الشِّيعَةُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَجَعَلُوا يَدْعُونَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَيَسُبُّونَهُ، وَقَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَحْدَاثِهِمْ دَارَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ لِيُؤْذُوهُ فَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقُطْنِ، وَصَاحُوا يَا حَاكِمُ يَا مَنْصُورُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ فَغَضِبَ وَبَعَثَ أَعْوَانَهُ لِنُصْرَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَحُرِّقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ دُورِ الشِّيعَةِ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ شَدِيدَةٌ، وَبَعَثَ عَمِيدَ الْجُيُوشِ إِلَى بَغْدَادَ لينفى عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فَأُخْرِجَ مِنْهَا ثُمَّ شُفِعَ فِيهِ، وَمُنِعَتِ الْقُصَّاصُ من التعرض للذكر والسؤال باسم الشيخين، وعلى رضى الله عنهم، وَعَادَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إِلَى دَارِهِ عَلَى عادته. وفي شعبان منها زلزلت الدينور زلزالا شديدا، وسقطت منها دور كثيرة، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ، وهبت ريح سوداء بدقوقى وتكريت وشيراز، فأتلفت كَثِيرًا مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخِيلِ وَالزَّيْتُونِ، وَقَتَلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَقَطَ بَعْضُ شِيرَازَ وَوَقَعَتْ رَجْفَةٌ بِشِيرَازَ غَرِقَ بِسَبَبِهَا مَرَاكِبُ كَثِيرَةٌ فِي الْبَحْرِ. وَوَقَعَ بِوَاسِطٍ بَرَدٌ زِنَةُ الْوَاحِدَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَوَقَعَ بِبَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ- وَذَلِكَ فِي أَيَّارَ- مَطَرٌ عَظِيمٌ سَالَتْ مِنْهُ الْمَزَارِيبُ.
ذِكْرُ تَخْرِيبِ قُمَامَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَفِيهَا أَمَرَ الحاكم بتخريب قمامة وهي كنيسة النصارى ببيت المقدس، وأباح للعامة ما فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ سبب ذلك الْبُهْتَانِ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّصَارَى فِي يَوْمِ الْفُصْحِ من النار التي يحتالون بها، وهي التي يوهمون جَهَلَتِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الإبريسم، والرقاع الْمَدْهُونَةِ بِالْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، بِالصَّنْعَةِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَرُوجُ عَلَى الطَّغَامِ مِنْهُمْ وَالْعَوَامِّ، وَهُمْ إِلَى الْآنِ يستعملونها في ذلك المكان بعينه. وكذلك هدم في هذه السنة عدة كنائس ببلاد مصر، ونودي في النصارى: مَنْ أَحَبَّ الدُّخُولَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ دَخَلَ وَمَنْ لَا يَدْخُلْ فَلْيَرْجِعْ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ آمِنًا، وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ فَلْيَلْتَزِمْ بما شرط عليهم من الشروط التي زادها الحاكم عَلَى الْعُمَرِيَّةِ، مِنْ تَعْلِيقِ الصُّلْبَانِ عَلَى صُدُورِهِمْ، وأن يكون الصليب من خشب زنته أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ، وَعَلَى الْيَهُودِ تَعْلِيقُ رَأْسِ الْعِجْلِ زِنَتُهُ سِتَّةُ أَرْطَالٍ. وَفِي الْحَمَّامِ يَكُونُ فِي عُنُقِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قِرْبَةٌ زِنَةُ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، بأجراس، وَأَنْ لَا يَرْكَبُوا خَيْلًا. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَمَرَ بِإِعَادَةِ بِنَاءِ الْكَنَائِسِ الَّتِي هَدَمَهَا وَأَذِنَ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِي الِارْتِدَادِ إِلَى دِينِهِ. وَقَالَ نُنَزِّهُ مَسَاجِدَنَا أَنْ يَدْخُلَهَا مَنْ لا نية له، ولا يعرف باطنه، قبحه الله.(11/339)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو مُحَمَّدٍ الباجي
سبق ذكره، اسمه عبد الله بن محمد الباجي البخاري الخوارزمي، أحد أئمة الشافعية، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ وَدَرَّسَ مَكَانَهُ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَدَبِ وَالْفَصَاحَةِ وَالشِّعْرِ، جَاءَ مرة ليزور بعض أصحابه فلم يجده في المنزل فكتب هذه الأبيات:
قد حضرنا وليس نقضي التَّلَاقِي ... نَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ هَذَا الْفِرَاقِ
إِنْ تغب لم أغب وإن لم تغب ... غبت كأن افتراقنا باتفاق
توفى فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ في طبقات الشافعية.
عبد الله بن أحمد
ابن على بن الحسين، أبو القاسم الْمَعْرُوفُ بِالصَّيْدَلَانِيِّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ، وَرَوَى عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا صَالِحًا. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ التسعين
الببغاء الشاعر
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الفرج المخزومي، الْمُلَقَّبُ بِالْبَبَّغَاءِ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السنة، وكان أديبا فاضلا مترسلا شاعرا مطبقا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
يَا مَنْ تَشَابَهَ مِنْهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ ... فَمَا تُسَافِرُ إِلَّا نَحْوَهُ الْحَدَقُ
فورد دَمْعِي مَنْ خَدَّيْكَ مُخْتَلَسٌ ... وَسُقْمُ جِسْمِي مِنْ جَفْنَيْكَ مُسْتَرَقُ
لَمْ يَبْقَ لِي رَمَقٌ أَشْكُو هَوَاكَ بِهِ ... وَإِنَّمَا يَتَشَكَّى مَنْ بِهِ رَمَقُ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ، أَحَدُ الْعُلَمَاءِ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ، الْمُنَاظِرِينَ لِأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَقَدْ فُلِجَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَحِينَ مَاتَ دُفِنَ مع أبى حنيفة.
بديع الزمان
صاحب المقامات، أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. أَبُو الْفَضْلِ الْهَمَذَانِيُّ، الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِبَدِيعِ الزَّمَانِ، صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الرَّائِقَةِ، وَالْمَقَامَاتِ الْفَائِقَةِ، وَعَلَى مِنْوَالِهِ نَسَجَ الْحَرِيرِيُّ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ وَشَكَرَ تَقَدُّمَهُ، وَاعْتَرَفَ بفضله، وقد كان أَخَذَ اللُّغَةَ عَنِ ابْنِ فَارِسٍ، ثُمَّ بَرَزَ، وكان أحد الفضلاء الفصحاء، ويقال إنه سم وأخذه سَكْتَةٌ، فَدُفِنَ سَرِيعًا. ثُمَّ عَاشَ فِي قَبْرِهِ وَسَمِعُوا صُرَاخَهُ فَنَبَشُوا عَنْهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ وَهُوَ آخِذٌ عَلَى لِحْيَتِهِ مِنْ هَوْلِ الْقَبْرِ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.(11/340)
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة
فيها قتل عَلِيِّ بْنُ ثُمَالٍ نَائِبُ الرَّحْبَةِ مِنْ طَرَفِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، قَتَلَهُ عِيسَى بْنُ خَلَّاطٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَمَلَكَهَا، فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ صَاحِبُ حَلَبَ وَمَلَكَهَا، وَفِيهَا صُرِفَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ وَوَلِيَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُهَنُّونَ هَذَا وَيُعَزُّونَ هَذَا، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْعُصْفُرِيُّ:
عِنْدِي حديث ظريف ... بِمِثْلِهِ يَتَغَنَّى
مِنْ قَاضِيَيْنِ يُعَزَّى ... هَذَا وَهَذَا يهنأ
فذا يقول أكرهونى ... وذا يقول استرحنا
ويكذبان جميعا ... ومن يُصَدَّقُ مِنَّا
وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عصفت ريح شديدة فألقت وحلا أَحْمَرَ فِي طُرُقَاتِ بَغْدَادَ. وَفِيهَا هَبَّتْ عَلَى الْحُجَّاجِ رِيحٌ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ وَاعْتَرَضَهُمُ الْأَعْرَابُ فَصَدُّوهُمْ عن السبيل، واعتاقوهم حتى فاتهم الحج فَرَجَعُوا، وَأَخَذَتْ بَنُو هِلَالٍ طَائِفَةً مِنْ حُجَّاجِ الْبَصْرَةِ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ وَاحِدٍ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ نحوا من ألف ألف دينار، وكانت الخطبة فيها للمصريين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو أحمد الطبراني، سمع بمكة وبغداد وغيرهما من البلاد، وكان مكرما، سمع منه الدار قطنى وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ ثُمَّ أَقَامَ بِالشَّامِ بِالْقُرْبِ مِنْ جَبَلٍ عِنْدَ بَانْيَاسَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى إِلَى أَنْ مَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ منها.
محمد بن على بن الحسن
أبو مسلم كاتب الوزير بن خنزابة، رَوَى عَنِ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ عَرَفَةَ وَابْنِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْبَغَوِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْفَهْمِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ البغوي لأن أصله كان غالبا مَفْسُودًا. وَذَكَرَ الصُّورِيُّ أَنَّهُ خَلَطَ فِي آخِرِ عمره.
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ
عَبْدِ الواحد بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفِيُّ الْمِصْرِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ الزِّيجِ الْحَاكِمِيِّ فِي أربع مجلدات، كان أبوه من كبار المحدثين الحفاظ، وقد وضع لمصر تاريخا نافعا يرجع العلماء إليه فيه، وأما هذا فإنه اشتغل في علم النُّجُومِ فَنَالَ مِنْ شَأْنِهِ مَنَالًا جَيِّدًا، وَكَانَ شَدِيدَ الِاعْتِنَاءِ بِعِلْمِ الرَّصْدِ وَكَانَ مَعَ هَذَا مُغَفَّلًا سَيِّئَ الْحَالِ، رَثَّ الثِّيَابِ، طَوِيلًا يَتَعَمَّمُ عَلَى طُرْطُورٍ طَوِيلٍ، وَيَتَطَيْلَسُ فَوْقَهُ، وَيَرْكَبُ حِمَارًا، فَمَنْ رَآهُ ضَحِكَ مِنْهُ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْحَاكِمِ فَيُكْرِمُهُ وَيَذْكُرُ مِنْ تَغَفُّلِهِ مَا يَدُلُّ على اعْتِنَائِهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَكَانَ شَاهِدًا مُعَدَّلًا، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ:
أُحَمِّلُ نَشْرَ الرِّيحِ عِنْدَ هُبُوبِهِ ... رِسَالَةَ مُشْتَاقٍ إلى حبيبه
بنفسي من تحيا النفوس بريقه ... ومن طابت الدنيا به وبطيبة(11/341)
يجدد وجدي طائف منه في الكرا ... سرى موهنا في جفنه مِنْ رَقِيبِهِ
لَعَمْرِي لَقَدْ عَطَّلْتُ كَأْسِي بَعْدَهُ ... وَغَيَّبْتُهَا عَنِّي لَطُولِ مَغِيبِهِ
تَمَنِّي أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ باللَّه
مَوْلَاةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، كَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَمِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ تُوُفِّيَتْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ من شعبان منها، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُهَا الْقَادِرُ، وَحُمِلَتْ بَعْدَ الْعِشَاءِ إلى الرصافة
ثم دخلت سنة أربعمائة من الهجرة
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا نَقَصَتْ دِجْلَةُ نَقْصًا كثيرا، حتى ظهرت جزائر لم تغرق، وامتنع سير السفن في أعاليها من أذنة والراشدية، فأمر بكرى تلك الأماكن، وفيها كمل السور على مشهد أمير المؤمنين على عليه السلام الّذي بناه أبو إسحاق الأجانى، وذلك أن أبا محمد بن سهلان مرض فنذر إن عوفي ليبنينه فعوفي. وَفِي رَمَضَانَ أَرْجَفَ النَّاسُ بِالْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ باللَّه بأنه مات فَجَلَسَ لِلنَّاسِ يَوْمَ جُمُعَةٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَجَاءَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَرَأَ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ في الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) 33: 60 الآيات فتباكى الناس ودعوا وانصرفوا وهم فراحا. وفيها وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْحَاكِمَ أَنْفَذَ إِلَى دَارِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ بِالْمَدِينَةِ فَأَخَذَ مِنْهَا مُصْحَفًا وَآلَاتٍ كَانَتْ بِهَا، وَهَذِهِ الدَّارُ لَمْ تفتح بعد موت صاحبها إلى هذا الآن، وَكَانَ مَعَ الْمُصْحَفِ قَعْبٌ خَشَبٌ مُطَوَّقٌ بِحَدِيدٍ وَدَرَقَةٌ خَيْزُرَانٌ وَحَرْبَةٌ وَسَرِيرٌ، حَمَلَ ذَلِكَ كُلَّهَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَطْلَقَ لهم الحاكم أَنْعَامًا كَثِيرَةً وَنَفَقَاتٍ زَائِدَةً، وَرَّدَ السَّرِيرَ وَأَخَذَ الْبَاقِيَ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهِ. فَرَدُّوا وَهُمْ ذامون له داعون عليه. وبنى الحاكم فيها دارا للعلم وَأَجْلَسَ فِيهَا الْفُقَهَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ هَدَمَهَا وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ فِيهَا من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير. وفيها عمر الجامع المنسوب إليه بمصر وهو جامع الحاكم، وتأنق في بنائه. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا أُعِيدَ الْمُؤَيَّدُ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ خَلْعِهِ وَحَبْسِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكَانَتِ الخطبة بالحرمين للحاكم صاحب مصر والشام.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو أَحْمَدَ الموسوي النقيب
الحسن بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ موسى بن جعفر الموسوي، وَالِدُ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى، وَلِيَ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ مَرَّاتٍ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ مَرَّاتٍ، يُعْزَلُ وَيُعَادُ، ثُمَّ أخر فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْمُرْتَضَى، وَدُفِنَ فِي مشهد الحسين. وقد رثاه ابنه المرتضى في قصيدة حسنة قوية المنزع والمطلع فمنها:
سلام الله تنقله الليالي ... وتهديه الغدو إلى الرواح(11/342)
على جدث حسيب من لؤيّ ... لينبوع الْعِبَادَةِ وَالصَّلَاحِ
فَتًى لَمْ يَرْوِ إِلَّا مِنْ حلال ... ولم يك زاده إلا المباح
ولا دنست له أزر لزور ... وَلَا عَلِقَتْ لَهُ رَاحٌ بِرَاحِ
خَفِيفُ الظَّهْرِ من ثقل الخطايا ... وعريان الجوارح مِنْ جَنَاحِ
مَشُوقٌ فِي الْأُمُورِ إِلَى عُلَاهَا ... وَمَدْلُولٌ عَلَى بَابِ النَّجَاحِ
مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ لهم قلوب ... بذكر الله عامرة النواحي
بأجسام من التقوى مراض ... لنصرتها وأديان صحاح
الْحَجَّاجُ بْنُ هُرْمُزَ أَبُو جَعْفَرٍ
نَائِبُ بَهَاءِ الدولة على العراق، وكان تليده لقتال الأعراب والأكراد، وكان من المقدمين في أيام عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ لَهُ خِبْرَةٌ تَامَّةٌ بِالْحَرْبِ، وحزمة شديدة، وشجاعة تامة وَافِرَةٌ، وَهِمَّةٌ عَالِيَةٌ وَآرَاءٌ سَدِيدَةٌ. وَلَمَّا خَرَجَ من بغداد في سنة ثنتين وسبعين وثلاثمائة كثرت بها الفتن. توفى بالأهواز عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِ سِنِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيُّ الْمِصْرِيُّ التَّاجِرُ
كَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، اشْتَمَلَتْ تَرِكَتُهُ عَلَى أَزْيَدِ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، مِنْ سَائِرِ أنواع المال.
توفى بِأَرْضِ الْحِجَازِ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ قَبْرِ الحسن بن على، رضى الله عنهم.
أبو الحسين ابن الرفّاء المقري
تقدم ذكره وقراءته على كبير الأعراب في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ وَأَحْلَاهُمْ أداء رحمه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خُطِبَ بِالْمَوْصِلِ لِلْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ عَنْ أَمْرِ صَاحِبِهَا قرواش بن مقلد أبى منيع، وذلك لقهره رعيته، وقد سرد ابن الجوزي صفة الخطبة بِحُرُوفِهَا. وَفِي آخِرِ الْخُطْبَةِ صَلَّوْا عَلَى آبَائِهِ المهدي ثم ابنه القائم ثم الْمَنْصُورِ، ثُمَّ ابْنِهِ الْمُعِزِّ، ثُمَّ ابْنِهِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ ابْنِهِ الْحَاكِمِ صَاحِبِ الْوَقْتِ، وَبَالَغُوا فِي الدعاء لهم، ولا سيما للحاكم، وكذلك تبعته أعمالها مَنَ الْأَنْبَارِ وَالْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا.
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ تَرَدَّدَتْ مُكَاتَبَاتُهُ وَرُسُلُهُ وَهَدَايَاهُ إِلَى قِرْوَاشٍ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ، وَلِيُقْبِلَ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ، حَتَّى فعل ما فعل من الخطبة وغيرها، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ الْقَادِرَ باللَّه الْعَبَّاسِيَّ كَتَبَ يعاتب قرواش عَلَى مَا صَنَعَ، وَنَفَذَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لِمُحَارَبَةِ قِرْوَاشٍ. فَلَمَّا بَلَغَ قِرْوَاشًا رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِقَطْعِ الْخُطْبَةِ للحاكم من بلاده، وخطب للقادر على عادته.(11/343)
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَاسْتَمَرَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى رَمَضَانَ، وَبَلَغَتْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا، وَدَخَلَ إِلَى أَكْثَرِ دُورِ بَغْدَادَ. وَفِيهَا رَجَعَ الْوَزِيرُ أبو خلف إلى بغداد ولقب فخر الملك بعميد الْجُيُوشِ. وَفِيهَا عَصَى أَبُو الْفَتْحِ الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَتَلَقَّبَ بِالرَّاشِدِ باللَّه. وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ والخطبة للحاكم.
وممن توفى فيها من الأعيان
أبو مسعود صاحب الأطراف.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ
أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، مُصَنِّفُ كِتَابِ الْأَطْرَافِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، رَحَلَ إِلَى بِلَادٍ شَتَّى كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ والكوفة وواسط وأصبهان وخراسان، وكان من الحفاظ الصادقين، والأمناء الضَّابِطِينَ، وَلَمْ يَرْوِ إِلَّا الْيَسِيرَ، رَوَى عَنْهُ أبو القاسم وأبو ذر الهروي، وحمزة السهمي، وغيرهم.
توفى بِبَغْدَادَ فِي رَجَبٍ وَأَوْصَى إِلَى أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ جَامِعِ المنصور قريبا من السكك. وقد ترجمه ابن عساكر وأثنى عليه.
عميد الجيوش الوزير
الحسن بن أبى جعفر أستاذ هرمز، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ حجاب عضد الدولة، وولاه بهاء الدولة وزارته سنة ثنتين وتسعين، والشرور كثيرة منتشرة، فَمَهَّدَ الْبِلَادَ وَأَخَافَ الْعَيَّارِينَ وَاسْتَقَامَتْ بِهِ الْأُمُورُ، وَأَمَرَ بَعْضَ غِلْمَانِهِ أَنْ يَحْمِلَ صِينِيَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ مَكْشُوفَةٌ مِنْ أَوَّلِ بَغْدَادَ إِلَى آخِرِهَا وأن يدخل بها في جميع الأزقة، فَإِنِ اعْتَرَضَهُ أَحَدٌ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْهِ وَلْيَعْرِفَ ذَلِكَ المكان، فذهب الغلام فلم يعترضه أحد، فحمد الله وأثنى عليه، ومنع الروافض النياحة في يوم عاشوراء، وما يتعاطونه من الفرح في يوم ثامن عشر ذي الحجة الّذي يقال له عيد غدير خم، وكان عادلا منصفا.
خلف الواسطي
صاحب الأطراف أيضا، خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمْدُونَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، رَحَلَ إِلَى الْبِلَادِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ رَحَلَ إلى الشام ومصر، وكتب الناس عنه بِانْتِخَابِهِ، وَصَنَّفَ أَطْرَافًا عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ، وَحِفْظٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ وَاشْتَغَلَ بِالتِّجَارَةِ وَتَرَكَ النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ حتى توفى في هذه السنة سامحه الله. رَوَى عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ.
أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ
صَاحِبُ الغريبين، أحمد بن محمد بن أبى عبيد العبديّ أبو عبيد الهروي اللُّغَوِيُّ الْبَارِعُ، كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّاسِ فِي الْأَدَبِ وَاللُّغَةِ، وَكِتَابُهُ الْغَرِيبَيْنِ، فِي مَعْرِفَةِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، يَدُلُّ عَلَى اطِّلَاعِهِ وَتَبَحُّرِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَكَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي مَنْصُورٍ الأزهري. قال ابن خلكان: وقيل كان(11/344)
يحب التنزه ويتناول في خلوته ما لا يجوز، ويعاشر أهل الأدب في مجلس اللذة والطرب، والله أعلم. سامحه الله. قَالَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وأربعمائة، وذكر ابن خلكان أن في هذه السنة أو التي قبلها كانت وفاة الْبُسْتِيِّ الشَّاعِرِ وَهُوَ:
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الحسين بن يوسف الكاتب
صاحب الطريقة الأنيقة والتجنيس الْأَنِيسِ، الْبَدِيعِ التَّأْسِيسِ، وَالْحَذَاقَةِ وَالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَقَدْ ذكرناه، وَمِمَّا أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ أصلح فاسده أرغم حاسده، ومن أَطَاعَ غَضَبَهُ أَضَاعَ أَدَبَهُ. مِنْ سَعَادَةِ جَدِّكَ وُقُوفُكَ عِنْدَ حَدِّكَ. الْمَنِيَّةُ تَضْحَكُ مِنَ الْأُمْنِيَةِ. الرشوة رشا الحاجات، حد العفاف الرضى بِالْكَفَافِ. وَمِنْ شَعْرِهِ:
إِنْ هَزَّ أَقْلَامَهُ يَوْمًا لِيُعْمِلَهَا ... أَنْسَاكَ كُلَّ كَمِيٍّ هَزَّ عَامِلَهُ
وَإِنْ أمر عَلَى رِقٍّ أَنَاَمِلَهُ ... أَقَرَّ بَالرِّقِّ كُتَّابُ الْأَنَامِ لَهُ
وَلَهُ:
إِذَا تَحَدَّثْتَ فِي قَوْمٍ لِتُؤْنِسَهُمْ ... بِمَا تُحَدِّثُ مِنْ مَاضٍ وَمِنْ آتِ
فَلَا تَعُدْ لِحَدِيثٍ إِنَّ طَبْعَهُمُ ... مُوَكَّلٌ بَمُعَادَاةِ الْمُعَادَاتِ
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة
في المحرم منها أذن فخر الملك الوزير للروافض أن يعملوا بدعتهم الشَّنْعَاءَ، وَالْفَضِيحَةَ الصَّلْعَاءَ، مِنَ الِانْتِحَابِ وَالنَّوْحِ وَالْبُكَاءِ، وتعليق المسوح وأن تغلق الأسواق من الصباح إلى المساء، وأن تدور النِّسَاءِ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ وَرُءُوسِهِنَّ، يَلْطِمْنَ خُدُودَهُنَّ، كفعل الجاهلية الجهلاء، على الحسين بن على، فلا جزاء الله خَيْرًا، وَسَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، إِنَّهُ سميع الدعاء. وفي ربيع الآخر أمر القادر بِعِمَارَةِ مَسْجِدِ الْكَفِّ بِقَطِيعَةِ الدَّقِيقِ، وَأَنْ يُعَادَ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَفُعِلَ ذَلِكَ وَزُخْرِفَ زخرفة عظيمة جدا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156
ذكر الطعن من أئمة بغداد وعلمائهم وغيرهم من البلاد في نسب الفاطميين وأنهم أدعياء كذبة
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا كَتَبَ هَؤُلَاءِ بِبَغْدَادَ محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين وهم ملوك مصر وليسوا كذلك، وإنما نسبهم إلى عبيد بن سعد الجرمي، وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ والأشراف والعدول، والصالحين والفقهاء، والمحدثين، وشهدوا جميعا أن الحاكم بمصر هو مَنْصُورُ بْنُ نِزَارٍ الْمُلَقَّبُ بِالْحَاكِمِ، حَكَمَ اللَّهُ عليه بالبوار والخزي والدمار، ابن معد بن إسماعيل بن عبد الله بْنِ سَعِيدٍ، لَا أَسْعَدَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا صَارَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ تَسَمَّى بِعُبَيْدِ اللَّهِ، وتلقب بالمهديّ، وأن من تقدم من سلفه أَدْعِيَاءُ خَوَارِجُ، لَا نَسَبَ لَهُمْ فِي وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالَبٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُونَ بِسَبَبٍ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ بَاطِلِهِمْ، وَأَنَّ الَّذِي ادَّعَوْهُ إِلَيْهِ بَاطِلٌ وَزُورٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَحَدًا من أهل بيوتات(11/345)
على بن أبى طالب توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبة، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْإِنْكَارُ لِبَاطِلِهِمْ شَائِعًا فِي الْحَرَمَيْنِ، وَفِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ بِالْمَغْرِبِ مُنْتَشِرًا انْتِشَارًا يمنع أن يدلس أمرهم على أحد، أَوْ يَذْهَبَ وَهْمٌ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ، وأن هذا الحاكم بِمِصْرَ هُوَ وَسَلَفُهُ كَفَّارٌ فُسَّاقٌ فُجَّارٌ، مُلْحِدُونَ زنادقة، معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية مُعْتَقِدُونَ، قَدْ عَطَّلُوا الْحُدُودَ وَأَبَاحُوا الْفُرُوجَ، وَأَحَلُّوا الخمر وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَسَبُّوا الْأَنْبِيَاءَ، وَلَعَنُوا السَّلَفَ، وَادَّعَوُا الربوبية. وكتب في سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ كَتَبَ خَطَّهُ فِي الْمَحْضَرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَمِنَ الْعَلَوِيِّينَ: الْمُرْتَضَى وَالرَّضِيُّ وَابْنُ الْأَزْرَقِ الْمُوسَوِيُّ، وَأَبُو طَاهِرِ بْنُ أَبِي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أَبِي يَعْلَى. وَمِنَ الْقُضَاةِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الأكفاني وأبو القاسم الجزري، وأبو العباس بن الشيورى. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بن الكسفلى، وأبو الحسن الْقُدُورِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْضَاوِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ حَمَكَانَ. وَمِنَ الشهود أبو القاسم التنوخي في كثير منهم، وَكَتَبَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. هَذِهِ عِبَارَةُ أَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أن هؤلاء أدعياء كذبة، كَمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ وَالْأَئِمَّةُ الْفُضَلَاءُ، وأنهم لا نسب لهم إلى على بن أبى طالب، ولا إلى فاطمة كما يزعمون، قول ابن عمر للحسين بن على حين أراد الذهاب إلى العراق، وذلك حين كتب عوام أهل الكوفة بالبيعة إليه فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ:
لَا تَذْهَبُ إِلَيْهِمْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ، وَإِنَّ جَدَّكَ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْتَ بُضْعَةٌ مِنْهُ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَنَالُهَا لَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خلفك ولا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ.
فَهَذَا الْكَلَامُ الْحَسَنُ الصَّحِيحُ الْمُتَوَجِّهُ الْمَعْقُولُ، مِنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَلِي الْخِلَافَةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيَّ الّذي يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى بن مريم، رغبة بهم عن الدنيا، وأن لا يدنسوا بها. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ مَلَكُوا دِيَارَ مِصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً قَوِيَّةً ظَاهِرَةً على أنهم ليسوا من أهل البيت، كما نص عليه سادة الفقهاء. وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ كِتَابًا فِي الرَّدِّ على هؤلاء وسماه «كشف الأسرار وهتك الأستار» بين فِيهِ فَضَائِحَهُمْ وَقَبَائِحَهُمْ، وَوَضَّحَ أَمْرَهُمْ لِكُلِّ أَحَدٍ، ووضوح أمرهم ينبئ عن مطاوى أفعالهم، وأقوالهم، وقد كان الباقلاني يقول في عبارته عنهم: هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض. والله سبحانه أعلم.
وفي رجب وشعبان ورمضان أجرى الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ صَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ والمساكين والمقيمين بالمشاهد والمساجد وغير ذلك، وَزَارَ بِنَفْسِهِ الْمَسَاجِدَ وَالْمَشَاهِدَ، وَأَخْرَجَ خَلْقًا مِنَ المحبوسين وَأَظْهَرَ نُسُكًا كَثِيرًا، وَعَمَّرَ دَارًا عَظِيمَةً عِنْدَ سوق الدقيق. وفي شوال عصفت ريح شديدة فقصفت كثيرا من النخل وغيره، أكثر من عشرة آلاف نخلة، وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ(11/346)
سبكتكين صاحب غزنة بأنه ركب بجيشه إلى أرض العدو فجازوا بمفازة فأعوزهم الماء حتى كادوا يهلكون عن آخرهم عَطَشًا، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ حتى شربوا وسقوا واستقوا، ثم تواقفوا هم وعدوهم، ومع عدوهم نحو من ستمائة فيل، فهزموا العدو وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ وللَّه الْحَمْدُ. وفيها عملت الشيعة بدعتهم التي كانوا يعملونها يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنَ عَشَرَ من ذي الحجة، وَزُيِّنَتِ الْحَوَانِيتُ وَتَمَكَّنُوا بِسَبَبِ الْوَزِيرِ وَكَثِيرٍ مِنَ الأتراك تمكنا كثيرا.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بن العباس
ابن نوبخت أبو محمد النوبختيّ، وُلِدَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَوَى عَنْ الْمَحَامِلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ وَقَالَ كَانَ شِيعِيًّا مُعْتَزِلِيًّا، إِلَّا أَنَّهُ تَبَيَّنَ لِي أَنَّهُ كَانَ صَدُوقًا، وروى عنه الأزهري وقال: كان رافضيا، رديء المذهب. وقال العقيقي: كان فقيرا في الحديث، ويذهب إلى الاعتزال والله أعلم.
عثمان بن عيسى أبو عمر والباقلاني
أَحَدُ الزُّهَّادِ الْكِبَارِ الْمَشْهُورِينَ، كَانَتْ لَهُ نَخَلَاتٌ يأكل منها وَيَعْمَلُ بِيَدِهِ فِي الْبَوَارِيِّ، وَيَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ لا يخرج من مسجده إلا من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، لأجل صلاة الجمعة ثم يعود إلى مسجده، وكان لا يجد شيئا يشعله في مسجده، فسأله بعض الأمراء أن يقبل شيئا ولو زيتا يشعله في قناديل مسجده، فأبى الشيخ ذلك، ولهذا وأمثاله لما مات رأى بعضهم بعض الأموات من جيرانه في القبور فَسَأَلَهُ عَنْ جِوَارِهِ فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ، لَمَّا مات ووضع في قبره سمعنا قائلا يقول: إلى الفردوس الأعلى، إلى الفردوس الأعلى. أو كما قال: توفى في رجب منها عَنْ سِتَّةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بن محمد
ابن هَارُونَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ نَاجِيَةَ، أَبُو الْحَسَنِ النحويّ، والمعروف بِابْنِ النَّجَّارِ التَّمِيمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَوَى عن ابن دريد والصولي ونفطويه وغيرهم، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وسبعين سَنَةً
أَبُو الطِّيِّبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصُّعْلُوكِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ: تُوُفِّيَ فِيهَا، وقد ترجمناه فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثلاث وأربعمائة
في سادس عشر محرمها قُلِّدَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ أَبُو الْحَسَنِ الْمُوسَوِيُّ نِقَابَةَ الطالبيين في سائر الممالك وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ فِي دَارِ الْوَزِيرِ فَخْرِ الْمُلْكِ، بمحضر الأعيان، وَخُلِعَ عَلَيْهِ السَّوَادُ، وَهُوَ أَوَّلُ طَالِبِيٍّ خُلِعَ عَلَيْهِ السَّوَادُ. وَفِيهَا جِيءَ بِأَمِيرِ بَنِي خَفَاجَةَ أبو قلنبة قَبَّحَهُ اللَّهُ وَجَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ قَوْمِهِ أُسَارَى، وكانوا قد اعترضوا للحجاج في السنة التي قبلها وَهُمْ رَاجِعُونَ، وَغَوَّرُوا الْمَنَاهِلَ الَّتِي يَرِدُهَا الْحُجَّاجُ، وَوَضَعُوا فِيهَا الْحَنْظَلَ بِحَيْثُ إِنَّهُ مَاتَ مِنَ الحجاج مِنَ الْعَطَشِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وأخذوا(11/347)
بقيتهم فجعلوهم رعاة لدوابهم فِي أَسْوَإِ حَالٍ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ معهم، فحين حضروا عند دار الوزير سجنهم ومنعهم الماء، ثم صلبهم يَرَوْنَ صَفَاءَ الْمَاءِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ منه، حتى ماتوا عطشا جزاء وفاقا، وقد أحسن في هذا الصنع اقتداء بحديث أنس فِي الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتُقِلُوا فِي بِلَادِ بَنِي خَفَاجَةَ مِنَ الْحُجَّاجِ فَجِيءَ بِهِمْ، وَقَدْ تَزَوَّجَتْ نِسَاؤُهُمْ وَقُسِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، فردوا إلى أهاليهم وأموالهم. قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها انقضّ كوكب من المشرق إلى المغرب عليه ضوء عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَتَقَطَّعَ قِطَعًا وَبَقِيَ سَاعَةً طَوِيلَةً. قَالَ: وَفِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَتْ زَوْجَةُ بَعْضِ رؤساء النصارى، فخرجت النوائح والصلبان معها جهارا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْهَاشِمِيِّينَ فَضَرَبَهُ بَعْضُ غِلْمَانِ ذَلِكَ الرَّئِيسِ النَّصْرَانِيِّ بِدَبُّوسٍ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ، فثار المسلمون بهم فانهزموا حتى لجئوا إِلَى كَنِيسَةٍ لَهُمْ هُنَاكَ، فَدَخَلَتِ الْعَامَّةُ إِلَيْهَا فَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ دُورِ النَّصَارَى، وَتَتَبَّعُوا النَّصَارَى فِي الْبَلَدِ، وَقَصَدُوا الناصح وَابْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَقَاتَلَهُمْ غِلْمَانُهُمْ، وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ، وَرَفَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمَصَاحِفَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَعُطِّلَتِ الجمع فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَاسْتَعَانُوا بِالْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ابْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَامْتَنَعَ، فَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَادَ، وَقَوِيَتِ الْفِتْنَةُ جِدًّا وَنُهِبَتْ دور كثير مِنَ النَّصَارَى، ثُمَّ أُحْضِرَ ابْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَبَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَعُفِيَ عَنْهُ وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. وفي ذي القعدة ورد كتاب يمين الدولة محمود إِلَى الْخَلِيفَةِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَرَدَ إِلَيْهِ رَسُولٌ من الحاكم صاحب مصر ومعه كتاب يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ فَبَصَقَ فِيهِ وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ، وَأَسْمَعَ رَسُولَهُ غَلِيظَ مَا يُقَالُ.
وَفِيهَا قُلِّدَ أبو نصر بن مروان الكردي آمد وميافارقين وديار بكر، وخلع عليه طوق وسواران، ولقب بناصر الدولة، ولم يتمكن ركب العراق وخراسان مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْحَجِّ لِفَسَادِ الطَّرِيقِ، وَغَيْبَةِ فخر الملك في إصلاح الأراضي.
وفيها عادت مملكة الأمويين ببلاد الأندلس فَتَوَلَّى فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيُّ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَعِينِ باللَّه، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بِقُرْطُبَةَ. وَفِيهَا مَاتَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيِّ صَاحِبُ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ. وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ التُّرْكِ الْأَعْظَمُ واسمه إيلك الخان، وتولى مكانه أَخُوهُ طُغَانُ خَانَ. وَفِيهَا هَلَكَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ، أُدْخِلَ بَيْتًا بَارِدًا فِي الشتاء وليس عليه ثياب حَتَّى مَاتَ كَذَلِكَ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ مِنُوجِهْرُ، وَلُقِّبَ فَلَكَ الْمَعَالِي، وَخُطِبَ لِمَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَقَدْ كَانَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ عَالِمًا فَاضِلًا أَدِيبًا شَاعِرًا، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
قُلْ لِلَّذِي بِصُرُوفِ الدَّهْرِ عَيَّرَنَا ... هَلْ عَانَدَ الدَّهْرُ إِلَّا مَنْ لَهُ خَطَرُ
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ يَطْفُو فَوْقَهُ جِيَفٌ ... وَيَسْتَقِرُّ بِأَقْصَى قَعْرِهِ الدُّرَرُ(11/348)
فَإِنْ تَكُنْ نَشِبَتْ أَيْدِي الْخُطُوبِ بِنَا ... وَمَسَّنَا مِنْ تَوَالِي صَرْفِهَا ضَرَرُ
فَفِي السَّمَاءِ نُجُومٌ غَيْرُ ذِي عَدَدِ ... وَلَيْسَ يَكْسِفُ إِلَّا الشَّمْسُ والقمر
ومن مستجاد شعره قَوْلُهُ:
خَطِرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَثِيرُ مَوَدَّتِي ... فَأُحِسُّ مِنْهَا فِي الْفُؤَادِ دَبِيبًا
لَا عُضْوَ لِي إِلَّا وفيه صبابة ... وكأن أعضائى خلقن قلوبا
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو الْحَسَنِ الليثي
كَانَ يَكْتُبُ لِلْقَادِرِ وَهُوَ بِالْبَطِيحَةِ، ثُمَّ كَتَبَ له على ديوان الخراج وَالْبَرِيدِ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ حِفْظًا حَسَنًا، مَلِيحَ الصوت والتلاوة، حسن المجالسة، ظريف المعاني، كثير الضحك وَالْمَجَانَةِ، خَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ هُوَ وَالشَّرِيفَانِ الرضى والمرتضى وجماعة من الأكابر لتلقى بعض الملوك، فخرج بعض اللصوص فجعلوا يرمونهم بالحرّاقات ويقولون: يا أزواج القحاب، فقال الليثي: مَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ عَلَيْنَا إِلَّا بِعَيْنٍ، فَقَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا؟ فَقَالَ. وَإِلَّا مِنْ أين علموا أنا أَزْوَاجُ قِحَابٍ.
الْحَسَنُ بْنُ حَامِدِ بْنِ عَلِيِّ بن مروان
الْوَرَّاقُ الْحَنْبَلِيُّ، كَانَ مُدَرِّسَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَفَقِيهَهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ، مِنْهَا كِتَابُ الْجَامِعِ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ جُزْءٍ، وله في أصول الفقه والدين، وعليه اشتغل أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي النفوس، مقدما عند السلطان، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه من النسخ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، وَخَرَجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْحَجِّ فَلَمَّا عَطِشَ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ اسْتَنَدَ هُوَ إِلَى حَجَرٍ هُنَاكَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ بِقَلِيلٍ مِنْ مَاءٍ فَقَالَ له ابن حامد: من أين لك؟ فقال: ما هذا وقت سؤالك اشْرَبْ، فَقَالَ: بَلَى هَذَا وَقْتُهُ عِنْدَ لِقَاءِ الله عز وجل، فَلَمْ يَشْرَبْ وَمَاتَ مِنْ فَوْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الحسين بن الحسن
ابن مُحَمَّدِ بْنِ حَلِيمٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ، صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ، كَانَ أَحَدَ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ بِجُرْجَانَ وَحُمِلَ إِلَى بُخَارَى، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي عَصْرِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِبُخَارَى. قَالَ ابن خلكان: انتهت إليه الرئاسة فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَلَهُ وُجُوهٌ حَسَنَةٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.
فيروز أبو نصر
الملقب ببهاء الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الدَّيْلَمِيُّ، صَاحِبُ بَغْدَادَ وغيرها، وَهُوَ الَّذِي قَبَضَ عَلَى الطَّائِعِ وَوَلَّى الْقَادِرَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْمُصَادَرَاتِ فَجَمَعَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ بَنِي بُوَيْهِ،(11/349)
وَكَانَ بَخِيلًا جِدًّا، تُوُفِّيَ بِأَرَّجَانَ فِي جُمَادَى الآخرة منها عن ثنتين وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكان مرضه بالصرع، ودفن بالمشهد إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ.
قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ
كَانَ أهل دولته قد تغيروا عليه فبايعوا ابنه منوجهر وقتلوه كما ذكرنا، وَكَانَ قَدْ نَظَرَ فِي النُّجُومِ فَرَأَى أَنَّ وَلَدَهُ يَقْتُلُهُ، وَكَانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَلَدَهُ دَارَا، لِمَا يَرَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ، وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ مِنُوجِهْرُ لِمَا يَرَى مِنْ طَاعَتِهِ لَهُ، فكان هلاكه على يد منوجهر، وقد قدمنا شيئا من شعره فِي الْحَوَادِثِ.
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ
مُحَمَّدُ بن الطيب أبو بكر الباقلاني، رأس المتكلمين على مذهب الشافعيّ، وهو من أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا وَتَصْنِيفًا فِي الْكَلَامِ، يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ لَا يَنَامُ كُلَّ لَيْلَةٍ حَتَّى يكتب عشرين ورقة من مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ عُمُرِهِ، فَانْتَشَرَتْ عَنْهُ تَصَانِيفُ كثيرة، منها التبصرة، ودقائق الحقائق، والتمهيد في أصول الفقه، وشرح الْإِبَانَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَجَامِيعِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، ومن أحسنها كِتَابُهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ، الَّذِي سَمَّاهُ كَشْفَ الْأَسْرَارِ وَهَتْكَ الْأَسْتَارِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِهِ فِي الْفُرُوعِ: فَقِيلَ شَافِعِيٌّ وَقِيلَ مَالِكِيٌّ، حكى ذلك عنه أبو ذر الهروي، وقيل إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ عَلَى الْفَتَاوَى: كَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْحَنْبَلِيُّ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ كَانَ فِي غَايَةِ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ، ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ بَعْثَهُ فِي رِسَالَةٍ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ إذ هو لا يدخل عليه أحد إلا من باب قصير كهيئة الراكع، ففهم الباقلاني أن مراده أن ينحنى الداخل عليه له كهيئة الراكع للَّه عز وجل، فدار استه إلى الملك ودخل الباب بظهره يمشى إليه القهقرى، فلما وصل إليه انفتل فسلم عليه، فعرف الملك ذكاءه ومكانه من العلم والفهم، فعظمه. ويقال إن الملك أحضر بَيْنِ يَدَيْهِ آلَةَ الطَّرَبِ الْمُسَمَّاةِ بِالْأُرْغُلِ، لِيَسْتَفِزَّ عقله بها، فلما سمعها الباقلاني خاف على نفسه أن يظهر مِنْهُ حَرَكَةٌ نَاقِصَةٌ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو جَهْدًا أَنْ جَرَحَ رِجْلَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ الْكَثِيرُ، فَاشْتَغَلَ بِالْأَلَمِ عَنِ الطَّرَبِ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ النَّقْصِ وَالْخِفَّةِ، فعجب الملك من ذلك، ثم إن الملك استكشف الأمر فَإِذَا هُوَ قَدْ جَرَحَ نَفْسَهُ بِمَا أَشْغَلَهُ عن الطرب، فتحقق الملك وفور همته وعلو عزيمته، فأن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى. وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ الْأَسَاقِفَةِ بِحَضْرَةِ مَلِكِهِمْ فَقَالَ: مَا فَعَلَتْ زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ؟
وَمَا كَانَ مِنْ أمرها بما رميت به من الافك؟ فقال الباقلاني مجيبا له على البديهة: هما امرأتان ذكرنا بِسُوءٍ: مَرْيَمُ وَعَائِشَةُ، فَبَرَّأَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَمْ تَأْتِ بِوَلَدٍ، وَأَتَتْ مَرْيَمُ بِوَلَدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ- يَعْنِي أَنَّ عَائِشَةَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْ مَرْيَمَ- وكلاهما بريئة مما قيل فيها، فان تطرق في الذهن الفاسد احتمال ريبة إِلَى هَذِهِ فَهُوَ إِلَى تِلْكَ أَسْرَعُ، وَهُمَا بحمد الله منزهتان مبرأتان من السماء بوحي الله عز وجل، عليهما السلام.(11/350)
وَقَدْ سَمِعَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مَاسِيِّ وغيرهما، وقد قبله الدار قطنى يوما وَقَالَ: هَذَا يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بَاطِلَهُمْ، ودعا له. وكانت وفاته يَوْمَ السَّبْتَ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو بكر الخوارزمي شيخ الحنفية وفقيههم، أخذ العلم عن أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الرَّازِيِّ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْحَنَفِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الْمُلُوكِ، وَمِنْ تلامذة الرَّضِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بكر الشافعيّ وغيره، وكان ثقة دينا حسن الصلاة على طريقة السلف، ويقول في الاعتقاد: دِينُنَا دِينُ الْعَجَائِزِ، لَسْنَا مِنَ الْكَلَامِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ فَصِيحًا حَسَنَ التَّدْرِيسِ، دُعِيَ إِلَى ولاية القضاء غير مرة فلم يقبل، توفى لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ مِنْ دَرْبِ عَبْدَةَ.
الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بن خلف
العامري القابسي مصنف التلخيص، أصله قزويني وَإِنَّمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْقَابِسَيُّ لِأَنَّ عَمَّهُ كَانَ يَتَعَمَّمُ قَابِسِيَّةً، فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ حَافِظًا بَارِعًا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، رَجُلًا صَالِحًا جَلِيلَ الْقَدْرِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَكَفَ النَّاسُ عَلَى قَبْرِهِ لَيَالِيَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ لَهُ، وَجَاءَ الشُّعَرَاءُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ يَرْثُونَ وَيَتَرَحَّمُونَ، وَلَمَّا أُجْلِسَ للمنظرة أَنْشَدَ لِغَيْرِهِ:
لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا نُسِبَ الْمُعَلَّى ... إِلَى كَرَمٍ وَفِي الدُّنْيَا كَرِيمُ
وَلَكِنَّ الْبِلَادَ إِذَا اقْشَعَرَّتْ ... وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الْهَشِيمُ
ثُمَّ بَكَى وَأَبْكَى، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَا الْهَشِيمُ أَنَا الهشيم. رحمه الله.
الْحَافِظُ بْنُ الْفَرْضِيِّ
أَبُو الْوَلِيدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ نَصْرٍ الْأَزْدِيُّ الفرضيّ، قاضى بكنسية، سمع الكثير وجمع وَصَنَّفَ التَّارِيخَ، وَفِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَمُشْتَبَهِ النِّسْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ، قُتِلَ شَهِيدًا على يد البربر فسمعوه وَهُوَ جَرِيحٌ طَرِيحٌ يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ «مَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» . وَقَدْ كان سأل الله الشهادة عند أستار الكعبة فأعطاه إياها، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفُ ... عَلَى وَجَلٍ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ
يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيها ... ويرجوك فيها وهو رَاجٍ وَخَائِفُ
وَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ ويتقى ... ومالك فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ
فَيَا سَيِّدِي لَا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي ... إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصحائب
وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَ مَا ... يصد ذو والقربى ويجفو الموالف(11/351)
لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ الَّذِي ... أَرَجِّي لِإِسْرَافِي فَإِنِّي تَالِفُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ غُرَّةِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا جلس الخليفة القادر في أبهة الخلافة وأحضر بين يديه سلطان الدولة والحجبة، فخلع عليه سبع خلع على العادة، وعممه بعمامة سوداء، وقلد سيفا وتاجا مرصعا، وسوارين وطوقا، وعقد له لواءين بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ سَيْفًا وَقَالَ لِلْخَادِمِ: قَلِّدْهُ به، فهو شرف له ولعقبه، يفتح شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا، حضره القضاة والأمراء والوزراء.
وَفِيهَا غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ فَفَتَحَ وَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَسَلِمَ، وَكَتَبَ إِلَى الخليفة أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَمْلَكَةِ خُرَاسَانَ وغيرها من البلاد، فأجابه إلى ما سأل. وَفِيهَا عَاثَتْ بَنُو خَفَاجَةَ بِبِلَادِ الْكُوفَةِ فَبَرَزَ إليهم نائبها أبو الحسن بن مزيد فقتل منهم خلقا وأسر محمد بن يمان وَجَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِهِمْ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عليهم ريحا حارة فأهلك منهم خمسمائة إنسان. وحج بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسى.
وفيها توفى من الأعيان
الحسن بن أحمد
ابن جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَغْدَادِيِّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا كَثِيرَ الْمُجَاهَدَةِ، لَا يَنَامُ إِلَّا عَنْ غَلَبَةٍ، وَكَانَ لَا يدخل الحمام ولا يغسل ثيابه إلا بماء، وجده الْحُسَيْنُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو عَبْدِ الله المقري الضَّرِيرُ الْمُجَاهِدِيُّ، قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ الْقُرْآنَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أصحابه، توفى في جمادى الأولى منها، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةٍ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الزرادين.
عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ
أَحَدُ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، صَنَّفَ لِلْقَادِرِ باللَّه الرَّدَّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ فَأَجْرَى عَلَيْهِ جِرَايَةً سَنِيَّةً، وَكَانَ يَسْكُنُ دَرْبَ رَبَاحٍ، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ دخلت سنة خمس وأربعمائة
فِيهَا مَنَعَ الْحَاكِمُ صَاحِبُ مِصْرَ النِّسَاءَ مِنَ الخروج من منازلهم، أو أن يطلعن من الأسطحة أو من الطاقات، ومنع الخفافين من عمل الخفاف لَهُنَّ، وَمَنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إِلَى الْحَمَّامَاتِ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فِي ذَلِكَ، وعدم بعض الحمامات عليهنّ، وجهز نساء عجائز كثيرة يستعلمن أحوال النساء لمن يعشقن أو يعشقهن، بِأَسْمَائِهِنَّ وَأَسْمَاءِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُنَّ، فَمَنْ وُجِدَ منهن كذلك أطفأها وأهلكها، ثم إنه أكثر من الدوران بنفسه ليلا ونهارا فِي الْبَلَدِ، فِي طَلَبِ ذَلِكَ، وَغَرَّقَ خَلْقًا من الرجال والنساء والصبيان ممن يطلع على فسقهم، فضاق الحال واشتد على النساء، وعلى الفساق ذلك، ولم يتمكن أحد منهن أَنْ يَصِلَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا نَادِرًا، حَتَّى أن امرأة كانت عاشقة لرجل عشقا قويا كادت أن تهلك بسببه، لما حيل بينهما وبينه، فوقفت لقاضى القضاة وهو مالك بن سعد الفارقيّ وحلفته بحق(11/352)
الحاكم لما وقف لها واستمع كلامها،، فرحمها فوقف لها فبكت إليه بكاء شديدا مكرا وحيلة وخداعا، وقالت له: أيها القاضي إِنَّ لِي أَخًا لَيْسَ لِي غَيْرُهُ، وَهُوَ في السياق وإني أسألك بحق الحاكم عليك لما أوصلتنى إلى منزله، لأنظر إليه قبل أن يفارق الدنيا، وأجرك على الله. فَرَقَّ لَهَا الْقَاضِي رِقَّةً شَدِيدَةً وَأَمَرَ رَجُلَيْنِ كانا معه يكونان معها حتى يبلغانها إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي تُرِيدُهُ، فَأَغْلَقَتْ بَابَهَا وَأَعْطَتِ المفتاح لجارتها، وذهبت معهما حتى وصلت إلى منزل معشوقها، فطرقت الباب ودخلت وقالت لهما: اذهبا هذا منزله فإذا رجل كانت تهواه ونحبه ويهواها ويحبها، فقال لها: كيف قدرت على الوصول إليّ؟
فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا احْتَالَتْ بِهِ مِنَ الْحِيلَةِ عَلَى القاضي، فأعجبه ذلك من مكرها وحيلتها، وَجَاءَ زَوْجُهَا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فَوَجَدَ بَابَهُ مغلقا وليس في بيته أحد، فسأل الجيران عن أمرها فذكرت له جارتها مَا صَنَعَتْ فَاسْتَغَاثَ عَلَى الْقَاضِي وَذَهَبَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: مَا أُرِيدُ امْرَأَتِي إِلَّا مِنْكَ الساعة، وإلا عرّفت الحاكم، فان امرأتي لَيْسَ لَهَا أَخٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَتْ إِلَى معشوقها، فَخَافَ الْقَاضِي مِنْ مَعَرَّةِ هَذَا الْأَمْرِ، فَرَكِبَ إلى الحاكم وبكى بين يديه، فَسَأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا اتَّفَقَ لَهُ من الأمر مع المرأة، فأرسل الحاكم مع ذينك الرجلين من يحضر المرأة والرجل جَمِيعًا، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَا عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُمَا مُتَعَانِقَيْنِ سُكَارَى، فَسَأَلَهُمَا الْحَاكِمُ عَنْ أَمْرِهِمَا فَأَخَذَا يَعْتَذِرَانِ بِمَا لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ المرأة في بادية وضرب الرجل ضربا مبرحا حتى أتلفه، ثم ازداد احتياطا وشدة على النساء حتى جعلهن في أضيق من جحر ضب، ولا زال هذا دأبه حَتَّى مَاتَ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَفِي رَجَبٍ منها ولى أبو الحسن أحمد بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَضَاءَ الْحَضْرَةِ بَعْدَ مَوْتِ أبى محمد الأكفاني. وفيها عمّر فخر الدولة مسجد الشرقية ونصب عليه الشبابيك من الحديد.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
بَكْرُ بْنُ شاذان بن بكر
أبو القاسم المقري الواعظ، سمع أبا بكر الشافعيّ، وجعفر الْخُلْدِيَّ، وَعَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْخَلَّالُ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا صَالِحًا عَابِدًا زَاهِدًا، لَهُ قِيَامُ لَيْلٍ، وَكَرِيمُ أخلاق. مات فيها عن نيف وثمانين سنة، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ
بَدْرُ بْنُ حَسْنَوَيْهِ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو النَّجْمِ الْكُرْدِيُّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الملوك بناحية الدينور وهمدان، وله سياسة وصدقة كثيرة، كنّاه القادر بأبي النَّجْمِ، وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وأنفذه إليه، وكانت معاملاته وبلاده في غاية الأمن والطيبة، بحيث إذا أعيى جمل أحد من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه، ولو بعد حين لَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَمَّا عَاثَتْ أُمَرَاؤُهُ في الأرض فَسَادًا عَمِلَ لَهُمْ ضِيَافَةً حَسَنَةً، فَقَدَّمَهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَأْتِهِمْ بِخُبْزٍ، فَجَلَسُوا يَنْتَظِرُونَ الْخُبْزَ، فَلَمَّا استبطاؤه سألوا عنه فقال لهم:
إذا كنتم تهلكون الحرث وتظلمون الزراع، فمن أين تؤتون بخبز؟ ثم قال لهم: لا أسمع بأحد أفسد في الأرض بعد اليوم إِلَّا أَرَقْتَ دَمَهُ. وَاجْتَازَ مَرَّةً فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِرَجُلٍ قَدْ حَمَلَ حُزْمَةَ حَطَبٍ وَهُوَ(11/353)
يبكى فقال له: مالك تبكى؟ فَقَالَ: إِنِّي كَانَ مَعِي رَغِيفَانِ أُرِيدُ أَنْ أتقوتهما فَأَخَذَهُمَا مِنِّي بَعْضُ الْجُنْدِ، فَقَالَ: لَهُ أَتَعْرِفُهُ إِذَا رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَوَقَفَ بِهِ فِي موضع مضيق حتى مر عليه ذلك الرجل الّذي أخذ رغيفيه، قَالَ: هَذَا هُوَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يَنْزِلَ عن فرسه وأن بحمل حزمته التي احتطبها حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ ذَلِكَ بِمَالٍ جَزِيلٍ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، حَتَّى تَأَدَّبَ بِهِ الْجَيْشُ كُلُّهُمْ.
وَكَانَ يصرف كل جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل، وَفِي كُلِّ شَهْرٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي تَكْفِينِ الْمَوْتَى، وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ دينار إلى عشرين نفسا يحجون عن والدته، وَعَنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي تَمْلِيكِهِ، وَثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلى الحدادين والحذّائين لأجل المنقطعين من همذان وبغداد، يصلحون الْأَحْذِيَةَ وَنِعَالَ دَوَابِّهِمْ، وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ إِلَى الْحَرَمَيْنِ صَدَقَةً عَلَى الْمُجَاوِرِينَ، وَعِمَارَةِ الْمَصَانِعِ، وَإِصْلَاحِ الْمِيَاهِ فِي طَرِيقِ الحجاز، وحفر الآبار. وما اجتاز في طريقه وأسفاره بما إِلَّا بَنَي عِنْدَهُ قَرْيَةً، وَعُمِّرَ فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْخَانَاتِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ مَسْجِدٍ وَخَانٍ، هَذَا كُلُّهُ خَارِجًا عَمَّا يَصْرِفُ مِنْ دِيوَانِهِ مِنَ الْجِرَايَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ، عَلَى أَصْنَافِ النَّاسِ، مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، والمؤذنين والأشراف، والشهود والفقراء، والمساكين والأيتام والأرامل. وكان مع هذا كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَكَانَ لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ المربوطة في سبيل الله وفي الحشر ما ينيف على عشرين ألف دابة. توفى في هذه السنة رحمه الله عن نيف وثمانين سنة، ودفن في مشهد عَلَيٍّ، وَتَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ بَدْرَةٍ، وَنَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ بَدْرَةً، الْبَدْرَةُ عَشَرَةُ آلَافٍ، رحمه الله.
الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمَكَانَ
أَبُو عَلِيٍّ الهمدانيّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ، عُنِيَ أَوَّلًا بِالْحَدِيثِ فسمع منه أبو حامد المروزي وَرَوَى عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقَالَ: كَانَ ضَعِيفًا لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ.
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَكْفَانِيِّ، قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَرَوَى عَنِ القاضي المحاملي، ومحمد بن خلف، وَابْنِ عُقْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، يُقَالُ إِنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مِائَةَ أَلْفِ دينار، وكان عفيفا نزها، صين العرض. توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَلِيَ الْحُكْمَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً نِيَابَةً وَاسْتِقْلَالًا، رحمه الله.
عبد الرحمن بن محمد
ابن محمد بن عبد الله بن إدريس بن سَعْدٍ، الْحَافِظُ الْإِسْتَرَابَاذِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْإِدْرِيسِيِّ، رَحَلَ فِي طلب العلم والحديث، وَعُنِيَ بِهِ وَسَمِعَ الْأَصَمَّ وَغَيْرَهُ، وَسَكَنَ سَمَرْقَنْدَ، وصنف لها تاريخا وعرضه على الدار قطنى فَاسْتَحْسَنَهُ، وَحَدَّثَ بِبَغْدَادَ فَسَمِعَ مِنْهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، وكان ثقة حافظا.(11/354)
أبو نصر عبد العزيز بن عمر
ابن أحمد بن نباتة الشاعر المشهور، امتدح سيف الدولة بن حمدان، أظنه أخو الخطيب ابن نباتة أو غيره، وَهُوَ الْقَائِلُ الْبَيْتَ الْمَطْرُوقَ الْمَشْهُورَ:
وَمَنْ لَمْ يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نباتة
أبو نصر السعدي الشاعر وشعره موقوف ومن شعره قوله:
وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزج له إن المزاج وفاق
كالماء بالنار الّذي هو ضدها ... يعطى النضاج وطبعها الإحراق
توفى فيها
عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَبُو بَكْرٍ الدينَوَريّ الْفَقِيهُ السُّفْيَانِيُّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ كَانَ يفتى بمذهب سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِبَغْدَادَ، فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ إليه النظر في الجامع والقيام بأمره.
توفى فيها ودفن خلف جامع الحاكم.
الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ
صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حمدويه، بن نعيم بْنِ الْحَكَمِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ الضَّبِّيُّ الْحَافِظُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْبَيِّعِ، مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ، وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ من سنة ثلاثين، وثلاثمائة، سمع الكثير وطاف الآفاق، وصنف الكتب الكبار والصغار، فمنها المستدرك على الصحيحين، وعلوم الحديث والإكليل وتاريخ نيسابور، وقد روى عن خلق، ومن مشايخه الدار قطنى وَابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ كَانَ مِنْ أهل الدين والأمانة والصيانة، والضبط، والتجرد، والورع، لَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ ابْنُ الْبَيِّعِ يَمِيلُ إِلَى التَّشَيُّعِ، فَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأُرْمَوِيُّ، قَالَ: جَمَعَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحَادِيثَ زَعَمَ أَنَّهَا صِحَاحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، يُلْزِمُهُمَا إِخْرَاجَهَا فِي صَحِيحَيْهِمَا، فمنها حديث الطير، «ومن كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله ولاموه فِي فِعْلِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ: قَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثُ الطَّيْرِ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: بَلْ موضوع لا يروى إلا عن أسقاط أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنَ الْمَجَاهِيلِ، عَنْ أَنَسٍ. فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَعْرِفُ هَذَا فَهُوَ جَاهِلٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مُعَانِدٌ كَذَّابٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الْحَاكِمِ وَهُوَ مُخْتَفٍ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ، فقلت له: لو خرجت حَدِيثًا فِي فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ لَاسْتَرَحْتَ مِمَّا أَنْتَ فيه، فقال: لا يجيء من قبلي، لا يجيء من قبلي. توفى فيها عن أربع وثمانين سنة.
ابن كج
هو يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَجٍّ أَبُو الْقَاسِمِ القاضي، أحد أئمة الشافعية، وله في المذهب وجوه غريبة وَكَانَتْ لَهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِالدِّينَوَرِ لِبَدْرِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ فَلَمَّا تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ بَعْدَ مَوْتِ بَدْرٍ وَثَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَيَّارِينَ فَقَتَلُوهُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ من هذه السنة.
(تم الجزء الحادي عشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الثاني عشر وأوله سنة ست وأربعمائة وباللَّه التوفيق)(11/355)
[المجلد الثاني عشر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ست وأربعمائة
في يوم الثلاثاء مستهل المحرم منها وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض، ثم سكّن الْفِتْنَةَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ وَالنَّوْحِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِوُقُوعِ وَبَاءٍ شَدِيدٍ فِي الْبَصْرَةِ أَعْجَزَ الْحَفَّارِينَ، وَالنَّاسَ عَنْ دَفْنِ مَوْتَاهُمْ، وَأَنَّهُ أَظَلَّتِ الْبَلَدَ سَحَابَةٌ في حزيران. فأمطرتهم مطرا شديدا. وفي يوم السبت ثالث صفر تولى المرتضى نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ وَالْمَظَالِمَ وَالْحَجَّ، وَجَمِيعَ مَا كَانَ يتولاه أخوه الرضى، وقرئ تقليده بحضرة الأعيان، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ الحجاج بِأَنَّهُ هَلَكَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ الْعَطَشِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ألفا، وسلم ستة آلاف، وأنهم شربوا بول الإبل من العطش. وَفِيهَا غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ فأخذه الأدلاء فسلكوا به عَلَى بِلَادٍ غَرِيبَةٍ فَانْتَهَوْا إِلَى أَرْضٍ قَدْ غَمَرَهَا الْمَاءُ مِنَ الْبَحْرِ فَخَاضَ بِنَفْسِهِ الْمَاءَ أياما وخاض الجيش حَتَّى خَلَصُوا بَعْدَ مَا غَرِقَ كَثِيرٌ مِنْ جَيْشِهِ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ. ولم يحج فيها من العراق ركب لفساد البلاد من الاعراب.
وفيها توفى من الأعيان
الشيخ أبو حامد الأسفراييني
إمام الشافعية، أحمد بن محمد بن أحمد إمام الشافعية في زمانه، ولد في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وقدم بَغْدَادَ وَهُوَ صَغِيرٌ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَدَرَسَ الْفِقْهَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ ابن الْمَرْزُبَانِ، ثُمَّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَلَمْ يزل تترقى به الأحوال حَتَّى صَارَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ(12/2)
الشَّافِعِيَّةِ، وَعَظُمَ جَاهُهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَالْعَوَامِّ، وَكَانَ فقيها إماما، جَلِيلًا نَبِيلًا، شَرَحَ الْمُزَنِيَّ فِي تَعْلِيقَةٍ حَافِلَةٍ نحوا مِنْ خَمْسِينَ مُجَلَّدًا، وَلَهُ تَعْلِيقَةٌ أُخْرَى فِي أصول الفقه، وروى عن الإسماعيلي وغيره.
قال الخطيب: وَرَأَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَحَضَرْتُ تَدْرِيسَهُ بِمَسْجِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، فِي صَدْرِ قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَحَدَّثَنَا عَنْهُ الْأَزَجِيُّ وَالْخَلَّالُ، وَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ تَدْرِيسَهُ سَبْعُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: لَوْ رَآهُ الشَّافِعِيُّ لِفَرَحِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ: مَا رَأَيْتُ فِي الشافعية أفقه من أبى حامد، وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتَهُ مُسْتَقْصَاةً فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ: وذكر ابن خلكان أَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ: هُوَ أَفْقَهُ وَأَنْظَرُ مِنَ الشافعيّ. قال الشيخ أبو إسحاق: ليس هَذَا مُسَلَّمًا إِلَى الْقُدُورِيِّ فَإِنَّ أَبَا حَامِدٍ وَأَمْثَالَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَزَلُوا بِمَكَّةَ فِي قَبَائِلِ نَوْفَلٍ ... وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أبعد منزل
قال ابن خلكان: وله مصنفات: التَّعْلِيقَةُ الْكُبْرَى، وَلَهُ كِتَابُ الْبُسْتَانِ، وَهُوَ صَغِيرٌ فيه غرائب قال وقد اعترض عليه بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمُنَاظَرَاتِ فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ:
جَفَاءٌ جَرَى جَهْرًا لَدَى النَّاسِ وَانْبَسَطْ ... وَعُذْرٌ أَتَى سِرًّا فَأَكَّدَ مَا فَرَطْ
وَمَنْ ظَنَّ أَنْ يَمْحُو جَلِيَّ جَفَائِهِ ... خفي اعتذار فهو في أعظم الغلط
توفى ليلة السبت لإحدى عشرة بقيت من شوال منها، ودفن بداره بعد ما صُلِّيَ عَلَيْهِ بِالصَّحْرَاءِ وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا وَالْبُكَاءُ غَزِيرًا، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَبَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا.
أَبُو أَحْمَدَ الْفَرْضِيُّ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو مسلم الفرضيّ المقري. سمع المحاملي ويوسف ابن يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ مَجْلِسَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَكَانَ إِمَامًا ثِقَةً، وَرِعًا وَقُورًا، كَثِيرَ الْخَيْرِ، يقرأ القرآن كثيرا، ثم سمع الحديث، وكان إِذَا قَدِمَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، نَهَضَ إِلَيْهِ حَافِيًا فَتَلَقَّاهُ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، توفى وقد جاوز الثمانين.
الشريف الرضى
محمد بن الطاهر أبو أحمد الحسين بن موسى أَبُو الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ لَقَّبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِالرَّضِيِّ، ذي الحسبتين، ولقب أخاه المرتضى ذي المجدين، ولى نقابة الطالبيين ببغداد بعد أبيه، وكان شاعرا مطبقا، سخيا جوادا. وقال بعضهم: كان الشريف في كثرة أشعاره أَشْعَرَ قُرَيْشٍ فَمِنْ شِعْرِهِ الْمُسْتَجَادِ قَوْلُهُ:
اشْتَرِ العز بما شئت ... فما العز بغال
بالقصار إن شئت ... أو بالسمر الطوال(12/3)
لَيْسَ بِالْمَغْبُونِ عَقْلًا ... مَنْ شَرَى عِزًّا بِمَالِ
إنما يذخر المال ... لحاجات الرجال
والفتى من جعل الأموال ... أثمان المعالي
وله أيضا
يَا طَائِرَ الْبَانِ غِرِّيدًا عَلَى فَنَنٍ ... مَا هَاجَ نَوْحُكَ لِي يَا طَائِرَ الْبَانِ
هَلْ أَنْتَ مُبْلِغُ مَنْ هَامَ الْفُؤَادُ بِهِ ... إِنَّ الطَّلِيقَ يُؤَدِّي حَاجَةَ الْعَانِي
جِنَايَةً مَا جَنَاهَا غير متلفنا ... يوم الوداع ووا شوقى إلى الجاني
لولا تذكر أيام بِذِي سَلَمٍ ... وَعِنْدَ رَامَةَ أَوَطَارِي وَأَوْطَانِي
لَمَّا قَدَحْتُ بِنَارِ الْوَجْدِ فِي كَبِدِي ... وَلَا بَلَلْتُ بِمَاءِ الدَّمْعِ أَجْفَانِي
وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الرَّضِيِّ قصيدة يتمنى فيها أن يكون عند الحاكم العبيدي، ويذكر فيها أباه ويا ليته كان عنده، حين يرى حاله ومنزلته عنده، وأن الخليفة لما بلغه ذلك أراد أن يسيره إليه ليقضى أربه ويعلم الناس كيف حاله. قال في هذه القصيدة:
أليس الذُّلَّ فِي بِلَادِ الْأَعَادِي ... وَبِمِصْرَ الْخَلِيفَةُ الْعَلَوِيُّ
وأبوه أبى ومولاه مولاى ... إذا ضامنى البعيد القصي
إلى آخرها، فَلَمَّا سَمِعَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِأَمْرِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ انزعج وبعث إلى أبيه الْمُوسَوِيِّ يُعَاتِبُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ الرَّضِيِّ فَأَنْكَرَ أن يكون قالها بالمرة، والروافض من شأنهم التزوير. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قُلْتَهَا فَقُلْ أَبْيَاتًا تَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ الْحَاكِمَ بِمِصْرَ دَعِيٌّ لَا نَسَبَ لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ غَائِلَةِ ذَلِكَ، وَأَصَرَّ عَلَى أَنْ لَا يَقُولَ ما أمره به أبوه، وترددت الرسائل مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ ذلك حَتَّى بَعَثَ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيَّ وَالْقَاضِيَ أبا بكر إليهما، فحلف لهما بالايمان الْمُؤَكَّدَةِ أَنَّهُ مَا قَالَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحال. توفى في خامس المحرم منها عَنْ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ الْوَزِيرُ والقضاة، وصلى عليه الوزير ودفن بداره بمسجد الأنباري، وولى أخوه الْمُرْتَضَى مَا كَانَ يَلِيهِ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ أشياء ومناصب أخرى، وقد رثى الرضى أخاه بمرثاة حسنة.
باديس بن منصور الحميري
أبو المعز مناذر بْنِ بَادِيسَ [1] نَائِبُ الْحَاكِمِ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وابن نائبها، لقبه الحاكم بنصير الدولة، كان ذا همة وَسَطْوَةٍ وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، كَانَ إِذَا هَزَّ رُمْحًا كسره، توفى فجأة ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة منها، ويقال إن بعض الصالحين دعي عليه تلك الليلة، وقام في الأمر بعده ولده المعز مناذر.
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، احْتَرَقَ مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ بن على [بكر بلاء] وأروقته، وكان سبب ذلك
__________
[1] في النجوم الزاهرة: المعز بن باديس بن منصور بن بلكين الحميري.(12/4)
أَنَّ الْقَوْمَةَ أَشْعَلُوا شَمْعَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ فَمَالَتَا فِي الليل على التأزير، وَنَفَذَتِ النَّارُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى كَانَ مَا كَانَ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا احْتَرَقَتْ دَارُ الْقُطْنِ بِبَغْدَادَ وَأَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، واحترق جامع سامرا. وفيها وَرَدَ الْخَبَرُ بِتَشْعِيثِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مِنَ الْمَسْجِدِ الحرام، وسقوط جدار بين يدي قبر الرسول صلى الله عليه وسلّم بالمدينة، وَأَنَّهُ سَقَطَتِ الْقُبَّةُ الْكَبِيرَةُ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الِاتِّفَاقَاتِ وَأَعْجَبِهَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَتِ الشِّيعَةُ الَّذِينَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ لا يعرف. وفيها كان ابتداء دولة العلويين ببلاد الأندلس، وليها على بن حمود بن أبى العيس العلويّ، فدخل قرطبة في المحرم منها، وَقَتَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَكَمِ الْأُمَوِيَّ، وَقَتَلَ أَبَاهُ أَيْضًا، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا، وَبَايَعَهُ النَّاسُ وَتَلَقَّبَ بِالْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قُتِلَ فِي الْحَمَّامِ في ثامن ذي القعدة منها عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ، وَتَلَقَّبَ بِالْمَأْمُونِ، فأقام في الملك ست سنين، ثم قام ابن أخيه يحيى بن إدريس، ثم ملك الأمويون حتى ملك أمر المسلمين على بن يوسف ابن تاشفين. وفيها ملك محمود بن سبكتكين بِلَادَ خُوَارِزْمَ بَعْدَ مَلِكِهَا خُوَارِزْمَ شَاهْ مَأْمُونٍ بن مأمون وفيها استوزر سلطان الدولة أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ الْفَضْلِ الرَّامَهُرْمُزِيَّ، عِوَضًا عن فخر الملك، وخلع عليه. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ بلاد المغرب لفساد البلاد والطرقات.
وفيها توفى من الأعيان
أحمد بْنِ يُوسُفَ بْنِ دُوسْتَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البزار، أحد حفاظ الحديث، وأحد الفقهاء على مذهب مالك، كان يذكر بحضرة الدار قطنى ويتكلم على علم الحديث، فيقال إن الدار قطنى تكلم فيه لذلك السَّبَبِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي غَيْرِهِ بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ كَبِيرَ شَيْءٍ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: رَأَيْتُ كتبه طَرِيَّةً، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ أُصُولَهُ الْعُتُقَ غَرِقَتْ، وَقَدْ أَمْلَى الْحَدِيثَ مِنْ حَفِظِهِ، وَالْمُخَلِّصُ وَابْنُ شاهين حيان موجودان. توفى فِي رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ أبو غالب الوزير، كَانَ مِنْ أَهْلِ وَاسِطٍ، وَكَانَ أَبُوهُ صَيْرَفِيًّا، فَتَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِبَهَاءِ الدولة، وقد اقتنى أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَبَنَى دَارًا عَظِيمَةً، تُعْرَفُ بِالْفَخْرِيَّةِ، وَكَانَتْ أَوَّلًا لِلْخَلِيفَةِ الْمُتَّقِي للَّه، فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أموالا كثيرة، وكان كريما جواد، كثير الصدقة، كسى في يوم واحد أَلْفَ فَقِيرٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَرَّقَ الْحَلَاوَةَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ فِيهِ مَيْلٌ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَقَدْ صادره سلطان الدولة بالأهواز، وأخذ منه شيئا أَزْيَدُ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، خَارِجًا عَنِ الاملاك والجواهر والمتاع، قتله سلطان الدولة، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ قُتِلَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وأشهرا وقيل إِنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَهُ بَعْضُ غلمانه، فاستعدت امرأة الرجل على الوزير هذا، ورفعت إليه قصصتها، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ ذات يوم: أيها الوزير(12/5)
أرأيت القصص التي رفعتها إليك، فلم تلتفت إليها قد رفعتها إلى الله عز وجل، وأنا أنتظر التوقيع عليها، فلما مسك قَالَ قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ تَوْقِيعُ الْمَرْأَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وأربعمائة
فيها وقعت فتنة عظيمة بين أهل السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ بِبَغْدَادَ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِيهَا مَلَكَ أَبُو المظفر بن خاقان بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَغَيْرَهَا، وَتَلَقَّبَ بِشَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ طُغَانَ خَانَ، وَقَدْ كَانَ طُغَانُ خَانَ هَذَا دَيِّنًا فَاضِلًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَقَدْ غَزَا التُّرْكَ مَرَّةً فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفٍ، وَغَنِمَ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ والفضة، وأواني الصين شيئا لا يُعْهَدُ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَتْ مُلُوكُ الترك على الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا وَلِيَ أبو الحسين أحمد بن مهذب الدولة عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ بِلَادَ الْبَطَائِحِ بَعْدَ أَبِيهِ، فقاتله ابن عمه فغلبه وقتله، ثُمَّ لَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ، ثم آلت تلك البلاد بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ بَغْدَادَ، وطمع فيهم العامة، فنزلوا إلى واسط فقاتلوهم مع الترك. وَفِيهَا وَلِيَ نُورُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ ابن أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ. وَفِيهَا قَدِمَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ، وضرب الطبل في أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، وَلَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ عَادَةٌ، وَعَقَدَ عقده على بنت قرواش على صداق خمسين أَلْفَ دِينَارٍ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِفَسَادِ الْبِلَادِ، وَعَيْثِ الْأَعْرَابِ وَضَعْفِ الدَّوْلَةِ. قال ابن الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: أَخْبَرَنَا سَعْدُ اللَّهِ بْنُ على البزار أنبأ أبو بكر الطريثيثى أنبأ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ. قَالَ: وَفِي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر باللَّه الخليفة فقهاء المعتزلة، فَأَظْهَرُوا الرُّجُوعَ وَتَبَرَّءُوا مِنَ الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وَالْمَقَالَاتِ المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحل فيهم مِنَ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ مَا يَتَّعِظُ بِهِ أَمْثَالُهُمْ، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا من بلاد خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، فِي قَتْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْجَهْمِيةِ وَالْمُشَبِّهَةِ، وَصَلَبَهُمْ وَحَبَسَهُمْ وَنَفَاهُمْ، وَأَمَرَ بلعنهم على المنابر، وأبعد جميع طوائف أهل البدع، ونفاهم عَنْ دِيَارِهِمْ، وَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْإِسْلَامِ.
وفيها توفى من الأعيان
الحاجب الكبير.
شباشى أبو نصر
مَوْلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِالسَّعِيدِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْأَوْقَافِ عَلَى وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ دَبَاهَا عَلَى الْمَارَسْتَانِ وَكَانَتْ تُغِلُّ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ والخراج وبنى قنطرة الخندق والمارستان والناصرية وغير ذلك، ولما مات دفن بمقبرة الإمام أحمد وأوصى أن لا يبنى عليه فخالفوه، فعقدوا قبة عليه فَسَقَطَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَحْوٍ مَنْ سَبْعِينَ سَنَةً واجتمع نسوة عند قبره ينحن يبكين، فَلَمَّا رَجَعْنَ رَأَتْ عَجُوزٌ مِنْهُنَّ- كَانَتْ هِيَ الْمُقَدَّمَةَ فِيهِنَّ- فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ تُرْكِيًّا خَرَجَ إليهن من(12/6)
قبره ومعه دبوس فحمل عليهنّ وزجرهن عن ذلك، وإذا هُوَ الْحَاجِبُ السَّعِيدُ، فَانْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة تسع وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قُرِئَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ فِي الْمَوْكِبِ كِتَابٌ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ. وَفِي النصف من جمادى الأولى منها فاض البحر المالح وتدانى إلى الْأُبُلَّةَ، وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَفِيهَا غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ وَتَوَاقَعَ هُوَ وملك الْهِنْدِ فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ انْجَلَتْ عن هزيمة عظيمة على الهند، وأخذ المسلمون يقتلون فيهم كيف شاءوا، وأخذوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وأخذوا منهم مائتي فيل، واقتصوا آثار المنهزمين منهم، وهدموا معامل كثيرة. ثم عاد إلى غزنة مؤيدا منصورا. ولم يحج أحد من درب العراق فيها لفساد البلاد وعيث الأعراب.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
رَجَاءُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَنْصِنَاوِيُّ، نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مِصْرَ يُقَالُ لَهَا أَنْصِنَا، قَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا وَسَمِعَ مِنْهُ الْحُفَّاظُ، وَكَانَ ثِقَةً فقيها مالكيا عدلا عند الحكام، مرضيا. ثم عاد إلى بلده وتوفى فيها، وقد جاوز الثمانين.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَلَّانَ
أبو أحمد قاضى الأهواز، كان ذا مال، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا كِتَابٌ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَمَعَ فِيهِ أَلْفَ مُعْجِزَةٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، تُوَفِّي فيها عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ
ابن أبى الحسن، مهذب الدولة، صاحب بلاد البطيحة، له مكارم كثيرة، وكان الناس يلجئون إلى بلاده فِي الشَّدَائِدِ فَيُؤْوِيهِمْ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ أَكْبَرِ مناقبه إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر لما اسْتَجَارَ بِهِ وَنَزَلَ عِنْدَهُ بِالْبَطَائِحِ فَارًّا مِنَ الطائع، فَآوَاهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي خِدْمَتِهِ حَتَّى ولى إمرة المؤمنين، وكان له بذلك عِنْدَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَقَدْ وَلِيَ الْبَطَائِحَ ثِنْتَيْنِ وثلاثين سنة وشهورا، وتوفى فيها عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أنه اقتصد فانتفخ ذراعه فمات.
عبد الغنى بن سعيد
ابن على بْنِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ الْمِصْرِيُّ، الْحَافِظُ، كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ، وَلَهُ فِيهِ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ الشَّهِيرَةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ الْحَافِظُ: مَا رأت عيناي مثله في معناه، وقال الدار قطنى: مَا رَأَيْتُ بِمِصْرَ مِثْلَ شَابٍّ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ، وَجَعَلَ يُفَخِّمُ أَمْرَهُ وَيَرْفَعُ ذِكْرَهُ. وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ هَذَا كِتَابًا فِيهِ أَوْهَامُ الْحَاكِمِ، فَلَمَّا وقف الحاكم عليه جَعَلَ يَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ وَيَعْتَرِفُ لِعَبْدِ الْغَنِيِّ بالفضل، ويشكره ويرجع فيه إِلَى مَا أَصَابَ(12/7)
فِيهِ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وُلِدَ عَبْدُ الْغَنِيِّ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سنة ثنتين وَثَلَاثِمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رحمه الله.
محمد بن أمير المؤمنين
ويكنى بابي الفضل، كان قَدْ جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ وَخَطَبَ لَهُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ، ولقب بالغالب باللَّه، فلم يقدر ذلك. توفى فيها عَنْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن محمد بن يزيد
أبو الفتح البزار الطرسوسي، ويعرف بابن البصري، سمع الكثير من الْمَشَايِخِ، وَسَمِعَ مِنْهُ الصُّورِيُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، حِينَ أقام بها، وكان ثقة مأمونا.
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة
فيها ورد كتاب يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، يَذْكُرُ فِيهِ مَا افْتَتَحَهُ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ فِي السَّنَةِ الخالية، وفيه أنه دخل مدينة فيها ألف قصر مشيد، وألف بيت للأصنام. وفيها من الأصنام شيء كثير، ومبلغ ما على الصنم من الذهب ما يُقَارِبُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَبْلَغُ الْأَصْنَامِ الْفِضَّةِ زِيَادَةٌ عَلَى أَلْفِ صَنَمٍ، وَعِنْدَهُمْ صَنَمٌ مُعْظَّمٌ، يؤرخون له وبه بجهالتهم ثلاثمائة ألف عام، وقد سلبنا ذلك كله وغيره مما لا يحصى ولا يعد، وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئا كثيرا، وقد عمموا المدينة بالإحراق، فلم يتركوا منها إلا الرسوم، وبلغ عدد القتلى من الهنود خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأُفْرِدَ خُمْسُ الرَّقِيقِ فَبَلَغَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ ألفا، واعترض من الأفيال ثلاثمائة وست وخمسين فِيلًا، وَحُصِّلَ مِنَ الْأَمْوَالِ عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفِ درهم، ومن الذهب شيء كثير. وفي ربيع الآخر منها قرئ عهد أَبِي الْفَوَارِسِ وَلُقِّبَ قِوَامَ الدَّوْلَةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ خلعا حملت إليه بولاية كرمان، وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ العراق.
وممن توفى فيها من الأعيان
الاصيفر الّذي كان يخفر الحجاج.
أحمد بن موسى بن مردويه
ابن فُورَكَ، أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ، تُوَفِّي فِي رمضان منها.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ
أَبُو الْقَاسِمِ الضَّرِيرُ الْمُقْرِئُ الْمُفَسِّرُ، كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَحْفَظِهِمْ لِلتَّفْسِيرِ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ قَالَ: كَانَ لَنَا شَيْخٌ نَقْرَأُ عَلَيْهِ فَمَاتَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فرآه فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قَالَ: فَمَا كَانَ حَالُكَ مَعَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ؟ قَالَ: لَمَّا أَجْلَسَانِي وسألاني ألهمنى الله أَنْ قُلْتُ: بِحَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دَعَانِي، فقال أحدهما للآخر: قد أقسم بعظيمين فَدَعْهُ، فَتَرَكَانِي وَذَهَبَا.(12/8)
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة
فيها عدم الحاكم بمصر، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بقيتا من شوال فقد الحاكم بْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ، فَاسْتَبْشَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا. وَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ الْقَبِيحَةِ، وسيرته الملعونة، أخزاه الله.
كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرا، وقد كَانَ يَرُومُ أَنْ يَدَّعِيَ الْأُلُوهِيَّةَ كَمَا ادَّعَاهَا فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أَنَّ يَقُومَ النَّاسُ عَلَى أَقْدَامِهِمْ صُفُوفًا، إِعْظَامًا لذكره واحتراما لاسمه، فعل ذلك فِي سَائِرِ مَمَالِكِهِ حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْجُدُ بِسُجُودِهِمْ مَنْ فِي الْأَسْوَاقِ من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلى الجمعة، وكانوا يتركون السجود للَّه في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الْكِتَابَيْنِ بِالدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ كُرْهًا، ثُمَّ أذن لهم في العود إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثُمَّ أَعَادَهَا، وَابْتَنَى الْمَدَارِسَ. وَجَعَلَ فِيهَا الْفُقَهَاءَ والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الْأَسْوَاقِ نَهَارًا، وَفَتْحِهَا لَيْلًا، فَامْتَثَلُوا ذَلِكَ دَهْرًا طويلا، حتى اجتاز مرة برجل يَعْمَلُ النِّجَارَةَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ فقال: ألم أنهكم؟ فقال:
يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون. بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بِالنَّهَارِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ السَّهَرِ، فَتَبَسَّمَ وَتَرَكَهُ. وَأَعَادَ النَّاسَ إِلَى أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ هَذَا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه. وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه فِي الْأَسْوَاقِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ- وَكَانَ لَا يَرْكَبُ إِلَّا حِمَارًا- فَمَنْ وَجَدَهُ قَدْ غَشَّ في معيشة أَمَرَ عَبْدًا أَسْوَدَ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ مَسْعُودٌ، أن يفعل به الفاحشة العظمى، وَهَذَا أَمْرٌ مُنْكَرٌ مَلْعُونٌ، لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ مَنَعَ النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ منازلهن وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خَمْرًا، وَمَنَعَهُمْ مِنْ طَبْخِ الْمُلُوخِيَّةٍ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر، وكانت العامة تبغضه كثيرا، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه، في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ عَمِلُوا صُورَةَ امْرَأَةٍ مِنْ وَرَقٍ بِخُفَّيْهَا وَإِزَارِهَا. وَفِي يَدِهَا قصة من الشتم واللعن والمخالفة شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّهَا امْرَأَةً، فَذَهَبَ مِنْ نَاحِيَتِهَا وَأَخَذَ الْقِصَّةَ مِنْ يَدِهَا فَقَرَأَهَا فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد غيظا إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السُّودَانِ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى مِصْرَ فَيُحَرِّقُوهَا وَيَنْهَبُوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا فَامْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ قتالا شديدا، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالنَّارُ تَعْمَلُ فِي الدُورِ وَالْحَرِيمِ، وهو في كل يوم قبحه الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر وَيَبْكِي وَيَقُولُ: مَنْ أَمَرَ(12/9)
هَؤُلَاءِ الْعُبَيْدَ بِهَذَا؟ ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، فَرَقَّ لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا مَعَهُمْ عَنْ حَرِيمِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ جِدًّا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارْتَكَبُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ، وَكَانَ ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل معهن الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُنَّ مَنْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا خَوْفًا مِنَ الْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ، وَاشْتَرَى الرِّجَالُ مِنْهُمْ مَنْ سُبِيَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْحَرِيمِ. قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عنّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ، فَصَارَ قَوْمٌ مِنَ الْجُهَّالِ إِذَا رَأَوْهُ يَقُولُونَ: يَا وَاحِدُ يَا أحد يا محيي يا مميت قبحهم الله جميعا.
صِفَةُ مَقْتَلِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ
كَانَ قَدْ تَعَدَّى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته، وكان يَتَّهِمُهَا بِالْفَاحِشَةِ، وَيُسْمِعُهَا أَغْلَظَ الْكَلَامِ، فَتَبَرَّمَتْ مِنْهُ، وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء، أميرا يُقَالُ لَهُ ابْنُ دَوَّاسٍ، فَتَوَافَقَتْ هِيَ وَهُوَ على قتله ودماره، وتواطئا عَلَى ذَلِكَ، فَجَهَّزَ مِنْ عِنْدِهِ عَبْدَيْنِ، أَسْوَدَيْنِ شهمين، وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل الْمُقَطَّمِ، فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يَكُونُ الْحَاكِمُ هُنَاكَ فِي اللَّيْلِ لِيَنْظُرَ فِي النُّجُومِ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا رِكَابِيٌّ وَصَبِيٌّ، فَاقْتُلَاهُ وَاقْتُلَاهُمَا مَعَهُ، واتفق الحال على ذلك.
فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ قَالَ الْحَاكِمُ لِأُمِّهِ: عَلَيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَطْعٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ نَجَوْتُ مِنْهُ عَمَّرْتُ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا فَانْقُلِي حَوَاصِلِي إِلَيْكِ، فَإِنَّ أَخْوَفَ ما أخاف عليك من أختى، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فَنَقَلَ حَوَاصِلَهُ إِلَى أُمِّهِ، وَكَانَ لَهُ فِي صَنَادِيقَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَجَوَاهِرُ أخر، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا مَوْلَانَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَارْحَمْنِي وَلَا تَرْكَبْ فِي لَيْلَتِكَ هَذِهِ إِلَى مَوْضِعٍ وَكَانَ يُحِبُّهَا. فَقَالَ: أَفْعَلُ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ الْقَصْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَدَارَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَصْرِ، فَنَامَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَالَ: إِنْ لَمْ أَرْكَبِ اللَّيْلَةَ فاضت نفسي، فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي، وَصَعِدَ الْجَبَلَ الْمُقَطَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ ذَانِكَ الْعَبْدَانِ فَأَنْزَلَاهُ عن مركوبة، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فَأَتَيَا بِهِ مَوْلَاهُمَا ابْنَ دَوَّاسٍ، فَحَمَلَهُ إِلَى أُخْتِهِ فَدَفَنَتْهُ فِي مَجْلِسِ دَارِهَا، وَاسْتَدْعَتِ الْأُمَرَاءَ والأكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية، فبايعوا لِوَلَدِ الْحَاكِمِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ، وَلُقِّبَ بِالظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، وَكَانَ بِدِمَشْقَ، فَاسْتَدْعَتْ بِهِ وَجَعَلَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ الْحَاكِمَ قَالَ لِي: إنه يغيب عنكم سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَعُودُ، فَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، وَجَعَلَتْ ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه، ثم يرجعون فيقولون تركناه في الموضع الفلاني، ويقول الذين بعدهم لأمه: تركناه في موضع كذا وكذا. حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَحِينَ وصل ألبسته(12/10)
تاج جد أبيه المعز، وَحُلَّةً عَظِيمَةً، وَأَجْلَسَتْهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ والرؤساء، وأطلق لهم الأموال، وَخَلَعَتْ عَلَى ابْنِ دَوَّاسٍ خِلْعَةً سَنِيَّةً هَائِلَةً، وَعَمِلَتْ عَزَاءَ أَخِيهَا الْحَاكِمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَى ابْنِ دَوَّاسٍ طَائِفَةً مِنَ الْجُنْدِ لِيَكُونُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِسُيُوفِهِمْ وُقُوفًا فِي خِدْمَتِهِ، ثم يقولوا له في بعض الأيام: أَنْتَ قَاتِلُ مَوْلَانَا، ثُمَّ يَهْبُرُونَهُ بِسُيُوفِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَتَلَتْ كُلَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى سِرِّهَا فِي قَتْلِ أَخِيهَا، فَعَظُمَتْ هَيْبَتُهَا وَقَوِيَتْ حُرْمَتُهَا وثبتت دولتها. وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعا وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين سنة.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة
فِيهَا تَوَلَّى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ السَّمَنَانِيُّ الْحِسْبَةَ وَالْمَوَارِيثَ بِبَغْدَادَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ السواد وفيها قالت جماعة من العلماء والمسلمين لِلْمَلِكِ الْكَبِيرِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ، مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ: أَنْتَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَفِي كُلِّ سَنَةٍ تَفْتَحُ طَائِفَةً مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ طَرِيقُ الحج، قد تعطلت من مدة ستين وَفَتْحُكَ لَهَا أَوْجَبُ مِنْ غَيْرِهَا. فَتَقَدَّمَ إِلَى قاضى القضاة أَبِي مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيِّ أَنْ يَكُونَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِلْأَعْرَابِ، غَيْرَ مَا جَهَّزَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فسار الناس بصحبته، فَلَمَّا كَانُوا بِفَيْدَ اعْتَرَضَهُمُ الْأَعْرَابُ فَصَالَحَهُمُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيُّ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعُوا وَصَمَّمَ كَبِيرُهُمْ- وَهُوَ جَمَّازُ بْنُ عَدِيٍّ- عَلَى أَخْذِ الْحَجِيجِ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ وَجَالَ جَوْلَةً وَاسْتَنْهَضَ شياطين العرب، فتقدم إليه غلام من سمرقند [يقال له ابن عفان] فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَصَلَ إِلَى قَلْبِهِ فَسَقَطَ مَيِّتًا، وانهزمت الأعراب، وسلك الناس الطريق فحجوا ورجعوا سالمين وللَّه الحمد والمنة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو سَعْدٍ الماليني
أحمد بن محمد بن أحمد بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَفْصٍ، أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، وَمَالِينُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى هَرَاةَ، كَانَ مِنَ الحفاظ المكثرين الراحلين فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ، وَكَتَبَ كَثِيرًا، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا صَالِحًا، مَاتَ بِمِصْرَ فِي شوال منها.
الحسن بن الحسين
ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَامِينَ الْقَاضِي، أَبُو مُحَمَّدٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، نَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنِ الإسماعيلي وغيره، كان شافعيا كبيرا، فاضلا صالحا.
الحسن بن منصور بن غَالِبٍ
الْوَزِيرُ الْمُلَقَّبُ ذَا السَّعَادَتَيْنِ، وُلِدَ بِسِيرَافَ سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ثم صار وزيرا ببغداد ثم قتل وصودر أبوه على ثمانين ألف دينار.(12/11)
الحسين بن عمرو
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْغَزَّالُ، سَمِعَ النَّجَّادَ وَالْخُلْدِيَّ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَغَيْرَهُمْ. قَالَ الْخَطِيبُ: كَتَبْتُ عَنْهُ وكان ثِقَةً صَالِحًا كَثِيرَ الْبُكَاءِ عِنْدَ الذِّكْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ
أَبُو بَكْرٍ الْعَنْبَرِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ أَدِيبًا ظَرِيفًا، حَسَنَ الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إني نظرت إلى الزمان ... وَأَهْلِهِ نَظَرًا كَفَانِي
فَعَرَفْتُهُ وَعَرَفْتُهُمْ ... وَعَرَفْتُ عِزِّيَ من هواني
فلذلك اطّرح الصديق ... فَلَا أَرَاهُ وَلَا يَرَانِي
وَزَهِدْتُ فِيمَا فِي يديه ... وَدُونَهُ نَيْلُ الْأَمَانِي
فَتَعَجَّبُوا لِمُغَالِبٍ ... وَهَبَ الْأَقَاصِيَ لِلْأَدَانِي
وَانْسَلَّ مِنْ بَيْنِ الزِّحَا ... مِ فَمَا له في الغلب ثَانِي
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مُتَصَوِّفًا ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ وَذَمَّهُمْ بِقَصَائِدَ ذَكَرْتُهَا فِي تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الأولى مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
ابن روق بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، أبو الحسن البزار، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَزْقَوَيْهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ أَوَّلُ شَيْخٍ كَتَبْتُ عَنْهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ دَرَسَ الْقُرْآنَ وَدَرَسَ الْفِقْهَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا كَثِيرَ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، جَمِيلَ الْمَذْهَبِ، مُدِيمًا لتلاوة القرآن، شديدا على أهل البدع، وأكب دَهْرًا عَلَى الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا أَحَبُّ الدُّنْيَا إِلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَتِي عَلَيْكُمُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ بَعَثَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِذَهَبٍ فَقَبِلُوا كُلُّهُمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يقبل شَيْئًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ من جمادى الأولى منها، عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مقبرة معروف الكرخي.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بن محمد بن موسى، أبو عبد الرحمن السلمي النَّيْسَابُورِيُّ، رَوَى عَنِ الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ مَشَايِخُ البغداديين، كَالْأَزْهَرِيِّ وَالْعُشَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَخْبَارِ الصوفية، فصنف لهم تفسيرا على طريقتهم، وَسُنَنًا وَتَارِيخًا، وَجَمَعَ شُيُوخًا وَتَرَاجِمَ وَأَبْوَابًا، لَهُ بِنَيْسَابُورَ دَارٌ مَعْرُوفَةٌ، وَفِيهَا صُوفِيَّةٌ وَبِهَا قَبْرُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِي تَضْعِيفِهِ فِي الرِّوَايَةِ، فَحَكَى عَنِ الْخَطِيبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ بِثِقَةٍ، ولم يكن سمع(12/12)
من الأصم شيئا كَثِيرًا، فَلَمَّا مَاتَ الْحَاكِمُ رَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ كثيرة جدا، وَكَانَ يَضَعُ لِلصُّوفِيَّةِ الْأَحَادِيثَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وكانت وفاته في ثالث شعبان منها.
أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ النَّيْسَابُورِيُّ
كَانَ يَعِظُ النَّاسَ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى الْأَحْوَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَمِنْ كَلَامِهِ: مَنْ تَوَاضَعَ لِأَحَدٍ لِأَجْلِ دُنْيَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ، لِأَنَّهُ خَضَعَ لَهُ بِلِسَانِهِ وأركانه، فان اعتقد تعظيمه بقلبه أو خضع له به ذَهَبَ دِينُهُ كُلُّهُ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) 2: 152 اذكروني وأنتم أحياء أذكركم وأنتم أموات تحت التراب، وقد تخلى عنكم الأقارب والأصحاب والأحباب. وَقَالَ: الْبَلَاءُ الْأَكْبَرُ أَنْ تُرِيدَ وَلَا تُرَادُ، وتدنو فترد إلى الطرد والإبعاد، وَأَنْشَدَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقال يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) 12: 84
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرِنَا ... وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ لَا نُرِيدُهَا
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» : إذا كان هذا المخلوق لا وصل إليه إلا بتحمل المشاق فما الظن بمن لم يزل؟ وقال في قوله عليه السلام «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا» . يَا عَجَبًا لِمَنْ لَمْ يَرَ مُحْسِنًا غَيْرَ الله كيف لا يميل بكليته إليه؟ قلت: كلامه على هذا الحديث جيد والحديث لا يصح بالكلية
صريع الدلال الشاعر
أبو الحسن على بن عبيد الْوَاحِدِ، الْفَقِيهُ الْبَغْدَادِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، الْمَعْرُوفُ بِصَرِيعِ الدلال، قتيل الغواني ذي الرقاعتين، له قصيدة مقصورة عارض بها مقصورة ابن دُرَيْدٍ يَقُولُ فِيهَا:
وَأَلْفُ حِمْلٍ مِنْ مَتَاعِ تُسْتَرٍ ... أَنْفَعُ لِلْمِسْكِينِ مَنْ لَقَطِ النَّوَى
مَنْ طَبَخَ الدِّيكَ وَلَا يَذْبَحُهُ ... طَارَ مِنَ الْقِدْرِ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى
مَنْ دَخَلَتْ فِي عَيْنِهِ مِسَلَّةٌ ... فَسَلْهُ مِنْ سَاعَتِهِ كَيْفَ الْعَمَى
وَالذَّقَنُ شَعْرٌ فِي الْوُجُوهِ طَالِعٌ ... كَذَلِكَ الْعِقْصَةُ مِنْ خلف القفا
إِلَى أَنْ خَتْمَهَا بِالْبَيْتِ الَّذِي حُسِدَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ وَأَخْطَاهُ الْغِنَى ... فذاك والكلب على حد سوى
قَدِمَ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَامْتَدَحَ فِيهَا خَلِيفَتَهَا الظَّاهِرَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ بن الحاكم واتفقت وفاته بها في رجبها.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة
فيها جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَاكِمِ اتَّفَقَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحُجَّاجِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى أَمْرِ سَوْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ طَافَ هَذَا الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ جَاءَ لِيُقَبِّلَهُ فَضَرَبَهُ بِدَبُّوسٍ كَانَ مَعَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ(12/13)
متواليات، وقال: إلى متى نعبد هَذَا الْحَجَرَ؟ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا عَلَيٌّ يَمْنَعُنِي مِمَّا أَفْعَلُهُ، فَإِنِّي أَهْدِمُ الْيَوْمَ هَذَا الْبَيْتَ، وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ، فَاتَّقَاهُ أَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ وَتَأَخَّرُوا عَنْهُ، وذلك لأنه كَانَ رَجُلًا طِوَالًا جَسِيمًا أَحْمَرَ اللَّوْنِ أَشْقَرَ الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان، وقوف ليمنعوه ممن يريد منعه من هذا الفعل، وأراده بِسُوءٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه قطعا، وحرقوه بالنار، وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة، ونهبت أهل مكة الركب المصري، وتعدى النهب إلى غيرهم، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ سَكَنَ الْحَالُ بَعْدَ أَنْ تُتُبِّعَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَمَالَئُوا عَلَى الْإِلْحَادِ فِي أَشْرَفِ الْبِلَادِ غير أنه قد سَقَطَ مِنَ الْحَجَرِ ثَلَاثُ فِلَقٍ مِثْلُ الْأَظْفَارِ، وَبَدَا مَا تَحْتَهَا أَسْمَرَ يَضْرِبُ إِلَى صُفْرَةٍ، مُحَبَّبًا مِثْلَ الْخَشْخَاشِ، فَأَخَذَ بَنُو شَيْبَةَ تِلْكَ الفلق فعجنوها بالمسك والك وَحَشَوْا بِهَا تِلْكَ الشُّقُوقَ الَّتِي بَدَتْ، فَاسْتَمْسَكَ الْحَجْرُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ، وهو ظاهر لمن تأمله. وفيها فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي بَنَاهُ الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ، أبو على الحسن، وَزِيرُ شَرَفِ الْمُلْكِ بِوَاسِطٍ، وَرَتَّبَ لَهُ الْخُزَّانَ والأشربة والأدوية والعقاقير، وغير ذلك مما يحتاج إليه.
وفيها توفى من الأعيان
ابن البواب الكاتب
صاحب الخط المنسوب، على بن هلال أبو الحسن ابن البواب، صاحب أبى الحسين بن سمعون الواعظ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى ابْنِ الْبَوَّابِ غَيْرُ وَاحِدٍ في دينه وأمانته، وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه عليها، وَخَطُّهُ أَوْضَحُ تَعْرِيبًا مَنْ خَطِّ أَبِي عَلِيِّ بن مقلة، ولم يكن بعد ابن مقلة أَكْتَبُ مِنْهُ، وَعَلَى طَرِيقَتِهِ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إِلَّا الْقَلِيلَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: توفى يوم السبت ثانى جمادى الآخرة منها، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ، وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ بأبيات منها قوله:
فللقلوب التي أبهجتها حرق ... وَلِلْعُيُونِ الَّتِي أَقْرَرْتَهَا سَهَرُ
فَمَا لِعَيْشٍ وَقَدْ وَدَّعْتَهُ أَرَجٌ ... وَمَا لِلَيْلٍ وَقَدْ فَارَقْتَهُ سَحَرُ
قال ابن خلكان: ويقال له السِّتْرِيِّ، لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مُلَازِمًا لِسِتْرِ الْبَابِ، وَيُقَالُ لَهُ ابْنُ الْبَوَّابِ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الخط عن عبد الله بن مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ البزار، وقد سمع أسد هذا على النجاد وغيره، وتوفى سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَمَّا ابْنُ الْبَوَّابِ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وقبل فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ رَثَاهُ بعضهم فقال:
استشعرت الْكُتَّابُ فَقْدَكَ سَالِفًا ... وَقَضَتْ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْأَيَّامُ
فَلِذَاكَ سُوِّدَتِ الدَّوِيُّ كَآَبَةً ... أَسَفًا عَلَيْكَ وَشُقَّتِ الْأَقْلَامُ
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقِيلَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ أول من(12/14)
كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَخَذَهَا مِنْ بِلَادِ الْحِيرَةِ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ أَسْلَمُ بْنُ سِدْرَةَ، وسأله ممن اقتبستها؟ فَقَالَ: مِنْ وَاضِعِهَا رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مُرَامِرُ بن مروة، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ. فَأَصْلُ الْكِتَابَةِ فِي الْعَرَبِ مِنَ الْأَنْبَارِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: وَقَدْ كَانَ لِحِمْيَرَ كِتَابَةٌ يُسَمُّونَهَا الْمُسْنَدَ، وَهِيَ حُرُوفٌ مُتَّصِلَةٌ غَيْرُ مُنْفَصِلَةٍ، وَكَانُوا يَمْنَعُونَ الْعَامَّةَ مِنْ تَعَلُّمِهَا، وَجَمِيعُ كِتَابَاتِ النَّاسِ تَنْتَهِي إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ صِنْفًا وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ وَالْحِمْيَرِيَّةُ، واليونانية، والفارسية، والرومانية، وَالْعِبْرَانِيَّةُ، وَالرُّومِيَّةُ، وَالْقِبْطِيَّةُ، وَالْبَرْبَرِيَّةُ، وَالْهِنْدِيَّةُ وَالْأَنْدَلُسِيَّةُ، وَالصِّينِيَّةُ. وَقَدِ انْدَرَسَ كَثِيرٌ مِنْهَا فَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُ شيئا منها.
وفيها توفى من الأعيان
على بن عيسى
ابن سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالسُّكَّرِيِّ الشَّاعِرُ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ويعرف القراءات، وصحب أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ، وَأَكْثَرُ شَعْرِهِ فِي مَدِيحِ الصحابة وذم الرافضة. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ودفن بالقرب من قبر معروف، وقد كان أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ الَّتِي عَمِلَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ:
نَفْسُ، يَا نَفْسُ كم تمادين في تلفى ... وتمشين فِي الْفِعَالِ الْمَعِيبِ
رَاقِبِي اللَّهَ وَاحْذَرِي مَوْقِفَ العرض ... وَخَافِي يَوْمَ الْحِسَابِ الْعَصِيبِ
لَا تَغُرَّنَّكِ السَّلَامَةُ في العيش ... فَإِنَّ السَّلِيمَ رَهْنُ الْخُطُوبِ
كُلُّ حَيٍّ فَلِلْمَنُونِ ولا يدفع ... كأس المنون كيد الأديب
وَاعْلَمِي أَنْ لِلْمَنِيَّةِ وَقْتًا ... سَوْفَ يَأْتِي عَجْلَانَ غَيْرَ هَيُوبِ
إِنَّ حُبَّ الصَّدِيقِ فِي مَوْقِفِ ... الحشر أَمَانٌ لِلْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو جَعْفَرٍ الْبَيِّعُ، وَيُعْرَفُ بِالْعَتِيقِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَقَامَ بِطَرَسُوسَ مُدَّةً، وَسَمِعَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَحَدَّثَ بِشَيْءٍ يسير.
ابن النعمان
شيخ الإمامية الروافض، وَالْمُصَنِّفُ لَهُمْ، وَالْمُحَامِي عَنْ حَوْزَتِهِمْ، كَانَتْ لَهُ وجاهة عند ملوك الأطراف، لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيع، وكان مجلسه يحضره خلق كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ من جملة تلاميذه الشريف الرضى والمرتضى، وقد رثاه بقصيدة بعد وفاته في هذه السنة، منها قوله:
من لعضل أَخْرَجْتَ مِنْهُ حُسَامَا ... وَمَعَانٍ فَضَضْتَ عَنْهَا خِتَامَا؟
مَنْ يُثِيرُ الْعُقُولَ مِنْ بَعْدِ مَا ... كُنَّ هُمُودًا وَيَفْتَحُ الْأَفْهَامَا؟(12/15)
من يعير الصديق رأيا ... إذا ما سل في الخطوب حُسَامًا؟
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فيها قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد فخرج الخليفة في الطيارة لِتَلَقِّيهِ، وَصَحِبَتْهُ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ، فلما واجهه شرف الدولة قبل الأرض بين يديه مَرَّاتٍ وَالْجَيْشُ وَاقِفٌ بِرُمَّتِهِ، وَالْعَامَّةُ فِي الْجَانِبَيْنِ. وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ الْهِنْدِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ فَتَحَ بِلَادًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ صَالَحَهُ بَعْضُ ملوكهم وحمل إليه هدايا سنية، منها فيول كثيرة، وَمِنْهَا طَائِرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْقُمْرِيِّ، إِذَا وُضِعَ عِنْدَ الْخِوَانِ وَفِيهِ سُمٌّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَجَرَى منهما ماء، ومنها حجر يحك ويؤخذ منه ما تحصل منه فيطلي بها الجراحات ذات الأفواه الواسعة فيلحمها، وغير ذلك. وحج الناس من أهل العراق وَلَكِنْ رَجَعُوا عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذلك.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلَانَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ، وَزِيرُ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى سُورَ الْحَائِرِ عِنْدَ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، قتل في شعبان منها
الحسن بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَبْدِ الله الكشغلي الطَّبَرِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَكَانَ فَهْمًا فَاضِلًا صَالِحًا زَاهِدًا، وَهُوَ الَّذِي دَرَّسَ بَعْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ فِي مَسْجِدِهِ، مَسْجِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ. فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ الطَّلَبَةُ عِنْدَهُ مُكَرَّمِينَ، اشْتَكَى بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ حَاجَةً وَأَنَّهُ قَدْ تَأَخَرَّتْ عَنْهُ نَفَقَتُهُ الَّتِي تَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ، فأخذه بيده وذهب إلى بعض التجار فَاسْتَقْرَضَ لَهُ مِنْهُ خَمْسِينَ دِينَارًا. فَقَالَ التَّاجِرُ: حتى تأكل شيئا، فمد السماط فأكلوا وقال: يَا جَارِيَةُ هَاتِي الْمَالَ، فَأَحْضَرَتْ شَيْئًا مِنَ المال فوزن منها خَمْسِينَ دِينَارًا وَدَفَعَهَا إِلَى الشَّيْخِ، فَلَمَّا قَامَا إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير، فقال له الكشغلي: مالك؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي قَدْ سَكَنَ قَلْبِي حُبُّ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَرَجَعَ بِهِ إِلَى التَّاجِرِ، فَقَالَ له:
قد وقعنا في فتنة أخرى، فقال: وما هي؟ فقال: إن هذا الفقيه قد هوى الجارية فأمر التاجر الجارية أن تخرج فتسلمها الفقيه، وقال ربما أن يَكُونُ قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِهَا مِنْهُ مِثْلُ الَّذِي قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْهَا، فَلَمَّا كان عن قريب قدم على ذلك الطالب نفقته من أبيه ستمائة دينار، فوفى ذلك التَّاجِرَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الجارية والقرض، وذلك بسفارة الشيخ. توفى في ربيع الآخر منها ودفن بباب حَرْبٍ.
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَهْضَمٍ
أبو الحسن الجهضمي الصُّوفِيُّ الْمَكِّيُّ، صَاحِبُ بَهْجَةِ الْأَسْرَارِ، كَانَ شَيْخَ الصوفية بمكة، وبها توفى قال ابن الحوزى: وقد ذكر أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا، وَيُقَالُ إِنَّهُ الَّذِي وَضَعَ حَدِيثَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ.(12/16)
الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ
أَبُو عمر الهاشمي البصري، قاضيها، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا، وَهُوَ رَاوِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ اللُّؤْلُؤِيِّ، توفى فيها وقد جاوز التسعين.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ
أَبُو الْفَرَجِ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، يعرف بِابْنِ سُمَيْكَةَ، رَوَى عَنِ النَّجَّادِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَدُفِنَ بباب حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
أَبُو جَعْفَرٍ النَّسَفِيُّ، عَالِمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ فِي الْخِلَافِ، وَكَانَ فَقِيرًا مُتَزَهِّدًا، بَاتَ لَيْلَةً قَلِقًا لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، فَعَرَضَ لَهُ فِكْرٌ فِي فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ كَانَ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، فَانْفَتَحَ لَهُ فَقَامَ يَرْقُصُ وَيَقُولُ: أَيْنَ الْمُلُوكِ؟ فَسَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ عَنْ خَبَرِهِ فَأَعْلَمَهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ شَأْنِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وكانت وفاته في شعبان منها.
هلال بن محمد
ابن جَعْفَرِ بْنِ سَعْدَانَ، أَبُو الْفَتْحِ الْحَفَّارُ، سَمِعَ إسماعيل الصفار والنجاد وَابْنَ الصَّوَّافِ، وَكَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ منها عن اثنتين وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة
فيها ألزم الوزير جماعة الْأَتْرَاكِ وَالْمُوَلَّدِينَ وَالشَّرِيفَ الْمُرْتَضَى وَنِظَامَ الْحَضْرَةِ أَبَا الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيَّ وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ أبى الشوارب، والشهود، بالحضور لتجديد البيعة لشرف الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ تَوَهَّمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَيْعَةُ لِنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ مِنْ أَجْلِهِ، فَبَعَثَ إِلَى الْقَاضِي وَالرُّؤَسَاءِ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْحُضُورِ، فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدولة، واصطلحا وَتَصَافَيَا، وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ. ولم يحج فيها من ركب العراق ولا خُرَاسَانَ أَحَدٌ، وَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ مِنْ جِهَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ شَهِدَ الْمَوْسِمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ صَاحِبُ مِصْرَ بِخِلَعٍ عظيمة ليحملها للملك محمود، فلما رجع بها إلى الملك أرسل بها إلى بغداد إلى الخليفة القادر فحرقت بالنار.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن عمر بن الحسن
أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَدَّلُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُسْلِمَةِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ بن كامل والنجاد والجهضمي ودعلج وغيرهم، وكان ثقة. سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان يملى فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ مَجْلِسًا فِي الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ، دَارُهُ مَأْلَفٌ لأهل العلم، وتفقه بِأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعًا، وَيُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ فِي التهجد، توفى في ذي القعدة منها(12/17)
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أحمد
ابن الْقَاسِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبَانٍ الضَّبِّيُّ، أَبُو الْحَسَنِ المحاملي، نسبة إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، تفقه على أبى حامد الأسفراييني، وبرع فيه، حتى إن الشيخ كان يَقُولُ: هُوَ أَحْفَظُ لِلْفِقْهِ مِنِّي، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ المشهورة، منها اللباب، والأوسط والمقنع وله في الخلاف، وعلق على أبى حامد تعليقة كبيرة. قال ابْنُ خَلِّكَانَ: وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وتوفى في يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ منها، وهو شاب.
عبيد الله بن عبد الله
ابن الْحُسَيْنِ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَفَّافُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّقِيبِ، كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَحِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ بن المعلم فقيه الشيعة سجد للَّه شكرا. وجلس لِلتَّهْنِئَةِ وَقَالَ: مَا أُبَالِي أَيَّ وَقْتٍ مِتُّ بَعْدَ أَنْ شَاهَدْتُ مَوْتَ ابْنِ الْمُعَلِّمِ، وَمَكَثَ دَهْرًا طَوِيلًا يُصَلِّي الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعَشَاءِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ مَوْلِدِهِ فَقَالَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَذْكُرُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْمُقْتَدِرَ وَالْقَاهِرَ والرضى والمتقى للَّه والمستكفي والمطيع والطائع والقادر والغالب باللَّه، الّذي خطب له بولاية العهد، توفى في سلخ شعبان منها عَنْ مِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الله بن عمر
أَبُو حَفْصٍ الدَّلَّالُ، قَالَ سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يُنْشِدُ قوله:
وقد كان شيء سمى السُّرُورَ ... قَدِيمًا سَمِعْنَا بِهِ مَا فَعَلْ
خَلِيلَيَّ، إِنْ دَامَ هَمُّ النُّفُوسِ ... قَلِيلًا عَلَى مَا نَرَاهُ قَتَلْ
يُؤَمِّلُ دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ ... فَمَاتَ الْمُؤَمِّلُ قَبْلَ الْأَمَلْ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَقْسَاسِيُّ الْعَلَوِيُّ، نَائِبُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فِي إمرة الحجيج، حج بالناس سنين متعددة، وله فصاحة وشعر، وَهُوَ مِنْ سُلَالَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَوِيَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ وَنَهَبُوا الدُّورَ جَهْرَةً، وَاسْتَهَانُوا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ منها توفى شرف الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد والعراق وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَثُرَتِ الشُّرُورُ بِبَغْدَادَ وَنُهِبَتِ الْخَزَائِنُ، ثم سكن الْأَمْرُ عَلَى تَوْلِيَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَبِي الطَّاهِرِ، وخطب له على المنابر، وهو إذ ذاك عَلَى الْبَصْرَةِ، وَخَلَعَ عَلَى شَرَفِ الْمُلْكِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ مَاكُولَا وَزِيرِهِ، وَلُقِّبَ عَلَمَ الدِّينِ سَعْدَ الدَّوْلَةِ أَمِينَ الْمِلَّةِ شَرَفَ الْمُلْكِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِالْأَلْقَابِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ طَلَبَ من الخليفة أن يبايع لأبى كاليجار وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ بهاء الدولة عليهم، فتوقف في الجواب ثم(12/18)
وافقهم على ما أرادوا، وَأُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سادس عشر شوال منها، ثم تفاقم الأمر ببغداد من جهة العيارين، وَكَبَسُوا الدُّورَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَضَرَبُوا أَهْلَهَا كَمَا يُضْرَبُ الْمُصَادَرُونَ وَيَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ فَلَا يُغَاثُ، وَاشْتَدَّ الحال وهربت الشرطة مِنْ بَغْدَادَ وَلَمْ تُغْنِ الْأَتْرَاكُ شَيْئًا، وَعَمِلَتِ السرايج عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَأُحْرِقَتْ دَارُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فَانْتَقَلَ مِنْهَا، وَغَلَتِ الأسعار جَدًّا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وخراسان.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
سَابُورُ بْنُ ازدشير
وزر لبهاء الدولة ثلاث مرات، ووزر لشرف الدولة، وكان كاتبا شديدا عفيفا عن الأموال، كثير الخير، سليم الخاطر، وكان إذا سمع المؤذن لا يشغله شيء عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَقَفَ دَارًا لِلْعِلْمِ فِي سِنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَعَلِ فِيهَا كُتُبًا كثيرة جدا، ووقف عليها غلة كبيرة، فَبَقِيَتْ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ أُحْرِقَتْ عِنْدَ مَجِيءِ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَتْ محلتها بين السورين، وقد كان حسن الْمُعَاشَرَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عُمَّالَهُ سَرِيعًا خوفا عليهم من الأشر والبطر، توفى فيها وقد قارب التسعين.
عثمان النيسابورىّ
الجداوى الواعظ. قال ابن الجوزي: صنف كتبا فِي الْوَعْظِ مِنْ أَبْرَدِ الْأَشْيَاءِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ، وَكَلِمَاتٌ مَرْذُولَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ خَيِّرًا صَالِحًا، وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَكَانَ الْمَلِكُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِذَا رَآهُ قَامَ لَهُ، وَكَانَتْ مَحَلَّتُهُ حِمَى يَحْتَمِي بها من الظلمة، وقد وقع في بلده نَيْسَابُورَ مَوْتٌ، وَكَانَ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى مُحْتَسِبًا، فَغَسَّلَ نحوا من عشرة آلاف ميتا، رحمه الله.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحَانِ
أَبُو مَنْصُورٍ الوزير لشرف الدولة ولبهاء الدولة، كَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ جَيِّدَ الْمُبَاشَرَةِ حَسَنَ الصَّلَاةِ، مُحَافِظًا عَلَى أَوْقَاتِهَا، وَكَانَ مُحْسِنًا إِلَى الشُّعَرَاءِ والعلماء، توفى فيها عن ست وسبعين سنة.
الملك شرف الدَّوْلَةِ
أَبُو عَلِيِّ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، أَبِي نصر بن عضد الدولة بن بويه، أصابه مرض حار فَتُوُفِّيَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ ثلاث وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وعشرين يوما.
التهامي الشاعر
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ التِّهَامِيُّ أَبُو الْحَسَنِ، لَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَلَهُ مَرْثَاةٌ فِي وَلَدِهِ وَكَانَ قَدْ مَاتَ صَغِيرًا أَوَّلُهَا:
حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِي ... مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ
وَمِنْهَا: -
إِنِّي لَأَرْحَمُ حَاسِدِيَّ لِحَرِّ مَا ... ضَمَّتْ صُدُورُهُمُ مِنَ الْأَوْغَارِ
نَظَرُوا صَنِيعَ اللَّهِ بِي فَعُيُونُهُمْ ... فِي جَنَّةٍ وَقُلُوبُهُمْ فِي نَارِ(12/19)
ومنها في ذم الدنيا:
جبلت على كدر وأنت ترومها ... صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ
وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا ... تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ:
جَاوَرْتُ أَعْدَائِي وَجَاوَرَ رَبَّهُ ... شَتَّانَ بَيْنَ جِوَارِهِ وجواري
وقد ذكر ابن خلكان أنه رآه بعضهم في المنام في هيئة حسنة فقال له بعض أصحابه: بم نلت هذا؟
فقال: بهذا البيت
شتان بين جواره وجواري
ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة
في العشرين من محرمها وقعت فتنة بين الاسفهلارية وبين العيارين، وركبت لهم الأتراك بالدبابات، كما يفعل في الحرب، وأحرقت دور كَثِيرَةٌ مِنَ الدُّورِ الَّتِي احْتَمَى فِيهَا الْعَيَّارُونَ، وَأُحْرِقَ مِنَ الْكَرْخِ جَانِبٌ كَبِيرٌ، وَنُهِبَ أَهْلُهُ، وتعدى بالنهب إلى غيرهم، وقامت فتنة عظيمة ثم خمدت الفتنة فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَقُرِّرَ عَلَى أَهْلِ الْكَرْخِ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، مُصَادَرَةً، لِإِثَارَتِهِمُ الْفِتَنَ وَالشُّرُورَ.
وفي شهر ربيع الآخر منها شَهِدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ، الصَّيْمَرِيُّ عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ بعد ما كَانَ اسْتَتَابَهُ عَمَّا ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الِاعْتِزَالِ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ سُمِعَ لَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ الرَّعْدِ، وَوَقَعَ فِي سَلْخِ شَوَّالٍ بَرَدٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَجَمَدَ الْمَاءُ طُولَ هذه المدة، وَقَاسَى النَّاسُ شِدَّةً عَظِيمَةً، وَتَأَخَّرَ الْمَطَرُ وَزِيَادَةُ دِجْلَةَ، وَقَلَّتِ الزِّرَاعَةُ، وَامْتَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عن التصرف. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ في هذه السنة لفساد البلاد وضعف الدولة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ.
أحمد بن محمد بن عبد الله
ابن الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ بَعْدَ ابْنِ الْأَكْفَانِيِّ بِثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ وَعَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ. قَالَهُ ابْنُ الجوزي: وحكى الخطيب عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيِّ: أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ هَذَا آخِرُ مَنْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ، مِنْ سُلَالَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ مِنْ سُلَالَتِهِ أربعة وعشرون، منهم وُلُّوا قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ. قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ أَبِي الْحَسَنِ هَذَا، جَلَالَةً وَنَزَاهَةً وَصِيَانَةً وَشَرَفًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَدِيقًا(12/20)
وَصَاحِبًا، وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَوْصَى لَهُ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ فَأَبَى القاضي أن يقبلها، وجهد عليه كل الجهد فلم يفعل، وقال له: سألتك باللَّه لا تذكرن هذا لأحد ما دمت حيا، ففعل الماوردي، فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ فَقِيرًا إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا هو دونها فلم يقبلها رحمه الله. توفى في شوال منها.
جعفر بن أبان
أبو مسلم الختّليّ سَمِعَ ابْنَ بَطَّةَ وَدَرَسَ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا، توفى في رمضان منها
عمر بن أحمد بْنِ عَبْدَوَيْهِ
أَبُو حَازِمٍ الْهُذَلِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، سَمِعَ ابْنَ نُجَيْدٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّ، وَخَلْقًا، وَسَمِعَ مِنْهُ الْخَطِيبُ وغيره، وكان الناس ينتفعون بِإِفَادَتِهِ وَانْتِخَابِهِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ
أبو الحسن المقري الْمَعْرُوفُ بِالْحَمَّامِيِّ، سَمِعَ النَّجَّادَ وَالْخُلْدِيَّ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ صَدُوقًا فَاضِلًا، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَتَفَرَّدَ بأسانيد القراءات وعلوها، توفى في شعبان منها عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
صَاعِدُ بْنُ الْحَسَنِ
ابن عيسى الربعي البغدادي، صَاحِبُ كِتَابِ الْفُصُوصِ فِي اللُّغَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَالِي فِي الْأَمَالِي، صَنَّفَهُ لِلْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ قيل له إنه كذاب متهم، فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ غَاصَ فِي الْمَاءِ كِتَابُ الْفُصُوصْ ... وَهَكَذَا كُلُّ ثَقِيلٍ يَغُوصْ
فَلَمَّا بَلَغَ صَاعِدًا هَذَا الْبَيْتُ أَنْشَدَ:
عَادَ إِلَى عُنْصُرِهِ إِنَّمَا ... يَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ الْبُحُورِ الْفُصُوصْ
قُلْتُ: كَأَنَّهُ سَمَّى هَذَا الْكِتَابَ بِهَذَا الِاسْمِ لِيُشَاكِلَ بِهِ الصِّحَاحَ لِلْجَوْهَرِيِّ، لَكِنَّهُ كَانَ مَعَ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَعِلْمِهِ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ، فلهذا رفض الناس كتابه، ولم يشتهر، وكان ظريفا ما جنا سَرِيعَ الْجَوَابِ، سَأَلَهُ رَجُلٌ أَعْمَى عَلَى سَبِيلِ التهكم فقال له: ما الحر تقل؟ فأطرق ساعة وعرف أنه افتعل هذا من عند نفسه ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي نِسَاءَ الْعُمْيَانِ، وَلَا يَتَعَدَّاهُنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ، فاستحى ذلك الأعمى وضحك الحاضرون. توفى في هذه السنة سامحه الله.
القفال المروزي
أحد أئمة الشافعية الكبار، علما وزهدا وحفظا وتصنيفا، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الطَّرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيَّةُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَبُو عَلِيٍّ السبخى، قال ابن خلكان:(12/21)
وَأَخَذَ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. لِأَنَّ سِنَّ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فان القفال هذا مات فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِسِجِسْتَانَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وُلِدَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وأربعمائة كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْقَفَّالُ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يَعْمَلُ الْأَقْفَالَ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ إِلَّا وهو ابن ثلاثين سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان عشرة وأربعمائة
في ربيع الأول منها وَقَعَ بَرَدٌ أَهْلَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ والثمار، وقتل خلقا كثيرا من الدواب. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ في برده كُلِّ بَرَدَةٍ رِطْلَانِ وَأَكْثَرُ، وَفِي وَاسِطٍ بَلَغَتِ البردة أرطالا، وفي بغداد بلغت قدر البيض. وفي ربيع الآخر سألت الاسفهلارية الغلمان الْخَلِيفَةَ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ أَبَا كَالِيجَارَ، لِتَهَاوُنِهِ بِأَمْرِهِمْ، وَفَسَادِهِ وَفَسَادِ الْأُمُورِ فِي أَيَّامِهِ، وَيُوَلِّيَ عليهم جلال الدولة، الّذي كانوا قد عزلوه عنهم، فَمَاطَلَهُمُ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ أَنْ يَتَدَارَكَ أَمْرَهُ، وَأَنْ يُسْرِعَ الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ، قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ الْأَمْرُ، وَأَلَحَّ أُولَئِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي تَوْلِيَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَقَامُوا لَهُ الْخُطْبَةَ بِبَغْدَادَ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَفَسَدَ النظام. وفيها ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ الْهِنْدِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ كَسَرَ الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي لَهُمُ الْمُسَمَّى بِسُومَنَاتَ، وَقَدْ كَانُوا يَفِدُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة، التي لا توصف ولا تعد، وَكَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْقَافِ عَشَرَةُ آلَافِ قَرْيَةٍ، ومدينة مَشْهُورَةٍ، وَقَدِ امْتَلَأَتْ خَزَائِنُهُ أَمْوَالًا، وَعِنْدَهُ أَلْفُ رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة، والأرض الخطرة، في تجشم ذلك في جيشه، وأن يقطع تلك الأهوال إليه، فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفا من المقاتلة، ممن اختارهم لذلك، سوى المتطوعة، فسلمهم الله حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة، قال: فما كان بأسرع من أن ملكناه وَقَتَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ خَمْسِينَ أَلْفًا وَقَلَعْنَا هَذَا الْوَثَنَ وَأَوْقَدْنَا تَحْتَهُ النَّارَ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالا جزيلة لِيَتْرُكَ لَهُمْ هَذَا الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ، فَأَشَارَ مَنْ أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير الله عز وجل، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: إِنِّي فَكَّرْتُ فِي الْأَمْرِ الّذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة أَيْنَ مَحْمُودٌ الَّذِي كَسَرَ الصَّنَمَ؟ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يقال الّذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله، فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلي والذهب والجواهر(12/22)
النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الّذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ رَمَضَانَ دَخَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ فتلقاه الخليفة في دجلة في طيارة، ومعه الأكابر والأمراء، فلما واجه جلال الدولة الخليفة قَبَّلَ الْأَرْضَ دَفَعَاتٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دَارِ الْمُلْكِ، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى دَارِهِ، وَأَمَرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ الطَّبْلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الثَّلَاثِ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي زَمَنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَصَمْصَامِهَا وَشَرَفِهَا وَبَهَائِهَا، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يضرب له الطبل في أوقات الخمس، فأراد جلال الدولة ذلك فقيل له يحمل هذه المساواة الخليفة في ذلك، ثم صمم على ذلك في أوقات الْخَمْسِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا وَقَعَ بَرَدٌ شديد حتى جمد الماء وَالنَّبِيذُ وَأَبْوَالُ الدَّوَابِّ وَالْمِيَاهُ الْكِبَارُ، وَحَافَّاتُ دِجْلَةَ. ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله
ابن عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي باللَّه، أَبُو عَبْدِ الله الشاهد، خطب له فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وثلاثمائة، ولم يخطب له إلا بخطبة واحدة جمعات كثيرة متعددة، فكان إذا سَمِعَهَا النَّاسُ مِنْهُ ضَجُّوا بِالْبُكَاءِ وَخَشَعُوا لِصَوْتِهِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْقَاسِمِ المغربي الوزير، ولد بمصر في ذي الحجة سنة تسعين وثلاثمائة، وهرب منها حين قتل صاحبها الحاكم أباه وعمه محمدا، وَقَصَدَ مَكَّةَ ثُمَّ الشَّامَ، وَوَزَرَ فِي عِدَّةِ أماكن، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ الْحَسَنَ، وَقَدْ تَذَاكَرَ هُوَ وبعض الصالحين فأنشده ذلك الصَّالِحُ شِعْرًا:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا غَنِيًّا فَلَا تَكُنْ ... عَلَى حَالَةٍ إِلَّا رَضِيتَ بِدُونِهَا
فَاعْتَزَلَ الْمَنَاصِبَ وَالسُّلْطَانَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: تركت المنازل والسلطان فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِكَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
كُنْتُ فِي سفر الجهل والبطالة ... حينا فَحَانَ مِنِّي الْقُدُومُ
تُبْتُ مِنْ كُلِّ مَأْثَمٍ فعسى ... يمحى بِهَذَا الْحَدِيثِ ذَاكَ الْقَدِيمُ
بَعْدَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ تعد ... ألا إن الآله القديم كريم
توفى بميافارقين في رمضان منها عَنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ عَلِيٍّ.
محمد بن الحسن بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَفَّافِ، رَوَى عَنِ الْقَطِيعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ اتَّهَمُوهُ بوضع الحديث والأسانيد، قاله الخطيب وغيره.(12/23)
أبو القاسم اللالكائي
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ: الرَّازِيُّ، وَهُوَ طَبَرِيُّ الْأَصْلِ، أَحَدُ تَلَامِذَةِ الشَّيْخِ أَبِي حامد الأسفراييني، كان يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ، وَعُنِيَ بِالْحَدِيثِ فَصَنَّفَ فِيهِ أَشْيَاءَ كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وَذَكَرَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ، وَقَعَ لنا سماعه على الحجار عاليا عنه، توفى بالدينور في رمضان منها، وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟
قَالَ: غَفَرَ لِي، قال بم؟ قال بشيء قليل من السنة أحييته:
أبو القاسم بن أمير المؤمنين القادر
توفى ليلة الأحد في جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمَشَى النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ، وَحَزِنَ عَلَيْهِ أَبُوهُ حُزْنًا شَدِيدًا، وَقُطِعَ الطَّبْلُ أَيَّامًا.
ابْنُ طَبَاطَبَا الشَّرِيفُ
كان شاعرا، وله شعر حسن.
أبو إسحاق
وهو الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بن مهران. الشيخ أبو إسحاق الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، رُكْنُ الدِّينِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، الْمُتَكَلِّمُ الأصولي، صاحب التصانيف في الأصلين، جامع الحلي في مجلدات، والتعليقة النافعة فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعَ الكثير من الحديث مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَدَعْلَجٍ وَغَيْرِهِمَا، وَأَخَذَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ النيسابورىّ، وأثنى عليه، توفى يوم عاشوراء منها بنيسابور، ثم نقل إلى بلده ودفن بمشهده.
القدوري
صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبى حنيفة، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بن حمدان، أبو الحسن القدوري الْحَنَفِيُّ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ الْمُخْتَصَرِ، الَّذِي يُحْفَظُ، كَانَ إماما بارعا عالما، وثبتا مناظرا، وهو الَّذِي تَوَلَّى مُنَاظَرَةَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ من الحنفية، وكان القدوري يطريه ويقول: هو أعلم من الشافعيّ، وانظر منه، توفى يوم الأحد الخامس من رجب منها، عن ست وخمسين سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيِّ الْحَنَفِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وأربعمائة
فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ ونهبوا دار وزيره، وجرت له أمور طويلة، آل الحال فيها إلى اتفاقهم على إخراجه من البلد، فهيّئ له برذون رث، فخرج وفي يده طير نَهَارًا، فَجَعَلُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ وَلَا يُفَكِّرُونَ فيه، فلما عزم على الركوب على ذلك البرذون الرث رثوا له ورقوا له ولهيئته وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَانْصَلَحَتْ قَضِيَّتُهُ بَعْدَ فسادها. وفيها قَلَّ الرُّطَبُ جِدًّا بِسَبَبِ هَلَاكِ النَّخْلِ فِي(12/24)
السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ بِالْبَرَدِ، فَبِيعَ الرَّطْبُ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِينَارٍ جَلَالِيٍّ، وَوَقَعَ بَرَدٌ شَدِيدٌ أَيْضًا فأهلك شيئا كثيرا من النخيل أيضا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَلَا من أهل الديار المصرية فيها، إِلَّا أَنَّ قَوْمًا مِنْ خُرَاسَانَ رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ مِنْ مَدِينَةِ مُكْرَانَ فَانْتَهَوْا إِلَى جَدَّةَ فحجوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
حَمْزَةُ بْنُ إبراهيم بن عبد الله
أَبُو الْخَطَّابِ الْمُنَجِّمُ، حَظِيَ عِنْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وعلماء النجوم، وكان له بذلك وجاهة عنده، حتى أن الوزراء كانوا يخافونه ويتوسلون به إليه، ثم صار أمره طريدا بعيدا حَتَّى مَاتَ يَوْمَ مَاتَ بِالْكَرْخِ مِنْ سَامَرَّا غَرِيبًا، فَقِيرًا مَفْلُوجًا، قَدْ ذَهَبَ مَالُهُ وَجَاهُهُ وعقله.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ
أَبُو الْحَسَنِ التَّاجِرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ عَلَى الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَتَفَرَّدَ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ فَخَافَ مِنَ الْمُصَادَرَةِ بِبَغْدَادَ فَانْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ، فَاتَّفَقَ مُصَادَرَةُ أَهْلِ مَحَلَّتِهِ فَقُسِّطَ عَلَيْهِ مَا أَفْقَرَهُ، وَمَاتَ حِينَ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ له كفن ولم يترك شيئا فأرسل له القادر باللَّه ما كفن فيه.
مبارك الأنماطي
كان ذا مال جزيل نحو ثلاثمائة ألف دينار، مات وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا سِوَى ابْنَةٍ وَاحِدَةٍ بِبَغْدَادَ، وتوفى هو بِمِصْرَ.
أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
كَانَ ظَالِمًا، وَكَانَ إِذَا سَكِرَ يَضْرِبُ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ وَزِيرِهِ مِائَتَيْ مِقْرَعَةٍ، بَعْدَ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَتَأَوَّهُ، وَلَا يُخْبِرُ بذلك أحدا. فيقال إن حاشيته سموه، فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار.
أبو محمد بن الساد
وزير كاليجار، ولقبه معز الدولة، فلك الدولة، رشيد الْأُمَّةِ، وَزِيرَ الْوُزَرَاءِ، عِمَادَ الْمُلْكِ، ثُمَّ سُلِّمَ بعد ذلك إلى جلال الدولة فاعتقله ومات فيها.
أبو عبد الله المتكلم
توفى فيها، هَكَذَا رَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ تَرْجَمَهُ مُخْتَصَرًا.
ابْنُ غلبون الشاعر
عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ غالب أبو محمد الشَّامِيُّ ثُمَّ الصُّورِيُّ، الشَّاعِرُ الْمُطَبِّقُ، لَهُ دِيوَانُ مليح، كَانَ قَدْ نَظَمَ قَصِيدَةً بَلِيغَةً فِي بَعْضِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ أَنْشَدَهَا لِرَئِيسٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ ذو النعمتين، وَزَادَ فِيهَا بَيْتًا وَاحِدًا يَقُولُ فِيهِ:
وَلَكَ الْمَنَاقِبُ كَلُّهَا ... فَلِمَ اقْتَصَرْتَ عَلَى اثْنَتَيْنِ
فَأَجَازَهُ جائزة سنية، فقيل له: إنه لم يقلها فِيكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ وَحْدَهُ بِقَصِيدَةٍ، وَلَهُ أَيْضًا فِي بَخِيلٍ نَزَلَ عِنْدَهُ:(12/25)
وأخ مسه تزولى بقرح ... مثل ما مسنى من الجرح
بت ضيفا له كما حكم الدهر ... وفي حكمه على الحر فتح
فابتدأني يقول وهو من ... السكر بِالْهَمِّ طَافِحٌ لَيْسَ يَصْحُو
لِمْ تَغَرَّبْتَ؟ قَلْتُ قال رسول الله ... وَالْقَوْلُ مِنْهُ نُصْحٌ وَنُجْحُ
«سَافَرُوا تَغْنَمُوا» فَقَالَ وقد ... قال تَمَامَ الْحَدِيثِ «صُومُوا تَصِحُّوَا»
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عشرين وأربعمائة
فِيهَا سَقَطَ بِنَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مَطَرٌ شَدِيدٌ، مَعَهُ بَرَدٌ كِبَارٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: حُزِرَتِ الْبَرَدَةُ الواحدة منه مائة وخمسون رِطْلًا، وَغَاصَتْ فِي الْأَرْضِ نَحْوًا مِنْ ذِرَاعٍ. وفيها ورد كتاب من محمود ابن سُبُكْتِكِينَ أَنَّهُ أَحَلَّ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَصَلْبًا شَنِيعًا، وَأَنَّهُ انْتَهَبَ أَمْوَالَ رَئِيسِهِمْ رُسْتُمَ بْنِ عَلِيٍّ الديلميّ، فحصل منها مَا يُقَارِبُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَ في حيازته نَحْوٌ مَنْ خَمْسِينَ امْرَأَةً حُرَّةً، وَقَدْ وَلَدْنَ له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَكَانُوا يَرَوْنَ إِبَاحَةَ ذَلِكَ. وَفِي رجب منها انقض كواكب كثيرة شديدة الضوء شديدة الصوت. وفي شعبان منها كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ وَضَعُفَتْ رِجَالُ الْمَعُونَةِ عَنْ مُقَاوَمَةِ العيارين. وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غَارَ مَاءُ دِجْلَةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلا القليل، ووقفت الأرحاء عن الطحن، وتعذر ذلك. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ جُمِعَ الْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ فِي دار الخلافة، وقرئ عليهم كتاب جمعه الْقَادِرُ باللَّه، فِيهِ مَوَاعِظُ وَتَفَاصِيلُ مَذَاهِبِ أَهْلِ البصرة، وفيه الرد عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَتَفْسِيقُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَصِفَةُ مَا وَقَعَ بَيْنَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وعبد العزيز بن يحيى الكتاني من المناظرة، ثم ختم القول بالمواعظ، والقول بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَأَخَذَ خُطُوطَ الْحَاضِرِينَ بالموافقة على ما سَمِعُوهُ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ غُرَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ جُمِعُوا أَيْضًا كُلُّهُمْ وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ طَوِيلٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ السُّنَّةِ وَالرَّدَّ عَلَى أَهْلِ البدع ومناظرة بشر المريسي والكتاني أيضا، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفَضْلَ الصَّحَابَةِ، وذكر فضائل أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَأُخِذَتْ خُطُوطُهُمْ بِمُوَافَقَةِ مَا سَمِعُوهُ. وعزل خطباء الشيعة، وولى خطباء السنة وللَّه الحمد والمنة على ذلك وغيره.
وجرت فتنة بِمَسْجِدِ بَرَاثَا، وَضَرَبُوا الْخَطِيبَ السُّنِّيَّ بِالْآجُرِّ، حَتَّى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، فانتصر لهم الْخَلِيفَةُ وَأَهَانَ الشِّيعَةَ وَأَذَلَّهُمْ، حَتَّى جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ مما صنعوا، وأن ذلك إنما تعاطاه السفهاء منهم. وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ في هذه السنة من الحج.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ أبى القين
أَبُو عَلِيٍّ الزَّاهِدُ، أَحَدُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ وَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ فَقَبَّلَ يَدَهُ،(12/26)
فعوتب الوزير بذلك فَقَالَ: كَيْفَ لَا أُقَبِّلُ يَدًا مَا امْتَدَّتْ إلا إلى الله عز وجل.
عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ الْفَرَجِ بْنِ صَالِحٍ
أَبُو الْحَسَنِ الرَّبَعِيُّ النَّحْوِيُّ، أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ أَوَّلًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، ثُمَّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَلَازَمَهُ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى كَانَ يَقُولُ: قُولُوا لَهُ لَوْ سَارَ مِنَ الْمَشْرِقِ إلى المغرب لم يجد أحدا أتحى منه، كان يَوْمًا يَمْشِي عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الشَّرِيفَيْنِ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى فِي سَفِينَةٍ، وَمَعَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ، فَقَالَ لَهُمَا: مِنْ أَعْجَبِ الأشياء عثمان معكما، وعلى بعيد عنكما، يمشى على شاطئ الفرات.
[فضحكا وقالا: باسم الله] توفى في المحرم منها عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الدَّيْرِ، ويقال إنه لم يتبع جنازته إلا ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ
أَسَدُ الدَّوْلَةِ
أَبُو عَلِيٍّ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ إِدْرِيسَ الْكِلَابِيُّ، أَوَّلُ مُلُوكِ بَنِي مِرْدَاسٍ بِحَلَبَ، انْتَزَعَهَا مِنْ يَدَيْ نَائِبِهَا عن الظَّاهِرِ بْنِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ جَاءَهُ جَيْشٌ كثيف من مصر قاقتتلوا فَقُتِلَ أَسَدُ الدَّوْلَةِ هَذَا فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقَامَ حَفِيدُهُ نَصْرٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وعشرين وأربعمائة
فيها توفى الملك الكبير المجاهد المغازي، فاتح بلاد الهند محمود بن سبكتكين رحمه الله، لَمَّا كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السنة توفى الملك العادل الكبير الثاغر المرابط، المؤيد المنصور، يَمِينُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، صاحب بلاد غزنة ومالك تلك الْمَمَالِكِ الْكِبَارِ، وَفَاتِحُ أَكْثَرِ بِلَادِ الْهِنْدِ قَهْرًا، وكاسر أصنامهم، وندودهم وأوثانهم وهنودهم، وسلطانهم الأعظم قهرا، وقد مرض رحمه الله نَحْوًا مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَضْطَجِعْ فِيهِمَا عَلَى فراش، ولا توسد وسادا، بل كان يتكىء جالسا حتى مات وهو كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ، وَقُوَّةِ عَزْمِهِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتُّونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يتم أمره حتى عافصه أخوه مسعود بن محمود المذكور، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَمَالِكِ أَبِيهِ، مَعَ مَا كَانَ يليه مما فتحه هُوَ بِنَفْسِهِ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ، مِنَ الرَّسَاتِيقِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، فَاسْتَقَرَّتْ لَهُ الْمَمَالِكُ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْعَامِ، وجاءته الرسل بالسلام مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَمِنْ كُلِّ مَلِكٍ هُمَامٍ، وبالتحية والاكرام، وبالخضوع التام، وسيأتي ذكر أبيه فِي الْوَفِيَّاتِ. وَفِيهَا اسْتَحْوَذَتِ السَّرِيَّةُ الَّتِي كَانَ بعثها الملك المذكور محمود إلى بلاد الهند على أكثر مدائن الهنود وأكبرها مدينة، وهي المدينة المسماة نرسى، دخلوها في نحو من مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فنهبوا سوق العطر والجوهر بِهَا نَهَارًا كَامِلًا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُحَوِّلُوا مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ وَالْمِسْكِ وَالْجَوَاهِرِ واللآلي واليواقيت، ومع هذا لم يدر أكثر أهل البلد بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِاتِّسَاعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ: طُولُهَا مَسِيرَةُ مَنْزِلَةٍ مِنْ منازل الهند، وعرضها كذلك، وأخذوا منها من الأموال والتحف(12/27)
والأثاث مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ بِالْكَيْلِ، وَلَمْ يَصِلْ جَيْشٌ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ قط، لا قبل هذه السنة ولا بعدها، وهذه المدينة من أكثر بلاد الهند خيرا ومالا، بل قيل إنه لا يوجد مدينة أكثر منها مالا ورزقا، مع كفر أهلها وعبادتهم الأصنام، فليسلم المؤمن على الدنيا سلام. وقد كانت محل الملك، وأخذوا منها من الرقيق من الصبيان والبنات ما لا يحصى كثرة. وَفِيهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ بِدْعَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ، وَحَادِثَتَهُمُ الصَّلْعَاءَ، فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، مِنْ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ، وَتَغْلِيقِ الأسواق، والنوح والبكاء في الازقة، فأقبل أهل السنة إليهم في الحديد فاقتتلوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ، وجرت بينهم فتن وشرور مستطيرة.
وفيها مَرِضَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرُ باللَّه وَعَهِدَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، بِمَحْضَرٍ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ والأمراء، وخطب له بذلك، وضرب اسمه على السكة المتعامل بها. وَفِيهَا أَقْبَلَ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي مائة أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ بِلَادَ حَلَبَ، وَعَلَيْهَا شِبْلُ الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْهَا، وَمِنْ عزم ملك الروم أن يستحوذ على بلاد الشام كلها، وأن يستردها إلى دين النصرانية، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ» وَقَيْصَرُ هُوَ من ملك الشام من الروم مَعَ بِلَادِ الرُّومِ فَلَا سَبِيلَ لِمَلِكِ الرُّومِ إلى هذا. فلما نزل مِنْ حَلَبَ كَمَا ذَكَرْنَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَطَشًا شَدِيدًا، وَخَالَفَ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ الدُّمُسْتُقُ، فَعَامَلَ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ على قتله ليستقل هو بالأمر من بعده، ففهم الملك ذلك فكر من فوره راجعا، فاتبعهم الأعراب ينهبونهم ليلا ونهارا، وكان من جملة ما أخذوا منهم أربعمائة فحل محجل محملة أموالا وثيابا للملك، وهلك أكثرهم جوعا وعطشا، ونهبوا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَفِيهَا ملك جلال الدولة واسطا واستناب عليها ولده، وَبَعَثَ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مَاكُولَا إِلَى البطائح ففتحها، وَسَارَ فِي الْمَاءِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَعَلَيْهَا نَائِبٌ لِأَبِي كَالِيجَارَ، فَهَزَمَهُمُ الْبَصْرِيُّونَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ جَلَالُ الدولة بنفسه فدخلها في شعبان منها. وَفِيهَا جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ بِغَزْنَةَ فَأَهْلَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تَصَدَّقَ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بِأَلْفِ ألف درهم، وأدر أرزاقا كثيرة لِلْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِبِلَادِهِ، عَلَى عَادَةِ أَبِيهِ مِنْ قبله، وفتح بلادا كَثِيرَةً، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ جِدًّا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَقَوِيَتْ أَرْكَانُهُ، وَكَثُرَتْ جُنُودُهُ وَأَعْوَانُهُ. وَفِيهَا دَخَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَكْرَادِ إِلَى بَغْدَادَ يَسْرِقُونَ خَيْلَ الأتراك ليلا، فتحصن الناس منهم فأخذوا الخيول كلها حتى خيل السلطان. وفيها سقط جسر بغداد عَلَى نَهْرِ عِيسَى. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ النَّازِلِينَ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، وَبَيْنَ الْهَاشِمِيِّينَ، فَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ وَرَمَتْهُمُ الْأَتْرَاكُ بِالنُّشَّابِ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ ثم أصلح بين الفريقين. وفيها كثرت العملات، وَأُخِذَتِ الدُّورُ جَهْرَةً، وَكَثُرَ الْعَيَّارُونَ وَلُصُوصُ(12/28)
الأكراد. وفيها تعطل الحج أيضا سوى شرذمة مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ رَكِبُوا مِنْ جِمَالِ الْبَادِيَةِ مع الأعراب، ففازوا بالحج.
ذكر مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ، الْمَعْرُوفُ بابن اكرات، صَاحِبُ كَرَامَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ فسكن دمشق، وكان يعظ الناس بالرفادة القيلية، حيث كان يجلس القصاص. قاله ابْنُ عَسَاكِرَ.
قَالَ: وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي الْوَعْظِ، وحكى حكايات كثيرة، ثم قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اكرات الواعظ ينشد أبياتا:
أنا ما أصنع باللذات ... شغلي بالذنوب
إنما العيد لمن فاز ... بوصل من حبيب
أصبح الناس على روح ... وريحان وطيب
ثم أصبحت على نوح ... وَحُزْنٍ وَنَحِيبَ
فَرِحُوا حِينَ أَهَلُّوا ... شَهْرَهُمْ بَعْدَ المغيب
وهلالي متوار ... من وراء حجب الغيوب
فلهذا قلت للذات ... غيبي ثم غيبي
وجعلت الهم والحزن ... مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبِي
يَا حَيَاتِي وَمَمَاتِي ... وَشَقَائِي وطبيبي
جد لنفس تتلظى ... منك بالرحب الرحيب
الحسين بن محمد الخليع
الشاعر، له ديوان شعر حسن، عمر طويلا، وتوفى في هذه السنة.
الْمَلِكُ الْكَبِيرُ الْعَادِلُ
مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، أَبُو القاسم الملقب يمين الدولة، وأمين الملة، وصاحب بِلَادِ غَزْنَةَ، وَمَا وَالَاهَا، وَجَيْشُهُ يُقَالُ لَهُمْ السامانية، لأن أباه كان قد تملك عليهم، وتوفى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة فتملك عليهم بعده ولده محمود هذا، فسار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة، وقام في نصر الْإِسْلَامِ قِيَامًا تَامًّا، وَفَتَحَ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً فِي بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه، واتسعت مملكته، وامتدت رعاياه، وطالت أيامه لعدله وجهاده، وما أعطاه الله إياه، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر باللَّه، وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم، فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم، وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة، لم يتفق لغيره من(12/29)
الْمُلُوكِ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَغَنِمَ مَغَانِمَ منهم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط، من الذهب واللآلي، والسبي، وكسر من أصنامهم شيئا كثيرا، وأخذ من حليتها. وقد تقدم ذلك مفصلا متفرقا في السنين المتقدمة من أيامه، ومن جملة ما كسر من أصنامهم صنم يقال له سومنات، بلغ ما تحصل من حليته مِنَ الذَّهَبِ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَسَرَ ملك الهند الأكبر الّذي يقال له صينال، وَقَهَرَ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ إيلك الخان، وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا العالم في بِلَادَ سَمَرْقَنْدَ وَمَا حَوْلَهَا، ثُمَّ هَلَكُوا. وَبَنَى على جيحون جسرا تعجز الملوك والخلفاء عنه، غَرِمَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شيء عظيم هائل، وجرت له فصول يطول تفصيلها، وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئا، ولا يألفه، ولا أن يسمع بها، ولا يجسر أحد أن يظهر معصية ولا خمرا في مملكته، ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح، ويحسن إليهم، وكان حنفيا ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الصَّغِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وغيره، وكان على مذهب الكرامية في الاعتقاد، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُجَالِسُهُ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بن الهيضم، وقد جرى بينه وبين أبى بكر بن فورك مناظرات بين يدي السلطان محمود في مسألة العرش، ذَكَرَهَا ابْنُ الْهَيْضَمِ فِي مُصَنَّفٍ لَهُ، فَمَالَ السلطان محمود إِلَى قَوْلِ ابْنِ الْهَيْضَمِ، وَنَقَمَ عَلَى ابْنِ فُورَكَ كَلَامَهُ، وَأَمَرَ بِطَرْدِهِ وَإِخْرَاجِهِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِ الجهمية، وكان عادلا جيدا، اشْتَكَى إِلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّ ابْنَ أُخْتِ الْمَلِكِ يهجم عليه في داره وَعَلَى أَهْلِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَيُخْرِجُهُ مِنَ الْبَيْتِ وَيَخْتَلِي بِامْرَأَتِهِ، وَقَدْ حَارَ فِي أَمْرِهِ، وكلما اشتكاه لأحد من أولى الأمر لا يجسر أحد عليه خوفا وهيبة للملك.
فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا وقال للرجل، وَيْحَكَ مَتَى جَاءَكَ فَائْتِنِي فَأَعْلِمْنِي، وَلَا تَسْمَعْنَ مِنْ أَحَدٍ مَنَعَكَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيَّ، وَلَوْ جاءك في الليل فائتنى فأعلمني، ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إليّ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ مَسْرُورًا داعيا، فَمَا كَانَ إِلَّا لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت وَاخْتَلَى بِأَهْلِهِ، فَذَهَبَ بَاكِيًا إِلَى دَارِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْمَلِكَ نَائِمٌ، فَقَالَ: قَدْ تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلا ولا نهارا، فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد، حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد، وَعِنْدَهُمَا شَمْعَةٌ تَقِدُ، فَتَقَدَّمَ الْمَلِكُ فَأَطْفَأَ الضَّوْءَ ثُمَّ جَاءَ فَاحْتَزَّ رَأْسَ الْغُلَامِ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: ويحك الحقنى بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب، فقال له الرجل:
باللَّه لم أطفأت الشمعة؟ قال: ويحك إنه ابن أختى، وإني كرهت أن أشاهده حالة الذبح، فقال: ولم طلبت الماء سريعا؟ فقال الملك: إني آليت على نفسي مُنْذُ أَخْبَرْتَنِي أَنْ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ(12/30)
شرابا حتى أنصرك، وأقوم بحقك، فكنت عطشانا هذه الأيام كلها، حتى كان ما كان مما رأيت.
فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله، ولم يشعر بذلك أحد. وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج، اعتراه معه الطلاق الْبَطْنِ سَنَتَيْنِ، فَكَانَ فِيهِمَا لَا يَضْطَجِعُ عَلَى فراش، ولا يتكىء على شيء، لقوة بأسه وسوء مزاجه، وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك، ويفصل على عادته بين الناس، حتى مات كَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وستين سنة، ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة، وخاف مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، مِنْ ذَلِكَ سَبْعُونَ رطلا من جوهر، الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله. وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صار الملك إلى ولده الْآخَرِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ فَأَشْبَهَ أَبَاهُ، وَقَدْ صنف بعض العلماء مصنفا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة
فيها كانت وفاة القادر باللَّه الخليفة، وَخِلَافَةُ ابْنِهِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بين السنة والروافض، فقويت عَلَيْهِمُ السُّنَّةُ وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْهُمْ، وَنَهَبُوا الْكَرْخَ وَدَارَ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ دُورَ الْيَهُودِ لأنهم نسبوا إلى معاونة الرَّوَافِضِ، وَتَعَدَّى النَّهْبُ إِلَى دُورٍ كَثِيرَةٍ، وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ جِدًّا، ثُمَّ سَكَنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ وَانْتَشَرَتِ الْمِحْنَةُ بِأَمْرِ الْعَيَّارِينَ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَتَجَاسَرُوا عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَنَهَبُوا دورا وأماكن سرا وجهرا، ليلا ونهارا، والله سبحانه أعلم.
خِلَافَةُ الْقَائِمِ باللَّه
أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ باللَّه، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَمَّا توفى أبوه أبو العباس أحمد بن المقتدر بن المعتضد بن الأمين أبو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَشَرَةِ أشهر وإحدى عشر يَوْمًا، وَلَمْ يُعَمَّرْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ هذا العمر ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا أَيْضًا شَيْءٌ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا يمنى، مَوْلَاةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَقَدْ كَانَ حليما كريما، محبا لأهل العلم والدين والصلاح، ويأمر بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ كَانَتْ تُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ عَرِيضَهَا يَخْضِبُهَا، وَكَانَ يَقُومُ الليل كثير الصدقة، محبا للسنة وأهلها، مبغضا للبدعة وأهلها. وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَيَبَرُّ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَقْطَاعِهِ، يبعث منه إلى المجاورين بالحرمين وجامع الْمَنْصُورِ، وَجَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فِي زِيِّ الْعَامَّةِ فَيَزُورُ قُبُورَ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا صَالِحًا مَنْ سِيرَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وِلَايَتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَلَسُوا(12/31)
فِي عَزَائِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ بِهِ، ولتوطيد البيعة لولده المذكور، وأمه يقال لها قطر الندى، وأرمنية أدركت خلافته في هذه السنة، وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ثم بويع له بحضرة القضاة والأمراء والكبراء في هذه السنة، وكان أول من بايعه الْمُرْتَضَى وَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتًا:
فَإِمَّا مَضَى جَبَلٌ وَانْقَضَى ... فَمِنْكَ لَنَا جَبَلٌ قَدْ رَسَا
وَإِمَّا فُجِعْنَا بِبَدْرِ التَّمَامِ ... فَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهُ شَمْسُ الضُّحَى
لَنَا حَزَنٌ فِي مَحَلِّ السُّرُورِ ... فَكَمْ ضَحِكٌ في محل الْبُكَا
فَيَا صَارِمًا أَغْمَدَتْهُ يَدٌ ... لَنَا بَعْدَكَ الصارم المنتضى
ولما حضرنا لعقد البياع ... عرفنا بهداك طُرْقَ الْهُدَى
فَقَابَلْتَنَا بِوَقَارِ الْمَشِيبِ ... كَمَالًا وَسِنُّكَ سن الفتى
فطالبته الْأَتْرَاكُ بِرَسْمِ الْبَيْعَةِ فَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْخَلِيفَةِ شيء يعطيهم، لأن أباه لم يترك شيئا، وكادت الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى دَفَعَ عَنْهُ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مَالًا جَزِيلًا لهم، نحوا من ثلاثة آلاف دِينَارٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا طَالِبٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَيُّوبَ، وَاسْتَقْضَى ابْنَ مَاكُولَا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ سِوَى شِرْذِمَةٍ خَرَجُوا مِنَ الكوفة مع العرب فحجوا.
وفيها توفى من الأعيان
غير الخليفة
الحسن بْنِ جَعْفَرٍ
أَبُو عَلِيِّ بْنُ مَاكُولَا الْوَزِيرُ لجلال الدولة، قتله غلام له وجارية تعاملا عليه فقتلاه، عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ على
ابن نصر بن أحمد بن الحسن بْنِ هَارُونَ بْنِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ، صَاحِبُ الرَّحْبَةِ، التَّغْلِبِيُّ الْبَغْدَادِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُصَنِّفِيهِمْ، لَهُ كِتَابُ التَّلْقِينِ يَحْفَظُهُ الطَّلَبَةُ، وَلَهُ غَيْرُهُ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَقَدْ أَقَامَ بِبَغْدَادَ دَهْرًا، وولى قضاء داريا وماكسايا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِضِيقِ حَالِهِ، فَدَخَلَ مِصْرَ فَأَكْرَمَهُ الْمَغَارِبَةُ وَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا كَثِيرًا، فَتَمَوَّلَ جَدًّا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ مُتَشَوِّقًا إِلَى بَغْدَادَ.
سَلَامٌ عَلَى بَغْدَادَ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ ... وَحُقَّ لَهَا منى السلام مضاعف
فو الله ما فارقتها عن ملالة ... وَإِنِّي بِشَطَّيْ جَانِبَيْهَا لَعَارِفُ
وَلَكِنَّهَا ضَاقَتْ عَلَيَّ بِأَسْرِهَا ... وَلَمْ تَكُنِ الْأَرْزَاقُ فِيهَا تُسَاعِفُ
فَكَانَتْ كَخِلٍّ كُنْتُ أَهْوَى دُنُوَّهُ ... وَأَخْلَاقُهُ تَنْأَى بِهِ وتخالف
قال الخطيب: سَمِعَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنِ ابْنِ السَّمَّاكِ، وَكَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ ثِقَةً، وَلَمْ تَرَ الْمَالِكِيَّةُ أحدا أفقه منه. قال ابن خلكان: وعند وصوله إلى مصر حصل لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَحَسُنَ حَالُهُ، مَرِضَ مِنْ أَكْلَةٍ اشْتَهَاهَا فَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يتقلب ويقول: لا إله إلا الله، عند ما عشنا متنا(12/32)
قال: وله أشعار رائقة فمنها قَوْلُهُ:
وَنَائِمَةٍ قَبَّلْتُهَا فَتَنَبَّهَتْ ... فَقَالَتْ تَعَالَوْا وَاطْلُبُوا اللص بالحد
فقلت إِنِّي فَدَيْتُكِ غَاصِبٌ ... وَمَا حَكَمُوا فِي غَاصِبٍ بسوى الرد
خذيها وكفى عن أثيم طلابة ... وَإِنْ أَنْتِ لَمْ تَرْضِي فَأَلْفًا عَلَى الْعَدِّ
فَقَالَتْ قِصَاصٌ يَشْهَدُ الْعَقْلُ أَنَّهُ ... عَلَى كَبِدِ الْجَانِي أَلَذُّ مِنَ الشَّهْدِ
فَبَاتَتْ يَمِينِي وَهْيَ هِمْيَانُ خِصْرِهَا ... وَبَاتَتْ يَسَارِي وَهْيَ وَاسِطَةُ الْعِقْدِ
فقالت ألم تخبر بِأَنَّكَ زَاهِدٌ ... فَقُلْتُ بَلَى، مَا زِلْتُ أَزْهَدُ فِي الزُّهْدِ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ:
بَغْدَادُ دَارٌ لِأَهْلِ الْمَالِ طَيِّبَةٌ ... وَلِلْمَفَالِيسِ دَارُ الضَّنْكِ وَالضِّيقِ
ظَلَلْتُ حَيْرَانَ أَمْشِي فِي أَزِقَّتِهَا ... كَأَنَّنِي مُصْحَفٌ فِي بَيْتِ زِنْدِيقِ
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة
في سادس المحرم منها اسْتَسْقَى أَهْلُ بَغْدَادَ لِتَأَخُّرِ الْمَطَرِ عَنْ أَوَانِهِ، فَلَمْ يُسْقَوْا، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ، وَلَمَّا كان يوم عاشوراء عملت الروافض بدعتهم، وَكَثُرَ النَّوْحُ وَالْبُكَاءُ، وَامْتَلَأَتْ بِذَلِكَ الطُّرُقَاتُ وَالْأَسْوَاقُ. وفي صفر منها أمر الناس بالخروج إلى الاستسقاء فلم يخرج من أهل بغداد مع اتساعها وكثرة أهلها مائة واحد. وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ فاتفق على خروجه إلى البصرة منفيا، ورد كثيرا من جواريه، وَاسْتَبْقَى بَعْضَهُنَّ مَعَهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ سَادِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَكَتَبَ الْغِلْمَانُ الاسفهلارية إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ لِيُقْدِمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ تَمَهَّدَتِ الْبِلَادُ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْإِلْحَادِ، وَنَهَبُوا دَارَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَغَيْرَهَا، وَتَأَخَّرَ مَجِيءُ أَبِي كَالِيجَارَ، وَذَلِكَ أَنَّ وزيره أشار عليه بعدم القدوم إلى بغداد. فأطاعه في ذلك، فكثر العيارون وتفاقم الحال، وفسد البلد، وافتقر جلال الدولة بحيث أن احْتَاجَ إِلَى أَنْ بَاعَ بَعْضَ ثِيَابِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَجَعَلَ أَبُو كَالِيجَارَ يَتَوَهَّمُ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ رَهَائِنَ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ، وَطَالَ الفصل فرجعوا إلى مكاتبة جلال الدولة، وأن يرجع إلى بلده، وشرعوا يعتذرون إِلَيْهِ، وَخَطَبُوا لَهُ فِي الْبَلَدِ عَلَى عَادَتِهِ، وأرسل الخليفة الرسل إلى الملك كاليجار، وكان فيمن بعث إليه القاضي أبو الحسن الماوردي، فسلم عليه مستوحشا منه، وقد تحمل أمرا عظيما، فسأل من القضاة أن يلقب بالسلطان الأعظم مالك الأمم، فقال الماوردي: هذا ما لا سبيل إليه، لأن السلطان المعظم هو الْخَلِيفَةُ، وَكَذَلِكَ مَالِكُ الْأُمَمِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى تَلْقِيبِهِ بِمَلِكِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ مَعَ الْمَاوَرْدِيِّ تُحَفًا عَظِيمَةً مِنْهَا أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ سَابُورِيَّةٍ، وَغَيْرُ ذلك من الدراهم آلاف مؤلفة، والتحف والألطاف، واجتمع الجند على(12/33)
طلب مِنَ الْخَلِيفَةِ فَتَعَذَّرَ ذَلِكَ فَرَامُوا أَنْ يَقْطَعُوا خطبته، فلم تصل الجمعة، ثُمَّ خُطِبَ لَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ الْقَابِلَةِ، وَتَخَبَّطَ الْبَلَدُ جِدًّا، وَكَثُرَ الْعَيَّارُونَ. ثُمَّ فِي رَبِيعٍ الآخر منها حَلَفَ الْخَلِيفَةُ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ وَصَفَائِهَا، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يُحِبُّ مِنَ الصِّدْقِ وَصَلَاحِ السريرة. ثم وقع بينهما بسبب جلال الدولة وشربه النبيذ وسكره. ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَاصْطَلَحَا عَلَى فَسَادٍ. وَفِي رَجَبٍ غَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، من أرض العراق. ولم يحج أحد منهم.
وفيها وَقَعَ مُوتَانٌ عَظِيمٌ بِبِلَادِ الْهِنْدِ وَغَزْنَةَ وَخُرَاسَانَ وَجُرْجَانَ وَالرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ، خَرَجَ مِنْهَا فِي أَدْنَى مدة أربعون ألف جنازة. وفي نواحي الموصل والجبل وَبَغْدَادَ طَرَفٌ قَوِيٌّ مِنْ ذَلِكَ بِالْجُدَرِيِّ، بِحَيْثُ لَمَّ تَخْلُ دَارٌ مِنْ مُصَابٍ بِهِ، وَاسْتَمَرَّ ذلك في حزيران وتموز وآزار وَأَيْلُولَ وَتِشْرِينَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَكَانَ فِي الصَّيْفِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْخَرِيفِ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ. وَقَدْ رَأَى رَجُلٌ فِي مَنَامِهِ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ: يَا أَهْلَ أَصْبَهَانَ سَكَتَ، نَطَقَ، سَكَتَ، نَطَقَ، فَانْتَبَهَ الرَّجُلُ مَذْعُورًا فَلَمْ يدر أحد تأويلها ما هو، حتى قال رجل بيت أبى العتاهية فَقَالَ: احْذَرُوا يَا أَهْلَ أَصْبَهَانَ فَإِنِّي قَرَأْتُ فِي شِعْرِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ قَوْلَهُ:
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمُ ... ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ
فما كان إلا قَلِيلٍ حَتَّى جَاءَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، حَتَّى قَتَلَ النَّاسَ فِي الْجَوَامِعِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفَرَ الْمَلِكُ أبو كاليجار بالخادم جندل فَقَتَلَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى الِاسْمِ، فَاسْتَرَاحَ مِنْهُ. وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ التُّرْكِ الْكَبِيرُ صَاحِبُ بِلَادِ مَا وراء النهر، واسمه قدرخان.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
رَوْحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِّيُّ. قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ جَمَاعَةً، وفد عَلَيْنَا حَاجًّا فَكَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا فَهِمَا، أَدِيبًا، يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَوَلِيِ قَضَاءَ أَصْبَهَانَ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَاتَ بِالْكَرْخِ سَنَةَ ثلاث وعشرين وأربعمائة.
على بن محمد بن الحسن
ابن محمد بن نعيم بن الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالنُّعَيْمِيِّ، الْحَافِظُ الشَّاعِرُ، الْمُّتَكَلِّمُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْبَرْقَانِيُّ: هُوَ كَامِلٌ فِي كل شيء لولا بادرة فِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِذَا أَظْمَأَتْكَ أَكُفُّ اللِّئَامِ ... كَفَتْكَ الْقَنَاعَةُ شِبْعًا وَرِيَّا
فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى ... وهامة همه في الثريا
أبيا لنائل ذي نعمة ... تَرَاهُ بِمَا فِي يَدَيْهِ أَبِيَّا(12/34)
فان إراقة ماء الحياة ... دُونَ إِرَاقَةِ مَاءِ الْمُحَيَّا
مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ
ابن سعد بْنِ مُوسَى أَبُو بَكْرٍ الصَّبَّاغُ، حَدَّثَ عَنِ النجاد وأبى بكر الشافعيّ، وكان صدوقا، حكى الخطيب أنه تزوج تسعمائة امرأة، وتوفى عن خمس وتسعين سنة.
عَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ
الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ عشرة كما تقدم
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة
فِيهَا تَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِ الْعَيَّارِينَ، وَتَزَايَدَ أَمْرُهُمْ، وأخذوا العملات الكثيرة، وَقَوِيَ أَمْرُ مُقَدِّمِهِمِ الْبُرْجُمِيِّ، وَقَتَلَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ غيلة، وتواترت العملات في الليل والنهار، وحرس الناس دورهم، حتى دار الخليفة منه، وكذلك سور الْبَلَدِ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِهِمْ جِدًّا، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ هَذَا الْبُرْجُمِيِّ أَنَّهُ لَا يُؤْذِي امْرَأَةً وَلَا يَأْخُذُ مِمَّا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَهَذِهِ مُرُوءَةٌ في الظلم، وهذا كما قيل حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ وَفِيهَا أَخَذَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْبَصْرَةَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَلَدَهُ العزيز، فأقام بها الخطبة لأبيه، وقطع مِنْهَا خُطْبَةُ أَبِي كَالِيجَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ والتي بعدها، ثم استرجعت، وأخرج منها ولده. وفيها ثارت الأتراك بالملك جلال الدولة ليأخذوا أَرْزَاقِهِمْ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ، وَرَسَمُوا عَلَيْهِ فِي المسجد، وَأُخْرِجَتْ حَرِيمُهُ، فَذَهَبَ فِي اللَّيْلِ إِلَى دَارِ الشريف المرتضى فنزلها، ثم اصطلحت الأتراك عليه وحلفوا له بالسمع والطاعة، وردوه إلى داره، وكثر العيارون واستطالوا على الناس جَدًّا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وخراسان لفساد البلاد.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَاعِظُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ جعفر الْخُلْدِيَّ وَغَيْرَهُ وَكَانَ يَعِظُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَجَامِعِ المهدي، ويتكلم على طريق الصوفية، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِيهِ، وَنَسَبَ إِلَيْهِ الكذب. توفى فيها عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة
فيها غزا السلطان مسعود بن محمود بلاد الهند، وفتح حصونا كثيرة، وكان مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ حَاصَرَ قَلْعَةً حَصِينَةً فَخَرَجَتْ من السور عجوز كبيرة ساحرة، فأخذت مكنسة فبلتها ورشتها من ناحية جيش المسلمين، فمرض السلطان تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَارْتَحَلَ عَنْ تِلْكَ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ ذَاهِبًا عَنْهَا عُوفِيَ عَافِيَةً كاملة، فرجع إلى غزنة سالما. وفيها ولى البساسيري حماية الجانب الشرقي من بغداد، لما تفاقم أمر العيارين. وفيها ولى سنان بن سيف الدولة بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَقَصَدَ عَمَّهُ قِرْوَاشًا فَأَقَرَّهُ(12/35)
وساعده على أُمُورِهِ. وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الرُّومِ أَرْمَانُوسُ، فَمَلَكَهُمْ رَجُلٌ لَيْسَ مِنْ بَيْتِ مُلْكِهِمْ، قَدْ كَانَ صيرفيا في بعض الأحيان، إلا أنه كان من سلالة الملك قسطنطين. وَفِيهَا كَثُرَتِ الزَّلَازِلُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ فَهَدَمَتْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمَاتَ تَحْتَ الرَّدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْهَدَمَ مِنَ الرَّمْلَةِ ثُلُثُهَا، وَتَقَطَّعَ جَامِعُهَا تَقْطِيعًا، وَخَرَجَ أهلها منها هاربين، فأقاموا بظاهرها ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَكَنَ الْحَالُ فَعَادُوا إِلَيْهَا، وَسَقَطَ بَعْضُ حَائِطِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَقَعَ مِنْ مِحْرَابِ دَاوُدَ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ، وَمِنْ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ قِطْعَةٌ، وَسَلَّمَتِ الْحُجْرَةُ، وَسَقَطَتْ مَنَارَةُ عَسْقَلَانَ، وَرَأْسُ مَنَارَةِ غَزَّةَ، وَسَقَطَ نِصْفُ بُنْيَانِ نَابُلُسَ، وَخُسِفَ بقرية البارزاد وَبِأَهْلِهَا وَبَقَرِهَا وَغَنَمِهَا، وَسَاخَتْ فِي الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ قرى كثيرة هنالك، وذكر ذلك ابن الجوزي. ووقع غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَعَصَفَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ بِنَصِيبِينَ فَأَلْقَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ كَالتُّوتِ وَالْجَوْزِ وَالْعُنَّابِ، وَاقْتَلَعَتْ قَصْرًا مُشَيَّدًا بِحِجَارَةٍ وَآجُرٍّ وكلس فألقته وأهله فهلكوا، ثم سقط مع ذلك مطر أَمْثَالُ الْأَكُفِّ، وَالزُّنُودِ وَالْأَصَابِعِ، وَجَزَرَ الْبَحْرُ مِنْ تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا. وَفِيهَا كَثُرَ الْمَوْتُ بِالْخَوَانِيقِ حَتَّى كَانَ يُغْلَقُ الباب على من في الدار كلهم موتى، وأكثر ذلك كان بِبَغْدَادَ، فَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَبْعُونَ أَلْفًا. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ حَتَّى بَيْنَ الْعَيَّارِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مع ابنا الأصفهانيّ وهما مقدمي عيارين أهل السنة، منعا أَهْلَ الْكَرْخِ مِنْ وُرُودِ مَاءِ دِجْلَةَ فَضَاقَ عليهم الحال، وَقُتِلَ ابْنُ الْبُرْجُمِيِّ وَأَخُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ غَالِبٍ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِالْبَرْقَانِيِّ، ولد سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وسمع الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْبِلَادِ، وَجَمَعَ كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَكَانَ عَالِمًا بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْحَدِيثِ حَسَنَةٌ نَافِعَةٌ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِذَا مَاتَ الْبَرْقَانِيُّ ذَهَبَ هَذَا الشَّأْنُ، وَمَا رَأَيْتُ أَتْقَنَ مِنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، وَدُفِنَ فِي مقبرة الجامع ببغداد، وقد أورد له ابن عساكر من شعره:
أعلل نفسي بكتب الحديث ... وأجمل فِيهِ لَهَا الْمَوْعِدَا
وَأَشْغَلُ نَفْسِي بِتَصْنِيفِهِ ... وَتَخْرِيجِهِ دائما سرمدا
فطورا أصنفه في الشيوخ ... وطورا أصنفه مسندا
وأقفو البخاري فيما حواه ... وَصَنَّفَهُ جَاهِدًا مُجْهَدَا
وَمُسْلِمَ إِذْ كَانَ زَيْنَ الْأَنَامِ ... بِتَصْنِيفِهِ مُسْلِمًا مُرْشِدَا
وَمَا لِيَ فِيهِ سِوَى أَنَّنِي ... أَرَاهُ هَوًى صَادَفَ الْمَقْصِدَا(12/36)
وأرجو الثواب بكتب الصلاة ... على السيد المصطفى أحمدا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَبِيوَرْدِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، مِنْ تَلَامِيذِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، كَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ لَلْفُتْيَا. وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ نِيَابَةً عَنِ ابْنِ الْأَكْفَانِيِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، جَمِيلَ الطَّرِيقَةِ، فَصِيحَ اللِّسَانِ، صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ، كَاتِمًا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ الشعر الجيد، وكان كما قال تَعَالَى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) 2: 273 تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ:
أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ
الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى، الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ أبى حامد أيضا، ولم يكن في أصحابه مثله، تفقه ودرس وَأَفْتَى وَحَكَمَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ دَيِّنًا وَرِعًا. تُوُفِّيَ في جمادى الآخرة منها أيضا.
عبد الوهاب بن عبد العزيز
الحارث بن أسد، أبو الصباح التَّمِيمِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْوَاعِظُ، سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ أَثَرًا مُسَلْسَلًا عَنْ عَلِيٍّ «الْحَنَّانُ: الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ» تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
غَرِيبُ بن محمد
ابن مفتى سَيْفُ الدَّوْلَةِ أَبُو سِنَانٍ، كَانَ قَدْ ضَرَبَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَكَانَ مَلِكًا مُتَمَكِّنًا فِي الدَّوْلَةِ، وَخَلَّفَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَامَ ابْنُهُ سِنَانٌ بعده، وتقوى بعمه قرواش، واستقامت أموره، توفى بالكرخ سَابُورَ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ست وعشرين وأربعمائة
في محرمها كثر تردد الأعراب في قطع الطرقات إِلَى حَوَاشِي بَغْدَادَ وَمَا حَوْلَهَا، بِحَيْثُ كَانُوا يسلبون النساء ما عليهنّ، وَمَنْ أَسَرُوهُ أَخَذُوا مَا مَعَهُ وَطَالَبُوهُ بِفِدَاءِ نفسه، واستفحل أمر العيارين وكثرت شرورهم، وَفِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ زَادَتْ دِجْلَةُ بِحَيْثُ ارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى الضَّيَاعِ ذِرَاعَيْنِ، وَسَقَطَ مِنَ الْبَصْرَةِ في مدة ثلاثة نَحْوٌ مَنْ أَلْفَيْ دَارٍ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا ورد كتاب من مسعود بن محمود بِأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ فَتْحًا عَظِيمًا فِي الْهِنْدِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفًا وَأَسَرَ تِسْعِينَ أَلْفًا، وغنم شيئا كثيرا، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْعَيَّارِينَ، وَوَقَعَ حريق في أماكن من بغداد، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ من هؤلاء ولا من أهل خرسان.(12/37)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ كليب الشاعر
وهو أَحَدُ مَنْ هَلَكَ بِالْعِشْقِ، رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ في المنتظم بِسَنَدِهِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ كُلَيْبٍ هَذَا الْمِسْكِينَ المغتر عشق غلاما يُقَالُ لَهُ أَسْلَمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، مِنْ بنى خلد [1] وكان فيهم وزارة، أي كانوا وزراء للملوك وحجابا، فَأَنْشَدَ فِيهِ أَشْعَارًا تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَا، وَكَانَ هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه استحى من الناس وانقطع في دارهم، وكان لا يَجْتَمِعُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَازْدَادَ غَرَامُ ابْنِ كُلَيْبٍ بِهِ حَتَّى مَرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا شديدا، بحيث عاده منه الناس، ولا يدرون ما به، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ عَادَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ من العلماء، فسأله عن مرضه فقال:
أنتم تعلمون ذلك، ومن أي شيء مرضى، وفي أي شيء دوائي، لَوْ زَارَنِي أَسْلَمُ وَنَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَةً وَنَظَرْتُهُ نظرة واحدة لبرأت، فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مخنفيا، ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته، فانطلقا إليه فلما دخلا دربه ومحلته تجبّن الغلام واستحى من الدخول عليه، وقال للرجل العالم: لا أدخل عليه، وقد ذكرني ونوّه باسمي، وهذا مكان ريبة وتهمة، وأنا لا أحب أن أدخل مداخل التهم، فحرص به الرجل كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه، فقال له: إنه ميت لا محالة، فإذا دخلت عليه أحييته. فقال:
يموت وأنا لا أدخل مدخلا يسخط الله على ويغضبه، وأبى أن يدخل، وانصرف راجعا إلى دارهم، فَدَخَلَ الرَّجُلُ عَلَى ابْنِ كُلَيْبٍ فَذَكَرَ لَهُ ما كان من أمر أسلم معه، وقد كان غلام ابن كليب دخل عليه قبل ذلك وبشّره بقدوم معشوقه عليه، ففرح بذلك جدا، فلما تحقق رجوعه عنه اختلط كلامه واضطرب في نفسه، وقال لذلك الرجل الساعي بينهما: اسمع يا أبا عبد الله واحفظ عنى ما أقول، ثم أنشده:
أَسْلَمُ يَا رَاحَةَ الْعَلِيلِ ... رَفْقًا عَلَى الْهَائِمِ النَّحِيلِ
وَصْلُكَ أَشْهَى إِلَى فُؤَادِي ... مِنْ رَحْمَةِ الخالق الجليل
فقال له الرجل: ويحك اتّق الله تعالى، ما هذه العظيمة؟ فقال: قد كان ما سمعت، أو قال القول ما سمعت. قال فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه، وسمع صيحة الموت وقد فارق الدنيا على ذلك. وَهَذِهِ زَلَّةٌ شَنْعَاءُ، وَعَظِيمَةٌ صَلْعَاءُ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ، وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ ذَكَرُوهَا مَا ذَكَرْتُهَا، وَلَكِنَّ فِيهَا عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَتَنْبِيهٌ لِذَوِي البصائر والعقول، أن يسألوا الله رحمته وعافيته، وأن يستعيذوا باللَّه مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بطن، وأن يرزقهم حسن الخاتمة عِنْدَ الْمَمَاتِ إِنَّهُ كَرِيمٌ جَوَّادٌ.
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وأنشدنى أبو عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرحمن لِأَحْمَدَ بْنِ كُلَيْبٍ وَقَدْ أَهْدَى إِلَى أَسْلَمَ كتاب الفصيح لثعلب:
__________
[1] في النجوم الزاهرة: أسلم بن أحمد بن سعيد قاضى قضاة الأندلس.(12/38)
هَذَا كِتَابُ الُفَصِيحِ ... بَكُلِّ لَفْظٍ مَلِيحِ
وَهَبْتُهُ لَكَ طَوْعًا ... كَمَا وَهَبْتُكَ رُوحِي
الْحَسَنُ بْنُ أحمد
ابن إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ بن حرب بن مهران الْبَزَّازُ، أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثقة صدوقا، جاء يَوْمًا شَابٌّ غَرِيبٌ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بن شاذان فسلم عليه وأقره مِنِّي السَّلَامَ. ثُمَّ انْصَرَفَ الشَّابُّ فَبَكَى الشَّيْخُ وَقَالَ: مَا أَعْلَمُ لِي عَمَلًا أَسْتَحِقُّ بِهِ هذا غير صبري على سماع الْحَدِيثِ، وَصَلَاتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا ذُكِرَ. ثُمَّ تُوُفِّيَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا فِي محرمها، عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِبَابِ الدَّيْرِ.
الحسن بن عثمان
ابن أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَوْرَةَ، أَبُو عُمَرَ الواعظ المعروف بابن الغلو، سمع الحديث عن جَمَاعَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ يَعِظُ، وَلَهُ بلاغة، وفيه كرم، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، ومن شعره قوله:
دَخَلْتُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي دَارِ عِزِّهِ ... بِفَقْرٍ وَلَمْ أُجْلِبْ بَخِيلٍ وَلَا رَجْلِ
وَقُلْتُ: انْظُرُوا مَا بَيْنَ فَقْرِي وَمُلْكِكُمْ ... بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ الولاية والعزل
توفى في صفر منها وقد قارب الثمانين، ودفن بمقبرة حرب إلى جانب ابن السماك رحمهما الله.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة
في المحرم منها تكاملت قنطرة عيسى التي كانت سقطت، وكان الّذي ولى مشارفة الإنفاق عليها الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي، وفي المحرم وما بَعْدَهُ تَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ، وَكَبَسُوا الدُّورَ وَتَزَايَدَ شرهم جدا.
وفيها توفى صاحب مصر الظاهر أبو الحسن على بن الحاكم الْفَاطِمِيِّ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْمُسْتَنْصِرُ وَعُمُرُهُ سَبْعُ سِنِينَ، وَاسْمُهُ مَعَدٌّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو تَمِيمٍ، وَتَكَفَّلَ بِأَعْبَاءِ الْمَمْلَكَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَفْضَلُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ، وَاسْمُهُ بَدْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَمَالِيُّ، وكان الظاهر هذا قَدِ اسْتَوْزَرَ الصَّاحِبَ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الْجَرْجَرَائِيَّ، وَكَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ مِنَ الْمِرْفِقَيْنِ، فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَاسْتَمَرَّ فِي الْوِزَارَةِ مُدَّةَ وِلَايَةِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ لِوَلَدِهِ الْمُسْتَنْصِرِ، حَتَّى تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ الْجَرْجَرَائِيُّ الْمَذْكُورُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ قَدْ سَلَكَ فِي وِزَارَتِهِ الْعِفَّةَ الْعَظِيمَةَ، وَكَانَ الَّذِي يُعَلِّمُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُضَاعِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ الشِّهَابِ، وَكَانَتْ علامته الحمد للَّه شكرا لنعمه، وَكَانَ الَّذِي قَطَعَ يَدَيْهِ مِنَ الْمِرْفِقَيْنِ الْحَاكِمُ، لجناية ظَهَرَتْ مِنْهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ سَنَةَ تِسْعٍ، فَلَمَّا فقد الحاكم فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، سَنَةَ إِحْدَى عشرة، تَنَقَّلَتْ بِالْجَرْجَرَائِيِّ الْمَذْكُورِ الْأَحْوَالُ حَتَّى اسْتَوْزَرَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ هَجَاهُ بَعْضُ الشعراء(12/39)
فقال:
يا أجمعا اسْمَعْ وَقُلْ ... وَدَعِ الرَّقَاعَةَ وَالتَّحَامُقْ
أَأَقَمْتَ نَفْسَكَ في الثقات ... وهبك فيما قلت صادق
أمن الأمانة والتقى ... قطعت يداك من المرافق
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن إبراهيم الثعالبي
ويقال الثعلبي أيضا- وَهُوَ لَقَبٌ أَيْضًا وَلَيْسَ- بِنِسْبَةٍ، النَّيْسَابُورِيُّ الْمُفَسِّرُ المشهور، له التفسير الكبير، وله كتاب العرايس في قصص الأنبياء عليهم السلام، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَاسِعَ السَّمَاعِ، وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنَ الْغَرَائِبِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْفَارِسِيُّ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: هُوَ صحيح النقل موثوق به، توفى في سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله. وقال السمعاني: ونيسابور كانت مغصبة فأمر سابور الثاني ببنائها مدينة.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة
فِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى أَبِي تَمَامٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيِّ، وَقَلَّدَهُ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ مِنْ نِقَابَةِ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالصَّلَاةِ. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْجُنْدِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدولة وقطعوا خطبته وخطبة الملك أبى كاليجار، ثم أعادوا الخطبة، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْمَعَالِي بْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ قَدْ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا مَعَهُ، منهم البساسيري، ودبيس بن على بن مرثد، وقرواش بن مقلد، وَنَازَلَ بَغْدَادَ مِنْ جَانِبِهَا الْغَرْبِيِّ حَتَّى أَخَذَهَا قهرا، واصطلح هو وأبو كاليجار نائب جلال الدولة على يدي قاضى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَتَزَوَّجَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي كَالِيجَارَ بِابْنَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ عَلَى صَدَاقِ خَمْسِينَ ألف دينار واتفقت كلمتهما وحسن حال الرعية. وفيها نزل مطر ببلاد قم الصُّلْحِ وَمَعَهُ سَمَكٌ وَزْنُ السَّمَكَةِ رَطْلٌ وَرَطْلَانِ، وفيها بعث ملك مصر بمال لإصلاح نَهْرٍ بِالْكُوفَةِ إِنْ أَذِنَ الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ فِي ذلك، فجمع الخليفة الْفُقَهَاءَ وَسَأَلَهُمُ عَنْ هَذَا الْمَالِ فَأَفْتَوْا بِأَنَّ هَذَا الْمَالَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ.
فَأَذِنَ فِي صَرْفِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا ثَارَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ وَفَتَحُوا السِّجْنَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وأخذوا منه رجالا وقتلوا من رجال الشرط سبعة عشر رجلا، وانتشرت الشرور في البلد جَدًّا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وخراسان لاختلاف الكلمة.
وممن توفى فيها من الأعيان
القدوري أحمد بن محمد
ابن أحمد بن جعفر، أبو الحسن القدوري الحنفي البغدادي، سمع الحديث ولم يحدث إلا بشيء يسير. قال الخطيب: كتبت عنه. وقد تقدمت وفاته، ودفن بداره في درب خلف.
الحسن بن شهاب
ابن الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو عَلِيٍّ الْعُكْبَرِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الشَّاعِرُ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ(12/40)
سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وكان كما قال البرقاني ثقة أمينا، وَكَانَ يَسْتَرْزِقُ مِنَ الْوِرَاقَةِ- وَهُوَ النَّسْخُ- يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ دِيوَانَ الْمُتَنَبِّي فِي ثَلَاثِ لَيَالٍ فَيَبِيعُهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ تَرِكَتِهِ أَلْفَ دِينَارٍ سِوَى الْأَمْلَاكِ، وكان قد أوصى بثلث ماله في متفقهة الحنابلة، فلم تصرف
لطف الله أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى
أَبُو الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ، وَلِيَ القضاء والخطابة بدرب ريحان، وَكَانَ ذَا لِسَانٍ، وَقَدْ أَضَرَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَكَانَ يَرْوِي حِكَايَاتٍ وَأَنَاشِيدَ مِنْ حَفْظِهِ، توفى في صفر منها.
محمد بن أحمد
ابن على بن موسى بن عبد المطلب، أبو على الهاشمي، أحد أئمة الحنابلة وفضلائهم.
محمد بن الحسن
ابن أحمد بن على أَبُو الْحَسَنِ الْأَهْوَازِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَخَرَّجَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ النُّعَيْمِيُّ أَجْزَاءَ من حديثه، فسمعها مِنْهُ الْبَرْقَانِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ بَانَ كَذِبُهُ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ جِرَابَ الْكَذِبِ، أَقَامَ بِبَغْدَادَ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَمَاتَ بها
مِهْيَارُ الدَّيْلَمِيُّ الشَّاعِرُ
مِهْيَارُ بْنُ مَرْزَوَيْهِ أَبُو الحسين الْكَاتِبُ الْفَارِسِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ الدَّيْلَمِيُّ، كَانَ مَجُوسِيًّا فأسلم، إلا أنه سلك سبيل الرافضة، وكان ينظم الشعر القوى الفحل في مذاهبهم، من سب الصحابة وغيرهم، حَتَّى قَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانَ: يَا مِهْيَارُ انْتَقَلْتَ مِنْ زَاوِيَةٍ فِي النَّارِ إلى زاوية أخرى في النار، كُنْتَ مَجُوسِيًّا فَأَسْلَمْتَ فَصِرْتَ تَسُبُّ الصَّحَابَةَ، وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِدَرْبِ رَبَاحٍ مِنَ الْكَرْخٍ، وَلَهُ ديوان شعر مشهور، فمن مستجاد قَوْلُهُ:
أَسْتَنْجِدُ الصَّبْرَ فِيكُمْ وَهْوَ مَغْلُوبُ ... وَأَسْأَلُ النَّوْمَ عَنْكُمْ وَهْوَ مَسْلُوبُ
وَأَبْتَغِي عِنْدَكُمْ قَلْبًا سَمَحْتُ بِهِ ... وَكَيْفَ يُرْجِعُ شَيْءٌ وَهْوَ مَوْهُوبُ
ما كنت أعرف مقدار حبكم ... حتى هجرت وبعض الهجر تأديب
ولمهيار أيضا:
أجارتنا بالغور والركب منهم ... أيعلم خال كيف بات المتيم
رحلتم وجمر القلب فينا وفيكم ... سواء ولكن ساهرون ونوّم
فبنتم عنا ظَاعِنِينَ وَخَلَّفُوا ... قُلُوبًا أَبَتْ أَنْ تَعْرِفَ الصَّبْرَ عنهم
ولما خلى التَّوْدِيعُ عَمَّا حَذِرْتُهُ ... وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا نَظْرَةٌ لي تغنم
بكيت على الوادي وحرمت ماءه ... وكيف به ماء وأكثره دَمُ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمَّا كَانَ شِعْرُهُ أكثره جيدا اقتصرت على هذا القدر. توفى في جمادى(12/41)
الْآخِرَةِ
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَعْرُوفُ بِالْحَاجِبِ، كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْأَدَبِ والدين، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
يَا لَيْلَةً سلك الزمان ... في طيبها كل مسلك
إذ ترتقى روحي المسرة ... مُدْرِكًا مَا لَيْسَ يُدْرَكْ
وَالْبَدْرُ قَدْ فَضَحَ الزمان ... وسرّه فيه مهتّك
وكأنما زهر النجوم ... بلمعها شعل تحرك
والغيب أَحْيَانًا يَلُو ... حُ كَأَنَّهُ ثَوْبٌ مُمَسَّكْ
وَكَأَنَّ تجعيد الرياح ... لدجلة ثوب مفرّك
وكان نشر المسك ... ينفح في النسيم إذا تحرك
وكأنما المنثور مصفر ... الذرى ذهب مسبّك
والنور يبسم في الرياض ... فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِ سَرَّكْ
شَارَطْتُ نَفْسِي أَنْ أَقُو ... مَ بِحَقِّهَا وَالشَّرْطُ أَمْلَكْ
حَتَّى تَوَلَّى الليل منهزما ... وجاء الصبح يضحك
وذا الفتى لو أنه ... في طِيبِ الْعَيْشِ يُتْرَكْ
وَالدَّهْرُ يَحْسُبُ عُمْرَهُ ... فَإِذَا أتاه الشيب فذلك
أبو على بن سينا
الطبيب الفيلسوف، الحسن بن عبد الله بن سينا الرئيس، كان بارعا في الطب فِي زَمَانِهِ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَلْخَ، وانتقل إلى بخارى، واشتغل بها فقرأ القرآن وأتقنه، وهو ابن عشر سنين، وأتقن الحساب والجبر والمقابلة وإقليدس والمجسطي، ثُمَّ اشْتَغَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّاتِلِيِّ الحكيم، فبرع فيه وفاق أهل زمانه في ذلك، وَتَرَدَّدَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَاشْتَغَلُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ابْنُ ست عشرة سنة، وعالج بَعْضَ الْمُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ، فَأَعْطَاهُ جَائِزَةً سَنِيَّةً، وَحَكَّمَهُ فِي خِزَانَةِ كتبه، فرأى فيها من العجائب والمحاسن ما لا يوجد في غيرها، فَيُقَالُ إِنَّهُ عَزَا بَعْضَ تِلْكَ الْكُتُبِ إِلَى نفسه، وله في الإلهيات والطبيعات كُتُبٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ مُصَنَّفٍ، صِغَارٍ وَكِبَارٍ، مِنْهَا الْقَانُونُ، والشفا، والنجاة، والإشارات، وسلامان، وإنسان، وحي بْنُ يَقْظَانَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ وَكَانَ مِنْ فلاسفة الإسلام، أورد له من الأشعار قصيدته في نفسه التي يقول فيها:
هبطت إليك من المقام الْأَرْفَعِ ... وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع(12/42)
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرْبَّمَا ... كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وهي ذات تفجع
وهي قصيدة طويلة وله:
اجْعَلْ غِذَاءَكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً ... وَاحْذَرْ طَعَامًا قَبْلَ هَضْمِ طَعَامِ
وَاحْفَظْ مَنِيَّكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهُ ... مَاءُ الْحَيَاةِ يُرَاقُ فِي الْأَرْحَامِ
وَذَكَرَ أَنَّهُ مَاتَ بِالْقُولَنْجِ فِي هَمَذَانَ، وَقِيلَ بِأَصْبَهَانَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ منها، عن ثمان وخمسين سنة. قلت: قد حصر الْغَزَّالِيُّ كَلَامَهُ فِي مَقَاصِدِ الْفَلَاسِفَةِ، ثُمَّ رَدَّ عليه في تهافت الفلاسفة في عشرين مجلسا له، كفره في ثلاث منها، وهي قوله بقدم العالم، وعدم المعاد الجثمانى، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَبَدَّعَهُ فِي الْبَوَاقِي، وَيُقَالُ إِنَّهُ تَابَ عِنْدَ الْمَوْتِ فاللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فيها كان بُدُوُّ مُلْكِ السَّلَاجِقَةِ، وَفِيهَا اسْتَوْلَى رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَالِبٍ طُغْرُلْبَكُ مُحَمَّدُ بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، عَلَى نَيْسَابُورَ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهَا، وبعث أخاه داود إلى بِلَادِ خُرَاسَانَ فَمَلَكَهَا، وَانْتَزَعَهَا مِنْ نُوَّابِ الْمَلِكِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ. وَفِيهَا قَتْلُ جَيْشِ الْمِصْرِيِّينَ لِصَاحِبِ حَلَبَ وَهُوَ شِبْلُ الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا. وَفِيهَا سَأَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْخَلِيفَةَ أن يلقب ملك الدَّوْلَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ. وَفِيهَا استدعى الخليفة بالقضاة وَالْفُقَهَاءَ وَأَحْضَرَ جَاثَلِيقَ النَّصَارَى وَرَأَسَ جَالُوتِ الْيَهُودِ، وألزموا بالغيار. وفي رمضان منها لُقِّبَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ شَاهِنْشَاهِ الْأَعْظَمَ مَلِكَ الْمُلُوكِ، بأمر الخليفة، وخطب له بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَنَفَرَتِ الْعَامَّةُ مِنْ ذَلِكَ ورموا الخطباء بالآجر، ووقعت فتنة شديدة بسبب ذلك، واستفتوا القضاة والفقهاء فِي ذَلِكَ فَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ، وقد قال تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) 2: 247 وقال (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) 18: 79 وَإِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مُلُوكٌ جَازَ أَنْ يكون بعضهم فوق بعض، وأعظم مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ النكير والمماثلة بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِينَ. وَكَتَبَ الْقَاضِي أَبُو الطِّيبِ الطَّبَرِيُّ إِنَّ إِطْلَاقَ مَلِكِ الْمُلُوكِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَلِكَ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يقال كافى الكفاة وقاضى القضاة، جاز أن يقال مَلِكُ الْمُلُوكِ، وَإِذَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُلُوكُ الْأَرْضِ زَالَتِ الشُّبْهَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: اللَّهمّ أَصْلِحِ الْمَلِكَ، فَيُصْرَفُ الْكَلَامُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ وَكَتَبَ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ نحو ذلك، وأما الماوردي صاحب الحاوي الكبير فقد نقل عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ ما نقله ابن الجوزي والشيخ أبو منصور بْنُ الصَّلَاحِ فِي أَدَبِ الْمُفْتِي أَنَّهُ مَنَعَ من ذلك وأصرّ على المنع من ذلك، مَعَ صُحْبَتِهِ لِلْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَكَثْرَةِ تَرْدَادِهِ إِلَيْهِ، وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ عن مَجْلِسِهِ حَتَّى اسْتَدْعَاهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ،(12/43)
دَخَلَ وَهُوَ وَجِلٌ خَائِفٌ أَنْ يُوقِعَ بِهِ مكروها، فلما واجهه قال له جلال الدولة: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَكَ مِنْ مُوَافَقَةِ الَّذِينَ جَوَّزُوا ذَلِكَ مَعَ صُحْبَتِكَ إِيَّايَ وَوَجَاهَتِكَ عندي، دينك واتباعك الحق، وإن الحق آثر عندك من كل أحد، وَلَوْ حَابَيْتَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَحَابَيْتَنِي، وَقَدْ زادك ذلك عندي صحبة ومحبة، وعلو مكانة.
قلت: والّذي حمل القاضي الماوردي على المنع هُوَ السُّنَّةُ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ من غير وجه. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ تَسَمَّى بملك الأملاك» . قال الزهري: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ عَنْ أَخْنَعِ اسْمٍ قَالَ: أَوْضَعُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ ابن عُيَيْنَةَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يوم القيامة وأخبثه رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حدثنا عوف عن جلاس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ على من قتله نبي، وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» .
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الثَّعَالِبِيُّ صَاحِبُ يَتِيمَةِ الدَّهْرِ
أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الثَّعَالِبِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، بَارِعًا مُفِيدًا، لَهُ التَّصَانِيفُ الْكِبَارُ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَأَكْبَرُ كُتُبِهِ يَتِيمَةُ الدَّهْرِ فِي مَحَاسِنِ أَهْلِ الْعَصْرِ. وَفِيهَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ:
أَبْيَاتُ أَشْعَارِ الْيَتِيمَهْ ... أَبْكَارُ أَفْكَارٍ قَدِيمَهْ
مَاتُوا وَعَاشَتْ بَعْدَهُمْ ... فَلِذَاكَ سُمِّيَتِ الْيَتِيمَهْ
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الثَّعَالِبِيَّ لِأَنَّهُ كان رفاء يَخِيطُ جُلُودَ الثَّعَالِبِ، وَلَهُ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ مَلِيحَةٌ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ
عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَكَانَ مَاهِرًا فِي فنون كثيرة من العلوم، مِنْهَا عِلْمُ الْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ وَثَرْوَةٍ أَنْفَقَهُ كُلُّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَصَنَّفَ وَدَرَّسَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ عِلَمًا، وَكَانَ اشْتِغَالُهُ على أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ نَاصِرٌ الْمَرْوَزِيُّ وغيره
ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة
فيها التقى الملك مسعود بن محمود، وَالْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ السَّلْجُوقِيُّ، وَمَعَهُ أَخُوهُ دَاوُدُ، فِي شعبان،(12/44)
فَهَزَمَهُمَا مَسْعُودٌ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا خَلْقًا كَثِيرًا. وفيها خطب شبيب بن ريان للقائم العباسي بحران والرحبة وقطع خطبة الفاطمي الْعُبَيْدِيِّ. وَفِيهَا خُوطِبَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ بِالْمَلِكِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِوَاسِطٍ، وَهَذَا العزيز آخر من ملك بغداد من بنى بويه، لما طغوا وتمردوا وبغوا وتسموا بملك الأملاك، فَسَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وجعل الملك في غيرهم، كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) 13: 11 الآية. وفيها خلع الخليفة على القاضي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاكُولَا خِلْعَةَ تَشْرِيفٍ. وَفِيهَا وَقَعَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ مِقْدَارَ شِبْرٍ. قال ابن الجوزي: وفي جمادى الآخرة تملك بَنُو سَلْجُوقَ بِلَادَ خُرَاسَانَ وَالْجَبَلَ، وَتَقَسَّمُوا الْأَطْرَافَ، وَهُوَ أَوَّلُ مُلْكِ السَّلْجُوقِيَّةِ وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فيها من العراق وخراسان، ولا من أهل الشام ولا مصر إلا القليل.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، الْحَافِظُ الْكَبِيرُ ذُو التَّصَانِيفِ المفيدة الكثيرة الشهيرة، منها حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ فِي مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةٍ، دَلَّتْ عَلَى اتِّسَاعِ رِوَايَتِهِ، وَكَثْرَةِ مَشَايِخِهِ، وَقُوَّةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مخارج الحديث، وشعب طرقه، وَلَهُ مُعْجَمُ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّهِ، وَلَهُ صفة الجنة ودلائل النبوة، وكتاب في الطب النبوي، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ. وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ يَخْلِطُ الْمَسْمُوعَ لَهُ بِالْمَجَازِ، وَلَا يُوَضِّحُ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ النَّخْشَبِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو نعيم مسند الحارث بن أبى أسامة بن أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ بِتَمَامِهِ، فَحَدَّثَ بِهِ كله، وقال ابن الْجَوْزِيِّ: سَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَمِيلُ إلى مذهب الأشعري في الاعتقاد ميلا كثيرا، توفى أبو نعيم في الثامن والعشرين مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً رحمه الله، لأنه ولد فيما ذكره ابن خَلِّكَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. قَالَ وَلَهُ تَارِيخُ أَصْبَهَانَ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ وَالِدِهِ أَنَّ مِهْرَانَ أَسْلَمَ، وَأَنَّ وَلَاءَهُمْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابن جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَى أصبهان وأصله بالفارسية شاهان، أي مجمع العساكر، وأن الإسكندر بناها
الْحَسَنُ بْنُ حَفْصٍ
أَبُو الْفُتُوحِ الْعَلَوِيُّ أَمِيرُ مكة الحسن بن الحسين، أبو على البرجمي، وزر لشرف الدَّوْلَةِ سَنَتَيْنِ ثُمَّ عُزِلَ، وَكَانَ عَظِيمَ الْجَاهِ في زمانه، وهو الّذي بنى مارستان واسط، ورتب فيه الأشربة والأطباء والأدوية، ووقف عليه كفايته. توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ الله.
الحسين بن محمد بن الحسن
ابن على بن عبد الله المؤدب، وهو أبو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، سَمِعَ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ مِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُشْمَيْهَنِيِّ، وَسَمِعَ غَيْرَهُ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.(12/45)
عبد الملك بن محمد
ابن عبد الله بن محمد بن بشر بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ، سَمِعَ النَّجَّادَ وَدَعْلَجَ بْنَ أَحْمَدَ وَالْآجُرِّيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا، وَكَانَ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحُكَّامِ فَتَرَكَ ذَلِكَ رغبة عنه ورهبة من الله، ومات في ربيع الآخر منها، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي جَامِعِ الرصافة، وكان الجمع كثيرا حَافِلًا، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وكان قد أَوْصَى بِذَلِكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ خَلَفِ
ابن الفراء، أبو حازم القاضي أبو يعلى الحنبلي، سمع الدار قطنى وَابْنَ شَاهِينَ، قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَأَيْتُ لَهُ أُصُولًا سَمَاعُهُ فِيهَا، ثُمَّ إنه بَلَغَنَا أَنَّهُ خَلَطَ فِي الْحَدِيثِ بِمِصْرَ وَاشْتَرَى مِنَ الْوَرَّاقِينَ صُحُفًا فَرَوَى مِنْهَا، وَكَانَ يَذْهَبُ إلى الاعتزال. توفى بتنيس من بلاد مصر.
محمد بن عبد الله
أبو بكر الدينَوَريّ الزاهد، كان حسن الْعَيْشِ، وَكَانَ ابْنُ الْقَزْوِينِيِّ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ بَغْدَادَ يَزُورُهُ، وَقَدْ سَأَلَهُ مرة أن يطلق للناس مكث الملح، وكان مبلغه أَلْفَيْ دِينَارٍ فَتَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ اجتمع أهل بغداد لِجِنَازَتِهِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّاتٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْفَضْلُ بْنُ مَنْصُورٍ
أَبُو الرضى، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الظَّرِيفِ، وَكَانَ شَاعِرًا ظَرِيفًا وَمِنْ شعره قَوْلُهُ:
يَا قَالَةَ الشِّعْرِ قَدْ نَصَحْتُ لَكُمْ ... وَلَسْتُ أُدْهَى إِلَّا مِنَ النُّصْحِ
قَدْ ذَهَبَ الدَّهْرُ بِالْكِرَامِ ... وَفِي ذَاكَ أُمُورٌ طَوِيلَةُ الشَّرْحِ
أتطلبون النَّوَالَ مِنْ رَجُلٍ ... قَدْ طُبِعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الشح
وأنتم تمدحون بالحسن والظرف ... وُجُوهًا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ
مِنْ أَجْلِ ذَا تُحْرَمُونَ رِزْقَكُمْ ... لِأَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ فِي الْمَدْحِ
صُونُوا القوافي فما أرى ... أحدا يغتر فيه بِالنُّجْحِ
فَإِنْ شَكَكْتُمْ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ ... فَكَذِّبُونِي بِوَاحِدٍ سَمْحِ
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ
أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَاكُولَا، وَزَرَ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ مِرَارًا، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، عَارِفًا بِالشِّعْرِ والأخبار، خنق بهيت في جمادى الآخرة منها.
أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عِيسَى الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ عَلِمَ الْخِلَافَ وَأَبْرَزَهُ إِلَى الْوُجُودِ. قَالَهُ(12/46)
ابن خلكان، وكان يضرب به المثل، والدبوس نِسْبَةٌ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى، قَالَ: وله كتاب الأسرار والتقويم للادلة، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ وَالتَّعَالِيقِ، قَالَ وَرُوِيَ أنه ناظر فقيها فبقي كُلَّمَا أَلْزَمَهُ أَبُو زَيْدٍ إِلْزَامًا تَبَسَّمَ أَوْ ضحك، فأنشد أبو زيد في ذلك:
مَا لِي إِذَا أَلْزَمْتُهُ حُجَّةً ... قَابَلَنِي بِالضِّحْكِ والقهقهة
إن ضحك المرء من فقهه ... فالدب بالصحراء مَا أَفْقَهَهْ
الْحَوْفِيُّ صَاحِبُ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يُوسُفَ الْحَوْفِيُّ النَّحْوِيُّ، لَهُ كِتَابٌ فِي النَّحْوِ كبير، وإعراب الْقُرْآنِ فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، وَلَهُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ أَيْضًا، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ وله تصانيف كثيرة، انتفع بها الناس. قال ابن خلكان: والحوفى نسبة لناحية بِمِصْرَ يُقَالُ لَهَا الشَّرْقِيَّةُ، وَقَصَبَتُهَا مَدِينَةُ بُلْبَيْسَ، فجميع ريفها يسمون حوف، وَاحِدُهُمْ حَوْفِيٌّ وَهُوَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا شبر النخلة من أعمال الشرقية المذكورة رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وأربعمائة
فِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ حَمَلَتِ الْجِسْرَ وَمَنْ عَلَيْهِ فَأَلْقَتْهُمْ بِأَسْفَلِ الْبَلَدِ وَسَلِمُوا، وفيها وقع بين الجند وبين جَلَالَ الدَّوْلَةِ شَغَبٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ، وجرت شرور يطول ذكرها.
ووقع فساد عريض واتسع الخرق على الراقع، ونهبت دور كثيرة جدا، ولم يبق للملك عندهم حرمة، وغلت الأسعار. وفيها زار الملك أبو طاهر مشهد الحسين، ومشى حافيا في بعض تلك الأزوار. ولم يحج أحد من أهل العراق. وَفِيهَا بَعَثَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ وَزِيرَهُ الْعَادِلَ إلى البصرة فملكها له.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أحمد
ابن عبد الله أبو عبد الرحمن الضرير الخيريّ، مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ، وَالثِّقَاتِ الْأُمَنَاءِ، قَدِمَ بَغْدَادَ حَاجًّا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ جميع صحيح البخاري في ثلاث مجالس بروايته له عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ الْكُشْمَيْهَنِيِّ، عَنِ الْفِرَبْرِيِّ عَنِ البخاري، توفى فيها وقد جاوز التسعين.
بُشْرَى الْفَاتِنِيُّ
وَهُوَ بُشْرَى بْنُ مَسِيسَ مِنْ سبى الروم، أهداه أمراء بنى حمدان الفاتن غُلَامِ الْمُطِيعِ، فَأَدَّبَهُ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ. وَقَالَ: كَانَ صدوقا صالحا دينا، توفى يوم عيد الفطر منها رحمه الله
محمد بن على
ابن أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مَرْوَانَ أَبُو الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنْ فَمِ الصُّلْحِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وقرأ(12/47)
الْقِرَاءَاتِ وَرَوَاهَا، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي رِوَايَتِهِ فِي القراءات والحديث فاللَّه أعلم. توفى في جمادى الآخرة منها وقد جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وأربعمائة
فِيهَا عَظُمَ شَأْنُ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَارْتَفَعَ شَأْنُ مَلِكِهِمْ طغرلبك، وأخيه دَاوُدَ، وَهُمَا ابْنَا مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بْنِ بغاق، وقد كأن جدهم بغاق هَذَا مِنْ مَشَايِخِ التُّرْكِ الْقُدَمَاءِ، الَّذِينَ لَهُمُ رأى ومكيدة ومكانة عِنْدَ مَلِكِهِمُ الْأَعْظَمِ، وَنَشَأَ وَلَدُهُ سَلْجُوقُ نَجِيبًا شهما، فقدمه الملك ولقبه شباسى، فأطاعته الجيوش وانقاد لَهُ النَّاسُ بِحَيْثُ تَخَوَّفَ مِنْهُ الْمَلِكُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسْلَمَ فَازْدَادَ عِزًّا وَعُلُوًّا، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْ مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ، وَخَلَّفَ أَرْسَلَانَ وَمِيكَائِيلَ وَمُوسَى، فَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَإِنَّهُ اعْتَنَى بِقِتَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْأَتْرَاكِ، حتى قتل شهيدا، وخلف ولديه طغرلبك محمد، وجعفر بك دَاوُدَ، فَعَظُمَ شَأْنُهُمَا فِي بَنِي عَمِّهِمَا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا التُّرْكُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ تُرْكُ الْإِيمَانِ الذين يقول لهم الناس تَرْكُمَانُ، وَهُمُ السَّلَاجِقَةُ بَنُو سَلْجُوقَ جَدِّهِمْ هَذَا، فأخذوا بِلَادَ خُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا بَعْدَ مَوْتِ مَحْمُودِ بْنِ سبكتكين، وقد كان يتخوف منهم محمود بعض التخوف، فلما مات وقام ولده مسعود بعده قاتلهم وقاتلوه مرارا، فكانوا يهزمونه فِي أَكْثَرِ الْمَوَاقِفِ، وَاسْتُكْمِلَ لَهُمْ مُلْكُ خُرَاسَانَ بِأَسَرِهَا، ثُمَّ قَصَدَهُمْ مَسْعُودٌ فِي جُنُودٍ يَضِيقُ بهم الفضاء فكسروه، وكبسه مرة داود فانهزم مَسْعُودٌ فَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَخِيَامِهِ، وَجَلَسَ عَلَى سريره، وفرق الغنائم على جيشه، ومكث جيشه على خيولهم لا ينزلون عنها ثلاثة أيام، خوفا من دهمة العدو، وبمثل هذا تم لهم ما راموه، وكمل لهم جَمِيعُ مَا أَمَّلُوهُ، ثُمَّ كَانَ مِنْ سَعَادَتِهِمْ أن الملك مسعود توجه نحو بلاد الهند لسبى بِهَا وَتَرَكَ مَعَ وَلَدِهِ مَوْدُودٍ جَيْشًا كَثِيفًا بِسَبَبِ قِتَالِ السَّلَاجِقَةِ، فَلَمَّا عَبَرَ الْجِسْرَ الَّذِي عَلَى سَيَحْوُنَ نَهَبَتْ جُنُودُهُ حَوَاصِلَهُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أخيه محمد بن محمود، وَخَلَعُوا مَسْعُودًا فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ مَسْعُودٌ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمُوهُ وأسروه، فقال له أخوه: والله لست بقاتلك على شر صَنِيعِكَ إِلَيَّ، وَلَكِنِ اخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَيَّ بَلَدٍ تَكُونُ فِيهِ أَنْتَ وَعِيَالُكَ، فَاخْتَارَ قَلْعَةً كُبْرَى، وكان بها، ثم إن الملك محمدا أخا مسعود جعل لولده الأمر من بعده، وبايع الجيش له، وكان ولده اسمه أحمد، وكان فيه هرج، فاتفق هو ويوسف بْنُ سُبُكْتِكِينَ عَلَى قَتْلِ مَسْعُودٍ لِيَصْفُوَ لَهُمُ الْأَمْرُ، وَيَتِمَّ لَهُمُ الْمُلْكُ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ من غير علم أبيه فقتله، فلما علم أبوه بذلك غاظه وَعَتَبَ عَلَى ابْنِهِ عَتْبًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ إِلَى ابن أخيه يعتذر إليه ويقسم له أنه لم يعلم بذلك، حتى كان ما كان. فكتب إليه مودود بن مسعود: رَزَقَ اللَّهُ وَلَدَكَ الْمَعْتُوهَ عَقْلًا يَعِيشُ بِهِ، فقد ارتكب أمرا عظيما، وقدم على إراقة دم مثل والدي الّذي لَقَّبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِسَيِّدِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ، وَسَتَعْلَمُونَ أي حيف تَوَرَّطْتُمْ، وَأَيَّ شَرِّ تَأَبَّطْتُمْ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) 26: 227 ثم سار إليهم في جنود فقاتلهم فقهرهم(12/48)
وَأَسَرَهُمْ، فَقَتَلَ عَمَّهُ مُحَمَّدًا وَابْنَهُ أَحْمَدَ وَبَنِي عمه كلهم، إلا عبد الرحمن وَخَلْقًا مِنْ رُءُوسِ أُمَرَائِهِمْ، وَابْتَنَى قَرْيَةً هُنَالِكَ وسماها فتح آباذ، ثُمَّ سَارَ إِلَى غَزْنَةَ فَدَخَلَهَا فِي شَعْبَانَ، فَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَسَلَكَ سِيرَةَ جَدِّهِ مَحْمُودٍ، فَأَطَاعَهُ النَّاسُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ بِالِانْقِيَادِ وَالِاتِّبَاعِ والطاعة، غير أنه أهلك قومه بيده، وهذا من جملة سعادة السلاجقة.
وفيها اختلف أولاد حماد على العزيز بَادِيسَ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَحَاصَرَهُمْ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ، وَوَقَعَ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غلاء شديد بسبب تأخر المطر، وَوَقَعَ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ، وَأَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ، فَقُتِلَ بينهم خلق كثير من الفريقين. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الحسين
ابن الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو يَعْلَى الْبَصْرِيُّ الصُّوفِيُّ، أَذْهَبَ عُمُرَهُ فِي الْأَسْفَارِ وَالتَّغْرِيبِ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ الدِّمَشْقِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ جُمَيْعٍ الْغَسَّانِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا دينا حَسَنَ الشِّعْرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وأربعمائة
فِيهَا مَلَكَ طُغْرُلْبَكُ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا. وَفِيهَا وَلِيَ ظَهِيرُ الدولة بن جلال الدولة أبى جعفر بن كالويه بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَوَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخويه أبى كاليجار وكرسانيف. وَفِيهَا دَخَلَ أَبُو كَالِيجَارَ هَمَذَانَ وَدَفَعَ الْغُزَّ عنها. وفيها شعثت الأكراد ببغداد لسبب تأخر العطاء عنهم. وفيها سقطت قَنْطَرَةُ بَنِي زُرَيْقٍ عَلَى نَهْرِ عِيسَى، وَكَذَا القنطرة الكثيفة التي تقابلها. وفيها دخل بغداد رجل من البلغار يُرِيدُ الْحَجَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ كِبَارِهِمْ، فَأُنْزِلَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْأَرْزَاقُ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مُوَلَّدُونَ مِنَ التُّرْكِ وَالصَّقَالِبَةِ، وَأَنَّهُمْ فِي أَقْصَى بِلَادِ التُّرْكِ، وَأَنَّ النَّهَارَ يَقْصُرُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يكون ست ساعات، وكذلك الليل، وعندهم عيون وزروع وثمار، على غير مطر ولا سقى. وفيها قرئ الاعتقاد القادري الّذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْقَزْوِينِيُّ، ثُمَّ كَتَبَ بَعْدَهُ الْعُلَمَاءُ، وَقَدْ سَرَدَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
بَهْرَامُ بْنُ منافية
أَبُو مَنْصُورٍ الْوَزِيرُ لِأَبِي كَالِيجَارَ، كَانَ عَفِيفًا نَزِهَا صِيِّنَا، عَادِلًا فِي سِيرَتِهِ، وَقَدْ وَقَفَ خزانة(12/49)
كُتُبٍ فِي مَدِينَةِ فِيرُوزَابَاذَ، تَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ مُجَلَّدٍ، مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافِ وَرَقَةٍ بخط أبى على وأبى عبد الله بن مقلة [1] .
محمد بن جعفر بن الحسين
المعروف بالجهرمي، قال الخطيب: هُوَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ وَسَمِعْنَا مِنْهُمْ، وَكَانَ يُجِيدُ الْقَوْلَ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
يَا وَيْحَ قلبي من تقلبه ... أبدا نحن إِلَى مُعَذِّبِهِ
قَالُوا كَتَمْتَ هَوَاهُ عَنْ جَلَدٍ ... لو أن لي جلد لبحت به
ما بى جننت غير مكترث ... عنى ولكن من تغيبه
حسبي رضاه من الحياة وما ... يلقى وَمَوْتِي مِنْ تَغَضُّبِهِ
مَسْعُودٌ الْمَلِكُ بْنُ الْمَلِكِ محمود
ابن الملك سبكتكين، صاحب غَزْنَةَ وَابْنُ صَاحِبِهَا، قَتَلَهُ ابْنُ عَمِّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ، فَانْتَقَمَ لَهُ ابْنُهُ مودود بن مسعود، فقتل قاتل أبيه وعمه وَابْنَ عَمِّهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، مِنْ أَجْلِ أَبِيهِ، وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ مِنْ قَوْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ
بِنْتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ المتقى باللَّه
تأخرت مدتها حتى توفيت في هذه السنة في رجب منها عن إحدى وتسعين سنة، بالحريم الظاهر، ودفنت بالرصافة.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة
فيها أمر الملك جلال الدولة أبا طَاهِرٍ بِجِبَايَةِ أَمْوَالِ الْجَوَالَى، وَمَنَعَ أَصْحَابَ الْخَلِيفَةِ من قبضها، فانزعج لذلك الخليفة القائم باللَّه، وعزم على الخروج من بغداد. وفيها كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز، فهدمت قلعتها وسورها ودورها، ومن دَارِ الْإِمَارَةِ عَامَّةَ قُصُورِهَا، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَمْسُونَ أَلْفًا، وَلَبِسَ أَهْلُهَا الْمُسُوحَ لِشِدَّةِ مُصَابِهِمْ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ الشرقية من ذلك مدينة خوارزم ودهستان وطيس وَالرَّيُّ وَبِلَادُ الْجَبَلِ وَكَرْمَانُ وَأَعْمَالُهَا، وَقَزْوِينُ. وَخُطِبَ لَهُ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي كُلِّهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ جِدًّا، وَاتَّسَعَ صِيتُهُ. وَفِيهَا مَلَكَ سَمَّاكُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ حَلَبَ، أَخَذَهَا مِنَ الْفَاطِمِيِّينَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ مَنْ حَارَبَهُ. وَلَمْ يَحُجَّ أحد من أهل العراق وغيرها، ولا في اللواتي قبلها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَبُو ذَرٍّ الهروي
عبد الله بن أحمد بن محمد الحافظ المالكي، سمع الكثير ورحل إلى الأقاليم، وسكن مكة، ثم تزوج في العرب، وَكَانَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الموسم ويسمع الناس، ومنه أخذ المغاربة مذهب الأشعري عنه، وَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُ أَخَذَ مَذْهَبَ مَالِكٍ عَنِ الباقلاني، كان حافظا، توفى في
__________
[1] كذا في الأصل. وابن مقلة هو أبو على محمد بن على.(12/50)
ذي القعدة.
محمد بن الحسين
ابن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو الْفَتْحِ الشَّيْبَانِيُّ الْعَطَّارُ، ويعرف بقطيط، سافر الكثير إلى البلاد، وسمع الكثير، وكان شيخا ظريفا، سلك طَرِيقَ التَّصَوُّفِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَمَّا وُلِدْتُ سُمِّيتُ قُطَيْطًا عَلَى أَسْمَاءِ الْبَادِيَةِ، ثُمَّ سَمَّانِي بَعْضُ أَهْلِي مُحَمَّدًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وأربعمائة
فِيهَا رُدَّتِ الْجَوَالَى إِلَى نُوَّابِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا ورد كتاب من الْمُلْكِ طُغْرُلْبَكَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِالْإِحْسَانِ إلى الرعايا والوصاة بهم، قبل أن يحل به ما يسوءه.
ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي كَالِيجَارَ بَغْدَادَ بَعْدَ وَفَاةِ أخيه جلال الدَّوْلَةِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرٍ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَمَلَكَ بَغْدَادَ بَعْدَهُ أَخُوهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَالِيجَارَ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا عَنْ مُمَالَأَةِ أُمَرَائِهَا، وَأَخْرَجُوا منها الْمَلِكَ الْعَزِيزَ أَبَا مَنْصُورِ بْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فتنقل في البلاد وتسرب مِنْ مَمْلَكَتِهِ إِلَى غَيْرِهَا حَتَّى تُوفِيَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَحُمِلَ فَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ. وَفِيهَا أَرْسَلَ الْمَلِكُ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ عَسْكَرًا كَثِيفًا إِلَى خُرَاسَانَ فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ أَلْبُ أرسلان بن داود السلجوقي فاقتتلا قتالا عظيما، وفي صَفَرٍ مِنْهَا أَسْلَمَ مِنَ التَّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْرُقُونَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ خَرْكَاهُ، وَضَحَّوْا فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى بِعِشْرِينَ ألف رأس من الغنم، وتفرقوا في البلاد، ولم يسلم من خطا وَالتَّتَرِ أَحَدٌ وَهُمْ بِنَوَاحِي الصِّينِ. وَفِيهَا نَفَى مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ كُلَّ غَرِيبٍ لَهُ فيها دون العشرين سنة. وفيها خطب المعز أبو تميم صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ بِبِلَادِهِ لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الفاطميين وأحرق أعلامهم، وأرسل إليه الخليفة الخلع واللواء المنشور، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ. وَفِيهَا أَرْسَلَ القائم بأمر الله أبا الحسن على بن محمد ابن حبيب الماوردي قبل موت جَلَالِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَأَبِي كَالِيجَارَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فَالْتَقَاهُ بَجُرْجَانَ فَتَلَقَّاهُ الْمَلِكُ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ إكراما للخليفة، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى السَّنَةِ الْآتِيَةِ. فَلَمَّا قَدِمَ على الخليفة أخبره بطاعته وإكرامه لأجل الخليفة.
وفيها توفى من الأعيان
الحسين بن عثمان
ابن سَهْلِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ الْعِجْلِيِّ، أَبُو سَعْدٍ أَحَدُ الرَّحَّالِينَ في طلب الحديث إلى البلاد المتباعدة، ثُمَّ أَقَامَ بِبَغْدَادَ مُدَّةً وَحَدَّثَ بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ: كَانَ صَدُوقًا، ثُمَّ انْتَقَلَ في آخر عمره إلى مكة فأقام بها حتى مات في شوال منها.
عبد اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ
أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ الْأَزْهَرِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيُّ، الحافظ المحدث المشهور، ويعرف(12/51)
بابن السواري، سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ وَخَلْقٍ يطول ذكرهم، وكان ثقة صدوقا، دينا، حسن الاعتقاد والسيرة، توفى ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر منها عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ.
الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ
أَبُو طَاهِرِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ بويه الديلميّ، صاحب العراق، كان يحب العباد وَيَزُورُهُمْ، وَيَلْتَمِسُ الدُّعَاءَ مِنْهُمْ، وَقَدْ نُكِبَ مَرَّاتٍ عديدة، وأخرج من داره، وتارة أخرج من بغداد بالكلية، ثم يعود إليها حتى اعتراه وجع كبده فمات من ذلك في ليلة الجمعة خامس شعبان منها، وله من العمر إحدى وخمسين سنة وأشهر، تولى العراق من ذلك ستة عشرة سنة وإحدى عشر شهرا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وأربعمائة
فِيهَا دَخَلَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ بَغْدَادَ وَأَمَرَ بِضَرْبِ الطَّبْلِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَمْ تكن الملوك تفعل ذلك، إنما كان يضرب لعضد الدولة ثلاث أَوْقَاتٍ، وَمَا كَانَ يُضْرَبُ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسِ إلا للخليفة، وكان دخوله إليها فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ فَرَّقَ عَلَى الْجُنْدِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وخلع على مقدمي الجيوش وهم البساسيري، والنشاورى، وَالْهُمَامُ أَبُو اللِّقَاءِ، وَلَقَبَّهُ الْخَلِيفَةُ مُحْيِيَ الدَّوْلَةِ، وَخُطِبَ لَهُ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ بِأَمْرِ مُلُوكِهَا، وَخُطِبَ لَهُ بِهَمَذَانَ، وَلَمْ يَبْقَ لِنُوَّابِ طُغْرُلْبَكَ فِيهَا أَمْرٌ. وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ طُغْرُلْبَكُ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْنِيَّ، وَهُوَ أَوَّلُ وَزِيرٍ وَزَرَ له.
وفيها ورد أبو نصر أحمد بن يوسف الصاحب مِصْرَ، وَكَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَرْجَرَائِيِّ. وفيها تولى نقابة الطالبيين أبو أحمد بن عدنان بن الرضى، وذلك بعد وفاة عمه المرتضى. وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قَضَاءَ الْكَرْخِ، مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ مِنَ الفضاء بباب الطلق، وذلك بعد موت القاضي الصَّيْمَرِيِّ. وَفِيهَا نَظَرَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْقَاسِمِ ابن المسلم في كتاب دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ. وَلَمْ يحج فيها أحد من أهل العراق.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ
ابن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ نسبة إلى نهر البصرة يقال له صيمر، عَلَيْهِ عِدَّةُ قُرَى، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِيَ قَضَاءَ الْمَدَائِنِ ثُمَّ قَضَاءَ رَبْعِ الْكَرْخِ، وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمُفِيدِ، وَابْنِ شَاهِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ صَدُوقًا وَافِرَ الْعَقْلِ، جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، حَسَنَ العبادة، عَارِفًا بِحُقُوقِ الْعُلَمَاءِ.
تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مَنْصُورِ
ابن أحمد، أبو الحسن المعروف بابن المشترى الأهوازي، كان قاضيا بالأهواز [1] ونواحيها،
__________
[1] في ابن الأثير: قاضى خوزستان وفارس.(12/52)
شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ، كَانَ لَهُ مَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ صَدُوقًا كَثِيرَ الْمَالِ، حَسَنَ السِّيرَةِ.
الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الشَّرِيفُ الْمُوسَوِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِالْمُرْتَضَى، ذِي الْمَجْدَيْنِ، كان أكبر من أخيه ذي الحسبين وَكَانَ جَيِّدَ الشِّعْرِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ وَالِاعْتِزَالِ، يُنَاظَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يُنَاظَرُ عِنْدَهُ فِي كُلِّ الْمَذَاهِبِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي التَّشَيُّعِ، أُصُولًا وفروعا، وقد نقل ابن الجوزي أَشْيَاءَ مِنْ تَفَرُّدَاتِهِ فِي التَّشَيُّعِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ السُّجُودُ إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا، وَأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ إِنَّمَا يُجْزِئُ فِي الْغَائِطِ لَا فِي الْبَوْلِ، وأن الكتابيات حرام، وكذا ذبائح أهل الكتاب، وما ولدوه هم وسائر الكفار من الأطعمة حرام، وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، وَالْمُعَلَّقَ مِنْهُ لَا يَقَعُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُهُ، وَمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا كَفَّارَةً لِمَا وَقَعَ مِنْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا جَزَّتْ شَعْرَهَا يَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَمَنْ شَقَّ ثَوْبَهُ فِي مصيبة وجب عليه كفارة اليمين، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَهَا زَوْجٌ لَا يَعْلَمُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَأَنَّ قطع السارق من رءوس الأصابع. قال ابن الجوزي: نقلته من خط أبى الوفاء ابن عُقَيْلٍ. قَالَ: وَهَذِهِ مَذَاهِبٌ عَجِيبَةٌ، تَخْرُقُ الْإِجْمَاعَ، وَأَعْجَبُ مِنْهَا ذَمُّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ سَرَدَ مِنْ كَلَامِهِ شَيْئًا قَبِيحًا فِي تكفير عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة وحفصة رضى الله عنهم وأخزاه الله وأمثاله من الأرجاس الأنجاس، أهل الرفض والارتكاس، إِنْ لَمْ يَكُنْ تَابَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ نَاصِرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الطُّيُورِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ بُرْهَانَ يَقُولُ:
دَخَلْتُ عَلَى الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى وإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار وهو يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلِيَا فَعَدَلَا وَاسْتَرْحَمَا فرحما، فأنا أَقُولُ ارْتَدَّا بَعْدَ مَا أَسْلَمَا؟ قَالَ فَقُمْتُ عنه فما بلغت عتبة داره حتى سمعت الزعقة عليه. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً. وقد ذكره ابن خلكان فملس عليه على عادته مع الشعراء في الثناء عليهم، وأورد له أشعارا رائقة. قَالَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ كِتَابَ نهج البلاغة
محمد بن أحمد
ابن شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أَبُو مَنْصُورٍ الرُّويَانِيُّ، صَاحِبُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ قَالَ الْخَطِيبُ: سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَتَبْنَا عنه، وكان صدوقا يسكن قطيعة الربيع. توفى في ربيع الأول منها، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ
محمد بن على بن الخطيب، أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ، شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُنْتَصِرُ لهم، والمحامي(12/53)
عن ذمهم بالتصانيف الكثيرة، توفى في ربيع الآخر منها، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ، ودفن في الشونيزى، ولم يرو من الحديث سوى حديث واحد، رواه الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الطَّيِّبِ قُرِئَ عَلَى هِلَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَخِي هِلَالٍ الرَّأْيُ، بِالْبَصْرَةِ وَأَنَا أَسْمَعُ، قِيلَ لَهُ حَدَّثَكُمْ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ وَأَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ وَالْغَلَّابِيُّ وَالْمَازِنِيُّ وَالزُّرَيْقِيُّ قَالُوا: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رَبْعِيٍّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . وَالْغَلَابِيُّ اسمه محمد، والمازني اسمه محمد بن حامد، وَالزُّرَيْقِيُّ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ الْبَصْرِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وأربعمائة
فِيهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ السَّلْجُوقِيُّ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ إلى بلاد الجبل فملكها، وأخرج عنها صَاحِبَهَا كَرْشَاسِفَ بْنَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَالْتَحَقَ بِالْأَكْرَادِ، ثم سار إبراهيم إلى الدينور فملكها أيضا، وأخرج صَاحَبَهَا وَهُوَ أَبُو الشَّوْكِ، فَسَارَ إِلَى حُلْوَانَ فتبعه إبراهيم فملك حلوان قَهْرًا، وَأَحْرَقَ دَارَهُ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تجهز الملك أبو كاليجار لقتال السلاجقة الذين تعدوا على أتباعه، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الظَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآفَةَ اعْتَرَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْخَيْلَ فَمَاتَ لَهُ فِيهَا نَحْوٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فرس، بحيث جافت بغداد من جيف الخيل. وفيها وقع بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى نَهْبِ دُورِ الْيَهُودِ، وَإِحْرَاقِ الْكَنِيسَةِ الْعَتِيقَةِ، الَّتِي لهم، واتفق مَوْتُ رَجُلٍ مِنْ أَكَابِرِ النَّصَارَى بِوَاسِطٍ فَجَلَسَ أَهْلُهُ لِعَزَائِهِ عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ هُنَاكَ وَأَخْرَجُوا جنازته جهرا، وَمَعَهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ يَحْرُسُونَهَا، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِمُ العامة فهزموهم وأخذوا الميت منهم واستخرجوه من أكفانه فأحرقوه، ورموا رماده فِي دِجْلَةَ، وَمَضَوْا إِلَى الدَّيْرِ فَنَهَبُوهُ، وَعَجَزَ الأتراك عن دفعهم. وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
فَارِسُ بْنُ محمد بن عناز
صاحب الدينور وغيرهم، توفى في هذا الأوان.
خديجة بنت موسى
ابن عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظَةُ، وَتُعْرَفُ بِبِنْتِ الْبَقَّالِ، وَتُكَنَّى أُمَّ سَلَمَةَ، قَالَ الْخَطِيبُ: كَتَبْتُ عَنْهَا وَكَانَتْ فقيرة صالحة فاضلة.
أحمد بن يوسف السليكى الْمَنَازِيُّ
الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ، وَزِيرُ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ الْكُرْدِيِّ، صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ وَدِيَارِ بَكْرٍ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا لَطِيفًا، تَرَدَّدَ فِي التَّرَسُّلِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ غير مرة، وحصل كتبا عزيزة أَوْقَفَهَا عَلَى جَامِعَيْ آمِدَ(12/54)
وَمَيَّافَارِقِينَ، وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي مُعْتَزِلُ النَّاسِ وَهُمْ يُؤْذُونَنِي، وتركت لهم الدنيا، فقال له الوزير: والآخرة أيضا. فقال والآخرة يا قاضى؟ قال: نعم. وله ديوان قَلِيلُ النَّظِيرِ عَزِيزُ الْوُجُودِ، حَرَصَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الفاضل فلم يقدر عليه، توفى فيها. ومن شعره في وادي تزاعة.
وَقَانَا لَفْحَةَ الرَّمْضَاءِ وَادٍ ... وَقَاهُ مُضَاعَفُ النَّبْتِ الْعَمِيمِ
نَزَلْنَا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلَيْنَا ... حُنُوَّ الْمُرْضِعَاتِ عَلَى الْفَطِيمِ
وَأَرْشَفَنَا عَلَى ظَمَأٍ زُلَالًا ... أَلَذَّ مِنَ الْمُدَامَةِ لِلنَّدِيمِ
يُرَاعِي الشَّمْسَ أَنَّى قَابَلَتْهُ ... فيحجبها ليأذن لِلنَّسِيمِ
تَرُوعُ حَصَاهُ حَالِيَةَ الْعَذَارَى ... فَتَلْمَسُ جَانِبَ الْعِقْدِ النَّظِيمِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ بَدِيعَةٌ فِي بَابِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وثلاثين وأربعمائة
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْمُوتَانُ كَثِيرٌ فِي الدَّوَابِّ جِدًّا، حَتَّى جَافَتْ بَغْدَادَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وربما أحضر بعض الناس الأطباء لأجل دَوَابِّهِمْ فَيَسْقُونَهَا مَاءَ الشَّعِيرِ وَيُطَبِّبُونَهَا. وَفِيهَا حَاصَرَ السلطان بن طُغْرُلْبَكَ أَصْبَهَانَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ يَحْمِلُونَهُ إليه، أن يُخْطَبَ لَهُ بِهَا، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ. وَفِيهَا مَلَكَ مُهَلْهِلٌ قَرْمَيْسِينَ وَالدِّينَوَرَ. وَفِيهَا تَأَمَّرَ عَلَى بَنِي خَفَاجَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَجَبُ بْنُ أَبِي مَنِيعِ بْنِ ثُمَالٍ، بَعْدَ وَفَاةِ بَدْرَانَ بن سلطان بن ثمال، وهؤلاء الأعراب أكثر من يصد الناس عن بيت الله الحرام، فلا جزاهم الله خيرا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الشَّيْخُ أَبُو محمد الجويني
إمام الشافعية: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حيسويه الشيخ أبو محمد الجويني، وهو والد إمام الحرمين أبو الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا سِنْبِسُ، وَجُوَيْنُ مِنْ نَوَاحِي نَيْسَابُورَ، سَمِعَ الْحَدِيثِ مِنْ بِلَادٍ شَتَّى عَلَى جَمَاعَةٍ، وَقَرَأَ الْأَدَبَ عَلَى أَبِيهِ، وَتَفَقَّهَ بابي الطيب سهل ابن مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِيِّ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَرْوَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْقَفَّالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ وَعَقَدَ مَجْلِسَ الْمُنَاظَرَةِ، وَكَانَ مَهِيبًا لَا يَجْرِي بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَّا الْجِدُّ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيفَ الْكَثِيرَةَ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ العلوم وكان زاهدا شديد الاحتياط لدينه حتى رُبَّمَا أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي طبقات الشافعية وذكرت ما قاله الأئمة في مدحه، توفى في ذي القعدة منها. قال ابْنُ خَلِّكَانَ: صَنَّفَ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أنواع العلوم، وله في الفقه التبصرة والتذكرة، وصنف مختصر المختصر، والفرق والجمع، والسلسلة وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ والأدب والعربية. توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. قَالَهُ السَّمْعَانِيُّ فِي الْأَنْسَابِ، وَهُوَ فِي سِنِّ الكهولة.(12/55)
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة
فيها اصطلح الملك طغرلبك وأبو كاليجار، وتزوج طغرلبك بابنته، وَتَزَوَّجَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ كَالِيجَارَ، بِابْنَةِ الْمَلِكِ دَاوُدَ أَخِي طُغْرُلْبَكَ. وَفِيهَا أَسَرَتِ الْأَكْرَادُ سُرْخَابَ أخا أبى الشوك وأحضروه بين يدي أميرهم يَنَّالَ، فَأَمَرَ بِقَلْعِ إِحْدَى عَيْنَيْهِ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى أَبُو كَالِيجَارَ عَلَى بِلَادِ الْبَطِيحَةِ وَنَجَا صَاحِبُهَا أَبُو نَصْرٍ بِنَفْسِهِ. وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْأَصْفَرُ التَّغْلِبِيُّ، وَادَّعَى أَنَّهُ مِنَ الْمَذْكُورِينَ في الكتب، فاستغوى خلقا، وقصد بلادا فغنم منها أموالا تقوى بها، وعظم أمره. ثم اتفق له أُسِرَ وَحُمِلَ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَرْوَانَ صَاحِبِ دِيَارِ بَكْرٍ، فَاعْتَقَلَهُ وَسَدَّ عَلَيْهِ بَابَ السِّجْنِ. وَفِيهَا كَانَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ، بسبب جيف الدواب التي ماتت، فمات فيها خلق كثير، حتى خلت الأسواق وقلّت الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمَرْضَى، وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنَ الْمَوْصِلِ بِأَنَّهُ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا نَحْوُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ نفسا. وفيها وقع غلاء شديد أيضا ووقعت فتنة بين الروافض والسنة بِبَغْدَادَ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَلَمْ يَحُجَّ فيها أحد من ركب العراق
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو الْفَضْلِ الْقَاضِي الْهَاشِمِيُّ، الرَّشِيدِيُّ، مِنْ وَلَدِ الرَّشِيدِ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِسِجِسْتَانَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْغِطْرِيفِيِّ. قال الخطيب: أنشدنى لنفسه قوله:
قَالُوا اقْتَصِدْ فِي الْجُودِ إِنَّكَ مُنْصِفٌ ... عَدْلٌ وَذُو الْإِنْصَافِ لَيْسَ يَجُورَ
فَأَجَبْتُهُمْ إِنِّي سُلَالَةُ مَعْشَرٍ ... لَهُمْ لِوَاءٌ فِي النَّدَى مَنْشُورُ
تاللَّه إني شائد ما قدموا ... جَدِّي الرَّشِيدُ وَقَبْلَهُ الْمَنْصُورُ
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ أَبُو الْقَاسِمِ الشاعر المعروف بالمطرز، ومن شعره قوله
يا عبدكم لَكَ مِنْ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ ... إِنْ كُنْتَ نَاسِيَهَا فاللَّه أَحْصَاهَا
لَا بُدَّ يَا عَبْدُ مِنْ يوم تقوم به ... وَوَقْفَةٍ لَكَ يُدْمِي الْقَلْبَ ذِكْرَاهَا
إِذَا عَرَضْتُ عَلَى قَلْبِي تَذَكُّرَهَا ... وَسَاءَ ظَنِّي فَقُلْتُ اسْتَغْفِرِ الله
محمد بن الحسن بن على
ابن عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو سَعْدٍ الْوَزِيرُ، وَزَرَ لِلْمَلِكِ جلال الدولة سِتَّ مَرَّاتٍ، ثُمَّ كَانَ مَوْتُهُ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عمر فيها عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظُ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ الْخَطِيبُ: قَدِمَ بَغْدَادَ وَأَظْهَرَ الزُّهْدَ وَالتَّقَشُّفَ وَالْوَرَعَ، وَعُزُوفَ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا، فَافْتَتَنَ النَّاسُ بِهِ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ إنه بعد حين كان(12/56)
يعرض عليه الشيء فيقبله، فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ، وَلَبِسَ الثِّيَابَ النَّاعِمَةَ، وَجَرَتْ لَهُ أُمُورٌ، وَكَثُرَتْ أَتْبَاعُهُ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْغَزْوَ فاتبعه نفر كثير، فعسكر بظاهر البلد، وَكَانَ يُضْرَبُ لَهُ الطَّبْلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وسار إلى ناحية أَذْرَبِيجَانَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَضَاهَى أَمِيرَ تلك الناحية، وكانت وفاته لك فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ حَدَّثَ بِبَغْدَادَ وَكَتَبْتُ عَنْهُ أَحَادِيثَ يَسِيرَةً، وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أصحابنا عنه بشيء يدل على ضعفه، وأنشد هُوَ لِبَعْضِهِمْ:
إِذَا مَا أَطَعْتَ النَّفْسَ فِي كل لذة ... نسبت إلى غير الحجى والتكرم
إذا ما أجبت الناس فِي كُلِّ دَعْوَةٍ ... دَعَتْكَ إِلَى الْأَمْرِ الْقَبِيحِ المحرم
المظفر بن الحسين
ابن عُمَرَ بْنِ بُرْهَانَ، أَبُو الْحَسَنِ الْغَزَّالُ، سَمِعَ محمد بن المظفر وغيره، وكان صدوقا.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْخَطَّابِ الحنبلي الشاعر، من شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
مَا حَكَمَ الْحُبُّ فَهْوَ مُمْتَثَلُ ... وَمَا جَنَاهُ الْحَبِيبُ مُحْتَمَلُ
يَهْوَى وَيَشْكُو الضَّنَى وَكُلُّ هَوًى ... لَا يُنْحِلُ الْجِسْمَ فَهْوَ مُنْتَحَلُ
وَقَدْ سَافَرَ إِلَى الشَّامِ فَاجْتَازَ بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ فامتدحه أبو العلاء المعرى بأبيات، فأجابه مرتجلا عَنْهَا.
وَقَدْ كَانَ حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ حِينَ سَافَرَ، فما رجع إلى بغداد إلا وهو أعمى. توفى في ذي القعدة منها وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الرَّفْضِ فاللَّه أَعْلَمُ.
الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ
الْحُسَيْنُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدٍ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، أَخَذَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ، وَشَرَحَ الْفُرُوعَ لِابْنِ الحداد، وقد شرحها قبله شيخه، وقبله الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَشَرَحَ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ كِتَابَ التَّلْخِيصِ لِابْنِ الْقَاصِّ، شَرْحًا كَبِيرًا، وله كتاب المجموع، ومنه أخذ الْغَزَّالِيُّ فِي الْوَسِيطِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهُوَ أول من جمع بين طريقة العراقيين والخراسانيين. توفى سنة بضع وثلاثين وأربعمائة
ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة
في هذه السنة توفى الملك أبو كاليجار في جمادى الأولى منها، صاحب بغداد، مرض وَهُوَ فِي بَرِّيَّةٍ، فَفُصِدَ فِي يَوْمٍ ثَلَاثَ مرات، وحمل في محفة فمات ليلة الخميس، ونهبت الْغِلْمَانُ الْخَزَائِنَ، وَأَحْرَقَ الْجَوَارِي الْخِيَامَ، سِوَى الْخَيْمَةِ التي هو فيها، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو نَصْرٍ، وَسَمَّوْهُ الْمَلِكَ الرحيم، ودخل دَارِ الْخِلَافَةِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ سَبْعَ خِلَعٍ، وَسَوَّرَهُ وَطَوَّقَهُ وَجَعَلَ على رأسه التاج والعمامة السوداء، وَوَصَّاهُ الْخَلِيفَةُ، وَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ وَجَاءَ النَّاسُ ليهنئوه. وَفِيهَا دَارَ السُّورُ عَلَى شِيرَازَ، وَكَانَ دَوْرُهُ اثنى عشر(12/57)
أَلْفَ ذِرَاعٍ، وَارْتِفَاعُهُ ثَمَانِيَةَ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ، وَفِيهِ أَحَدَ عَشَرَ بَابًا. وَفِيهَا غَزَا إبراهيم ابن نيال بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمَ مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ، وَأَرْبَعَةَ آلاف درع، وقيل تسع عشرة أَلْفَ دِرْعٍ. وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ إلا خمسة عشر يوما، وجمل ما غنم عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ عَجَلَةٍ. وَفِيهَا خُطِبَ لِذَخِيرَةِ الدين أبى العباس أحمد بْنِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، عَلَى الْمَنَابِرِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَحُيِّيَ بِذَلِكَ. وَفِيهَا اقْتَتَلَ الرَّوَافِضُ وَالسُّنَّةُ، وَجَرَتْ بِبَغْدَادَ فِتَنٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ عيسى بن المقتدر
أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ، وُلِدَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ مِنْ مُؤَدِّبِهِ أَحْمَدَ بن منصور السكرى، وأبى الأزهر عبد الوهاب الْكَاتِبِ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا، حَافِظًا لِأَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ، عالما بأيام الناس صالحا، أعرض عن الخلافة مع قدرته عليها، وآثر بها القادر. توفى فيها عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ بباب حرب، فَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حنبل.
هبة اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَاهِينَ، سَمِعَ من أبى بكر بن ملك، وابن ماسى والبرقاني. قال الخطيب: كتبت عنه وكان صدوقا، ولد فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي ربيع الآخر منها، ودفن بباب حرب
على بن الحسن
ابن محمد بن المنتاب أبو محمد الْقَاسِمِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي عُثْمَانَ الدَّقَّاقُ. قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ الْقَطِيعِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا، صَدُوقًا دَيِّنًا، حَسَنَ الْمَذْهَبِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بن أبى الفرج
الوزير الْمُلَقَّبُ بِذِي السَّعَادَاتِ، وَزَرَ لِأَبِي كَالِيجَارَ بِفَارِسَ وَبَغْدَادَ، وَكَانَ ذَا مُرُوءَةٍ غَزِيرَةٍ، مَلِيحَ الشِّعْرِ وَالتَّرَسُّلِ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ كُتِبَ إِلَيْهِ فِي رَجُلٍ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَلَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يُقَارِبُ مِائَةَ أَلْفِ دينار، فكتب إليه الموصى، وقيل غيره: إن فلانا قد مات وخلف ولدا عمره ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَلَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يُقَارِبُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَإِنْ رَأَى الْوَزِيرُ أَنْ يقترض هذا المال إلى حين بلوغ الطفل. فكتب الوزير على ظهر الورقة: المتوفى رحمه الله، واليتيم جَبَرَهُ اللَّهُ، وَالْمَالُ ثَمَّرَهُ اللَّهُ، وَالسَّاعِي لَعَنَهُ الله، ولا حاجة بنا إِلَى مَالِ الْأَيْتَامِ. اعْتُقِلَ ثُمَّ قُتِلَ فِي رمضان منها، عن إحدى وخمسين سنة.
محمد بن أحمد بن إبراهيم
ابن غَيْلَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَيْلَانَ بْنِ حليم بن غيلان، أخو طالب البزار، يروى عَنْ جَمَاعَةٍ وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، كَانَ صَدُوقًا دَيِّنًا صَالِحًا، قَوِيَّ النَّفْسِ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ، كَانَ يَمْلِكُ ألف دينار، وكان يَصُبُّهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي حِجْرِهِ فَيُقَبِّلُهَا ثُمَّ يردها إلى موضعها، وقد خرج له(12/58)
الدار قطنى الأجزاء الغيلانيات، وهي سماعنا. توفى يوم الاثنين سادس شوال منها عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَيُقَالُ إِنَّهُ بَلَغَ المائة فاللَّه أَعْلَمُ.
الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ
وَاسْمُهُ الْمَرْزُبَانُ بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة، توفى عن أربعين سنة وأشهر، وَلِيَ الْعِرَاقَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَنُهِبَتْ له قلعة كان له فيها من المال مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ أَبُو نَصْرٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ تُقُدِّمَ إِلَى أَهْلِ الْكَرْخِ أن لا يعملوا بدع النوح، فجرى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ مَا يَزِيدُ على الحد، من الجراح والقتل، وبنى أهل الكرخ سورا على الكرخ، وَبَنَى أَهْلُ السُّنَّةِ سُورًا عَلَى سُوقِ الْقَلَّائِينَ، ثم نقض كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَبْنِيَتَهُ، وَحَمَلُوا الْآجُرَّ إِلَى مَوَاضِعَ بِالطُّبُولِ وَالْمَزَامِيرِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ مُفَاخَرَاتٌ فِي ذلك، وسخف لا تنحصر ولا تنضبط، وإنشاد أشعار في فضل الصحابة. وثلبهم، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. ثُمَّ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ فِتَنٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَأَحْرَقُوا دورا كثيرة جدا. وفيها وقعت وحشة بين الملك طغرلبك وبين أخيه، فجمع أخوه جموعا كثيرة فاقتتل هو وأخوه طُغْرُلْبَكُ، ثُمَّ أَسَرَهُ مِنْ قَلْعَةٍ قَدْ تَحَصَّنَ بها، بعد محاصرة أربعة أيام، فاستنزله منها مقهورا، فأحسن إليه وأكرمه، وأقام عنده مُكَرَّمًا، وَكَتَبَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى طُغْرُلْبَكَ فِي فِدَاءِ بَعْضِ مُلُوكِهِمْ مِمَّنْ كَانَ أَسَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بن نيال، وبذل له مالا كثيرا، فبعثه إليه مكرما من غير عوض، اشترط عليه فأرسل إليه ملك الروم هدايا كثيرة، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَأُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ وَالْجُمُعَةُ، وَخُطِبَ فِيهِ لِلْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ، فَبَلَغَ هَذَا الْأَمْرُ الْعَجِيبُ سَائِرَ الْمُلُوكِ فَعَظَّمُوا الْمَلِكَ طُغْرُلْبَكَ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَخَطَبَ لَهُ نَصْرُ الدَّوْلَةِ بِالْجَزِيرَةِ. وَفِيهَا وَلِيَ مَسْعُودُ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ الْمُلْكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَكَانَ صَغِيرًا، فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى عَمِّهِ عَلِيِّ بْنِ مَسْعُودٍ، وهذا أمر غريب جدا. وَفِيهَا مَلَكَ الْمِصْرِيُّونَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَأَجْلَوْا عَنْهَا صَاحِبَهَا ثُمَالَ بْنَ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ. وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَبَيْنَ بَنِي عُقَيْلٍ حَرْبٌ. وَفِيهَا مَلَكَ الْبَسَاسِيرِيُّ الْأَنْبَارَ مِنْ يَدِ قِرْوَاشٍ فَأَصْلَحَ أُمُورَهَا. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا سَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ إلى طريق خراسان وقصد ناحية الدوران وملكها، وغنم مالا كثيرا كان فيها، وقد كان سُعْدَى بْنُ أَبِي الشَّوْكِ قَدْ حَصَّنَهَا، قَالَ ابن الجوزي: في ذي الحجة منها ارتفعت سحابة سوداء فَزَادَتْ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظَهَرَ فِي جَوَانِبِ السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس وَخَافُوا وَأَخَذُوا فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَانْكَشَفَ فِي أثناء اللَّيْلِ بَعْدَ سَاعَةٍ، وَكَانَتْ قَدْ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا من الأشجار، وهدمت رواشن كثيرة في دَارِ الْخِلَافَةِ وَدَارِ الْمَمْلَكَةِ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ من أهل العراق.(12/59)
وفيها توفى من الأعيان.
أحمد بن محمد بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِالْعَتِيقِيِّ، نِسْبَةً إلى جدله كَانَ يُسَمَّى عَتِيقًا، سَمِعَ مِنِ ابْنِ شَاهِينَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ صَدُوقًا. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا وقد جاوز التسعين.
على بن الحسن
أبو القاسم العلويّ ويعرف بابن محيي السنة. قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ مِنِ ابْنِ مُظَفَّرٍ وَكَتَبَ عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا دَيِّنًا حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، يُوَرِّقُ بِالْأُجْرَةِ وَيَأْكُلُ مِنْهُ، وَيَتَصَدَّقُ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ القاضي الماوردي
يكنى أبا الفائر شَهِدَ عِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ فَأَجَازَ شَهَادَتَهُ احْتِرَامًا لِأَبِيهِ، تُوُفِّيَ فِي المحرم منها.
الحافظ أبو عبد الله الصوري
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محمد أبو عبد الله الصوري الحافظ، طلب الحديث بعد ما كبر وأسن، ورحل في طلبه إِلَى الْآفَاقِ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ وَاسْتَفَادَ عَلَى الحافظ عبد الغنى المصري، وكتب عن عبد الغنى شيئا من تَصَانِيفِهِ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، هِمَّةً فِي الطَّلَبِ وَهُوَ شَابٌّ ثُمَّ كَانَ مَنْ أقوى الناس على العمل الصالح عزيمة في حال كبره، كان يسرد الصوم إِلَّا يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ حَسَنَ الْخُلُقِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ إحدى عينيه، وكان يَكْتُبُ بِالْأُخْرَى الْمُجَلَّدَ فِي جُزْءٍ. قَالَ أَبُو الحسن الطُّيُورِيِّ: يُقَالُ إِنَّ عَامَّةَ كُتُبِ الْخَطِيبِ سِوَى التَّارِيخِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كُتُبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ كَانَ قَدْ مَاتَ الصُّورِيُّ وَتَرَكَ كُتُبَهُ اثْنَيْ عَشَرَ عِدْلًا عِنْدَ أَخِيهِ، فَلَمَّا صَارَ الخطيب أعطا أَخَاهُ شَيْئًا وَأَخَذَ بَعْضَ تِلْكَ الْكُتُبَ فَحَوَّلَهَا في كتبه، ومن شعره:
تولى الشباب بريعانه ... وأتى الْمَشِيبُ بِأَحْزَانِهِ
فَقَلْبِي لِفُقْدَانِ ذَا مُؤْلَمٌ ... كَئِيبٌ لهذا ووجدانه
وإن كان ما جار في حكمه ... وَلَا جَاءَ فِي غَيْرِ إِبَّانِهِ
وَلَكِنْ أَتَى مُؤْذِنًا بِالرَّحِيلِ ... فَوَيْلِي مِنْ قُرْبِ إِيذَانِهِ
وَلَوْلَا ذنوب تحملتها ... لما راعني إِتْيَانِهِ
وَلَكِنَّ ظَهْرِي ثَقِيلٌ بِمَا ... جَنَاهُ شَبَابِي بِطُغْيَانِهِ
فَمَنْ كَانَ يَبْكِي شَبَابًا مَضَى ... وَيَنْدُبُ طيب زمانه
فليس بكائي وما قد ترون ... مِنِّي لِوَحْشَةِ فُقْدَانِهِ
وَلَكِنْ لِمَا كَانَ قَدْ جره ... عليّ بوثبات شيطانه
فويلى وويحى إِنْ لَمْ يَجُدْ ... عَلَيَّ مَلِيكِي بِرِضْوَانِهِ(12/60)
ولم يتغمد ذنوبي وما قد ... جنيت برحمته وغرانه
وَيَجْعَلْ مَصِيرِي إِلَى جَنَّةٍ ... يَحِلُّ بِهَا أَهْلَ رضوانه وغفرانه
فان كنت ما لي من طاعة ... سِوَى حُسْنِ ظَنِّي بِإِحْسَانِهِ
وَأَنِّي مُقِرٌّ بِتَوْحِيدِهِ ... عَلِيمٌ بِعِزَّةِ سُلْطَانِهِ
أُخَالِفُ فِي ذَاكَ أَهْلَ الهوى ... وَأَهْلَ الْفُسُوقِ وَعُدْوَانِهِ
وَأَرْجُو بِهِ الْفَوْزَ فِي منزل ... معد مهيا لسكانه
ولن يجمع الله أهل الجحود ... د ومن أقر بنيرانه
فَهَذَا يُنَجِّيهِ إِيمَانُهُ ... وَهَذَا يَبُوءُ بِخُسْرَانِهِ
وَهَذَا ينعم في جنة ... وذاك قرين لشيطانه
ومن شعره أيضا:
قُلْ لِمَنْ عَانَدَ الْحَدِيثَ وَأَضْحَى ... عَائِبًا أَهْلَهُ وَمَنْ يَدَّعِيهِ
أَبِعِلْمٍ تَقُولُ هَذَا أَبِنْ لِي ... أَمْ بِجَهْلٍ فَالْجَهْلُ خُلْقُ السَّفِيهِ
أَيُعَابُ الَّذِينَ هم حفظوا الدين ... مِنَ التُّرَّهَاتِ وَالتَّمْوِيهِ
وَإِلَى قَوْلِهِمْ وَمَا قَدْ رووه ... راجع كل عالم وفقيه
كان سبب موته أنه افتصد فورمت يده، وعلى ما ذكر أن ريشة الفاصد كانت مَسْمُومَةً لِغَيْرِهِ فَغَلِطَ فَفَصَدَهُ بِهَا، فَكَانَتْ فِيهَا منيته، فحمل إلى المارستان فمات به، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ جَامِعِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الستين رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وأربعين وأربعمائة
فِيهَا فَتَحَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ أَصْبَهَانَ بَعْدَ حِصَارِ سَنَةٍ، فَنَقَلَ إِلَيْهَا حَوَاصِلَهُ مِنَ الرَّيِّ وَجَعَلَهَا دَارَ إِقَامَتِهِ، وَخَرَّبَ قِطْعَةً مِنْ سُورِهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى السُّورِ مَنْ تَضْعُفُ قُوَّتُهُ، وإنما حصننى عَسَاكِرِي وَسَيْفِي، وَقَدْ كَانَ فِيهَا أَبُو مَنْصُورٍ قرامز بن علاء الدولة أبى جعفر بن كلويه، فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا وَأَقْطَعَهُ بَعْضَ بِلَادِهَا. وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ إِلَى الْأَهْوَازِ وَأَطَاعَهُ عَسْكَرُ فَارِسَ. وفيها استولت الخوارج على عمان وأخربوا دار الامارة، وَأَسَرُوا أَبَا الْمُظَفَّرِ بْنَ أَبِي كَالِيجَارَ. وَفِيهَا دَخَلَتِ الْعَرَبُ بِإِذْنِ الْمُسْتَنْصِرِ الْفَاطِمِيِّ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ، وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا عِدَّةَ سِنِينَ. وَفِيهَا اصْطَلَحَ الرَّوَافِضُ وَالسُّنَّةُ بِبَغْدَادَ، وَذَهَبُوا كُلُّهُمْ لِزِيَارَةِ مَشْهَدِ عَلَيٍّ وَمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَتَرَضَّوْا فِي الكرخ على الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ، وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا عَجِيبٌ جِدًّا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّقِيَّةِ، وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جَدًّا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أهل العراق.(12/61)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ
أَبُو الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْقَزْوِينِيِّ، وُلِدَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ فِي سَنَةِ ستين وثلاثمائة، وهي الليلة التي مات فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، وَسَمِعَ أَبَا بَكْرِ بن شاذان وأبا حفص بن حَيَّوَيْهِ، وَكَانَ وَافِرَ الْعَقْلِ، مِنْ كِبَارِ عِبَادِ الله الصالحين، وله كرامات كثيرة، وكان يقرأ القرآن ويروى الحديث، ولا يخرج إلا إلى الصلاة. توفى في شوال منها. فغلقت بغداد لموته يَوْمَئِذٍ، وَحَضَرَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا رَحِمَهُ اللَّهُ.
عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ
الثَّمَانِينِيُّ النَّحْوِيُّ الضَّرِيرُ. شَارِحُ اللَّمْعِ، كَانَ فِي غَايَةِ الْعِلْمِ بالنحو، وكان يأخذ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ عَلَى ابْنِ جِنِّيٍّ، وَشَرَحَ كَلَامَهُ، وَكَانَ مَاهِرًا فِي صناعة النحو، قال ونسبته إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ نَوَاحِي جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْجَبَلِ الْجُودِيِّ، يُقَالُ لَهَا ثَمَانِينَ، بِاسْمِ الثَّمَانِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ في السفينة.
قِرْوَاشُ بْنُ مُقَلَّدٍ
أَبُو الْمَنِيعِ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ والكوفة وغيرها، كَانَ مِنَ الْجَبَّارِينَ، وَقَدْ كَاتَبَهُ الْحَاكِمُ صَاحِبُ مِصْرَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَاسْتَمَالَهُ إِلَيْهِ، فَخَطَبَ له ببلاده ثم تركه، واعتذر إلى الخليفة فَعَذَرَهُ، وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْجَبَّارُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ في النكاح، ولامته العرب، فقال: وأي شيء عملته؟ إنما عملت ما هُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرِيعَةِ [1] وَقَدْ نُكِبَ فِي أَيَّامِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَنُهِبَتْ حَوَاصِلُهُ، وَحِينَ تُوُفِّيَ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ قُرَيْشُ بْنُ بدران بن مقلد.
مودود بن مسعود
ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة: توفى فيها وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ عَمُّهُ عَبْدُ الرَّشِيدِ بن محمود
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَ الْحَرْبُ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّوَافِضَ نَصَبُوا أَبْرَاجًا وَكَتَبُوا عَلَيْهَا بِالذَّهَبِ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ، فَمَنْ رَضِيَ فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ أَبَى فَقَدْ كَفَرَ. فَأَنْكَرَتِ السُّنَّةُ إقران عَلَيٍّ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا، فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ إِلَى رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقُتِلَ رَجُلٌ هَاشِمِيٌّ فَدُفِنَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَرَجَعَ السُّنَّةُ مِنْ دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر وأحرقوا ضريح موسى ومحمد الجواد، وقبور بنى بويه، وقبور مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَأُحْرِقَ قَبْرُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَمُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، وَأُمِّهِ زُبَيْدَةَ، وَقُبُورٌ كثيرة جدا، وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود، وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضا بمفاسد كَثِيرَةً، وَبَعْثَرُوا قُبُورًا قَدِيمَةً، وَأَحْرَقُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الصَّالِحِينَ، حَتَّى هَمُّوا بِقَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَمَنَعَهُمُ النَّقِيبُ، وَخَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ، وَتَسَلَّطَ على الرافضة عيار يقال له القطيعي، وكان يتبع رءوسهم وكبارهم فيقتلهم جهارا وغيلة، وَعَظُمَتِ الْمِحْنَةُ بِسَبَبِهِ جِدًّا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الشَّجَاعَةِ وَالْبَأْسِ وَالْمَكْرِ، ولما بلغ ذلك دبيس بن
__________
[1] وفي النجوم الزاهرة «خبروني، ما الّذي نستعمله مما تبيحه الشريعة؟ فهذا من ذاك» .(12/62)
عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ- وَكَانَ رَافِضِيًّا- قَطَعَ خُطْبَةَ الخليفة، ثم روسل فأعادها. وفي رمضان منها جاءت من الملك طغرلبك رسل شكر للخليفة على إحسانه إِلَيْهِ بِمَا كَانَ بَعَثَهُ لَهُ مِنَ الْخِلَعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِلَى الْحَاشِيَةِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَإِلَى رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَ طُغْرُلْبَكُ حِينَ عَمَّرَ الري وخرب فيها أماكن وَجَدَ فِيهَا دَفَائِنَ كَثِيرَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ، فعظم شأنه بذلك، وقوى ملكه بسببه.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو الْحَسَنِ الشَّاعِرُ الْبَصْرَوِيُّ، نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ دُونَ عُكْبَرَا يُقَالُ لَهَا بُصْرَى بِاسْمِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ حَوْرَانَ، وَقَدْ سَكَنَ بَغْدَادَ، وَكَانَ مُتَكَلِّمًا مَطْبُوعًا، لَهُ نوادر، ومن شعره قوله:
نرى الدنيا وشهوتها فنصبوا ... وما يخلو من الشهوات قلب
فَلَا يَغْرُرْكَ زُخْرُفُ مَا تَرَاهُ ... وَعَيْشٌ لَيِّنُ الأعطاف رطب
فُضُولُ الْعَيْشِ أَكْثَرُهَا هُمُومٌ ... وَأَكْثَرُ مَا يَضُرُّكَ ما تحب
إِذَا مَا بُلْغَةٌ جَاءَتْكَ عَفْوًا ... فَخُذْهَا فَالْغِنَى مَرْعَى وَشُرْبُ
إِذَا اتَّفَقَ الْقَلِيلُ وَفِيهِ سِلْمٌ ... فَلَا تُرِدِ الْكَثِيرَ وَفِيهِ حَرْبُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة أربع وأربعين وأربعمائة
فيها كتبت تذكرة الخلفاء المصريين وأنهم أدعياء كذبة لا نسب لهم صحيحة إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نسخا كثيرة، وكتب فيها الفقهاء والقضاة والأشراف. وفيها كانت زلازل عظيمة في نواحي أَرَّجَانَ وَالْأَهْوَازِ وَتِلْكَ الْبِلَادِ، تَهَدَّمَ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ كثير من العمران وشرفات القصور، وحكى بعض من يعتد قَوْلُهُ أَنَّهُ انْفَرَجَ إِيوَانُهُ وَهُوَ يُشَاهِدُ ذَلِكَ، حَتَّى رَأَى السَّمَاءَ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا تجددت الحرب بين أهل السنة والروافض، وَأَحْرَقُوا أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلَائِقُ، وَكَتَبُوا عَلَى مَسَاجِدِهِمْ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ، وَأَذَّنُوا بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَاسْتَمَرَّتِ الْحَرْبُ بينهم، وتسلط القطيعي العيار على الروافض، بحيث كان لا يَقِرَّ لَهُمْ مَعَهُ قَرَارٌ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الأقدار.
وفيها توفى من الأعيان.
الحسن بن على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ وَهْبِ بن شنبل بن قرة بْنِ وَاقِدٍ، أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ الْوَاعِظُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُذْهِبِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيِّ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ من أبى بكر بن ماسى وابن شاهين والدار قطنى وخلق، وكان دينا خيرا، وذكر الخطيب أنه كان صحيح السماع لمسند أَحْمَدَ مِنَ الْقَطِيعِيِّ(12/63)
غَيْرَ أَنَّهُ أَلْحَقَ اسْمَهُ فِي أَجْزَاءٍ. قَالَ ابن الجوزي: وليس هذا بقدح في سماعه، لِأَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ سَمَاعُهُ جَازَ أَنْ يُلْحِقَ اسْمَهُ فِيمَا تَحَقَّقَ سَمَاعُهُ لَهُ، وَقَدْ عَابَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ أَشْيَاءَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا.
عَلِيُّ بن الحسين
ابن محمد، أبو الحسن المعروف بالشاشي البغدادي، وقد أقام بالبصرة واستحوذ هو وعمه على أَهْلِهَا، وَعَمِلَ أَشْيَاءَ مِنَ الْحِيَلِ يُوهِمُ بِهَا أَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَهُوَ فِي ذلك كاذب قَبَّحَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَ عَمَّهُ، وَقَدْ كَانَ مَعَ هذا رافضيا خبيثا قرمطيا، توفى في هذا العام فلله الحمد والشكر والانعام.
الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أحمد، أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ الْقَاضِي، أَحَدُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ سَمِعَ الدار قطنى وَغَيْرِهِ، كَانَ عَالِمًا فَاضِلًا سَخِيًّا، تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ لَهُ فِي دَارِهِ مَجْلِسٌ لِلْمُنَاظَرَةِ، وتوفى لما كف بصره بالموصل وهو قاضيها، في ربيع الأول منها وقد بلغ خمسا وثمانين سنة، سامحه الله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة
فيها تجدد الشر والقتال والحريق بين السنة والروافض، وسرى الأمر وتفاقم الحال. وفيها وردت الأخبار بأن المعز الفاطمي عازم عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ. وَفِيهَا نُقِلَ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ بكذا وكذا، وذكر بشيء من الأمور التي لا تليق بالدين والسنة، فَأَمَرَ بِلَعْنِهِ، وَصَرَّحَ أَهْلُ نَيْسَابُورَ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، فَضَجَّ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ عَبْدُ الكريم بن هوازن من ذلك، وصنف رسالة في شِكَايَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْمِحْنَةِ، وَاسْتَدْعَى السُّلْطَانُ جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِ الْأَشَاعِرَةِ مِنْهُمُ الْقُشَيْرِيُّ فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أُنْهِي إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. فأنكروا ذلك، وأن يكون الأشعري قال ذلك. فقال السلطان: نحن إنما لعنا من يقول هذا. وجرت فتنة عظيمة طويلة. وفيها استولى فولا بسور الملك أبى كاليجار على شيراز، وأخرج منها أخاه أبا سَعْدٍ، وَفِي شَوَّالٍ سَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى أَكْرَادٍ وأعراب أفسدوا في الأرض فقهرهم وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أهل العراق.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ رَوْحٍ
أبو الحسن النَّهْرَوَانِيُّ، كَانَ يَنْظُرُ فِي الْعِيَارِ بِدَارِ الضَّرْبِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عَلَى شاطئ النَّهْرَوَانِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَتَغَنَّى فِي سَفِينَةٍ مُنْحَدِرَةٍ يقول:
وَمَا طَلَبُوا سِوَى قَتْلِي ... فَهَانَ عَلَيَّ مَا طلبوا
قال فاستوقفته وقلت: أضف إليه غيره فقال:
على قتلى الأحبة ... في التمادي، بالجفا غلبوا(12/64)
وبالهجران من عيني ... طيب النوم قَدْ سَلَبُوا
وَمَا طَلَبُوا سِوَى قَتْلِي ... فَهَانَ على ما طلبوا
إسماعيل بن على
ابن الحسين بن محمد بن زنجويه، أبو سعيد الرَّازِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالسَّمَّانِ، شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَكَتَبَ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ شَيْخٍ، وَكَانَ عالما عارفا فَاضِلًا مَعَ اعْتِزَالِهِ، وَمِنْ كَلَامِهِ: مَنْ لَمْ يَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَمْ يَتَغَرْغَرْ بِحَلَاوَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، عَالِمًا بِالْخِلَافِ وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فَأَطْنَبَ فِي شُكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
عُمَرُ بْنُ الشَّيْخِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَطِيَّةَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ شَاهِينَ، وَكَانَ صدوقا يكنى بأبي جعفر.
محمد بن أحمد
ابن عثمان بن الفرج الْأَزْهَرِ، أَبُو طَالِبٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّوَادِيِّ، وَهُوَ أَخُو أَبِي الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيِّ تُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وثمانين سنة.
محمد بن أبى تمام
الزينبي نقيب النقباء، قام ببغداد بعد أبيه مقامه بالنقابة.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة
فِيهَا غَزَا السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ بِلَادَ الرُّومِ بَعْدَ أَخْذِهِ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ، فَغَنِمَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَسَبَى وَعَمِلَ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، ثُمَّ عَادَ سَالِمًا فأقام بأذربيجان سَنَةً. وَفِيهَا أَخَذَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ الْأَنْبَارَ، وخطب بها وبالموصل لطغرلبك، وأخرج منها نواب البساسيري. وفيها دخل البساسيري بَغْدَادَ مَعَ بَنِي خَفَاجَةَ مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْوَقْعَةِ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ آثَارُ النَّفْرَةِ لِلْخِلَافَةِ، فَرَاسَلَهُ الْخَلِيفَةُ لِتَطِيبَ نَفْسُهُ، وَخَرَجَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَى الْأَنْبَارِ فَأَخَذَهَا، وَكَانَ مَعَهُ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، وَخَرَّبَ أَمَاكِنَ وَحَرَّقَ غَيْرَهَا ثُمَّ أذن له الخليفة فِي الدُّخُولِ إِلَى بَيْتِ النُّوبَةِ لِيَخْلَعَ عَلَيْهِ، فجاء إلى أن حاذى بيت النوبة فقبل الأرض وانصرف إلى منزله، وَلَمْ يَعْبُرْ، فَقَوِيَتِ الْوَحْشَةُ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ من أهل العراق فيها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ جعفر بن محمد
ابن دَاوُدَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمَاسِيُّ، سَمِعَ ابْنَ شاهين وابن حيويه والدار قطنى، وكان ثقة مأمونا مَشْهُورًا بِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَافْتِقَادِ الْفُقَرَاءِ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ قَدْ أُرِيدَ عَلَى الشَّهَادَةِ فأبى ذلك، وكان له فِي كُلِّ شَهْرٍ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ نَفَقَةً لِأَهْلِهِ.(12/65)
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ اللَّبَّانِ، أحد تلامذة أبى حامد الأسفراييني، ولى قضاء الكرخ، وكان يصلى بالناس التراويح، ثم يقوم بعد انصرافهم فيصلي إلى أن يطلع الفجر، وربما انْقَضَى الشَّهْرُ عَنْهُ وَلَمْ يَضْطَجِعْ إِلَى الْأَرْضِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وأربعمائة
فِيهَا مَلَكَ طُغْرُلْبَكَ بَغْدَادَ، وَهُوَ أَوَّلُ مُلُوكِ السلجوقية، ملكها وبلاد العراق. وفيها تأكدت الوحشة بين الخليفة والبساسيري، وَاشْتَكَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْهُ، وَأَطْلَقَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ عِبَارَتَهُ فِيهِ، وَذَكَرَ قَبِيحَ أَفْعَالِهِ، وَأَنَّهُ كَاتَبَ الْمِصْرِيِّينَ بالطاعة، وخلع ما كان عليه من طاعة الْعَبَّاسِيِّينَ، وَقَالَ الْخَلِيفَةُ وَلَيْسَ إِلَّا إِهْلَاكُهُ. وَفِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِنُوَاحِي الْأَهْوَازِ حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ بشيراز بِأَلْفِ دِينَارٍ. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ السُّنَّةِ والرافضة على العادة، فاقتتلوا قتالا مُسْتَمِرًّا، وَلَا تَمَكَّنَ الدَّوْلَةُ أَنْ يَحْجِزُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فقوى جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات.
قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ أَرْسَلَانُ التُّرْكِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْبَسَاسِيرِيِّ قَدْ عَظُمَ أَمْرُهُ وَاسْتَفْحَلَ، لِعَدَمِ أَقْرَانِهِ مِنْ مقدمي الأتراك، واستولى على البلاد وطار اسمه، وخافته أُمَرَاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَنَابِرِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْأَهْوَازِ وَنَوَاحِيهَا، وَلَمْ يَكُنِ للخليفة قطع ولا وصل دُونَهُ، ثُمَّ صَحَّ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ سُوءُ عَقِيدَتِهِ، وشهد عنده جماعة من الأتراك أنه عازم على نهب دار الخلافة، وأنه يريد القبض على الخليفة، فعند ذلك كاتب الخليفة مُحَمَّدَ بْنَ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ الْمُلَقَّبَ طُغْرُلْبَكَ يَسْتَنْهِضُهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَانْفَضَّ أَكْثَرُ مَنْ كَانَ مَعَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَعَادُوا إِلَى بَغْدَادَ سَرِيعًا، ثُمَّ أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى قَصْدِ دَارِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَهِيَ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَأَحْرَقُوهَا، وَهَدَمُوا أبنيتها، ووصل السلطان طُغْرُلْبَكُ إِلَى بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْحُجَّابُ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا ثُمَّ بَعْدَهُ لِلْمَلِكِ الرحيم، ثم قطعت خطبة الملك الرحيم، ورفع إلى القلعة معتقلا عليه، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ بَنِي بُوَيْهِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ ولايتهم قريب المائة والعشر سنين، وكان ملك الملك الرحيم لبغداد ست سنين وعشرة أيام، وَنَزَلَ طُغْرُلْبَكُ دَارَ الْمَمْلَكَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عِمَارَتِهَا، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ دُورَ الْأَتْرَاكِ وَكَانَ مَعَهُ ثَمَانِيَةُ أَفْيِلَةٍ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالْعَامَّةِ، ونهب الجانب الشرقي بكمله، وجرت خبطة عَظِيمَةٌ. وَأَمَّا الْبَسَاسِيرِيُّ فَإِنَّهُ فَرَّ مِنَ الْخَلِيفَةِ إلى بِلَادِ الرَّحْبَةِ وَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ بِأَنَّهُ على إقامة الدعوى لَهُ بِالْعِرَاقِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِوِلَايَةِ الرَّحْبَةِ وَنِيَابَتِهِ بها، ليكون على أهبة الأمر الّذي يريده.(12/66)
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ قُلِّدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّامَغَانِيُّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ موت ابن ماكولا، ثم خلع الخليفة عَلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ بَعْدَ دُخُولِهِ بَغْدَادَ بِيَوْمٍ، وَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ ذَخِيرَةُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِ أَبِيهِ فَعَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ بِهِ. وفيها اسْتَوْلَى أَبُو كَامِلٍ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّلَيْحِيُّ الهمدانيّ على أكثر أعمال اليمن، وخطب لِلْفَاطِمِيِّينَ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ. وَفِيهَا كَثُرَ فَسَادُ الغز ونهبوا دواب الناس حتى بيع الثور بخمسة قَرَارِيطَ. وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِمَكَّةَ وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، وأرسل الله عليهم جرادا فَتَعَوَّضُوا بِهِ عَنِ الطَّعَامِ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ من أهل العراق.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ على
ابن جعفر بن على بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دُلَفَ بْنِ أَبِي دُلَفَ العجليّ قاضى القضاة، المعروف بابن ماكولا الشافعيّ، وقد ولى القضاء بالبصرة، ثم ولى قضاء القضاة ببغداد سنة عشرين وأربعمائة في خلافة المقتدر، وأقره ابنه القائم إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، مِنْهَا فِي الْقَضَاءِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ صِيِّنَا دَيِّنًا لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ هَدِيَّةً وَلَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ يُذْكَرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ فَمِنْهُ:
تَصَابَى برهة من بعد شيب ... فما أغنى المشيب عن التَّصَابِي
وَسَوَّدَ عَارِضَيْهِ بِلَوْنِ خَضْبٍ ... فَلَمْ يَنْفَعْهُ تَسْوِيدُ الْخِضَابِ
وَأَبْدَى لِلْأَحِبَّةِ كُلَّ لُطْفٍ ... فَمَا زَادُوا سِوَى فَرْطِ اجْتِنَابِ
سَلَامُ اللَّهِ عَوْدًا بعد بدئ ... على أيام ريعان الشباب
تولى عزمه يوما وأبقى ... بقلبي حسرة ثم اكتئاب
على بن المحسن بن على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَهْمِ أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَتَنُوخُ اسْمٌ لِعِدَّةِ قَبَائِلَ اجْتَمَعُوا بِالْبَحْرَيْنِ، وَتَحَالَفُوا عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّآزُرِ، فَسُمُّوا تنوخا. ولد بالبصرة سنة خمس وخمسين وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ سَنَةَ سَبْعِينَ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ فِي حَدَاثَتِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ صَدُوقًا مُحْتَاطًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وأربعين وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ عَقْدُ الْخَلِيفَةِ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ أَخِي السُّلْطَانِ طغرلبك عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَحَضَرَ هَذَا العقد عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك، وبقية العلويين(12/67)
وقاضى القضاة الدامغانيّ والماوردي، ورئيس الرؤساء ابن المسلمة. فَلَمَّا كَانَ شَعْبَانُ ذَهَبَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ إِلَى الملك طغرلبك وقال له: أمير المؤمنين يقول لك قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) 4: 58 وقد أمرنى أن أنقل الوديعة إِلَى دَارِهِ الْعَزِيزَةِ، فَقَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فَذَهَبَتْ أم الخليفة لدار الملك لِاسْتِدْعَاءِ الْعَرُوسِ، فَجَاءَتْ مَعَهَا وَفِي خِدْمَتِهَا الْوَزِيرُ عميد الملك والحشم، فدخلوا داره وشافه الوزير الخليفة عن عمها وسأله اللطف بها والإحسان إليها، فلما دخلت إليه قبّلت الأرض مرارا بين يديه، فَأَدْنَاهَا إِلَيْهِ وَأَجْلَسَهَا إِلَى جَانِبِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهَا خلعا سنية وتاجا من جوهر ثمين، وأعطاها من الغدمائة ثَوْبٍ دِيبَاجًا، وَقَصَبَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَطَاسَةَ ذَهَبٍ قَدْ نَبَتَ فِيهَا الْجَوْهَرُ وَالْيَاقُوتُ وَالْفَيْرُوزَجُ، وَأَقْطَعَهَا في كل سنة من ضياعه ما يغل اثنا عشر ألف دينار، وغير ذلك.
وفيها أَمَرَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ بِبِنَاءِ دَارِ الْمُلْكِ الْعَضُدِيَّةِ فَخَرِبَتْ مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ فِي عِمَارَتِهَا، وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ أخشابا كثيرة مِنْ دُورِ الْأَتْرَاكِ، وَالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَبَاعُوهُ عَلَى الخبازين والطباخين، وغيرهم.
وفيها رجع غلاء شديد على الناس وخوف ونهب كثير ببغداد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بِحَيْثُ دُفِنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِغَيْرِ غَسْلٍ ولا تكفين، وغلت الأشربة وما تحتاج إليه المرضى كثيرا، واعترى الناس موت كثير، واغبر الجو وفسد الهواء. قال ابن الجوزي: وَعَمَّ هَذَا الْوَبَاءُ وَالْغَلَاءُ مَكَّةَ وَالْحِجَازَ وَدِيَارَ بكر والموصل وبلاد بكر وَبِلَادَ الرُّومِ وَخُرَاسَانَ وَالْجِبَالَ وَالدُّنْيَا كُلَّهَا. هَذَا لَفَظُهُ فِي الْمُنْتَظَمِ. قَالَ:
وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مِصْرَ أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ اللُّصُوصِ نَقَبُوا بَعْضَ الدُّورِ فَوُجِدُوا عِنْدَ الصَّبَاحِ مَوْتَى أَحَدُهُمْ عَلَى بَابِ النَّقْبِ، وَالثَّانِي عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، وَالثَّالِثُ على الثياب التي كورها ليأخذها فلم يمهل.
وفيها أمر رئيس الرؤساء بنصب أعلام سود في الكرخ، فانزعج أهلها لِذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَذِيَّةِ لِلرَّافِضَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُدَافِعُ عَنْهُمْ عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ، وَزِيرُ طُغْرُلْبَكَ. وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَارْتَفَعَتْ سَحَابَةٌ تُرَابِيَّةٌ وذلك ضحى، فأظلمت الدنيا، واحتاج الناس في الأسواق وغيرها إلى السرج.
قال ابن الجوزي: وفي الْعَشْرِ الثَّانِي مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ ظَهَرَ وَقْتَ السحر كوكب لَهُ ذُؤَابَةٌ طُولُهَا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ نَحْوٌ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَفِي عَرْضِ نَحْوِ الذِّرَاعِ، ولبث كذلك إلى النصف من رجب، ثم اضمحل. وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين. وكذلك بغداد لما طلع فيها مُلِكَتْ وَخُطِبَ بِهَا لِلْمِصْرِيِّينَ. وَفِيهَا أُلْزِمَ الرَّوَافِضُ بِتَرْكِ الْأَذَانِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأُمِرُوا أن ينادى مؤذنهم في أذان الصبح، بعد حي على الفلاح: الصَّلَاةُ خَيْرُ مِنَ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ، وَأُزِيلَ مَا كان على أبواب المساجد ومساجدهم مِنْ كِتَابَةِ: مُحَمَّدٌ وَعْلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ، وَدَخَلَ المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ، ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لأن بنى بويه كانوا حكاما، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا، وذهبت دولتهم، وجاء بعدهم قوم آخرون(12/68)
من الأتراك السلجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ، أَبَدًا عَلَى طُولِ الْمَدَى. وَأَمَرَ رئيس الرؤساء الوالي بِقَتْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلَّابِ شَيْخِ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقتل عَلَى بَابِ دُكَّانِهِ، وَهَرَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ ونهبت داره.
وَفِيهَا جَاءَ الْبَسَاسِيرِيُّ قَبَّحَهُ اللَّهُ إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَعَهُ نُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ، فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فاقتتل مع صاحبها قريش ونصره قتلمش بن عَمِّ طُغْرُلْبَكَ، وَهُوَ جَدُّ مُلُوكِ الرُّومِ، فَهَزَمَهُمَا الْبَسَاسِيرِيُّ، وَأَخَذَ الْبَلَدَ قَهْرًا، فَخَطَبَ بِهَا لِلْمِصْرِيِّينَ، وأخرج كاتبه من السجن، وقد كان أظهر الإسلام ظنا منه أنه يَنْفَعُهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ فَقُتِلَ، وَكَذَلِكَ خُطِبَ لِلْمِصْرِيِّينَ فيها بالكوفة وواسط وغيرها من البلاد. وعزم طغرلبك عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ لِمُنَاجَزَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ فَنَهَاهُ الخليفة عن ذَلِكَ لِضِيقِ الْحَالِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ، فَلَمْ يَقْبَلْ فخرج بجيشه قاصدا الموصل بجحافل عَظِيمَةٍ، وَمَعَهُ الْفِيَلَةُ وَالْمَنْجَنِيقَاتُ، وَكَانَ جَيْشُهُ لِكَثْرَتِهِمْ يَنْهَبُونَ الْقُرَى، وَرُبَّمَا سَطَوْا عَلَى بَعْضِ الْحَرِيمِ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فبعث إليه يعتذر لكثرة مَنْ مَعَهُ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَسَلَّمَ عليه فأعرض عنه، فقال:
يا رسول الله لأى شيء تعرض عنى؟ فقال: يُحَكِّمُكَ اللَّهُ فِي الْبِلَادِ ثُمَّ لَا تَرْفُقُ بِخَلْقِهِ وَلَا تَخَافُ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا وَأَمَرَ وَزِيرَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي الْجَيْشِ بِالْعَدْلِ، وَأَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدٌ أَحَدًا.
وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنَ الْمَوْصِلِ فَتَحَ دُونَهَا بِلَادًا، ثُمَّ فَتَحَهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى أَخِيهِ دَاوُدَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ بَكْرٍ فَفَتَحَ أماكن كثيرة هناك.
وَفِيهَا ظَهَرَتْ دَوْلَةُ الْمُلَثَّمِينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَأَظْهَرُوا إِعْزَازَ الدِّينِ وَكَلِمَةِ الْحَقِّ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادٍ كثيرة مِنْهَا سِجِلْمَاسَةُ وَأَعْمَالُهَا وَالسُّوسُ، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَوَّلُ مُلُوكِ الْمُلَثَّمِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ، وَقَدْ أَقَامَ بِسِجِلْمَاسَةُ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ كما سيأتي بيانه، ثم ولى بُعْدَهُ أَبُو نَصْرٍ يُوسُفُ بْنُ تَاشِفِينَ، وَتَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَعَلَا قَدْرُهُ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ.
وَفِيهَا أُلْزِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِلُبْسِ الْغِيَارَ ببغداد، عن أمر السلطان. وَفِيهَا وُلِدَ لِذَخِيرَةِ الدِّينِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ جَارِيَةٍ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِيهَا كَانَ الغلاء والفناء أيضا مستمرين على الناس بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، عَلَى مَا كَانَ عليه الأمر في السنة الماضية، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ من أهل العراق فيها.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَلْكٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْمُؤَدَّبُ، الْمَعْرُوفُ بِالْفَالِيِّ [1] ، صَاحِبُ الْأَمَالِي، وَفَالَةُ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ إِيذَجَ، أقام
__________
[1] لان صاحب الأمالي اسمه أبو على إسماعيل بن القاسم ووفاته سنة 356 فجعله صاحب الأمالي خطأ بلا شك وانما هو الفالى بالفاء كما في النجوم الزاهرة.(12/69)
بالبصرة مدة، وسمع بها من عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَاسْتَوْطَنَهَا، وَكَانَ ثِقَةً فِي نَفْسِهِ، كَثِيرَ الفضائل. ومن شعره الحسن:
لَمَّا تَبَدَّلَتِ الْمَجَالِسُ أَوْجُهًا ... غَيْرَ الَّذِينَ عَهِدْتُ مِنْ عُلَمَائِهَا
وَرَأَيْتُهَا مَحْفُوفَةً بِسِوَى الْأُولَى ... كَانُوا وُلَاةَ صُدُورِهَا وَفَنَائِهَا
أَنْشَدْتُ بَيْتًا سَائِرًا مُتَقَدِّمًا ... وَالْعَيْنُ قَدْ شَرِقَتْ بِجَارِي مَائِهَا
أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ ... وَأَرَى نِسَاءَ الْحَيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا
ومن شعره أيضا:
تَصَدَّرَ لِلتَّدْرِيسِ كُلُّ مُهَوَّسٍ ... بَلِيدٍ تَسَمَّى بِالْفَقِيهِ الْمُدَرِّسِ
فَحَقٌّ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا ... بِبَيْتٍ قَدِيمٍ شَاعَ فِي كُلِّ مَجْلِسِ
لَقَدْ هُزِلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا ... كُلَاهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ محمد الصباغ
الفقيه الشافعيّ، وليس بصاحب الشامل، ذاك متأخر وهذا من تلاميذ أبى حامد الأسفراييني، كانت لَهُ حَلْقَةٌ لِلْفَتْوَى بِجَامِعِ الْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ عِنْدَ قاضى القضاة الدَّامَغَانِيِّ الْحَنَفِيِّ فَقَبِلَهُ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابن شاهين وغيره، وكان ثقة جليل القدر.
هلال بن المحسن
ابن إِبْرَاهِيمَ بْنِ هِلَالٍ، أَبُو الْخَيْرِ الْكَاتِبُ الصَّابِئُ، صَاحِبُ التَّارِيخِ، وَجَدُّهُ أَبُو إِسْحَاقَ الصَّابِئُ صَاحِبُ الرسائل، وكان أبوه صابئيا أيضا، أسلم هلال هذا متأخرا، وحسن إسلامه، وقد سَمِعَ فِي حَالِ كَفْرِهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِمْ يَطْلُبُ الأدب، فلما أسلم نفعه ذلك، وكان ذلك سَبَبَ إِسْلَامِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بِسَنَدِهِ مُطَوَّلًا، أَنَّهُ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ مِرَارًا يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَأْمُرُهُ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ رَجُلٌ عَاقِلٌ، فَلِمَ تَدَعُ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ؟ وَأَرَاهُ آيَاتٍ فِي الْمَنَامِ شَاهَدَهَا فِي الْيَقَظَةِ، فمنها أنه قال له:
إن امرأتك حامل بولد ذكر، فَسَمِّهِ مُحَمَّدًا، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا، فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، وَكَنَّاهُ أبا الحسن، في أشياء كثيرة سردها ابن الجوزي، فأسلم وحسن إسلامه، وكان صدوقا. توفى عن تسعين سنة، منها في الإسلام نيف وأربعون سنة.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة
فِيهَا كَانَ الْغَلَاءُ وَالْفَنَاءُ مُسْتَمِرَّيْنِ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، بِحَيْثُ خَلَتْ أَكْثَرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ على أهلها أبوابها بما فيها، وأهلها موتى فيها، ثم صار المار في الطريق لا يلقى الواحد بعد الواحد وأكل الناس الجيف والنتن مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ، وَوُجِدَ مَعَ امْرَأَةٍ فَخْذُ كلب قد أخضر وشوى رجل صبية(12/70)
في الأتون وأكلها، فقيل وسقط طائر ميت من حائط فاحتوشته خَمْسَةُ أَنْفُسٍ فَاقْتَسَمُوهُ وَأَكَلُوهُ، وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ بُخَارَى أَنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ مُعَامَلَتِهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَأُحْصِيَ من مات في هذا الوباء من تلك البلاد إلى يوم كتب فيه هذا الكتاب بِأَلْفِ أَلْفٍ، وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَسْوَاقًا فَارِغَةً وَطُرُقَاتٍ خَالِيَةً، وَأَبْوَابًا مُغْلَقَةً، ووحشة وعدم أنس. حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. قَالَ: وَجَاءَ الْخَبَرُ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَتِلْكَ الْبِلَادِ بِالْوَبَاءِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يسلم من تلك البلاد إلا العدد اليسير جدا. قال: ووقع وباء بالأهواز وبواط وأعمالها وغيرها، حتى طبق البلاد، وكان أكثر سبب ذلك الجوع، كَانَ الْفُقَرَاءُ يَشْوُونَ الْكِلَابَ وَيَنْبُشُونَ الْقُبُورَ وَيَشْوُونَ الْمَوْتَى وَيَأْكُلُونَهُمْ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ شُغْلٌ فِي اللَّيْلِ والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم، فكان يحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون، وكان الإنسان بينما هو جالس إذا انشق قلبه عن دم المهجة، فيخرج منه إلى الفم قَطْرَةٌ فَيَمُوتُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَقْتِهِ، وَتَابَ النَّاسُ وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحدا يقبل منهم، وكان الفقير تعرض عليه الدنانير الكثيرة والدراهم والثياب فيقول: أنا أريد كسرة أريد ما يسد جوعي، فلا يجد ذلك، وأراق الناس الخمور وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة الْقُرْآنِ، وَقَلَّ دَارٌ يَكُونُ فِيهَا خَمْرٌ إِلَّا مَاتَ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ، وَدُخِلَ عَلَى مَرِيضٍ لَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فِي النَّزْعِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى مَكَانٍ فَوَجَدُوا فِيهِ خَابِيَةً مِنْ خَمْرٍ فَأَرَاقُوهَا فمات من وقته بسهولة، ومات رجل في مسجد فوجدوا معه خمسين ألف درهم، فعرضت على الناس فَلَمْ يَقْبَلْهَا أَحَدٌ فَتُرِكَتْ فِي الْمَسْجِدِ تِسْعَةَ أيام لا يريدها أحد، فلما كان بعد ذلك دخل أربعة ليأخذوها فماتوا عليها، فلم يخرج من المسجد منهم أحد حي، بل ماتوا جميعا. وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ يَشْتَغِلُ عَلَيْهِ سَبْعُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، فَمَاتَ وَمَاتُوا كلهم إلا اثنى عشر نفرا منهم، ولما اصطلح السلطان دبيس بن على رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ فَوَجَدَهَا خَرَابًا لِقِلَّةِ أَهْلِهَا من الطاعون، فأرسل رسولا منهم إلى بعض النواحي فتلقاه طائفة فقتلوه وشووه وَأَكَلُوهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ احْتَرَقَتْ قَطِيعَةُ عِيسَى وَسُوقُ الطَّعَامِ وَالْكَنِيسُ، وَأَصْحَابُ السَّقْطِ وَبَابُ الشعير، وسوق العطارين وسوق العروس والانماطيين والخشابين والجزارين والتمارين، والقطيعة وسوق مخول ونهر الزجاج وَسُوَيْقَةُ غَالِبٍ وَالصَّفَّارِينَ وَالصَّبَّاغِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ المواضع، وهذه مصيبة أخرى إلى ما بالناس من الجوع والغلاء والفناء، ضعف الناس حتى طغت النار فعملت أعمالها،، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا كَثُرَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ جِهَارًا، وَكَبَسُوا الدُّورَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكُبِسَتْ دَارُ أَبِي جعفر الطوسي متكلم الشيعة، وأحرقت كتبه ومآثره، ودفاتره التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته، ويدعو إليها أهل(12/71)
ملته ونحلته، وللَّه الْحَمْدُ. وَفِيهَا دَخَلَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ بَغْدَادَ عائدا إليها من الموصل فتلقاه الناس والكبراء إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَأَحْضَرَ لَهُ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ خلعة من الخليفة مرصعة بالجوهر فَلَبِسَهَا، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ، وَقَدْ رَكِبَ إِلَيْهَا فَرَسًا مِنْ مَرَاكِبِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ إِذَا هُوَ عَلَى سَرِيرٍ طُولُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وَعَلَى كتفه البردة النبويّة، وبيده القضيب، فقبل الأرض وجلس عَلَى سَرِيرٍ دُونَ سَرِيرِ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ قَالَ الْخَلِيفَةُ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ: قُلْ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَامِدٌ لِسَعْيِكَ شَاكِرٌ لِفِعْلِكَ، آنِسٌ بِقُرْبِكَ، وَقَدْ ولاك جميع ما ولاه الله تعالى مِنْ بِلَادِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وَلَّاكَ، وَاجْتَهِدْ فِي عِمَارَةِ الْبِلَادِ وَإِصْلَاحِ الْعِبَادِ وَنَشْرِ الْعَدْلِ، وَكَفِّ الظُّلْمِ، فَفَسَّرَ لَهُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ مَا قال الخليفة فَقَامَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَقَالَ: أَنَا خَادِمُ أَمِيرِ المؤمنين وعبده، ومتصرف على أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمُتَشَرِّفٌ بِمَا أَهَّلَنِي لَهُ وَاسْتَخْدَمَنِي فِيهِ، وَمِنَ اللَّهِ أَسْتَمِدُّ الْمَعُونَةَ وَالتَّوْفِيقَ. ثُمَّ أمره الخليفة أَنْ يَنْهَضَ لِلُبْسِ الْخِلْعَةَ فَقَامَ إِلَى بَيْتٍ فِي ذَلِكَ الْبَهْوِ، فَأُفِيضَ عَلَيْهِ سَبْعُ خِلَعٍ وَتَاجٌ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ بَعْدَ مَا قَبَّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ، وَرَامَ تَقْبِيلَ الْأَرْضِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّاجِ، فَأَخْرَجَ الْخَلِيفَةُ سَيْفًا فقلده إياه وخوطب بِمَلِكِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَأُحْضِرَتْ ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ فَعَقَدَ منها الخليفة لواء بيده، وأحضر العهد إلى الملك، وقرئ بين يديه بحضرة الملك وأوصاه الخليفة بتقوى الله والعدل في الرعية، ثم نهض فقبل يد الخليفة ثم وضعها عَلَى عَيْنَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ إلى داره وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْحِجَابُ وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ، وَجَاءَ النَّاسُ للسلام عليه، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِتُحَفٍ عَظِيمَةٍ، مِنْهَا خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَمْسُونَ غُلَامًا أَتْرَاكًا، بِمَرَاكِبِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وَمَنَاطِقِهِمْ، وَخَمْسُمِائَةِ ثَوْبٍ أَنْوَاعًا، وَأَعْطَى رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ خمسة آلاف دينار، وخمسين قطعة قماش وغير ذلك.
وَفِيهَا قَبَضَ صَاحِبُ مِصْرَ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي محمد الحسن بن عبد الرحمن البازرى، وأخذ خطه بثلاثة آلاف دِينَارٍ، وَأُحِيطَ عَلَى ثَمَانِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَزِيرُ فَقِيهًا حَنَفِيًّا، يُحْسِنُ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أبو يوسف القزويني يثنى عليه ويمدحه.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ عبد الله بن سليمان
ابن مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنَ الْمُطَهِّرِ بْنِ زِيَادِ بْنِ ربيعة بن الحرث بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَنْوَرَ بْنِ أَسْحَمَ بْنِ أَرْقَمَ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَطَفَانَ بن عمرو بن بريح بن خزيمة بْنِ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ أَسَدِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ تَغَلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ التَّنُوخِيُّ الشَّاعِرُ، الْمَشْهُورُ بِالزَّنْدَقَةِ، اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ الدَّوَاوِينِ وَالْمُصَنَّفَاتِ فِي الشِّعْرِ وَاللُّغَةِ، وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَصَابَهُ جُدَرِيٌّ وَلَهُ أربع سنين أَوْ سَبْعٌ، فَذَهَبَ بَصَرُهُ، وَقَالَ الشِّعْرَ وَلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ أَوْ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَدَخَلَ(12/72)
بَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا طَرِيدًا منهزما، لأنه سأل سؤالا بشعر يدل على قلة دينه وعلمه وعقله فقال:
تناقض فما لَنَا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ ... وَأَنْ نَعُوذَ بِمَوْلَانَا من النار
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
وهذا من إفكه يَقُولُ: الْيَدُ دِيَتُهَا خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، فَمَا لَكُمْ تَقْطَعُونَهَا إِذَا سَرَقَتْ رُبْعَ دِينَارٍ، وَهَذَا مِنْ قلة عقله وعلمه، وعمى بصيرته. وذلك أنه إِذَا جُنِيَ عَلَيْهَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ دِيَتُهَا كَثِيرَةً لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنِ الْعُدْوَانِ، وَأَمَّا إِذَا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها وديتها لينزجر الناس عن أموال الناس وتصان أموالهم، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ ثَمِينَةً لَمَّا كَانَتْ أَمِينَةً، فَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ.
وَلَمَّا عَزَمَ الْفُقَهَاءُ على أخذه بهذا وأمثاله هَرَبَ وَرَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ فَكَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَكَانَ يَوْمًا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يَكْرَهُ الْمُتَنَبِّي وَيَضَعُ مِنْهُ، وَكَانَ أَبُو الْعَلَاءِ يُحِبُّ الْمُتَنَبِّي وَيَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهِ وَيَمْدَحُهُ، فَجَرَى ذِكْرُ الْمُتَنَبِّي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَذَمَّهُ الْخَلِيفَةُ، فَقَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَنَبِّي إِلَّا قَصِيدَتُهُ الَّتِي أَوَّلُهَا
لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي الْقُلُوبِ مَنَازِلُ
لَكَفَاهُ ذَلِكَ. فَغَضِبَ الْخَلِيفَةُ وَأَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ بِرِجْلِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: أَخْرِجُوا عَنِّي هَذَا الْكَلْبَ. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ: أَتَدْرُونَ مَا أَرَادَ هَذَا الْكَلْبُ مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ؟ وَذِكْرِهِ لَهَا؟ أَرَادَ قَوْلَ الْمُتَنَبِّي فِيهَا:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ ... فَهْيَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنِّي كَامِلُ
وَإِلَّا فَالْمُتَنَبِّي لَهُ قَصَائِدُ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا. وَهَذَا مِنْ فَرْطِ ذَكَاءِ الْخَلِيفَةِ، حَيْثُ تَنَبَّهَ لِهَذَا. وَقَدْ كَانَ الْمَعَرِّيُّ أَيْضًا مِنَ الْأَذْكِيَاءِ، وَمَكَثَ الْمَعَرِّيُّ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض، وَلَا شَيْئًا مِنْ حَيَوَانٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الْبَرَاهِمَةِ الفلاسفة، ويقال إنه اجتمع براهب في بعض الصوامع في مجيئه من بعض السواحل آواه الليل عنده، فشكّكه في دين الإسلام، وكان يتقوت بالنبات وغيره، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَأْكُلُ الْعَدَسَ وَيَتَحَلَّى بِالدِّبْسِ وبالتين، وكان لا يَأْكُلُ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ، وَيَقُولُ: أَكْلُ الْأَعْمَى عَوْرَةٌ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الذَّكَاءِ الْمُفْرِطِ، عَلَى مَا ذكروه، وأما ما ينقلونه عنه من الأشياء المكذوبة المختلقة مِنْ أَنَّهُ وُضِعَ تَحْتَ سَرِيرِهِ دِرْهَمٌ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ السَّمَاءُ قَدِ انْخَفَضَتْ مِقْدَارَ درهم أو الأرض قد ارتفعت مقدار درهم، أي أنه شعر بارتفاع سريره عن الأرض مقدار ذلك الدرهم الّذي وضع تحته، فهذا لا أصل له. وكذلك يذكرون عنه أَنَّهُ مَرَّ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِمَكَانٍ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَا هنا شجرة؟ قالوا: لا، فنظروا فإذا أصل شجرة كانت هناك في الموضع الّذي طأطأ رأسه فيه، وقد قطعت، وكان قد اجتاز بها قديما مَرَّةً فَأَمَرَهُ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِمُطَأْطَأَةِ رَأْسِهِ لما جازوا تحتها، فلما مر بها المرة الثانية طأطأ رأسه خوفا من أن يصيبه شيء منها، فهذا(12/73)
لا يصح. وقد كَانَ ذَكِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ زَكِيًّا، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ أَكْثَرُهَا فِي الشِّعْرِ، وَفِي بَعْضِ أَشْعَارِهِ ما يدل على زندقته، وانحلاله من الدين، ومن الناس من يعتذر عنه ويقول: إنه إنما كان يقول ذلك مجونا ولعبا، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد كان باطنه مسلما. قال ابن عقيل لما بلغه:
وما الّذي ألجأه أَنْ يَقُولَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا يُكَفِّرُهُ بِهِ النَّاسُ؟ قَالَ: وَالْمُنَافِقُونَ مَعَ قِلَّةِ عَقْلِهِمْ وعلمهم أجود سياسة منه، لأنهم حافظوا على قبائحهم في الدنيا وستروها، وهذا أظهر الكفر الّذي تسلط عليه به الناس وزندقوه، والله يعلم أن ظاهره كباطنه. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ الْفُصُولَ وَالْغَايَاتِ، فِي مُعَارَضَةِ السُّورِ وَالْآيَاتِ، عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي آخِرِ كلماته وهو في غاية الرَّكَاكَةِ وَالْبُرُودَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَعْمَى بَصَرَهُ وَبَصِيرَتَهُ. قَالَ: وَقَدْ نَظَرْتُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى لُزُومَ مَا لَا يَلْزَمُ، ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ من أشعاره الدالة على استهتاره بدين الإسلام أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا كَانَ لَا يَحْظَى بِرِزْقِكَ عَاقِلٌ ... وَتَرْزُقُ مَجْنُونًا وَتَرْزُقُ أَحْمَقَا
فَلَا ذَنْبَ يَا رَبَّ السَّمَاءِ عَلَى امْرِئٍ ... رَأَى مِنْكَ مَا لَا يَشْتَهِي فَتَزَنْدَقَا
وقوله
ألا إن الْبَرِيَّةَ فِي ضَلَالٍ ... وَقَدْ نَظَرَ اللَّبِيبُ لِمَا اعْتَرَاهَا
تَقَدَّمَ صَاحِبُ التَّوْرَاةِ مُوسَى ... وَأَوْقَعَ فِي الْخَسَارِ مَنِ افْتَرَاهَا
فَقَالَ رِجَالُهُ وَحْيٌ أَتَاهُ ... وَقَالَ النَّاظِرُونَ بَلِ افْتَرَاهَا
وَمَا حَجِّي إِلَى أحجار بيت ... كروس الحمر تشرف فِي ذَرَاهَا
إِذَا رَجَعَ الْحَلِيمُ إِلَى حِجَاهُ ... تهاون بالمذاهب بالمذاهب وازدراها
وقوله
عفت الحنيفة والنصارى اهتدت ... ويهود جارت وَالْمَجُوسُ مُضَلَّلَهْ
اثْنَانِ أَهْلُ الْأَرْضِ ذُو عَقْلٍ بلا ... دين وآخر ذو دين وو لَا عَقْلَ لَهْ
وَقَوْلُهُ
فَلَا تَحْسَبْ مَقَالَ الرُّسْلِ حَقًّا ... وَلَكِنْ قَوْلُ زُورٍ سَطَّرُوهُ
فَكَانَ النَّاسُ فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ ... فَجَاءُوا بِالْمُحَالِ فَكَدَّرُوهُ
وقلت أنا معارضة عليه:
فلا تحسب مقال الرسل زورا ... وَلَكِنْ قَوْلُ حَقٍّ بَلَّغُوهُ
وَكَانَ النَّاسُ فِي جهل عظيم ... فجاءوا بالبيان فأوضحوه
وقوله
إِنَّ الشَّرَائِعَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا إِحَنًا ... وَأَوْرَثَتْنَا أَفَانِينَ الْعَدَاوَاتِ
وَهَلْ أُبِيحُ نِسَاءُ الرُّومِ عَنْ عُرُضٍ ... لِلْعُرْبِ إِلَّا بِأَحْكَامِ النُّبُوَّاتِ
وَقَوْلُهُ
وَمَا حَمْدِي لِآدَمَ أَوْ بَنِيهِ ... وَأَشْهَدُ أَنَّ كُلَّهُمُ خَسِيسُ(12/74)
وقوله
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما ... دياناتكم مكرا من القدما
وقوله
صَرْفُ الزَّمَانِ مُفَرِّقُ الْإِلْفَيْنِ ... فَاحْكُمْ إِلَهِي بَيْنَ ذاك وبيني
نهيت عن قتل النفوس تعمدا ... وبعثت تقبضها مع الملكين
وَزَعَمْتَ أَنَّ لَهَا مَعَادًا ثَانِيًا ... مَا كَانَ أغناها عن الحالين
وقوله
ضَحِكْنَا وَكَانَ الضِّحْكُ مِنَّا سَفَاهَةً ... وَحُقَّ لِسُكَّانِ الْبَسِيطَةِ أَنْ يَبْكُوا
تُحَطِّمُنَا الْأَيَّامُ حَتَّى كَأَنَّنَا ... زجاج ولكن لا يعود له سبك
وقوله
أُمُورٌ تَسْتَخِفُّ بِهَا حُلُومٌ ... وَمَا يَدْرِي الْفَتَى لِمَنِ الثُّبُورُ
كِتَابُ مُحَمَّدٍ وَكِتَابُ مُوسَى ... وَإِنْجِيلُ ابن مريم والزبور
وقوله
قَالَتْ مُعَاشِرُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَهُكُمُ ... إِلَى الْبَرِيَّةِ عيساها ولا موسى
وَإِنَّمَا جَعَلُوا الرَّحْمَنَ مَأْكَلَةً ... وَصَيَّرُوا دِينَهُمْ فِي الناس ناموسا
وذكر ابن الجوزي وغيره أشياء كثيرة من شعره تدل على كفره، بل كل واحدة من هذه الأشياء تدل على كفره وزندقته وانحلاله، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ:
هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ ... وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ
مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَاهُ بِتَزَوُّجِهِ لِأُمِّهِ أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، حَتَّى صَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى مَا إِلَيْهِ صَارَ، وَهُوَ لَمْ يَجْنِ عَلَى أَحَدٍ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَتَابَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ قال قصيدة يعتذر فيها من ذلك كُلِّهِ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْهُ، وَهِيَ الْقَصِيدَةُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ الْبَعُوضِ جَنَاحَهَا ... فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ الْأَلْيَلِ
وَيَرَى مَنَاطَ عروقها في نحرها ... والملخ فِي تِلْكَ الْعِظَامِ النُّحَّلِ
امْنُنْ عَلَيَّ بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا ... مَا كَانَ مِنِّي فِي الزَّمَانِ الأوّل
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً إِلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَدْ رَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَلَامِذَتِهِ، وَأُنْشِدَتْ عِنْدَ قَبْرِهِ ثَمَانُونَ مَرْثَاةً، حتى قال بعضهم في مرثاة له
إِنْ كُنْتَ لَمْ تُرِقِ الدِّمَاءَ زَهَاَدَةً ... فَلَقَدْ أَرَقْتَ الْيَوْمَ مِنْ جَفْنِي دَمَا
قَالَ ابْنُ الجوزي: وهؤلاء الذين رثوه والذين اعتقدوه: إِمَّا جُهَّالٌ بِأَمْرِهِ، وَإِمَّا ضُلَّالٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وطريقه. وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ رَجُلًا ضَرِيرًا على عاتقه حيتان مدليتان على صدره، رافعتان رءوسهما إليه، وَهُمَا يَنْهَشَانِ مِنْ لَحْمِهِ، وَهُوَ يَسْتَغِيثُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذَا الْمَعَرِّيُّ الْمُلْحِدُ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ خلكان فرفع في نسبه على عادته في الشعراء، كما ذكرنا. وقد ذكر له من المصنفات كُتُبًا كَثِيرَةً، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَ عَلَى الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْمِائَةِ مِنْ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بالأيك والغصون،(12/75)
وهو المعروف بالهمز وَالرِّدْفِ، وَأَنَّهُ أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ وَاشْتَغَلَ بِحَلَبَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ النَّحْوِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، وَالْخَطِيبُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ التِّبْرِيزِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَكَثَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ، وَأَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قَبْرِهِ:
هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ ... وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ باعتقاد الحكماء، فإنهم يقولون اتخاذ الْوَلَدِ وَإِخْرَاجُهُ إِلَى هَذَا الْوُجُودِ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِلْحَوَادِثِ وَالْآفَاتِ. قُلْتُ: وَهَذَا يَدُلُّ على أنه لم يتغير عن اعتقاده، وهو ما يعتقده الْحُكَمَاءِ إِلَى آخِرِ وَقْتٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُقْلِعْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ عينه اليمنى كانت ناتئة وعليها بياض، وعينه اليسرى غَائِرَةٌ، وَكَانَ نَحِيفًا ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ أَشْعَارِهِ الْجَيِّدَةِ أَبْيَاتًا فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
لَا تَطْلُبَنَّ بَآلَةٍ لَكَ رُتْبَةً ... قَلَمُ الْبَلِيغِ بِغَيْرِ جَدٍّ مَغْزَلُ
سكن السما كان السَّمَاءَ كِلَاهُمَا ... هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ
الْأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بْنِ عَامِرِ بْنِ عَابِدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، الْحَافِظُ الْوَاعِظُ الْمُفَسِّرُ، قَدِمَ دِمَشْقَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحَجِّ فَسَمِعَ بِهَا وَذَكَّرَ النَّاسَ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ تَرْجَمَةً عَظِيمَةً، وَأَوْرَدَ لَهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً مِنْ أَقْوَالِهِ وَشِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا لَمْ أُصِبْ أَمْوَالَكُمْ وَنَوَالَكُمْ ... وَلَمْ آمُلِ الْمَعْرُوفَ مِنْكُمْ وَلَا الْبِرَّا
وَكُنْتُمْ عَبِيدًا لِلَّذِي أَنَا عَبْدُهُ ... فَمِنْ أَجْلِ مَاذَا أُتْعِبُ الْبَدَنَ الْحُرَّا؟
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَتَرَدَّدُ وَأَنَا بِمَكَّةَ فِي الْمَذَاهِبِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: عَلَيْكَ بِاعْتِقَادِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةُ الْخَبِيثِ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَهُوَ أَرْسَلَانُ التركي، وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ أَخَا الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ تَرَكَ الْمَوْصِلَ الَّذِي كَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَخُوهُ عَلَيْهَا، وَعَدَلَ إِلَى نَاحِيَةِ بِلَادِ الْجَبَلِ، فَاسْتَدْعَاهُ أَخُوهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَصْلَحَ أَمْرَهُ، وَلَكِنْ فِي غضون ذَلِكَ رَكِبَ الْبَسَاسِيرِيُّ وَمَعَهُ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ أَمِيرُ الْعَرَبِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَخَذَهَا، وَأَخْرَبَ قَلْعَتَهَا، فسار إليه الملك طغرلبك سريعا فَاسْتَرَدَّهَا وَهَرَبَ مِنْهُ الْبَسَاسِيرِيُّ وَقُرَيْشٌ خَوْفًا مِنْهُ، فَتَبِعَهُمَا إِلَى نَصِيبِينَ، وَفَارَقَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ، وَعَصَى عَلَيْهِ، وَهَرَبَ إِلَى هَمَذَانَ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ عَلَيْهِ، فَسَارَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ وَرَاءَ أَخِيهِ وَتَرَكَ عَسَاكِرَهُ وَرَاءَهُ فَتَفَرَّقُوا وَقَلَّ مَنْ لَحِقَهُ مِنْهُمْ، وَرَجَعَتْ زَوْجَتُهُ الْخَاتُونُ وَوَزِيرُهُ الْكُنْدُرِيُّ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ(12/76)
بِأَنَّ أَخَاهُ قَدِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ طُغْرُلْبَكَ مَحْصُورٌ بِهَمَذَانَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ، وجاء الخبر بأن البساسيري عَلَى قَصْدِ بَغْدَادَ، وَأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنَ الأنبار، فقوى عزم الكندري على الهروب، فأرادت الخاتون أن تقبض عليه فتحول عنها إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ وَقُطِعَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، وَرَكِبَتْ الْخَاتُونُ فِي جُمْهُورِ الجيش، وذهبت إلى همذان لأجل زَوْجَهَا، وَسَارَ الْكُنْدُرِيُّ وَمَعَهُ أَنُوشِرْوَانَ بْنُ تُومَانَ وأم الْخَاتُونُ الْمَذْكُورَةُ، وَمَعَهَا بَقِيَّةُ الْجَيْشِ إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ وَبَقِيَتْ بَغْدَادُ لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنَ المقاتلة، فعزم الخليفة على الخروج منها، وَلَيْتَهُ فَعَلَ، ثُمَّ أَحَبَّ دَارَهُ وَالْمُقَامَ مَعَ أهله، فمكث فيها اغترارا ودعة، ولما خلى الْبَلَدُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ قِيلَ لِلنَّاسِ: مَنْ أَرَادَ الرحيل من بغداد فَلْيَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ وَبَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ، وَعَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَبَلَغَتِ الْمِعْبَرَةُ دِينَارًا وَدِينَارَيْنِ لِعَدَمِ الْجِسْرِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَطَارَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ نَحْوُ عَشْرِ بُومَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ يَصِحْنَ صِيَاحًا مُزْعِجًا، وَقِيلَ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ المصلحة أن الخليفة يرتحل لعدم المقاتلة فَلَمْ يَقْبَلْ، وَشَرَعُوا فِي اسْتِخْدَامِ طَائِفَةٍ مِنَ العوام، ودفع إليهم سلاح كثير مِنْ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جاء الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ الرَّايَاتُ الْبِيضُ الْمِصْرِيَّةُ، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم الْمُسْتَنْصِرُ باللَّه أَبُو تَمِيمٍ مَعَدٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة وسألوه أن يجتاز من عِنْدَهُمْ، فَدَخَلَ الْكَرْخَ وَخَرَجَ إِلَى مَشْرَعَةِ الرَّوَايَا، فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة وضر شديد، وَنَزَلَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْ فَارِسٍ عَلَى مَشْرَعَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ الْبَسَاسِيرِيُّ قَدْ جَمَعَ الْعَيَّارِينَ وَأَطْمَعَهُمْ فِي نَهْبِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَنَهَبَ أَهْلُ الْكَرْخِ دُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، وَنُهِبَتْ دَارُ قَاضِي الْقُضَاةِ الدامغانيّ، وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، وبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين بخدمة الخليفة، وَأَعَادَتِ الرَّوَافِضُ الْأَذَانَ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي، على منابرها وغيرها، وَضُرِبَتْ لَهُ السِّكَّةُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَحُوصِرَتْ دار الخلافة، فجاحف الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ الْمُلَقَّبُ بِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْتَخْدِمِينَ دُونَهَا فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ بِالسَّوَادِ وَالْبُرْدَةِ، وَعَلَى رَأْسِهِ اللِّوَاءُ وَبِيَدِهِ سَيْفٌ مُصَلَّتٌ، وَحَوْلَهُ زمرة من العباسيين وَالْجَوَارِي حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ، مَعَهُنَّ الْمَصَاحِفُ عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْخَدَمُ بالسيوف، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ أَخَذَ ذِمَامًا مِنْ أَمِيرِ العرب قريش ليمنعه وَأَهْلِهِ وَوَزِيرِهِ ابْنِ الْمُسْلِمَةِ، فَأَمَّنَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنْزَلَهُ فِي خَيْمَةٍ، فَلَامَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ وَقَعَ الاتفاق عليه بيني وبينك، من أنك لا تبت بِرَأْيِ دُونِي، وَلَا أَنَا دُونَكَ، وَمَهْمَا مَلَكْنَا بيني وبينك. ثم إن البساسيري أخذ القاسم بن مسلمة(12/77)
فوبخه توبيخا مفضحا، وَلَامَهُ لَوْمًا شَدِيدًا، ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَاعْتَقَلَهُ مُهَانًا عِنْدَهُ، وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَلَا يُحْصَى مَا أَخَذُوا مِنْهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ والنفائس، والديباج والذهب والفضة، والثياب والأثاث، والدواب وغير ذلك، مما لا يحد ولا يوصف. ثم اتفق رأى البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إِلَى أَمِيرِ حَدِيثَةِ عَانَةَ، وَهُوَ مُهَارِشُ بْنُ مجلى الندوى، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمِّ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، وكان رجلا فيه دين وله مروأة. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ دَخَلَ عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَسَيَّرَهُ مَعَ أَصْحَابِهِمَا فِي هَوْدَجٍ إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش حَوْلًا كَامِلًا، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، فحكى عن الخليفة أَنَّهُ قَالَ لَمَّا كُنْتُ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ قُمْتُ لَيْلَةً إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَلَاوَةَ المناجاة، ثم دعوت الله عز وجل بِمَا سَنَحَ لِي، ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهمّ أَعِدْنِي إِلَى وَطَنِي، وَاجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِي وَوَلَدِي، وَيَسِّرِ اجْتِمَاعَنَا، وَأَعِدْ رَوْضَ الْأُنْسِ زَاهِرًا، وَرَبْعَ القرب عامرا، وفلفل العزا وبرج الجفا، قَالَ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ يَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ، فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ يُخَاطِبُ آخَرُ، ثُمَّ أَخَذْتُ فِي السُّؤَالِ وَالِابْتِهَالِ، فَسَمِعْتُ ذَلِكَ الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول، فقلت: أَنَّهُ هَاتِفٌ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِمَا جَرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَذَلِكَ، خَرَجَ مِنْ دَارِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَجَعَ إِلَيْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَقَدْ قال الخليفة القائم بأمر الله في مدة مَقَامِهِ بِالْحَدِيثَةِ شِعْرًا يَذْكُرُ فِيهِ حَالَهُ فَمِنْهُ:
ساءت ظُنُونِي فِيمَنْ كُنْتُ آمُلُهُ ... وَلَمْ يَجُلْ ذِكْرُ من والبيت فِي خَلَدِي
تَعَلَّمُوا مِنْ صُرُوفِ الدَّهْرِ كُلُّهُمُ ... فما أرى أحدا يحنو على أحد
فما أرى من الأيام إلا موعدا ... فمتى أرى ظفري بِذَاكَ الْمَوْعِدِ
يَوْمِي يَمُرُّ وَكُلَّمَا قَضَّيْتُهُ ... عَلَّلْتُ نفسي بالحديث إلى غد
أقبح بِنَفْسٍ تَسْتَرِيحُ إَلَى الْمُنَى ... وَعَلَى مَطَامِعِهَا تَرُوحُ وَتَغْتَدِي
وَأُمًّا الْبَسَاسِيرِيُّ وَمَا اعْتَمَدَهُ فِي بَغْدَادَ: فَإِنَّهُ رَكِبَ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى وَأَلْبَسَ الْخُطَبَاءَ والمؤذنين البياض، وكذلك أصحابه، وعلى رأسه الألوية المصرية، وخطب للخليفة المصري، والروافض في غاية السرور، والأذان بسائر الْعِرَاقِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَانْتَقَمَ الْبَسَاسِيرِيُّ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَادَ انْتِقَامًا عَظِيمًا، وَغَرَّقَ خَلْقًا مِمَّنْ كَانَ يُعَادِيهِ، وَبَسَطَ عَلَى آخَرِينَ الأرزاق ممن كان يحبه ويواليه، وأظهر العدل. ولما كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الحجة أحضر إلى بين يديه الوزير ابن المسلمة الملقب رئيس الرُّؤَسَاءِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَطُرْطُورٌ مِنْ لِبْدٍ أَحْمَرَ، وَفِي رَقَبَتِهِ مِخْنَقَةٌ مِنْ جُلُودٍ كَالتَّعَاوِيذِ، فأركب جملا أحمر وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَخَلْفَهُ مَنْ يَصْفَعُهُ بقطعة جِلْدٍ، وَحِينَ اجْتَازَ بِالْكَرْخِ نَثَرُوا عَلَيْهِ خُلْقَانَ الْمُدَاسَاتِ، وَبَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَعَنُوهُ وَسَبُّوهُ، وَأُوقِفَ بِإِزَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَهُوَ(12/78)
فِي ذَلِكَ يَتْلُو قَوْلِهِ تَعَالَى (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 3: 26 ثم لما فرغوا من التطواف به جيء به إِلَى الْمُعَسْكَرِ فَأُلْبِسَ جِلْدَ ثَوْرٍ بِقَرْنَيْهِ، وَعُلِّقَ بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة، فَجَعَلَ يَضْطَرِبُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه الّذي أحيانى سعيدا، وأماتنى شهيدا.
وفيها وَقَعَ بَرَدٌ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ، وَقُتِلَ بَعْضُ الْفَلَّاحِينَ، وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كثيرة، وزلزلت بغداد في هذه السنة قَبْلَ الْفِتْنَةِ بِشَهْرٍ زِلْزَالًا شَدِيدًا، فَتَهَدَّمَتْ دُورٌ كثيرة، ووردت الأخبار أن هذه الزلزلة اتصلت بهمذان وواسط، وتكريت، وعانة، وذكر أن الطواحين وقفت من شدتها. وفيها كَثُرَ النَّهْبُ بِبَغْدَادَ حَتَّى كَانَتِ الْعَمَائِمُ تُخْطَفُ عن الرءوس، وخطفت عمامة الشيخ أبى نصر الطباع، وطيلسانه وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة.
وفي أواخر السَّنَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ مِنْ هَمَذَانَ فَقَاتَلَ أخاه وانتصر عليه، ففرح الناس وتباشروا بذلك، وَلَمْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَاسْتَنْجَدَ طُغْرُلْبَكُ بِأَوْلَادِ أَخِيهِ دَاوُدَ- وَكَانَ قَدْ مَاتَ- على أخيه إبراهيم فغلبوه وأسروه فِي أَوَائِلِ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى عَمِّهِمْ طُغْرُلْبَكَ، فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي السَّنَةِ الآتية إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ.
الحسن بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنِّيُّ
الْفَرَضِيُّ، وهو شيخ الحربي، وكان شافعيّ المذهب، قتل في بغداد فِي فِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَدُفِنِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يوم عرفة منها.
داود أخو طغرلبك
وكان الأكبر منهم، توفى فيها وقام أولاده مقامه.
أبو الطيب الطبري
الفقيه، شيخ الشافعية، طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ عمر، وُلِدَ بِآمُلَ طَبَرِسْتَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سمع الحديث بِجُرْجَانَ مِنْ أَبِي أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيِّ، وَبِنَيْسَابُورَ مِنْ أبى الحسن الماسرجسي، وعليه درس الفقه أيضا وعلى أَبِي عَلِيٍّ الزَّجَّاجِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ، ثم اشتغل ببغداد على أبى حامد الأسفراييني، وشرح المختصر وفروع ابْنِ الْحَدَّادِ، وَصَنَّفَ فِي الْأُصُولِ وَالْجَدَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ النَّافِعَةِ، وَسَمِعَ بِبَغْدَادَ من الدار قطنى وَغَيْرِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِرَبْعِ الْكَرْخِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا ورعا، عالما بأصول الفقه وفروعه، حسن الخلق سَلِيمَ الصَّدْرِ مُوَاظِبًا عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ لَيْلًا ونهارا. وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنْهُ- وَكَانَ شيخه، وقد أجلسه بعده في الحلقة- أن أبا الطيب أسلم خفا له- وكان متقللا من الدنيا فقيرا- عِنْدَ خَفَّافٍ لِيُصْلِحَهُ لَهُ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أَخَذَهُ فَغَمَسَهُ فِي الْمَاءِ وقال: أيها الشيخ الساعة(12/79)
أصلحه، فقال الشيخ: أسلمته لِتُصْلِحَهُ وَلَمْ أُسْلِمْهُ لِتُعَلِّمَهُ السِّبَاحَةَ. وَحَكَى ابْنُ خلكان أنه كان له ولأخيه عمامة واحدة، وقميص واحد، إِذَا لَبِسَهُمَا هَذَا جَلَسَ الْآخَرُ فِي الْبَيْتِ لا يخرج منه، وإذا لبسهما هذا احتاج الآخر أن يقعد في البيت ولا يخرج منه، وإذا غسلاهما جلسا في البيت إلى أن ييبسا وقد قال في ذلك أَبُو الطَّيِّبِ:
قَوْمٌ إِذَا غَسَلُوا ثِيَابَ جَمَالِهِمْ ... لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل
وقد تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ، وَالْفَهْمِ، وَالْأَعْضَاءِ، يُفْتِي ويشتغل إلى أن مات، وقد ركب مرة سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشباب فقيل له:
ما هذا يا أبا الطيب؟ فقال: هذه أعضاء حفظناها في الشبيبة تنفعنا في الكبر رحمه الله.
القاضي الماوردي
صاحب الحاوي الكبير، عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ، أَبُو الْحَسَنِ الماوردي البصري، شيخ الشافعية، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالتَّفْسِيرِ والأحكام السلطانية، وأدب الدُّنْيَا وَالدِّينِ. قَالَ: بَسَطْتُ الْفِقْهَ فِي أَرْبَعَةِ آلاف وَرَقَةً، يَعْنِي الْإِقْنَاعَ. وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ حَلِيمًا وَقُورًا أَدِيبًا، لَمْ يَرَ أَصْحَابُهُ ذِرَاعَهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ مِنْ شِدَّةِ تَحَرُّزِهِ وَأَدَبِهِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ تَرْجَمَتَهُ فِي الطبقات، توفى عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ
عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عمر، وَزِيرُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، كَانَ أَوَّلًا قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي أَحْمَدَ الْفَرَضِيِّ وَغَيْرِهِ، ثم صار أحد المعدلين، ثم استكتبه الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَوْزَرَهُ، وَلَقَّبَهُ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ، شرف الوزراء، جمال الوزراء، كَانَ مُتَضَلِّعًا بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ مَعَ سَدَادِ رَأْيٍ، وَوُفُورِ عَقْلٍ، وَقَدْ مَكَثَ فِي الْوِزَارَةِ ثِنْتَيْ عشرة سنة وشهرا، ثم قتله البساسيري بعد ما شهره كما تقدم، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثِنْتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَخَمْسَةُ أشهر.
مَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْفَوَارِسِ الْأَسَدِيُّ، صَاحِبُ الجزيرة، توفى فيها وأقاموا ولده بعده.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة
استهلت هذه السنة وبغداد في حكم البساسيري، يخطب فيها لصاحب مصر الفاطمي، والخليفة العباسي بِحَدِيثَةِ عَانَةَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثانى عشر صفر أحضر الْقُضَاةِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيَّ وَجَمَاعَةً مِنَ الوجوه والأعيان والأشراف، وأخذ عليهم البيعة لصاحب مصر المستنصر الْفَاطِمِيِّ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ معه وأمر بنقض تاج دار الخلافة، فنقض بَعْضُ الشَّرَارِيفِ، ثُمَّ(12/80)
قِيلَ لَهُ إِنَّ الْقُبْحَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. فَتَرَكَهُ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى زِيَارَةِ المشهد بالكوفة، وعزم على عبور نهر جعفر ليسوق إِلَى الْحَائِرِ لِوَفَاءِ نَذْرٍ كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِأَنْ تُنْقَلَ جُثَّةُ ابْنِ مُسْلِمَةَ إِلَى مَا يقارب الحريم الظاهري، وَأَنْ تُنْصَبَ عَلَى دِجْلَةَ. وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْخَلِيفَةِ- وَكَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً قَدْ بَلَغَتِ التِّسْعِينَ وهي مختفية في مكان- تَشْكُو إِلَيْهِ الْحَاجَةَ وَالْفَقْرَ وَضِيقِ الْحَالِ، فَأَرْسَلَ إليها من نقلها إِلَى الْحَرِيمِ، وَأَخْدَمَهَا جَارِيَتَيْنِ، وَرَتَّبَ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ رِطْلًا مِنْ خُبْزٍ، وَأَرْبَعَةَ أرطال من لحم.
فصل
ولما خلص السلطان طغرلبك من حصره بهمذان وأسر أخاه إبراهيم وقتله، وتمكن في أمره، وطابت نفسه، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مُنَازِعٌ، كتب إلى قريش بن بدران يأمره بأن يعيد الخليفة إلى وطنه، وداره وتوعده على أنه إن لم يفعل ذلك وإلا أحل به بَأْسًا شَدِيدًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ يَتَلَطَّفُ بِهِ ويدخل عليه، وَيَقُولُ: أَنَا مَعَكَ عَلَى الْبَسَاسِيرِيِّ بِكُلِّ مَا أقدر عليه، حتى يمكنك اللَّهُ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ أَتَسَرَّعَ فِي أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ عَلَى الْخَلِيفَةِ مَفْسَدَةٌ، أَوْ تبدر إليه بادرة سوء يكون على عارها، ولكن سأعمل على ما أمرتنى به بِكُلِّ مَا يُمْكِنُنِي، وَأَمَرَ بِرَدِّ امْرَأَةِ الْخَلِيفَةِ خَاتُونَ إِلَى دَارِهَا وَقَرَارِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ رَاسَلَ البساسيري بِعَوْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَى دَارِهِ، وَخَوْفِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ، وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: إِنَّكَ دعوتنا إلى طاعة المستنصر الفاطمي، وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا رسول ولا أحد من عنده، وَلَمْ يُفَكِّرْ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِ، وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد، قريب منا، وقد جاءني منه كتاب عُنْوَانُهُ: إِلَى الْأَمِيرِ الْجَلِيلِ عَلَمِ الدِّينِ أَبِي الْمَعَالِي قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، مَوْلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ شَاهِنْشَاهَ الْمُعْظَّمِ مَلِكِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ طُغْرُلْبَكَ، أَبِي طَالِبٍ مُحَمَّدِ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، وَعَلَى رَأْسِ الْكِتَابِ الْعَلَامَةُ السُّلْطَانِيَّةُ بِخَطِّ السُّلْطَانِ. حسبي الله ونعم الوكيل. وَكَانَ فِي الْكِتَابِ: وَالْآنَ قَدْ سَرَتْ بِنَا المقادير إلى هلاك كل عدو في الدين، ولم يبق علينا من المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِطْلَاعُ أُبَّهَةِ إِمَامَتِهِ عَلَى سَرِيرِ عِزِّهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَلْزَمُنَا ذلك، ولا فسحة في التقصير فيه ساعة من الزمان، وقد أقبلنا بجنود المشرق وخيولها إِلَى هَذَا الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ، وَنُرِيدُ مِنَ الْأَمِيرِ الجليل علم الدين إبانة النجح الَّذِي وُفِّقَ لَهُ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يتم وفاءه من إقامته وَخِدْمَتِهِ، فِي بَابِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إما أن يأتى به مكرما في عزه وإمامته إلى موقف خلافته من مدينة السلام، ويتمثل بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَوَلِّيًا أَمْرَهُ وَمُنْفِذًا حُكْمَهُ، وَشَاهِرًا سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا وتلك الخدمة بعض ما يجيب له، ونحن نوليك العراق بأسرها ونصفى لك مشارع برها وبحرها، لا يطؤها حَافِرُ خَيْلٍ مِنْ خُيُولِ الْعَجَمِ(12/81)
شبرا من أراضى تلك المملكة، إلا ملتمسا لمعاونتك ومظاهرتك، وإما أن تحافظ على شخصه الغالي بتحويله من القلعة إلى حين تحظى بخدمته، فليمتثل ذلك ويكون الأمير الجليل مخيرا بين أن يلقانا أَوْ يُقِيمَ حَيْثُ شَاءَ فَنُوَلِّيهِ الْعِرَاقَ كُلَّهَا، ونستخلفه في الخدمة الإمامية، ونصرف أعيننا إلى الممالك الشرقية، فهمتنا لا تقتضي إلا هذا.
فعند ذلك كتب قريش إلى مهاوش بن مجلى الّذي عنده الخليفة يقول له: إن المصلحة تقتضي تسليم الخليفة إلى، حتى آخذ لي ولك به أمانا، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ مُهَارِشٌ وَقَالَ قَدْ غَرَّنِي الْبَسَاسِيرِيُّ وَوَعَدَنِي بِأَشْيَاءَ لَمْ أَرَهَا، وَلَسْتُ بِمُرْسِلِهِ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَلَهُ فِي عُنُقِي أَيْمَانٌ كَثِيرَةٌ لَا أغدرها، وكان مهارش هذا رجلا صالحا، فقال للخليفة: إن المصلحة تقتضي أَنْ نَسِيرَ إِلَى بَلَدِ بَدْرِ بْنِ مُهَلْهَلٍ، وَنَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ، فَإِنْ ظَهَرَ دَخَلْنَا بَغْدَادَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى نظرنا لأنفسنا، فانى أخشى من البساسيري أن يأتينا فيحصرنا. فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: افْعَلْ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ. فَسَارَا فِي الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ إلى أن حصلا بقلعة تل عكبرا، فتلقته رسل السلطان طغرلبك بالهدايا التي كان أنفذها، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ السُّلْطَانَ طُغْرُلْبَكَ قَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، غَيْرَ أَنَّ الْجَيْشَ نهبوا البلد غير دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَصُودِرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّجَّارِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَشَرَعُوا فِي عِمَارَةِ دَارِ الْمُلْكِ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْخَلِيفَةِ مَرَاكِبَ كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق وملابس، وَمَا يَلِيقُ بِالْخَلِيفَةِ فِي السَّفَرِ، أَرْسَلَ ذَلِكَ مَعَ الْوَزِيرِ عَمِيدِ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيِّ، وَلَمَّا انْتَهَوْا إلى الخليفة أرسلوا بتلك الآلات إليه قبل أن يصلوا إليه، وقالوا: اضْرِبُوا السُّرَادِقَ وَلِيَلْبَسَ الْخَلِيفَةُ مَا يَلِيقُ بِهِ، ثم نجيء نحن ونستأذن عَلَيْهِ فَلَا يَأْذَنُ لَنَا إِلَّا بَعْدَ سَاعَةٍ طويلة، فلما فعلوا ذلك دخل الوزير ومن معه فقبلوا الأرض بين يديه، وأخبروه بسرور السلطان بسلامته، وبما حصل من العود إلى بغداد، وَكَتَبَ عَمِيدُ الْمُلْكِ كِتَابًا إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُهُ بصفة ما جرى، وأحب أن يضع الخليفة علامته في أعلا الكتاب ليكون أقر لعين السلطان. وَأَحْضَرَ الْوَزِيرُ دَوَاتَهُ وَمَعَهَا سَيْفٌ وَقَالَ: هَذِهِ خِدْمَةُ السَّيْفِ وَالْقَلَمِ، فَأَعْجَبَ الْخَلِيفَةَ ذَلِكَ، وَتَرْحَّلُوا مِنْ مَنْزِلِهِمْ ذَلِكَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَلَمَّا وَصَلُوا النهروان خرج السلطان لتلقى الخليفة، فلما وصل السلطان إلى سرادق الخليفة قبل الأرض سبع مرات بين يدي الخليفة، فَأَخَذَ الْخَلِيفَةُ مِخَدَّةً فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَهَا الْمَلِكُ فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهَا كَمَا أَشَارَ الخليفة، وَقَدَّمَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْحَبْلَ الْيَاقُوتَ الْأَحْمَرَ الَّذِي كان لبني بويه، فوضعه بين يديه، وَأَخْرَجَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حَبَّةً مِنْ لُؤْلُؤٍ كِبَارٍ، وقال أرسلان خاتون- يعنى زوجة الملك- تخدم الخليفة، وسأله أن يسبح بهذه المسبحة، وَجَعَلَ يَعْتَذِرُ مِنْ تَأَخُّرِهِ عَنِ الْحَضْرَةِ بِسَبَبِ عصيان أخيه فقتله، واتفق موت أخى الأكبر أيضا، فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده، وَأَنَا شَاكِرٌ لِمُهَارِشٍ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ خدمة(12/82)
أمير المؤمنين، وأنا ذاهب إن شاء الله خلف الكلب البساسيري، فأقتله إن شاء الله، ثم أدخل الشَّامِ وَأَفْعَلُ بِصَاحِبِ مِصْرَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يجازى به من سوء المقابلة، فدعا له الخليفة، وَأَعْطَى الْخَلِيفَةُ لِلْمَلِكِ سَيْفًا كَانَ مَعَهُ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ أُمُورِ الْخِلَافَةِ سِوَاهُ، وَاسْتَأْذَنَ الْمَلِكُ لِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ أَنْ يَخْدِمُوا الْخَلِيفَةَ، فَرُفِعَتِ الأستار عن جوانب الحركات، فَلَمَّا شَاهَدَ الْأَتْرَاكُ الْخَلِيفَةَ قَبَّلُوا الْأَرْضَ، ثُمَّ دخلوا بَغْدَادَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القعدة، وكان يَوْمًا مَشْهُودًا: الْجَيْشُ كُلُّهُ مَعَهُ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ والسلطان آخذ بلجام بغلته، إلى أن وصل باب الحجرة، ثم إنه لما وصل الخليفة إلى دار مملكته استأذنه السلطان في الذهاب وَرَاءَ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَأَرْسَلَ جَيْشًا مِنْ نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ لِيَمْنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ هُوَ والناس في التاسع والعشرين من الشهر. وَأَمَّا الْبَسَاسِيرِيُّ فَإِنَّهُ مُقِيمٌ بِوَاسِطٍ فِي جَمْعِ غلات وأمور يهيئها لقتال السلطان، وعنده أن الملك طغرلبك ومن عنده لَيْسُوا بِشَيْءٍ يُخَافُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِمَا يُرِيدُهُ الله تعالى من إهلاكه إن شاء الله.
صفة مقتل البساسيري وأخذه على يدي السلطان طغرلبك
لما سار السلطان وراءه وصلت السَّرِيَّةُ الْأَوْلَى فَلَقُوهُ بِأَرْضِ وَاسِطٍ وَمَعَهُ ابْنُ مزيد، فاقتتلوا هنالك وانهزم أصحابه عنه، وَنَجَا الْبَسَاسِيرِيُّ بِنَفْسِهِ عَلَى فَرَسٍ، فَتَبِعَهُ بَعْضُ الْغِلْمَانِ فَرَمَى فَرَسَهُ بِنُشَّابَةٍ فَأَلْقَتْهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجَاءَ الْغُلَامُ فَضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، وأسره واحد منهم يقال له كمسكين، فخر رَأْسَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَخَذَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْ جَيْشِ الْبَسَاسِيرِيِّ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا عَجَزُوا عَنْ حَمْلِهِ، وَلَمَّا وَصَلَ الرَّأْسُ إِلَى السُّلْطَانِ أَمَرَ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى بَغْدَادَ، وَأَنْ يُرْفَعَ على رمح، وأن يطاف به في المحال وأن يطوف معه الدبادب والبوقات والنفاطون، وَأَنْ يَخْرُجَ النَّاسُ وَالنِّسَاءُ لِلْفُرْجَةِ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ذلك، ثم نصب على الطيارة تجاه دار الخليفة، وَقَدْ كَانَ مَعَ الْبَسَاسِيرِيِّ خَلْقٌ مِنَ الْبَغَادِدَةٍ خرجوا معه، ظانين أنه سيعود إلى بغداد، فهلكوا ونهبت أموالهم، وَلَمْ يَنْجُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَفَرَّ ابْنُ مَزْيَدٍ فِي نَاسٍ قَلِيلٍ إِلَى الْبَطِيحَةِ، ومعه أَوْلَادُ الْبَسَاسِيرِيِّ وَأُمُّهُمْ، وَقَدْ سَلَبَتْهُمُ الْأَعْرَابُ فَلَمْ يتركوا لهم شيئا.
ثُمَّ اسْتُؤْمِنَ لِابْنِ مَزْيَدٍ مِنَ السُّلْطَانِ وَدَخَلَ معه بغداد، وقد نهبت العساكر مَا بَيْنَ وَاسِطٍ وَالْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الجيش وانتشاره وكثافته. وأما الخليفة فإنه حين عَادَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ جَعَلَ للَّه عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنَامَ عَلَى وِطَاءٍ وَلَا يَأْتِيَهُ أحد بطعام إِذَا كَانَ صَائِمًا، وَلَا يَخْدِمُهُ فِي وُضُوئِهِ وغسله أحد، بل يتولى ذلك كله بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَعَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يُؤْذِيَ أحدا ممن آذاه، وأن يصفح عن من ظلمه، وقال: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.
وَفِيهَا تَوَلَّى الْمَلِكُ ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بلاد حران بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، بِتَقْرِيرِ عَمِّهِ طُغْرُلْبَكَ، وَكَانَ له من الإخوة سليمان وقاروت بك، وياقوتى، فتزوج طغرلبك بأمّ سليمان.(12/83)
وفيها كان بمكة رخص لم يسمع بمثله، بيع التمر والبر كُلُّ مِائَتَيْ رِطْلٍ بِدِينَارٍ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ من أهل العراق فيها
ترجمة أرسلان أبو الحارث الْبَسَاسِيرِيُّ التُّرْكِيُّ
كَانَ مِنْ مَمَالِيكِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ أَوَّلًا مَمْلُوكًا لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ بَسَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ، وَتَلَقَّبَ بالملك المظفر، ثُمَّ كَانَ مُقَدَّمًا كَبِيرًا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ الْعِرَاقِ كُلِّهَا، ثُمَّ طَغَى وبغى وتمرد، وعنا وخرج على الخليفة والمسلمين ودعا إلى خلافة الفاطميين، ثم انقضى أجله في هذه السنة، وكان دخوله إلى بغداد بأهله فِي سَادِسِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ وأربعمائة، ثم اتفق خروجهم منها فِي سَادِسِ ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا مِنْ سَنَةِ إحدى وخمسين، بعد سنة كَامِلَةٍ، ثُمَّ كَانَ خُرُوجُ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَغْدَادَ في يوم الثلاثاء الثاني عَشَرَ مِنْ كَانُونَ الْأَوَّلِ،
وَاتَّفَقَ قَتْلُ
الْبَسَاسِيرِيِّ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ كَانُونَ الْأَوَّلِ، بَعْدَ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ، وَذَلِكَ فِي ذِي الحجة منها.
الحسن بن الفضل
أبو على الشرمقانى المؤدب المقري الحافظ للقرآن والقراءات، وَاخْتِلَافِهَا، كَانَ ضَيِّقَ الْحَالِ فَرَآهُ شَيْخُهُ ابْنُ الْعَلَّافِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ يَأْخُذُ أَوْرَاقَ الْخَسِّ من دجلة ويأكلها، فأعلم ابن المسلمة بحاله، فأرسل ابن المسلمة غلاما له وأمره أن يذهب إلى الخزانة التي له بِمَسْجِدِهِ فَيَتَّخِذَ لَهَا مِفْتَاحًا غَيْرَ مِفْتَاحِهِ، ثُمَّ كان كل يوم يضع فيها ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنْ خُبْزِ السَّمِيدِ، وَدَجَاجَةً، وَحَلَاوَةَ السكر، فَظَنَّ أَبُو عَلِيٍّ الشَّرْمَقَانِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ أكرمه الله بها، وأن هذا الطعام الّذي يجده في خزانته مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَتَمَهُ زَمَانًا وَجَعَلَ يُنْشِدُ:
مَنْ أَطْلَعُوهُ عَلَى سِرٍّ فَبَاحَ بِهِ ... لَمْ يَأْمَنُوهُ على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ... وأبدلوه فكان الأنس إيحاشا
فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ذَاكَرَهُ ابْنُ العلاف في أمره، وقال له فيما قال: أَرَاكَ قَدْ سَمِنْتَ فَمَا هَذَا الْأَمْرُ، وَأَنْتَ رَجُلٌ فَقِيرٌ؟ فَجَعَلَ يُلَوِّحُ وَلَا يُصَرِّحُ، وَيُكَنِّي ولا يفصح، ثم ألح عليه فأخبره أَنَّهُ يَجِدُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خِزَانَتِهِ مِنْ طعام الجنة ما يكفيه، وأن هذا كرامة أكرمه الله بها، فَقَالَ لَهُ: ادْعُ لِابْنِ الْمُسْلِمَةِ فَإِنَّهُ الَّذِي يفعل ذلك، وشرح له صورة الحال، فكسره ذلك ولم يعجبه.
على بن محمود بن إبراهيم بن ماجره
أبو الحسن الروزنى، شيخ الصوفية، وإليه ينسب الرباط الروزنى، وقد كان بنى لأبى الحسن شَيْخِهِ، وَقَدْ صَحِبَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، وَقَالَ: صَحِبْتُ أَلْفَ شَيْخٍ، وَأَحْفَظُ عَنْ كُلِّ شَيْخٍ حِكَايَةً تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ عَنْ خَمْسٍ وثمانين سنة.(12/84)
محمد بن على
ابن الفتح بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الحربي، المعروف بالعشاري، لطول جسده، وقد سمع الدار قطنى وَغَيْرَهُ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا صَالِحًا، تُوُفِّيَ فِي جمادى الأولى منها، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ
الْوَنِّيُّ الْفَرَضِيُّ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنِّيُّ، نِسْبَةٌ إِلَى وَنَّ قرية من أعمال جهستان، الفرضيّ شيخ الحربي، وَهُوَ أَبُو حَكِيمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ الْوَنِّيُّ إِمَامًا فِي الْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ، وَانْتَفَعَ الناس به، توفى فيها ببغداد شهيدا في فتنة البساسيري والله أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ، دَخَلَ السُّلْطَانُ بَغْدَادَ مَرْجِعَهُ مِنْ وَاسِطٍ، بَعْدَ قتل البساسيري، وفي يوم الحادي والعشرين جلس الخليفة في داره وأحضر الملك طغرلبك، ومد سماطا عظيما فَأَكَلَ الْأُمَرَاءُ مِنْهُ وَالْعَامَّةُ، ثُمَّ فِي يَوْمِ الخميس ثانى ربيع الأول عمل السلطان سماطا للناس، وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة قدم الْأَمِيرُ عُدَّةُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بن ذخيرة الدين بن أمير المؤمنين القائم بأمر الله. وَعَمَّتُهُ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُ سِنِينَ، صحبة أبى الغنائم، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِجْلَالًا لِجَدِّهِ، وَقَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ بعد ذلك، وسمى الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِي رَجَبٍ وَقَّفَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَتَّابِيُّ دَارَ كُتُبٍ، وهي دار بشارع ابن أبى عوف من غربي بغداد، وَنَقَلَ إِلَيْهَا أَلْفَ كِتَابٍ، عِوَضًا عَنْ دَارِ ازدشير الَّتِي أُحْرِقَتْ بِالْكَرْخِ. وَفِي شَعْبَانَ مَلَكَ مَحْمُودُ بن نصر حلب وقلعتها فامتدحه الشعراء. وفيها ملك عطية بن مرداس الرحبة، وذلك كله منتزع من أيدي الفاطميين. ولم يحج أحد من أهل العراق فيها، غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة وذهبوا مع الخفراء.
وممن توفى فيها من الأعيان.
أبو منصور الجيلي
من تلاميذ أبى حامد، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِبَابِ الطَّاقِ. وَبِحَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَتَبْنَا عنه وكان ثقة.
الحسن بن محمد
ابن أبى الفضل أبو محمد الفسوي، الوالي، سمع الحديث، وكان ذكيا في صناعة الولاية، ومعرفة التهم والمتهومين من الغرماء، بلطيف من الصنيع، كما نقل عنه أنه أوقف بين يديه جماعة اتهموا بسرقة فأتى بكوز يشرب مِنْهُ، فَرَمَى بِهِ فَانْزَعَجَ الْوَاقِفُونَ إِلَّا وَاحِدًا، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقَرَّرَ، وَقَالَ السَّارِقُ يَكُونُ جَرِيئًا قَوِيًّا، فَوَجَدَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَتَلَ مرة رجلا في ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَادُّعِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، ثُمَّ فَادَى عن نفسه بمال جزيل حتى خلص.(12/85)
محمد بن عبيد الله
ابن أحمد بن محمد بن عروس، أَبُو الْفَضْلِ الْبَزَّارُ، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْفُقَهَاءِ المالكيين ببغداد، وكان من القراء المجيدين، وأهل الحديث المسندين، سمع ابن حبانة وَالْمُخَلِّصِ وَابْنِ شَاهِينَ، وَقَدْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ أَبُو عبد الله الدامغانيّ، وكان أحد المعدلين.
قطر الندى
ويقال الدُّجَى، وَيُقَالُ عَلَمُ، أُمُّ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ الله، كانت عجوزا كبيرة، بلغت التسعين، وهي التي احتاجت في زمان البساسيري فأجرى عليها رزقا، وأخدمها جاريتين، ثُمَّ لَمْ تَمُتْ حَتَّى أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهَا بِوَلَدِهَا، وَرُجُوعِهِ إِلَيْهَا، وَاسْتَمَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى مَا كانوا عليه، ثم توفيت في هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَضَرَ وَلَدُهَا الْخَلِيفَةُ جِنَازَتَهَا، وَكَانَتْ حافلة جدا.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة
فِيهَا خَطَبَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ ابْنَةَ الْخَلِيفَةِ، فَانْزَعَجَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ تجر العادة بمثله، ثم طلب شيئا كثيرا كهيئة الفرار. من ذَلِكَ مَا كَانَ لِزَوْجَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَتْ مِنَ الاقطاعات بأرض واسط، وثلاثمائة أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يُقِيمَ الْمَلِكُ بِبَغْدَادَ لَا يرحل عنها ولا يوما واحدا، فَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مَعَ ابْنَةِ أَخِيهِ دَاوُدَ زوجة الخليفة، وأشياء كثيرة من آنية الذهب والفضة، والنثار والجواري، ومن الجواهر ألفان ومائتي قطعة، من ذلك سبعمائة قطعة من جوهر، وزن القطعة ما بين الثلاث مثاقيل إلى المثقال، وأشياء أخرى. فَتَمَنَّعَ الْخَلِيفَةُ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشُّرُوطِ، فَغَضِبَ عَمِيدُ الملك الْوَزِيرُ لِمَخْدُومِهِ السُّلْطَانِ، وَجَرَتْ شُرُورٌ طَوِيلَةٌ اقْتَضَتْ أن أرسل السلطان كتابا يأمر الخليفة بِانْتِزَاعِ ابْنَةِ أَخِيهِ السَّيِّدَةِ أَرْسَلَانَ خَاتُونَ، وَنَقْلِهَا مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ الْمُلْكِ، حَتَّى تنفصل هذه القضية، فعزم الخليفة على الرحيل من بغداد، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَجَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ إِلَى رئيس شحنة بغداد برشتق يَأْمُرُهُ بِعَدَمِ الْمُرَاقَبَةِ وَكَثْرَةِ الْعَسْفِ فِي مُقَابَلَةِ رد أصحابه بالحرمان، ويعزم على نقل الخاتون إلى دار المملكة، وأرسل من يحملها إلى البلد التي هو فيها، كل ذلك غضبا على الخليفة. قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها رَأَى إِنْسَانٌ مِنَ الزَّمْنَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ قَائِمٌ ومعه ثلاثة أنفس، فجاءه أَحَدُهُمْ فَقَالَ لَهُ: أَلَا تَقُومُ؟ فَقَالَ: لَا أستطيع، أنا رجل مقعد، فأخذ بيده فقال قُمْ فَقَامَ وَانْتَبَهَ، فَإِذَا هُوَ قَدْ بَرِأَ وَأَصْبَحَ يَمْشِي فِي حَوَائِجِهِ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا الْفَتْحِ مَنْصُورَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ دَارَسَتِ الْأَهْوَازِيَّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْوِزَارَةِ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْهُ كُسِفَتِ الشَّمْسُ كُسُوفًا عَظِيمًا، جَمِيعُ الْقُرْصِ غاب، فمكث الناس أَرْبَعَ سَاعَاتٍ حَتَّى بَدَتِ النُّجُومُ وَآوَتِ الطُّيُورُ إلى أوكارها، وتركت الطيران(12/86)
لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ. وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو تَمِيمِ بْنُ معز الدولة بلاد إفريقية. وفيها ولى ابن نَصْرِ الدَّوْلَةِ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ الْكُرْدِيُّ دِيَارَ بكر. وفيها ولى قريش بن بدران بلاد الموصل ونصيبين. وفيها خلع على طراد ابن محمد الزينبي الملقب بالكامل نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ، وَلُقِّبَ الْمُرْتَضَى. وَفِيهَا ضَمِنَ أَبُو إسحاق بن علاء اليهودي، ضياع الخليفة من صرصر إلى أواثى، كل سنة ستة وثمانين ألف دينار، وسبع عشرة أَلْفَ كُرٍّ مِنْ غَلَّةٍ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ من أهل العراق هذه السنة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ
أَبُو نَصْرٍ الْكُرْدِيُّ، صَاحِبُ بِلَادِ بَكْرٍ وميافارقين، لقبه القادر نصر الدولة، وملك هَذِهِ الْبِلَادَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَتَنَعَّمَ تَنَعُّمًا لَمْ يَقَعْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَلَا أدركه فيه أحد من أقرانه، وَكَانَ عِنْدَهُ خَمْسُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ سِوَى مَنْ يَخْدِمُهُنَّ، وعنده خمسمائة خادم، وكان عنده مِنَ الْمُغَنِّيَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَاهَا خَمْسَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَأَكْثَرُ، وَكَانَ يَحْضُرُ فِي مجلسه من آلات اللهو وَالْأَوَانِي مَا يُسَاوِي مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَ بِعِدَّةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمُهَادَنَةِ لِلْمُلُوكِ، إِذَا قَصَدَهُ عَدُوٌّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِمِقْدَارِ ما يصالحه به، فَيَرْجِعُ عَنْهُ.
وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ بِهَدِيَّةٍ عَظِيمَةٍ حِينَ مَلَكَ الْعِرَاقَ، مِنْ ذَلِكَ حبل من ياقوت كان لبني بويه اشتراه منهم بشيء كثير، ومائة ألف دينار، وغير ذلك، وقد وزر له أبو القاسم المعرى مَرَّتَيْنِ، وَوَزَرَ لَهُ أَيْضًا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بن محمد بن حمير، وكانت بلاده آمَنِ الْبِلَادِ، وَأَطْيَبِهَا وَأَكْثَرِهَا عَدْلًا، وَقَدْ بَلَغَهُ أن الطيور تجوع فتجمع في الشتاء من الحبوب التي في الْقُرَى فَيَصْطَادُهَا النَّاسُ، فَأَمَرَ بِفَتْحِ الْأَهْرَاءِ وَإِلْقَاءِ مَا يَكْفِيهَا مِنَ الْغَلَّاتِ فِي مُدَّةِ الشِّتَاءِ، فكانت تكون في ضيافته طول الشتاء مدة عمره، توفى في هذه السنة وقد قارب الثمانين. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ فِي تَارِيخِهِ: إِنَّهُ لَمْ يُصَادِرْ أَحَدًا مِنْ رَعِيَّتِهِ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ تَفُتْهُ صَلَاةٌ مَعَ كثرة مباشرته للذات، وكان لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ حَظِيَّةً، يَبِيتُ عِنْدَ كُلِّ واحدة ليلة في السَّنَةِ، وَخَلَّفَ أَوْلَادًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذلك إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شوال منها.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة
فِيهَا وَرَدَتِ الْكُتُبُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ يشكو من قلة إنصاف الخليفة، وعدم موافقته له، ويذكر ما أسداه إليه من الخير وَالنِّعَمِ إِلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ الدَّامَغَانِيِّ، فلما رأى الخليفة ذلك، وأن الملك أرسل إلى نوابه بالاحتياط على أموال الخليفة، كتب إلى الملك يجيبه إلى ما سأل، فلما وصل ذلك إِلَى الْمَلِكِ فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَرْسَلَ إِلَى نوابه أن يطلقوا أملاك الخليفة، واتفقت الكلمة بعد أن كادت تتفرق، فوكل الخليفة في العقد. فوقع الْعَقْدُ بِمَدِينَةِ تِبْرِيزَ بِحَضْرَةِ(12/87)
الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ، وَعَمِلَ سِمَاطًا عَظِيمًا، فَلَمَّا جِيءَ بالوكلة قَامَ لَهَا الْمَلِكُ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا، ودعا للخليفة دعاء كثيرا، ثُمَّ أَوْجَبَ الْعَقْدَ عَلَى صَدَاقِ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دينار، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعَثَ ابْنَةَ أخيه الخاتون زوجة الخليفة في شوال بتحف كثيرة، وجوهر وَذَهَبٍ كَثِيرٍ، وَجَوَاهِرَ عَدِيدَةٍ ثَمِينَةٍ، وَهَدَايَا عَظِيمَةٍ لأم العروس وأهلها، وقال الملك جهرة للناس: أنا عبد الخليفة مَا بَقِيتُ، لَا أَمْلِكُ شَيْئًا سِوَى مَا عَلَيَّ مِنَ الثِّيَابِ. وَفِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ وَاسْتَوْزَرَ أَبَا نَصْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جبير، اسْتَقْدَمَهُ مِنْ مَيَّافَارِقِينَ. وَفِيهَا عَمَّ الرُّخْصُ جَمِيعَ الأرض حتى بيع بِالْبَصْرَةِ كُلُّ أَلْفِ رِطْلِ تَمْرٍ بِثَمَانِ قَرَارِيطَ، ولم يحج فيها أحد.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
ثُمَالُ بْنُ صالح
معز الدولة، صاحب حلب، كان حليما كريما وَقُورًا. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْفَرَّاشَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ لِيَغْسِلَ يَدَهُ فَصَدَمَتْ بَلْبَلَةُ الْإِبْرِيقِ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ فِي الطَّسْتِ، فَعَفَا عَنْهُ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، وُلِدَ في شعبان سنة ثلاث وستين، وسمع الحديث على جماعة، وتفرد بمشايخ كثيرين، منهم أبو بكر بن مالك القطيعي، وهو آخِرَ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ، تُوُفِّيَ فِي ذِي القعدة منها
الحسين بن أبى زيد
أَبُو عَلِيٍّ الدَّبَّاغُ. قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يميتني على الإسلام. فقال: وَعَلَى السُّنَّةِ
سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو الْمَحَاسِنِ الْجُرْجَانِيُّ، كَانَ رَئِيسًا قَدِيمًا، وُجِّهَ رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ فِي حُدُودِ سَنَةِ عَشْرٍ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْعُلَمَاءِ، تَخَرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسُ الْمُنَاظَرَةِ بِبُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، وَقُتِلَ ظلما بأستراباذ في رجب مِنْهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وخمسين وأربعمائة
فِيهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ بَغْدَادَ، وَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى تَلَقِّيهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ وَزِيرَهُ أَبَا نَصْرٍ عِوَضًا عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الْجَيْشِ أذية كثيرة للناس في الطريق، وتعرضوا للحريم حتى هَجَمُوا عَلَى النِّسَاءِ فِي الْحَمَّامَاتِ، فَخَلَّصَهُنَّ مِنْهُمُ العامة بعد جهد. ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156
ذكر دُخُولُ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ عَلَى بِنْتِ الْخَلِيفَةِ
لَمَّا استقر السلطان بِبَغْدَادَ أَرْسَلَ وَزِيرَهُ عَمِيدَ الْمُلْكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يطالبه بنقل ابنته إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ فَتَمَنَّعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا سَأَلْتُمْ أَنْ يَعْقِدَ الْعَقْدَ فقط بحصول التشريف والتزمتم لها بعود المطالبة، فتردد الناس فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْمَلِكِ، وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ زِيَادَةً عَلَى النَّقْدِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ(12/88)
وَمِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَتُحَفًا أُخَرَ، وَأَشْيَاءَ لَطِيفَةً، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ من صفر زُفَّتِ السَّيِّدَةُ ابْنَةُ الْخَلِيفَةِ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَضُرِبَتْ لَهَا السُّرَادِقَاتُ مِنْ دِجْلَةَ إِلَى دَارِ المملكة، وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها إلى الدار، فلما دخلت أجلست عَلَى سَرِيرٍ مُكَلَّلٍ بِالذَّهَبِ، وَعَلَى وَجْهِهَا بُرْقُعٌ، وَدَخَلَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهَا فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَلَمْ تَقُمْ لَهُ وَلَمْ تَرَهُ، وَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى انْصَرَفَ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ، وَالْحُجَّابُ وَالْأَتْرَاكُ يَرْقُصُونَ هُنَاكَ فَرَحًا وَسُرُورًا، وَبَعَثَ لَهَا مع الخاتون زَوْجَةِ الْخَلِيفَةِ عِقْدَيْنِ فَاخِرَيْنِ، وَقِطْعَةَ يَاقُوتٍ حَمْرَاءَ، كَبِيرَةً هَائِلَةً، وَدَخَلَ مِنَ الْغَدِ فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مُكَلَّلٍ بِالْفِضَّةِ بِإِزَائِهَا سَاعَةً، ثم خرج وأرسل لها جواهر كثيرة ثمينة وفرجية نسج بالذهب مكلل بالحب، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ يَدْخُلُ وَيُقَبِّلُ الْأَرْضَ وَيَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ بِإِزَائِهَا، ثُمَّ يَخْرُجُ عنها ويبعث بِالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَيْهَا شَيْءٌ، مِقْدَارَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَيَمُدُّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ هذه الأيام السبعة سماطا هائلا، وخلع في اليوم السَّابِعِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ سفر واعتراه مرض فاستأذن الخليفة في الانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد، ثم يعود بها، فأذن له بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ، وَحُزْنٍ عَظِيمٍ، فَخَرَجَ بِهَا وَلَيْسَ مَعَهَا مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ سِوَى ثَلَاثِ نسوة، برسم خدمتها، وقد تألمت والدتها لفقدها ألما شديدا، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ مُدْنِفٌ مَأْيُوسٌ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْأَحَدِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رمضان جاء الخبر بأنه توفى في ثامن الشهر، فثار العيارون فقتلوا العميدي وَسَبْعَمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ عَلَى الْقَتْلَى نَهَارًا، حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ وَأُخِذَتِ الْبَيْعَةُ بَعْدَهُ لِوَلَدِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ طُغْرُلْبَكُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ وَأَوْصَى إليه، لأنه كان قد تزوج بأمه، واتفقت الكلمة عليه، ولم يبق عليه خَوْفٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَخِي سُلَيْمَانَ، وَهُوَ الْمَلِكُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ أَلْبُ أَرْسَلَانَ، مُحَمَّدُ بْنُ داود، فان الجيش كانوا يميلون إليه، وَقَدْ خَطَبَ لَهُ أَهْلُ الْجَبَلِ وَمَعَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ وَزِيرُهُ، وَلَمَّا رَأَى الْكُنْدُرِيُّ قُوَّةَ أَمْرِهِ خَطَبَ لَهُ بِالرَّيِّ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ حَلِيمًا كَثِيرَ الِاحْتِمَالِ، شَدِيدَ الْكِتْمَانِ لِلسِّرِّ، مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى صَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، مُوَاظِبًا عَلَى لُبْسِ الْبَيَاضِ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ مَاتَ سبعين سنة، ولم يترك ولدا، وملك بحضرة القائم بأمر الله سَبْعَ سِنِينَ وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا، وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمَّا مَاتَ اضْطَرَبَتِ الْأَحْوَالُ وَانْتَقَضَتْ بَعْدَهُ جِدًّا، وَعَاثَتِ الْأَعْرَابُ فِي سَوَادِ بَغْدَادَ وَأَرْضِ العراق، ينهبون، وتعذرت الزراعة إلا على المخاطرة، فانزعج الناس لذلك.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِوَاسِطٍ وَأَرْضِ الشَّامِ، فَهُدِمَتْ قِطْعَةٌ مِنْ سُورِ طَرَابُلُسَ. وَفِيهَا وَقَعَ بالناس مُوتَانٌ بِالْجُدَرِيِّ وَالْفَجْأَةِ، وَوَقَعَ بِمِصْرَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ، كَانَ يَخْرُجُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ جِنَازَةٍ. وفيها(12/89)
مَلَكَ الصُّلَيْحِيُّ صَاحِبُ الْيَمَنِ مَكَّةَ، وَجَلَبَ الْأَقْوَاتَ إليها، وأحسن إلى أهلها. وفي أوائلها طلبت الست أرسلان زوجة الخليفة النقلة من عنده إلى عمها، وذلك لما هجرها وبارت عنده، فبعثها مع الوزير الكندري إلى عمها، فلما وصلت إليه كان مريضا مدنفا، فَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي تَهَاوُنِهِ بها، فكتب الخليفة إليه ارْتِجَالًا:
ذَهَبَتْ شِرَّتِي وَوَلَّى الْغَرَامُ ... وَارْتِجَاعُ الشَّبَابِ مَا لَا يُرَامُ
أَذْهَبَتْ مِنِّي اللَّيَالِي جَدِيدًا ... وَاللَّيَالِي يُضْعِفْنَ وَالْأَيَّامُ
فَعَلَى مَا عَهِدْتُهُ مِنْ شبابي ... وعلى الغانيات منى السلام
وممن توفى فيها من الأعيان
زهير بن على بن الحسن بن حزام
أبو نصر الحزامي، وَرَدَ بَغْدَادَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَسَمِعَ بِالْبَصْرَةِ سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، وَحَدَّثَ بِالْكَثِيرِ، وَكَانَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى، وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بسرخس فيها.
سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ
صَاحِبُ آمِدَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ سُمَّ، فَانْتَقَمَ صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ مِمَّنْ سَمَّهُ، فَقَطَّعَهُ قطعا.
الملك أَبُو طَالِبٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ طُغْرُلْبَكَ، كَانَ أَوَّلُ مُلُوكِ السَّلَاجِقَةِ، وَكَانَ خَيِّرًا مصليا، محافظا على الصلاة في أول وقتها، يُدِيمُ صِيَامَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، حَلِيمًا عَمَّنْ أَسَاءَ إليه، كتوما للاسرار سعيدا في حركاته، ملك في أيام مسعود بن محمود عَامَّةَ بِلَادِ خُرَاسَانَ، وَاسْتَنَابَ أَخَاهُ دَاوُدَ وَأَخَاهُ لأمه إبراهيم بن نيال، وَأَوْلَادَ إِخْوَتِهِ، عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، ثُمَّ استدعاه الخليفة إلى ملك بغداد كما تقدم ذلك كله مبسوطا. توفى فِي ثَامِنِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ لَهُ فِي الملك ثلاثون سنة، منها في ملك الْعِرَاقِ ثَمَانُ سِنِينَ إِلَّا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة
فِيهَا قَبَضَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ عَلَى وَزِيرِ عمه عميد الملك الكندري، وسجنه ببيته ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، وَاعْتَمَدَ فِي الْوِزَارَةِ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ، يُكْرِمُ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَلَمَّا عَصَى الْمَلِكُ شِهَابُ الدولة قتلمش، وخرج عن الطاعة، وأراد أخذ ألب أرسلان، خاف منه أَلْبُ أَرْسَلَانَ فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لا تخف، فانى قد استدمت لك جندا ما بارزوا عسكرا إلا كسروه، كائنا ما كان. قال له الملك: من هم؟ قال: جند يَدْعُونَ لَكَ وَيَنْصُرُونَكَ بِالتَّوَجُّهِ فِي صَلَوَاتِهِمْ وَخَلَوَاتِهِمْ، وهم العلماء والفقراء الصلحاء. فطابت نفس الملك بذلك، فحين التقى مع قتلمش لم ينظره أَنْ كَسَرَهُ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ جُنُودِهِ، وَقُتِلَ قُتُلْمِشُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى أَلْبِ أرسلان.(12/90)
وفيها أرسل ولده ملك شاه وَوَزِيرَهُ نِظَامَ الْمُلْكِ هَذَا فِي جُنُودٍ عَظِيمَةٍ إلى بلاد الكرخ، ففتحوا حصونا كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِنَصْرِهِمْ، وَكَتَبَ كِتَابَ وَلَدِهِ عَلَى ابْنَةِ الْخَانِ الْأَعْظَمِ صَاحِبِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وزفت إليه، وزوج ابنه الآخر بابنة صاحب غزنة، واجتمع شمل الملكين السلجوقي والمحمودي.
وفيها أذن ألب أرسلان لابنة الخليفة في الرجوع إلى أبيها، وَأَرْسَلَ مَعَهَا بَعْضَ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ فَدَخَلَتْ بَغْدَادَ في تجمل عظيم، وخرج الناس لينظروا إليها، فدخلت ليلا، فَفَرِحَ الْخَلِيفَةُ وَأَهْلُهَا بِذَلِكَ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِالدُّعَاءِ لألب أَرْسَلَانَ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي الْخُطَبِ، فَقِيلَ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهمّ وَأَصْلِحِ السُّلْطَانَ الْمُعَظَّمَ، عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَتَاجَ الْمِلَّةِ، أَلْبَ أَرْسَلَانَ أَبَا شُجَاعٍ مُحَمَّدَ بن داود، ثم أرسل الخليفة إلى الملك بالخلع والتقليد مع الشريف نقيب النقباء، طراد بن محمد، وأبى محمد التميمي، وموفق الخادم واستقر أمر السلطان ألب أرسلان على الْعِرَاقِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ شاع في بغداد أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْأَكْرَادِ خَرَجُوا يَتَصَيَّدُونَ فَرَأَوْا في البرية خياما سودا، سمعوا بها لَطْمًا شَدِيدًا، وَعَوِيلًا كَثِيرًا، وَقَائِلًا يَقُولُ: قَدْ مَاتَ سَيِّدُوكُ مَلِكُ الْجِنِّ، وَأَيُّ بَلَدٍ لَمْ يُلْطَمْ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُمْ لَهُ مَأْتَمٌ فيه. قَالَ: فَخَرَجَ النِّسَاءُ الْعَوَاهِرُ مِنْ حَرِيمِ بَغْدَادَ إِلَى الْمَقَابِرِ يَلْطِمْنَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيَخْرِقْنَ ثِيَابَهُنَّ وينشرن شعورهن، وخرج رجال من الفساق يفعلون ذلك، وفعل هذا بواسط وخوزستان وغيرها من البلاد، قال: وهذا مِنَ الْحُمْقِ لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ شَعْبَانَ هَجَمَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ، الْمُدَرِّسِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فَسَبُّوهُ وَشَتَمُوهُ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْجَامِعِ، وَتَدْرِيسِهِ للناس بهذا الْمَذْهَبِ، وَأَهَانُوهُ وَجَرُّوهُ، وَلُعِنَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، فِي جَامِعِ المنصور، وجلس أبو سعيد بن أبى عمامة وجعل يلعن المعتزلة. وفي شوال ورد الخبر أن السلطان غزا بلدا عظيما فيه ستمائة ألف دنليز، وَأَلْفُ بِيعَةٍ وَدَيْرٍ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ حدث بالناس وباء شديد ببغداد وغيرها من بلاد العراق، وغلت أسعار الأدوية، وَقَلَّ التَّمْرُهِنْدِيٍّ، وَزَادَ الْحَرُّ فِي تَشَارِينَ، وَفَسَدَ الْهَوَاءُ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ خُلِعَ عَلَى أَبِي الْغَنَائِمِ الْمَعْمَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ العلويّ بنقابة الطالبيين، وولاية الحج والمظالم، ولقب بالظاهر ذِي الْمَنَاقِبِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ فِي الْمَوْكِبِ. وَحَجَّ أهل العراق فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ
هُوَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمِ بْنِ غَالِبِ بْنِ صَالِحِ بْنِ خَلَفِ بْنِ معد بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ، مَوْلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ، أَصْلُ جده من فارس، أسلم وخلف المذكور، وهو أول من دخل بلاد المغرب منهم، وَكَانَتْ بَلَدُهُمْ قُرْطُبَةُ، فَوُلِدَ ابْنُ(12/91)
حزم هذا بها في سلخ رمضان، سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَاشْتَغَلَ بالعلوم النافعة الشرعية، وبرز فيها وفاق أهل زمانه، وصنف الكتب المشهورة، يقال إنه صنف أربعمائة مجلد فِي قَرِيبٍ مِنْ ثَمَانِينَ أَلْفَ وَرَقَةٍ، وَكَانَ أَدِيبًا طَبِيبًا شَاعِرًا فَصِيحًا، لَهُ فِي الطِّبِّ والمنطق كتب، وَكَانَ مِنْ بَيْتِ وِزَارَةٍ وَرِيَاسَةٍ، وَوَجَاهَةٍ وَمَالٍ وَثَرْوَةٍ، وَكَانَ مُصَاحِبًا لِلشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمِرِيِّ، وَكَانَ مُنَاوِئًا لِلشَّيْخِ أَبِي الْوَلِيدِ سُلَيْمَانَ بْنِ خَلَفٍ الْبَاجِيِّ، وَقَدْ جَرَتْ بينهما مناظرات يطول ذكرها.
وكان ابن حَزْمٍ كَثِيرَ الْوَقِيعَةِ فِي الْعُلَمَاءِ بِلِسَانِهِ وَقَلَمِهِ، فَأَوْرَثَهُ ذَلِكَ حِقْدًا فِي قُلُوبِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى بَغَّضُوهُ إِلَى مُلُوكِهِمْ، فَطَرَدُوهُ عَنْ بِلَادِهِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي قرية له فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ التسعين. والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهريا حائرا في الفروع، لا يقول: بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره، وَهَذَا الَّذِي وَضَعَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ خَطَأً كَبِيرًا فِي نَظَرِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَكَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَأْوِيلًا فِي بَابِ الأصول، وآيات الصفات وأحاديث الصفات، لأنه كان أولا قد تضلع مِنْ عِلْمِ الْمَنْطِقِ، أَخَذَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَذْحِجِيِّ الْكِنَانِيِّ الْقُرْطُبِيِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاكُولَا وابن خلكان، ففسد بذلك حاله في باب الصفات.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بُرْهَانَ
أَبُو الْقَاسِمِ النَّحْوِيُّ، كَانَ شَرِسَ الْأَخْلَاقِ جِدًّا، لَمْ يَلْبَسْ سَرَاوِيلَ قَطُّ وَلَا غَطَّى رَأْسَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ عَطَاءً لِأَحَدٍ، وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يقبّل المردان من غير ريبة. قال ابن عقيل: وكان على مذهب مرجئة المعتزلة وينفى خلود الكفار في النار، وَيَقُولُ: دَوَامُ الْعِقَابِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّشَفِّي لَا وَجْهَ لَهُ، مَعَ ما وصف الله بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَيَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ تَعَالَى (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) 4: 57 أِيْ أَبَدًا مِنَ الْآبَادِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَ ابْنُ بُرْهَانَ يَقْدَحُ فِي أَصْحَابِ أحمد ويخالف اعتقاد المسلمين لأنه قد خالف الإجماع، ثم ذكر كلامه في هذا وغيره والله أعلم.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا سار جماعة من العراق إلى الحج بِخِفَارَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمَسِيرُ فَعَدَلُوا إِلَى الْكُوفَةِ وَرَجَعُوا.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا شُرِعَ فِي بناء المدرسة النظامية، وَنُقِضَ لِأَجْلِهَا دَوْرٌ كَثِيرَةٌ مِنْ مَشْرِعَةِ الزَّوَايَا، وَبَابِ الْبَصْرَةِ. وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ تميم بن العزيز وباديس، وَأَوْلَادِ حَمَّادٍ، وَالْعَرَبِ وَالْمَغَارِبَةِ بِصِنْهَاجَةَ وَزَنَاتَةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مِنْ بَغْدَادَ النَّقِيبُ أَبُو الْغَنَائِمِ.
وَفِيهَا كان مقتل عميد الملك الكندري، وهو منصور بن محمد أبو نصر الكندري، وزير طغرلبك، وكان مسجونا سَنَةً تَامَّةً، وَلَمَّا قُتِلَ حُمِلَ فَدُفِنَ عِنْدَ أبيه بقرية كندرة، من عمل طريثيث، وليست بكندرة التي هي بِالْقُرْبِ مِنْ قَزْوِينَ. وَاسْتَحْوَذَ السُّلْطَانُ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَقَدْ كَانَ(12/92)
ذَكِيًّا فَصِيحًا شَاعِرًا، لَدَيْهِ فَضَائِلُ جَمَّةٌ، حَاضِرَ الْجَوَابِ سَرِيعَهُ. وَلَمَّا أَرْسَلَهُ طُغْرُلْبَكُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يطلب ابنته، وامتنع الخليفة من ذلك وأنشد متمثلا بقول الشاعر
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
فأجابه الوزير تمام قوله
تجرى الرياح بما لا يشتهي السفن
فسكت الخليفة وأطرق. قتل عن نيف وأربعين سنة. ومن شعره قَوْلُهُ:
إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ ضِيقٌ عَنْ مُنَافَسَتِي ... فَالْمَوْتُ قَدْ وَسَّعَ الدُّنْيَا عَلَى النَّاسِ
مَضَيْتُ وَالشَّامِتُ الْمَغْبُونُ يَتْبَعُنِي ... كُلٌّ لِكَأْسِ الْمَنَايَا شارب حاسى
وقد بعثه الملك طغرلبك يَخْطُبُ لَهُ امْرَأَةَ خُوَارَزْمَ شَاهْ فَتَزَوَّجَهَا هُوَ، فخصاه الملك وأمره عَلَى عَمَلِهِ فَدُفِنَ ذَكَرُهُ بِخُوَارَزْمَ، وَسُفِحَ دَمُهُ حين قتل بمروالروذ، ودفن جسده بقريته، وَحُمِلَ رَأْسُهُ فَدُفِنَ بِنَيْسَابُورَ، وَنُقِلَ قَحْفُ رَأْسِهِ إلى كرمان، وأنا أشهد أن الله جامع الخلائق إلى ميقات يوم معلوم أين كانوا، وحيث كانوا، وعلى أي صفة كانوا سبحانه وتعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَغْلَقَ أَهْلُ الْكَرْخِ دَكَاكِينَهُمْ وأحضروا نساء ينحن على الحسين، كما جرت به عادتهم السالفة في بدعتهم المتقدمة المخالفة، فَحِينَ وَقَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَتْهُ الْعَامَّةُ، وَطَلَبَ الْخَلِيفَةُ أبا الغنائم وأنكر عليه ذلك. فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به، وأنه حين علم أَزَالَهُ، وَتَرَدَّدَ أَهْلُ الْكَرْخِ إِلَى الدِّيوَانِ يَعْتَذِرُونَ من ذلك، وخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر الْبِدَعَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وُلِدَ بِبَابِ الْأَزْجِ صَبِيَّةٌ لَهَا رَأْسَانِ وَوَجْهَانِ ورقبتان وأربع أيد، عَلَى بَدَنٍ كَامِلٍ ثُمَّ مَاتَتْ. قَالَ: وَفِي جمادى الآخرة كانت بخراسان زلزلة مكثت أياما، تصدعت منها الجبال، وهلك جماعة، وخسف بِعِدَّةِ قُرًى، وَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَأَقَامُوا هنالك، ووقع حريق بنهر يعلى فاحترق مِائَةَ دُكَّانٍ وَثَلَاثَةَ دُورٍ، وَذَهَبَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كثير، ونهب بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفِي شَعْبَانَ وقع قتال بدمشق فأحرقوا دارا كانت قريبة من الجامع، فَاحْتَرَقَ جَامِعُ دِمَشْقَ. كَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: والصحيح المشهور أن حريق جامع دمشق إنما هو في ليلة النصف من شعبان سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بَعْدِ ثَلَاثِ سِنِينَ مما قال، وَأَنَّ غِلْمَانَ الْفَاطِمِيِّينَ اقْتَتَلُوا مَعَ غِلْمَانِ الْعَبَّاسِيِّينَ فَأُلْقِيَتْ نَارٌ بِدَارِ الْإِمَارَةِ، وَهِيَ الْخَضْرَاءُ، فَاحْتَرَقَتْ وتعدى حريقها حتى وصل إلى الجامع فسقطت سقوفه، وبادت زخرفته، وتلف رخامه، وبقي كأنه خربة، وبادت الخضراء فصارت كوما من تراب بعد ما كانت في غاية الأحكام والإتقان، وطيب الفناء، ونزهة المجالس، وحسن المنظر، فَهِيَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا لَا يَسْكُنُهَا لِرَدَاءَةِ مكانها إلا سفلة الناس وأسقاطهم، بعد ما كانت دار الخلافة والملك وَالْإِمَارَةِ، مُنْذُ أَسَّسَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وأما الجامع الأموي فإنه لم يكن على وجه الأرض(12/93)
شيء أحسن منه ولا أبهى منظرا، إِلَى أَنِ احْتَرَقَ فَبَقِيَ خَرَابًا مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ شَرَعَ الْمُلُوكُ فِي تَجْدِيدِهِ وَتَرْمِيمِهِ، حَتَّى بُلِّطَ فِي زَمَنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أيوب، ولم يزالوا فِي تَحْسِينِ مَعَالِمِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَتَمَاثَلَ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ كَلَا شَيْءٍ، وَلَا زَالَ التَّحْسِينُ فِيهِ إِلَى أَيَّامِ الْأَمِيرِ سيف الدين بتكنز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرِيِّ، فِي حُدُودِ سَنَةِ ثلاث وَسَبْعِمِائَةٍ، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بِيَسِيرٍ.
وَفِيهَا رخصت الأسعار ببغداد رخصا كثيرا، ونقصت دجلة نقصا بينا. وَفِيهَا أَخَذَ الْمَلِكُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ الْعَهْدَ بِالْمُلْكِ من بعده لولده ملك شاه، ومشى بين يديه بالغاشية والأمراء يمشون بين يديه، وكان يوما مشهودا. وحج بالناس فيها نُورُ الْهُدَى أَبُو طَالِبٍ الْحُسَيْنُ بْنُ نِظَامِ الحضرتين الزينبي وجاور بمكة.
وفيها توفى من الأعيان.
الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الله بن موسى أبو بكر البيهقي، له التصانيف التي سارت بها الركبان إلى سائر الأمصار، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وكان أوحد أهل زَمَانِهِ فِي الْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصْنِيفِ، كَانَ فَقِيهًا مُحَدِّثًا أُصُولِيًّا، أَخَذَ الْعِلْمَ عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ، وَسَمِعَ عَلَى غَيْرِهِ شيئا كثيرا، وجمع أشياء كثيرة نافعة، لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهَا، وَلَا يُدْرَكُ فِيهَا، منها كِتَابُ السُّنَنِ الْكَبِيرِ، وَنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ كُلٌّ فِي عشر مجلدات، والسنن الصغير، وَالْآثَارِ، وَالْمَدْخَلِ، وَالْآدَابِ وَشُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالْخِلَافِيَّاتِ، وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ الْمُفِيدَةِ، الَّتِي لَا تُسَامَى وَلَا تُدَانَى، وَكَانَ زَاهِدًا مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، كَثِيرَ العبادة والورع، توفى بِنَيْسَابُورَ، وَنُقِلَ تَابُوتُهُ إِلَى بَيْهَقَ فِي جُمَادَى الأولى منها.
الحسن بن غالب
ابن عَلِيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ صُعْلُوكٍ، أبو على التميمي، ويعرف بابن المبارك المقري، صحب ابن سمعون، وقرأ الْقُرْآنَ عَلَى حُرُوفٍ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، وَجُرِّبَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، إِمَّا عَمْدًا وَإِمَّا خَطَأً، وَاتُّهِمَ فِي رواية كثيرة، وكان أبو بكر الْقَزْوِينِيُّ مِمَّنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَكُتِبَ عَلَيْهِ مَحْضَرٌ بِعَدَمِ الْإِقْرَاءِ بِالْحُرُوفِ الْمُنْكَرَةِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ السمرقندي كان كذابا، توفى فيها عن ثنتين وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ نصر بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ الْمَرْوَزِيِّ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَاشْتُهِرَ بِهِ، وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ.
الْقَاضِي أبو يعلى بن الفرا الحنبلي
محمد بن الحسن بن محمد بن خلف بن أحمد الفرا الْقَاضِي، أَبُو يَعْلَى شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ، وَمُمَهِّدُ مَذْهَبِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، وُلِدَ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ حبابة. قال(12/94)
ابن الجوزي: وكان من سادات العلماء الثِّقَاتِ، وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا وَابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فقبلاه، وتولى النظر في الحكم بحريم الْخِلَافَةِ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ، لَهُ التَّصَانِيفُ الْحِسَانِ الْكَثِيرَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى سنين، وانتهت إليه رياسة الْمَذْهَبُ، وَانْتَشَرَتْ تَصَانِيفُهُ وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَعَ الْإِمَامَةَ وَالْفِقْهَ وَالصِّدْقَ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَالتَّعَبُّدَ وَالتَّقَشُّفَ وَالْخُشُوعَ، وَحُسْنَ السمت، والصمت عما لا يعنى توفى في العشرين من رمضان منها عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَاجْتَمَعَ فِي جِنَازَتِهِ القضاة والأعيان، وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا، فَأَفْطَرَ بَعْضُ مَنِ اتَّبَعَ جنازته، وَتَرَكَ مِنَ الْبَنِينَ عُبَيْدَ اللَّهِ أَبَا الْقَاسِمِ، وَأَبَا الْحُسَيْنِ وَأَبَا حَازِمٍ، وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: رَحِمَنِي وَغَفَرَ لِي وَأَكْرَمَنِي، وَرَفَعَ مَنْزِلَتِي، وَجَعَلَ يَعُدُّ ذَلِكَ بِأِصْبَعِهِ، فَقَالَ: بِالْعِلْمِ؟ فَقَالَ: بَلْ بالصدق.
ابن سيده
صاحب المحكم في اللغة، أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمُرْسِيُّ، كَانَ إماما حافظا في اللغة، وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، أَخَذَ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ عن أبيه، وكان أبوه ضريرا أيضا، واشتغل عَلَى أَبِي الْعَلَاءِ صَاعِدٍ الْبَغْدَادِيِّ، وَلَهُ الْمُحْكَمُ فِي مُجَلَّدَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَلَهُ شَرْحُ الْحَمَاسَةِ فِي سِتِّ مُجَلَّدَاتٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ أبى عمر الطملنكى كِتَابَ الْغَرِيبِ لِأَبِي عُبَيْدٍ سَرْدًا مِنْ حِفْظِهِ، فتعجب الناس لذلك، وكان الشيخ يقابل بما يقرأ في الكتاب، فسمع الناس بقراءته من حفظه، توفى في ربيع الأول منها وَلَهُ سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تسع وخمسين وأربعمائة
فِيهَا بَنَى أَبُو سَعِيدٍ الْمُسْتَوْفِي الْمُلَقَّبُ بِشَرَفِ الملك، مشهد الامام أبى حنيفة بِبَغْدَادَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قُبَّةً، وَعَمِلَ بِإِزَائِهِ مَدْرَسَةً، فدخل أبو جعفر بن البياضي زائرا لأبى حنيفة فأنشد:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعِلْمَ كَانَ مُضَيَّعًا ... فَجَمَّعَهُ هَذَا الْمُغَيَّبُ فِي اللَّحْدِ
كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ مَيْتَةً ... فَأَنْشَرَهَا جُودُ الْعَمِيْدِ أَبِي السَّعْدِ
وفيها هَبَّتْ رِيحٌ حَارَّةٌ فَمَاتَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وورد أن ببغداد تلف شجر كثير مِنَ اللَّيْمُونِ وَالْأُتْرُجِّ. وَفِيهَا احْتَرَقَ قَبْرُ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ الْقِيِّمَ طُبِخَ لَهُ مَاءُ الشَّعِيرِ لِمَرَضِهِ فَتَعَدَّتِ النَّارُ إِلَى الْأَخْشَابِ فاحترق المشهد. وَفِيهَا وَقَعَ غَلَاءٌ وَفَنَاءٌ بِدِمَشْقَ وَحَلَبَ وَحَرَّانَ، وأعمال خراسان بِكَمَالِهَا، وَوَقَعَ الْفَنَاءُ فِي الدَّوَابِّ: كَانَتْ تَنْتَفِخُ رُءُوسُهَا وَأَعْيُنُهَا حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ حُمُرَ الوحش بالأيدي، وكانوا يَأْنَفُونَ مِنْ أَكْلِهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ جمع العميد أبو سعد النَّاسَ لِيَحْضُرُوا الدَّرْسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَعَيَّنَ لِتَدْرِيسِهَا وَمَشْيَخَتِهَا الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ، فَلَمَّا(12/95)
تَكَامَلَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَجَاءَ أَبُو إِسْحَاقَ لِيُدَرِّسَ لَقِيَهُ فَقِيهٌ شَابٌّ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي تَذْهَبُ تدرس في مكان مغصوب؟ فامتنع أبو إسحاق مِنَ الْحُضُورِ وَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَأُقِيمَ الشَّيْخُ أبو نصر الصَّبَّاغِ فَدَرَّسَ، فَلَمَّا بَلَغَ نِظَامَ الْمُلْكِ ذَلِكَ تَغَيَّظَ عَلَى الْعَمِيدِ وَأَرْسَلَ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَرَدَّهُ إِلَى التَّدْرِيسِ بِالنِّظَامِيَّةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي فيها مكتوبة، بل كان يخرج إلى بعض المساجد فيصلي، لما بلغه من أنها مغصوبة، وقد كان مدة تدريس ابن الصباغ فيها عشرين يوما، ثم عاد أَبُو إِسْحَاقَ إِلَيْهَا. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الصُّلَيْحِيُّ أَمِيرُ الْيَمَنِ وَصَاحِبُ مَكَّةَ قَتَلَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْيَمَنِ، وَخُطِبَ لِلْقَائِمِ بأمر الله العباسي. وفيها حج بالناس أبو الغنائم النقيب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل بن محمد
أبو على الطرسوسي، وَيُقَالُ لَهُ الْعِرَاقِيُّ، لِظَرْفِهِ وَطُولِ مُقَامِهِ بِهَا، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي طَاهِرٍ الْمُخَلِّصِ، وَتَفَقَّهَ على أبى محمد الباقي، ثُمَّ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَوَلِيَ قضاء بلدة طرسوس وكان من الفقهاء الفضلاء المبرزين.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النبويّة
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي جُمَادَى الْأُولَى كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِأَرْضِ فِلَسْطِينَ، أَهْلَكَتْ بَلَدَ الرَّمْلَةِ، وَرَمَتْ شراريف مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولحقت وادي الصفر وخيبر، وانشقت الأرض عن كنوز كثيرة مِنَ الْمَالِ، وَبَلَغَ حِسُّهَا إِلَى الرَّحْبَةِ وَالْكُوفَةِ، وجاء كتاب بعض التجار فيه ذكر هذه الزلزلة وذكر فيه إِنَّهَا خَسَفَتْ الرَّمْلَةَ جَمِيعًا حَتَّى لَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا دَارَانِ فَقَطْ، وَهَلَكَ مِنْهَا خَمْسَ عشرة ألف نسمة، وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وَغَارَ الْبَحْرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَسَاخَ فِي الْأَرْضِ وَظَهَرَ فِي مَكَانِ الْمَاءِ أَشْيَاءُ مِنْ جَوَاهِرَ وَغَيْرِهَا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي أَرْضِهِ يَلْتَقِطُونَ، فَرَجَعَ عليهم فأهلك كثيرا منهم، أو أكثرهم. وفي يوم النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ قُرِئَ الِاعْتِقَادُ الْقَادِرِيُّ الّذي فيه مذهب أهل السنة، وَالْإِنْكَارُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَقَرَأَ أَبُو مُسْلِمٍ الكجي الْبُخَارِيُّ الْمُحَدِّثُ كِتَابَ التَّوْحِيدِ لِابْنِ خُزَيْمَةَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ. وَذُكِرَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْوَزِيرِ ابْنِ جهير وجماعة الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ، وَاعْتَرَفُوا بِالْمُوَافَقَةِ، ثُمَّ قُرِئَ الاعتقاد القادري على الشريف أبى جعفر بن المقتدى باللَّه بِبَابِ الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ لِسَمَاعِهِ لَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ باللَّه مُصَنِّفُهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا نَصْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ، الْمُلَقَّبَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ يُعَاتِبُهُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَاعْتَذَرَ مِنْهَا وَأَخَذَ فِي التَّرَفُّقِ وَالتَّذَلُّلِ، فَأُجِيبَ بِأَنْ يَرْحَلَ إِلَى أَيِّ جهة شاء، فاختار ابن مزيد فباع أصحابه أملاكهم وَطَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ وَأَخَذَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَهُ وَجَاءَ لِيَرْكَبَ في سفينة لينحدر منها إلى الحلة، والناس يتباكون حوله لِبُكَائِهِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ قَبَّلَ الْأَرْضَ دفعات(12/96)
وَالْخَلِيفَةُ فِي الشُّبَّاكِ، وَالْوَزِيرُ يَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ارْحَمْ شَيْبَتِي وَغُرْبَتِي وَأَوْلَادِي، فَأُعِيدَ إِلَى الْوَزَارَةِ بِشَفَاعَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ، فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الوزارة وكان يوما مشهودا.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يوسف بن مَنْصُورٍ
الْمُلَقَّبُ بِالشَّيْخِ الْأَجَلِّ، كَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَاصْطِنَاعِ الْأَيَادِي عِنْدَ أَهْلِهَا، مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، مَعَ شِدَّةِ الْقِيَامِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَعْنِهِمْ، وَافْتِقَادِ الْمَسْتُورِينَ بِالْبِرِّ والصدقة، وَإِخْفَاءِ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَطَاقَتَهُ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا وقع له أنه كان يصل إنسانا في كل يوم بعشرة دنانير، كان يكتب بها معه إلى ابْنُ رِضْوَانَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ جَاءَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ رِضْوَانَ فَقَالَ: ادْفَعْ إِلَيَّ مَا كَانَ يَصْرِفُ لِي الشَّيْخُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ رضوان: إنه قد مات ولا أصرف لك شيئا، فجاء الرَّجُلُ إِلَى قَبْرِ الشَّيْخِ الْأَجَلِّ فَقَرَأَ شَيْئًا من القرآن ودعا له وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِكَاغِدٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَأَخَذَهَا وَجَاءَ بِهَا إِلَى ابن رضوان فذكر له ما جرى له، فقال: هذه سَقَطَتْ مِنِّي الْيَوْمَ عِنْدَ قَبْرِهِ فَخُذْهَا وَلَكَ عندي في كل يوم مثلها. توفى في نصف المحرم منها عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ يَوْمُ مَوْتِهِ يوما مشهودا، حضره خلق لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فرحمه الله تعالى.
أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ
فَقِيهُ الشِّيعَةِ، وَدُفِنَ فِي مَشْهَدِ عَلِيٍّ، وَكَانَ مُجَاوِرًا به حين أحرقت دَارُهُ بِالْكَرْخِ، وَكُتُبُهُ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ إِلَى محرم هذه السنة فتوفى ودفن هناك.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة
في ليلة النصف من شعبان منها كَانَ حَرِيقُ جَامِعِ دِمَشْقَ، وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ غلمان الفاطميين والعباسيين اختصموا فَأُلْقِيَتْ نَارٌ بِدَارِ الْمُلْكِ، وَهِيَ الْخَضْرَاءُ الْمُتَاخِمَةُ للجامع من جهة القبلة، فاحترقت، وسرى الحريق إِلَى الْجَامِعِ فَسَقَطَتْ سُقُوفُهُ وَتَنَاثَرَتْ فُصُوصُهُ الْمُذَهَّبَةُ، وتغيرت معالمه، وَتَقَلَّعَتِ الْفُسَيْفِسَاءُ الَّتِي كَانَتْ فِي أَرْضِهِ، وَعَلَى جدرانه، وتبدلت بضدها، وقد كانت سقوفه مذهبة كلها، والجملونات من فوقها، وجدرانه مذهبة ملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا، بحيث إن الإنسان إذا أراد أن يتفرج في إقليم أو بلد وجده في الجامع مصورا كهيئته، فلا يسافر إليه ولا يعنّى في طلبه، فقد وجده من قرب الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شرقا وغربا، كل إقليم في مكان لائق بِهِ، وَمُصَوَّرٌ فِيهِ كُلُّ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ وَغَيْرِ مثمرة، مصور مشكل فِي بُلْدَانِهِ وَأَوْطَانِهِ، وَالسُّتُورُ مُرْخَاةٌ عَلَى أَبْوَابِهِ النَّافِذَةِ إِلَى الصَّحْنِ، وَعَلَى أُصُولِ الْحِيطَانِ إِلَى مقدار الثلث منها ستور، وباقي الجدران(12/97)
بالفصوص الملونة، وأرضه كلها بالفصوص، ليس فيها بلاط، بحيث إنه لم يَكُنْ فِي الدُّنْيَا بِنَاءٌ أَحْسَنُ مِنْهُ، لَا قصور الملوك ولا غيرها، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ هَذَا الْحَرِيقُ فِيهِ تَبَدَّلَ الْحَالُ الْكَامِلُ بِضِدِّهِ، وَصَارَتْ أَرْضُهُ طِينًا فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَغُبَارًا فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، مَحْفُورَةً مهجورة، ولم يزل كذلك حَتَّى بُلِّطَ فِي زَمَنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، بَعْدَ السِّتِّمِائَةِ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ جَمِيعُ مَا سَقَطَ مِنْهُ مِنَ الرُّخَامِ والفصوص والأخشاب وغيرها، مودعا في المشاهد الأربعة، حتى فرغها من ذلك كمال الدين الشهرزوري، في زمن الْعَادِلِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي، حِينَ وَلَّاهُ نَظَرَهُ مَعَ الْقَضَاءِ وَنَظَرَ الْأَوْقَافِ كُلِّهَا، وَنَظَرَ دَارِ الضَّرْبِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَزَلِ الْمُلُوكُ تُجَدِّدُ فِي مَحَاسِنِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فتقارب حاله في زمن تنكيز نائب الشام، وقد تقدم أن ابن الجوزي أرخ ما ذكرنا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ السَّاعِي أيضا في هذه السنة، وكذلك شيخنا الذهبي مؤرخ الإسلام، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا نَقَمَتِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْوَفَا بْنِ عَقِيلٍ، وَهُوَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ، بِتَرَدُّدِهِ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ الوليد المتكلم المعتزلي، واتهموه بالاعتزال، وإنما كان يتردد إليه ليحيط علما بمذهبه، ولكن شرقه الهوى فشرق شرقة كادت روحه تخرج معها، وَصَارَتْ فِيهِ نَزْعَةٌ مِنْهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ طَوِيلَةٌ وَتَأَذَّى بِسَبَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمَا سكنت الفتنة بينهم إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا فِيمَا بينهم، بعد اختصام كبير.
وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ عَلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا حتى دخل الماء مشهد أبى حنيفة. وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَفْشِينَ دَخَلَ بِلَادَ الروم حتى انتهى إلى غورية، فَقَتَلَ خَلْقًا وَغَنِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً. وَفِيهَا كَانَ رُخْصٌ عَظِيمٌ فِي الْكُوفَةِ حَتَّى بِيعَ السَّمَكُ كل أربعين رطلا بحبة. وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلويّ
وممن توفى فيها من الأعيان.
الفورانى صاحب الابانة
أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فُورَانَ الْفُورَانِيُّ، الْمَرْوَزِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشافعية، ومصنف الْإِبَانَةِ الَّتِي فِيهَا مِنَ النُّقُولِ الْغَرِيبَةِ، وَالْأَقْوَالِ والأوجه التي لا نوجد إِلَّا فِيهَا، كَانَ بَصِيرًا بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، أَخَذَ الفقه عن الْقَفَّالِ، وَحَضَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَصَارَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، فهو يخطئه كثيرا في النهاية. قال ابْنُ خَلِّكَانَ: فَمَتَى قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ كَذَا وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ وَشَرَعَ فِي الْوُقُوعِ فِيهِ فَمُرَادُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْفُورَانِيُّ. توفى الفورانى في رمضان منها بِمَرْوٍ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَتَبَ تِلْمِيذُهُ أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ المأمون المعرى المدرس بالنظاميّة بعد أَبِي إِسْحَاقَ وَقَبْلَ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَبَعْدَهُ أَيْضًا، كِتَابًا عَلَى الْإِبَانَةِ، فَسَمَّاهُ تَتِمَّةَ الْإِبَانَةِ، انْتَهَى فِيهِ إِلَى كِتَابِ الْحُدُودِ وَمَاتَ قَبْلَ إِتْمَامِهِ، فتممه أسعد العجليّ وغيره، لم يلحقوا شأوه ولا حاموا حوله، وسموه تتمة التتمة.(12/98)
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَمِنَ الْحَوَادِثِ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الحادي عشر من جمادى الأولى، وهو ثامن عشرين آذَارَ، كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالرَّمْلَةِ وَأَعْمَالِهَا، فَذَهَبَ أَكْثَرُهَا وَانْهَدَمَ سُورُهَا، وَعَمَّ ذَلِكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ونابلس، وانخسفت إيليا، وجفل الْبَحْرُ حَتَّى انْكَشَفَتْ أَرْضُهُ، وَمَشَى نَاسٌ فِيهِ ثم عاد وتغير، وانهدم إِحْدَى زَوَايَا جَامِعِ مِصْرَ، وَتَبِعَتْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ فِي سَاعَتِهَا زَلْزَلَتَانِ أُخْرَيَانِ. وَفِيهَا تَوَجَّهُ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ قُسْطَنْطِينِيَّةَ إِلَى الشَّامِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ ألف مقاتل، فَنَزَلَ عَلَى مَنْبِجَ وَأَحْرَقَ الْقُرَى مَا بَيْنَ مَنْبِجَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَقَتَلَ رِجَالَهُمْ وَسَبَى نساءهم وأولادهم، وَفَزِعَ الْمُسْلِمُونَ بِحَلَبَ وَغَيْرِهَا مِنْهُ فَزَعًا عَظِيمًا، فَأَقَامَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ خاسئا وهو حسير، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ وَهَلَاكِ أَكْثَرِ جَيْشِهِ بِالْجُوعِ، وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا ضاقت النفقة على أَمِيرِ مَكَّةَ فَأَخَذَ الذَّهَبَ مِنْ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَالْمِيزَابِ وَبَابِ الْكَعْبَةِ، فَضَرَبَ ذَلِكَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وكذا فَعَلَ صَاحِبُ الْمَدِينَةِ بِالْقَنَادِيلِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ النبوي. وفيها كان غلاء شديد بمصر فأكلوا الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ وَالْكِلَابِ، فَكَانَ يُبَاعُ الْكَلْبُ بِخَمْسَةِ دنانير، وماتت الفيلة فأكلت ميتاتها، وَأُفْنِيَتِ الدَّوَابُّ فَلَمْ يَبْقَ لِصَاحِبِ مِصْرَ سِوَى ثلاثة أفراس، بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب، وَنَزَلَ الْوَزِيرُ يَوْمًا عَنْ بَغْلَتِهِ فَغَفَلَ الْغُلَامُ عَنْهَا لِضَعْفِهِ مِنَ الْجُوعِ فَأَخَذَهَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فذبحوها وأكلوها فأخذوا فصلبوا فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية، قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها، وَظُهِرَ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ وَيَدْفِنُ رءوسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم، فقتل وأكل لحمه، وَكَانَتِ الْأَعْرَابُ يَقْدَمُونَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُونَهُ فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، لَا يَتَجَاسَرُونَ يَدْخُلُونَ لِئَلَّا يُخْطَفَ وَيُنْهَبَ مِنْهُمْ، وَكَانَ لَا يَجْسُرُ أَحَدٌ أَنْ يَدْفِنَ مَيِّتَهُ نَهَارًا، وَإِنَّمَا يَدْفِنُهُ لَيْلًا خُفْيَةً، لِئَلَّا يُنْبَشَ فَيُؤْكَلَ. وَاحْتَاجَ صَاحِبُ مِصْرَ حَتَّى بَاعَ أَشْيَاءَ مِنْ نَفَائِسِ مَا عِنْدَهُ، مِنْ ذَلِكَ إحدى عَشَرَ أَلْفَ دِرْعٍ، وَعِشْرُونَ أَلْفَ سَيْفٍ مُحَلًّى، وثمانون ألف قطعة بلوركبار، وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ قِطْعَةٍ مِنَ الدِّيبَاجِ الْقَدِيمِ، وبيعت ثياب النساء والرجال وغير ذلك بأرخص ثمن، وَكَذَلِكَ الْأَمْلَاكُ وَغَيْرُهَا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ النفائس للخليفة، مما نهب من بغداد في وقعة البساسيري.
وفيها وردت التقادم من الملك ألب أرسلان إلى الخليفة. وفيها اسم ولى العهد ابن الخليفة على الدنانير والدراهم، ومنع التعامل بغيرها، وسمى المضروب عليه الأميري. وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابُ صَاحِبِ مَكَّةَ إِلَى الْمَلِكِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَهُوَ بِخُرَاسَانَ يُخْبِرُهُ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ بمكة للقائم بأمر الله وللسلطان، وقطع خطبة المصريين، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَخِلْعَةً سَنِيَّةً، وَأَجْرَى لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ بابنة نظام الملك بالري. وحج بالناس أبو الغنائم العلويّ،(12/99)
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
وَالْمَشَاهِيرِ.
الْحَسَنُ بْنُ على
ابن محمد أَبُو الْجَوَائِزِ الْوَاسِطِيُّ، سَكَنَ بَغْدَادَ دَهْرًا طَوِيلًا، وكان شاعرا أديبا ظريفا، ولد سنة ثنتين وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ. وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ
وا حسرتى من قولها ... قد خان عهدي وَلَهَا
وَحَقِّ مَنْ صَيَّرَنِي ... وَقْفًا عَلَيْهَا وَلَهَا
مَا خَطَرَتْ بِخَاطِرِي ... إِلَّا كَسَتْنِي وَلَهَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِشْرَانَ النَّحْوِيُّ الْوَاسِطِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَةُ فِي اللُّغَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
يَا شَائِدًا لِلْقُصُورِ مَهْلًا ... أَقْصِرْ فَقَصْرُ الْفَتَى الْمَمَاتُ
لَمْ يجتمع شمل أهل قصر ... إلا قصاراهم الشَّتَاتُ
وَإِنَّمَا الْعَيْشُ مِثْلُ ظِلٍّ ... مُنْتَقِلٍ مَا لَهُ ثَبَاتُ
وَقَوْلُهُ
وَدَّعْتُهُمْ وَلِيَ الدُّنْيَا مُوَدِّعَةٌ ... وَرُحْتُ مَا لِي سِوَى ذِكْرَاهُمُ وَطَرُ
وَقُلْتُ يا لذتي بيني لبينهم ... كأن صَفْوَ حَيَاتِي بَعْدَهُمْ كَدَرُ
لَوْلَا تَعَلُّلُ قَلْبِي بِالرَّجَاءِ لَهُمْ ... أَلْفَيْتُهُ إِنْ حَدَوْا بِالْعِيسِ يَنْفَطِرُ
يا ليت عيسهم يوم النوى نحرت ... أوليتها لِلضَّوَارِي بِالْفَلَا جَزَرُ
يَا سَاعَةَ الْبَيْنِ أَنْتِ الساعة اقتربت ... يالوعة الْبَيْنِ أَنْتِ النَّارُ تَسْتَعِرُ
وَقَوْلُهُ
طَلَبْتُ صَدِيقًا فِي الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا ... فَأَعْيَا طِلَابِي أَنْ أُصِيبَ صديقا
بلى من سمى بِالصَّدِيقِ مَجَازَةً ... وَلَمْ يَكُ فِي مَعْنَى الْوِدَادِ صدوقا
فطلقت ود العالمين ثلاثة ... وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا
وَفِيهَا أَقْبَلُ مَلِكُ الرُّومِ أَرْمَانُوسُ فِي جَحَافِلَ أمثال الجبال من الروم والكرخ والفرنج، وعدد عظيم وعدد، وَمَعَهُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا مِنَ الْبَطَارِقَةِ، مَعَ كل بطريق مائتا ألف فَارِسٍ، وَمَعَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، ومن الغزاة الذين يسكنون الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَمَعَهُ مِائَةُ أَلْفِ نَقَّابٍ وَحَفَّارٍ، وَأَلْفُ رَوَزْجَارِيٍّ، وَمَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ عَجَلَةٍ تَحْمِلُ النِّعَالَ وَالْمَسَامِيرَ، وَأَلْفَا عَجَلَةٍ تَحْمِلُ السِّلَاحَ والسروج والغرادات والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رحل، ومن عزمه قبحه الله أن يبيد الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَقَدْ أَقْطَعَ بَطَارِقَتَهُ الْبِلَادَ حَتَّى بَغْدَادَ، وَاسْتَوْصَى نَائِبَهَا بِالْخَلِيفَةِ خَيْرًا، فَقَالَ لَهُ: ارْفُقْ بِذَلِكَ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ صَاحِبُنَا، ثُمَّ إِذَا استوثقت مَمَالِكُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ لَهُمْ مَالُوا عَلَى الشَّامِ وَأَهْلِهِ مَيْلَةً وَاحِدَةً، فَاسْتَعَادُوهُ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَدَرُ يَقُولُ (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) 15: 72(12/100)
فَالْتَقَاهُ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ فِي جَيْشِهِ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الزهوة، فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القعدة، وخاف السلطان من كثرة جند ملك الروم، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبُخَارِيُّ بِأَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْوَقْعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ حِينَ يَكُونُ الْخُطَبَاءُ يدعون للمجاهدين، فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفتيان، نَزَلَ السُّلْطَانُ عَنْ فَرَسِهِ وَسَجَدَ للَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَمَرَّغَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ وَدَعَا اللَّهَ واستنصره، فأنزل نصره على المسلمين، ومنحهم أكتافهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأسر ملكهم أرمانوس، أسره غلام رومي، فلما أوقف بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ ثَلَاثَ مَقَارِعَ وَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا الْأَسِيرُ بين يديك ما كُنْتَ تَفْعَلُ؟
قَالَ: كُلَّ قَبِيحٍ، قَالَ: فَمَا ظنك بى؟ فقال: إما أن تقتل وتشهرني في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني. قال: مَا عَزَمْتُ عَلَى غَيْرِ الْعَفْوِ وَالْفِدَاءِ. فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دينار. فقام بين يدي الملك وسقاه شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وقبل الأرض إلى جهة الخليفة إجلالا وإكراما، وأطلق لَهُ الْمَلِكُ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ لِيَتَجَهَّزَ بِهَا، وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيعه فرسخا، وأرسل معه جيشا يحفظونه إِلَى بِلَادِهِ، وَمَعَهُمْ رَايَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بِلَادِهِ وَجَدَ الرُّومَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَبَعَثَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ مَا يُقَارِبُ ثَلَاثَمِائَةِ ألف دينار، وتزهد ولبس الصوف ثم استغاث بملك الأرمن فأخذه وكحله وأرسله إلى السلطان يتقرب إليه بذلك.
وفيها خطب محمود بن مرداس للقائم وللسلطان ألب أرسلان، فبعث إليه الخليفة بالخلع والهدايا والتحف، والعهد مع طراد. وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلويّ، وخطب بمكة للقائم، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ مِنْهَا، وَكَانَ يُخْطَبُ لَهُمْ فيها من نحو مائة سنة، فانقطع ذلك.
وفيها توفى من الأعيان.
أحمد بن على
ابن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر الخطيب البغدادي، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْحُفَّاظِ، وَصَاحِبُ تَارِيخِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ، نَحْوٌ مِنْ سِتِّينَ مُصَنَّفًا، وَيُقَالُ بَلْ مِائَةُ مُصَنَّفٍ.
فاللَّه أَعْلَمُ. وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ونشأ ببغداد، وتفقه على أبى طالب الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الأسفراييني، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَنَيْسَابُورَ وَأَصْبَهَانَ وَهَمَذَانَ وَالشَّامِ وَالْحِجَازِ، وَسُمِّيَ الْخَطِيبُ لِأَنَّهُ كان يخطب بدرب ريحان، وَسَمِعَ بِمَكَّةَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الْقُضَاعِيِّ، وَقَرَأَ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ عَلَى كَرِيمَةَ بِنْتِ أَحْمَدَ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، ورجع إلى بغداد وحظي عند الوزير أبى القاسم بن مسلمة، وَلَمَّا ادَّعَى الْيَهُودُ الْخَيَابِرَةُ أَنَّ مَعَهُمْ كِتَابًا نَبَوِيًّا فِيهِ إِسْقَاطُ الْجِزْيَةِ(12/101)
عنهم أوقف ابن مسلمة الْخَطِيبَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ. فَقَالَ: هَذَا كَذِبٌ، فقال له: وما الدليل على كذبه؟ فَقَالَ: لِأَنَّ فِيهِ شَهَادَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَقَدْ كَانَتْ خَيْبَرُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَفِيهِ شَهَادَةُ سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عَامَ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ. فَأَعْجَبَ النَّاسَ ذَلِكَ. وقد سبق الخطيب إلى هذا النقل، سبقه محمد بن جرير كَمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ، وَلَمَّا وَقَعَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ بِبَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسِينَ خَرَجَ الخطيب إلى الشام فأقام بدمشق بالمأذنة الشَّرْقِيَّةِ مِنْ جَامِعِهَا، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ الحديث، وَكَانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، يُسْمَعُ صَوْتُهُ مِنْ أَرْجَاءِ الجامع كلها، فاتفق أنه قرأ على الناس يوما فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين، فأرادوا قَتْلَهُ فَتَشَفَّعَ بِالشَّرِيفِ الزَّيْنَبِيِّ فَأَجَارَهُ، وَكَانَ مَسْكَنُهُ بدار العقبقى، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِمَدِينَةِ صُورَ، فَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ مُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ بِخَطِّهِ كَانَ يَسْتَعِيرُهَا مِنْ زَوْجَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِالشَّامِ إِلَى سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِأَشْيَاءَ من مسموعاته، وقد كان سأل الله أن يملك ألف دينار، وأن يحدث بالتأريخ بجامع المنصور، فملك ألف دينار أو ما يقاربها ذهبا، وَحِينَ احْتُضِرَ كَانَ عِنْدَهُ قَرِيبٌ مِنْ مِائَتَيْ دِينَارٍ، فَأَوْصَى بِهَا لِأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَأَلَ السُّلْطَانَ أن يمضى ذلك، فإنه لا يَتْرُكْ وَارِثًا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا كِتَابُ التَّارِيخِ، وَكِتَابُ الْكِفَايَةِ، والجامع، وشرف أصحاب الحديث، والمتفق والمفترق، والسابق واللاحق، وتلخيص المتشابه في الرسم، وفضل الوصل، ورواية الآباء عن الأبناء، ورواية الصحابة عن التابعين، واقتضاء العلم للعمل، والفقيه والمتفقه، وغير ذلك. وقد سردها ابن الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ. قَالَ وَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ المصنفات أكثرها لأبى عبد الله الصوري، أو ابتدأها فتممها الخطيب، وجعلها لنفسه، وقد كان الخطيب حَسَنَ الْقِرَاءَةِ فَصِيحَ اللَّفْظِ عَارِفًا بِالْأَدَبِ يَقُولُ الشعر، وكان أولا يتكلم على مذهب الامام أحمد بن حنبل، فانتقل عنه إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ صَارَ يَتَكَلَّمُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَيَقْدَحُ فِيهِمْ مَا أَمْكَنَهُ، وَلَهُ دَسَائِسُ عَجِيبَةٌ فِي ذَمِّهِمْ، ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ الجوزي ينتصر لأصحاب أحمد ويذكر مثالب الخطيب ودسائسه، وما كان عليه من محبة الدنيا والميل إلى أهلها بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ من شعره قصيدة جيدة المطلع حسنة المنزع أولها قوله:
لَعَمْرُكَ مَا شَجَانِي رَسْمُ دَارٍ ... وَقَفْتُ بِهِ ولا رسم الْمَغَانِي
وَلَا أَثَرُ الْخِيَامِ أَرَاقَ دَمْعِي ... لِأَجْلِ تَذَكُّرِي عَهْدَ الْغَوَانِي
وَلَا مَلَكَ الْهَوَى يَوْمًا قيادي ... ولا عاصيته فثنى عناني
ولم أُطْمِعْهُ فِيَّ وَكَمْ قَتِيلٍ ... لَهُ فِي النَّاسِ ما تحصى دعاني(12/102)
عَرَفْتُ فِعَالَهُ بِذَوِي التَّصَابِي ... وَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ ذل الهوان
طلبت أخا صحيح الود محظى ... سَلِيمَ الْغَيْبِ مَحْفُوظَ اللِّسَانِ
فَلَمْ أَعْرِفْ مِنَ الْإِخْوَانِ إِلَّا ... نِفَاقًا فِي التَّبَاعُدِ وَالتَّدَانِي
وَعَالَمُ دَهْرِنَا لَا خَيْرَ فِيْهِمْ ... تَرَى صُوَرًا تَرُوقُ بِلَا مَعَانِي
وَوَصْفُ جَمِيعِهِمْ هَذَا فَمَا أَنْ ... أَقُولُ سِوَى فُلَانٍ أَوْ فُلَانِ
وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ حُرًّا يُوَاتِي ... عَلَى مَا نَابَ مِنْ صَرْفِ الزَّمَانِ
صَبَرْتُ تَكَرُّمًا لِقِرَاعِ دَهْرِي ... وَلَمْ أَجْزَعْ لِمَا مِنْهُ دَهَانِي
وَلَمْ أَكُ فِي الشَّدَائِدِ مُسْتَكِينًا ... أَقُولُ لَهَا أَلَا كُفِّي كَفَانِي
وَلَكِنِّي صَلِيبُ الْعُودِ عَوْدٌ ... رَبِيطُ الْجَأْشِ مُجْتَمِعُ الجنان
أبى النفس لا أختار رزقا ... يجيئ بِغَيْرِ سَيْفِي أَوْ سِنَانِي
فَعِزٌّ فِي لَظَى باغيه يهوى ... أَلَذُّ مِنَ الْمَذَلَّةِ فِي الْجِنَانِ
وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ تَرْجَمَةً حَسَنَةً كَعَادَتِهِ وأورد له من شعره قوله:
لا يغبطن أخا الدنيا لزخرفها ... ولا للذة عيش عَجَّلَتْ فَرَحًا
فَالدَّهْرُ أَسْرَعُ شَيْءٍ فِي تَقَلُّبِهِ ... وَفِعْلُهُ بَيِّنٌ لِلْخَلْقِ قَدْ وَضَحَا
كَمْ شَارِبٍ عسلا فيه منيته ... وكم مقلد سيفا من قربه ذبحا
توفى يوم الاثنين ضحى من ذي الحجة منها، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً، فِي حُجْرَةٍ كَانَ يَسْكُنُهَا بِدَرْبِ السِّلْسِلَةِ، جِوَارَ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَاحْتَفَلَ الناس بجنازته، وحمل نعشه فِيمَنْ حَمَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ بِشْرٍ الْحَافِي، فِي قَبْرِ رَجُلٍ كَانَ قَدْ أَعَدَّهُ لِنَفْسِهِ، فَسُئِلَ أَنْ يتركه للخطيب فشح به ولم تسمح نفسه، حتى قال له بعض الحاضرين: باللَّه عليك لو جلست أَنْتَ وَالْخَطِيبُ إِلَى بِشْرٍ أَيُّكُمَا كَانَ يُجْلِسُهُ إلى جانبه؟ فقال: الخطيب، فقيل له: فاسمح له به، فوهبه منه فدفن فيه رحمه الله وسامحه، وهو ممن قيل فيه وفي أمثاله قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا زِلْتَ تَدْأَبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا ... حَتَّى رَأَيْتُكَ فِي التَّارِيخِ مكتوبا
حسان بن سعيد
ابن حَسَّانَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنِيعِ بْنِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَنِيعِيُّ، كَانَ فِي شَبَابِهِ يَجْمَعُ بَيْنَ الزُّهْدِ وَالتِّجَارَةِ حَتَّى سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَالْبِرِّ والصلة والصدقة وغير ذلك، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالرِّبَاطَاتِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ يَأْتِي إِلَيْهِ وَيَتَبَرَّكُ بِهِ، وَلَمَّا وَقَعَ الْغَلَاءُ كَانَ يَعْمَلُ كل يوم شيئا كثيرا من الخبز والأطعمة، ويتصدق به(12/103)
وكان يكسو في كل سنة قريبا من ألف فقير ثيابا وجبابا، وكذلك كان يكسو الأرامل وغيرهن من النساء، وكان يجهز البنات الأيتام وبنات الفقراء، وَأَسْقَطَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْمُكُوسِ وَالْوَظَائِفِ السُّلْطَانِيَّةِ عن بلاد نيسابور، وقرأها وهو مع ذلك في غاية التبذل والثياب والأطمار، وترك الشهوات ولم يزل كذلك إلى أن توفى في هذه السنة، في بلدة مروالروز، تغمده الله برحمته، ورفع درجته، ولا خيب الله له سعيا.
أمين بن محمد بن الحسن بن حمزة
أبو على الْجَعْفَرِيُّ فَقِيهُ الشِّيعَةِ فِي زَمَانِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ وِشَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَلِيٍّ مَوْلَى أَبِي تَمَّامٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الزينبي، سمع الحديث، وكان أديبا شاعرا، وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
حَمَلْتُ الْعَصَا لَا الضَّعْفُ أَوْجَبَ حَمْلَهَا ... على ولا أنى نحلت من الكبر
ولكنني ألزمت نفسي حملها ... لأعلمها أن المقيم على سفر
الشيخ الأجل أبو عمر عبد البر النمري
صاحب التصانيف المليحة الهائلة، منها التمهيد، والاستذكار، والاستيعاب، وغير ذلك.
ابْنُ زَيْدُونَ
الشَّاعِرُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ غَالِبِ بْنِ زَيْدُونَ أَبُو الْوَلِيدِ، الشَّاعِرُ الْمَاهِرُ الْأَنْدَلُسِيُّ الْقُرْطُبِيُّ، اتَّصَلَ بِالْأَمِيرِ المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية، فحظي عنده وصار مشاورا في منزلة الوزير، ثم وزر له ولولده أبى بَكْرِ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْقَصِيدَةِ الفراقية الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
بِنْتُمْ وَبِنَّا فَمَا ابْتَلَّتْ جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضى عليها الْأَسَى لَوْلَا تَأَسِّينَا
حَالَتْ لِبُعْدِكُمُ أَيَّامُنَا فَغَدَتْ ... سُودًا وَكَانَتْ بِكُمْ بِيضًا لَيَالِينَا
بِالْأَمْسِ كُنَّا ولا نخشى تَفَرُّقُنَا ... وَالْيَوْمَ نَحْنُ وَلَا يُرْجَى تَلَاقِينَا
وَهِيَ طَوِيلَةٌ وَفِيهَا صَنْعَةٌ قَوِيَّةٌ مُهَيِّجَةٌ عَلَى الْبُكَاءِ لِكُلِّ مَنْ قَرَأَهَا أَوْ سَمِعَهَا، لِأَنَّهُ مَا من أحد إلا فارق خلا أو حبيبا أو نسيبا، وله أيضا:
بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَا لَوْ شِئْتَ لَمْ يَضِعِ ... سِرٌّ إِذَا ذَاعَتِ الْأَسْرَارُ لَمْ يَذِعِ
يَا بَائِعًا حَظَّهُ مِنِّي وَلَوْ بُذِلَتْ ... لِيَ الْحَيَاةُ بحظى منه لم أبع
يكفيك أنك لو حَمَّلْتَ قَلْبِي مَا ... لَا تَسْتَطِيعُ قُلُوبُ النَّاسِ يستطع
ته احتمل واستطل أصبر وعزهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطمع(12/104)
توفى في رجب منها وَاسْتَمَرَّ وَلَدُهُ أَبُو بَكْرٍ وَزِيرًا لِلْمُعْتَمِدِ بْنِ عباد، حتى أخذ ابن ياسين قُرْطُبَةَ مِنْ يَدِهِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، فقتل يومئذ. قاله ابن خلكان.
كريمة بنت أحمد
ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ الْمَرْوَزِيَّةُ، كَانَتْ عَالِمَةً صَالِحَةً، سَمِعَتْ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ عَلَى الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَقَرَأَ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ كَالْخَطِيبِ وَأَبِي الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة
فِيهَا قَامَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مَعَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُفْسِدِينَ، وَالَّذِينَ يَبِيعُونَ الخمور، وفي إبطال المواجرات وهنّ البغايا، وكتبوا إلى السلطان في ذلك فجاءت كتبه في الإنكار.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ ارْتَجَّتْ لَهَا الْأَرْضُ سِتَّ مَرَّاتٍ. وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ وَمَوَتَانٌ ذَرِيعٌ فِي الْحَيَوَانَاتِ، بِحَيْثُ إِنَّ بَعْضَ الرُّعَاةِ بِخُرَاسَانَ قَامَ وَقْتَ الصَّبَاحِ لِيَسْرَحَ بِغَنَمِهِ فإذا هن قدمتن كُلُّهُنَّ، وَجَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ وَبَرَدٌ كِبَارٌ أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِخُرَاسَانَ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْأَمِيرُ عُدَّةُ الدِّينِ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ بِابْنَةِ السلطان ألب أرسلان «سِفْرَى خَاتُونَ» وَذَلِكَ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ وَكِيلُ السُّلْطَانِ نِظَامَ الْمُلْكِ، وَوَكِيلُ الزَّوْجِ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ ابْنَ جَهِيرٍ، وَحِينَ عُقِدَ الْعَقْدُ نُثِرَ عَلَى النَّاسِ جواهر نفيسة.
وممن توفى فيها من الأعيان
زكريا بن محمد بن حيده
أَبُو مَنْصُورٍ النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُذْهِبِ، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ في المحرم منها وقد قارب الثمانين.
محمد بن أحمد
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي باللَّه، أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ، خَطِيبُ جَامِعِ الْمَنْصُورِ، كَانَ مِمَّنْ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ الطِّوَالَ، حدث عن ابن رزقويه وغيره، روى عَنْهُ الْخَطِيبُ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا شَهِدَ عِنْدَ ابن الدامغانيّ وابن ماكولا فقبلاه توفى عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِقُرْبِ قَبْرِ بِشْرٍ الحافى.
محمد بن أحمد بن شاره
ابن جَعْفَرٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بدجيل، وكان شافعيا، روى الحديث عن أبى عمرو بن مهدي، توفى ببغداد ونقل إلى دجيل من عمل واسط، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ حَادِي عَشَرَ الْمُحَرَّمِ حَضَرَ إِلَى الدِّيوَانِ أَبُو الْوَفَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ الْعَقِيلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نفسه كتابا يتضمن توبته من الاعتزال، وَأَنَّهُ رَجَعَ عَنِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الْحَلَّاجِ(12/105)
من أهل الحق والخير، وأنه قد رَجَعَ عَنِ الْجُزْءِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي ذَلِكَ، وأن الحلاج قد قتل بإجماع علماء أهل عصره على زندقته، وأنهم كانوا مصيبين في قتله وما رموه به، وهو مخطئ، وأشهد عليه جماعة من الْكِتَابِ، وَرَجَعَ مِنَ الدِّيوَانِ إِلَى دَارِ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَصَالَحَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فعظمه
وفاة السلطان ألب أرسلان وملك ولده ملك شاه
كَانَ السُّلْطَانُ قَدْ سَارَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السنة يريد أن يغزو بلاد مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ أَنَّهُ غَضِبَ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ الْخُوَارَزْمِيُّ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَشَرَعَ يُعَاتِبُهُ فِي أَشْيَاءَ صَدَرَتْ مِنْهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْتَادٍ وَيُصْلَبَ بَيْنَهَا، فَقَالَ لِلسُّلْطَانِ: يا مخنث ومثلي يُقْتَلُ هَكَذَا؟ فَاحْتَدَّ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِإِرْسَالِهِ وَأَخَذَ الْقَوْسَ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَخْطَأَهُ، وَأَقْبَلَ يُوسُفُ نَحْوَ السُّلْطَانِ فَنَهَضَ السُّلْطَانُ عَنِ السَّرِيرِ خوفا منه، فنزل عنه فَعَثَرَ فَوَقَعَ فَأَدْرَكَهُ يُوسُفُ فَضَرَبَهُ بِخَنْجَرٍ كَانَ معه في خاصرته فقتله، وأدرك الجيش يوسف فَقَتَلُوهُ، وَقَدْ جُرِحَ السُّلْطَانُ جُرْحًا مُنْكَرًا، فَتُوُفِّيَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هذه السنة، ويقال إن أهل بخارى لما اجتاز بهم نهب عسكره أشياء كثيرة لهم، فدعوا عليه فهلك.
ولما توفى جلس ولده ملك شاه عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ وَقَامَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ: تَكَلَّمْ أَيُّهَا السُّلْطَانُ، فَقَالَ: الْأَكْبَرُ مِنْكُمْ أَبِي وَالْأَوْسَطُ أَخِي وَالْأَصْغَرُ ابْنِي، وَسَأَفْعَلُ مَعَكُمْ مَا لَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهِ. فَأَمْسَكُوا فَأَعَادَ الْقَوْلَ فَأَجَابُوهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وقام بأعباء أمره الوزير نِظَامُ الْمُلْكِ فَزَادَ فِي أَرْزَاقِ الْجُنْدِ سَبْعَمِائَةِ ألف دينار، وسار إلى مرو فدفنوا بها السلطان، وَلَمَّا بَلَغَ مَوْتُهُ أَهْلَ بَغْدَادَ أَقَامَ النَّاسُ لَهُ الْعَزَاءَ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَأَظْهَرَ الْخَلِيفَةُ الْجَزَعَ، وخلعت ابنة السلطان زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ ثِيَابَهَا، وَجَلَسَتْ عَلَى التُّرَابِ، وَجَاءَتِ كتب ملك شاه إِلَى الْخَلِيفَةِ يَتَأَسَّفُ فِيهَا عَلَى وَالِدِهِ، وَيَسْأَلُ أن تقام له الخطبة بالعراق وغيرها. ففعل الخليفة ذلك، وخلع ملك شاه عَلَى الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ خِلَعًا سِنِيَّةً، وَأَعْطَاهُ تحفا كثيرة، من جملتها عشرون ألف دينار، ولقبه أتابك الجيوش، وَمَعْنَاهُ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْوَالِدُ، فَسَارَ سِيرَةً حَسَنَةً، ولما بلغ قاورت مَوْتُ أَخِيهِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ رَكِبَ فِي جُيُوشٍ كثيرة قاصدا قتال ابن أخيه ملك شاه، فَالْتَقَيَا فَاقْتَتَلَا فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ قَاوُرْتَ وَأُسِرَ هُوَ، فَأَنَّبَهُ ابْنُ أَخِيهِ ثُمَّ اعْتَقَلَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بين أهل الكرخ وباب البصرة والقلايين فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاحْتَرَقَ جَانِبٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَرْخِ، فَانْتَقَمَ الْمُتَوَلِّي لِأَهْلِ الْكَرْخِ من أهل باب البصرة، فأخذ منهم أموالا كثيرة جِنَايَةً لَهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا. وَفِيهَا أُقِيمَتِ الدَّعْوَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ سمرقند وهو محمد أَلْتِكِينُ مَدِينَةَ تِرْمِذْ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو الغنائم العلويّ.(12/106)
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ
الْمُلَقَّبُ بِسُلْطَانِ العالم، ابن داود جغري بك، بن ميكائيل بن سلجوق التركي، صاحب الممالك المتسعة، مَلَكَ بَعْدَ عَمِّهِ طُغْرُلْبَكَ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَكَانَ عَادِلًا يَسِيرُ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً، كَرِيمًا رَحِيمًا، شَفُوقًا عَلَى الرَّعِيَّةِ، رَفِيقًا عَلَى الْفُقَرَاءِ، بَارًّا بِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَمَالِيكِهِ، كثير الدعاء بدوام النعم به عليه، كثير الصدقات، يتفقد الفقراء، فِي كُلِّ رَمَضَانَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَلَا يُعْرَفُ فِي زَمَانِهِ جِنَايَةٌ وَلَا مُصَادَرَةٌ، بل كان يقنع من الرعية بِالْخَرَاجِ فِي قِسْطَيْنِ، رِفْقًا بِهِمْ. كَتَبَ إِلَيْهِ بعض السعاة في نظام الملك وزيره وذكر ماله في ممالكه فاستدعاه فقال له: خذ إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَهَذِّبْ أَخْلَاقَكَ وَأَصْلِحْ أحوالك، وإن كذبوا فاغفر له زلته، وَكَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ مَالِ الرَّعَايَا، بَلَغَهُ أَنَّ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِهِ أَخَذَ إِزَارًا لبعض أصحابه فَصَلَبَهُ فَارْتَدَعَ سَائِرُ الْمَمَالِيكِ بِهِ خَوْفًا مِنْ سطوته، وترك من الأولاد ملك شاه وأياز ونكشر وبورى برس وأرسلان وارغو وسارة وعائشة وبنتا أخرى، توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، ودفن عند والده بالري رحمه الله.
أبو القاسم القشيري
صاحب الرسالة، عبد الكريم بن هوازن بن عبد المطلب بن طلحة، أبو القاسم القشيري، وَأُمُّهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ طِفْلٌ فَقَرَأَ الْأَدَبَ وَالْعَرَبِيَّةَ، وَصَحِبَ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ، وَأَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بن محمد الطوسي، وأخذ الكلام عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ وَصَنَّفَ الْكَثِيرَ، وله التفسير والرسالة التي ترجم فيها جماعة من المشايخ الصالحين، وَحَجَّ صُحْبَةَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ، تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ، وَلَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ من أهله بَيْتَ كُتُبِهِ إِلَّا بَعْدَ سِنِينَ، احْتِرَامًا لَهُ، وكان له فرس يركبها قد أهديت له، فَلَمَّا تُوُفِّيَ لَمْ تَأْكُلْ عَلَفًا حَتَّى نَفَقَتْ بعده بيسير فماتت، ذكره ابن الجوزي، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ خَلِّكَانَ ثَنَاءً كَثِيرًا، وذكر شيئا من شعره من ذَلِكَ قَوْلُهُ:
سَقَى اللَّهُ وَقْتًا كُنْتُ أَخْلُو بِوَجْهِكُمُ ... وَثَغْرُ الْهَوَى فِي رَوْضَةِ الْأُنْسِ ضَاحِكُ
أَقَمْنَا زَمَانًا وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ ... وَأَصْبَحْتُ يَوْمًا وَالْجُفُونُ سوافك
وقوله
لَوْ كُنْتَ سَاعَةَ بَيْنِنَا مَا بَيْنَنَا ... وَشَهِدْتَ حين فراقنا التَّوْدِيعَا
أَيْقَنْتَ أَنَّ مِنَ الدُّمُوعِ مُحَدِّثًا ... وَعَلِمْتَ أن من الحديث دموعا
وقوله
وَمَنْ كَانَ فِي طُولِ الْهَوَى ذَاقَ سَلْوَةً ... فَإِنِّي مَنْ لَيْلَى لَهَا غَيْرُ ذَائِقِ
وَأَكْثَرُ شَيْءٍ نِلْتُهُ مِنْ وِصَالِهَا ... أَمَانِيُّ لَمْ تَصْدُقْ كخطفة بارق(12/107)
ابن صرّبعر
الشاعر اسمه على بن الحسين بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ، أَبُو مَنْصُورٍ الْكَاتِبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ صُرَّبَعْرُ وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ يَقُولُ لَهُ أَنْتَ صُرَّدُرُّ لَا صُرَّبَعْرُ، وَقَدْ هَجَاهُ بعضهم فقال:
لئن لقب النَّاسُ قِدَمًا أَبَاكَ ... وَسَمَّوْهُ مِنْ شُحِّهِ صُرَّبَعْرَا
فَإِنَّكَ تَنْثُرُ مَا صَرَّهُ ... عُقُوقًا لَهُ وَتُسَمِّيهِ شِعْرًا
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا ظُلْمٌ فَاحِشٌ فَإِنَّ شِعْرَهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، ثُمَّ أَوْرَدَ له أبياتا حسانا فمن ذلك:
إِيهِ أَحَادِيثَ نَعْمَانٍ وَسَاكِنِهِ ... إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْأَحْبَابِ أَسْمَارُ
أُفَتِّشُ الرِّيحَ عَنْكُمُ كُلَّمَا نَفَحَتْ ... من نحو أرضكم مسكا ومعطار
قَالَ: وَقَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابن شيران وغيره، وحدث كثيرا، وركب يوما دابة هو ووالدته فسقطا بالشونيزية عنها في بئر فماتا فدفنا ببرر، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابن الجوزي: قرأت بخط ابن عقيل صربعر جارنا بالرصافة، وكان ينبذ بِالْإِلْحَادِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ شَيْئًا مِنْ أَشْعَارِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي فَنِّهِ وَاللَّهُ أعلم بحاله.
محمد بن على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي باللَّه، أَبُو الْحُسَيْنِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ العريف، ولد سنة سبعين وثلاثمائة وسمع الدار قطنى، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَابْنَ شَاهِينَ وَتَفَرَّدَ عَنْهُ، وَسَمِعَ خَلْقًا آخَرِينَ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ رَاهِبُ بَنِي هَاشِمٍ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، رَقِيقَ الْقَلْبِ غَزِيرَ الدمعة، وقد رَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنَ الْآفَاقِ، ثُمَّ ثَقُلَ سمعه، وكان يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ، وَذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَخَطَبَ وَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَشَهِدَ عِنْدَ الْحُكَّامِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَامَ خَطِيبًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَجَامِعِ الرُّصَافَةِ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَحَكَمَ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ فِي سَلْخِ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَوْمُ جِنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ حسنة، رحمه الله وسامحه ورحمنا وسامحنا، إنه قريب مجيب، رحيم ودود.
ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة
في صفر منها جَلَسَ الْخَلِيفَةُ جُلُوسًا عَامًّا وَعَلَى رَأْسِهِ حَفِيدُهُ الْأَمِيرُ عُدَّةُ الدِّينِ، أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ ابن المهتدي باللَّه، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَحَضَرَ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ فَعَقَدَ الْخَلِيفَةُ بيده لواء السلطان ملك شاه، كثر الزحام يومها، وهنأ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامَةِ.(12/108)
غرق بغداد
في جمادى الآخرة نزل مطر عظيم وسيل قوى كثير، وسالت دجلة وزادت حَتَّى غَرَّقَتْ جَانِبًا كَبِيرًا مِنْ بَغْدَادَ، حَتَّى خَلَصَ ذَلِكَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَخَرَجَ الْجَوَارِي حاسرات عن وجوههن، حَتَّى صِرْنَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَهَرَبَ الْخَلِيفَةُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ، فَحَمَلَهُ بَعْضُ الْخَدَمِ إِلَى التَّاجِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا عظيما، وأمرا هائلا، وهلك للناس أموال كثيرة جدا. ومات تحت الدم خلق كثير من أهل بغداد والغرباء وجاء على وجه السيل من الأخشاب والأحطاب وَالْوُحُوشِ وَالْحَيَّاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَسَقَطَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَغَرِقَتْ قُبُورٌ كَثِيرَةٌ، مِنْ ذلك قبر الخيزران ومقبرة أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَدَخَلَ الْمَاءُ مِنْ شَبَابِيكِ الْمَارَسْتَانِ الْعَضُدِيِّ وَأَتْلَفَ السَّيْلُ فِي الْمَوْصِلِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَصَدَمَ سُورَ سِنْجَارَ فَهَدَمَهُ: وَأَخَذَ بَابَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى مَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ.
وَفِي ذي الحجة منها جاءت ريح شديدة في أرض البصرة فانجعف منها نحو من عشرة آلاف نخلة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ السِّمْنَانِيُّ
الْحَنَفِيُّ الْأَشْعَرِيُّ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا مِنَ الْغَرِيبِ، تَزَوَّجَ قَاضِي القضاة ابن الدامغانيّ ابنته وولاه نيابة القضاة، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ
ابن سليمان، أبو محمد الكناني الحافظ الدمشقيّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يُمْلِي مِنْ حِفْظِهِ، وَكَتَبَ عنه الخطيب حديثا واحدا، وكان معظما ببلده، ثقة نبيلا جليلا.
الْمَاوَرْدِيَّةُ
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهَا كَانَتْ عَجُوزًا صَالِحَةً مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ تَعِظُ النِّسَاءَ بِهَا، وَكَانَتْ تَكْتُبُ وَتَقْرَأُ، وَمَكَثَتْ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهَا لَا تُفْطِرُ نَهَارًا وَلَا تَنَامُ لَيْلًا، وَتَقْتَاتُ بِخُبْزِ الْبَاقِلَّاءِ، وَتَأْكُلُ مِنَ التِّينِ الْيَابِسِ لَا الرَّطْبِ، وَشَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْعِنَبِ وَالزَّيْتِ، وَرُبَّمَا أَكَلَتْ مِنَ اللَّحْمِ الْيَسِيرَ، وَحِينَ تُوُفِّيَتْ تبع أَهْلِ الْبَلَدِ جِنَازَتَهَا وَدُفِنَتْ فِي مَقَابِرِ الصَّالِحِينَ.
ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة
في صفر منها مرض الخليفة الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَرَضًا شَدِيدًا انْتَفَخَ مِنْهُ حَلْقُهُ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْفَصْدِ، فَلَمْ يَزَلِ الْوَزِيرُ فخر الدولة عليه حتى افتصد وانصلح الْحَالُ، وَكَانَ النَّاسُ قَدِ انْزَعَجُوا فَفَرِحُوا بِعَافِيَتِهِ وَجَاءَ فِي هَذَا الشَّهْرِ سَيْلٌ عَظِيمٌ قَاسَى النَّاسُ مِنْهُ شِدَّةً عَظِيمَةً، وَلَمْ تَكُنْ أَكْثَرُ أَبْنِيَةِ بَغْدَادَ تَكَامَلَتْ مِنَ الْغَرَقِ الْأَوَّلِ، فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَجَلَسُوا عَلَى رُءُوسِ التُّلُولِ تَحْتَ الْمَطَرِ، وَوَقَعَ وَبَاءٌ عَظِيمٌ بِالرَّحْبَةِ، فَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ بِوَاسِطٍ وَالْبَصْرَةِ وَخُوزِسْتَانَ وَأَرْضِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا والله أعلم.(12/109)
صفة موت الخليفة القائم بأمر الله
لما افْتَصَدَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رجب من بواسير كَانَتْ تَعْتَادُهُ مِنْ عَامِ الْغَرَقِ، ثُمَّ نَامَ بَعْدَ ذَلِكَ فَانْفَجَرَ فِصَادُهُ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ سَقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَحَصَلَ الْإِيَاسُ مِنْهُ، فَاسْتَدْعَي بِحَفِيدِهِ وَوَلِيِّ عهده عُدَّةِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محمد بن القائم، وأحضر إليه القضاة والفقهاء وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ ثَانِيًا بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَشَهِدُوا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الثالث عشر من شعبان عن أربع وتسعين سَنَةً، وَثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ قَبْلَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَقَدْ جَاوَزَتْ خِلَافَةُ أَبِيهِ قَبْلَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَانَ مَجْمُوعُ أَيَّامِهِمَا خَمْسًا وثمانين سنة وأشهرا، وذلك مقاوم لدولة بنى أمية جميعها، وقد كان القائم بأمر الله جميلا مليحا حسن الوجه، أبيض مشربا بحمرة، فَصِيحًا وَرِعًا زَاهِدًا، أَدِيبًا كَاتِبًا بَلِيغًا، شَاعِرًا، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ، وَهُوَ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَكَانَ عَادِلًا كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَغَسَّلَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ عَنْ وصية الخليفة بذلك، فلما غسله عرض عليه مَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَصُلِّيَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الْمَذْكُورِ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَجْدَادِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الرُّصَافَةِ، فَقَبْرُهُ يُزَارُ إِلَى الْآنِ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ لِمَوْتِهِ، وَعُلِّقَتِ الْمُسُوحُ، وَنَاحَتْ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ وَابْنُهُ لِلْعَزَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، وَخَرَقَ النَّاسُ ثِيَابَهُمْ، وَكَانَ يَوْمًا عَصِيبًا، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ بَنِي الْعَبَّاسِ دِينًا وَاعْتِقَادًا وَدَوْلَةً، وَقَدِ امْتُحِنَ مِنْ بَيْنِهِمْ بِفِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ الَّتِي اقْتَضَتْ إِخْرَاجَهُ مِنْ دَارِهِ وَمُفَارَقَتَهُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَوَطَنَهُ، فَأَقَامَ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ سَنَةً كَامِلَةً ثُمَّ أَعَادَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نعمته وخلافته. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحُوا قَدْ أَعَادَ اللَّهُ نِعْمَتَهُمْ ... إِذْ هُمْ قُرَيْشٌ وَإِذْ مَا مِثْلُهُمْ بَشَرُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ صَالِحٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) 38: 34 وَقَدْ ذَكَرْنَا مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي سورة ص، وبسطنا الكلام عليه فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَالْفِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ، وَإِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عُدَّةُ الدِّينِ عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين أبى القاسم مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ الْعَبَّاسِيُّ، وَأُمُّهُ أَرْمِنِيَّةٌ تُسَمَّى أُرْجُوانَ، وَتُدْعَى قرة العين، وقد أدركت خلافة ولدها هذا، وخلافة ولديه من بعده، الْمُسْتَظْهِرِ وَالْمُسْتَرْشِدِ. وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ حَمْلٌ، فَحِينَ وُلِدَ ذَكَرًا فَرِحَ بِهِ جَدُّهُ وَالْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، إِذْ حَفِظَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَقَاءَ الْخِلَافَةِ فِي الْبَيْتِ الْقَادِرِيِّ، لِأَنَّ(12/110)
من عداهم كانوا يتبذلون في الأسواق، ويختلطون مَعَ الْعَوَامِّ، وَكَانَتِ الْقُلُوبُ تَنْفِرُ مِنْ تَوْلِيَةِ مِثْلِ أُولَئِكَ الْخِلَافَةَ عَلَى النَّاسِ، وَنَشَأَ هَذَا فِي حِجْرِ جَدِّهِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ يُرَبِّيهِ بِمَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ، وَيُدَرِّبُهُ عَلَى أَحْسَنِ السَّجَايَا وللَّه الحمد، وقد كان المقتدى حين ولى الخلافة عمره عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ خَلْقًا وَخُلُقًا، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَلَسَ فِي دَارِ الشَّجَرَةِ، بِقَمِيصٍ أَبْيَضَ، وَعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ لَطِيفَةٍ، وطرحة قصب أدريه، وَجَاءَ الْوُزَرَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَشْرَافُ وَوُجُوهُ النَّاسِ فَبَايَعُوهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ، وَأَنْشَدَهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَيِّدٌ مِنَّا مَضَى قَامَ سَيِّدٌ
ثُمَّ أُرْتِجَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا بَعْدَهُ، فَقَالَ الخليفة
قؤول بما قَالَ الْكِرَامُ فَعُولُ
وَبَايَعَهُ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ، الشَّافِعِيَّانِ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَبَرَزَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْعَصْرَ ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ أُخْرِجَ تَابُوتُ جَدِّهِ بِسُكُونٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ صُرَاخٍ وَلَا نَوْحٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ وَحُمِلَ إلى المقبرة، وقد كان المقتدى شَهْمًا شُجَاعًا أَيَّامُهُ كُلُّهَا مُبَارَكَةٌ، وَالرِّزْقُ دَارٌّ وَالْخِلَافَةُ مُعَظَّمَةٌ جِدًّا، وَتَصَاغَرَتِ الْمُلُوكُ لَهُ، وَتَضَاءَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخُطِبَ لَهُ بِالْحَرَمَيْنِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ والشام كُلِّهَا، وَاسْتَرْجَعَ الْمُسْلِمُونَ الرُّهَا وَأَنْطَاكِيَةَ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، وَعُمِّرَتْ بَغْدَادُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ جَهِيرٍ ثُمَّ أَبَا شُجَاعٍ، ثُمَّ أَعَادَ ابْنَ جَهِيرٍ وَقَاضِيَهُ الدَّامَغَانِيُّ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ الشاشي، وَهَؤُلَاءِ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ وللَّه الْحَمْدُ.
وفي شعبان منها أخرج المفسدات من الخواطئ من بغداد، وأمرهن أن ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة، وخرب الخمارات ودور الزواني والمغاني، وأسكنهن الجانب الغربي مع الذل والصغار، وخرب أبرجة الحمام، ومنع اللعب بها، وأمر الناس باحتراز عوراتهم فِي الْحَمَّامَاتِ وَمَنَعَ أَصْحَابَ الْحَمَّامَاتِ أَنْ يَصْرِفُوا فَضَلَاتِهَا إِلَى دِجْلَةَ، وَأَلْزَمَهُمْ بِحَفْرِ آبَارٍ لِتِلْكَ الْمِيَاهِ الْقَذِرَةِ صِيَانَةً لِمَاءِ الشُّرْبِ. وَفِي شَوَّالٍ منها وَقَعَتْ نَارٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي بَغْدَادَ، حَتَّى فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَأَحْرَقَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ، وَوَقَعَ بِوَاسِطٍ حَرِيقٌ فِي تِسْعَةِ أَمَاكِنَ، وَاحْتَرَقَ فِيهَا أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ دَارًا وستة خانات، وأشياء كثيرة غير ذلك، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وَفِيهَا عُمِلَ الرَّصْدُ للسلطان ملك شاه اجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ وَأَنْفَقَ عليه أموالا كثيرة، وبقي دَائِرًا حَتَّى مَاتَ السُّلْطَانُ فَبَطَلَ.
وَفِي ذِي الحجة منها أعيدت الخطب لِلْمِصْرِيِّينَ وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَذَلِكَ لَمَّا قَوِيَ أمر صاحب مصر بعد ما كان ضعيفا بسبب غلاء بلده، فلما رخصت تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَيْهَا، وَطَابَ الْعَيْشُ بِهَا، وَقَدْ كانت الخطبة للعباسيين بمكة منذ أربعين سنة وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَسَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ عَلَى مَا سيأتي(12/111)
بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ انْجَفَلَ أَهْلُ السَّوَادِ مِنْ شِدَّةِ الْوَبَاءِ وَقِلَّةِ مَاءِ دِجْلَةَ وَنَقْصِهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الشَّرِيفُ أَبُو طَالِبٍ الْحُسَيْنِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْخَلِيفَةِ المقتدى بالحرمين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ
عَبْدُ اللَّهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَيْئًا من ترجمته عند وفاته.
الدَّاوُدِيُّ
رَاوِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ، أَبُو الْحَسَنِ، بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الدَّاوُدِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ، وَصَحِبَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَصَنَّفَ، وَوَعَظَ النَّاسَ. وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ كَثِيرَ الذِّكْرِ، لَا يَفْتُرُ لِسَانُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، دخل يوما عليه الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَكَ عَلَى عِبَادِهِ فَانْظُرْ كَيْفَ تُجِيبُهُ إِذَا سَأَلَكَ عَنْهُمْ. وكانت وفاته بيوشح فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ. وَمِنْ شعره الجيد القوى قوله:
كان في الاجتماع بالناس نور ... ذهب النُّورُ وَادْلَهَمَّ الظَّلَامُ
فَسَدَ النَّاسُ وَالزَّمَانُ جَمِيعًا ... فَعَلَى النَّاسِ وَالزَّمَانِ السَّلَامُ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن الحسن
ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ الْبَاخَرْزِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، اشْتَغَلَ أَوَّلًا عَلَى الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ ثم ترك ذلك وعمد إِلَى الْكِتَابَةِ وَالشِّعْرِ، فَفَاقَ أَقْرَانَهُ، وَلَهُ دِيوَانٌ مشهور فمنه:
وَإِنِّي لَأَشْكُو لَسْعَ أَصْدَاغِكِ الَّتِي ... عَقَارِبُهَا فِي وجنتيك نجوم
وَأَبْكِي لِدُرِّ الثَّغْرِ مِنْكِ وَلِي أَبٌ ... فَكَيْفَ نديم الضَّحِكَ وَهْوَ يَتِيمُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وستين وأربعمائة
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: جَاءَ جَرَادٌ فِي شَعْبَانَ بعدد الرمل والحصا، فأكل الغلات وآذى النَّاسِ، وَجَاعُوا فَطُحِنَ الْخَرُّوبُ بِدَقِيقِ الدُّخْنِ فَأَكَلُوهُ، وَوَقَعَ الْوَبَاءُ، ثُمَّ مَنَعَ اللَّهُ الْجَرَادَ مِنَ الْفَسَادِ، وَكَانَ يَمُرُّ وَلَا يَضُرُّ، فَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ. قَالَ: وَوَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِدِمَشْقَ وَاسْتَمَرَّ ثَلَاثَ سنين. وفيها ملك نصر ابن مَحْمُودِ بْنِ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ مَدِينَةَ مَنْبِجَ، وأجلى عنها الروم وللَّه الحمد والمنة في ذي القعدة منها.
وفيها ملك الاقسيس مدينة دمشق، وانهزم عنها المعلى بن حيدر نَائِبُ الْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيُّ إِلَى مَدِينَةِ بَانْيَاسَ، وَخُطِبَ فِيهَا لِلْمُقْتَدِي، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهَا إِلَى الآن وللَّه الحمد والمنة. فَاسْتَدْعَى الْمُسْتَنْصِرُ نَائِبَهُ فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مات في السجن.(12/112)
قلت: الاقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، ويلقب بالملك المعظم، وهو أول من استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين، وأزال الأذان منها بحي على خير العمل، بعد أن كان يؤذن به على منابر دمشق وسائر الشام، مائة وست سنين، كان على أبواب الجوامع والمساجد مكتوب لعنة الصحابة رضى الله عنهم، فأمر هذا السلطان المؤذنين والخطباء أن يترضوا عن الصحابة أجمعين، ونشر العدل وأظهر السنة. وهو أول من أسس القلعة بدمشق، ولم يكن فيها قبل ذلك معقل يلتجئ إليه المسلمون من العدو، فبناها في محلتها هذه التي هي فيها اليوم، وكان موضعها بباب البلد يقال له باب الحديد، وهو تجاه دار رضوان منها، وكان ابتداء ذلك في السنة الآتية، وإنما أكملها بعده الملك المظفر تنش بن ألب أرسلان السلجوقي كما سيأتي بيانه. وحج بالناس فيها مقطع الكوفة.
وهو الأمير السكيني جنفل التُّرْكِيُّ، وَيُعْرَفُ بِالطَّوِيلِ، وَكَانَ قَدْ شَرَّدَ خَفَاجَةَ فِي الْبِلَادِ وَقَهَرَهُمْ، وَلَمْ يَصْحَبْ مَعَهُ سِوَى ستة عشر تركيا، فوصل إلى مكة سالما، وَلَمَّا نَزَلَ بِبَعْضِ دُورِهَا كَبَسَهُ بَعْضُ الْعَبِيدِ.
فقتل منهم مقتلة عظيمة، وهزمهم هزيمة شنيعة، ثم إنه بعد ذلك إنما كان ينزل بِالزَّاهِرِ. قَالَهُ ابْنُ السَّاعِي فِي تَارِيخِهِ، وَأُعِيدَتِ الخطبة في هذه السنة للعباسيين في ذي الحجة منها، وقطعت خطبة المصريين وللَّه الحمد والمنة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
مُحَمَّدُ بْنُ على
ابن أحمد بن عيسى بن موسى، أبو تمام ابن أبى القاسم بن الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، نَقِيبُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْفَقِيهِ الْحَنْبَلِيِّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَسَمِعَ مِنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، وَدُفِنَ بِبَابِ حرب.
محمد بن القاسم
ابن حَبِيبِ بْنِ عَبْدُوسٍ، أَبُو بَكْرٍ الصَّفَّارُ مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ، سَمِعَ الْحَاكِمَ وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ وَخَلْقًا، وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ، وَكَانَ يَخْلُفُهُ فِي حَلْقَتِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَيْضَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ، خَتَنُ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ عَلَى ابْنَتِهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ ثِقَةً خَيِّرًا، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا، وَتَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ مَأْمُومًا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ فِي قَطِيعَةِ الكرخ.
محمد بن نصر بن صالح
ابن أَمِيرُ حَلَبَ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ شَكْلًا وفعلا.
مسعود بن المحسن
ابن الحسن بن عبد الرزاق بن جَعْفَرٍ الْبَيَاضِيُّ الشَّاعِرُ وَمِنْ شِعْرِهِ:(12/113)
ليس لي صاحب معين سوى الليل ... إِذَا طَالَ بِالصُّدُودِ عَلَيَّا
أَنَا أَشْكُو بُعْدَ الحبيب إليه ... وهو يشكو بعد الصباح إلينا
وله أيضا
يا من لبست لهجره طول الضنا ... حتى خفيت إذا عَنِ الْعُوَّادِ
وَأَنِسْتُ بِالسَّهَرِ الطَّوِيلِ فَأُنْسِيَتْ ... أَجْفَانُ عَيْنِي كَيْفَ كَانَ رُقَادِي
إِنْ كَانَ يُوسُفُ بالجمال مقطع ... الأيدي فأنت مفتت الأكباد
الواحدي المفسر
على بن حسن بن أحمد بن على بن بويه الْوَاحِدِيُّ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَا أَدْرِي هَذِهِ النِّسْبَةُ إِلَى مَاذَا، وَهُوَ صَاحِبُ التَّفَاسِيرِ الثَّلَاثَةِ: البسيط، والوسيط والوجيز. قَالَ: وَمِنْهُ أَخَذَ الْغَزَّالِيُّ أَسْمَاءَ كُتُبِهِ. قَالَ: وله أسباب النزول، والتحبير فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَقَدْ شَرَحَ دِيوَانَ الْمُتَنَبِّي، وَلَيْسَ فِي شُرُوحِهِ مَعَ كَثْرَتِهَا مِثْلُهُ. قَالَ: وَقَدْ رُزِقَ السَّعَادَةَ فِي تَصَانِيفِهِ، وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى حُسْنِهَا وَذَكَرَهَا الْمُدَرِّسُونَ فِي دُرُوسِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ التَّفْسِيرَ عَنِ الثَّعَالِبِيِّ، وَقَدْ مَرِضَ مُدَّةً، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِنَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الآخرة منها
ناصر بن محمد
ابن على أبو منصور التركي الصافرى، وَهُوَ وَالِدُ الْحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ، قَرَأَ القرآن، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى قِرَاءَةَ التَّارِيخِ عَلَى الْخَطِيبِ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ ظَرِيفًا صَبِيحًا، مَاتَ شَابًّا دُونَ الثَّلَاثِينَ سَنَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ بِقَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ أوردها كلها في المنتظم ابن الجوزي.
يوسف بن محمد بن الحسن
أبو القاسم الهمدانيّ، سمع وجمع وصنف وانتشرت عنه الرواية، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ.
ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة
فيها كان ابتداء عمارة قلعة دمشق، وذلك أن الملك المعظم أتسز بن أوف الخوارزمي لما انتزع دمشق من أيدي العبيديين في السنة الماضية، شرع في بناء هذا الحصن المنيع بدمشق في هذه السنة وكان في مكان القلعة اليوم أحد أبواب البلد، باب يعرف بباب الحديد، وهو الباب المقابل لدار رضوان منها اليوم، داخل البركة البرانية منها، وقد ارتفع بعض أبرجتها فلم يتكامل حتى انتزع ملك البلد منه الملك المظفر تاج الملوك تنش بن ألب أرسلان السلجوقي، فأكملها وأحسن عمارتها، وابتنى بها دار رضوان للملك، واستمرت على ذلك البناء في أيام نور الدين محمود بن زنكي، فلما كان الملك صلاح الدين بن يوسف بن أيوب جدد فيها شيئا، وابتنى له نائبة ابن مقدم فيها دارا هائلة للمملكة، ثم إن الملك العادل أخا صلاح الدين، اقتسم هو وأولاده أبرجتها، فبنى كل ملك منهم برجا منها جدده وعلاه وأطده وأكده. ثم جدد الملك الظاهر بيبرس منها البرج الغربي القبلي،(12/114)
ثم ابتنى بعده في دولة الملك الأشرف خليل بن المنصور، نائبة الشجاعي، الطارمة الشمالية والقبة الزرقاء وما حولها، وفي المحرم منها مَرِضَ الْخَلِيفَةُ مَرَضًا شَدِيدًا فَأَرْجَفَ النَّاسُ بِهِ، فَرَكِبَ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ جَهْرَةً فَسَكَنُوا، وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً، إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، فَنَقَلَ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ وَخِيفَ عَلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَنُقِلَ تَابُوتُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْلًا إِلَى التُّرَبِ بِالرُّصَافَةِ. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وذلك أن ابْنَ الْقُشَيْرِيِّ قَدِمَ بَغْدَادَ فَجَلَسَ يَتَكَلَّمُ فِي النِّظَامِيَّةِ وَأَخَذَ يَذُمُّ الْحَنَابِلَةَ وَيَنْسُبُهُمْ إِلَى التَّجْسِيمِ، وَسَاعَدَهُ أَبُو سَعْدٍ الصُّوفِيُّ، وَمَالَ مَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَكَتَبَ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة عليهم، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي مُوسَى شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فدافع عنه آخرون، واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن، وَجُرِحَ آخَرُونَ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ، وَكَتَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ في كِتَابُهُ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ يُنْكِرُ مَا وَقَعَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَعَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى الرِّحْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ غَضَبًا مِمَّا وَقَعَ مِنَ الشَّرِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُسَكِّنُهُ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي سَعْدٍ الصُّوفِيِّ، وَأَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيِّ، عِنْدَ الْوَزِيرِ، فَأَقْبَلَ الْوَزِيرُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يُعَظِّمُهُ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ، وَقَامَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَالَ: أَنَا ذَلِكَ الَّذِي كُنْتَ تَعْرِفُهُ وأنا شاب، وهذه كتبي في الأصول، ما أقول فيها خلافا للأشعرية، ثم قبّل رأس أبى جعفر، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ:
صَدَقْتَ، إِلَّا أَنَّكَ لَمَّا كُنْتَ فَقِيرًا لَمْ تُظْهِرْ لَنَا مَا في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجه بزرك- يعنى نظام الملك- وشبعت، أَبْدَيْتَ مَا كَانَ مُخْتَفِيًا فِي نَفْسِكَ. وَقَامَ الشيخ أبو سعد الصوفي وقبل رَأْسَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا وَتَلَطَّفَ بِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ مُغْضَبًا وَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ أَمَّا الْفُقَهَاءُ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلَهُمْ فِيهَا مَدْخَلٌ، وَأَمَّا أَنْتَ فَصَاحِبُ لَهْوٍ وَسَمَاعٍ وتغيير، فَمَنْ زَاحَمَكَ مِنَّا عَلَى بَاطِلِكَ؟ ثُمَّ قَالَ: أيها الوزير أنى تصلح بيننا؟ وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون؟ وَهَذَا جَدُّ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمُ وَالْقَادِرُ قَدْ أَظْهَرَا اعْتِقَادَهُمَا لِلنَّاسِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالسَّلَفِ، وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا وَافَقَ عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْخُرَاسَانِيُّونَ، وَقُرِئَ عَلَى النَّاسِ فِي الدَّوَاوِينِ كُلِّهَا، فَأَرْسَلَ الْوَزِيرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِمَا جَرَى، فَجَاءَ الْجَوَابُ بِشُكْرِ الْجَمَاعَةِ وَخُصُوصًا الشَّرِيفَ أَبَا جَعْفَرٍ، ثُمَّ اسْتُدْعِيَ الخليفة أبا جعفر إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّبَرُّكِ بِدُعَائِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفَى ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ فِي النَّاسِ بِبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ وَالسَّوَادِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الشَّامَ كَذَلِكَ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أُزِيلَتِ الْمُنْكَرَاتُ وَالْبَغَايَا بِبَغْدَادَ، وَهَرَبَ الْفُسَّاقُ مِنْهَا. وَفِيهَا مَلَكَ حَلَبَ نَصْرُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مِرْدَاسٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ(12/115)
الأمير على بن أبى منصور بن قرامز بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَالَوَيْهِ السِّتَّ أَرْسَلَانَ خاتون بنت داود عم السلطان ألب أرسلان، وَكَانَتْ زَوْجَةَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِيهَا حَاصَرَ الْأَقْسِيسُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مِصْرَ وَضَيَّقَ عَلَى صَاحِبِهَا الْمُسْتَنْصِرِ باللَّه، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ. وحج بالناس فيها الأمير جنفل التركي [1] مقطع الكوفة.
وممن توفى فيها من الأعيان
اسفهدوست بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ
الشَّاعِرُ، لَقِيَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْحَجَّاجِ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ نُبَاتَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الشُّعَرَاءِ، وكان شيعيا فتاب، وقال في قصيدة له في ذلك قوله في اعتقاده:
وَإِذَا سُئِلْتُ عِنِ اعْتِقَادِي قُلْتُ مَا ... كَانَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ الْأَبْرَارِ
وَأَقُولُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... صِدِّيقُهُ وَأَنِيسُهُ فِي الْغَارِ
ثُمَّ الثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ خَيْرُ الْوَرَى ... أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ سَادَةٍ أَطْهَارِ
هَذَا اعْتِقَادِي وَالَّذِي أَرْجُو بِهِ ... فَوْزِي وَعِتْقِي مِنْ عَذَابِ النَّارِ
طَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ بن بابشاذ
أبو الحسن البصري النَّحْوِيُّ، سَقَطَ مِنْ سَطْحِ جَامِعِ عَمْرِو بْنِ العاص بمصر فمات من ساعته فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ بِمِصْرَ إِمَامُ عَصْرِهِ فِي النَّحْوِ، وله المصنفات المفيدة من ذلك مقدمته وشرحها وشرح الْجُمَلِ لِلزَّجَّاجِىِّ. قَالَ: وَكَانَتْ وَظِيفَتُهُ بِمِصْرَ أَنَّهُ لَا تُكْتَبُ الرَّسَائِلُ فِي دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ فَيُصْلِحُ مِنْهَا مَا فِيهِ خَلَلٌ ثُمَّ تُنْفَذُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي عُيِّنَتْ لَهَا، وَكَانَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَعْلُومٌ وَرَاتِبٌ جَيِّدٌ. قَالَ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ طَعَامًا فَجَاءَهُ قِطٌّ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا فَأَخَذَهُ وَذَهَبَ سَرِيعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا أَيْضًا فَانْطَلَقَ بِهِ سَرِيعًا ثُمَّ جَاءَ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا أَيْضًا فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ هَذَا كُلَّهُ فَتَتَبَّعُوهُ فَإِذَا هُوَ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى قِطٍّ آخَرَ أَعْمَى فِي سَطْحٍ هُنَاكَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا حَيَوَانٌ بَهِيمٌ قَدْ سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِ رِزْقَهُ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده. ثُمَّ تَرَكَ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الرَّاتِبِ وَجَمَعَ حَوَاشِيَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ وَالْمُلَازَمَةِ فِي غُرْفَةٍ فِي جَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، إلى أن مات كما ذكرنا. وقد جمع تعليقه في النحو وكان قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا، فَأَصْحَابُهُ كَابْنِ بَرِيٍّ وَغَيْرِهِ يَنْقُلُونَ مِنْهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَيُسَمُّونَهَا تَعْلِيقَ الْغُرْفَةِ.
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
ابن عمر بن أحمد بن المجمع بن محمد بن يحيى بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَزَارْمَرْدَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّرِيفِينِيُّ، ويعرف بابن المعلم، أحد مشايخ الحديث المسند بن المشهورين، تفرد فيه عن جماعة من المشايخ لطول
__________
[1] يعنى هو نكل. كذا بهامش نسخة الآستانة.(12/116)
عُمْرِهِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ بِالْجَعْدِيَّاتِ عَنِ ابن حبانة عَنْ أَبَى الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، وَهُوَ سَمَاعُنَا، وَرَحَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِسَبَبِهِ، وسمع عليه جماعة من الحفاظ منهم الْخَطِيبُ، وَكَانَ ثِقَةً مَحْمُودَ الطَّرِيقَةِ، صَافِيَ الطَّوِيَّةِ، تُوُفِّيَ بِصَرِيفِينَ فِي جُمَادَى الْأُولَى عَنْ خَمْسٍ وثمانين سنة.
حيان بن خلف
ابن حُسَيْنِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ وَهْبِ بْنِ حَيَّانَ أَبُو مَرْوَانَ الْقُرْطُبِىُّ، مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، صَاحِبُ تَارِيخِ الْمَغْرِبِ فِي سِتِّينَ مُجَلَّدًا، أَثْنَى عَلَيْهِ الْحَافِظُ. أَبُو عَلِيٍّ الغساني في فصاحته وصدقه وبلاغته. قال: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: التَّهْنِئَةُ بَعْدَ ثَلَاثٍ اسْتِخْفَافٌ بِالْمَوَدَّةِ، وَالتَّعْزِيَةُ بَعْدَ ثَلَاثٍ إِغْرَاءٌ بِالْمُصِيبَةِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَرَآهُ بعضهم في المنام فسأله عن حاله فَقَالَ غَفَرَ لِي. وَأَمَّا التَّارِيخُ فَنَدِمْتُ عَلَيْهِ، ولكن الله بلطفه أقالنى وعفا عنى.
أبو نصر السجزى الوابلي
نسبة إلى قرية من قرى سجستان يقال لها وابل، سمع الكثير وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ وَأَقَامَ بِالْحَرَمِ، وَلَهُ كِتَابُ الْإِبَانَةِ في الأصول، وله فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُفَضِّلُهُ فِي الْحِفْظِ عَلَى الصُّورِيِّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْمَاطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سِكِّينَةَ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وكان كثير السماع، ومات عن تسع وسبعين سنة وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سبعين وأربعمائة من الهجرة
قال ابن الجوزي: في ربيع الأول منها وقعت صاعقة بمحلة النوبة مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، عَلَى نَخْلَتَيْنِ فِي مَسْجِدٍ فَأَحْرَقَتْ أَعَالِيَهُمَا، وَصَعِدَ النَّاسُ فَأَطْفَئُوا النَّارَ، وَنَزَلُوا بِالسَّعَفِ وَهُوَ يَشْتَعِلُ نَارًا.
قَالَ: وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ نِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى الشَّيْخِ أَبَى إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي جَوَابِ كِتَابِهِ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الْحَنَابِلَةِ، ثُمَّ سَرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَمَضْمُونُهُ: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ الْمَذَاهِبِ وَلَا نَقْلُ أَهْلِهَا عنها، والغالب على تِلْكَ النَّاحِيَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَحَلُّهُ معروف عند الأئمة والناس، وَقَدْرُهُ مَعْلُومٌ فِي السُّنَّةِ.
فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. قَالَ: وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَبَيْنَ فُقَهَاءِ النِّظَامِيَّةِ، وَحَمِيَ لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَوَامِّ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ نَحْوٌ من عشرين قتيلا، وجرح آخرون، ثُمَّ سَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. قَالَ: وَفِي تَاسِعَ عَشَرَ شوال ولد للخليفة المقتدى ولده المستظهر أبو العباس أحمد، وزينت البلاد وَجَلَسَ الْوَزِيرُ لِلْهَنَاءِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ آخر وهو أبو محمد هارون. قال: وفيها ولى تاج الدولة أرسلان الشام وحاصر حلب. وحج بالناس جنفل مقطع الكوفة، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْوَزِيرَ ابْنَ جَهِيرٍ كَانَ قَدْ عَمِلَ مِنْبَرًا هَائِلًا لِتُقَامَ عَلَيْهِ الخطبة بمكة،(12/117)
فحين وصل إليها إذا الْخُطْبَةُ قَدْ أُعِيدَتْ لِلْمِصْرِيِّينَ، فَكُسِرَ ذَلِكَ الْمِنْبَرُ وأحرق.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن أحمد بن يعقوب
ابن أحمد أبو بكر اليربوعي المقري آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ سَمْعُونَ وَقَدْ كَانَ ثِقَةً مُتَعَبِّدًا حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، كَتَبَ عَنْهُ الْخَطِيبُ وَقَالَ: كَانَ صَدُوقًا. تُوُفِّيَ في هذه السنة عن سبع وثمانين سنة.
أحمد بن محمد
ابن أحمد بن عبد الله أبو الحسن ابن النَّقُورِ الْبَزَّازُّ، أَحَدُ الْمُسْنِدِينَ الْمُعَمَّرِينَ تَفَرَّدَ بِنُسَخٍ كثيرة عن ابن حبان عَنِ الْبَغَوِيِّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، كَنُسْخَةِ هُدْبَةَ وَكَامِلِ بن طلحة وعمرو بن زرارة وأبى السكن البكري، وكان متكثرا متبحرا وَكَانَ يَأْخُذُ عَلَى إِسْمَاعِ حَدِيثِ طَالُوتَ بْنِ عبادة دِينَارًا، وَقَدْ أَفْتَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِىُّ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، لِاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنِ الْكَسْبِ. تُوُفِّيَ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سنة.
أحمد بن عبد الملك
ابن عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ النَّيْسَابُورِىُّ الحافظ، كتب الكثير وجمع وصنف، كتب عن ألف شيخ، وكان يعظ ويؤذون، مَاتَ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحسن بن على
أبو القاسم بن أبى محمد الحلالى، آخر من حدث عن أبى حفص الكناني، وقد سمع الكثير، روى عَنْهُ الْخَطِيبُ وَوَثَّقَهُ، تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ
عبد الرحمن بن مندة
ابن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ الله الْإِمَامِ، سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ مَرْدَوَيْهِ وَخَلْقًا فِي أَقَالِيمَ شَتَّى، سَافَرَ إِلَيْهَا وَجَمَعَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ ذَا وَقَارٍ وَسَمْتٍ حَسَنٍ، وَاتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ وَفَهْمٍ جَيِّدٍ، كَثِيرَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وكان مسعد ابن محمد الريحاني يَقُولُ: حَفِظَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِهِ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ. تُوُفِّيَ ابْنُ مَنْدَهْ هَذَا بِأَصْبَهَانَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وجل
عبد الملك بن محمد
ابن عبد العزيز بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو القاسم الهمدانيّ أحد الحفاظ الفقهاء الأولياء، كان يلقب ببجير وقد سمع الكثير، وكان يكثر لِلطَّلَبَةِ وَيَقْرَأُ لَهُمْ، تُوُفِّيَ بِالرَّيِّ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ إِبْرَاهِيمَ الخواص.(12/118)
الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَنْبَلِيُّ
عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عيسى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي بن أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ الْعَبَّاسِيُّ، كَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْمَشْهُورِينَ بِالدِّيَانَةِ وَالْفَضْلِ وَالْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ فِي اللَّهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، وَزَكَّاهُ شَيْخُهُ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فَقَبِلَهُ، ثُمَّ تَرَكَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَالدِّيَانَةِ، وَحِينَ احْتُضِرَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَوْصَى أَنْ يُغَسِّلَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا وَأَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، وَمَالٍ جَزِيلٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَحِينَ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِسَبَبِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ اعْتُقِلَ هُوَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَيُقَبِّلُونَ يَدَهُ وَرَأْسَهُ، وَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى اشْتَكَى فَأُذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى أهله فتوفى عندهم ليلة الخميس النصف في صفر منها، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَاتَّخَذَتِ الْعَامَّةُ قَبْرَهُ سُوقًا كُلَّ لَيْلَةِ أَرْبِعَاءَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ وَيَقْرَءُونَ الْخَتَمَاتِ عِنْدَهُ حَتَّى جَاءَ الشِّتَاءُ، وَكَانَ جملة ما قرئ عليه وأهدى له عشرة آلاف ختمة والله أعلم.
محمد بن محمد بن عبد الله
أبو الحسن البيضاوي، أحد الفقهاء الشافعيين بربع الكرخ ودفن عند والده.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة
فِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَاجُ الْمُلُوكِ تنش بْنُ أَلْبِ أَرَسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ دِمَشْقَ وَقَتَلَ مَلِكَهَا أَقْسِيسَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَقْسِيسَ بَعَثَ إِلَيْهِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ لَمْ يَرْكَبْ لتلقيه فأمر بقتله فقتل لساعته، ووجد في خزائنه حجر ياقوت أحمر وزنه سبعة عشر مثقالا، وستين حبة لؤلؤ كل حبة منها أزيد من مثقال، وعشرة آلاف دينار ومائتي سرج ذهب وغير ذلك. وقد كان أقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، كان يلقب بالمعظم، وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة، وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضى عن الصحابة أجمعين. وعمر بدمشق القلعة التي هي معقل الإسلام بالشام المحروس، فرحمه الله وبل بالرحمة ثراه، وجعل جنة الفردوس مأواه. وَفِيهَا عُزِلَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ بِإِشَارَةِ نِظَامِ الْمُلْكِ، بِسَبَبِ مُمَالَأَتِهِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ كَاتَبَ الْمُقْتَدِي نِظَامَ الْمُلْكِ فِي إِعَادَتِهِ فَأُعِيدَ وَلَدُهُ وأطلق هو. وفيها قدم سعد الدولة جوهرا أميرا إلى بغداد، وضرب الطُّبُولُ عَلَى بَابِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَأَسَاءَ الأدب على الخليفة، وضرب طوالات الخيل على باب الفردوس، فكوتب السلطان بأمره فَجَاءَ الْكِتَابُ مِنَ السُّلْطَانِ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ. وَحَجَّ بالناس مقطع الكوفة جنفل التركي أنابه الله.(12/119)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
سَعْدُ بْنُ على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّنْجَانِيُّ، رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ إِمَامًا حَافِظًا مُتَعَبِّدًا، ثُمَّ انْقَطَعَ فِي آخِرِ. عُمْرِهِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيُقَبِّلُونَ يَدَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُقَبِّلُونَ الحجر الأسود.
سليم بن الجوزي
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى دُجَيْلٍ، كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا يُقَالُ إِنَّهُ مَكَثَ مُدَّةً يَتَقَوَّتُ كُلَّ يَوْمٍ بِزَبِيبَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَقُرِئَ عليه رحمه الله.
عبد الله بن شمعون
أَبُو أَحْمَدَ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ الْقَيْرَوَانِيُّ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثنتين وسبعين وأربعمائة
فيها ملك محمود بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ صَاحِبُ غَزْنَةَ قِلَاعًا كَثِيرَةً حَصِينَةً مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بِلَادِهِ سَالِمًا غَانِمًا. وَفِيهَا ولد الأمير أبو جعفر بن المقتدى باللَّه، وَزُيِّنَتْ لَهُ بَغْدَادُ وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ الْأَمِيرُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ الْعَقِيلِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ.
وَفِيهَا مَلَكَ منصور بن مروان بلاد بَكْرٍ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِتَغْرِيقِ ابْنِ عَلَّانَ الْيَهُودِيِّ ضَامِنِ الْبَصْرَةِ، وَأَخَذَ مِنْ ذخائره أربعمائة ألف دينار، فضمن خمار تكين الْبَصْرَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَةِ فَرَسٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَفِيهَا فَتَحَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ نظام الملك تكريت. وحج بالناس جنفل التُّرْكِيُّ وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ بِمَكَّةَ وَخُطِبَ لِلْمُقْتَدِي وللسلطان ملك شاه السلجوقي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الْمَلِكِ بن الحسن بن أحمد بن حبرون
أَبُو نَصْرٍ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا، يَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَيَخْتِمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ خَتْمَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مِهْرَانَ الْعُكْبَرِيُّ، سمع هلال الْحَفَّارَ، وَابْنَ رَزْقُوَيْهِ وَالْحَمَّامِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ فَاضِلًا جيد الشعر، فمن شعره قوله:
أطيل فكرى فِي أَيِّ نَاسٍ ... مَضَوْا قِدْمًا وَفِيمَنْ خَلَّفُونَا
هُمُ الْأَحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ ذِكْرًا ... وَنَحْنُ مِنَ الخمول الميتونا
توفى في رمضان منها وله سبعون سنة.
هياج بن عبد الله
الخطيب الشَّامِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ زُهْدًا وَفِقْهًا وَاجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَةِ، أَقَامَ بِمَكَّةَ مُدَّةً(12/120)
يُفْتِي أَهْلَهَا وَيَعْتَمِرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مرات على قدميه، ولم يلبس نعلا منذ أقام بمكة، وكان يزور قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ ماشيا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَزُورُ قَبْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، وَكَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا، وَلَا يَلْبَسُ إِلَّا قَمِيصًا وَاحِدًا، ضَرَبَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ مَكَّةَ فِي بَعْضِ فِتَنِ الرَّوَافِضِ فَاشْتَكَى أَيَّامًا وَمَاتَ، وَقَدْ نيف على الثمانين رحمه الله، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثلاث وسبعين وأربعمائة
فيها استولى تكش أخو السلطان ملك شاه على بعض بلاد خُرَاسَانَ. وَفِيهَا أُذِنَ لِلْوُعَّاظِ فِي الْجُلُوسِ لِلْوَعْظِ، وكانوا قد منعوا في فِتْنَةِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ. وَفِيهَا قُبِضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْفِتْيَانِ كَانُوا قَدْ جَعَلُوا عَلَيْهِمْ رَئِيسًا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْهَاشِمِيُّ، وَقَدْ كَاتَبُوهُ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَكَانَ السَّاعِي لَهُ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ رَسُولٍ، وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ جَامِعِ بَرَاثَا، فَخِيفَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُمَالِئِينَ للمصريين، فأمر بالقبض عليهم. وحج بالناس جنفل.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن عمر
ابن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْأَخْضَرِ الْمُحَدِّثُ، سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ شَاذَانَ، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ حَسَنَ السِّيرَةِ، مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا قَنُوعًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الصُّلَيْحِيُّ
الْمُتَغَلِّبُ عَلَى الْيَمَنِ، أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُلَقَّبُ بِالصُّلَيْحِيِّ، كَانَ أَبُوهُ قَاضِيًا بِالْيَمَنِ، وَكَانَ سُنِّيًّا، وَنَشَأَ هَذَا فَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَبَرَعَ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ شِيعِيًّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ، ثُمَّ كَانَ يَدُلُّ بِالْحَجِيجِ مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وكان اشْتَهَرَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ سَيَمْلِكُ الْيَمَنَ، فنجم ببلاد اليمن بعد قتله نجاح صَاحِبَ تِهَامَةَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ بِكَمَالِهَا فِي أَقْصَرِ مُدَّةٍ، وَاسْتَوْثَقَ لَهُ الْمُلْكُ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَخَطَبَ لِلْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، فَاعْتَرَضَهُ سَعِيدُ بْنُ نَجَاحٍ بِالْمَوْسِمِ، فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ هُوَ وَأَخُوهُ وَاسْتَحْوَذَ سَعِيدُ بْنُ نَجَاحٍ عَلَى مَمْلَكَتِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَمِنْ شِعْرِ الصُّلَيْحِيِّ هَذَا قَوْلُهُ:
أَنْكَحْتُ بِيضَ الْهِنْدِ سُمْرَ رِمَاحِهِمْ ... فَرُءُوسُهُمْ عرض النِّثَارِ نِثَارُ
وَكَذَا الْعُلَا لَا يُسْتَبَاحُ نِكَاحُهَا ... إِلَّا بِحَيْثُ تُطَلَّقُ الْأَعْمَارُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الشبلي، أَبُو عَلِيٍّ الشَّاعِرُ الْبَغْدَادِيُّ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَلَهُ الشِّعْرُ الرَّائِقُ فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
لَا تُظْهِرَنَّ لِعَاذِلٍ أَوْ عَاذِرٍ ... حَالَيْكَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
فَلِرَحْمَةِ الْمُتَوَجِّعِينَ مَرَارَةٌ ... فِي الْقَلْبِ مِثْلُ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ(12/121)
وَلَهُ أَيْضًا
يُفنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ
كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا تَبْنِيهِ يَخْنُقُهَا ... وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ
يُوسُفُ بن الحسن
ابن محمد بن الحسن، أبو القاسم العسكري، من أهل خراسان من مدينة زَنْجَانَ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ على أبى إسحاق الشيرازي، وكان من أكبر تلاميذه، وَكَانَ عَابِدًا وَرِعًا خَاشِعًا، كَثِيرَ الْبُكَاءِ عِنْدَ الذكر، مقبلا على العبادة، مات وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وسبعين وأربعمائة
فِيهَا وَلِيَ أَبُو كَامِلٍ مَنْصُورُ بْنُ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٍ مَا كَانَ يَلِيهِ أَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ وَالْخَلِيفَةُ. وَفِيهَا مَلَكَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ حَرَّانَ، وَصَالَحَ صاحب الرهاء. وَفِيهَا فَتَحَ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ أَنْطَرْطُوسَ. وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ ابْنَ جهير إلى السلطان ملك شاه يتزوج ابنته فأجابت أمها بذلك، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا سرية سواها، وأن يكون سبعة أيام عندها، فوقع الشرط على ذلك.
وفيها توفى من الأعيان.
داود بن السلطان بن ملك شاه
فوجد عليه أبوه وجدا كثيرا، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَادَ أَوْ هَمَّ أَنْ يَقْتُلَ نفسه، فمنعه الأمراء من ذلك، وانتقل عن ذَلِكَ الْبَلَدِ وَأَمَرَ النِّسَاءَ بِالنَّوْحِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا وصل الخبر لبغداد جَلَسَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ لِلْعَزَاءِ.
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ
سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَيُّوبَ التُّجِيبِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْبَاجِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَحَلَ فِيهِ إِلَى بِلَادِ الْمَشْرِقِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَسَمِعَ هُنَاكَ الْكَثِيرَ، وَاجْتَمَعَ بِأَئِمَّةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَالْقَاضِي أَبِي الطِّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مَعَ الشَّيْخِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ ثَلَاثَ سنين، وَبِالْمَوْصِلِ سَنَةً عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ قَاضِيهَا، فَأَخَذَ عَنْهُ الْفِقْهَ وَالْأُصُولَ، وَسَمِعَ الْخَطِيبَ الْبَغْدَادِيَّ وَسَمِعَ مِنْهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا، وَرَوَى عَنْهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْحَسَنَيْنِ.
إِذَا كُنْتُ أَعْلَمُ عِلْمًا يِقِينًا ... بِأَنَّ جَمِيعَ حَيَاتِي كَسَاعَهْ
فَلِمْ لَا أَكُونُ كضيف بِهَا ... وَأَجْعَلُهَا فِي صَلَاحٍ وَطَاعَهْ
ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ هُنَاكَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ تَوَلَّى قَضَاءَ حَلَبَ أَيْضًا، قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ. قَالَ: وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ عديدة منها المنتقى في شرح الموطأ، وإحكام الفصول في أحكام الأصول، والجرح وَالتَّعْدِيلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وأربعمائة، وتوفى ليلة الخميس بين(12/122)
العشاءين التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بن مزيد
المقلب نُورَ الدَّوْلَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً: مكث منها أَمِيرًا نَيِّفًا وَسِتِّينَ [1] سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبُو كَامِلٍ، وَلُقِّبَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رِضْوَانَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ، وَمَرِضَ بِالشَّقِيقَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَمَكَثَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَا يَرَى ضَوْءًا وَلَا يَسْمَعُ صَوْتًا
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة خمس وسبعين وأربعمائة
فيها قدم مؤيد الْمُلْكِ فَنَزَلَ فِي مَدْرَسَةِ أَبِيهِ، وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ عَلَى بَابِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الثَّلَاثِ.
وَفِيهَا نَفَذَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ رَسُولًا إِلَى السلطان ملك شاه وَالْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى بَلْدَةٍ خَرَجَ أَهْلُهَا يَتَلَقَّوْنَهُ بِأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَيَتَمَسَّحُونَ بِرِكَابِهِ، وَرُبَّمَا أَخَذُوا مِنْ تُرَابِ حَافِرِ بَغْلَتِهِ. وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى سَاوَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، وَمَا مَرَّ بِسُوقٍ مِنْهَا إِلَّا نَثَرُوا عَلَيْهِ مِنْ لَطِيفِ مَا عِنْدَهُمْ، حَتَّى اجْتَازَ بِسُوقِ الْأَسَاكِفَةِ، فَلَمْ يَكُنْ عندهم إلا مداساة الصغار فنثروها عليه، فجعل يتعجب من ذلك. وفيها جددت الخطبة لبنت السلطان ملك شاه من جهة الخليفة، فَطَلَبَتْ أُمُّهَا أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ الحال على خمسين أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِيهَا حَارَبَ السُّلْطَانُ أَخَاهُ تُتُشَ فَأَسَرَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى دِمَشْقَ وأعمالها. وحج بالناس جنفل.
وتوفى فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ
ابن إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ، أبو عمر الْحَافِظُ مِنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ، رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وسمع الكثير، وتوفى بأصبهان
ابْنُ مَاكُولَا
الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ عَلِيُّ بْنُ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ علكان بن محمد بن دُلَفَ بْنِ أَبِي دُلَفَ التَّمِيمِيُّ، الْأَمِيرُ سَعْدُ الملك، أبو نصر ابن مَاكُولَا، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَسَادَاتِ الْأُمَرَاءِ، رَحَلَ وَطَافَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ الْإِكْمَالَ فِي الْمُشْتَبَهِ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ، إِلَّا مَا استدرك عَلَيْهِ ابْنُ نُقْطَةَ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الِاسْتِدْرَاكَ. قَتَلَهُ مَمَالِيكُهُ فِي كَرْمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَعَاشَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقِيلَ إِنَّهُ قُتِلَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ أبوه وزير القائم بأمر الله، وعمه عبد الله بن الحسين وَلِيَ قَضَاءَ بَغْدَادَ. قَالَ: وَلَمْ أَدْرِ لِمَ سُمِّيَ الْأَمِيرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى جَدِّهِ الْأَمِيرِ أَبِي دُلَفَ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَرْبَاذَقَانَ، وولد في عكبرا في شعبان سنة
__________
[1] كذا بالأصل وفي النجوم الزاهرة أيضا. وفي الكامل لابن الأثير أن إمارته كانت سبعا وخمسين سنة.(12/123)
إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ صَنَّفَ كِتَابَ الْمُؤْتَنِفِ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ كتابي الدار قطنى وَعَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، فَجَاءَ ابْنُ مَاكُولَا وَزَادَ عَلَى الْخَطِيبِ وَسَمَّاهُ كتاب الْإِكْمَالَ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِفَادَةِ وَرَفْعِ الِالْتِبَاسِ وَالضَّبْطِ. وَلَمْ يُوضَعْ مِثْلُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا الْأَمِيرُ بَعْدَهُ إِلَى فَضِيلَةٍ أُخْرَى، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ وَضَبْطِهِ وَتَحْرِيرِهِ وَإِتْقَانِهِ. وَمِنْ الشعر الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ:
قَوِّضْ خِيَامَكَ عَنْ أَرْضٍ تُهَانُ بِهَا ... وَجَانِبِ الذُّلَّ إِنَّ الذُّلَّ يُجْتَنَبُ
وَارْحَلْ إِذَا كَانَ فِي الْأَوْطَانِ مَنْقَصَةٌ ... فَالْمَنْدَلُ الرَّطْبُ فِي أَوْطَانِهِ حَطَبُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ست وسبعين وأربعمائة
فيها عزل عميد الدولة بن جَهِيرٍ عَنْ وَزَارَةِ الْخِلَافَةِ فَسَارَ بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَقَصَدُوا نِظَامَ الْمُلْكِ وَزِيرَ السُّلْطَانِ، فعقد لولده فخر الدولة على بلاد ديار بَكْرٍ، فَسَارَ إِلَيْهَا بِالْخِلَعِ وَالْكُوسَاتِ وَالْعَسَاكِرِ، وَأَمَرَ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنِ ابْنِ مَرْوَانَ، وَأَنْ يُخْطَبَ لنفسه وأن يذكر اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ، فَمَا زَالَ حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَبَادَ مُلْكُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَسَدَّ وَزَارَةَ الْخِلَافَةِ أَبُو الْفَتْحِ مُظَفَّرٌ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ عُزِلَ فِي شَعْبَانَ وَاسْتُوْزِرَ أَبُو شُجَاعٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَلُقِّبَ ظَهِيرَ الدِّينِ، وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَلَّى مؤيد الملك أبا سعيد عبد الرحمن ابن الْمَأْمُونِ، الْمُتَوَلِّي تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ الشَّيْخِ أبى إسحاق الشيرازي. وَفِيهَا عَصَى أَهْلُ حَرَّانَ عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ فَحَاصَرَهَا فَفَتَحَهَا وَهَدَمَ سورها وصلب قاضيها ابن حلبة وابنيه على السور. وفي شوال منها قتل أبو المحاسن بن أَبِي الرِّضَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَشَى إِلَى السُّلْطَانِ فِي نِظَامِ الْمُلْكِ، وَقَالَ لَهُ سَلِّمْهُمْ إِلَيَّ حَتَّى أَسْتَخْلِصَ لَكَ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَعَمِلَ نِظَامُ الْمُلْكِ سِمَاطًا هَائِلًا، وَاسْتَحْضَرَ غِلْمَانَهُ وَكَانُوا أُلُوفًا مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَشَرَعَ يَقُولُ لِلسُّلْطَانِ: هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَمْوَالِكَ، وَمَا وَقَفْتُهُ مِنَ المدارس والربط، وكله شُكْرُهُ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَأَجْرُهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمْوَالِي وَجَمِيعُ مَا أَمْلِكُهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَنَا أَقْنَعُ بِمُرَقَّعَةٍ وَزَاوِيَةٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ السلطان بقتل أبى المحاسن، وقد كان حضيا عِنْدَهُ، وَخِصِّيصًا بِهِ وَجِيهًا لَدَيْهِ، وَعَزَلَ أَبَاهُ عن كتابة الطغراء وولاها مؤيد الملك. وحج بالناس الأمير جنفل التركي مقطع الكوفة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الفيروزآبادي، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى فَارِسَ، وَقِيلَ هِيَ مدينة خوارزم، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وُلِدَ سَنَةَ ثلاث وَقِيلَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ بِفَارِسَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْضَاوِيِّ، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ شَاذَانَ وَالْبَرْقَانِيِّ، وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا وَرِعًا، كَبِيرَ الْقَدْرِ مُعَظَّمًا مُحْتَرَمًا(12/124)
إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ، وَفُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وله المصنفات الكثيرة النافعة، كالمهذب في المذهب، والتنبيه، والنكت في الخلاف، واللمع في أصول الفقه، والتبصرة، وطبقات الشافعية وَغَيْرِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتُهُ مُسْتَقْصَاةً مطولة فِي أَوَّلِ شَرْحِ التَّنْبِيهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي دَارِ أبى المظفر بن رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَغَسَّلَهُ أَبُو الْوَفَا بْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَابِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَشَهِدَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ الْمُظَفَّرُ ابْنُ رئيس الرؤساء، وكان يومئذ لابسا ثياب الْوَزَارَةِ، ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ فِي تُرْبَةٍ مُجَاوِرَةٍ لِلنَّاحِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ في حياته وبعد وفاته، وله شِعْرٌ رَائِقٌ، فَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْ خِلٍّ وَفِيٍّ ... فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيلُ
تَمَسَّكْ إِنْ ظَفِرْتَ بِذَيْلِ حُرٍّ ... فَإِنَّ الْحُرَّ فِي الدُّنْيَا قَلِيلُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَمَّا تُوُفِّيَ عَمِلَ الفقهاء عزاءه بالنظاميّة، وَعَيَّنَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ أَبَا سَعْدٍ الْمُتَوَلِّيَ مَكَانَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ كَتَبَ يَقُولُ: كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تُغْلَقَ الْمَدْرَسَةُ سَنَةً لِأَجْلِهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُدَرِّسَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي مَكَانِهِ.
طَاهِرُ بْنُ الحسين
ابن أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَوَّاسُ، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ المنصور للمناظرة والفتوى، وكان ورعا زاهدا ملازما لمسجده خمسين سنة، توفى عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أحمد بْنِ إِسْمَاعِيلَ
أَبُو طَاهِرٍ الْأَنْبَارِيُّ الْخَطِيبُ، وَيُعْرَفُ بابن أبى الصفر، طَافَ الْبِلَادَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا فَاضِلًا عَابِدًا، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَرَوَى عَنْهُ مُصَنَّفَاتِهِ، تُوُفِّيَ بِالْأَنْبَارِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ جرادة
أحد الرُّؤَسَاءِ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ مِنْ ذَوِي الثَّرْوَةِ وَالْمُرُوءَةِ، كَانَ يُحْزَرُ مَالُهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ عُكْبَرَا فَسَكَنَ بَغْدَادَ، وَكَانَتْ لَهُ بِهَا دَارٌ عَظِيمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِينَ مَسْكَنًا مُسْتَقِلًّا، وَفِيهَا حَمَّامٌ وَبُسْتَانٌ، وَلَهَا بَابَانِ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَسْجِدٌ، إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فِي إحداهما لَا يُسْمَعُ الْآخَرُ مِنِ اتِّسَاعِهَا، وَقَدْ كَانَتْ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ حِينَ وَقَعَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، نَزَلَتْ عِنْدَهُ فِي جِوَارِهِ، فَبَعَثَ إِلَى الْأَمِيرِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ أَمِيرِ الْعَرَبِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ،(12/125)
لِيَحْمِيَ لَهُ دَارَهُ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْمَعْرُوفَ بِهِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ خَتَمَ فِيهِ الْقُرْآنَ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ زِيَّ التُّجَّارِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي التُّرْبَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِتُرْبَةِ الْقَزْوِينِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا آمِينَ.
ثُمَّ دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة
فيها كانت الحرب بين فخر الدولة بن جهير وزير الخليفة وَبَيْنَ ابْنِ مَرْوَانَ صَاحِبِ دِيَارِ بِكْرٍ، فَاسْتَوْلَى ابْنُ جَهِيرٍ عَلَى مُلْكِ الْعَرَبِ وَسَبَى حَرِيمَهُمْ وَأَخَذَ الْبِلَادَ وَمَعَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ منصور ابن دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، فَافْتَدَى خَلْقًا مِنَ الْعَرَبِ فَشَكَرَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وامتدحه الشعراء. وَفِيهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ ابْنَ جَهِيرٍ في عسكر كثيف ومعه قسيم الدولة آقسنقر جد بنى أتابك ملوك الشام والموصل، فسارا إلى الموصل فملكوها. وفي شعبان منها مَلَكَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتْلُمُشَ أَنْطَاكِيَةَ، فَأَرَادَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا مِنْهُ، فَهَزَمَهُ سُلَيْمَانُ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ مُسْلِمٌ هَذَا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ سِيرَةً، لَهُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ وَالٍ وَقَاضٍ وَصَاحِبُ خَبَرٍ، وَكَانَ يَمْلِكُ مِنَ السِّنْدِيَّةِ إِلَى مَنْبِجَ.
وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ قُرَيْشٍ، وَكَانَ مَسْجُونًا مِنْ سِنِينَ فَأُطْلِقَ وملك. وفيها ولد السلطان سنجر بن ملك شاه فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ بِسِنْجَارَ. وَفِيهَا عَصَى تُكَشُ أَخُو السُّلْطَانِ فَأَخَذَهُ السُّلْطَانُ فَسَمَلَهُ وَسَجَنَهُ. وحج بالناس في هذه السنة الأمير جماز بكير الْحَسَنَانِيُّ، وَذَلِكَ لِشَكْوَى النَّاسِ مِنْ شِدَّةِ سَيْرِ جنفل بهم، وأخذ المكوسات منهم، سافر مرة من الكوفة إلى مكة في سبعة عشر يوما.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن دوبست
أَبُو سَعْدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ، لَهُ رِبَاطٌ بِمَدِينَةِ نَيْسَابُورَ يَدْخُلُ مِنْ بَابِهِ الْجَمَلُ بِرَاكِبِهِ، وحج مرات على التجريد على البحرين، حين انقطعت طريق مكة، وكان يَأْخُذُ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَرَاءِ وَيَتَوَصَّلُ مِنْ قَبَائِلِ العرب حتى يأتى مَكَّةَ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، رحمه الله وإيانا، وَأَوْصَى أَنْ يَخْلُفَهُ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ فَأُجْلِسَ فِي مشيخة الرِّبَاطِ.
ابْنُ الصَّبَّاغِ
صَاحِبُ الشَّامِلِ، عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَدَ بن جعفر، الامام أبو نصر ابن الصَّبَّاغِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَتَفَقَّّهَ بِبَغْدَادَ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ حَتَّى فَاقَ الشَّافِعِيَّةَ بِالْعِرَاقِ، وصنف المصنفات المفيدة، منها الشَّامِلِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَرَّسَ بالنظاميّة، توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِدَارِهِ فِي الْكَرْخِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى بَابِ حَرْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، قال ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ فَقِيهَ الْعِرَاقَيْنِ، وَكَانَ يُضَاهَى أبا إِسْحَاقَ، وَكَانَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَعْلَمَ مِنْهُ بِالْمَذْهَبِ، وَإِلَيْهِ الرِّحْلَةُ فِيهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الشَّامِلَ فِي الْفِقْهِ وَالْعُمْدَةَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَوَلَّى تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ عُزِلَ بَعْدَ عِشْرِينَ(12/126)
يَوْمًا بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ تَوَلَّاهَا أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي، ثُمَّ عُزِلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ بِابْنِ الْمُتَوَلِّي، وَكَانَ ثِقَةً حجة صالحا، ولد سنة أربعمائة، أضر في آخر عمره، رحمه الله وإيانا.
مسعود بن ناصر
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو سعد السجزي الحافظ، رحل في الْحَدِيثِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَجَمَعَ الْكُتُبَ النَّفِيسَةَ، وَكَانَ صحيح الْخَطِّ، صَحِيحَ النَّقْلِ، حَافِظًا ضَابِطًا، رَحِمَهُ اللَّهُ وإيانا.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زُلْزِلَتْ أَرَّجَانُ فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الرُّومِ وَمَوَاشِيهِمْ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ بِالْحُمَّى وَالطَّاعُونِ بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ موت الفجأة، ثم ماتت الوحوش في البراري ثم تلاها مَوْتُ الْبَهَائِمِ، حَتَّى عَزَّتِ الْأَلْبَانُ وَاللُّحْمَانُ، وَمَعَ هذا كله وقعت فتنة عظيمة بين الرافضة والسنة فقتل خلق كثير فيها. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ هَاجَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ وَسَفَتْ رملا، وتساقطت أشجار كثيرة من النخل وَغَيْرِهَا، وَوَقَعَتْ صَوَاعِقُ فِي الْبِلَادِ حَتَّى ظَنَّ بعض النَّاسُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، ثُمَّ انْجَلَى ذَلِكَ وللَّه الْحَمْدُ. وَفِيهَا وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ وَلَدُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ، وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ وَالْبُوقَاتُ، وَكَثُرَتِ الصَّدَقَاتُ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى فَخْرُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا آمد وميافارقين، وجزيرة ابن عمر، وانقضت بنو مَرْوَانَ عَلَى يَدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي ثانى عشر رمضان منها ولى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُظَفَّرٍ الشَّامِيُّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ فِي الدِّيوَانِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ جنفل، وَزَارَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاهِبًا وآئبا. قال: أظن أنها آخر حجتي. وكان كَذَلِكَ. وَفِيهَا خَرَجَ تَوْقِيعُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ بِتَجْدِيدِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ في كل محلة، وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وكسر آلات الْمَلَاهِي، وَإِرَاقَةِ الْخُمُورِ، وَإِخْرَاجِ أَهْلِ الْفَسَادِ مَنْ البلاد، أثابه الله ورحمه.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن الحسن
ابن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، أَبُو بَكْرٍ الْفُورَكِيُّ، سِبْطُ الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ، اسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ وَكَانَ مُتَكَلِّمًا يَعِظُ النَّاسَ في النظامية، فوقعت بسببه فتنة بين أهل الْمَذَاهِبِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مُؤْثِرًا لِلدُّنْيَا لا يتحاشى من لبس الحرير، وكان يأخذ مكس الفحم ويوقع العداوة بين الحنابلة والأشاعرة، مات وقد ناف على الستين سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ الْأَشْعَرِيِّ بِمَشْرَعَةِ الزوايا.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْدُوسِيُّ، كَانَ رَئِيسَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، كَانَ خدم في أيام بنى بويه وتأخر لهذا الْحِينِ، وَكَانَتِ الْمُلُوكُ تُعَظِّمُهُ وَتُكَاتِبُهُ بِعَبْدِهِ وَخَادِمِهِ، وكان كثير الصدقة والصّلات(12/127)
وَالْبِرِّ، وَبَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَأَعَدَّ لِنَفْسِهِ قَبْرًا وَكَفَنًا قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ.
أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمَأْمُونِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي: مُصَنِّفُ التتمة، ومدرس الظامية بَعْدَ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا، مَاهِرًا بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وله ستة وخمسون سنة، رحمه الله وإيانا، وصلى عليه القاضي أبو بكر الشاشي.
إمام الحرمين
عبد الملك بن [الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَيُّوَيَهِ، أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ، وَجُوَيْنُ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ، الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، لِمُجَاوَرَتِهِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَ سِنِينَ، كان مولده في تِسْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ فِي حَلْقَتِهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَدَخَلَ بغداد وتفقه بها، وروى الْحَدِيثَ وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَجَاوَرَ فِيهَا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَسُلِّمَ إِلَيْهِ التَّدْرِيسُ وَالْخَطَابَةُ وَالْوَعْظُ، وَصَنَّفَ نِهَايَةَ الْمَطْلَبِ فِي دِرَايَةِ الْمَذْهَبِ، وَالْبُرْهَانَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَغَيْرَ ذلك في عُلُومٍ شَتَّى، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ الطَّلَبَةُ وَرَحَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ ثَلَاثُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ تَرْجَمَتَهُ فِي الطَّبَقَاتِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ في الخامس وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ ثُمَّ نقل إلى جانب والده. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا وَالِدُهُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ مِنَ النَّسْخِ، وَأَمَرَهَا أن لا تدع أحدا يُرْضِعَهُ غَيْرُهَا، فَاتَّفَقَ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهُ مَرَّةً فَأَخَذَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فَنَكَسَهُ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ فِي حلقه ولم يزل به حتى قاء ما فِي بَطْنِهِ مِنْ لَبَنِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ. قَالَ: وكان إمام الحرمين ربما حصل له في مجلسه في المناظرة فتور ووقفة فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ آثَارِ تِلْكَ الرَّضْعَةِ. قَالَ: وَلَمَّا عَادَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى بَلَدِهِ نَيْسَابُورَ سلم إليه المحراب وَالْخَطَابَةُ وَالتَّدْرِيسُ وَمَجْلِسُ التَّذْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَقِيَ ثَلَاثِينَ سَنَةً غَيْرَ مُزَاحَمٍ وَلَا مُدَافَعٍ، وَصَنَّفَ في كل فن، وله النهاية التي ما صنف في الإسلام مثلها. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ يَقُولُ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: يَا مُفِيدَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، أَنْتَ الْيَوْمَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ. ومن تصانيفه الشامل في أصول الدين، والبرهان في أصول الفقه، وتلخيص التقريب، والإرشاد، والعقيدة النظامية، وغياث الأمم [1] وغير ذلك مما سماه ولم يتمه. وصلى عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَكَسَرَ تلاميذه أقلامهم- وكانوا أربعمائة- ومحابرهم، ومكثوا كذلك سنة، وقد رثى بمراثي كثيرة فمن ذلك قول بعضهم:
__________
[1] عدّ ابن خلكان من تصانيف إمام الحرمين «مغيث الخلق في اختيار الحق» ولكن لو كان هذا الكتاب من مؤلفاته لذكره ابن كثير وهو متأخر عن ابن خلكان. فهذا الكتاب مدسوس على إمام الحرمين(12/128)
قُلُوبُ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمَقَالِي ... وَأَيَّامُ الْوَرَى شِبْهُ اللَّيَالِي
أَيُثْمِرُ غُصْنُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمًا ... وَقَدْ مَاتَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن عبد الله بن أحمد
أبو على بن الوليد، شيخ المعتزلة، كان مدرسا لهم فأنكر أهل السنة عليه، فَلَزِمَ بَيْتَهُ خَمْسِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، ودفن في مقبرة الشونيزى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنَاظَرَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُفَسِّرُ فِي إِبَاحَةِ الْوِلْدَانِ في الجنة، وأنه يباح لأهل الجنة وطء الولدان في أدبارهم، كَمَا حَكَى ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْهُمَا، وَكَانَ حاضرهما، فمال هذا إلى إباحة ذلك، لأنه مَأْمُونَ الْمَفْسَدَةِ هُنَالِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ هذا لا يكون لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن أين لك أن يكون لهم أدبار؟ وهذا العضو- وهو الدبر- إنما خلق في الدنيا لحاجة العباد إليه، لأنه مخرج للأذى عنهم، وليس في الجنة شيء من ذلك، وإنما فضلات أكلهم عرق يفيض من جلودهم، فإذا هم ضمر فلا يحتاجون إلى أن يكون لهم أدبار، وَلَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صُورَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الرَّجُلُ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدِّمِ، مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رَبْعِيٍّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» وَقَدْ رَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ شُعْبَةَ، ولم يرو عنه سواه، فقيل: إنه لَمَّا رَحَلَ إِلَيْهِ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ في البالوعة فسأله أن يحدثه فامتنع، فروى له هذا الحديث كالواعظ له به، والتزم أن لا يُحَدِّثَهُ بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ:
لِأَنَّ شُعْبَةَ مَرَّ عَلَى الْقَعْنَبِيِّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ- وَكَانَ إذا ذَاكَ يُعَانِي الشَّرَابَ- فَسَأَلَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ فَامْتَنَعَ، فَسَلَّ سِكِّينًا وَقَالَ: إِنْ لَمْ تُحَدِّثْنِي وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، فَرَوَى لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَتَابَ وَأَنَابَ، وَلَزِمَ مَالِكًا، ثُمَّ فَاتَهُ السَّمَاعُ مِنْ شُعْبَةَ فلم يتفق له عنه غير هذا الحديث فاللَّه أعلم.
أبو عبد الله الدامغانيّ القاضي
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ حَمُّوَيَهِ الدَّامَغَانِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، مَوْلِدُهُ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى أَبِي عَبْدِ الله الصيمري، وأبى الحسن الْقُدُورِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهُمَا وَمِنِ ابْنِ النَّقُورِ وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَرَعَ فِي الْفِقْهِ، وَكَانَ لَهُ عَقْلٌ وَافِرٌ، وَتَوَاضُعٌ زَائِدٌ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الفقهاء، وكان فصيحا كثير العبادة، وقد كان فَقِيرًا فِي ابْتِدَاءِ طَلَبِهِ، عَلَيْهِ أَطْمَارٌ رَثَّةٌ، ثم صارت إليه الرئاسة وَالْقَضَاءُ بَعْدَ ابْنِ مَاكُولَا، فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ يُكْرِمُهُ، وَالسُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ يُعَظِّمُهُ، وَبَاشَرَ الْحُكْمَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِي أحسن سيرة، وغاية الأمانة والديانة، مَرِضَ أَيَّامًا يَسِيرَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ناهز الثمانين، ودفن بداره بدرب العلابين، ثم نقل إلى مشهد أبى حنيفة رحمه الله.(12/129)
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُطَّلِبِ
أَبُو سَعْدٍ الْأَدِيبُ، كَانَ قَدْ قَرَأَ النَّحْوَ وَالْأَدَبَ وَاللُّغَةَ وَالسِّيَرَ وَأَخْبَارَ النَّاسِ، ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى كَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ، إِلَى أَنَّ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ طاهر العباسي
ويعرف بابن الرجيحى، تَفَقَّهَ عَلَى ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ، وَكَانَ مَحْمُودَ الطَّرِيقَةِ، وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فقبله.
منصور بن دبيس
ابن عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، أَبُو كَامِلٍ الْأَمِيرُ بَعْدَ سيف الدولة، كان كثير الصلاة والصدقة، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ شِعْرٌ وَأَدَبٌ، وَفِيهِ فَضْلٌ، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
فَإِنْ أَنَا لَمْ أَحْمِلْ عَظِيمًا وَلَمْ أَقُدْ ... لُهَامًا وَلَمْ أَصْبِرْ عَلَى كُلِّ معظم
ولم أحجز الجاني وأمنع جوره ... غداة أنادى للفخار وأنتمي
فلا نهضت لي همة عربية ... إلى المجد ترقى بى ذرى كل محرم
هبة الله بن أحمد بن السيبي
[قاضى الحريم بنهر معلى، و] مؤدب الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتُوُفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
رَجَوْتُ الثَّمَانِينَ مِنْ خَالِقِي ... لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنِ الْمُصْطَفَى
فبلغنيها فشكرا له ... وزاد ثلاثا بها إذ وفى
وإني منتظر وعده ... لينجزه لي فعل أَهْلُ الْوَفَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وأربعمائة
وَفِيهَا كَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ تُتُشَ صَاحِبِ دِمَشْقَ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتْلُمِشَ صَاحِبِ حَلَبَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَتِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ وَقَتَلَ هُوَ نفسه بخنجر كانت معه، فسار السلطان ملك شاه مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى حَلَبَ فَمَلَكَهَا، وَمَلَكَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي مَرَّ بِهَا، مثل حَرَّانُ وَالرُّهَا وَقَلْعَةُ جَعْبَرٍ، وَكَانَ جَعْبَرٌ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، وَلَهُ وَلَدَانِ، وَكَانَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ يَلْجَئُونَ إِلَيْهَا فَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا، فَرَاسَلَ السُّلْطَانُ سابق بن جعبر في تسليمها فامتنع عليه، فنصب عليها المناجيق والغرادات ففتحها وأمر بقتل سَابِقٍ، فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: لَا تَقْتُلْهُ حَتَّى تَقْتُلَنِي معه، فألقاه من رأسها فتكسر، ثم أمر بتوسيطهم بَعْدَ ذَلِكَ فَأَلْقَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا وَرَاءَهُ فَسَلِمَتْ، فلامها بعض الناس فَقَالَتْ: كَرِهْتُ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ التُّرْكِيُّ فَيَبْقَى ذَلِكَ عَارًا عَلَيَّ، فَاسْتَحْسَنَ مِنْهَا ذَلِكَ، وَاسْتَنَابَ السلطان على حلب قسيم الدولة آقسنقر التُّرْكِيَّ وَهُوَ جَدُّ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الرَّحْبَةِ وَحَرَّانَ وَالرَّقَّةِ وَسَرُوجَ وَالْخَابُورِ:(12/130)
مُحَمَّدَ بْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمٍ وَزَوَّجَهُ بِأُخْتِهِ زُلَيْخَا خَاتُونَ، وَعَزَلَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ جَهِيرٍ عَنْ دِيَارِ بَكْرٍ، وَسَلَّمَهَا إِلَى الْعَمِيدِ أَبِي عَلِيٍّ الْبَلْخِيِّ، وَخَلَعَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بِنِ دُبَيْسٍ الْأَسَدِيِّ، وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِ أَبِيهِ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ دَخْلَةٍ دَخَلَهَا، فَزَارَ الْمَشَاهِدَ وَالْقُبُورَ وَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَقَبَّلَ يَدَهُ وَوَضَعَهَا على عينيه، وخلع عليه الخليفة خلعا سَنِيَّةً، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَ النَّاسِ، وَاسْتَعْرَضَ الْخَلِيفَةُ أمراءه ونظام الملك واقف بين يديه، يعرفه بالأمراء واحدا بعد واحد، بِاسْمِهِ وَكَمْ جَيْشُهُ وَأَقْطَاعُهُ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الخليفة خلعا سنية، وخرج من بين يديه فنزل بمدرسة النظامية، ولم يكن رآها قبل ذلك، فَاسْتَحْسَنَهَا إِلَّا أَنَّهُ اسْتَصْغَرَهَا، وَاسْتَحْسَنَ أَهْلَهَا وَمَنْ بها وحمد الله وسأل الله أن يجعل ذلك خالصا لوجه الكريم، ونزل بخزانة كتبها وأملى جزأ مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ، فَسَمِعَهُ الْمُحَدِّثُونَ مِنْهُ، وَوَرَدَ الشَّيْخُ أبو القاسم على بن الحسين الحسنى الدَّبُّوسِيُّ إِلَى بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، فَرَتَّبَهُ مُدَرِّسًا بِالنِّظَامِيَّةِ بَعْدَ أَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ فُرِغَتِ الْمَنَارَةُ بِجَامِعِ الْقَصْرِ وَأُذِّنَ فيها، وفي هذه السنة كَانَتْ زَلَازِلُ هَائِلَةٌ بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ، فَهَدَمَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْعُمْرَانِ، وَخَرَجَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى الصَّحْرَاءِ ثُمَّ عَادُوا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ الْحَسَنَانِيُّ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَقُلِعَتِ الصَّفَائِحُ الَّتِي عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ التي عليها ذكر الخليفة المصري، وجدد غيرها عليها. وكتب عَلَيْهَا اسْمُ الْمُقْتَدِي. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَظَهَرَ رَجُلٌ بَيْنَ السِّنْدِيَّةِ وَوَاسِطٍ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدِ الْيُسْرَى، يَفْتَحُ الْقُفْلَ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ، وَيَغُوصُ دِجْلَةَ فِي غَوْصَتَيْنِ، وَيَقْفِزُ الْقَفْزَةَ خمسة وعشرين ذراعا، ويتساق الْحِيطَانَ الْمُلْسَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَخَرَجَ مِنَ الْعِرَاقِ سَالِمًا. قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ فَقِيرٌ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فَوُجِدَ فِي مُرَقَّعَتِهِ سِتُّمِائَةِ دينار مغربية، أي صحاحا كبارا، من أحسن الذهب.
قَالَ وَفِيهَا عَمِلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ سِمَاطًا للسلطان جلال الدولة أبى الفتح ملك شاه، اشْتَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَأْسٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَمِائَةٍ جمل وغيرها، ودخله عشرون ألف من من السكر، وجعل عليه من أصناف الطيور والوحوش، ثم أردفه من السكر شيء كثير، فتناول السلطان بيده مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا، ثُمَّ أَشَارَ فَانْتُهِبَ عَنْ آخِرِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ إِلَى سُرَادِقٍ عَظِيمٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَفِيهِ خَمْسُمِائَةِ قِطْعَةٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَأَلْوَانٌ مِنْ تَمَاثِيلِ النَّدِّ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَدَّ فِيهِ سِمَاطًا خَاصًّا فَأَكَلَ السُّلْطَانُ حِينَئِذٍ، وَحَمَلَ إليه عشرين ألف دينار، وقدم إليه ذلك السرادق بما فيه بكماله، وانصرف وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الأمير جعفر بن سابق القشيري
الملقب بسابق الدِّينِ، كَانَ قَدْ تَمَلَّكَ قَلْعَةَ جَعْبَرٍ مُدَّةً طَوِيلَةً فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ لَهَا(12/131)
قبل ذلك الدوشرية، نِسْبَةً إِلَى غُلَامِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْأَمِيرَ كَبِرَ وَعَمِيَ، وَكَانَ لَهُ ولدان يقطعان الطريق، فاجتاز به السلطان ملك شاه بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى حلب فأخذ القلعة وقتله كما تقدم.
الأمير جنفل قتلغ
أَمِيرُ الْحَاجِّ، كَانَ مُقْطَعًا لِلْكُوفَةِ وَلَهُ وَقَعَاتٌ مَعَ الْعَرَبِ أَعْرَبَتْ عَنْ شَجَاعَتِهِ، وَأَرْعَبَتْ قُلُوبَهُمْ وشتتهم فِي الْبِلَادِ شَذَرَ مَذَرَ، وَقَدْ كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَلَهُ آثار حسنة بطريق بمكة، في إصلاح المصانع والأماكن التي تحتاج إليها الحجاج وغيرهم، وَلَهُ مَدْرَسَةٌ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ بِمَشْهَدِ يُونُسَ بِالْكُوفَةِ، وَبَنَى مَسْجِدًا بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ عَلَى دِجْلَةَ، بِمَشْرَعَةِ الْكَرْخِ.
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى منها رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمَّا بَلَغَ نِظَامَ الْمُلْكِ وَفَاتُهُ قال: مات ألف رجل، والله أعلم.
على بن فضال المشاجعي
أبو على النَّحْوِيُّ الْمَغْرِبِيُّ، لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِهِ وغزارة فهمه، وأسند الحديث. توفى في ربيع الأول منها وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ التُّسْتَرِيُّ
كان مقدم أهل البصرة في المال والجاه، وَلَهُ مَرَاكِبُ تَعْمَلُ فِي الْبَحْرِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ. توفى في رجب منها.
يحيى بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْحُسَيْنِيُّ
كَانَ فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا نُقِلَ جَهَازُ ابْنَةِ السُّلْطَانِ ملك شاه إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ جَمَلًا مُجَلَّلَةً بِالدِّيبَاجِ الرُّومِيِّ، غَالِبُهَا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعَلَى أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ بَغْلَةً مُجَلَّلَةً بِأَنْوَاعِ الدِّيبَاجِ الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وَكَانَ عَلَى سِتَّةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ صُنْدُوقًا من الفضة، فيها أنواع الجواهر والحلي، وَبَيْنَ يَدَيِ الْبِغَالِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ فَرَسًا عَلَيْهَا مراكب الذهب، مرصعة بالجواهر، وَمَهْدٌ عَظِيمٌ مُجَلَّلٌ بِالدِّيبَاجِ الْمَلَكِيِّ عَلَيْهِ صَفَائِحُ الذَّهَبِ مُرَصَّعٌ بِالْجَوْهَرِ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ لِتَلَقِّيهِمْ الْوَزِيرَ أَبَا شُجَاعٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ مَوْكَبِيَّةٍ غَيْرَ الْمَشَاعِلِ لِخِدْمَةِ السِّتِّ خَاتُونَ امْرَأَةِ السُّلْطَانِ تُرْكَانَ خَاتُونَ، حَمَاةِ الْخَلِيفَةِ، وَسَأَلَهَا أَنْ تَحْمِلَ الْوَدِيعَةَ الشَّرِيفَةَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَأَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ، فَحَضَرَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الشُّمُوعِ وَالْمَشَاعِلِ مَا لا يحصى، وجاءت نساء الأميرات كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي جَمَاعَتِهَا وَجَوَارِيهَا، وَبَيْنَ أَيْدِيهِنَّ الشُّمُوعُ وَالْمَشَاعِلُ، ثُمَّ جَاءَتِ الْخَاتُونَ ابْنَةُ السُّلْطَانِ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ بَعْدَ الْجَمِيعِ، فِي مِحَفَّةٍ مجللة، وعليها من الذهب والجواهر مالا(12/132)
تُحْصَى قِيمَتُهُ، وَقَدْ أَحَاطَ بِالْمِحَفَّةِ مِائَتَا جَارِيَةٍ تركية، بالمراكب المزينة العجيبة مما يَبْهَرْنَ الْأَبْصَارَ، فَدَخَلَتْ دَارَ الْخِلَافَةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَدْ زُيِّنَ الْحَرِيمُ الطَّاهِرُ وَأُشْعِلَتْ فِيهِ الشُّمُوعُ، وَكَانَتْ لَيْلَةً مَشْهُودَةً لِلْخَلِيفَةِ، هَائِلَةً جِدًّا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ أُمَرَاءَ السُّلْطَانِ وَمَدَّ سِمَاطًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، عَمَّ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ، وَخَلَعَ عَلَى الْخَاتُونَ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ أم العروس، وكان أيضا يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَ السُّلْطَانُ مُتَغَيِّبًا فِي الصَّيْدِ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَكَانَ الدُّخُولُ بِهَا في أول السنة، ولدت مِنَ الْخَلِيفَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَلَدًا ذَكَرًا زينت له بغداد. وفيها ولد للسلطان ملك شاه وَلَدٌ سَمَّاهُ مَحْمُودًا، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ بَعْدَهُ. وَفِيهَا جَعَلَ السُّلْطَانُ وَلَدَهُ أَبَا شُجَاعٍ أَحْمَدَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبُهُ مَلِكَ الْمُلُوكِ، عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَتَاجَ الْمِلَّةِ، عُدَّةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وخطب له بذلك على المنابر، وَنُثِرَ الذَّهَبُ عَلَى الْخُطَبَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ. وفيها شرع في بناء التاجية في باب أبرز وعملت بستان وَغُرِسَتِ النَّخِيلُ وَالْفَوَاكِهُ هُنَالِكَ وَعُمِلَ سُورٌ بِأَمْرِ السلطان، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إبراهيم
ابن موسى بن سعيد، أبو القاسم النيسابورىّ، رَحَلَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ حَتَّى جَاوَزَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَانَ لَهُ حَظٌّ وَافِرٌ فِي الْأَدَبِ، وَمَعْرِفَةِ الْعَرَبِيَّةِ، تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي جمادى الأولى منها.
طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَنْدَنِيجِيُّ
أَبُو الْوَفَا الشَّاعِرُ، لَهُ قَصِيدَتَانِ فِي مَدْحِ نِظَامِ الْمُلْكِ إِحْدَاهُمَا مُعْجَمَةٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ، أَوَّلُهَا:
لَامُوا وَلَوْ عَلِمُوا مَا اللَّوْمُ مَا لَامُوا ... وَرَدَّ لَوْمَهُمُ همّ وآلام
توفى بِبَلَدِهِ فِي رَمَضَانَ عَنْ نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
محمد بن أمير المؤمنين المقتدى
عَرَضَ لَهُ جُدَرِيٌّ فَمَاتَ فِيهَا وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ وَالِدُهُ وَالنَّاسُ، وَجَلَسُوا لِلْعَزَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَقُولُ: إِنَّ لَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً، حِينَ تُوُفِّيَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) 2: 156 ثم عزم على الناس فانصرفوا.
محمد بن محمد بن زيد
ابن عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْحُسَيْنِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِالْمُرْتَضَى ذِي الشَّرَفَيْنِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ عَلَى الشُّيُوخِ، وَصَحِبَ الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ الْخَطِيبَ، فَصَارَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْحَدِيثِ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ شَيْئًا مِنْ مَرْوِيَّاتِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَأَمْلَى الْحَدِيثَ بِأَصْبَهَانَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ يَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ كَامِلٍ، وَفَضْلٍ وَمُرُوءَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ، وَأَمْلَاكٌ مُتَّسِعَةٌ، وَنِعْمَةٌ وَافِرَةٌ، يُقَالُ إِنَّهُ مَلَكَ(12/133)
أَرْبَعِينَ قَرْيَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَبَلَغَتْ زَكَاةُ مَالِهِ الصَّامِتِ عَشَرَةَ آلاف دينار غير الْعُشُورِ، وَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ لَيْسَ لِمَلِكٍ مِثْلُهُ، فَطَلَبَهُ مِنْهُ مَلِكُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَاسْمُهُ الْخَضِرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَارِيَةً لِيَتَنَزَّهَ فِيهِ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أُعِيرُهُ إِيَّاهُ لِيَشْرَبَ فِيهِ الْخَمْرَ بَعْدَ مَا كَانَ مَأْوَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ والدين؟ فأعرض عنه السلطان وَحَقَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ لِيَسْتَشِيرَهُ فِي بعض الأمور على العادة، فلما حصل عِنْدَهُ قَبَضَ عَلَيْهِ وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَتِهِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى جَمِيعِ أَمْلَاكِهِ وَحَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: ما تحققت صحة نسبي إلا في هذه الْمُصَادَرَةِ: فَإِنِّي رُبِّيتُ فِي النَّعِيمِ فَكُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ مِثْلِي لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَى، ثُمَّ مَنَعُوهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
محمد بن هلال بن الحسن
أبو الحسن الصابي، الملقب بغرس النعمة، سمع أباه وابن شَاذَانَ، وَكَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ كَثِيرَةٌ، وَمَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِ أَبِيهِ الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى تَارِيخِ ثَابِتِ بْنِ سِنَانٍ، الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى تَارِيخِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَدْ أَنْشَأَ دَارًا بِبَغْدَادَ، وَوَقَفَ فِيهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ مُجَلَّدٍ، فِي فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَتَرَكَ حِينَ مَاتَ سَبْعِينَ ألف دينار، ودفن بمشهد على.
هبة الله بن على
ابن محمد بن أحمد بن المجلي أَبُو نَصْرٍ، جَمَعَ خُطَبًا وَوَعْظًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى مَشَايِخَ عَدِيدَةٍ، وَتُوُفِّيَ شَابًّا قَبْلَ أَوَانِ الرِّوَايَةِ.
أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ أَمِيرُ الْمُلَثَّمِينَ
كَانَ فِي أَرْضِ فَرْغَانَةَ، اتَّفَقَ لَهُ مِنَ النَّامُوسِ مَا لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ، كَانَ يَرْكَبُ مَعَهُ إِذَا سَارَ لِقِتَالِ عَدُوٍّ خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام، ويحوط الدين وَيَسِيرُ فِي النَّاسِ سِيرَةً شَرْعِيَّةً، مَعَ صِحَّةِ اعتقاده ودينه، وَمُوَالَاةِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، أَصَابَتْهُ نُشَّابَةٌ فِي بَعْضِ غزواته فِي حَلْقِهِ فَقَتَلَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
فَاطِمَةُ بِنْتُ عَلِيٍّ
الْمُؤَدِّبَةُ الْكَاتِبَةُ، وَتُعْرَفُ بِبِنْتِ الْأَقْرَعِ، سَمِعَتِ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَتْ تَكْتُبُ الْمَنْسُوبَ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْبَوَّابِ، وَيَكْتُبُ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَبِخَطِّهَا كَانَتِ الْهُدْنَةُ مِنَ الدِّيوَانِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، وَكَتَبَتْ مَرَّةً إلى عميد الملك الكندي رُقْعَةً فَأَعْطَاهَا أَلْفَ دِينَارٍ، تُوُفِّيَتْ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ، وَدُفِنَتْ بِبَابِ أَبْرَزَ.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة
فِيهَا كَانَتْ فِتَنٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ بِبَغْدَادَ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أخرجت الأتراك من حريم الخلافة، فكان في ذلك قُوَّةٌ لِلْخِلَافَةِ. وَفِيهَا مَلَكَ مَسْعُودُ بْنُ(12/134)
الْمَلِكِ الْمُؤَيَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ غَزْنَةَ بَعْدَ أَبِيهِ. وفيها فتح ملك شاه مَدِينَةَ سَمَرْقَنْدَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ السُّلْطَانِ ملك شاه
وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ. تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، فَمَكَثَ النَّاسُ فِي الْعَزَاءِ سَبْعَةَ أيام لم يركب أحد فرسا، والناس يَنُحْنَ عَلَيْهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَسَوَّدَ أَهْلُ الْبِلَادِ الَّتِي لِأَبِيهِ أَبْوَابَهُمْ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
ابن على بن محمد، أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ الْهَرَوِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ، وَكَانَ كَثِيرَ السَّهَرِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَرَاةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وحج بالناس فيها الوزير أبو أحمد، واستناب ولده أبا منصور ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي.
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة
في المحرم درس أبو بكر الشاشي في المدرسة التاجية بباب أبرز، التي أنشأها الصاحب تاج الدين أَبُو الْغَنَائِمِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ. وَفِيهَا كَانَتْ فِتَنٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، وَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، وَجَرَتْ حروب طويلة، وقتل فيها خَلْقٌ كَثِيرٌ، نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ مِنْ خَطِّ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَرِيبٌ مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ، قَالَ: وَسَبَّ أَهْلُ الْكَرْخِ الصَّحَابَةَ وَأَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم، فلعنة الله على من فعل ذلك من أهل الكرخ، وإنما حكيت هذا ليعلم مَا فِي طَوَايَا الرَّوَافِضِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْبُغْضِ لدين الإسلام وأهله، ومن العداوة الْبَاطِنَةِ الْكَامِنَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، للَّه وَلِرَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ. وفيها ملك السلطان ملك شاه ما وراء النهر وطائفة كبيرة مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، بَعْدَ حُرُوبٍ عَظِيمَةٍ، وَوَقَعَاتٍ هَائِلَةٍ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى جَيْشُ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى عِدَّةٍ بلاد مِنْ بِلَادِ الشَّامِ. وَفِيهَا عُمِّرَتْ مَنَارَةُ جَامِعِ حلب. وفيها أرسلت الخاتون بنت السلطان امرأة الخليفة تَشْكُو إِلَى أَبِيهَا إِعْرَاضَ الْخَلِيفَةِ عَنْهَا، فَبَعَثَ إليها أبوها الطواشى صواب والأمير مران ليرجعاها إِلَيْهِ، فَأَجَابَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ مَعَهَا بِالنَّقِيبِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ، وَخَرَجَ ابْنُ الْخَلِيفَةِ أَبُو الْفَضْلِ وَالْوَزِيرُ فَشَيَّعَاهَا إِلَى النَّهْرَوَانِ وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى عِنْدِ أَبِيهَا تُوُفِّيَتْ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السنة، بأصبهان، فعمل عزاها بِبَغْدَادَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ أميرين لتعزيته فيها. وحج بالناس خمارتكين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أحمد بن على
المعروف بطاهر، النَّيْسَابُورِيُّ الْحَافِظُ، رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَخَرَجَ، وَعَاجَلَهُ الْمَوْتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِهَمَذَانَ وَهُوَ شَابٌّ.
على بن أبى يعلى
أَبُو الْقَاسِمِ الدَّبُوسِىُّ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ الْمُتَوَلِّي، سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ، وَكَانَ فَقِيهًا مَاهِرًا،(12/135)
وجدليا باهرا
عاصم بن الحسن
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمِ بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْعَاصِمِيُّ، مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ، سَكَنَ بَابَ الشَّعِيرِ وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْأَدَبِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا، وَمِنْ شعره قَوْلُهُ:
لَهَفِي عَلَى قَوْمٍ بِكَاظِمَةٍ ... وَدَّعْتُهُمْ وَالرَّكْبُ مُعْتَرِضُ
لَمْ تَتْرُكِ الْعَبَرَاتُ مُذْ بَعُدُوا ... لِي مُقْلَةً تَرْنُو وَتَغْتَمِضُ
رَحَلُوا فَدَمْعِي وَاكِفٌ هَطِلٌ ... جار وقلبي حشوه مرض
وتعرضوا لا ذقت فقدهم ... عنى وما لي عَنْهُمُ عِوَضُ
أَقْرَضْتُهُمْ قَلْبِي عَلَى ثِقَةٍ ... مِنْهُمْ فَمَا رَدُّوا الَّذِي اقْتَرَضُوا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن حامد
ابن عُبَيْدٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْبُخَارِيُّ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ، أَقَامَ ببغداد وتعرف بِقَاضِي حَلَبَ، وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ فِي الْفُرُوعِ، مُعْتَزِلِيًّا فِي الْأُصُولِ، مَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن عبد الله
ابن محمد بن إسماعيل الأصبهاني، المعروف بمسلرفة، أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْجَوَّالِينَ الرَّحَّالِينَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ الْكُتُبَ، وَأَقَامَ بِهَرَاةَ، وَكَانَ صَالِحًا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثلاث وثمانين وأربعمائة
في المحرم منها ورد إلى الفقيه أبى عبد الله الطبري منشور نظام الملك بتدريس النظامية، فَدَرَّسَ بِهَا، ثُمَّ قَدِمَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عبد الوهاب الشيرازي في ربيع الآخر منها بمنشور بتدريسها فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ يُدَرِّسَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، وَفِي جُمَادَى الْأُولَى دَهَمَ أَهْلَ البصرة رجل يقال له بليا، كَانَ يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَاسْتَغْوَى خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَأَحْرَقَ مِنَ الْبَصْرَةِ شيئا كثيرا، من ذلك دار كتب وقفت على المسلمين لم ير في الإسلام مثلها، وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الدَّوَالِيبِ وَالْمَصَانِعِ وَغَيْرِ ذلك. وفيها خلع على أبى القاسم طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ بِنِقَابَةِ الْعَبَّاسِيِّينَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا اسْتُفْتِيَ عَلَى مُعَلِّمِي الصِّبْيَانِ أَنْ يُمْنَعُوا مِنَ المساجد صيانة لها، فأفتوا بمنعهم، وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ كَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا يَدْرِي كَيْفَ تُصَانُ الْمَسَاجِدُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُفْتِي بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ الاخوخة أَبِي بَكْرٍ» وَحَجَّ بِالنَّاسِ خُمَارْتِكِينُ عَلَى الْعَادَةِ.
وممن تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرِ بن جهير
ابن محمد بن محمد بن جهير عميد الدَّوْلَةِ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْوُزَرَاءِ، وَزَرَ لِلْقَائِمِ، ثُمَّ لولده المقتدى، ثم(12/136)
عزل ملك شاه السلطان وولى ولده فخر الدولة ديار بكر وغيرها، مات بالموصل وهي بلده التي ولد بها وفيها كان مقتل صاحب اليمن الصليحى وقد تقدم ذكره.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَتَبَ الْمُنَجِّمُ الَّذِي أَحْرَقَ الْبَصْرَةَ إِلَى أَهْلِ وَاسِطٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ صَاحِبُ الزَّمَانِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَهْدِي الْخَلْقَ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنْ أَطَعْتُمْ أَمِنْتُمْ مِنَ العذاب، وإن عدلتم خُسِفَ بِكُمْ، فَآمِنُوا باللَّه وَبِالْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ. وَفِيهَا ألزم أهل الذمة بلبس الغيار وبشد الزنار، وكذاك نِسَاؤُهُمْ فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِهَا. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغَزَّالِيُّ الطُّوسِيُّ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى تدريس النظامية، وَلَقَّبَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ زَيْنَ الدِّينِ شَرَفَ الْأَئِمَّةِ. قال ابن الجوزي: وكان كلامه مقبولا، وَذَكَاؤُهُ شَدِيدًا. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا عُزِلَ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ عَنْ وَزَارَةِ الْخِلَافَةِ فَأَنْشَدَ عِنْدَ عَزْلِهِ:
تَوَلَّاهَا وَلَيْسَ لَهُ عَدُوٌّ ... وَفَارَقَهَا وَلَيْسَ لَهُ صَدِيقُ
ثُمَّ جَاءَهُ كِتَابُ نِظَامِ الْمُلْكِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ، فَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى عِدَّةِ أَمَاكِنَ، فَلَمْ تَطِبْ لَهُ، فَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ، ثُمَّ طَابَتْ نَفْسُ النِّظَامِ عَلَيْهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَكُونَ عَدِيلَهُ فِي ذَلِكَ، وَنَابَ ابْنُ الْمُوصَلَايَا فِي الْوَزَارَةِ، وَقَدْ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُبَاشَرَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السنة. وفي رمضان منها دخل السلطان ملك شاه بَغْدَادَ وَمَعَهُ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ، وَقَدْ خَرَجَ لتلقيه قاضى القضاة أبو بكر الشاشي، وَابْنُ الْمُوصَلَايَا الْمُسْلِمَانِيُّ، وَجَاءَتْ مُلُوكُ الْأَطْرَافِ إِلَيْهِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، مِنْهُمْ أَخُوهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ صاحب دمشق، وأتابكه قسيم الدولة آقسنقر صَاحِبُ حَلَبَ. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ ملك شاه وَابْنُهُ وَابْنُ ابْنَتِهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ فِي خَلْقٍ كثير من الْكُوفَةِ. وَفِيهَا اسْتُوْزِرَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَهِيرٍ وَهِيَ النَّوْبَةُ الثَّانِيَةُ لِوَزَارَتِهِ لِلْمُقْتَدِي، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ نِظَامُ الْمُلْكِ فَهَنَّأَهُ فِي دَارِهِ بِبَابِ الْعَامَّةِ، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ عَمِلَ السُّلْطَانُ الْمِيلَادَ فِي دِجْلَةَ، وَأُشْعِلَتْ نِيرَانٌ عَظِيمَةٌ، وَأُوْقِدَتْ شموع كثيرة، وجمعت المطربات في السمريات، وَكَانَتْ لَيْلَةً مَشْهُودَةً عَجِيبَةً جِدًّا، وَقَدْ نَظَمَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ الشِّعْرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّهَارُ مِنْ هذه الليلة جيء بالخبيث المنجم الّذي حرق البصرة وادعى أنه المهدي، محمولا على جمل ببغداد وجعل يسب الناس والناس يلعنونه، وعلى رأسه طرطورة بودع، والدرة تأخذه من كل جانب، فطافوا به بغداد ثُمَّ صُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ ملك شاه جَلَالُ الدَّوْلَةِ بِعِمَارَةِ جَامِعِهِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ بِظَاهِرِ السُّورِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يوسف بن تاشفين بعد صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَأَسَرَ صَاحِبَهَا الْمُعْتَمِدَ بْنَ عَبَّادٍ وَسَجَنَهُ وَأَهْلَهُ، وَقَدْ كَانَ الْمُعْتَمِدُ هَذَا مَوْصُوفًا بِالْكَرَمِ وَالْأَدَبِ والحلم، حسن السِّيرَةِ وَالْعِشْرَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ، فحزن الناس(12/137)
عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي مُصَابِهِ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا. وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرَنْجُ مَدِينَةَ صِقِلِّيَةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، ومات ملكهم فقام ولده مقامه فسار في الناس سيرة ملوك المسلمين، حتى كأنه منهم، لما ظهر منه من الإحسان إلى المسلمين. وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا، فَهَدَّمَتْ بنيانا كثيرا، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تِسْعُونَ بُرْجًا مِنْ سُورِ أَنْطَاكِيَةَ، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَحَجَّ بالناس خمارتكين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أحمد
أَبُو طَاهِرٍ وُلِدَ بِأَصْبَهَانَ، وَتَفَقَّهَ بِسَمَرْقَنْدَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ فَتْحِهَا عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ ملك شاه، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مَنْدَهْ: لَمْ نَرَ فَقِيهًا فِي وَقْتِنَا أَنْصَفَ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمَ. وَكَانَ فَصِيحَ اللَّهْجَةِ كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ غَزِيرَ النِّعْمَةِ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ، وَمَشَى الْوُزَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ فِي جنازته، غير أن النظام ركب واعتذر بكبر سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشيرازي، وجاء السلطان إِلَى التُّرْبَةِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: جَلَسْتُ بُكْرَةَ الْعَزَاءِ إِلَى جَانِبِ نِظَامِ الْمُلْكِ وَالْمُلُوكُ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، اجْتَرَأْتُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعِلْمِ. حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ
أَبُو نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، كَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَاتِ، وَلَهُ فِيهَا الْمُصَنَّفَاتُ، وَسَافَرَ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، وَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ غَرِقَ فِي الْبَحْرِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَبَيْنَمَا الْمَوْجُ يَرْفَعُهُ وَيَضَعُهُ إِذْ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ قَدْ زَالَتْ، فَنَوَى الْوُضُوءَ وَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ صَعِدَ فَإِذَا خَشَبَةٌ فَرَكِبَهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَرَزَقَهُ اللَّهُ السَّلَامَةَ بِبَرَكَةِ امتثاله للأمر، واجتهاده على العمل، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن الحسن
أَبُو بَكْرٍ النَّاصِحُ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الْمُنَاظِرُ الْمُتَكَلِّمُ المعتزلي، ولى القضاء بنيسابور، ثم عزل لجنونه وكلامه وأخذه الرُّشَا، وَوَلِيَ قَضَاءَ الرَّيِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ منها.
أرتق بن ألب التركماني
جد الملوك الارتقية الذين هم مُلُوكُ مَارْدِينَ، كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا عَالِيَ الْهِمَّةَ، تَغَلَّبَ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة خمس وثمانين وأربعمائة
فيها أمر السلطان ملك شاه ببناء سور سُوقِ الْمَدِينَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِطُغْرُلْبَكَ، إِلَى جَانِبِ دَارِ الْمُلْكِ، وَجَدَّدَ خَانَاتِهَا وَأَسْوَاقَهَا وَدُورَهَا، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْجَامِعِ الَّذِي تَمَّ عَلَى يَدِ هَارُونَ الْخَادِمِ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى نَصْبِ قِبْلَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَمُنَجِّمُهُ إِبْرَاهِيمُ حَاضِرٌ، وَنُقِلَتْ أَخْشَابُ جَامِعِ سَامَرَّا، وَشَرَعَ نِظَامُ الْمُلْكِ فِي بناء دار له هائلة، وَكَذَلِكَ تَاجُ الْمُلُوكِ أَبُو الْغَنَائِمِ، شَرَعَ فِي بناء دار(12/138)
هائلة أيضا، واستوطنوا بَغْدَادُ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ ببغداد في أماكن شتى، فما طفئ حَتَّى هَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَمَا عَمَّرُوا بِقَدْرِ مَا حُرِقَ وَمَا غَرِمُوا. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَفِي صُحْبَتِهِ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطريق يوم عاشوراء عَدَا صَبِيٌّ مِنَ الدَّيْلَمِ عَلَى الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، بَعْدَ أَنْ أَفْطَرَ، فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فَقَضَى عليه بعد ساعة، وَأُخِذَ الصَّبِيُّ الدَّيْلَمِيُّ فَقُتِلَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْوُزَرَاءِ وَخِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَسَنَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ سِيرَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ تَرْجَمَتِهِ، وَقَدِمَ السُّلْطَانُ بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ غَيْرِ صَالِحَةٍ، فَلَقَّاهُ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ مَا تَمَنَّاهُ لِأَعْدَائِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ رِكَابُهُ بِبَغْدَادَ، وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّهْنِئَةِ بِقُدُومِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُهَنِّئُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ لَهُ: لَا بُدَّ أن تنزل لي عن بَغْدَادَ، وَتَتَحَوَّلَ إِلَى أَيِّ الْبِلَادِ شِئْتَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَسْتَنْظِرُهُ شَهْرًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ: وَلَا سَاعَةً وَاحِدَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَتَوَسَّلُ فِي إِنْظَارِهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ، فَمَا اسْتَتَمَّ الْأَجَلُ حَتَّى خَرَجَ السُّلْطَانُ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ إِلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَتْهُ حُمَّى شَدِيدَةٌ، فَافْتَصَدَ فَمَا قَامَ مِنْهَا حَتَّى مَاتَ قَبْلَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. فَاسْتَحْوَذَتْ زوجته زبيدة خاتون على الجيش، وضبطت الأموال والأحوال جَيِّدًا، وَأَرْسَلَتْ إِلَى الْخَلِيفَةِ تَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مَحْمُودٌ مَلِكًا بَعْدَ أَبِيهِ، وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ، وَبَعَثَ يُعَزِّيهَا وَيُهَنِّئُهَا مَعَ وَزِيرِهِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ جَهِيرٍ، وَكَانَ عُمُرُ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ هَذَا يَوْمَئِذٍ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَالِدَتُهُ فِي الْجُيُوشِ وَسَارَتْ بِهِ نَحْوَ أصبهان ليتوط لَهُ الْمُلْكَ، فَدَخَلُوهَا وَتَمَّ لَهُمْ مُرَادُهُمْ، وَخُطِبَ لهذا الغلام في البلدان حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ، وَاسْتُوْزِرَ لَهُ تَاجُ الْمُلْكِ أبا الغنائم المرزبان بن خسرو، وأرسلت أمه إلى الخليفة تسأله أن تكون ولايات العمال إليه، فامتنع بالخليفة ووافقه الغزالي على ذلك، وأفتى العلماء بجواز ذلك، منهم المتطبب ابن محمد الحنفي، فَلَمْ يُعْمَلْ إِلَّا بِقَوْلِ الْغَزَّالِيِّ، وَانْحَازَ أَكْثَرُ جيش السلطان إلى ابنه الآخر بركيارق فَبَايَعُوهُ وَخَطَبُوا لَهُ بِالرَّيِّ، وَانْفَرَدَتِ الْخَاتُونُ وَوَلَدُهَا وَمَعَهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْجَيْشِ وَالْخَاصِّكِيَّةِ، فَأَنْفَقَتْ فيهم ثلاثين ألف ألف دينار لقتال بركيارق بن ملك شاه، فالتقوا في ذي الحجة فكانت الخاتون هي المنهزمة ومعها ولدها. وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» . وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ اعْتَرَضَتْ بَنُو خَفَاجَةَ لِلْحَجِيجِ فَقَاتَلَهُمْ مَنْ فِي الْحَجِيجِ مِنَ الْجُنْدِ مَعَ الْأَمِيرِ خُمَارْتِكِينَ، فَهَزَمُوهُمْ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُ الْأَعْرَابِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَفِيهَا جَاءَ بَرَدٌ شَدِيدٌ عظيم بالبصرة، وزن الواحدة منها خَمْسَةُ أَرْطَالٍ، إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ رِطْلًا، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَاءَ رِيحٌ عَاصِفٌ قَاصِفٌ فَأَلْقَى عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ النَّخِيلِ، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) 42: 30 وفيها مَلَكَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ حمص،(12/139)
وقلعة غزنة، وقلعة فاميه، وَمَعَهُ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْ سُنْقُرُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ جَهَّزَ سَرِيَّةً إِلَى الْيَمَنِ صُحْبَةَ سَعْدِ كوهرائين الدولة وَأَمِيرٍ آخَرَ مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَدَخَلَاهَا وَأَسَاءَا فِيهَا السيرة فتوفى سعد كُوَهْرَائِينُ يَوْمَ دُخُولِهِ إِلَيْهَا فِي مَدِينَةِ عَدَنَ وللَّه الحمد والمنة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بن عبد الله
أبو الفضل المتممى، المعروف بالحكاك الْمَكِّيِّ، رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَصْبَهَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ، وَسَمِعَ الكثير وخرّج الأجزاء، وكان حافظا متقنا، ضابطا أديبا، ثقة صدوقا، وكان يراسل صَاحِبِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَالْمُرُوءَاتِ، قَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ!
نِظَامُ الْمُلْكِ الْوَزِيرُ
الحسن بن على بن إسحاق، أبو على، وزر للملك ألب أرسلان وولده ملك شاه تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ، ولد بطوس سنة ثمان وأربعمائة، وكان أبوه من أَصْحَابَ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَكَانَ مِنَ الدَّهَاقِينِ، فأشغل ولده هذا، فقرأ القرآن وله إحدى عشرة سنة، وأشغله بالعلم والقراءات وَالتَّفَقُّهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، فَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا، ثُمَّ تَرَقَّى فِي الْمَرَاتِبِ حَتَّى وَزَرَ لِلسُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ ميكائيل بن سلجوق ثم من بعده لملكشاه تسعا وعشرين سنة، لَمْ يُنْكَبْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَبَنَى الْمَدَارِسَ النظامية بِبَغْدَادَ وَنَيْسَابُورَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ مَجْلِسُهُ عَامِرًا بِالْفُقَهَاءِ والعلماء، بحيث يقضى معهم غالب نهاره، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ شَغَلُوكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَالِحِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ جَمَالُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ولو أجلستهم على رأسي لما اسْتَكْثَرْتُ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ وَأَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ قَامَ لَهُمَا وأجلسهما معه في المقعد، فإذا دخل أبو على الفارندى قَامَ وَأَجْلَسَهُ مَكَانَهُ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُمَا إِذَا دَخَلَا عَلَيَّ قال: أنت وأنت، يطرونى ويعظموني، ويقولوا فىّ ما ليس فىّ، فأزداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر، وإذا دخل على أبو على الفارندى ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر فأرجع عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الَّذِي أَنَا فِيهِ. وَكَانَ مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، لَا يَشْغَلُهُ بَعْدَ الْأَذَانِ شُغْلٌ عَنْهَا وَكَانَ يُوَاظِبُ عَلَى صِيَامِ الْاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَلَهُ الْأَوْقَافُ الدَّارَّةُ، وَالصَّدَقَاتُ الْبَارَّةُ وَكَانَ يُعَظِّمُ الصُّوفِيَّةَ تَعْظِيمًا زَائِدًا، فَعُوتِبَ في ذلك، فقال: بينما أنا أخدم بعض الملوك جاءني يوما إنسان فقال لي: إلى متى أنت تخدم من تأكله الكلاب غدا؟ اخْدُمْ مَنْ تَنْفَعُكَ خِدْمَتُهُ، وَلَا تَخْدُمْ مَنْ تَأْكُلُهُ الْكِلَابُ غَدًا. فَلَمْ أَفْهَمْ مَا يَقُولُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمِيرَ سَكِرَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَخَرَجَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ وَهُوَ ثَمِلٌ، وَكَانَتْ لَهُ كِلَابٌ تَفْتَرِسُ الْغُرَبَاءَ بِاللَّيْلِ، فَلَمْ تَعْرِفْهُ فمزقته، فَأَصْبَحَ وَقَدْ أَكَلَتْهُ الْكِلَابُ، قَالَ: فَأَنَا أَطْلُبُ مثل ذلك الشيخ. وقد سمع الْحَدِيثَ فِي أَمَاكِنَ شَتَّى بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا،(12/140)
وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ بِأَنِّي لَسْتُ أَهْلًا لِلرِّوَايَةِ وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُرْبَطَ فِي قِطَارِ نَقَلَةِ حَدِيثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أيضا: رأيت ليلة فِي الْمَنَامِ إِبْلِيسَ فَقُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ خَلَقَكَ اللَّهُ وَأَمَرَكَ بِالسُّجُودِ لَهُ مُشَافَهَةً فَأَبَيْتَ، وَأَنَا لَمْ يَأْمُرْنِي بِالسُّجُودِ لَهُ مُشَافَهَةً وَأَنَا أَسْجُدُ له في كل يوم مرات، وأنشأ يَقُولُ:
مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوِصَالِ أَهْلًا ... فَكُلُّ إِحْسَانِهِ ذُنُوبُ
وَقَدْ أَجْلَسَهُ الْمُقْتَدِي مَرَّةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا حَسَنُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ بِرِضَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْكَ، وَقَدْ مَلَكَ أُلُوفًا مِنَ التُّرْكِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ كَثِيرَةٌ، وَزَرَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ، وَزَرَ ابْنُهُ أَحْمَدُ لِلسُّلْطَانِ محمد بن ملك شاه، ولأمير المؤمنين المسترشد باللَّه، وخرج نِظَامُ الْمُلْكِ مَعَ السُّلْطَانِ مِنْ أَصْبَهَانَ قَاصِدًا بَغْدَادَ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ اجْتَازَ فِي بَعْضِ طَرِيقِهِ بِقَرْيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ نَهَاوَنْدَ، وَهُوَ يُسَايِرُهُ فِي مِحَفَّةٍ، فَقَالَ:
قَدْ قُتِلَ هَاهُنَا خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ زَمَنَ عُمَرَ، فَطُوبَى لِمَنْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمَّا أَفْطَرَ جَاءَهُ صَبِيٌّ فِي هَيْئَةِ مُسْتَغِيثٍ بِهِ وَمَعَهُ قِصَّةٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ ضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي فُؤَادِهِ وَهَرَبَ، وعثر بِطُنُبِ الْخَيْمَةِ فَأُخِذَ فَقُتِلَ، وَمَكَثَ الْوَزِيرُ سَاعَةً، وَجَاءَهُ السُّلْطَانُ يَعُودُهُ فَمَاتَ وَهُوَ عِنْدَهُ، وَقَدِ اتُّهِمَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي مَالَأَ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ سِوَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لأولى الألباب. وكان قد عزم على إخراج الخليفة أيضا من بغداد، فما تم له ما عزم عليه، وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ بَغْدَادَ مَوْتُ النِّظَامِ حَزِنُوا عَلَيْهِ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ وَالرُّؤَسَاءُ لِلْعَزَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ورثاه الشعراء بقصائد، مِنْهُمْ مُقَاتِلُ بْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ:
كَانَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ لُؤْلُؤَةً ... يَتِيمَةً صَاغَهَا الرَّحْمَنُ مِنْ شَرَفِ
عَزَّتْ فَلَمْ تَعْرِفِ الْأَيَّامُ قِيمَتَهَا ... فَرَدَّهَا غيرة منه إلى الصدف
وأثنى عليه غير واحد حتى ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
عبد الباقي بن محمد بن الحسين
ابن داود بن ياقيا، أبو القاسم الشاعر، من أهل الحريم الظاهري، ولد سنة عشر وأربعمائة، وكان ماهرا، وقد رماه بعضهم باعتقاد الأوائل، وأنكر أن يكون في السماء نهر من ماء أو نهر من لبن، أو نهر من خمر، أو نهر من عسل، يعنى في الجنة، وما سقط مِنْ ذَلِكَ قَطْرَةٌ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا هَذَا الّذي هو يخرب البيوت ويهدم الحيطان والسقوف، وهذا الكلام كفر من قائله، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ، وَحُكِيَ بعضهم أنه وجد في كفنه مَكْتُوبًا حِينَ مَاتَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ.
نَزَلْتُ بِجَارٍ لَا يُخَيِّبُ ضَيْفَهُ ... أُرَجِّي نَجَاتِي مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمِ
وَإِنِّي عَلَى خَوْفِي مِنَ اللَّهِ وَاثِقٌ ... بِإِنْعَامِهِ وَاللَّهُ أَكْرَمُ مُنْعِمِ(12/141)
مالك بن أحمد بن على
ابن إِبْرَاهِيمَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَانِيَاسِيُّ الشَّامِيُّ، وَقَدْ كَانَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ سَمَّتْهُ بِهِ أُمُّهُ «عَلِيٌّ أَبُو الْحَسَنِ» فَغَلَبَ عَلَيْهِ مَا سَمَّاهُ بِهِ أَبُوهُ، وَمَا كَنَّاهُ بِهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى مَشَايِخَ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الصَّلْتِ، هَلَكَ فِي حريق سوق الريحانيين، وله ثمانون سنة، كان ثقة عند المحدثين.
السلطان ملك شاه
جلال الدين والدولة، أبو الفتح ملك شاه، ابن أَبِي شُجَاعٍ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ ميكائيل ابن سلجوق نفاق التركي، ملك بعد أبيه وَامْتَدَّتْ مَمْلَكَتُهُ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ التُّرْكِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الْيَمَنِ، وَرَاسَلَهُ الْمُلُوكُ مِنْ سَائِرِ الأقاليم، حتى ملك الروم والخزر واللان، وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ صَارِمَةً، وَالطُّرُقَاتُ فِي أَيَّامِهِ آمِنَةً، وكان مع عظمته يقف للمسكين والضعيف، والمرأة، فَيَقْضِي حَوَائِجَهُمْ، وَقَدْ عَمَّرَ الْعِمَارَاتِ الْهَائِلَةَ، وَبَنَى الْقَنَاطِرَ، وَأَسْقَطَ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ، وَبَنَى مَدْرَسَةَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالسُّوقَ، وَبَنَى الْجَامِعَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ جَامِعُ السُّلْطَانِ بِبَغْدَادَ، وَبَنَى مَنَارَةَ الْقُرُونِ مِنْ صُيُودِهِ بِالْكُوفَةِ، وَمِثْلَهَا فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَضَبَطَ مَا صَادَهُ بِنَفْسِهِ فِي صُيُودِهِ فَكَانَ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ صَيْدٍ، فَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَال: إِنِّي خَائِفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَكُونَ أَزْهَقْتُ نَفْسَ حَيَوَانٍ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَفْعَالٌ حَسَنَةٌ، وَسِيرَةٌ صَالِحَةٌ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فَلَّاحًا أَنْهَى إِلَيْهِ أَنَّ غِلْمَانًا لَهُ أَخَذُوا له حمل بطيخ، فَفَتَّشُوا فَإِذَا فِي خَيْمَةِ الْحَاجِبِ بِطِّيخٌ فَحَمَلُوهُ إليه، ثم استدعى بالحاجب فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْبِطِّيخُ؟ قَالَ: جاء به الغلمان، فقال: أحضرهم، فذهب وأمرهم بالهرب فأحضره وسلمه للفلاح، وَقَالَ: خُذْ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ مَمْلُوكِي وَمَمْلُوكُ أَبِي، وإياك أن تفارقه، ثم رد على الفلاح الحمل البطيخ، فخرج الفلاح يحمله وبيده الحاجب، فاستنقذ الحاجب نفسه من الفلاح بثلاثمائة دينار.
ولما توجه لقتال أخيه تتش اجتاز بطوس فدخلها لزيارة قبر على بن موسى الرضى، وَمَعَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ، فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ لِلنِّظَامِ: بم دعوت الله؟ قَالَ: دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُظَفِّرَكَ عَلَى أَخِيكَ. قال: لَكِنِّي قُلْتُ اللَّهمّ إِنْ كَانَ أَخِي أَصْلَحَ للمسلمين فظفره بى، وإن كنت أنا أصلح لهم فظفرني به، وقد سار بِعَسْكَرِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَمَا عُرِفَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ ظَلَمَ أَحَدًا مِنْ الرعية، وكانوا مئين ألوف، واستعدى إليه مرة تُرْكُمَانِيُّ أَنَّ رَجُلًا افْتَضَّ بَكَارَةَ ابْنَتِهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ قَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِنَّ ابْنَتَكَ لَوْ شَاءَتْ مَا مكنته من نفسها، فان كنت لا بدّ فَاعِلًا فَاقْتُلْهَا مَعَهُ، فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ الملك: أو تفعل خيرا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: فَإِنَّ بَكَارَتَهَا قَدْ ذَهَبَتْ، فَزَوِّجْهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ وأنا أمهرها من بيت المال كفايتهما، فَفَعَلَ. وَحَكَى لَهُ بَعْضُ الْوُعَّاظِ أَنَّ كِسْرَى اجتاز يوما في بعض أسفاره بقرية وكان مُنْفَرِدًا مِنْ جَيْشِهِ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ دَارٍ فَاسْتَسْقَى فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ إِنَاءً(12/142)
فِيهِ مَاءُ قَصَبِ السُّكَّرِ بِالثَّلْجِ، فَشَرِبَ مِنْهُ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْنَا اعْتِصَارُهُ عَلَى أَيْدِينَا، فَطَلَبَ مِنْهَا شَرْبَةً أُخْرَى فَذَهَبَتْ لِتَأْتِيَهُ بِهَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْمَكَانَ مِنْهُمْ وَيُعَوِّضَهُمْ عنه غيره، فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَتْ وَلَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ، فَقَالَ: مَا لَكِ؟
فَقَالَتْ: كَأَنَّ نِيَّةَ سُلْطَانِنَا تَغَيَّرَتْ عَلَيْنَا، فَتَعَسَّرَ عَلَيَّ اعْتِصَارُهُ- وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهُ السُّلْطَانُ- فَقَالَ:
اذْهَبِي فَإِنَّكِ الْآنَ تَقْدِرِينَ عَلَيْهِ، وَغَيَّرَ نِيَّتَهُ إِلَى غَيْرِهَا، فَذَهَبَتْ وَجَاءَتْهُ بِشَرْبَةٍ أُخْرَى سَرِيعًا فَشَرِبَهَا وَانْصَرَفَ. فَقَالَ له السلطان: هَذِهِ تَصْلُحُ لِي وَلَكِنْ قُصَّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أيضا حكاية كسرى الأخرى حين اجتاز ببستان وقد أصابته صفراء في رأسه وعطش، فطلب من ناطوره عنقودا من حصرم، فَقَالَ لَهُ النَّاطُورُ: إِنَّ السُّلْطَانَ لَمْ يَأْخُذْ حَقَّهُ مِنْهُ، فَلَا أَقْدِرُ أَنْ أُعْطِيَكَ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ: فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَكَاءِ الْمَلِكِ وَحُسْنِ اسْتِحْضَارِهِ هَذِهِ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ. وَاسْتَعْدَاهُ رَجُلَانِ مِنَ الْفَلَّاحِينَ عَلَى الْأَمِيرِ خُمَارْتِكِينَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمَا مَالًا جَزِيلًا وَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُمَا، وَقَالَا: سَمِعْنَا بِعَدْلِكَ فِي الْعَالَمِ، فَإِنْ أَقَدْتَنَا مِنْهُ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ وَإِلَّا اسْتَعْدَيْنَا عَلَيْكَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَخَذَا بِرِكَابِهِ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وقال لهما: خذا بكمي واسحبانى إِلَى دَارِ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَهَابَا ذَلِكَ، فَعَزَمَ عليهما أن يفعلا، فَفَعَلَا مَا أَمَرَهُمَا بِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ النِّظَامَ مجيء السلطان إليه خرج مسرعا فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: إِنِّي إِنَّمَا قَلَّدْتُكَ الْأَمْرَ لِتُنْصِفَ الْمَظْلُومَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَكَتَبَ مِنْ فَوْرِهِ فعزل خُمَارْتِكِينَ وَحَلِّ أَقْطَاعِهِ، وَأَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمَا أَمْوَالَهُمَا، وَأَنْ يَقْلَعَا ثَنِيَّتَيْهِ إِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وأمر لها الْمَلِكُ مِنْ عِنْدِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَسْقَطَ مَرَّةً بَعْضَ الْمُكُوسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْتَوْفِينَ: يا سلطان العالم، إن هذا الّذي أسقطته يَعْدِلُ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَكْثَرَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إن المال مال الله، والعباد عباد الله، والبلاد بلاده، وإنما أردت أن يبقى هذا لي عند الله، وَمَنْ نَازَعَنِي فِي هَذَا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. وَغَنَّتْهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ فَطَرِبَ وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهَا، فَهَمَّ بِهَا فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي أَغَارُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْجَمِيلِ مِنَ النَّارِ، وَبَيْنَ الْحَلَالِ والحرام كلمة واحدة، فاستدعى القاضي فَزَوَّجَهُ بِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ ابن عقيل أن السلطان ملك شاه كان قد فسدت عقيدته بسبب معاشرته لبعض الْبَاطِنِيَّةِ ثُمَّ تَنَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ وَرَاجَعَ الْحَقَّ. وذكر ابن عقيل أنه كتب له شيئا في إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ آخر مرة إلى بغداد فعزم عَلَى الْخَلِيفَةِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، فَاسْتَنْظَرَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَرِضَ السُّلْطَانُ وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ عَنْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أشهر، وكان مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وأشهرا، ودفن بالشونيزي، ولم يصل عليه أحد لكتمان الْأَمْرِ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِالْحُمَّى، وَقِيلَ إِنَّهُ سُمَّ، والله أعلم.(12/143)
بَانِي التَّاجِيَّةِ بِبَغْدَادَ
الْمَرْزُبَانُ بْنُ خُسْرُو، تَاجُ الملك، الوزير أبو الغنائم باني التاجية، وكان مدرسها أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَبَنَى تُرْبَةَ الشَّيْخِ أَبِي إسحاق، وقد كان السلطان ملك شاه أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ بَعْدَ نِظَامِ الْمُلْكِ فَمَاتَ سَرِيعًا، فَاسْتَوْزَرَ لِوَلَدِهِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا قَهَرَهُ أَخُوهُ بركيارق قَتَلَهُ غِلْمَانُ النِّظَامِ وَقَطَّعُوهُ إِرْبًا إِرْبًا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هِبَةُ اللَّهِ بن عبد الوارث
ابن على بن أحمد نوري، أَبُو الْقَاسِمِ الشِّيرَازِيُّ، أَحَدُ الرَّحَّالِينَ الْجَوَّالِينَ فِي الآفاق، كان حَافِظًا ثِقَةً دَيِّنًا وَرِعًا، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ وَالسِّيرَةِ، لَهُ تَارِيخٌ حَسَنٌ، وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنْ بغداد وغيرها والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة
فِيهَا قَدِمَ إِلَى بَغْدَادَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَرْدَشِيرُ بْنُ مَنْصُورٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْعَبَّادِيُّ، مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ، فَنَزَلَ النِّظَامِيَّةَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَحَضَرَ مجلسه الغزالي مدرس المكان، فازدحم الناس في مجلسه، وَكَثُرُوا فِي الْمَجَالِسِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَرَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ فِي بعض الأحيان أكثر مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَتَابَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَلَزِمُوا الْمَسَاجِدَ، وَأُرِيقَتِ الْخُمُورُ وَكُسِرَتِ الْمَلَاهِي، وَكَانَ الرَّجُلُ فِي نَفْسِهِ صَالِحًا، لَهُ عِبَادَاتٌ، وَفِيهِ زُهْدٌ وَافِرٌ، وَلَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَزْدَحِمُونَ عَلَى فَضْلِ وَضُوئِهِ، وَرُبَّمَا أَخَذُوا مِنَ الْبِرْكَةِ الَّتِي يَتَوَضَّأُ مِنْهَا ماء لِلْبَرَكَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ اشْتَهَى مَرَّةً عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ تُوتًا شَامِيًّا وَثَلْجًا فَطَافَ الْبَلَدَ بِكَمَالِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَرَجَعَ فَوَجَدَ الشَّيْخَ فِي خَلْوَتِهِ فَسَأَلَ هَلْ جَاءَ الْيَوْمَ إِلَى الشَّيْخِ أَحَدٌ؟ فَقِيلَ لَهُ جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّي غَزَلْتُ بِيَدَيَّ غَزْلًا وَبِعْتُهُ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَشْتَرِيَ لِلشَّيْخِ طُرْفَةً فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَبَكَتْ فَرَحِمَهَا، وَقَالَ: اذْهَبِي فَاشْتَرِي، فَقَالَتْ مَاذَا تَشْتَهِي؟ فَقَالَ: مَا شِئْتِ، فَذَهَبَتْ فَأَتَتْهُ بِتُوتٍ شَامِيٍّ وَثَلْجٍ فَأَكَلَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَشْرَبُ مَرَقًا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَيْتَهُ أَعْطَانِي فَضْلَهُ لِأَشْرَبَهُ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ فَنَاوَلَنِي فَضْلَهُ فَقَالَ: اشْرَبْهَا عَلَى تِلْكَ النِّيَّةِ، قَالَ: فَرَزَقَنِي اللَّهُ حِفْظَ الْقُرْآنِ. وَكَانَتْ لَهُ عِبَادَاتٌ وَمُجَاهَدَاتٌ، ثُمَّ اتُّفِقَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي بَيْعِ الْقُرَاضَةِ بِالصَّحِيحِ فَمُنِعَ مِنَ الْجُلُوسِ وَأُخْرِجَ مِنَ الْبَلَدِ.
وفيها خطب تتش بن ألب أرسلان لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ بِالْعِرَاقِ فَحَصَلَ التَّوَقُّفُ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أخيه بركيارق بن ملك شاه، فَسَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ وَفِي صُحْبَتِهِ وَطَاعَتِهِ آقْ سنقر صاحب حلب، وبوران صَاحِبُ الرُّهَا، فَفَتَحَ الرَّحْبَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا إِبْرَاهِيمَ بْنِ قُرَيْشٍ بْنِ بَدْرَانَ، وَهَزَمَ جُيُوشَهُ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ صَبْرًا، وَكَذَلِكَ أَخَذَ دِيَارَ بَكْرٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْكَافِيَ بْنَ فَخْرِ الدولة بن جهير، وكذلك أخذ همدان وخلاط، وفتح أذربيجان واستفحل أمر، ثم فارقه الأميران آق سنقر وبوران فسارا إلى الملك بركيارق وبقي تتش(12/144)
وحده، فطمع فيه أخوه بركيارق فرجع تتش فلحقه قسيم الدولة آقسنقر وبوران بباب حلب فكسرهما وأسر بوران وآقسنقر فصلبهما وبعث برأس بوران فَطِيفَ بِهِ حَرَّانَ وَالرُّهَا وَمَلَكَهَا مِنْ بَعْدِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، وَانْتَشَرَتْ بَيْنَهُمْ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ، وَفِي ثَانِي شَعْبَانَ وُلِدَ للخليفة ولده الْمُسْتَرْشِدُ باللَّه أَبُو مَنْصُورٍ الْفَضْلُ بْنُ أَبِي العباس، أحمد بن المستظهر، ففرح الخليفة به وفي ذي القعدة دخل السلطان بركيارق بَغْدَادَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَهِيرٍ، وَهَنَّأَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ بِالْقُدُومِ. وَفِيهَا أَخَذَ الْمُسْتَنْصِرُ الْعُبَيْدِيُّ مَدِينَةَ صُورَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
جَعْفَرُ بْنُ المقتدى باللَّه
من الخاتون بنت السلطان ملك شاه، في جمادى الأولى، وجلس الوزير للعزاء والدولة ثلاثة، أيام.
سليمان بن إبراهيم
ابن مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، أَبُو مَسْعُودٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ مَرْدَوَيْهِ وَأَبَا نعيم والبرقاني، وكتب عن الخطيب وغيره، توفى فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عبد الواحد بن أحمد بن المحسن
الدشكرى، أَبُو سَعْدٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، صَحِبَ أَبَا إِسْحَاقَ الشيرازي، وروى الحديث، وكان مؤلفا لأهل العلم، وكان يقول: ما مشى قدمي هاتين في لذة قط، توفى في رجب منها وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يوسف
أبو الحسن الهكارى، قدم بغداد ونزل برباط الدوري، وكانت له أربطة قد أنشأها، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فِي الرَّوْضَةِ فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِاعْتِقَادِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِيَّاكَ ومجالسة أهل البدع. توفى في المحرم منها.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْخَطِيبُ الْأَنْبَارِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْأَخْضَرِ، سَمِعَ أَبَا محمد الرضى، وهو آخر من حدث عنه، توفى فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً:
أبو نصر على بن هبة الله المعروف بابن ماكولا
[وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَلَهُ كِتَابُ الْإِكْمَالِ فِي الْمُؤْتَلِفِ والمختلف، جمع بين كتاب عبد الغنى وكتاب الدار قطنى وغيرهما، وزاد عليهما أشياء كثيرة، بهمة حَسَنَةً مُفِيدَةً نَافِعَةً، وَكَانَ نَحْوِيًّا مُبَرَّزًا، فَصِيحَ الْعِبَارَةَ حَسَنَ الشِّعْرِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَسَمِعْتُ(12/145)
شَيْخَنَا عَبْدَ الْوَهَّابِ يَطْعَنُ فِي دِينِهِ وَيَقُولُ: المعلم يَحْتَاجُ إِلَى دِينٍ. وَقُتِلَ فِي خُوزِسْتَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ] [1] .
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبع وثمانين وأربعمائة
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي وَخِلَافَةُ وَلَدِهِ الْمُسْتَظْهِرِ باللَّه.
صِفَةُ مَوْتِهِ
لَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ بركيارق بَغْدَادَ، سَأَلَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ كِتَابًا فِيهِ الْعَهْدُ إِلَيْهِ فَكَتَبَ ذَلِكَ، وَهُيِّئَتِ الْخِلَعُ وَعُرِضَتْ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ الْكِتَابُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ ثُمَّ قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ وجلس ينظر في العهد بعد ما وَقَّعَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ قَهْرَمَانَةٌ تُسَمَّى شَمْسَ النَّهَارِ، قَالَتْ: فَنَظَرَ إِلَيَّ وَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ قَدْ دَخَلُوا عَلَيْنَا بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ قَالَتْ: فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، وَرَأَيْتُهُ قَدْ تَغَيَّرَتْ حَالَتُهُ وَاسْتَرْخَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَانْحَلَّتْ قُوَاهُ، وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَتْ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَحَلَلْتُ أَزْرَارَ ثِيَابِهِ فَإِذَا هُوَ لَا يُجِيبُ دَاعِيًا، فَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ وَخَرَجْتُ فَأَعْلَمْتُ وَلِيَّ الْعَهْدِ بِذَلِكَ، وَجَاءَ الْأُمَرَاءُ وَرُءُوسُ الدَّوْلَةِ يُعَزُّونَهُ بأبيه، ويهنئونه بالخلافة، فبايعوه.
ذكر شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
هُوَ أمير المؤمنين المقتدى باللَّه، أبو عبد الله بن الذخيرة، الأمير ولى العهد أبى العباس أحمد، ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، بْنِ الْقَادِرِ باللَّه الْعَبَّاسِيِّ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا أُرْجُوَانُ أَرْمِنِيَّةٌ، أَدْرَكَتْ خِلَافَةَ وَلَدِهَا وَخِلَافَةَ وَلَدِهِ المستظهر وولد ولده المسترشد أيضا، وكان المقتدى أبيض حُلْوَ الشَّمَائِلِ، عَمَرَتْ فِي أَيَّامِهِ مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ من بغداد، ونفى عن بغداد الْمُغَنِّيَاتِ وَأَرْبَابَ الْمَلَاهِي وَالْمَعَاصِي، وَكَانَ غَيُورًا عَلَى حَرِيمِ النَّاسِ، آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، حسن السيرة، رحمه الله، توفى يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وثمان شُهُورٍ وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ، خِلَافَتُهُ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَ عشرة سنة وثمان شُهُورٍ إِلَّا يَوْمَيْنِ، وَأُخْفِيَ مَوْتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى تَوَطَّدَتِ الْبَيْعَةُ لِابْنِهِ الْمُسْتَظْهِرِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي تُرْبَتِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ المستظهر بأمر الله أبى العباس
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَحْضَرُوهُ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرَانِ، فَبُويِعَ بالخلافة، وأول مَنْ بَايَعَهُ الْوَزِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ ابْنُ جَهِيرٍ، ثم أخذ البيعة له من الملك ركن الدولة بركيارق بن ملك شاه ثم من بقية الأمراء والرؤساء، وتمت البيعة تؤخذ له إلى ثلاثة أيام، ثم أظهر التابوت يوم
__________
[1] زيادة من المصرية.(12/146)
الثلاثاء الثامن عشر من المحرم، وصلى عليه ولده الخليفة، وحضر الناس، ولم يحضر السلطان، وحضر أكثر أمرائه، وحضر الْغَزَّالِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ، وَبَايَعُوهُ يَوْمَ ذَلِكَ، وقد كان المستظهر كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ فَصِيحًا بَلِيغًا شَاعِرًا مطيقا، وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَذَابَ حَرُّ الْجَوَى في القلب ما جمدا ... يَوْمًا مَدَدْتُ عَلَى رَسْمِ الْوَدَاعِ يَدَا
فَكَيْفَ أسلك نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق من يهوى الْهَوَى قِدَدَا
قَدْ أَخْلَفَ الْوَعْدَ بَدْرٌ قَدْ شَغِفْتُ بِهِ ... مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ وَفَى دَهْرًا بِمَا وَعَدَا
إِنْ كُنْتُ أَنْقُضُ عَهْدَ الْحُبِّ فِي خَلَدِي ... مِنْ بَعْدِ هَذَا فَلَا عَايَنْتُهُ أَبَدَا
وَفَوَّضَ الْمُسْتَظْهِرُ أُمُورَ الْخِلَافَةِ إِلَى وزيره أبى منصور عميد الدولة بن جهير، فدبرها أَحْسَنَ تَدْبِيرٍ، وَمَهَّدَ الْأُمُورَ أَتَمَّ تَمْهِيدٍ، وَسَاسَ الرَّعَايَا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ. وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ شَعْبَانَ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ عن القضاء، وفوضه إلى أبى الحسن ابن الدَّامَغَانِيِّ. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ فأحرقت محال كثيرة، وقتل ناس كثير، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ لاختلاف السلاطين. وكانت الخطبة للسلطان بركيارق رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ المحرم وهو اليوم الّذي توفى فيه الخليفة المقتدى بعد ما علّم على توقيعه.
وممن توفى فيها من الأعيان.
آقسنقر الْأَتَابِكُ
الْمُلَقَّبُ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيُّ، وَيُعْرَفُ بِالْحَاجِبِ، صَاحِبُ حَلَبَ وَدِيَارِ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةِ. وَهُوَ جَدُّ الملك نور الدين الشهيد بن زنكي بن آق سنقر، كان أولا من أخص أصحاب السلطان ملك شاه بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيِّ، ثُمَّ تَرَقَّتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ حَتَّى أَعْطَاهُ حَلَبَ وَأَعْمَالَهَا بِإِشَارَةِ الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً وَأَجْوَدِهِمْ سَرِيرَةً، وَكَانَتِ الرَّعِيَّةُ مَعَهُ فِي أَمْنٍ وَرُخْصٍ وَعَدْلٍ، ثُمَّ كَانَ مَوْتُهُ عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ وَبِصَاحِبِ حَرَّانَ وَالرُّهَا عَلَى قتال ابن أخيه بركيارق بن ملك شاه، فَفَرَّا عَنْهُ وَتَرَكَاهُ، فَهَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا تمكن ورجعا قَاتَلَهُمَا بِبَابِ حَلَبَ فَقَتَلَهُمَا وَأَخَذَ بِلَادَهُمَا إِلَّا حلب فإنها استقرت لولد آقسنقر زَنْكِي فِيمَا بَعْدُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ خلكان أنه كان مملوكا للسلطان ملك شاه، هُوَ وَبُوزَانُ صَاحِبُ الرُّهَا، فَلَمَّا مَلَكَ تُتُشُ حَلَبَ اسْتَنَابَهُ بِهَا فَعَصَى عَلَيْهِ فَقَصَدَهُ وَكَانَ قَدْ مَلَكَ دِمَشْقَ أَيْضًا فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا، فَلَمَّا قتل دفنه ولده عماد الدين زنكي، وهو أبو نور الدين، فقبره بحلب أدخله ولده إليها من فوق الصور، فدفنه بها.
أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ الْجَمَالِيُّ
صَاحِبُ جُيُوشِ مِصْرَ وَمُدَبِّرُ الْمَمَالِكِ الْفَاطِمِيَّةِ، كَانَ عَاقِلًا كَرِيمًا مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ رُسُومٌ دَارَّةٌ(12/147)
تَمَكَّنَ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَنْصِرِ تَمَكُّنًا عَظِيمًا، وَدَارَتْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ عَلَى آرَائِهِ، وَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وامتدت أيامه وَبَعُدَ صِيتُهُ وَامْتَدَحَتْهُ الشُّعَرَاءُ. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ
الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي
وَقَدْ تَقَدَّمَ شيء من ترجمته.
الخليفة المستنصر الفاطمي
سعد أَبُو تَمِيمٍ مَعَدُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَاكِمِ، اسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَمْ يَتَّفِقْ هَذَا لِخَلِيفَةٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ إِلَى وَلَدِهِ نِزَارٍ، فَخَلَعَهُ الْأَفْضَلُ بْنُ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. وأمر الناس فبايعوا أَحْمَدَ بْنَ الْمُسْتَنْصِرِ أَخَاهُ، وَلَقَّبَهُ بِالْمُسْتَعْلِي، فَهَرَبَ نِزَارٌ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ فَبَايَعُوهُ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُ قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ: جَلَالُ الدَّوْلَةِ بْنُ عمار، فقصده الأفضل فحاصره وقاتلهم نزار وهزمهم الأفضل وأسر القاضي ونزار، فقتل القاضي وحبس نزار بين حيطين حَتَّى مَاتَ، وَاسْتَقَرَّ الْمُسْتَعْلِي فِي الْخِلَافَةِ، وَعُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ
أَمِيرُ مَكَّةَ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِيهَا عَنْ نَيِّفٍ وتسعين سنة.
محمود بن السلطان ملك شاه
كَانَتْ أُمُّهُ قَدْ عَقَدَتْ لَهُ الْمُلْكَ، وَأَنْفَقَتْ بسببه الأموال، فقاتله بركيارق فكسره، وَلَزِمَ بَلَدَهُ أَصْبَهَانَ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ فَدُفِنَ بِهَا بِالتُّرْبَةِ النِّظَامِيَّةِ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَظْرَفِهِمْ شكلا، توفى في شوال منها، وماتت أمه الخاتون تركيان شاه في رمضان، فانحل نظامه، وكانت قد جمعت عليه العساكر، وأسندت أزمة أمور المملكة إليه، وملكت عشرة آلاف مملوك تركي، وأنفقت في ذلك قريبا من ثلاثة آلاف ألف دينار، فانحل النظام ولم تحصل على طائل، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وثمانين وأربعمائة
فيها قدم يوسف بن أبق التركماني من جهة تتش صاحب دمشق إلى بغداد لأجل إقامة الدعوى لَهُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ تُتُشُ قَدْ تَوَجَّهَ لِقِتَالِ أَخِيهِ بِنَاحِيَةِ الرَّيِّ، فَلَّمَا دَخَلَ رَسُولُهُ بَغْدَادَ هَابُوهُ وَخَافُوهُ وَاسْتَدْعَاهُ الْخَلِيفَةُ فَقَرَّبَهُ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَتَأَهَّبَ أَهْلُ بَغْدَادَ لَهُ، وَخَافُوا أَنْ يَنْهَبَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ قدم عليه رسول أخيه فَأَخْبَرَهُ أَنَّ تُتُشَ قُتِلَ فِي أَوَّلِ مَنْ قُتِلَ فِي الْوَقْعَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ بركيارق، وَاسْتَقَلَّ بِالْأُمُورِ. وَكَانَ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ مَعَ أبيه حين قتل، فسار إلى دمشق فملكها، وكان نائب أبيه عليها الأمير ساوتكين،(12/148)
وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْقَاسِمِ الْخُوَارَزْمِيَّ، وَمَلَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ تُتُشَ مَدِينَةَ حَلَبَ، وَدَبَّرَ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ جناح الدولة ابن اتكين، ورضوان بن تتش صاحب مدينة حماه، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ بَنُو رِضْوَانَ بِهَا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا خُطِبَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ أَبِي الْمَنْصُورِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَلُقِّبَ بِذَخِيرَةِ الدِّينِ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ خَرَجَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ فَاخْتَطَّ سُورًا عَلَى الْحَرِيمِ، وَأَذِنَ لِلْعَوَامِّ فِي الْعَمَلِ وَالتَّفَرُّجِ فَأَظْهَرُوا مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةً، وَسَخَافَاتِ عُقُولٍ ضَعِيفَةٍ، وَعَمِلُوا أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ رُقْعَةً فِيهَا كَلَامٌ غَلِيظٌ، وَإِنْكَارٌ بَغِيضٌ. وَفِي رَمَضَانَ خَرَجَ السلطان بركيارق فَعَدَا عَلَيْهِ فِدَاوِيٌّ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ، فَمُسِكَ فَعُوقِبَ فَأَقَرَّ عَلَى آخَرَيْنِ فَلَمْ يُقِرَّا فَقُتِلَ الثَّلَاثَةُ. وَجَاءَ الطَّوَاشِيُّ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ مُهَنِّئًا لَهُ بِالسَّلَامَةِ. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا خَرَجَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ مِنْ بَغْدَادَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَارِكًا لِتَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ، زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا، لَابِسًا خَشِنَ الثِّيَابِ بَعْدَ نَاعِمِهَا، وَنَابَ عنه أخوه في التدريس ثم حج في السنة التالية ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَ الْإِحْيَاءِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الرِّبَاطِ فَيَسْمَعُونَهُ. وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْبُسْتِيِّ، وَلُقِّبَ بِشَرَفِ الْقُضَاةِ، وَرُدَّ إِلَى وِلَايَةِ القضاء بالحريم وغيره. وفيها اصطلح أهل الكرخ من الرافضة والسنة مع بقية المحال، وتزاوروا وتواصلوا وتواكلوا، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ، وَفِيهَا قُتِلَ أَحْمَدُ بن خاقان صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ فَخُنِقَ وَوَلِيَ مَكَانَهُ ابْنُ عَمِّهِ مَسْعُودٌ. وَفِيهَا دَخَلَ الْأَتْرَاكُ إِفْرِيقِيَّةَ وَغَدَرُوا بِيَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ، وَمَلَكُوا بلاده وقتلوا خلقا، بعد ما جرت بينه وبينهم حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ مُقَدَّمَهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ شَاهْ مَلِكُ، وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِ بَعْضِ أُمَرَاءِ الْمَشْرِقِ، فَقَدِمَ مِصْرَ وَخَدَمَ بِهَا ثُمَّ هَرَبَ إلى المغرب، ومعه جماعة ففعل ما ذكر. ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَيْرُونَ
أَبُو الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ عَنْهُ الْخَطِيبُ، وَكَانَتْ له معرفة جيدة، وهو من الثقات، وقبله الدَّامَغَانِيِّ، ثُمَّ صَارَ أَمِينًا لَهُ، ثُمَّ وَلِيَ إِشْرَافَ خِزَانَةِ الْغَلَّاتِ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
تُتُشُ أَبُو الْمُظَفَّرِ
تَاجُ الدولة بن ألب أرسلان، صاحب دمشق وغيرها من البلاد، وقد تزوج امرأة على ابن أخيه بركيارق بن ملك شاه، ولكن قدر الله وماتت، وَقَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي:
وللَّه سِرٌّ فِي عُلَاكَ وإنما ... كلام العدي ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ صَاحِبَ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ فَاسْتَنْجَدَهُ أَتْسِزُ فِي مُحَارَبَةِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ مِصْرَ، فَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ لِنَجْدَتِهِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَتْسِزُ، أَمَرَ بِمَسْكِهِ وَقَتْلِهِ، وَاسْتَحْوَذَ هُوَ عَلَى دِمَشْقَ(12/149)
وأعمالها في سنة إحدى وسبعين، ثم حارب أتسز فقتله، ثم تحارب هو وأخوه بركيارق ببلاد الري، فكسره أخوه وَقُتِلَ هُوَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَتَمَلَّكَ ابْنُهُ رِضْوَانُ حلب، وإليه تنسب بنو رضوان بها، وكان ملكه عليها إلى سنة سبع وخمسين وَخَمْسِمِائَةٍ، سَمَّتْهُ أُمُّهُ فِي عُنْقُودِ عِنَبٍ، فَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ تَاجُ الْمُلْكِ بُورِي أَرْبَعَ سنين، ثم ابنه الآخر شمس الملك إِسْمَاعِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ قَتَلَتْهُ أُمُّهُ أَيْضًا، وَهِيَ زُمُرُّدُ خَاتُونَ بِنْتُ جَاوْلِي، وَأَجْلَسَتْ أَخَاهُ شِهَابَ الدِّينِ مَحْمُودَ بْنَ بُورِي، فَمَكَثَ أَرْبَعَ سنين، ثم ملك أخوه محمد بن بورى طغركين سنة، ثم تملك مخير الدين أتق مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى أَنِ انْتَزَعَ الملك منه نور الدين محمود زَنْكِي كَمَا سَيَأْتِي. وَكَانَ أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ أيام أتق مُعِينُ الدِّينِ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمُعِينِيَّةُ بِالْغَوْرِ، وَالْمَدْرَسَةُ الْمُعِينِيَّةُ بِدِمَشْقَ.
رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الوهاب
ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ القراء والفقهاء على مذهب أحمد، وأئمة الحديث، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْوَعْظِ، وَحَلْقَةٌ لِلْفَتْوَى بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ مُحَبَّبًا إِلَى الْعَامَّةِ لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، حَسَنَ الْمُنَاظَرَةِ. وَقَدْ روى عن آبائه حديثا مسلسلا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: هتف العلم بالعمل فان أجابه وإلا ارتحل. وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة، يفد في مهام الرسائل إلى السلطان. توفى يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ بِبَابِ الْمَرَاتِبِ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو الْفَضْلِ
أَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ بُنْدَارٍ الشيخ، شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَرَأَ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أحمد الهمدانيّ، وَرَحَلَ إِلَى مِصْرَ، وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحَصَّلَ كُتُبًا كَثِيرَةً، وَصَنَّفَ تَفْسِيرًا فِي سَبْعِمِائَةِ مُجَلَّدٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: جَمَعَ فِيهِ الْعَجَبَ، وتكلم عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) 2: 102 فِي مُجَلَّدٍ كَامِلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: كَانَ طَوِيلَ اللِّسَانِ بِالْعِلْمِ تَارَةً، وَبِالشِّعْرِ أُخْرَى، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَمَاتَ بِبَغْدَادَ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَمَا تَزَوَّجَ إِلَّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ.
أَبُو شُجَاعٍ الْوَزِيرُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو شُجَاعٍ، الْمُلَقَّبُ ظَهِيرَ الدِّينِ، الرُّوْذَرَاوِرِيُّ الْأَصْلِ الْأَهْوَازِيُّ الْمَوْلِدِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا، مِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى تَجَارِبِ الْأُمَمِ. وَوَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي وَكَانَ يَمْلِكُ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَوَقَفَ الْوُقُوفَ الْحَسَنَةَ، وَبَنَى الْمَشَاهِدَ، وَأَكْثَرَ الْإِنْعَامَ عَلَى الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ. قَالَ(12/150)
له رجل: إلى مجانبنا أَرْمَلَةٌ لَهَا أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ وَهُمْ عُرَاةٌ وَجِيَاعٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَعَ رَجُلٍ مِنْ خَاصَّتِهِ نَفَقَةً وَكُسْوَةً وَطَعَامًا، وَنَزَعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُهَا حَتَّى تَرْجِعَ إلى بخبرهم، فذهب الرجل مسرعا بما أرسله على يديه إليهم، ثم رجع إليه فأخبره أنهم فرحوا بذلك ودعوا للوزير، فسر بذلك ولبس ثيابه. وجيء إليه مرة بقطائف سكرية فَلَمَّا وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ تَنَغَّصَ عَلَيْهِ بِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَهَا كُلَّهَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا، فَأَطْعَمَهَا الْفُقَرَاءَ وَالْعُمْيَانَ وَكَانَ لَا يَجْلِسُ فِي الدِّيوَانِ إِلَّا وَعِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ، فَإِذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ سَأَلَهُمْ عَنْهُ فَحَكَمَ بِمَا يُفْتُونَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ مَعَ النَّاسِ، خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ، ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الْوَزَارَةِ فَسَارَ إِلَى الْحَجِّ وَجَاوَرَ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ مَرِضَ، فَلَمَّا ثَقُلَ فِي الْمَرَضِ جَاءَ إِلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) 4: 64 وَهَا أَنَا قَدْ جِئْتُكَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذُنُوبِي وَأَرْجُو شَفَاعَتَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ مَاتَ من يومه ذلك رحمه الله، ودفن في البقيع.
القاضي أبو بكر الشاشي
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ بَكْرَانَ الْحَمَوِيُّ أَبُو بكر الشاشي، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ بِبَلَدِهِ، ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فتفقه على أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ، وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فَقَبِلَهُ، وَلَازَمَ مَسْجِدَهُ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، يُقْرِئُ النَّاسَ وَيُفَقِّهُهُمْ، وَلَمَّا مَاتَ الدَّامَغَانِيُّ أَشَارَ بِهِ أَبُو شُجَاعٍ الْوَزِيرُ فَوَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي الْقَضَاءَ، وَكَانَ مِنْ أَنْزَهِ النَّاسِ وَأَعَفِّهِمْ، لَمْ يَقْبَلْ مِنْ سُلْطَانٍ عَطِيَّةً، وَلَا مِنْ صَاحِبٍ هَدِيَّةً، وَلَمْ يُغَيِّرْ مَلْبَسَهُ وَلَا مَأْكَلَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا وَلَمْ يَسْتَنِبْ أَحَدًا، بَلْ كَانَ يُبَاشِرُ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُحَابِ مَخْلُوقًا، وَقَدْ كَانَ يَضْرِبُ بَعْضَ الْمُنْكِرِينَ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ، إِذَا قَامَتْ عِنْدَهُ قرائن التهمة، حَتَّى يُقِرُّوا، وَيَذْكُرُ أَنَّ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ما يدل على هذا. وقد صنف كتابا فِي ذَلِكَ، وَنَصَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِيمَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) 12: 26 الآية. وَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُنَاظِرِينَ يقال له المشطب بن أحمد بْنِ أُسَامَةَ الْفَرْغَانِيُّ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ، لَمَّا رَأَى عَلَيْهِ مِنَ الْحَرِيرِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي:
إِنَّ السُّلْطَانَ وَوَزِيرَهُ نِظَامَ الْمُلْكِ يَلْبَسَانِ الحرير والذهب، فقال القاضي الشاشي: والله لو شهدا عندي على باقة بقلة ما قبلتهما، ولرددت شهادتهما. وشهد عنده مرة فقيه فاضل من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال: لأى شيء ترد شهادتي وهي جائزة عند كل حاكم إلا أنت؟ فقال له: لا أقبل لك شهادة، فانى رأيتك تغتسل في الحمام عريانا غير مستور العورة، فلا أقبلك. تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ من ابن شريح.(12/151)
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ فَتُّوحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ، الأندلسى، من جزيرة يقال لها برقة قَرِيبَةٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا الحديث، وكان حافظا مكثرا أديبا ماهرا، عَفِيفًا نَزِهًا، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدْ كَتَبَ مُصَنَّفَاتِ ابْنِ حَزْمٍ وَالْخَطِيبِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ جاوز التسعين، وَقَبْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ قَبْرِ بِشْرٍ الْحَافِي بِبَغْدَادَ.
هبة الله ابن الشيخ أبى ألوفا بْنِ عَقِيلٍ
كَانَ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَتَفْقَّهَ وَظَهَرَ مِنْهُ نَجَابَةٌ، ثُمَّ مَرِضَ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ أَبُوهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فَلَمْ يُفِدْ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا أَبَتِ إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ الْأَدْوِيَةَ وَالْأَدْعِيَةَ، وللَّه فِيَّ اخْتِيَارٌ فدعني واختيار الله في، قَالَ أَبُوهُ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ لِهَذَا الكلام إلا وقد اختير للحظوة وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وثمانين وأربعمائة
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: فِي هَذِهِ السنة حكم جهلة المنجمين أنه سَيَكُونَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ طُوفَانٌ قَرِيبٌ مِنْ طُوفَانِ نُوحٍ، وَشَاعَ الْكَلَامُ بِذَلِكَ بَيْنَ الْعَوَامِّ وخافوا، فاستدعى الخليفة المستظهر ابن عشبون الْمُنَجِّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ: إِنَّ طُوفَانَ نُوحٍ كَانَ فِي زَمَنٍ اجْتَمَعَ فِي بحر الْحُوتِ الطَّوَالِعُ السَّبْعَةُ، وَالْآنَ فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ سِتَّةٌ وَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا زُحَلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ طُوفَانٍ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا بَغْدَادُ. فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَزِيرِهِ بِإِصْلَاحِ المسيلات وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُخْشَى انْفِجَارُ الْمَاءِ مِنْهَا، وَجَعَلَ الناس ينتظرون، فجاء الخبر بأن الحجاج حصلوا بوادي المناقب بَعْدَ نَخْلَةَ فَأَتَاهُمْ سَيْلٌ عَظِيمٌ، فَمَا نَجَا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ تَعَلَّقَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ، وَأَخَذَ الْمَاءُ الْجِمَالَ وَالرِّجَالَ وَالرِّحَالَ، فَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى ذلك المنجم وأجرى له جارية. وَفِيهَا مَلَكَ الْأَمِيرُ قِوَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعِيدٍ كرتوقا مدينة الموصل، وقتل شرف الدولة محمد بن مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ، وَغَرَّقَهُ بَعْدَ حِصَارِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَفِيهَا مَلَكَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ الْمَغْرِبِيُّ مَدِينَةَ قَابِسَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَخَاهُ عُمَرَ، فَقَالَ خَطِيبُ سُوسَةَ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتًا.
ضَحِكَ الزَّمَانُ وَكَانَ يُلْفَى عَابِسًا ... لَمَّا فَتَحْتَ بِحَدِّ سَيْفِكَ قَابِسَا
وَأَتَيْتَهَا بِكْرًا وَمَا أَمْهَرْتَهَا ... إِلَّا قَنًا وصوارما وفوارسا
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا جَنَيْتَ ثِمَارَهَا ... إِلَّا وَكَانَ أبوك قبلا غارسا
مَنْ كَانَ فِي زُرْقِ الْأَسِنَّةِ خَاطِبًا ... كَانَتْ لَهُ قُلَلُ الْبِلَادِ عَرَائِسَا
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ وزير بركيارق. وَفِيهَا أَغَارَتْ خَفَاجَةُ عَلَى بِلَادِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صدقة بن مزيد بْنِ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسٍ وَقَصَدُوا مَشْهَدَ الْحُسَيْنِ بالحائر، وتظاهروا فِيهِ بِالْمُنْكَرَاتِ وَالْفَسَادِ، فَكَبَسَهُمْ فِيهِ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ المذكور،(12/152)
فقتل منهم خلقا كثيرا عِنْدَ الضَّرِيحِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَلْقَى نَفْسَهُ وَفَرَسَهُ مِنْ فَوْقِ السُّورِ فَسَلِمَ وَسَلِمَتْ فرسه. وحج بالناس الأمير خمارتكين الحسناتى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ اللَّهِ بن إبراهيم بن عبد الله
أخو أبى حكيم الخيريّ، وخير: إِحْدَى بِلَادِ فَارِسَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفَرَائِضِ وَالْأَدَبِ وَاللُّغَةِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ، وَكَانَ مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ بِالْأُجْرَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ يَكْتُبُ وَضَعَ الْقَلَمَ مِنْ يَدِهِ وَاسْتَنَدَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ هَذَا مَوْتًا إِنَّهُ لَطَيِّبٌ، ثُمَّ مَاتَ.
عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْنُ على بن أحمد الشنجى
التاجر، ويعرف بابن شهداء مكة، بَغْدَادِيٌّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ وَأَكْثَرَ عَنِ الْخَطِيبِ وَهُوَ بِصُورَ، وَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلِهَذَا أَهْدَى إِلَيْهِ الْخَطِيبُ تَارِيخَ بَغْدَادَ بِخَطِّهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، وَكَانَ يُسَمِّيهِ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ ثِقَةً.
عَبْدُ الْمَلِكِ بن إبراهيم
ابن أحمد أبو الفضل المعروف بالهمدانيّ، تَفَقَّهَ عَلَى الْمَاوَرْدِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ يحفظ غريب الحديث لأبى عبيد والمجمل لِابْنِ فَارِسَ، وَكَانَ عَفِيفًا زَاهِدًا، طَلَبَهُ الْمُقْتَدِي لِيُوَلِّيَهُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَاعْتَذَرَ لَهُ بِالْعَجْزِ وَعُلُوِّ السِّنِّ، وَكَانَ ظَرِيفًا لَطِيفًا، كَانَ يَقُولُ: كَانَ أَبِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّبَنِي أَخَذَ الْعَصَا بِيَدِهِ ثُمَّ يَقُولُ: نَوَيْتُ أَنْ أَضْرِبَ وَلَدِي تَأْدِيبًا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ، ثُمَّ يَضْرِبُنِي. قَالَ: وَإِلَى أَنْ يَنْوِيَ وَيُتَمِّمَ النِّيَّةَ كُنْتُ أَهْرُبُ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا ودفن عند قبر ابن شريح.
حمد بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مَنْصُورٍ
أبو بكر الدقاق، ويعرف بابن الحاضنة، كَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِفَادَةِ وَجَوْدَةِ الْقِرَاءَةِ وَحُسْنِ الْخَطِّ وَصِحَّةِ النَّقْلِ، جَمَعَ بَيْنَ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ وَالْحَدِيثِ، وَأَكْثَرَ عَنِ الْخَطِيبِ وَأَصْحَابِ الْمُخَلِّصِ. قَالَ: لَمَّا غَرِقَتْ بَغْدَادُ غَرِقَتْ دَارِي وَكُتُبِي فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ، فَاحْتَجْتُ إِلَى النَّسْخِ فَكَتَبْتُ صَحِيحَ مُسْلِمٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وقائل يقول أين ابن الحاضنة؟ فَجِئْتُ فَأُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَلَمَّا دَخَلْتُهَا اسْتَلْقَيْتُ عَلَى قَفَايَ وَوَضَعْتُ إِحْدَى رِجْلَيَّ عَلَى الْأُخْرَى وَقُلْتُ: اسْتَرَحْتُ مِنَ النَّسْخِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ وَالْقَلَمُ فِي يَدِي وَالنَّسْخُ بَيْنَ يَدَيَّ.
أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ
مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ، أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، الْحَافِظُ، مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، تَفَقَّهَ أَوَّلًا عَلَى أَبِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مذهب الشافعيّ فأخذ عن أبى إسحاق وابن(12/153)
الصَّبَّاغِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَصَنَّفَ التَّفْسِيرَ وَكِتَابَ الِانْتِصَارِ فِي الْحَدِيثِ، والبرهان والقواطع فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالِاصْطِلَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَوَعَظَ فِي مَدِينَةِ نَيْسَابُورَ، وَكَانَ يَقُولُ:
مَا حَفِظْتُ شَيْئًا فَنَسِيتُهُ، وَسُئِلَ عَنْ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ فَقَالَ: عليكم بدين العجائز وصبيان الكتاتيب، وَسُئِلَ عَنِ الِاسْتِوَاءِ فَقَالَ:
جِئْتُمَانِي لِتَعْلَمَا سِرَّ سُعْدَى ... تَجِدَانِي بِسِرِّ سُعْدَى شَحِيحَا
إِنَّ سُعْدَى لَمُنْيَةُ الْمُتَمَنِّي ... جَمَعَتْ عِفَّةً وَوَجْهًا صَبِيحَا
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ مَرْوَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا آمين.
ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة من الهجرة
فِيهَا كَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السلطان بركيارق مَلَكَ فِيهَا بِلَادَ خُرَاسَانَ بَعْدَ مَقْتَلِ عَمِّهِ أَرْسَلَانَ أَرْغُونَ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَسَلَّمَهَا إِلَى أخيه الْمَعْرُوفِ بِالْمَلِكِ سَنْجَرَ، وَجَعَلَ أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ قُمَاجَ، ووزيره أبو الفتح على بن الحسين الطغرانى، واستعمل على خراسان الأمير حبشي بن البرشاق، فَوَلَّى مَدِينَةَ خُوَارِزْمَ شَابًّا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بن أنوشتكين، وكان أبوه من أمراء السلاجقة، وَنَشَأَ هُوَ فِي أَدَبٍ وَفَضِيلَةٍ وَحُسْنِ سِيرَةٍ، وَلَمَّا وَلِيَ مَدِينَةَ خُوَارِزْمَ لُقِّبَ خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ وَعَامَلَ النَّاسَ بالجميل، وكذلك ولده من بعده اتشنر جرى على سيرة أَبِيهِ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ، فَحَظِيَ عِنْدَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَأَحَبَّهُ النَّاسُ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ. وَفِيهَا خَطَبَ الْمَلِكُ رضوان ابن تَاجِ الْمُلْكِ تُتُشَ لِلْخَلِيفَةِ الْفَاطِمِيِّ الْمُسْتَعْلِي، وَفِي شَوَّالٍ قُتِلَ رَجُلٌ بَاطِنِيٌّ عِنْدَ بَابِ النُّوبِيِّ كَانَ قَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ دَعَاهُمَا إِلَى مَذْهَبِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ أَتَقْتُلُونَنِي وَأَنَا أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) 40: 84 الآية وما بعدها، وفي رمضان منها قتل برشو أَحَدُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تُوَلَّى شحنة بغداد. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا خُمَارْتِكِينُ الْحَسْنَانِيُّ، وَفِي يَوْمِ عاشوراء كبست دار بهاء الدولة أبو نصر بن جلال الدولة أبى طاهر ابن بُوَيْهِ لِأُمُورٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي فَأُرِيقَ دَمُهُ وَنُقِضَتْ دَارُهُ وَعُمِلَ مَكَانَهَا مَسْجِدَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ والشافعية، وقد كان السلطان ملك شاه قد أقطعه المدائن ودير عاقول وغيرهما.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن الحسن
ابن عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، أَبُو يَعْلَى الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الصَّوَّافِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ زَاهِدًا مُتَصَوِّفًا، وَفَقِيهًا مُدَرِّسًا، ذَا سَمْتٍ وَوَقَارٍ، وَسَكِينَةٍ وَدِينٍ، وَكَانَ عَلَّامَةً فِي عَشَرَةِ عُلُومٍ، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.(12/154)
المعمر بن محمد
ابن الْمُعَمَّرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْغَنَائِمِ الحسيني، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ كَثِيرَ التَّعَبُّدِ، لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ آذَى مُسْلِمًا وَلَا شَتَمَ صَاحِبًا. تُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ سنة، وكان نَقِيبًا ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْفُتُوحِ حَيْدَرَةُ، وَلُقِّبَ بِالرَّضِيِّ ذِي الْفَخْرَيْنِ، وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِأَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ بْنِ محمد بن على البستي
سمع الحديث ورحل فيه، وكان ثقة صالحا صدوقا أديبا، عمر مائة سنة وثنتى عشرة سنة وثلاثة أشهر، وهو مع ذَلِكَ صَحِيحُ الْحَوَاسِّ، يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وتسعين وأربعمائة
في جمادى الأولى منها ملك الافرنج مدينة أنطاكية بعد حصار شديد، بمواطأة بَعْضِ الْمُسْتَحْفِظِينَ عَلَى بَعْضِ الْأَبْرَاجِ، وَهَرَبَ صَاحِبُهَا ياغيسيان فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَتَرَكَ بِهَا أَهْلَهُ وَمَالَهُ، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندما شديدا عَلَى مَا فَعَلَ، بِحَيْثُ إِنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُهُ وَتَرَكُوهُ، فَجَاءَ رَاعِي غَنَمٍ فَقَطَعَ رَأْسَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ، وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ كَرْبُوقَا صَاحِبِ الْمَوْصِلِ جَمَعَ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً، وَاجْتَمَعَ عليه دقاق صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَجَنَاحُ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ حِمْصَ، وَغَيْرُهُمَا، وَسَارَ إِلَى الْفِرِنْجِ فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ بِأَرْضِ أَنْطَاكِيَةَ فَهَزَمَهُمُ الْفِرِنْجُ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذُوا منهم أموالا جزيلة، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. ثم صارت الْفِرِنْجُ إِلَى مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ فَأَخَذُوهَا بَعْدَ حِصَارٍ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه. وَلَمَّا بلغ هذا الأمر الفظيع إلى الملك بركيارق شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ أَنْ يَتَجَهَّزُوا هُمْ وَالْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ، لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَبَرَزَ بَعْضُ الْجَيْشِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ثُمَّ انْفَسَخَتْ هَذِهِ الْعَزِيمَةُ لِأَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْفِرِنْجَ فِي أَلْفِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه. وَحَجَّ بالناس فيها خمارتكين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
طِرَادُ بْنُ محمد بن على
ابن الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم الامام بن محمد بن على بْنِ عَبَّاسٍ، أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي تَمَّامٍ، مِنْ ولد زيد ابن بِنْتِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وهي أم ولده عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَالْكُتُبَ الْكِبَارَ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عن جماعة، وَرُحِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ وَأَمْلَى الْحَدِيثَ فِي بلدان شتى، وكان يحضر مجلسه العلماء والسادات وَحَضَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ مَجْلِسَهُ، وَبَاشَرَ نقابة الطالبيين مُدَّةً طَوِيلَةً، وَتُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، ودفن(12/155)
فِي مَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ
الْمُظَفَّرُ أَبُو الْفَتْحِ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ
ابْنِ الْمُسْلِمَةِ كَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْأَدَبِ، وَبِهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، ودفن عند الشيخ أبى إسحاق في تربته.
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة
- وفيها أخذت الفرنج بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَمَّا كَانَ ضُحَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وأربعمائة، أخذت الْفِرِنْجُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ اللَّهُ، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين أَلْفَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وتبروا ما علوا تتبيرا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَخَذُوا مِنْ حَوْلِ الصَّخْرَةِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ قِنْدِيلًا مِنْ فِضَّةٍ، زِنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذُوا تَنُّورًا مِنْ فِضَّةٍ زِنَتَهُ أَرْبَعُونَ رِطْلًا بِالشَّامِيِّ، وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ قِنْدِيلًا مِنْ ذَهَبٍ، وَذَهَبَ النَّاسُ على وجوههم هاربين مِنَ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ، مُسْتَغِيثِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ إلى الخليفة والسلطان، منهم القاضي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ هَذَا الْأَمْرَ الْفَظِيعَ هَالَهُمْ ذَلِكَ وَتَبَاكَوْا، وَقَدْ نظم أبو سعد الهروي كاملا قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء الناس، وَنَدَبَ الْخَلِيفَةُ الْفُقَهَاءَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْبِلَادِ لِيُحَرِّضُوا الْمُلُوكَ عَلَى الْجِهَادِ، فَخَرَجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ فَسَارُوا فِي الناس فلم يفد ذلك شيئا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، فَقَالَ فِي ذَلِكَ أبو المظفر الأبيوردي شعرا:
مزجنا دمانا بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يريقه ... إِذَا الْحَرْبُ شُبَّتْ نَارُهَا بِالصَّوَارِمِ
فَإِيهًا بَنِي الْإِسْلَامِ إِنَّ وَرَاءَكُمْ ... وَقَائِعَ يُلْحِقْنَ الذُّرَى بِالْمَنَاسِمِ
وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ مِلْءَ جُفُونِهَا ... عَلَى هَفَوَاتٍ أَيْقَظَتْ كُلَّ نَائِمِ
وَإِخْوَانُكُمْ بِالشَّامِ يُضْحَى مَقِيلُهُمْ ... ظُهُورَ الْمَذَاكِي أَوْ بُطُونَ الْقَشَاعِمِ
تَسُومُهُمُ الرُّومُ الْهَوَانَ وَأَنْتَمْ ... تَجُرُّونَ ذَيْلَ الْخَفْضِ فِعْلَ الْمُسَالِمِ
ومنها قوله:
وَبَيْنَ اخْتِلَاسِ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَقْفَةٌ ... تَظَلُّ لَهَا الْوِلْدَانُ شِيبَ الْقَوَادِمِ
وَتَلِكَ حُرُوبٌ مَنْ يَغِبْ عَنْ غِمَارِهَا ... لِيَسْلَمَ يَقْرَعْ بَعْدَهَا سِنَّ نَادِمِ
سَلَلْنَ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ قَوَاضِبًا ... سَتُغْمَدُ مِنْهُمْ فِي الكلى والجماجم
يكاد لهن المستجير بِطِيبَةٍ ... يُنَادِي بِأَعْلَى الصَّوْتِ يَا آلَ هَاشِمِ
أَرَى أُمَّتِي لَا يَشْرَعُونَ إِلَى الْعِدَا ... رِمَاحَهُمْ والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خَوْفًا مِنَ الرَّدَى ... وَلَا يَحْسَبُونَ الْعَارَ ضَرْبَةَ لازم(12/156)
أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى ... ويغضى على ذل كماة الأعاجم
فليتهمو إِذْ لَمْ يَذُودُوا حَمِيَّةً ... عَنِ الدِّينِ ضَنُّوا غَيْرَةً بِالْمَحَارِمِ
وَإِنْ زَهِدُوا فِي الْأَجْرِ إِذْ حمس الْوَغَى ... فَهَلَا أَتَوْهُ رَغْبَةً فِي الْمَغَانِمِ
وَفِيهَا كان ابتداء أمر السلطان محمد بن ملك شاه، وَهُوَ أَخُو السُّلْطَانِ سَنْجَرَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَاسْتَفْحَلَ إلى أَنْ خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِيهَا سَارَ إِلَى الرَّيِّ فوجد زبيدة خاتون أم أخيه بركيارق فَأَمَرَ بِخَنْقِهَا، وَكَانَ عُمْرُهَا إِذْ ذَاكَ ثِنْتَيْنِ وأربعين سنة، في ذي الحجة منها وكانت له مع بركيارق خمس وقعات هائلة. وفيها غَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا بِبَغْدَادَ، حَتَّى مَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ جُوعًا، وَأَصَابَهُمْ وَبَاءٌ شَدِيدٌ حَتَّى عجزوا عن دفن الموتى من كثرتهم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
السُّلْطَانُ إِبْرَاهِيمُ بن السلطان محمود
ابن مسعود بن السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ وَأَطْرَافِ الهند، وعدا ذلك، كانت له حرمة وأبهة عظيمة، وهيبة وافرة جِدًّا، حَكَى إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ حِينَ بَعَثَهُ السُّلْطَانُ بركيارق في رسالته إليه عَمَّا شَاهَدَهُ عِنْدَهُ مِنْ أُمُورِ السَّلْطَنَةِ فِي ملبسه ومجلسه، وما رأى عنده من الأموال والسعادة الدُّنْيَوِيَّةِ، قَالَ: رَأَيْتُ شَيْئًا عَجِيبًا، وَقَدْ وَعَظَهُ بِحَدِيثِ «لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا» فَبَكَى. قَالَ: وَكَانَ لَا يَبْنِي لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا إِلَّا بَنَى قَبْلَهُ مَسْجِدًا أو مدرسة أو رباطا. توفى في رجب منها وقد جاوز التسعين، وكانت مدة ملكه منها ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ يُوسُفَ
ابن على بن صالح، أبو تراب البراعى، ولد سنة إحدى وأربعمائة وتفقه على أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ وَعَلَى غيره، ثُمَّ أَقَامَ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ يَحْفَظُ شَيْئًا كَثِيرًا من الحكايات والملح، وكان صبورا متقللا من الدنيا، على طريقة السلف، جاءه منشور بقضاء همدان فَقَالَ: أَنَا مُنْتَظِرٌ مَنْشُورًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ بِالْقَدُّومِ عَلَيْهِ، والله لجلوس ساعة في هذه المسلة عَلَى رَاحَةِ الْقَلْبِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُلْكِ العراقين، وتعليم مسألة لطالب أحب إلى مما على الأرض من شيء، والله لا أفلح قلب يعلق بالدنيا وأهلها، وإنما العلم دليل، فمن لم يدله علمه على الزهد في الدنيا وأهلها لم يحصل على طائل من العلم، ولو علم ما علم، فإنما ذلك ظاهر من العلم، والعلم النافع وراء ذلك، والله لو قطعت يدي ورجلي وقلعت عيني أحب إلى من ولاية فيها انقطاع عن الله والدار الآخرة، وما هو سبب فوز المتقين، وسعادة المؤمنين. تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة رحمه الله آمين.
أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ
قَتَلَهُ بَعْضُ الباطنية بنيسابور رحمه الله ورحم أباه.(12/157)
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة
في صفر منها دخل السلطان بركيارق إِلَى بَغْدَادَ، وَنَزَلَ بِدَارِ الْمُلْكِ، وَأُعِيدَتْ لَهُ الخطبة، وقطعت خطبة أخيه محمد، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ هَدِيَّةً هَائِلَةً، وَفَرِحَ بِهِ الْعَوَامُّ وَالنِّسَاءُ، وَلَكِنَّهُ فِي ضِيقٍ مِنْ أَمْرِ أخيه مُحَمَّدٍ، لِإِقْبَالِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ، وَاجْتِمَاعِهِمْ إِلَيْهِ، وَقِلَّةِ ما معه من الأموال، وَمُطَالَبَةِ الْجُنْدِ لَهُ بِأَرْزَاقِهِمْ، فَعَزَمَ عَلَى مُصَادَرَةِ الْوَزِيرِ ابْنِ جَهِيرٍ، فَالْتَجَأَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى الْمُصَالَحَةِ عنه بمائة ألف وستين ألف دينار، ثم سار فالتقى هو وأخوه محمد بمكان قريب من همدان فَهَزَمَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدٌ وَنَجَا هُوَ بِنَفْسِهِ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا، وَقُتِلَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ سَعْدُ الدولة جوهر آيين الْخَادِمُ، وَكَانَ قَدِيمَ الْهِجْرَةِ فِي الدَّوْلَةِ، وَقَدْ ولى شحنة بَغْدَادَ، وَكَانَ حَلِيمًا حَسَنَ السِّيرَةِ، لَمْ يَتَعَمَّدْ ظلم أحد وَلَمْ يَرَ خَادِمٌ مَا رَأَى، مِنَ الْحِشْمَةِ والحرمة وكثرة الخدم، وَقَدْ كَانَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ، وَلَا يَجْلِسُ إِلَّا عَلَى وُضُوءٍ، وَلَمْ يَمْرَضْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَلَمْ يُصْدَعْ قَطُّ، وَلَمَّا جَرَى مَا جَرَى في هذه الوقعة ضعف أمر السلطان بركيارق، ثُمَّ تَرَاجَعَ إِلَيْهِ جَيْشُهُ وَانْضَافَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ داود في عشرين ألفا، فالتقى هو وأخوه مع أخيه سنجر فهزمهم سنجر أيضا وهرب في شرذمة قليلة، وأسر الأمير داود فقتله الأمير برغش أحد أمراء سنجر، فضعف بركيارق وَتَفَرَّقَتْ عَنْهُ رِجَالُهُ، وَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ مِنْ بَغْدَادَ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ وَأُعِيدَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ محمد. وفي رمضان منها قبض على الوزير عميد الدولة بن جَهِيرٍ، وَعَلَى أَخَوَيْهِ زَعِيمِ الرُّؤَسَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ، وَأَبِي الْبَرَكَاتِ الْمُلَقَّبِ بِالْكَافِي، وَأُخِذَتْ مِنْهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَحُبِسَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ حَتَّى مَاتَ فِي شوال منها. وفي ليلة السابع والعشرين منه قتل الأمير بلكابك سرمز رئيس شِحْنَةُ أَصْبَهَانَ، ضَرَبَهُ بَاطِنِيٌّ بِسِكِّينٍ فِي خَاصِرَتِهِ وقد كان يتحرز منهم كثيرا، وكان يدرع تَحْتَ ثِيَابِهِ سِوَى هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَمَاتَ مِنْ أولاده في هذه الليلة جماعة، خرج من داره خمس جنائز من صبيحتها. وفيها أَقْبَلَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فالتقى معه ستكين ابن انشمند طايلو، إنابك دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَمِينُ الدَّوْلَةِ، وَاقِفُ الْأَمِينِيَّةِ بِدِمَشْقَ وَبِبُصْرَى، لَا الَّتِي بِبَعْلَبَكَّ، فَهَزَمَ الأفرنج وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، بِحَيْثُ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ سِوَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَكْثَرُهُمْ جَرْحَى- يَعْنِي الثلاثة آلاف- وذلك في ذلك القعدة منها، وَلَحِقَهُمْ إِلَى مَلَطْيَةَ فَمَلَكَهَا وَأَسَرَ مَلِكَهَا وللَّه الْحَمْدُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ التُّونْتَاشُ التُّرْكِيُّ وَكَانَ شافعيّ المذهب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْغَزْنَوِيُّ الصُّوفِيُّ
شَيْخُ رِبَاطِ عَتَّابٍ، حَجَّ مَرَّاتٍ عَلَى التَّجْرِيدِ، مَاتَ وَلَهُ نَحْوُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ كَفَنًا، وَقَدْ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لما احتضر: سنفتضح اليوم. قال: لم؟ قالت له: لأنه لَا يُوجَدُ لَكَ كَفَنٌ، فَقَالَ لَهَا: لَوْ تَرَكْتُ كَفَنًا لَافْتُضِحْتُ، وَعَكْسُهُ أَبُو الْحَسَنِ الْبِسْطَامِيُّ شَيْخُ رِبَاطِ ابْنِ الْمِحْلِبَانِ، كَانَ لَا يَلْبَسُ إلا الصوف(12/158)
شِتَاءً وَصَيْفًا، وَيُظْهِرُ الزُّهْدَ، وَحِينَ تُوُفِّيَ وُجِدَ لَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ مَدْفُونَةٌ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ من حاليهما فَرَحِمَ اللَّهُ الْأَوَّلَ وَسَامَحَ الثَّانِي.
الْوَزِيرُ عَمِيدُ الدولة بن جَهِيرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بن جهير الوزير، أبو منصور، كان أحد رؤساء الوزراء، خدم ثلاثة من الخلفاء، وزر لاثنين منهم، وكان حليما قليل العجلة، غير أَنَّهُ كَانَ يُتَكَلَّمُ فِيهِ بِسَبَبِ الْكِبْرِ، وَقَدْ وَلِيَ الْوَزَارَةَ مَرَّاتٍ، يُعْزَلُ ثُمَّ يُعَادُ، ثُمَّ كَانَ آخِرَهَا هَذِهِ الْمَرَّةُ حُبِسَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ السِّجْنِ إِلَّا مَيِّتًا، فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
ابْنُ جَزْلَةَ الطَّبِيبُ
يَحْيَى بْنُ عِيسَى بْنِ جَزْلَةَ صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ فِي الطِّبِّ، كان نصرانيا ثم كان يَتَرَدَّدُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ المغربي يشتغل عليه في المنطق، وكان أَبُو عَلِيٍّ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُوَضِّحُ لَهُ الدلالات حتى أسلم وحسن إسلامه، واستخلفه الدامغانيّ فِي كَتْبِ السِّجِلَّاتِ، ثُمَّ كَانَ يُطَبِّبُ النَّاسَ بعد ذلك بلا أجر، وَرُبَّمَا رَكَّبَ لَهُمُ الْأَدْوِيَةَ مِنْ مَالِهِ تَبَرُّعًا، وَقَدْ أَوْصَى بِكُتُبِهِ أَنْ تَكُونَ وَقْفًا بِمَشْهَدِ أبى حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا آمِينَ،
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا عَظُمَ الْخَطْبُ بِأَصْبَهَانَ وَنَوَاحِيهَا بِالْبَاطِنِيَّةِ فَقَتَلَ السُّلْطَانُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودي فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وَكَانُوا قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَى قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ، وَأَوَّلُ قَلْعَةٍ مَلَكُوهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ الّذي ملكها الحسن بن صباح، أَحَدَ دُعَاتِهِمْ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ مِصْرَ وَتَعَلَّمَ من الزنادقة الذين بِهَا، ثُمَّ صَارَ إِلَى تِلْكَ النَّوَاحِي بِبِلَادِ أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبيا جاهلا، لَا يَعْرِفُ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ يُطْعِمُهُ العسل بالجوز والشونيز، حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَيَكْذِبُ لَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ، أَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَمُنِعُوا حَقَّهُمْ الّذي أوجبه الله لهم ورسوله، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ فَإِذَا كَانَتِ الْخَوَارِجُ تُقَاتِلُ بَنِي أُمَيَّةَ لِعَلِيٍّ، فَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تُقَاتِلَ فِي نُصْرَةِ إِمَامِكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَهُ وَيَصِيرَ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات وَالْحِيَلِ الَّتِي لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى الْجُهَّالِ، حَتَّى الْتَفَّ عَلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وقد بعث إليه السلطان ملك شاه يتهدده وينهاه عن ذلك، وبعث إليه بفتاوى الْعُلَمَاءِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الشَّبَابِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُرْسِلَ مِنْكُمْ رَسُولًا إِلَى مَوْلَاهُ، فَاشْرَأَبَّتْ وُجُوهُ الحاضرين، ثُمَّ قَالَ لِشَابٍ مِنْهُمْ: اقْتُلْ نَفْسَكَ، فَأَخْرَجَ سكينا(12/159)
فَضَرَبَ بِهَا غَلْصَمَتَهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَقَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ: أَلْقِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَرَمَى نَفْسَهُ مِنْ رَأْسِ الْقَلْعَةِ إِلَى أَسْفَلِ خَنْدَقِهَا فتقطع. ثم قال لرسول السلطان هَذَا الْجَوَابُ. فَمِنْهَا امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ مُرَاسَلَتِهِ. هكذا ذكره ابن الجوزي، وسيأتي ما جرى للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فاتح بيت المقدس وما جَرَى لَهُ مَعَ سِنَانٍ صَاحِبِ الْإِيوَانِ مِثْلُ هذا إن شاء الله تعالى.
[وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ باللَّه بفتح جامع القصر وأن لا يُبَيَّضَ وَأَنْ يُصَلَّى فِيهِ التَّرَاوِيحُ وَأَنْ يُجْهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ، وَأَنْ يُمْنَعَ النِّسَاءُ مِنَ الْخُرُوجِ لَيْلًا لِلْفُرْجَةِ. وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ بركيارق إِلَى بَغْدَادَ فَخُطِبَ لَهُ بِهَا ثُمَّ لَحِقَهُ أَخَوَاهُ مُحَمَّدٌ وَسَنْجَرُ فَدَخَلَاهَا وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَبَرَا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ وَخُطِبَ لَهُمَا بها، وهرب بركيارق إِلَى وَاسِطٍ، وَنَهَبَ جَيْشُهُ مَا اجْتَازُوا بِهِ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَرَاضِي، فَنَهَاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ وَوَعَظَهُ فَلَمْ يُفِدْ شَيْئًا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ قِلَاعًا كَثِيرَةً مِنْهَا: قَيْسَارِيَّةُ وسروج، وسار ملك الفرنج كندر- وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ- إِلَى عَكَّا فَحَاصَرَهَا فَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي عُنُقِهِ فَمَاتَ مِنْ فوره لعنه الله.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد
ابن عبد الواحد بن الصباح، أَبُو مَنْصُورٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أبى الطيب الطبري ثم على ابن عمه أبى نصر بن الصباح، وَكَانَ فَقِيهًا فَاضِلًا كَثِيرَ الصَّلَاةِ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِرَبْعِ الْكَرْخِ وَالْحِسْبَةَ بِالْجَانِبِ الغربي.
عبد الله بن الحسن
ابن أبى منصور أبو محمد الطبسي، رحل إلى الآفاق وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَكَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ ثِقَةً صدوقا عالما بالحديث ورعا حسن الخلق.
عبد الرحمن بن أحمد
ابن محمد أبو محمد الرزاز السَّرْخَسِيُّ، نَزَلَ مَرْوَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَمْلَى وَرَحَلَ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَكَانَ حَافِظًا لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مُتَدَيِّنًا ورعا، رحمه الله.
عزيز بن عبد الملك
منصور أبو المعالي الجيلي القاضي الملقب سيد له، كَانَ شَافِعِيًّا فِي الْفُرُوعِ أَشْعَرِيًّا فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ حَاكِمًا بِبَابِ الْأَزَجِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أهل باب الأزج من الحنابلة شنئان كَبِيرٌ، سَمِعَ رَجُلًا يُنَادِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ ضَائِعٍ فَقَالَ: يَدْخُلُ بَابَ الْأَزَجِ وَيَأْخُذُ بِيَدِ مَنْ شَاءَ. وَقَالَ يَوْمًا لِلنَّقِيبِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ: لَوْ حَلَفَ إِنْسَانٌ أَنَّهُ لَا يَرَى إِنْسَانًا فَرَأَى أَهْلَ بَابَ الْأَزَجِ لَمْ يَحْنَثْ. فَقَالَ لَهُ الشَّرِيفُ:
مَنْ عَاشَرَ قَوْمًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ فَرِحُوا بِمَوْتِهِ كثيرا.(12/160)
محمد بن أحمد
ابن عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَوْقٍ، أَبُو الْفَضَائِلِ الرَّبَعِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَسَمِعَ مِنَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا كَتَبَ الكثير.
محمد بن الحسن
أبو عبد الله المرادي، نزل أوان وكان مقرئا فقيها صالحا، له كرامات وَمُكَاشَفَاتٌ، أَخَذَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ القراء الْحَدِيثَ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا طَلَبَ مِنْهُ غَزَالًا وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ غَدًا يَأْتِيكَ غزال. فلما كان الغد أتت غزال فصارت تنطح الباب بقرنيها حتى فتحته، فقال له أبوه: يا بنى أتتك الغزال.
محمد بن على بن عبيد الله
ابن أَحْمَدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَدْعَانَ، أبو نصر الموصل الْقَاضِي، قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَحَدَّثَ عن عمه بالأربعين الْوَدْعَانِيَّةِ، وَقَدْ سَرَقَهَا عَمُّهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ وَدْعَانَ مِنْ زَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الْهَاشِمِيِّ، فَرَكَّبَ لَهَا أَسَانِيدَ إِلَى مَنْ بَعْدَ زَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ فِي بعضها معاني صَحِيحَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ
أَبُو سَعْدٍ الْمُسْتَوْفِي شَرَفُ الْمُلْكِ الْخُوَارَزْمِيُّ، جَلِيلُ الْقَدْرِ، وَكَانَ مُتَعَصِّبًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَقَفَ لَهُمْ مَدْرَسَةً بِمَرْوَ، وَوَقَفَ فِيهَا كُتُبًا كَثِيرَةً، وَبَنَى مَدْرَسَةً بِبَغْدَادَ عِنْدَ بَابِ الطَّاقِ، وَبَنَى الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَنَى أَرْبِطَةً فِي المفاوز، وعمل خيرا كثيرا، وكان من آكل النَّاسِ مَأْكَلًا وَمَشْرَبًا، وَأَحْسَنِهِمْ مَلْبَسًا، وَأَكْثَرِهِمْ مَالًا، ثم نزل الْعِمَالَةَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ والاشتغال بنفسه إلى أن مات.
محمد بن منصور القسري
الْمَعْرُوفُ بِعَمِيدِ خُرَاسَانَ، قَدِمَ بَغْدَادَ أَيَّامَ طُغْرُلْبَكَ وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بن مسرور، وكان كثيرا الرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ، وَقَفَ بِمَرْوَ مَدْرَسَةً عَلَى أبى بكر بن أبى المظفر السمعاني وورثته. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهَا إِلَى الْآنِ، وَبَنَى بِنَيْسَابُورَ مَدْرَسَةً، وَفِيهَا تُرْبَتُهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
نَصْرُ بْنُ أحمد
ابن عبد الله بن البطران الخطابي البزار الْقَارِئُ. وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَفَرَّدَ عَنِ ابْنِ رِزْقَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَطَالَ عمره، ورحل إليه من الآفاق، وكان صحيح السماع] [1]
__________
[1] زيادة من المصرية.(12/161)
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة
في ثالث المحرم منها قُبِضَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِإِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَعُزِلَ عَنْ تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَمَاهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِأَنَّهُ بَاطِنِيٌّ، فَشَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ- مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ- بِبَرَاءَتِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الرِّسَالَةُ من دار الخلافة يوم الثلاثاء بخلاصه. وفيها في يوم الثلاثاء الحادي عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِدَارِ الخلافة وعلى كتفيه البردة والقضيب بيده، وجاء الملكان الأخوان محمد وسنجر أبناء ملك شاه، فَقَبَّلَا الْأَرْضَ وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةِ، عَلَى محمد سيفا وطوقا وسوار لؤلؤ وَأَفْرَاسًا مِنْ مَرَاكِبِهِ، وَعَلَى سَنْجَرَ دُونَ ذَلِكَ، وولى السلطان محمد الملك، واستنابه في جميع ما يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ، دُونَ مَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بَابَهُ، ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فِي تاسع عشر الشهر فأرجف الناس، وخرج بركيارق فأقبل السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَالْتَقَوْا وَجَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ وَجَرَى عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ شَدِيدٌ، كَمَا سَيَأْتِي بيانه. وفي رجب منها قبل القاضي أبو الحسن ابن الدامغانيّ شهادة أبى الحسين وأبى حازم ابني القاضي أبى يعلى ابن الْفَرَّاءِ. وَفِيهَا قَدِمَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ القونوي فَوَعَظَ النَّاسَ وَكَانَ شَافِعِيًّا أَشْعَرِيًّا، فَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ حُمَيْدٌ الْعُمَرِيُّ صَاحِبُ سيف الدولة صدقة بن منصور ابن دبيس، صاحب الحلة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو الْقَاسِمِ صاحب مصر
الخليفة الملقب بالمستعلى، في ذي الحجة منها، وقام بالأمر بَعْدِهِ ابْنُهُ عَلِيٌّ وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ، وَلُقِّبَ بالآمر بِأَحْكَامِ اللَّهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ
أَبُو نصر القاضي البندنيجي الضرير الفقيه الشافعيّ، أخذ عن الشيخ أبى إسحاق ثُمَّ جَاوَرَ بِمَكَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يُفْتِي وَيُدَرِّسُ ويروى الحديث ويحج، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
عَدِمْتُكِ نَفْسِي مَا تَمَلِّي بطالتى ... وقد مر أصحابى وَأَهْلُ مَوَدَّتِي
أُعَاهِدُ رَبِّي ثُمَّ أَنْقُضُ عَهْدَهُ ... وَأَتْرُكُ عَزْمِي حِينَ تُعْرِضُ شَهْوَتِي
وَزَادِي قَلِيلٌ ما أراه مبلغي ... أللزاد أبكى أم لبعد مَسَافَتِي؟
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فيها حاصر السلطان بركيارق أَخَاهُ مُحَمَّدًا بَأَصْبَهَانَ، فَضَاقَتْ عَلَى أَهْلِهَا الْأَرْزَاقُ، وَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ عِنْدَهُمْ جِدًّا، وَأَخَذَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ أَهْلَهَا بِالْمُصَادَرَةِ وَالْحِصَارُ حَوْلَهُمْ مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ، فاجتمع عليهم الْخَوْفِ وَالْجُوعِ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْبَهَانَ هَارِبًا(12/162)
فَأَرْسَلَ أَخُوهُ فِي أَثَرِهِ مَمْلُوكَهُ إِيَازَ، فَلَمْ يتمكن من القبض عليه، وَنَجَا بِنَفْسِهِ سَالِمًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا زِيدَ فِي أَلْقَابِ قَاضِي الْقُضَاةِ أبى الحسن بن الدَّامَغَانِيِّ تَاجُ الْإِسْلَامِ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُطِعَتِ الْخُطْبَةُ لِلسَّلَاطِينِ بِبَغْدَادَ، وَاقْتُصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَلِيفَةِ فيها، والدعاء له، ثم التقى الأخوان بركيارق وَمُحَمَّدٌ، فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا ثُمَّ اصْطَلَحَا. وَفِيهَا ملك دقاق بن تتش صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ الرَّحْبَةِ.
وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْخُجَنْدِيُّ الْوَاعِظُ بِالرَّيِّ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا مُدَرِّسًا، قَتَلَهُ رَافِضِيٌّ عَلَوِيٌّ فِي الْفِتْنَةِ، وَكَانَ عالما فاضلا، كان نِظَامُ الْمُلْكِ يَزُورُهُ وَيُعَظِّمُهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ على
ابن عبد الله بن سوار، أبو طاهر المقري، صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ، كَانَ ثِقَةً ثَبَتًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِهَذَا الشَّأْنِ، قَدْ جَاوَزَ الثمانين.
أَبُو الْمَعَالِي
أَحَدُ الصُّلَحَاءِ الزُّهَّادِ، ذَوِي الْكَرَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، لَا يَلْبَسُ صَيْفًا وَلَا شِتَاءً إِلَّا قَمِيصًا وَاحِدًا، فَإِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ وَضَعَ عَلَى كَتِفِهِ مِئْزَرًا، وَذُكِرَ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فِي شهر رمضان، فعزم على الذهاب إلى بعض الأصحاب لِيَسْتَقْرِضَ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ:
فَبَيْنَمَا أَنَا أُرِيدُهُ إِذَا بِطَائِرٍ قَدْ سَقَطَ عَلَى كَتِفِي، وَقَالَ يَا أَبَا الْمَعَالِي أَنَا الْمَلَكُ الْفُلَانِيُّ، لَا تَمْضِ إِلَيْهِ نَحْنُ نَأْتِيكَ بِهِ، قَالَ فَبَكَّرَ إِلَيَّ الرَّجُلُ. رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ من طرق عدة، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ أَحْمَدَ.
السَّيِّدَةُ بِنْتُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ الله
أمير المؤمنين التي تزوجها طغرلبك، ودفنت بالرصافة، وكانت كثيرة الصدقة، وَجَلَسَ لِعَزَائِهَا فِي بَيْتِ النُّوبَةِ الْوَزِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ الْفِرِنْجُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ الشَّامَ فَقَاتَلَهُمُ المسلمون فقتلوا من الفرنج اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَقَدْ أُسِرَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ بَرْدَوِيلُ صَاحِبُ الرها. وفيها سَقَطَتْ مَنَارَةُ وَاسِطٍ وَقَدُ كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ المنائر، كان أهل البلد يفتخرون بها وبقية الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ سُمِعَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ بُكَاءٌ وعويل شديد، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَهْلِكْ بِسَبَبِهَا أَحَدٌ، وَكَانَ بِنَاؤُهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي زَمَنِ المقتدر. وفيها تأكد الصلح بين الأخوين السلطانين بركيارق ومحمد، وَبُعِثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَإِلَى الْأَمِيرِ إِيَازَ. وَفِيهَا أخذت مَدِينَةَ عَكَّا وَغَيْرَهَا مِنَ السَّوَاحِلِ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورٍ صَاحِبُ الْحِلَّةِ عَلَى مَدِينَةِ وَاسِطٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ(12/163)
صَاحِبُ دِمَشْقَ، فَأَقَامَ مَمْلُوكُهُ طُغْتِكِينُ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا مَكَانَهُ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لَهُ، وَصَارَ هُوَ أتابكه بدير المملكة مدة بدمشق. وَفِيهَا عَزَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ وَزِيرَهُ أَبَا الْفَتْحِ الطُّغْرَائِيَّ وَنَفَاهُ إِلَى غَزْنَةَ. وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو نصر نظام الحضريين ديوان الإنشاء، وَفِيهَا قُتِلُ الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ أَبُو نُعَيْمٍ، وكانت له إصابات عجيبة. وحج بالناس فيها الأمير خمارتكين.
وممن توفى فيها من الأعيان
أزدشير بن منصور
أبو الحسن العبادي الواعظ، تقدم أنه قدم بغداد فوعظ بها فَأَحَبَّتْهُ الْعَامَّةُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ جَيِّدَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ وَاللَّهُ أعلم.
إسماعيل بن محمد
ابن أحمد بن عثمان، أبو الفرج القومساني، من أهل همدان، سمع من أبيه وجده. وكان حافظا حسن المعرفة بالرجال وأنواع الفنون، مأمونا.
العلاء بن الحسن بن وهب
ابن الموصلايا، سعد الدولة، كاتب الإنشاء ببغداد، وكان نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ فَمَكَثَ في الرئاسة مُدَّةً طَوِيلَةً، نَحْوًا مِنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وكان فصيح العبارة، كثير الصدقة، وتوفى عن عمر طويل
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ
أَبُو عُمَرَ النَّهَاوَنْدِيُّ. قَاضِي الْبَصْرَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكَانَ فَقِيهًا، سمع من أبى الحسن الماوردي وغيره مولده في سنة سبع، وقيل تسع، وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وتسعين وأربعمائة
فيها توفى السلطان بركيارق وعهد إلى ولده الصغير ملك شاه، وعمره أربع سنين وشهور، وخطب لَهُ بِبَغْدَادَ، وَنُثِرَ عِنْدَ ذِكْرِهِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ، وجعل أتابكه الأمير أياز ولقب جلال الدولة، ثم جاء السلطان محمد إلى بغداد فخرج إليه أهل الدولة ليتلقوه وَصَالَحُوهُ، وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ الْبَيْعَةَ بِالصُّلْحِ إِلْكِيَا الهراسي، وَخُطِبَ لَهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَلِابْنِ أَخِيهِ بِالْجَانِبِ الشرقي، ثم قتل الأمير أياز وحملت إليه الخلع والدولة وَالدَّسْتُ، وَحَضَرَ الْوَزِيرُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ عِنْدَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، فِي دَرْسِ النِّظَامِيَّةِ، لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي العلم، وفي ثامن رَجَبٍ مِنْهَا أُزِيلُ الْغِيَارُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الذين كَانُوا أُلْزِمُوهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ مَا سَبَبُ ذَلِكَ. وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مَا بَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْفِرِنْجِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ أُدِيلَ عَلَيْهِمُ الفرنج فقتلوا منهم خلقا.
وممن توفى فيها من الأعيان
السلطان بركيارق بن ملك شاه
ركن الدولة السلجوقي، جرت له خطوب طويلة وحروب هائلة، خطب له ببغداد ست مرات،(12/164)
ثم تنقطع الخطبة له ثم تعاد، مات وله من العمر أربع وعشرون سنة وشهورا، ثم قام من بعده ولده ملك شاه، فلم يتم له الأمر بسبب عمه محمد.
عيسى بن عبد الله
القاسم أبو الوليد الغزنوي الأشعري، كان متعصبا للأشعرى، خرج من بغداد قاصدا لبلده فَتُوُفِّيَ بِإِسْفَرَايِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
ابن سِلَفَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَبُو أَحْمَدَ، كَانَ شَيْخًا عَفِيفًا ثِقَةً، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَهُوَ وَالِدُ الْحَافِظِ أَبِي طاهر السلفي الحافظ.
أبو على الخيالى الحسين بن محمد
ابن أَحْمَدَ الْغَسَّانِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ، مُصَنِّفُ تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ عَلَى الألفاظ، وَهُوَ كِتَابٌ مُفِيدٌ كَثِيرُ النَّفْعِ وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ يُسْمَعُ فِي جَامِعِ قُرْطُبَةَ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثِنْتَيْ عشرة خلت من شعبان، عن إحدى وسبعين سنة.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الصَّقْرِ
أَبُو الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَقَرَأَ الْأَدَبَ وَقَالَ الشعر. من ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَنْ قَالَ لِي جَاهٌ وَلِي حِشْمَةٌ ... وَلِي قَبُولٌ عِنْدَ مَوْلَانَا
وَلَمْ يَعُدْ ذاك بنفع على ... صديقه لا كان ما كَانَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ادَّعَى رَجُلٌ النُّبُوَّةَ بِنَوَاحِي نهاوند، وسمى أربعة من أصحابه بأسماء الخلفاء الأربعة فاتبعه على ضلالته خَلْقٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الرَّعَاعِ، وَبَاعُوا أَمْلَاكَهُمْ وَدَفَعُوا أَثْمَانَهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ كَرِيمًا يُعْطِي مَنْ قَصَدَهُ مَا عِنْدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ قُتِلَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ. وَرَامَ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ وَلَدِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ الْمُلْكَ فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ، بَلْ قُبِضَ عَلَيْهِ فِي أَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ادَّعَى رَجُلٌ النُّبُوَّةَ وَآخَرُ الْمُلْكَ، فَمَا كان بأسرع من زوال دولتهما. وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ، وَغَرِقَتْ دُورٌ كثيرة ببغداد. وفيها كسر طغتكين أتابك عساكر دمشق الفرنج، وعاد مؤيدا منصورا إلى دمشق، وزينت البلد زينة عجيبة مليحة، سرورا بكسره الفرنج. وفيها في رمضان منها حَاصَرَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ حَلَبَ مدينة نصيبين، وفيها ورد إلى بغداد ملك من الملوك وَصُحْبَتُهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْفَقِيهُ، فَوَعَظَ النَّاسَ في جامع القصر. وحج بالناس رجل من أقرباء الأمير سيف الدولة صدقة.(12/165)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو الْفَتْحِ الْحَاكِمُ
سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَلَّقَ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ طَرِيقَهُ وَشَكَرَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ أَوَّلًا عَلَى الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ، ثُمَّ تَفَقَّهَ وَعَلَّقَ عن إمام الحرمين في الأصول بحضرته، واستجادة وولى بلده مدة طويلة، وناظر، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَبَنَى لِلصُّوفِيَّةِ رِبَاطًا مِنْ مَالِهِ، وَلَزِمَ التَّعَبُّدَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
محمد بن أحمد
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَبُو منصور الحناط، أحد القراء والصلحاء، ختم ألوفا من الناس، وسمع الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَحِينَ تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ الْعَالَمُ فِي جنازته اجتماعا لم يجتمع لغيره مثله، ولم يعهد له نظير في تلك الْأَزْمَانِ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ سَبْعًا وَتِسْعِينَ سنة رحمه الله، وقد رثاه الشعراء، وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِتَعْلِيمِي الصِّبْيَانَ الْفَاتِحَةَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ
ابن الْحُسَيْنِ، أَبُو الْفَرَجِ الْبَصْرِيُّ قَاضِيهَا، سَمِعَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ وَالْمَاوَرْدِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَرَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ عَابِدًا خَاشِعًا عِنْدَ الذِّكْرِ.
مُهَارِشُ بن مجلى
أمير العرب بحديثة غانة، وَهُوَ الَّذِي أُودِعَ عِنْدَهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، حين كانت فتنة البساسيري، فَأَكْرَمَ الْخَلِيفَةَ حِينَ وَرَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَازَاهُ الخليفة الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَكَانَ الْأَمِيرُ مُهَارِشٌ هَذَا كَثِيرَ الصدقة والصلاة، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خمسمائة من الهجرة
قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَنْ يُعْجِزَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ نِصْفِ يوم» . حدثنا عمر وبن عُثْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عبيد عن سعد ابن أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهَا نِصْفَ يَوْمٍ. قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ» . وَهَذَا مِنْ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ. وَذِكْرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يَنْفِي زِيَادَةً عَلَيْهَا، كَمَا هو الواقع، لأنه عليه السلام ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا كَمَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا بَعْدَ زَمَانِنَا، وباللَّه الْمُسْتَعَانُ.
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ أَنَّ السلطان محمد بن ملك شاه حَاصَرَ قِلَاعًا كَثِيرَةً مِنْ حُصُونِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَافْتَتَحَ منها أماكن كثيرة، وقتل خلقا منهم، منها قَلْعَةً حَصِينَةً كَانَ أَبُوهُ قَدْ بَنَاهَا بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْبَهَانَ، فِي رَأْسِ جَبَلٍ مَنِيعٍ هُنَاكَ، وَكَانَ سَبَبُ بِنَائِهِ لَهَا أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً فِي بَعْضِ صُيُودِهِ(12/166)
فَهَرَبَ مِنْهُ كَلْبٌ فَاتَّبَعَهُ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ فَوَجَدَهُ، وَكَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ رُسُلِ الرُّومِ، فَقَالَ الرُّومِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا الْجَبَلُ بِبِلَادِنَا لَاتَّخَذْنَا عَلَيْهِ قَلْعَةً، فَحَدَا هَذَا الْكَلَامُ السُّلْطَانَ إِلَى أَنِ ابْتَنَى فِي رَأْسِهِ قَلْعَةً أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، ثم استحوذ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ يُقَالُ له أحمد بن عبد الله بن عطاء، فَتَعِبَ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِهَا، فَحَاصَرَهَا ابْنُهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ سَنَةً حَتَّى افْتَتَحَهَا، وَسَلَخَ هَذَا الرَّجُلَ وَحَشَى جلده تبنا وقطع رأسه، وطاف بِهِ فِي الْأَقَالِيمِ، ثُمَّ نَقَضَ هَذِهِ الْقَلْعَةَ حَجَرًا حَجَرًا، وَأَلْقَتِ امْرَأَتُهُ نَفْسَهَا مِنْ أَعْلَى الْقَلْعَةِ فَتَلِفَتْ، وَهَلَكَ مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَشَاءَمُونَ بِهَذِهِ الْقَلْعَةِ، يَقُولُونَ: كَانَ دَلِيلُهَا كَلْبًا، وَالْمُشِيرُ بِهَا كَافِرًا، وَالْمُتَحَصِّنُ بِهَا زِنْدِيقًا.
وَفِيهَا وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بين بنى خفاجة وبين بنى عبادة، فقهرت عبادة خفاجة وأخذت بثأرها المتقدم منها. وفيها استحوذ سيف الدولة صدقة عَلَى مَدِينَةِ تِكْرِيتَ بَعْدَ قِتِالٍ كَثِيرٍ. وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْأَمِيرَ جَاوَلِي سَقَاوُو إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَقْطَعُهُ إِيَّاهَا، فَذَهَبَ فَانْتَزَعَهَا مِنَ الْأَمِيرِ جكرمش بعد ما قَاتَلَهُ وَهَزَمَ أَصْحَابَهُ وَأَسَرَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ جَكرمشُ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ سِيرَةً وَعَدْلًا وَإِحْسَانًا، ثُمَّ أَقْبَلَ قَلْجُ أَرْسَلَانَ بْنُ قُتُلْمِشَ فَحَاصَرَ الْمَوْصِلَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ جَاوْلِي، فَصَارَ جَاوْلِي إِلَى الرَّحْبَةِ، فَأَخَذَهَا ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى قِتَالِ قَلْجَ فَكَسَرَهُ وَأَلْقَى قَلْجُ نَفْسَهُ فِي النَّهْرِ الَّذِي لِلْخَابُورِ فَهَلَكَ. وَفِيهَا نَشَأَتْ حروب بين الروم والفرنج فاقتتلوا قتالا عظيما وللَّه الحمد، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ، ثُمَّ كَانَتِ الهزيمة على الفرنج وللَّه الحمد رب العالمين.
قتل فخر الملك أبو المظفر
وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْهَا قُتِلَ فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ أَكْبَرَ أولاد أبيه، وَهُوَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ صَائِمًا، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَكَانَ قَدْ رَأَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: عَجِّلْ إِلَيْنَا وَأَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ، فَأَصْبَحَ مُتَعَجِّبًا، فنوى الصوم ذلك اليوم، وأشار إليه بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ الْمَنْزِلِ، فَمَا خَرَجَ إِلَّا فِي آخِرِ النَّهَارِ فَرَأَى شَابًّا يَتَظَلَّمُ وَفِي يَدِهِ رُقْعَةٌ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَنَاوَلَهُ الرُّقْعَةَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَؤُهَا إِذْ ضَرَبَهُ بِخَنْجَرٍ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَأُخِذَ الْبَاطِنِيُّ فَرُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ فَقَرَّرَهُ فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَزِيرِ أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِذَلِكَ، وكان كاذبا، فقتل وقتلوا أيضا. وفي رابع عشر صَفَرٍ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ جَهِيرٍ وَخَرَّبَ دَارَهُ الَّتِي كَانَ قَدْ بَنَاهَا أَبُوهُ، مِنْ خَرَابِ بُيُوتِ النَّاسِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِذَوِي الْبَصَائِرِ وَالنُّهَى، وَاسْتُنِيبَ فِي الْوَزَارَةِ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ، ومعه آخر. وحج بالناس فيها الأمير تركمان واسمه اليرن، من جهة الأمير محمد بن ملك شاه.(12/167)
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ
أَبُو الْمُظَفَّرِ الْخَوَافِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ أَنْظَرَ أَهْلِ زَمَانِهِ، تَفَقَّهَ عَلَى إمام الحرمين، وكان أوجه تلامذته، وقد ولى القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهورا بِحُسْنِ الْمُنَاظَرَةِ وَإِفْحَامِ الْخُصُومِ. قَالَ وَالْخَوَافِيُّ بِفَتْحِ الخاء والواو نسبة إلى خواف، ناحية من نواحي نيسابور.
جعفر بن أحمد
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ السَّرَّاجُ، أَبُو محمد القاري الْبَغْدَادِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالرِّوَايَاتِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّاتِ، مِنَ الْمَشَايِخِ وَالشَّيْخَاتِ فِي بُلْدَانٍ مُتَبَايِنَاتٍ، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَجْزَاءً مَسْمُوعَاتِهِ، وَكَانَ صَحِيحَ الثَّبَتِ، جَيِّدَ الذِّهْنِ، أَدِيبًا شاعرا، حسن النظم، نظم كتابا في القراءات، وكتاب التنبيه والخرقى وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَهُ كِتَابُ مَصَارِعِ الْعُشَّاقِ وَغَيْرُ ذلك، ومن شعره قوله:
قتل الذين بِجَهْلِهِمْ ... أَضْحَوْا يَعِيبُونَ الْمَحَابِرْ
وَالْحَامِلِينَ لَهَا مِنَ ... الأيدي بمجتمع الأساور
لولا المحابر والمقالم ... والصحائف والدفاتر
والحافظون شريعة ... المبعوث مِنْ خَيْرِ الْعَشَائِرِ
وَالنَّاقِلُونَ حَدِيثَهُ عَنْ ... كَابِرٍ ثبت وكابر
لرأيت من بشع الضلال ... عَسَاكِرًا تَتْلُو عَسَاكِرْ
كُلٌّ يَقُولُ بِجَهْلِهِ ... وَاللَّهُ للمظلوم ناصر
سميتهم أهل الحديث ... أولى النهى وأولى البصائر
هُمْ حَشْوُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ... عَلَى الْأَسِرَّةِ وَالْمَنَابِرْ
رُفَقَاءُ أَحْمَدَ كُلُّهُمْ ... عَنْ حَوْضِهِ رَيَّانُ صَادِرْ
وَذَكَرَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْعَارًا رَائِقَةً مِنْهَا قَوْلُهُ:
وَمُدًّعٍ شَرْخَ الشَّبَابِ وَقَدْ ... عَمَّمَهُ الشَّيْبُ عَلَى وَفْرَتِهِ
يَخْضِبُ بِالْوَشْمَةِ عُثْنُونَهُ ... يَكْفِيهِ أَنْ يَكْذِبَ فِي لِحْيَتِهِ
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ
ابن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيُّ الْفَارِسِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ وَوَلَّاهُ نِظَامُ الْمُلْكِ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، فَدَرَّسَ بِهَا مُدَّةً، وَكَانَ يُمْلِي الْأَحَادِيثَ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّصْحِيفِ، رَوَى مَرَّةً حَدِيثَ «صَلَاةٌ فِي أَثَرِ صَلَاةٍ كِتَابٌ فِي عليين» . فقال:(12/168)
كتاب فِي غَلَسٍ. ثُمَّ أَخَذَ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أكثر لإضاءتها.
محمد بن إبراهيم
ابن عبيد الأسدي الشاعر، لقي الخنيسي التِّهَامِيَّ، وَكَانَ مُغْرَمًا بِمَا يُعَارِضُ شِعْرَهُ، وَقَدْ أَقَامَ بِالْيَمَنِ وَبِالْعِرَاقِ ثُمَّ بِالْحِجَازِ ثُمَّ بِخُرَاسَانَ، وَمِنْ شَعْرِهِ:
قُلْتُ ثَقَّلْتُ إِذْ أَتَيْتُ مِرَارًا ... قَالَ ثَقَّلْتَ كَاهِلِي بِالْأَيَادِي
قُلْتُ طَوَّلْتُ قَالَ بل تطولت ... قلت مزقت قال حبل ودادي
يُوسُفُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو الْقَاسِمِ الزَّنْجَانِيُّ الْفَقِيهُ، كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ، حَكَى عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي حَلْقَةٍ فَجَاءَ شَابٌّ خُرَاسَانِيُّ فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ في المطر فقال الشاب: غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَقَطَتْ مِنْ سَقْفِ الْمَسْجِدِ حَيَّةٌ فَنَهَضَ النَّاسُ هَارِبِينَ وتبعت الْحَيَّةُ ذَلِكَ الشَّابَّ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ تُبْ تُبْ. فَقَالَ: تُبْتُ، فَذَهَبَتْ فَلَا نَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَتْ. رَوَاهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْمُعَمَّرِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ من الهجرة
فيها جدد الخليفة الخلع على وزيره الجديد أَبِي الْمَعَالِي هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْوَزِيرُ وَالْأَعْيَانُ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ من جيشه إلى شيء. وغضب السلطان عَلَى صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورٍ الْأَسَدِيِّ صَاحِبِ الْحِلَّةِ وَتَكْرِيتَ بِسَبَبٍ أَنَّهُ آوَى رَجُلًا مِنْ أَعْدَائِهِ يقال له أبو دلف سرحان الدَّيْلَمِيُّ، صَاحِبُ سَاوَةَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ لِيُرْسِلَهُ إِلَيْهِ فلم يفعل، فأرسل إليه جيشا فهزموا جيش صدقة. وَقَدْ كَانَ جَيْشَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَقُتِلَ صَدَقَةُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ وَأَخَذُوا مِنْ زَوْجَتِهِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَظَهَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَبِيَّةٌ عَمْيَاءُ تتكلم على أسرار الناس، وما في نفوسهم من الضمائر والنيات، وبالغ الناس في أنواع الحيل عليها لِيَعْلَمُوا حَالَهَا فَلَمْ يَعْلَمُوا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَأَشْكَلَ أَمْرُهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، حَتَّى سألوها عَنْ نُقُوشِ الْخَوَاتِمِ الْمَقْلُوبَةِ الصَّعْبَةِ، وَعَنْ أَنْوَاعِ الْفُصُوصِ وَصِفَاتِ الْأَشْخَاصِ وَمَا فِي دَاخِلِ الْبَنَادِقِ من المشمع والطين المختلف، والخرق وغير ذلك فتخبر به سواء بسواء، حتى بالغ أحدهم ووضع يده على ذكره وسألها عن ذلك فَقَالَتْ: يَحْمِلُهُ إِلَى أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ. وَفِيهَا قَدِمَ القاضي فخر الملك أبو عبيد على صَاحِبُ طَرَابُلُسَ إِلَى بَغْدَادَ يَسْتَنْفِرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَبَعَثَ مَعَهُ الْجُيُوشَ الْكَثِيرَةَ لقتال الفرنج(12/169)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
تَمِيمُ بْنُ المعز بن باديس
صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك حلما وَكَرَمًا، وَإِحْسَانًا، مَلَكَ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعُمِّرَ تسعا وتسعين سنة، وترك من البنين أنهد مِنْ مِائَةٍ، وَمِنَ الْبَنَاتِ سِتِّينَ بِنْتًا، وَمَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ يَحْيَى، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا مُدِحَ بِهِ الْأَمِيرُ تَمِيمٌ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَصَحُّ وأعلى ما سمعناه في الندا ... مِنَ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ مُنْذُ قَدِيمِ
أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا ... عَنِ الْبَحْرِ عَنِ كَفِّ الأمير تميم
صدقة بن منصور
ابن دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ وَتَكْرِيتَ وَوَاسِطٍ وَغَيْرِهَا، كَانَ كَرِيمًا عَفِيفًا ذَا ذِمَامٍ، مَلْجَأً لِكُلِّ خائف يأمن في بلاده، وتحت جناحه، وكان يقرأ الكتب المشكلة ولا يحسن الكتابة، وقد اقتنى كتبا نفيسة جدا، وَكَانَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى امْرَأَةٍ قَطُّ، وَلَا يَتَسَرَّى عَلَى سُرِّيَّةٍ حِفْظًا لِلذِّمَامِ، وَلِئَلَّا يَكْسِرَ قَلْبَ أَحَدٍ، وَقَدْ مُدِحَ بِأَوْصَافٍ جَمِيلَةٍ كَثِيرَةٍ جدا.
قتل في بعض الحروب، قتله غلام اسمه برغش، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ تَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ المستظهر بالخاتون بنت ملك شاه أُخْتِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَنُثِرَ الذَّهَبُ، وَكُتِبَ الْعَقْدُ بِأَصْبَهَانَ. وَفِيهَا كانت الحروب الكثيرة بَيْنَ الْأَتَابِكِ طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ. وَفِيهَا مَلَكَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيُّ الْحِلَّةَ السَّيْفِيَّةَ. وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً فَغَرِقَتِ الْغَلَّاتُ فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَلَاءً شَدِيدًا. وحج بالناس الأمير قيماز.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ الْعَلَوِيُّ
أبو هاشم ابن رئيس همدان، وكان ذا مال جزيل، صادره السلطان في بعض الأوقات بِتِسْعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَوَزَنَهَا وَلَمْ يَبِعْ فِيهَا عقارا ولا غيره.
الحسن بن على
أبو الفوارس بن الْخَازِنِ، الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ بِالْخَطِّ الْمَنْسُوبِ. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَتَبَ بيده خمسمائة ختمة، مات فجأة.
الروياني صاحب البحر
عبد الواحد بن إسماعيل، أَبُو الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيُّ، مِنْ أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ حَتَّى بَلَغَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَحَصَّلَ عُلُومًا جَمَّةً، وَسَمِعَ(12/170)
الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي الْمَذْهَبِ، مِنْ ذَلِكَ الْبَحْرُ فِي الْفُرُوعِ، وَهُوَ حَافِلٌ كَامِلٌ شَامِلٌ لِلْغَرَائِبِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمَثَلِ «حَدِّثْ عَنِ الْبَحْرِ وَلَا حَرَجَ» وَكَانَ يَقُولُ: لَوِ احْتَرَقَتْ كُتُبُ الشَّافِعِيِّ أَمْلَيْتُهَا مِنْ حِفْظِي، قُتِلَ ظُلْمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَامِعِ بطبرستان، قتله رجل من أهلها رحمه الله. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ نَاصِرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَعَلَّقَ عَنْهُ، وَكَانَ لِلرُّويَانِيِّ الْجَاهُ الْعَظِيمُ، والحرمة الوافرة، وَقَدْ صَنَّفَ كُتُبًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، مِنْهَا بَحْرُ الْمَذْهَبِ، وَكِتَابُ مَنَاصِيصِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَكِتَابُ الكافي، وحلية المؤمن، وله كتب في الخلاف أيضا.
يحيى بن على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بِسْطَامٍ، الشَّيْبَانِيُّ التَّبْرِيزِيُّ، أَبُو زَكَرِيَّا، أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، قَرَأَ عَلَى أَبِي الْعَلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَتَخَرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ منهم منصور بن الْجَوَالِيقِيِّ. قَالَ ابْنُ نَاصِرٍ: وَكَانَ ثِقَةً فِي النَّقْلِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرُونَ: لَمْ يَكُنْ مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشيرازي بباب أبرز والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ وَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَوُا الْحَرِيمَ وَالْأَطْفَالَ، وَغَنِمُوا الْأَمْتِعَةَ وَالْأَمْوَالَ، ثُمَّ أَخَذُوا مَدِينَةَ جَبَلَةَ بَعْدَهَا بِعَشْرِ لَيَالٍ، فَلَا حول ولا قوة إلا باللَّه الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ. وَقَدْ هَرَبَ مِنْهُمْ فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ، فَقَصَدَ صَاحِبَ دِمَشْقَ طُغْتِكِينَ فَأَكْرَمَهُ وَأَقْطَعَهُ بِلَادًا كَثِيرَةً. وَفِيهَا وَثَبَ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي نَصْرِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ فَجَرَحَهُ ثُمَّ أُخِذَ الْبَاطِنِيُّ فَسُقِيَ الْخَمْرَ فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ فَأُخِذُوا فَقُتِلُوا. وَحَجَّ بالناس الأمير قيماز.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ على
ابن أحمد، أبو بكر العلويّ، كَانَ يَعْمَلُ فِي تَجْصِيصِ الْحِيطَانِ، وَلَا يَنْقُشُ صُورَةً، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَكَانَتْ له أملاك ينتفع مِنْهَا وَيَتَقَوَّتُ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْقَاضِي أبى يعلى، وتفقه عليه بشيء مِنَ الْفِقْهِ، وَكَانَ إِذَا حَجَّ يَزُورُ الْقُبُورَ بِمَكَّةَ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى قَبْرِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ يَخُطُّ إِلَى جَانِبِهِ خَطًّا بِعَصَاهُ وَيَقُولُ يا رب هاهنا. فقيل أَنَّهُ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ مُحْرِمًا فَتُوفِّيَ بِهَا مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَطِيفَ بِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ ثُمَّ دُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي ذلك المكان الّذي كان يخطه بعصاه، وبلغ الناس وفاته ببغداد فاجتمعوا للصلاة عليه صلاة الغائب، حتى لو مات بين أظهرهم لم يكن عندهم مزيد على ذلك الجمع، رحمه الله.
عمر بن عبد الكريم
ابن سعدويه الفتيان الدهقاني، رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَدَارَ الدُّنْيَا، وَخَرَّجَ وانتخب، وكان(12/171)
لَهُ فِقْهٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَكَانَ ثِقَةً، وَقَدْ صَحَّحَ عَلَيْهِ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ كِتَابَ الصَّحِيحَيْنِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَرْخَسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
محمد ويعرف بأخي حماد
وكان أَحَدَ الصُّلَحَاءِ الْكِبَارِ، كَانَ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَعُوفِيَ، فَلَزِمَ مَسْجِدًا لَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يَخْرُجُ إِلَّا إِلَى الْجُمُعَةِ، وَانْقَطَعَ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي زَاوِيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وخمسمائة
في أولها تَجَهَّزَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَغَادِدَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرُهُمْ، ومنهم ابن الذاغوني، للخروج إلى الشام لأجل الجهاد، وقتال الفرنج، وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن عديدة، مِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ صَيْدَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَذَا غَيْرُهَا مِنَ الْمَدَائِنِ، ثُمَّ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ حِينَ بَلَغَهُمْ كَثْرَةُ الْفِرِنْجِ. وَفِيهَا قَدِمَتْ خاتون بنت ملك شاه زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَادَ فَنَزَلَتْ فِي دَارِ أَخِيهَا السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ حُمِلَ جِهَازُهَا عَلَى مائة واثنين وَسِتِّينَ جَمَلًا، وَسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَغْلًا، وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ لِقَدُومِهَا، وَكَانَ دُخُولُهَا عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي اللَّيْلَةِ العاشرة من رمضان، وكانت ليلة مشهودة. وفيها درس أبو بكر الشاشي بالنظاميّة مع الناجية، وحضر عنده الوزير والأعيان. وحج بالناس قيماز، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنَ الْحَجِّ مِنَ الْعَطَشِ وقلة الماء.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِدْرِيسُ بْنُ حمزة
أبو الحسن الشاشي الرَّمْلِيُّ الْعُثْمَانِيُّ، أَحَدُ فُحُولِ الْمُنَاظِرِينَ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، تَفَقَّهَ أَوَّلًا عَلَى نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِبَغْدَادَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَدَخَلَ خُرَاسَانَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَأَقَامَ بِسَمَرْقَنْدَ وَدَرَّسَ بِمَدْرَسَتِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ في هذه السنة.
على بن محمد
ابن عَلِيِّ بْنِ عِمَادِ الدِّينِ، أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ، وَيُعْرَفُ بِإِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ، مِنْ رُءُوسِ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ هُوَ وَالْغَزَّالِيُّ أَكْبَرَ التَّلَامِذَةِ، وَقَدْ وَلِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ هَذَا فَصِيحًا جهوريّ الصوت جميلا، وكان يكرر لعن إبليس على كل مرقاة من مراقى النِّظَامِيَّةِ بِنَيْسَابُورَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَتِ الْمَرَاقِي سَبْعِينَ مَرْقَاةً، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَنَاظَرَ وَأَفْتَى ودرس، وكان من أكابر الفضلاء وَسَادَاتِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ كِتَابٌ يَرُدُّ فِيهِ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُجَلَّدٍ، وَلَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدِ انهم فِي وَقْتٍ بِأَنَّهُ يُمَالِئُ الْبَاطِنِيَّةَ، فَنُزِعَ مِنْهُ التَّدْرِيسُ ثُمَّ شَهِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ، فَأُعِيدَ إِلَيْهِ. توفى في يوم الخميس مستهل محرم مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً(12/172)
وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ. وذكر ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَيُنَاظِرُ بِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: إِذَا جَالَتْ فُرْسَانُ الْأَحَادِيثِ فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ، طَارَتْ رُءُوسُ الْمَقَايِيسِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَحَكَى السَّلَفِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتُفْتِيَ فِي كَتَبَةِ الْحَدِيثِ هَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَهَاءِ؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا بعثه الله عالما» . واستفتى في يزيد بن معاوية فذكر عنه تلاعبا وفسقا، وجوز شَتْمَهُ، وَأَمَّا الْغَزَّالِيُّ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، ومنع من شتمه ولعنه، لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِأَنَّهُ رَضِيَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلَعْنِهِ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُلْعَنُ، لَا سِيَّمَا وباب التوبة مفتوح، والّذي يقبل التوبة عن عباده غفور رحيم. قال الغزالي: وَأَمَّا التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ فَجَائِزٌ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ، بَلْ نَحْنُ نَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، عُمُومًا فِي الصَّلَوَاتِ.
ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مَبْسُوطًا بِلَفْظِهِ فِي تَرْجَمَةِ إِلْكِيَا هَذَا، قَالَ: وَإِلْكِيَا كبير القدر مقدم معظم والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة
فيها بعث السلطان غياث الدين جيشا كثيفا، صحبة الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل، في جملة أمراء ونواب، منهم سكمان القطبي، صاحب تبريز، وأحمد يل صاحب مراغة، والأمير إيلغازي صاحب ماردين، وعلى الْجَمِيعِ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، فَانْتَزَعُوا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ حُصُونًا كَثِيرَةً، وقتلوا منهم خلقا كثيرا وللَّه الحمد، وَلَمَّا دَخَلُوا دِمَشْقَ دَخَلَ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ إِلَى جَامِعِهَا لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَجَاءَهُ بَاطِنِيٌّ فِي زِيِّ سائل فطلب منه شيئا فأعطاه، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ ضَرَبَهُ فِي فُؤَادِهِ فَمَاتَ من ساعته، وَوُجِدَ رَجُلٌ أَعْمَى فِي سَطْحِ الْجَامِعِ بِبَغْدَادَ مَعَهُ سِكِّينٌ مَسْمُومٌ فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يُرِيدُ قتل الخليفة. وفيها ولد للخليفة من بنت السلطان ولد فضربت الدبادب والبوقات، ومات له ولد وهكذا الدنيا فرضى بوفاته وجلس الوزير للهناء والعزاء. وَفِي رَمَضَانَ عُزِلَ الْوَزِيرُ أَحْمَدُ بْنُ النِّظَامِ، وكانت مدة وزارته أربع سنين وإحدى عَشَرَ شَهْرًا. وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ صُورَ، وَكَانَتْ بِأَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، عَلَيْهَا عِزُّ الْمُلْكِ الْأَعَزُّ من جهتهم، فقاتلهم قتالا شديدا، وَمَنَعَهَا مَنْعًا جَيِّدًا، حَتَّى فَنِيَ مَا عِنْدَهُ مِنَ النِّشَابِ وَالْعُدَدِ، فَأَمَدَّهُ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ، وأرسل إليه العدد والآلات فقوى جأشه وَتَرَحَّلَتْ عَنْهُ الْفِرِنْجُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا. وَحَجَّ بالناس أمير الجيوش قطز الخادم، وكانت سنة مخصبة مرخصة.
وممن توفى فيها من الأعيان
أبو حامد الغزالي.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَتَفَقَّهَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَبَرَعَ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ مُنْتَشِرَةٌ فِي فُنُونٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَكَانَ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْعَالَمِ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ، وساد في(12/173)
شَبِيبَتِهِ حَتَّى إِنَّهُ دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، فَحَضَرَ عِنْدَهُ رُءُوسَ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ مِمَّنْ حَضَرَ عنده أبو الخطاب وابن عقيل، وهما مِنْ رُءُوسِ الْحَنَابِلَةِ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ فَصَاحَتِهِ وَاطِّلَاعِهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَتَبُوا كَلَامَهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ عَنِ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَأَقْبَلَ على العبادة وأعمال الآخرة، وكان يَرْتَزِقُ مِنَ النَّسْخِ، وَرَحَلَ إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهَا بِدِمَشْقَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ مُدَّةً، وَصَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كِتَابَهُ إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ، وَهُوَ كتاب عجيب، يشتمل عَلَى عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَمَمْزُوجٌ بِأَشْيَاءَ لَطِيفَةٍ مِنَ التَّصَوُّفِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، لَكِنْ فِيهِ أحاديث كثيرة غرائب ومنكرات وموضوعات، كَمَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفُرُوعِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالْكِتَابُ الْمَوْضُوعُ لِلرَّقَائِقِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَسْهَلُ أَمْرًا مِنْ غيره، وقد شنع عليه أبو الفرج ابن الْجَوْزِيِّ، ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ، فِي ذَلِكَ تَشْنِيعًا كَثِيرًا، وَأَرَادَ الْمَازَرِيُّ أَنْ يَحْرِقَ كِتَابَهُ إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، وَقَالُوا: هَذَا كِتَابُ إِحْيَاءِ عُلُومِ دِينِهِ، وَأَمَّا دِينُنَا فَإِحْيَاءُ عُلُومِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، كَمَا قد حكيت ذلك في ترجمته في الطبقات، وقد زيف ابن شكر مَوَاضِعَ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ، وَبَيَّنَ زَيْفَهَا فِي مُصَنَّفٍ مُفِيدٍ، وَقَدْ كَانَ الْغَزَّالِيُّ يَقُولُ: أَنَا مُزْجَى الْبِضَاعَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ مَالَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إِلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالتَّحَفُّظِ لِلصَّحِيحَيْنِ، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابًا عَلَى الأحياء وسماه علوم الأحياء بأغاليط الاحيا، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ أَلْزَمَهُ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ بِالْخُرُوجِ إِلَى نَيْسَابُورَ فَدَرَّسَ بِنِظَامِيَّتِهَا، ثُمَّ عَادَ إلى بلده طوس فأقام بها، وابتنى رِبَاطًا وَاتَّخَذَ دَارًا حَسَنَةً، وَغَرَسَ فِيهَا بُسْتَانًا أَنِيقًا، وَأَقْبَلَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِطُوسَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ فَقَالَ: أَوْصِنِي، فقال: عليك بالإخلاص، ولم يَزَلْ يُكَرِّرُهَا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دخلت سنة ست وخمسمائة
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا جَلَسَ ابْنُ الطَّبَرِيِّ مُدَرِّسًا بِالنِّظَامِيَّةِ وَعُزِلَ عَنْهَا الشَّاشِيُّ. وَفِيهَا دَخَلَ الشيخ الصالح أحد العباد يوسف بن داود إِلَى بَغْدَادَ، فَوَعَظَ النَّاسَ، وَكَانَ لَهُ الْقَبُولُ التام، وكان شَافِعِيًّا تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، ثُمَّ اشتغل بالعبادة والزهادة، وكانت لَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ، جَارَاهُ رَجُلٌ مَرَّةً يُقَالُ له ابن السقافى مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَهُ اسْكُتْ فَإِنِّي أَجِدُ مِنْ كَلَامِكَ رَائِحَةَ الْكُفْرِ، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُوتَ عَلَى غير دين الإسلام، فاتفق بعد حين أنه خرج ابن السقا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي حَاجَةٍ فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَقَامَ إِلَيْهِ مَرَّةً وَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ ابْنَا أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ فَقَالَا لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَتَكَلَّمُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَإِلَّا فَاسْكُتْ، فَقَالَ: لَا مُتِّعْتُمَا بِشَبَابِكُمَا، فَمَاتَا شَابَّيْنِ، وَلَمْ يَبْلُغَا سِنَّ الْكُهُولَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْجُيُوشِ بطز الخادم، ونالهم عطش.(12/174)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
صَاعِدُ بْنُ منصور
ابن إِسْمَاعِيلِ بْنِ صَاعِدٍ، أَبُو الْعَلَاءِ الْخَطِيبُ النَّيْسَابُورِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَوَلِيَ الْخَطَابَةَ بَعْدَ أَبِيهِ وَالتَّدْرِيسَ وَالتَّذْكِيرَ، وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ خُوَارَزْمَ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البلاساعوني التُّرْكِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَيُعْرَفُ بِالْلَامِشِيِّ، أَوْرَدَ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ حَدِيثًا وَذَكَرَ أَنَّهُ وَلِيَ قَضَاءَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَشَكَوْا مِنْهُ فَعُزِلَ عَنْهَا، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ دِمَشْقَ، وَكَانَ غَالِيًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ الْإِقَامَةَ مَثْنَى، قَالَ إِلَى أَنْ أَزَالَ اللَّهُ ذَلِكَ بِدَوْلَةِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ. قَالَ: وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى نَصْبِ إِمَامٍ حَنَفِيٍّ بِالْجَامِعِ، فَامْتَنَعَ أَهْلُ دِمَشْقَ مِنْ ذَلِكَ، وَامْتَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَصَلَّوْا بِأَجْمَعِهِمْ فِي دَارِ الْخَيْلِ، وَهِيَ الَّتِي قبل الْجَامِعِ مَكَانَ الْمَدْرَسَةِ الْأَمِينِيَّةِ، وَمَا يُجَاوِرُهَا وَحَدُّهَا الطُّرُقَاتُ الْأَرْبَعَةُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كَانَتْ لِي الْوِلَايَةُ لَأَخَذْتُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْجِزْيَةَ، وَكَانَ مُبْغِضًا لِأَصْحَابِ مَالِكٍ أَيْضًا. قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ سِيرَتُهُ فِي الْقَضَاءِ مَحْمُودَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا. قَالَ: وَقَدْ شَهَدْتُ جِنَازَتَهُ وَأَنَا صَغِيرٌ فِي الجامع.
المعمر بن المعمر
أبو سعد بن أبى عمار الْوَاعِظُ، كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا مَاجِنًا ظَرِيفًا ذَكِيًّا، لَهُ كَلِمَاتٌ فِي الْوَعْظِ حَسَنَةٌ وَرَسَائِلُ مَسْمُوعَةٌ مستحسنة، توفى في ربيع الأول منها، ودفن بباب حرب.
أبو على المعرى
كان عابدا زاهدا، يَتَقَوَّتُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِلْمِ الْكِيمْيَاءِ. فَأُخِذَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
نُزْهَةُ
أم ولد الخليفة الْمُسْتَظْهِرِ باللَّه، كَانَتْ سَوْدَاءَ مُحْتَشِمَةً كَرِيمَةَ النَّفْسِ، توفيت يوم الجمعة ثانى عشر شوال منها.
أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
مُصَنِّفُ الْأَنْسَابِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تاج الإسلام عبد الكريم بن محمد بن أبى المظفر المنصور عَبْدِ الْجَبَّارِ السَّمْعَانِيُّ، الْمَرْوَزِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ، قِوَامُ الدِّينِ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ حَتَّى كَتَبَ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ شيخ، وصنف التفسير والتاريخ والأنساب والذيل عَلَى تَارِيخِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَذَكَرَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ عَدِيدَةً جِدًّا، مِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ مِائَةِ شَيْخٍ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا إِسْنَادًا وَمَتْنًا، وَهُوَ مُفِيدٌ جِدًّا رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ فِي أَرْضِ طَبَرِيَّةَ، كَانَ فِيهَا مَلِكُ دِمَشْقَ الاتابك(12/175)
طغتكين، ومعه صَاحِبُ سِنْجَارَ وَصَاحِبُ مَارِدِينَ، وَصَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فَهَزَمُوا الْفِرِنْجَ هَزِيمَةً فَاضِحَةً، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَمَلَكُوا تِلْكَ النَّوَاحِيَ كُلَّهَا، وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى دِمَشْقَ فَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي تَارِيخِهِ مَقْتَلَ الْمَلِكِ مَوْدُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قال صلى هو والملك طُغْتِكِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّحْنِ وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَطَفَرَ بَاطِنِيٌّ عَلَى مَوْدُودٍ فَقَتَلَهُ رَحِمَهُ الله، فيقال إِنَّ طُغْتِكِينَ هُوَ الَّذِي مَالَأَ عَلَيْهِ فاللَّه أَعْلَمُ، وَجَاءَ كِتَابٌ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ: إِنَّ أُمَّةً قَتَلَتْ عَمِيدَهَا فِي يَوْمِ عِيدِهَا فِي بَيْتِ مَعْبُودِهَا لَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُبِيدَهَا. وَفِيهَا مَلَكَ حَلَبَ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ رِضْوَانَ بْنِ تُتُشَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَقَامَ بأمر سلطنته لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى الرَّسْمِ. وَفِيهَا فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي أَنْشَأَهُ كُمُشْتِكِينُ الْخَادِمُ ببغداد. وحج بالناس زنكي بن برشق.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الحافظ أبى بكر بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ، وَدَرَّسَ بِمَدِينَةِ خُوَارِزْمَ، وَكَانَ فَاضِلًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَلَدِهِ بَيْهَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
شُجَاعُ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ
فَارِسِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ فَارِسٍ أَبُو غَالِبٍ الذُّهْلِيُّ الْحَافِظُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي هَذَا الشَّأْنِ وَشَرَعَ فِي تَتْمِيمِ تَارِيخِ الْخَطِيبِ ثُمَّ غَسَلَهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ لِأَنَّهُ كَتَبَ شِعْرَ ابْنِ الْحَجَّاجِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ سَبْعٍ وسبعين سنة.
محمد بن أحمد
ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عثمان بن عتبة بن عبسة بن معاوية بن أبى سفيان بن صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ، الْأُمَوِيُّ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَبِيْوَرْدِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ والأنساب، سمع الكثير وصنف تاريخ أبى ورد، وأنساب الْعَرَبِ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الْكِبْرِ وَالتِّيهِ الزَّائِدِ، حتى كَانَ يَدْعُو فِي صِلَاتِهِ: اللَّهمّ مَلِّكْنِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَكَتَبَ مَرَّةً إِلَى الْخَلِيفَةِ الْخَادِمُ المعاوي، فكشط الخليفة الميم فبقت الْعَاوِيَّ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
تَنَكَّرَ لِي دَهْرِي وَلَمْ يَدْرِ أَنَّنِي ... أَعِزُّ وَأَحْدَاثُ الزَّمَانِ تَهُونُ
وظل يريني الدهر كيف اغتراره ... وَبِتُّ أُرِيهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُونُ
مُحَمَّدُ بْنُ طاهر
ابن عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ: أَبُو الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ(12/176)
سَنَةَ سِتِّينَ، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى بلاد كثيرة، وسمع كثيرا، وكان لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا مُفِيدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا فِي إِبَاحَةِ السماع، وفي التصوف، وساق فِيهِ أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً جِدًّا، وَأَوْرَدَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً في غيره وَقَدْ أَثْنَى عَلَى حِفْظِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ. «صِفَةَ التَّصَوُّفِ» وَقَالَ عَنْهُ يَضْحَكُ مِنْهُ مَنْ رَآهُ، قَالَ وَكَانَ دَاوُدِيَّ الْمَذْهَبِ، فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَثْنَى لِأَجْلِ حِفْظِهِ لِلْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَمَا يُجَرَّحُ بِهِ أَوْلَى. قَالَ:
وَذَكَرَهُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَانْتَصَرَ لَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، بَعْدَ أَنْ قَالَ سَأَلْتُ عَنْهُ شَيْخَنَا إِسْمَاعِيلَ بن أحمد الطلحي فأكثر الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَكَانَ سَيِّئَ الرَّأْيِ فِيهِ. قَالَ وسمعنا أبا الفضل ابن نَاصِرٍ يَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، صَنَّفَ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْمُرْدِ، وَكَانَ يَذْهَبُ مَذْهَبَ الْإِبَاحِيَّةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.
دَعِ التصوف والزهد الّذي اشتغلت ... به خوارج أَقْوَامٍ مِنَ النَّاسِ
وَعُجْ عَلَى دَيْرِ دَارَيَّا فان به الرهبان ... مَا بَيْنَ قِسِّيسٍ وَشَمَّاسِ
وَاشْرَبْ مُعَتَّقَةً مِنْ كَفِّ كَافِرَةٍ ... تَسْقِيكَ خَمْرَيْنِ مِنْ لَحْظٍ وَمِنْ كَاسِ
ثُمَّ اسْتَمِعَ رَنَّةَ الْأَوْتَارِ مِنْ رَشَأٍ ... مُهَفْهَفٍ طَرْفُهُ أَمْضَى مِنَ الْمَاسِ
غَنِّي بِشِعْرِ امْرِئٍ فِي النَّاسِ مُشْتَهِرٍ ... مُدَوَّنٍ عَنْدَهُمْ فِي صدر قرطاس
لولا نسيم بدا منكم يُرَوِّحُنِي ... لَكُنْتُ مُحْتَرِقًا مِنْ حَرِّ أَنْفَاسِي
ثُمَّ قَالَ السَّمْعَانِيُّ: لَعَلَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ أَنْ يَذْكُرَ جَرْحَ الْأَئِمَّةِ لَهُ ثُمَّ يَعْتَذِرُ عن ذلك باحتمال توبته، وقد ذكر ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ يُرَدِّدُ هذا البيت.
وما كنتم تعرفون الجفا ... فمن نرى قَدْ تَعَلَّمْتُمُ
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ
صَاحِبُ الْمُسْتَظْهِرِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن الحسين الشَّاشِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وُلِدَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، وَأَبِي بكر الخطيب، وأبى إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَقَرَأَ الشَّامِلَ عَلَى مُصَنِّفِهِ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَاخْتَصَرَهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ لِلْمُسْتَظْهِرِ باللَّه، وَسَمَّاهُ حِلْيَةَ الْعُلَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ، وَيُعْرَفُ بِالْمُسْتَظْهِرِيِّ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا وَكَانَ يُنْشِدُ:
تَعَلَّمْ يَا فَتَى وَالْعُودُ غَضٌّ ... وَطِينُكَ لَيِّنٌ وَالطَّبْعُ قَابِلْ
فَحَسْبُكَ يَا فَتَى شَرَفًا وَفَخْرًا ... سُكُوتُ الْحَاضِرِينَ وَأَنْتَ قَائِلْ(12/177)
تُوُفِّيَ سَحَرَ يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شوال منها، ودفن إلى جانب أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ بِبَابِ أَبْرَزَ.
الْمُؤْتَمَنُ بْنُ أحمد
ابن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَبُو نَصْرٍ السَّاجِيُّ الْمَقْدِسِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ وكان صحيح النقل، حسن الحظ، مشكور السيرة لطيفا، اشْتَغَلَ فِي الْفِقْهِ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ مُدَّةً، وَرَحَلَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ جُمْلَةِ الْحُفَّاظِ، لَا سِيَّمَا لِلْمُتُونِ، وقد تكلم فيه ابن طَاهِرٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنَ الثَّرَى؟ تُوُفِّيَ الْمُؤْتَمَنُ يوم السبت ثانى عشر صفر منها، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثمان وخمسمائة
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ هَائِلَةٌ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ، هَدَمَتْ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بُرْجًا، وَمِنَ الرُّهَا بُيُوتًا كَثِيرَةً، وَبَعْضَ دور خراسان، ودورا كثيرة في بلاد شتى، فهلك من أهلها نحو من مائة ألف، وخسف بِنِصْفِ قَلْعَةِ حَرَّانَ وَسَلِمَ نِصْفُهَا، وَخُسِفَ بِمَدِينَةِ سميساط وهلك تحت الردم خلق كثير. وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ حَلَبَ تَاجُ الدَّوْلَةِ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ رِضْوَانَ بْنِ تُتُشَ، قَتَلَهُ غِلْمَانُهُ، وقام من بعده أخوه سلطان شاه بْنُ رِضْوَانَ. وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ ملك شاه بلاد غزنة، وقام من بعده أخوه سلطان شاه بْنُ رِضْوَانَ. وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ ملك شاه بِلَادَ غَزْنَةَ، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا بَعْدَ مُقَاتَلَةٍ عظيمة، وأخذ منها أموالا كثيرة لم ير مثلها، من ذلك خمس تِيجَانٍ قِيمَةُ كُلِّ تَاجٍ مِنْهَا أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَبْعَةَ عَشَرَ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ قِطْعَةِ مَصَاغٍ مُرَصَّعَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَرَّرَ فِي مُلْكِهَا بَهْرَامْ شَاهْ، رجل من بيت سبكتكين، ولم يخطب بها لأحد من السلجوقية غير سنجر هذا، وإنما كان لها ملوك سادة أهل جهاد وشنة، لا يجسر أحد من الملوك عليهم، ولا يطيق أحد مقاومتهم، وهم بنو سبكتكين. وفيها ولى السلطان محمد للأمير آقسنقر البرشقي الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا، وَأَمَرَهُ بِمُقَاتَلَةِ الْفِرِنْجِ، فَقَاتَلَهُمْ فِي أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها وبروج وَسُمَيْسَاطَ، وَنَهَبَ مَارِدِينَ وَأَسَرَ ابْنَ مَلِكِهَا إِيَازَ إِيلْغَازِي، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِ مَنْ يَتَهَدَّدُهُ فَفَرَّ مِنْهُ إِلَى طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَاتَّفَقَا عَلَى عِصْيَانِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ نَائِبِ حِمْصَ قُرْجَانَ بْنِ قُرَاجَةَ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا. وَفِيهَا مَلَكَتْ زَوْجَةُ مَرْعَشَ الْإِفْرِنْجِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا لَعَنَهُمَا اللَّهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْجُيُوشِ أَبُو الْخَيْرِ يَمَنٌ الْخَادِمُ، وَشَكَرَ النَّاسُ حَجَّهُمْ مَعَهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تسع وخمسمائة
فِيهَا جَهَّزَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ ملك شاه صاحب العراق جيشا كثيفا مع الأمير برشق ابن إيلغازي صاحب ماردين إلى صاحب دمشق طغتكين، وإلى آقسنقر البرشقي ليقاتلهما، لأجل(12/178)
عصيانهما عليه، وقطع خطبته، وإذا فرغ منهما عَمَدَ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْجَيْشُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ هَرَبَا مِنْهُ وَتَحَيَّزَا إِلَى الْفِرِنْجِ، وجاء الأمير برشق إِلَى كَفَرْ طَابَ فَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَجَاءَ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ رُوجِيلُ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ، فَكَبَسَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ أموالا جزيلة وهرب برشق في طائفة قليلة، وتمزق الجيش الّذي كان معه شذ مذر، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ منها قدم السلطان مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَادَ، وَجَاءَ إِلَيْهِ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مُعْتَذِرًا إِلَيْهِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْهُ ورده إلى عمله.
وفيها توفى من الأعيان.
إسماعيل بن محمد
ابن أحمد بن على أَبُو عُثْمَانَ الْأَصْبَهَانِيُّ أَحَدُ الرَّحَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَعَظَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ ثَلَاثِينَ مَجْلِسًا، وَاسْتَمْلَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، وَتُوُفِّيَ بأصبهان.
منجب بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُسْتَظْهِرِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ الْخَادِمُ، كَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: وَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وقفا
عبد الله بن المبارك
ابن مُوسَى، أَبُو الْبَرَكَاتِ السَّقَطِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ فِيهِ، وَكَانَ فَاضِلًا عَارِفًا بِاللُّغَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ
يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ باديس
صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك، عارفا حسن السيرة محبا للفقراء والعلماء، وله عليهم أرزاق، مات وله اثنتان وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَتَرَكَ ثَلَاثِينَ وَلَدًا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَلِيٌّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عشر وخمسمائة
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ بِبَغْدَادَ احْتَرَقَتْ فِيهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا دَارُ نُورِ الْهُدَى الزَّيْنَبِيِّ، وَرِبَاطُ نهر زور وَدَارُ كُتُبِ النِّظَامِيَّةِ، وَسَلِمَتِ الْكُتُبُ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ نَقَلُوهَا. وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ مَرَاغَةَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، قَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ بِمَشْهَدِ على ابن مُوسَى الرِّضَا بِمَدِينَةِ طُوسَ، فَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى فَارِسَ بَعْدَ مَوْتِ نَائِبِهَا خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ صَاحِبِ كَرْمَانَ. وحج بالناس بطز الْخَادِمُ، وَكَانَتْ سَنَةً مُخْصِبَةً آمِنَةً وللَّه الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَقِيلُ بْنُ الْإِمَامِ أَبِي الْوَفَا
عَلِيِّ بْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ، كَانَ شَابًّا قَدْ بَرَعَ وَحَفِظَ القرآن وكتب وفهم المعاني جيدا، ولما توفى صبر أبوه وشكر وأظهر التجلد، فقرأ قارئ في العزاء (قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) 12: 78 الْآيَةَ، فَبَكَى ابْنُ عَقِيلٍ بُكَاءً شَدِيدًا.(12/179)
على بن أحمد بن محمد
ابن الرَّزَّازُ، آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ مَخْلَدٍ بِجُزْءِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، وَتَفَرَّدَ بِأَشْيَاءَ غَيْرِهِ. تُوُفِّيَ فِيهَا عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بن منصور
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ وَوَعَظَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَأَمْلَى بِمَرْوَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ مَجْلِسًا، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا فَاضِلًا، لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ فِي الْقُلُوبِ، تُوُفِّيَ بِمَرْوَ عَنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طاهر
ابن أحمد بن مَنْصُورٍ الْخَازِنُ، فَقِيهُ الْإِمَامِيَّةِ وَمُفْتِيهِمْ بِالْكَرْخِ، وَقَدْ سمع الحديث من التنوخي وابن غيلان، توفى في رمضان منها.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو بَكْرٍ النَّسَوِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ إِلَيْهِ تزكية الشهود ببغداد، وكان فاضلا أديبا ورعا.
محفوظ بن أحمد
ابن الْحَسَنِ، أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ وَمُصَنِّفِيهِمْ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَفَقَّهَ بِالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَقَرَأَ الْفَرَائِضَ عَلَى الْوَنِّيِّ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ وَصَنَّفَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَجَمَعَ قَصِيدَةً يَذْكُرُ فِيهَا اعْتِقَادَهُ وَمَذْهَبَهُ يَقُولُ فيها:
دع عنك تذكار الخليط المتحد ... وَالشَّوْقَ نَحْوَ الْآنِسَاتِ الْخُرَّدِ
وَالنَّوْحَ فِي تَذْكَارِ سُعْدَى إِنَّمَا ... تَذْكَارُ سُعْدَى شُغْلُ مَنْ لَمْ يسعد
واسمع معاني إن أردت تخلصا ... يوم الحساب وخذ بقولي تهتدى
وذكر تمامها وهي طويلة، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي رَابِعِ صَفَرٍ مِنْهَا انْكَسَفَ الْقَمَرُ كُسُوفًا كُلِّيًّا، وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ هَجَمَ الْفِرِنْجُ عَلَى ربض حماه فقتلوا خلقا كثيرا، ورجعوا إِلَى بِلَادِهِمْ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ سقط مِنْهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَغَلَتِ الْغَلَّاتُ بها جِدًّا، وَفِيهَا قُتِلَ لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ الَّذِي كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَةِ حَلَبَ بَعْدَ مَوْتِ أُسْتَاذِهِ رِضْوَانَ بْنِ تُتُشَ، قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ حَلَبَ مُتَوَجِّهًا إِلَى جعبر، فنادى جماعة من مماليكه وغيرهم أرنب أرنب، فرموه بالنشاب موهمين أنهم يصيدون أرنبا فقتلوه. وفيها كانت وفاة غياث الدين السلطان محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن(12/180)
سلجوق، سلطان بِلَادَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ. وَالْأَقَالِيمِ الْوَاسِعَةِ. كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وأحسنهم سيرة، عادلا رحيما، سهل الأخلاق، محمود العشرة، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ اسْتَدْعَى وَلَدَهُ مَحْمُودًا وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَبَكَى كُلٌّ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَنَةً، فَجَلَسَ وَعَلَيْهِ التَّاجُ وَالسُّوَارَانِ وَحَكَمَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ صَرَفَ الْخَزَائِنَ إِلَى الْعَسَاكِرِ وكان فيها إحدى عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَقَرَّ الْمُلْكُ لَهُ، وخطب له ببغداد وغيرها من البلاد، ومات السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياما. وَفِيهَا وُلِدَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بن زنكي بن آقسنقر، صاحب حلب بدمشق.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْقَاضِي الْمُرْتَضَى
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ، وَالِدُ القاضي جمال الدين عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرَزُورِيِّ، قَاضِي دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ نُورِ الدِّينِ، اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ وَتَفَقَّهَ بِهَا، وَكَانَ شافعيّ المذهب، بارعا دينا، حسن النظم، وله قصيدة في علم التصوف، وكان يتكلم على القلوب، أورد قصيدته بتمامها ابن خلكان لحسنها وفصاحتها، وأولها:
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ... وَمَلَّ الْحَادِي وَحَارَ الدَّلِيلُ
فَتَأَمَّلْتُهَا وَفِكْرِي مِنَ البين ... عَلِيلٌ وَلَحْظُ عَيْنِي كَلِيلُ
وَفُؤَادِي ذَاكَ الْفُؤَادُ المعنى ... وغرامى ذاك الغرام الدخيل
وله
يَا لَيْلُ مَا جِئْتُكُمْ زَائِرًا ... إِلَّا وَجَدْتُ الْأَرْضَ تُطْوَى لِي
وَلَا ثَنَيْتُ الْعَزْمَ عَنْ بابكم ... إلا تعثرت باذيالى
وله
يا قلب إلى متى لَا يُفِيدُ النُّصْحُ ... دَعْ مَزْحَكَ كَمْ جَنَى عليك المزح
ما جارحة منك غذاها جرح ... ما تشعر بالخمار حتى تصحو
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وزعم عماد الدين في الخريدة أنه توفى بعد العشرين وخمسمائة فاللَّه أعلم.
محمد بن سعد
ابن نَبْهَانَ، أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى وَعُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ وَتَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَهُ شعر حسن، فمنه قوله في قصيدة له:
لي رزق قدره الله ... نعم ورزق أتوقاه
حَتَّى إِذَا اسْتَوْفَيْتُ مِنْهُ ... الَّذِي قُدِّرَ لِي لَا أَتَعَدَّاهُ
قَالَ كِرَامٌ كَنْتُ أَغْشَاهُمُ ... فِي مجلس كُنْتُ أَغْشَاهُ
صَارَ ابْنُ نَبْهَانَ إِلَى رَبِّهِ ... يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ(12/181)
أَمِيرُ الْحَاجِّ
يُمْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْخَيْرِ الْمُسْتَظْهِرِيُّ، كَانَ جَوَّادًا كَرِيمًا مُمَدَّحًا ذَا رَأْيٍ وَفِطْنَةٍ ثَاقِبَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ طَلْحَةَ النِّعَالِيِّ بِإِفَادَةِ أَبِي نَصْرٍ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِهِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولًا إِلَى أَصْبَهَانَ حدث بها. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بأصبهان
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة
فيها خطب للسلطان محمد بن ملك شاه بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ باللَّه، وَفِيهَا سَأَلَ دُبَيْسُ بن صدقة الْأَسَدِيِّ مِنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى الْحِلَّةِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا كَانَ أَبُوهُ يَتَوَلَّاهُ مِنَ الأعمال، فأجابه إلى ذَلِكَ، فَعَظُمَ وَارْتَفَعَ شَأْنُهُ.
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ باللَّه
هو أبو العباس أحمد بن المقتدى، كَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا ذَكِيًّا بَارِعًا، كَتَبَ الْخَطَّ الْمَنْسُوبَ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ بِبَغْدَادَ كَأَنَّهَا الْأَعْيَادُ، وَكَانَ رَاغِبًا فِي الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، مُسَارِعًا إِلَى ذَلِكَ، لا يرد سائلا، وكان جميل العشرة لا يصغي إلى أقوال الوشاة من النَّاسِ، وَلَا يَثِقُ بِالْمُبَاشِرِينَ، وَقَدْ ضَبَطَ أُمُورَ الخلافة جيدا، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شعر حَسَنٌ. قَدْ ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا عِنْدَ ذِكْرِ خِلَافَتِهِ، وَقَدْ وَلِيَ غُسْلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْفَضْلُ وَكَبَّرَ أربعا، ودفن في حجرة كان يسكنها، ومن العجب أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ مَاتَ بعده الخليفة القائم، ثم لما مات السلطان ملك شاه مات بعده المقتدى، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مَاتَ بَعْدَهُ المستظهر هذا، في سادس عشر ربيع الآخر، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَثَلَاثَةُ أشهر وأحد عشر يوما.
خلافة المسترشد أمير المؤمنين
أبو مَنْصُورٍ الْفَضْلِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ كَمَا ذَكَرْنَا بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَقَدْ كَانَ وَلِيَ الْعَهْدَ مِنْ بعده مدة ثلاث وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ الْبَيْعَةَ لَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْبَيْعَةُ لَهُ هَرَبَ أَخُوهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي سَفِينَةٍ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَقَصَدَ دُبَيْسَ بْنَ صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيَّ بِالْحِلَّةِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فقلق أخوه الخليفة المسترشد مِنْ ذَلِكَ، فَرَاسَلَ دُبَيْسًا فِي ذَلِكَ مَعَ نَقِيبِ النُّقَبَاءِ الزَّيْنَبِيِّ، فَهَرَبَ أَخُو الْخَلِيفَةِ مِنْ دبيس فأرسل إليه جيشا فألجأوه إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَلَحِقَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَلَقِيَهُ بَدَوِيَّانِ فَسَقَيَاهُ مَاءً وَحَمَلَاهُ إِلَى بَغْدَادَ، فَأَحْضَرَهُ أَخُوهُ إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَا وَتَبَاكَيَا، وَأَنْزَلَهُ الْخَلِيفَةُ دَارًا كَانَ يَسْكُنُهَا قَبْلَ الْخِلَافَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وكانت مدة غيبته عن بغداد إحدى عَشَرَ شَهْرًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِلَا مُنَازَعَةٍ لِلْمُسْتَرْشِدِ. وفيها كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبَغْدَادَ، وَانْقَطَعَ الْغَيْثُ وَعُدِمَتِ الأقوات، وتفاقم أمر(12/182)
العيارين ببغداد، ونهبوا الدور نهارا جهارا، ولم يستطع الشرط دفع ذلك. وحج بالناس في هذه السنة الخادم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ
كما تقدم. ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ جَدَّتُهُ أَمُّ أَبِيهِ الْمُقْتَدِي.
أرجوان الأرمنية
وتدعى قرة العين، كان لها بر كثير، ومعروف، وَقَدْ حَجَّتْ ثَلَاثَ حَجَّاتٍ، وَأَدْرَكَتْ خِلَافَةَ ابْنِهَا المقتدى، وَخِلَافَةَ ابْنِهِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَخِلَافَةَ ابْنِهِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَرَأَتْ للمسترشد ولدا.
بكر بن محمد بن على
ابن الْفَضْلِ أَبُو الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ يضرب به المثل في مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بن محمد الحلواني، وَكَانَ يَذْكُرُ الدُّرُوسَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ سُئِلَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ طَلَبِهِ يُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ. توفى في شعبان منها.
الحسين بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ
الزَّيْنَبِيُّ، قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ، فَبَرَعَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَظَرَ فِي أَوْقَافِهَا، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلُقِّبَ نُورَ الْهُدَى، وَسَارَ في الرسلية إلى الملوك، وولى نقابة الطالببين والعباسيين، ثم استعفى بعد شهور فتولاها أخوه طراد. توفى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابنه أبو القاسم على، وحضرت جنازته الْأَعْيَانُ وَالْعُلَمَاءُ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ داخل القبة.
يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو طَاهِرٍ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الجزري، صَاحِبُ الْمَخْزَنِ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَكَانَ لَا يتوفى المسترشد حقه من التعظيم وهو ولى العهد، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ صَادَرَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ غُلَامًا لَهُ فَأَوْمَأَ إِلَى بَيْتٍ فَوَجَدَ فِيهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَخَذَهَا الْخَلِيفَةُ ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ بهذا الْعَامِ.
أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْخَازِنِ
كَانَ أَدِيبًا لَطِيفًا شَاعِرًا فَاضِلًا فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَافَيْتُ مَنْزِلَهُ فَلَمْ أَرَ صَاحِبًا ... إِلَّا تَلَقَّانِي بِوَجْهٍ ضَاحِكِ
وَالْبِشْرُ فِي وَجْهِ الْغُلَامِ نَتِيجَةٌ ... لِمُقَدِّمَاتِ ضِياءِ وَجْهِ الْمَالِكِ
وَدَخَلْتُ جَنَّتَهُ وَزُرْتُ جَحِيمَهُ ... فَشَكَرْتُ رِضْوَانًا وَرَأْفَةَ مَالِكِ(12/183)
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة
فِيهَا كَانَتِ الْحُرُوبُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بن محمد وبين عمه السلطان سنجر بن ملك شاه وكان النصر فيها السنجر، فَخُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ فِي سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الأولى من هذه السنة، وقطعت خطبة ابن أخيه فِي سَائِرِ أَعْمَالِهِ. وَفِيهَا سَارَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ فَفَتَحُوهَا عَنْوَةً وَمَلَكُوهَا، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ مَارِدِينَ إِيلْغَازِي بن أرتق في جيش كثيف، فهزمهم ولحقهم إلى جبل قد تحصنوا به، فَقَتَلَ مِنْهُمْ هُنَالِكَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وللَّه الْحَمْدُ. وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَأَسَرَ مِنْ مقدميهم نيفا وتسعين رجلا، وقتل فيمن قتل سير جال صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَادَ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ بَالَغَ مُبَالَغَةً فَاحِشَةً:
قُلْ مَا تَشَاءُ فَقَوْلُكَ الْمَقْبُولُ ... وَعَلَيْكَ بَعْدَ الْخَالِقِ التَّعْوِيلُ
وَاسْتَبْشَرَ الْقُرْآنُ حِينَ نَصَرْتَهُ ... وَبَكَى لِفَقْدِ رِجَالِهِ الْإِنْجِيلُ
وَفِيهَا قُتِلَ الْأَمِيرُ منكوبرس الَّذِي كَانَ شِحْنَةَ بَغْدَادَ، وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا سيئ السيرة، قتله السلطان محمود بن محمد صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ سُرِّيَّةَ أَبِيهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَنِعْمَ مَا فَعَلَ وَقَدْ أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ مَا كَانَ أَظْلَمَهُ وَأَغْشَمَهُ. وَفِيهَا تَوَلَّى قَضَاءَ قُضَاةِ بغداد الأكمل أبو القاسم ابن على بن أبى طالب بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ، وَفِيهَا ظَهَرَ قَبْرُ إِبْرَاهِيمَ الخليل عليه السلام وقبر ولديه إسحاق ويعقوب، وَشَاهَدَ ذَلِكَ النَّاسُ، وَلَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ، وَعِنْدَهُمْ قَنَادِيلُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الخازن في تاريخه، وأطال نَقَلَهُ مِنْ الْمُنْتَظَمِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
ابْنُ عَقِيلٍ
على بن عقيل بن محمد، أبو ألوفا شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ بِبَغْدَادَ، وَصَاحِبُ الْفُنُونِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّصَانِيفِ الْمُفِيدَةِ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وقرأ القرآن على ابن سبطا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ بِالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، وَقَرَأَ الْأَدَبَ عَلَى ابْنِ بَرْهَانَ، والفرائض على عبد الملك الهمدانيّ، وَالْوَعْظَ عَلَى أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْعَلَّافِ، صَاحِبِ ابْنِ سَمْعُونَ، وَالْأُصُولَ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ بِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ، فَرُبَّمَا لَامَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَلَا يَلْوِي عَلَيْهِمْ، فلهذا برز على أقرانه وساد أَهْلَ زَمَانِهِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ صِيَانَةٍ وَدِيَانَةٍ وَحُسْنِ صُورَةٍ وَكَثْرَةِ اشْتِغَالٍ، وَقَدْ وَعَظَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَقَدْ مَتَّعَهُ اللَّهُ بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِ إِلَى حِينِ موته، توفى بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ ثَانِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، إلى جانب الخادم مخلص رحمه الله.(12/184)
أبو الحسن على بن محمد الدَّامَغَانِيُّ
قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ، وُلِدَ في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وولى القضاء بباب الطاق من بغداد وله من العمر ست وعشرون سنة، ولا يعرف حاكم قضى لِأَرْبَعَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ غَيْرُهُ إِلَّا شُرَيْحٌ، ثُمَّ ذكر إمامته وديانته وصيانته مما يدل على نخوته، وتفوقه وقوته، تولى الحكم أربعا وعشرين سنة وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَبْرُهُ عِنْدَ مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ.
المبارك بن على
ابن الْحُسَيْنِ أَبُو سَعْدٍ الْمُخَرِّمِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ، وَجَمَعَ كُتُبًا كَثِيرَةً لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهَا، وَنَابَ في القضاء، وكان حسن السيرة جميل الطريق، سَدِيدَ الْأَقْضِيَةِ، وَقَدْ بَنَى مَدْرَسَةً بِبَابِ الْأَزَجِ وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ وَصُودِرَ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وتوفى فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ عِنْدَ قَبْرِ أَحْمَدَ.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة
فِي النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَتْ وقعة عظيمة بين الأخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملك شاه عِنْدَ عَقَبَةِ أَسَدَابَاذَ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ مَسْعُودٍ وَأُسِرَ وَزِيرُهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَائِهِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِقَتْلِ الْوَزِيرِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، فَقُتِلَ وَلَهُ نَيِّفٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي صِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ مسعود الأمان واستقدمه عليه، فلما التقيا بكيا واصطلحا.
وفيها نهب دبيس صَاحِبُ الْحِلَّةِ الْبِلَادَ، وَرَكِبَ بِنَفْسِهِ إِلَى بَغْدَادَ، ونصب خيمته بِإِزَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الضَّغَائِنِ، وَذَكَرَ كَيْفَ طِيفَ بِرَأْسِ أَبِيهِ فِي الْبِلَادِ، وَتَهَدَّدَ الْمُسْتَرْشِدَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُسَكِّنُ جَأْشَهُ وَيَعِدُهُ أَنَّهُ سَيُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بَغْدَادَ أَرْسَلَ دُبَيْسٌ يَسْتَأْمِنُ فَأَمَّنَهُ وَأَجْرَاهُ عَلَى عَادَتِهِ، ثم إنه نهب جسر السلطان فركب بنفسه السلطان لقتاله واستصحب معه ألف سفينة ليعبر فيها، فهرب دبيس وَالْتَجَأَ إِلَى إِيلْغَازِي فَأَقَامَ عِنْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحِلَّةِ وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ يعتذر إليهما مما كان منه، فَلَمْ يَقْبَلَا مِنْهُ، وَجَهَّزَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَيْشًا فَحَاصَرُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، وَهُوَ ممتنع في بلاده لا يقدر الجيش على الوصول إليه. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْكُرْجِ وَالْمُسْلِمِينَ بالقرب من تفليس، ومع الكرج كفار الفقجاق فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَنَهَبَ الْكُرْجُ تِلْكَ النَّوَاحِي وَفَعَلُوا أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً، وَحَاصَرُوا تَفْلِيسَ مُدَّةً ثم ملكوها عنوة، بعد ما أَحْرَقُوا الْقَاضِيَ وَالْخَطِيبَ حِينَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ يَطْلُبُونَ منهم الْأَمَانَ، وَقَتَلُوا عَامَّةَ أَهْلِهَا، وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى الْأَمْوَالِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه. وفيها أغار(12/185)
جوسكين الفرنجى على خلق من العرب والتركمان فقتلهم وأخذ أموالهم، وهذا هو صاحب الرها.
وَفِيهَا تَمَرَّدَتِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ وَأَخَذُوا الدُورَ جِهَارًا ليلا ونهارا، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وفيها كَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِ مُحَمَّدِ بْنِ تُومَرْتَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ قَدِمَ فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ فسكن النظامية ببغداد، واشتغل بالعلم فحصل منه جَانِبًا جَيِّدًا مِنَ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، عَلَى الْغَزَّالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ يُظْهِرُ التَّعَبُّدَ وَالزُّهْدَ وَالْوَرَعَ، وَرُبَّمَا كان ينكر على الغزالي حسن ملابسه، ولا سيما لما لبس خلع التدريس بالنظاميّة، أظهر الإنكار عليه جدا، وكذلك على غيره، ثم إنه حج وعاد إلى بلاده، وكان يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقْرِئُ النَّاسَ الْقُرْآنَ وَيَشْغَلُهُمْ فِي الْفِقْهِ، فَطَارَ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ صَاحِبُ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَعَظَّمَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَسَأَلَهُ الدُّعَاءَ، فَاشْتُهِرَ أَيْضًا بِذَلِكَ، وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا رِكْوَةٌ وَعَصًا، وَلَا يسكن إلا المساجد، ثم جعل يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى دَخَلَ مَرَّاكُشَ وَمَعَهُ تِلْمِيذُهُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ، وقد كان توسم النجابة والشهامة فيه، فرأى في مراكش مِنَ الْمُنْكَرَاتِ أَضْعَافَ مَا رَأَى فِي غَيْرِهَا، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرِّجَالَ يَتَلَثَّمُونَ وَالنِّسَاءَ يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَأَخَذَ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ حتى أنه اجتازت بِهِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أُخْتُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يوسف ملك مراكش وما حولها، ومعها نساء مثلها رَاكِبَاتٌ حَاسِرَاتٌ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَشَرَعَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ في الإنكار عليهنّ، وجعلوا يضربون وجوه الدَّوَابَّ فَسَقَطَتْ أُخْتُ الْمَلِكِ عَنْ دَابَّتِهَا، فَأَحْضَرَهُ الْمَلِكُ وَأَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالْحُجَّةِ، وَأَخَذَ يعظ الملك في خاصة نفسه، حتى أبكاه، وَمَعَ هَذَا نَفَاهُ الْمَلِكُ عَنْ بَلَدِهِ فَشَرَعَ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى قِتَالِهِ، فَاتَّبَعَهُ على ذلك خلق كثير، فجهز إليه الملك جَيْشًا كَثِيفًا فَهَزَمَهُمُ ابْنُ تُومَرْتَ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ وَارْتَفَعَ أَمْرُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ، وَسَمَّى جَيْشَهُ جَيْشَ الْمُوَحِّدِينَ وَأَلَّفَ كِتَابًا فِي التَّوْحِيدِ وَعَقِيدَةً تُسَمَّى الْمُرْشِدَةُ، ثُمَّ كَانَتْ لَهُ وَقَعَاتٌ مع جيوش صاحب مراكش، فقتل منهم في بعض الأيام نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أَبِي عبد الله التومرتي، وَكَانَ ذَكَرَ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ وَعَلَّمَهُ القرآن والموطأ، وَلَهُ بِذَلِكَ مَلَائِكَةٌ يَشْهَدُونَ بِهِ فِي بِئْرٍ سَمَّاهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ وَكَانَ قَدْ أَرْصَدَ فيه رجالا، فلما سألهم عن ذلك والناس حضور معه على ذلك البئر شَهِدُوا لَهُ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ حِينَئِذٍ بِطَمِّ الْبِئْرِ عَلَيْهِمْ فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلِهَذَا يُقَالُ مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ. ثُمَّ جَهَّزَ ابْنُ تُومَرْتَ الَّذِي لَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَهْدِيِّ جَيْشًا عَلَيْهِمْ أبو عبد الله التومرتي، وَعَبْدُ الْمُؤْمِنِ، لِمُحَاصَرَةِ مَرَّاكُشَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التومرتي هَذَا الَّذِي زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُخَاطِبُهُ، ثُمَّ افْتَقَدُوهُ فِي الْقَتْلَى فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ دَفَنَهُ والناس في المعركة، وقتل ممن معه مِنْ أَصْحَابِ الْمَهْدِيِّ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كَانَ حِينَ جَهَّزَ الْجَيْشَ(12/186)
مَرِيضًا مُدْنِفًا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ ازْدَادَ مَرَضًا إِلَى مَرَضِهِ، وَسَاءَهُ قَتْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ التومرتي، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ لِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَلَقَّبَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ كَانَ شَابًّا حَسَنًا حَازِمًا عَاقِلًا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ تُومَرْتَ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَمُدَّةُ ملكه عشر سنين، وحين صار إلى عبد المؤمن ابن على الملك أحسن إلى الرعايا، وظهرت له سِيرَةٌ جَيِّدَةٌ فَأَحَبَّهُ النَّاسُ، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ، وَكَثُرَتْ جيوشه ورعيته، ونصب العداوة إلى تَاشُفِينَ صَاحِبِ مَرَّاكُشَ، وَلَمْ يَزَلِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا إلى سنة خمس وثلاثين، فمات تاشفين فقام ولده مِنْ بَعْدِهِ، فَمَاتَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ليلة سبع وعشرين من رمضان، فتولى أَخُوهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ تَاشُفِينَ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فَمَلَكَ تِلْكَ النَّوَاحِيَ، وَفَتَحَ مَدِينَةَ مَرَّاكُشَ، وَقَتَلَ هُنَالِكَ أُمَمًا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قتل مَلِكُهَا إِسْحَاقُ وَكَانَ صَغِيرَ السِّنِّ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ إِسْحَاقُ هَذَا آخِرَ مُلُوكِ المرابطين، وكان مُلْكِهِمْ سَبْعِينَ سَنَةً. وَالَّذِينَ مَلَكُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ: على وولده يوسف، وولداه أبو سفيان وَإِسْحَاقُ ابْنَا عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ، فَاسْتَوْطَنَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ مَرَّاكُشَ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَظَفِرَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ بِدَكَّالَةَ وَهِيَ قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ نَحْوُ مِائَتَيْ أَلْفِ رَاجِلٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ فارس مقاتل، وهم مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ حَتَّى إِنَّهُ بِيعَتِ الْجَارِيَةُ الْحَسْنَاءُ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِهِمْ فِي سِيرَةِ ابْنِ تُومَرْتَ هَذَا مجلدا في أحكامه وإمامته، وما كان في أيامه، وكيف تملك بلاد الْمَغْرِبِ، وَمَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي توهم أنها أحوال برة، وهي محالات لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ فَجَرَةٍ، وَمَا قَتَلَ من الناس وأزهق من الأنفس.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عبد الوهاب بن السنى
أَبُو الْبَرَكَاتِ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ وَكَانَ يُعَلِّمُ أَوْلَادَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى الْمُسْتَرْشِدِ وَلَّاهُ الْمَخْزَنَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ، يَتَعَاهَدُ أهل العلم، وخلف مالا كثيرا حزر بمائتي أَلْفِ دِينَارٍ، أَوْصَى مِنْهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لمكة والمدينة، توفى فيها عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ صَدَقَةَ، وَدُفِنَ بباب حرب.
عبد الرحيم بن عبد الكبير
ابن هَوَازِنَ، أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ، قَرَأَ عَلَى أَبِيهِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَانَ ذَا ذَكَاءٍ وَفِطْنَةٍ، وَلَهُ خَاطِرٌ حَاضِرٌ جَرِيءٌ، وَلِسَانٌ مَاهِرٌ فَصِيحٌ، وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ بِهَا فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَحُبِسَ بِسَبَبِهَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي موسى، وأخرج ابن القشيري مِنْ بَغْدَادَ لِإِطْفَاءِ الْفِتْنَةِ فَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ.(12/187)
عبد العزيز بن على
ابن حامد أَبُو حَامِدٍ الدينَوَريّ، كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَالصَّدَقَاتِ، ذا حشمة وثروة وَوَجَاهَةٍ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ وَوَعَظَ، وكان مليح الإيراد حلو المنطق، توفى بالري والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس عشر وخمسمائة
فِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْأَمِيرَ إِيلْغَازِي مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ، فَبَقِيَتْ فِي يَدِ أَوْلَادِهِ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، فِي سنة ثمانين وخمسمائة. وفيها أقطع آقسنقر البرشقي مدينة الموصل لقتال الفرنج، وفيها حاصر ملك بْنُ بَهْرَامَ وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِيلْغَازِي مَدِينَةَ الرها فأسر ملكها جوسكين الأفرنجي وَجَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ وَسَجَنَهُمْ بِقَلْعَةِ خَرْتَبِرْتَ. وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ فَاسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فأهلكت خلقا كثيرا من الناس والدواب. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْحِجَازِ فَتَضَعْضَعَ بِسَبَبِهَا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ، وَتَهَدَّمَ بَعْضُهُ، وَتَهَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ عَلَوِيٌّ بِمَكَّةَ كَانَ قَدِ اشتغل بالنظاميّة في الفقه وغيره، يأمر بالمعروف وينهى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَاتَّبَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ فَنَفَاهُ صَاحِبُهَا ابْنُ أَبِي هَاشِمٍ إِلَى الْبَحْرَيْنِ. وَفِيهَا احْتَرَقَتْ دَارُ السُّلْطَانِ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ من الآثار والقماش والجواهر والذهب والفضة سوى الياقوت الأحمر، وقبل ذلك بأسبوع احترق جامع أصبهان، وكان جامعا عظيما، فيه من الأخشاب ما يساوى ألف دينار، ومن جُمْلَةِ مَا احْتَرَقَ فِيهِ خَمْسُمِائَةِ مُصْحَفٍ، مِنْ جملتها مصحف بخط أبى بن كعب، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا جَلَسَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ فِي أبهة الخلافة، وجاء الاخوان السلطان محمود ومسعود فقبلا الأرض ووقفا بين يديه، فَخَلَعَ عَلَى مَحْمُودٍ سَبْعَ خِلَعٍ وَطَوْقًا وَسِوَارَيْنِ وَتَاجًا، وَأُجْلِسَ عَلَى كُرْسِيٍّ وَوَعَظَهُ الْخَلِيفَةُ، وَتَلَا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) 99: 7- 8 وأمره بالإحسان إلى الرعايا، وعقد له لِوَاءَيْنِ بِيَدِهِ، وَقَلَّدَهُ الْمُلْكَ، وَخَرَجَا مِنْ بَيْنِ يديه مطاعين معظمين، والجيش بين أيديهما في أبهة عظيمة جدا. وحج بالناس قطز الخادم.
وممن تُوُفِّيَ فِيهَا.
ابْنُ الْقَطَّاعِ اللُّغَوِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ على بن جعفر بن محمد
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَغْلَبِ السَّعْدِيُّ الصِّقِلِّيُّ، ثم المصري اللغوي المصنف كِتَابِ الْأَفْعَالِ، الَّذِي بَرَزَ فِيهِ عَلَى ابْنِ القوطية، وله مصنفات كثيرة، قَدِمَ مِصْرَ فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسِمِائَةٍ لَمَّا أَشْرَفَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى أَخْذِ صِقِلِّيَةَ، فَأَكْرَمَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَبَالَغُوا فِي إِكْرَامِهِ، وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى التَّسَاهُلِ في الدين، وله شعر جيد قوى، مات وقد جاوز الثمانين.
أَبُو الْقَاسِمِ شَاهِنْشَاهْ
الْأَفْضَلُ بْنُ أَمِيرِ الْجُيُوشِ بمصر، مدبر دولة الفاطميين، وإليه تنسب قيسرية أمير الجيوش(12/188)
بمصر، والعامة تقول مرجوش، وَأَبُوهُ بَانِي الْجَامِعِ الَّذِي بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِسُوقِ الْعَطَّارِينَ، وَمَشْهَدِ الرَّأْسِ بِعَسْقَلَانَ أَيْضًا، وَكَانَ أَبُوهُ نَائِبَ الْمُسْتَنْصِرِ عَلَى مَدِينَةِ صُورَ، وَقِيلَ عَلَى عَكَّا، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ، فَسَدَّدَ الْأُمُورَ بَعْدَ فَسَادِهَا، وَمَاتَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وثمانين وأربعمائة، وقام في الوزارة ولده الأفضل هذا، وكان كَأَبِيهِ فِي الشَّهَامَةِ وَالصَّرَامَةِ، وَلَمَّا مَاتَ الْمُسْتَنْصِرُ أَقَامَ الْمُسْتَعْلِي وَاسْتَمَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، مَوْصُوفًا بِجَوْدَةِ السَّرِيرَةِ فاللَّه أَعْلَمُ، ضَرَبَهُ فِدَاوِيٌّ وَهُوَ رَاكِبٌ فَقَتَلَهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَبِيهِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ دَارُهُ دَارَ الْوَكَالَةِ اليوم بمصر، وقد وجد له أموال عديدة جِدًّا، تَفُوقُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ، مِنَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، والجواهر النفائس، فَانْتَقَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْفَاطِمِيِّ، فَجُعِلَ فِي خِزَانَتِهِ، وَذَهَبَ جَامِعُهُ إِلَى سَوَاءِ الْحِسَابِ، عَلَى الْفَتِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ وَاعْتَاضَ عنه الخليفة بأبي عبد الله البطائحي، ولقبه المأمون. قال ابْنُ خَلِّكَانَ: تَرَكَ الْأَفْضَلُ مِنَ الذَّهَبِ الْعَيْنِ ستمائة ألف ألف دينار مكررة، ومن الدراهم مائتين وخمسين أردبا، وسبعين ثَوْبِ دِيبَاجٍ أَطْلَسَ، وَثَلَاثِينَ رَاحِلَةَ أَحْقَاقِ ذَهَبٍ عِرَاقِيٍّ، وَدَوَاةَ ذَهَبٍ فِيهَا جَوْهَرَةٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِائَةَ مِسْمَارِ ذَهَبٍ زِنَةُ كُلِّ مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس كان يجلس فيها، عَلَى كُلِّ مِسْمَارٍ مَنْدِيلٌ مَشْدُودٌ بِذَهَبٍ، كُلُّ مِنْدِيلٍ عَلَى لَوْنٍ مِنَ الْأَلْوَانِ مِنْ مَلَابِسِهِ، وَخَمْسَمِائَةِ صُنْدُوقِ كُسْوَةٍ لِلُبْسِ بَدَنِهِ، قَالَ: وَخَلَّفَ مِنَ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْمِسْكِ وَالطِّيبِ وَالْحُلِيِّ مَا لَا يَعْلَمُ قَدْرُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَلَّفَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْغَنَمِ ما يستحيى الإنسان من ذكره، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، وترك صندوقين كبيرين مملوءين إِبَرُ ذَهَبٍ بِرَسْمِ النِّسَاءِ.
عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عبد الله
ابن عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الطُّوسِيُّ، ابْنُ أَخِي نِظَامِ الْمُلْكِ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَفْتَى وَدَرَّسَ وَنَاظَرَ، ووزر للملك سنجر
خاتون السفرية
حظية السلطان ملك شاه، وَهِيَ أَمُّ السُّلْطَانَيْنِ مُحَمَّدٍ وَسَنْجَرَ، كَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، لَهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ سَبِيلٌ يَخْرُجُ مَعَ الْحُجَّاجِ. وَفِيهَا دِينٌ وَخَيْرٌ، وَلَمْ تَزَلْ تَبْحَثُ حَتَّى عَرَفَتْ مَكَانَ أُمِّهَا وَأَهْلِهَا، فَبَعَثَتِ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةِ حَتَّى اسْتَحْضَرَتْهُمْ، وَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيْهَا أُمُّهَا كَانَ لَهَا عَنْهَا أربعين سَنَةً لَمْ تَرَهَا، فَأَحَبَّتْ أَنْ تَسْتَعْلِمَ فَهْمَهَا فَجَلَسَتْ بَيْنَ جَوَارِيهَا، فَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّهَا كَلَامَهَا عَرَفَتْهَا فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَا وَبَكَيَا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ أمها على يديها جزاها الله خيرا. وقد تفردت بولادة ملكين من ملوك المسلمين، فِي دَوْلَةِ الْأَتْرَاكِ وَالْعَجَمِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا نظير في ذلك إلا اليسير من ذلك، وهي(12/189)
وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ، وَلَدَتْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ الْوَلِيدَ وسليمان، وشاهوند ولدت للوليد يزيد وإبراهيم، وقد وَلِيَا الْخِلَافَةَ أَيْضًا، وَالْخَيْزُرَانُ وَلَدَتْ لِلْمَهْدِيِّ الْهَادِيَ والرشيد.
الطغرائى
صاحب لَامِيَّةِ الْعَجَمِ، الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، مُؤَيَّدُ الدِّينِ الْأَصْبَهَانِيُّ، الْعَمِيدُ فَخْرُ الْكُتَّابِ الليثي الشاعر، المعروف بالطغرائى، ولى الوزارة بأربل مدة، أورد له ابْنُ خَلِّكَانَ قَصِيدَتَهُ اللَّامِيَّةَ الَّتِي أَلَّفَهَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فِي بَغْدَادَ، يَشْرَحُ فِيهَا أَحْوَالَهُ وَأُمُورَهُ، وَتُعْرَفُ بِلَامِيَّةِ الْعَجَمِ أَوَّلُهَا:
أَصَالَةُ الرَّأْيِ صَانَتْنِي عَنِ الْخَطَلِ ... وَحِلْيَةُ الْفَضْلِ زَانَتْنِي لَدَى الْعَطَلِ
مَجْدِي أَخِيرًا وَمَجْدِي أَوَّلًا شَرَعٌ ... وَالشَّمْسُ رَأْدَ الضُّحَى كَالشَّمْسِ فِي الطَّفَلِ
فِيمَ الْإِقَامَةُ بِالزَّوْرَاءِ؟ لَا سَكَنِي ... بِهَا وَلَا نَاقَتِي فيها ولا جملي
وقد سردها ابْنُ خَلِّكَانَ بِكَمَالِهَا، وَأَوْرَدَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ من الشعر وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وخمسمائة
في المحرم منها رجع السلطان طغرلبك إلى طاعة أخيه محمود، بعد ما كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْهَا، وَأَخَذَ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ. وفيها أقطع السلطان محمود مدينة واسط لآقسنقر مُضَافًا إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا عِمَادَ الدِّينِ زنكي بن آقسنقر، فأحسن السِّيرَةَ بِهَا وَأَبَانَ عَنْ حَزْمٍ وَكِفَايَةٍ. وَفِي صفر منها قتل الوزير السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ أَبُو طَالِبٍ السُّمَيْرَمِيُّ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَكَانَ قَدْ بَرَزَ لِلْمَسِيرِ إِلَى هَمَذَانَ، وَكَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ زَوْجَتُهُ فِي مِائَةِ جَارِيَةٍ بِمَرَاكِبِ الذَّهَبِ، فَلَمَّا بَلَغَهُنَّ قَتْلُهُ رَجَعْنَ حَافِيَاتٍ حَاسِرَاتٍ عن وجوههن، قد هن بعد العز، واستوزر السلطان مكانه شمس الدين الملك عثمان بن نظام الملك. وفيها التقى آقسنقر وَدُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، فَهَزَمَهُ دُبَيْسٌ وَقَتَلَ خَلْقًا من جيشه، فأوثق السُّلْطَانُ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ أَخَا دُبَيْسٍ وَوَلَدَهُ، ورفعهما إلى القلعة، فَعِنْدَ ذَلِكَ آذَى دُبَيْسٌ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَنَهَبَ البلاد، وجز شعره ولبس السواد، ونهبت أموال الخليفة أيضا، فَنُودِيَ فِي بَغْدَادَ لِلْخُرُوجِ لِقِتَالِهِ، وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ فِي الْجَيْشِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ أَسْوَدُ وَطَرْحَةٌ، وَعَلَى كَتِفَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَفِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةُ حَرِيرٍ صِينِيٍّ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ نِظَامُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَنَقِيبُ النُّقَبَاءِ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَشَيْخُ الشُّيُوخِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ إسماعيل، وتلقاه آقسنقر البرشقي ومعه الجيش فقبلوا الأرض ورتب البرشقي الْجَيْشَ، وَوَقَفَ الْقُرَّاءُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَأَقْبَلَ دبيس وبين يديه الإماء يضر بن بِالدُّفُوفِ وَالْمَخَانِيثُ بِالْمَلَاهِي، وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ، وَقَدْ شَهَرَ الْخَلِيفَةُ سَيْفَهُ وَكَبَّرَ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، فَحَمَلَ عنتر بْنُ أَبِي الْعَسْكَرِ عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرَهَا وقتل أميرها ثُمَّ حَمَلَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَكَشَفَهُمْ كَالْأُولَى فَحَمَلَ عليه عماد(12/190)
الدين زنكي ابن آقسنقر فأسر عنتر وأسر معه بديل بن زائدة، ثم انهزم عَسْكَرُ دُبَيْسٍ وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْأَسَارَى صبرا بين يديه، وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسر، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِ عاشوراء من السنة الآتية، وكانت غيبته عن بغداد سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَمَّا دُبَيْسٌ فَإِنَّهُ نَجَا بنفسه وقصد غزية ثم إلى المنتفق فَصَحِبَهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ فَدَخَلَهَا وَنَهَبَهَا وَقَتَلَ أَمِيرَهَا، ثم خاف من البرشقي فخرج منها وسار على الْبَرِّيَّةِ وَالْتَحَقَ بِالْفِرِنْجِ، وَحَضَرَ مَعَهُمْ حِصَارَ حَلَبَ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ وَالْتَحَقَ بِالْمَلِكِ طُغْرُلَ أَخِي السُّلْطَانِ محمود. وفيها ملك السلطان سهام الدين تمراش بن إيلغازي ابن أُرْتُقَ قَلْعَةَ مَارِدِينَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَمَلَكَ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ مَيَّافَارِقِينَ. وَفِيهَا ظَهَرَ مَعْدِنُ نُحَاسٍ بِدِيَارِ بَكْرٍ قَرِيبًا مِنْ قَلْعَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وفيها دخل جماعة من الوعاظ إلى بَغْدَادَ فَوَعَظُوا بِهَا، وَحَصَلَ لَهُمْ قَبُولٌ تَامٌّ من العوام. وحج بالناس قطز الخادم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد
ابن عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ، أَبُو مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أخو أبى القاسم، وكان من حفاظ الحديث، وقد زعم أن عنده منه ما ليس عنده أبى زرعة الرازيّ، وقد صَحِبَ الْخَطِيبَ مُدَّةً وَجَمَعَ وَأَلَفَّ وَصَنَّفَ وَرَحَلَ إلى الآفاق، توفى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بها عن ثمانين سنة.
على بن أحمد السُّمَيْرَمِيُّ
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِأَصْبَهَانَ، كَانَ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَكَانَ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَأَحْدَثَ على الناس مكوسا، وجددها بعد ما كَانَتْ قَدْ أُزِيلَتْ مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَكَانَ يقول: قد استحييت من كثرة ظلم من لَا نَاصِرَ لَهُ، وَكَثْرَةِ مَا أَحْدَثْتُ مِنَ السُّنَنِ السَّيِّئَةِ، وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى همذان أحضر المنجمين فضربوا له تخت رمل لساعة خروجه ليكون أسرع لعودته، فَخَرَجَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ السُّيُوفُ المسلولة، والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة، فما أغنى عنه ذلك شيئا، بل جاءه باطني فضربه فقتله، ثم مات الباطني بعده، ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب، حاسرات عن وجوههن، قد أبدلهن الله الذل بعد العز، والخوف بعد الأمن، والحزن بعد السرور والفرح، جزاء وفاقا، وذلك يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ صَفَرٍ، وَمَا أَشْبَهَ حَالَهُنَّ بِقَوْلِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ فِي الْخَيْزُرَانِ وَجَوَارِيهَا حِينَ مات المهدي:
رحن في الوشي عليهنّ المسوح ... كل بطاح من الناس له يوم يطوح
لَتُمُوتَنَّ وَلَوْ عُمِّرْتَ مَا عُمِّرَ نُوحُ ... فَعَلَى نَفْسِكَ نُحْ إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ تَنُوحُ
الْحَرِيرِيُّ صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ
الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو محمد الحريري. مُؤَلِّفُ الْمَقَامَاتِ الَّتِي(12/191)
سارت بفصاحتها الركبان، وكاد يربو فيها على سحبان، ولم يسبق إلى مثلها ولا يلحق، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَاشْتَغَلَ بِاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَبَرَزَ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَأَقَامَ ببغداد وعمل صناعة الإنشاء مع الكتاب فِي بَابِ الْخَلِيفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ تُنْكَرُ بَدِيهَتُهُ وَلَا تَتَعَكَّرُ فِكْرَتُهُ وَقَرِيحَتُهُ. قَالَ ابْنُ الجوزي: صنف وَقَرَأَ الْأَدَبَ وَاللُّغَةَ، وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِالذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَحُسْنِ الْعِبَارَةِ، وَصَنَّفَ الْمَقَامَاتِ الْمَعْرُوفَةَ التي من تأملها عرف ذكاء منشئها، وقدره وفصاحته، وعلمه. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْبَصْرَةِ. وَقَدْ قِيلَ إن أبا زيد والحارث بن همام المطهر لَا وُجُودَ لَهُمَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ مِنْ بَابِ الْأَمْثَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَبُو زيد بن سلام السَّرُوجِيُّ كَانَ لَهُ وُجُودٌ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَلَهُ علم ومعرفة باللغة فاللَّه أعلم. وذكر ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ أَبَا زَيْدٍ كَانَ اسْمُهُ المطهر بن سلام، وَكَانَ بَصْرِيًّا فَاضِلًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَكَانَ يشتغل عليه الحريري بالبصرة، وأما الحارث بن همام فإنه غنى بنفسه، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ كُلُّكُمْ حَارِثٌ وَكُلُّكُمْ همام. كذا قال ابن خلكان. وَإِنَّمَا اللَّفْظُ الْمَحْفُوظُ «أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ» لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِمَّا حَارِثٌ وَهُوَ الْفَاعِلُ، أو همام من الهمة وهو العزم والخاطر، وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَقَامَةٍ عَمِلَهَا الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ وَهِيَ الْحَرَامِيَّةُ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ رَجُلٌ ذُو طِمْرَيْنِ فَصِيحُ اللِّسَانِ، فَاسْتَسْمَوْهُ فَقَالَ أَبُو زَيْدٍ السَّرُوجِيُّ، فَعَمِلَ فِيهِ هَذِهِ الْمَقَامَةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ المسترشد جَلَالُ الدِّينِ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بن أبى المعز بن صدقة، أن يكمل عليها تمام خمسين مقامة. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ بخط المصنف، على حاشيتها، وهو أصح من قول من قال إنه الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو نَصْرٍ أَنُوشُرْوَانُ بْنُ محمد بْنُ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاشَانِيُّ، وَهُوَ وَزِيرُ الْمُسْتَرْشِدِ أَيْضًا، وَيُقَالُ إِنَّ الْحَرِيرِيَّ كَانَ قَدْ عَمِلَهَا أَرْبَعِينَ مَقَامَةً، فَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ وَلَمْ يصدق في ذلك لعجز الناس عن مثلها، فامتحنه بعض الوزراء أن يعمل مقامة فأخذ الدواة والقرطاس وجلس ناحية فلم يتيسر له شيء، فلما عاد إلى بلده عمل عَشَرَةً أُخْرَى فَأَتَمَّهَا خَمْسِينَ مَقَامَةً، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَفْلَحَ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ فِيهَا:
شَيْخٌ لَنَا مِنْ رَبِيعَةِ الْفَرَسْ ... يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ مِنَ الْهَوَسْ
أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِالْمَشَانِ كَمَا ... رَمَاهُ وَسْطَ الدِّيوَانِ بِالْخَرَسْ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِالْمَشَانِ هُوَ مَكَانٌ بالبصرة، وكان الحريري صَدْرَ دِيوَانِ الْمَشَانِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ ذَمِيمَ الْخَلْقِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ رَجُلًا رَحَلَ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ ازْدَرَاهُ فَفَهِمَ الْحَرِيرِيُّ ذَلِكَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
ما أنت أول سار غره قمر ... ورائدا أَعْجَبَتْهُ خُضْرَةُ الدِّمَنِ
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ غَيْرِي إِنَّنِي رَجُلٌ ... مِثْلَ الْمُعَيْدِيِّ فَاسْمَعْ بِي وَلَا تَرَنِي(12/192)
وَيُقَالُ إِنَّ الْمُعَيْدِيَّ اسْمُ حِصَانٍ جَوَادٍ كَانَ في العرب ذميم الخلق والله أعلم.
البغوي المفسر
الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، صاحب التفسير وشرح السنة والتهذيب في الفقه، والجمع بين الصحيحين والمصابيح فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، اشْتَغَلَ عَلَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَبَرَعَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، وَكَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ فِيهَا، وَكَانَ دَيِّنًا وَرِعًا زَاهِدًا عابدا صالحا. توفى في شوال منها وَقِيلَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَدُفِنَ مَعَ شَيْخِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ بِالطَّالَقَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة
في يوم عاشوراء منها عاد الخليفة من الحلة إلى بغداد مؤيدا منصورا من قتال دبيس. وفيها عزم الخليفة على طهور أولاد أخيه، وكانوا اثنى عشر ذكرا، فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِزِينَةٍ لَمْ يُرَ مثلها.
وفي شعبان منها قدم أسعد المهيتى مدرسا بالنظاميّة ببغداد، وناظرا عليها، وصرف الباقرجي عنها، ووقع بينه وبين الفقهاء فتنة بسبب أنه قطع منهم جماعة، واكتفى بمائتي طالب منهم، فَلَمْ يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بِلَادِ الْكُرْجِ وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُفْجَاقِ خُلْفٌ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، ثم عاد إلى همدان. وَفِيهَا مَلَكَ طُغَتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ حَمَاةَ بعد وفاة صاحبها قَرَاجَا، وَقَدْ كَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا. وَفِيهَا عُزِلَ نقيب العلويين وهدمت داره وهو على بن أفلح، لأنه كان عَيْنًا لِدُبَيْسٍ، وَأُضِيفُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ نقابة العلويين مع نقابة العباسيين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ محمد
ابن على بْنِ صَدَقَةَ، التَّغْلِبِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَيَّاطِ الشَّاعِرُ الدمشقيّ، الكاتب، له ديوان شعر مشهور. قال ابن عساكر ختم به شعر الشعراء بدمشق، شعره جيد حسن، وكان مكثرا لحفظ الأشعار المتقدمة وأخبارهم، وأورد له ابن خلكان قطعة جيدة من شعره من قَصِيدَتُهُ الَّتِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا لكفته وهي التي يقول فيها:
خُذَا مِنْ صَبَا نَجْدٍ أَمَانًا لِقَلْبِهِ ... فَقْدَ كَادَ رَيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ
وَإِيَّاكُمَا ذَاكَ النَّسِيمَ فَإِنَّهُ ... مَتَى هَبَّ كَانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ
خَلِيلَيَّ، لَوْ أَحْبَبْتُمَا لَعَلِمْتُمَا ... مَحَلَّ الْهَوَى مِنْ مغرم القلب صبه
تذكر وَالذِّكْرَى تَشُوقُ وَذُو الْهَوَى ... يَتُوقُ وَمَنْ يَعْلَقْ بِهِ الْحُبُّ يُصْبِهِ
غَرَامٌ عَلَى يَأْسِ الْهَوَى وَرَجَائِهِ ... وَشَوْقٌ عَلَى بُعْدِ الْمَزَارِ وَقُرْبِهِ
وَفِي الرَّكْبِ مَطْوِيُّ الضُّلُوعِ عَلَى جَوًى ... مَتَى يَدْعُهُ دَاعِي الْغَرَامِ يُلَبِّهِ
إِذَا خَطَرَتْ مِنْ جَانِبِ الرَّمْلِ نَفْحَةٌ ... تَضَمَّنَ مِنْهَا دَاؤُهُ دُونَ صَحْبِهِ(12/193)
وَمُحْتَجِبٍ بَيْنَ الْأَسِنَّةِ مُعْرِضٍ ... وَفِي الْقَلْبِ مِنْ إِعْرَاضِهِ مِثْلُ حُجْبِهِ
أَغَارُ إِذَا آنَسْتُ فِي الْحَيِّ أَنَّةً ... حَذَارًا وَخَوْفًا أَنْ تَكُونَ لَحُبِّهِ
توفى في رمضان منها عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً بِدِمَشْقَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثمان عشرة وخمسمائة
فِيهَا ظَهَرَتِ الْبَاطِنِيَّةُ بِآمِدَ فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا فَقَتَلُوا منهم سبعمائة. وفيها ردت شحنكية بغداد إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ يَرَنْقُشَ الزَّكَوِيِّ وَسُلِّمَ إِلَيْهِ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ أَخُو دُبَيْسٍ لِيُسَلِّمَهُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ دُبَيْسًا قَدِ التجأ إلى طغرلبك وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَخْذِ بَغْدَادَ، فَأَخَذَ النَّاسُ بالتأهب إلى قتالهما، وأمر آقسنقر بِالْعَوْدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَاسْتَنَابَ عَلَى الْبَصْرَةِ عِمَادَ الدين زنكي بن آقسنقر. وفي ربيع الأول دخل الملك حسام تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب حَلَبَ، وَقَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ مَلِكِهَا بَلَكَ بْنِ بهرام، وَكَانَ قَدْ حَاصَرَ قَلْعَةَ مَنْبِجَ فَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ، فَاسْتَنَابَ تَمُرْتَاشَ بِحَلَبَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَارِدِينَ فَأُخِذَتْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أخذها آقسنقر مُضَافَةً إِلَى الْمَوْصِلِ، وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَاضِي أَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ لِيَخْطُبَ لَهُ ابْنَةَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَشَرَعَ الْخَلِيفَةُ فِي بِنَاءِ دَارٍ عَلَى حافة دجلة لأجل العروس. وحج بالناس جمال الدولة إقبال المسترشدي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَرْهَانَ
أَبُو الْفَتْحِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْحَمَّامِيِّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ، وَبَرَعَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، ثُمَّ نَقَمَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَشْيَاءَ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَاشْتَغَلَ عَلَى الْغَزَّالِيِّ وَالشَّاشِيِّ، وبرع وساد وشهد عند الزينبي فقبله، وَدَرَّسَ فِي النِّظَامِيَّةِ شَهْرًا. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن جعفر
أبو على الدَّامَغَانِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَشَهِدَ عِنْدَ أَبِيهِ وَنَابَ فِي الْكَرْخِ عَنْ أَخِيهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَوَلِيَ حِجَابَةَ بَابِ النُّوبِيِّ، ثُمَّ عُزِلَ ثم أعيد. توفى في جمادى.
أحمد بن محمد
ابن إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْفَضْلِ الْمَيْدَانِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ الْأَمْثَالِ، ليس له مثله في بابه، له شعر جيد، توفى يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رمضان وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ عشرة وخمسمائة
فِيهَا قَصَدَ دُبَيْسٌ وَالسُّلْطَانُ طُغْرُلُ بَغْدَادَ لِيَأْخُذَاهَا مِنْ يَدِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَا مِنْهَا بَرَزَ إِلَيْهِمَا الْخَلِيفَةُ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ، وَالنَّاسُ مُشَاةٌ بين يديه إِلَى أَوَّلِ مَنْزِلَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَمْسَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَقْتَتِلُونَ فِي صَبِيحَتِهَا، وَمِنْ عَزْمِهِمْ أَنْ يَنْهَبُوا بَغْدَادَ، أَرْسَلَ اللَّهُ مَطَرًا عَظِيمًا،(12/194)
وَمَرِضَ السُّلْطَانُ طُغْرُلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَتَفَرَّقَتْ تلك الجوع وَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَائِبِينَ خَائِفِينَ، وَالْتَجَأَ دُبَيْسٌ وَطُغْرُلُ إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ وَسَأَلَاهُ الْأَمَانَ مِنَ الخليفة، والسلطان محمود، فحبس دبيسا في قلعة ووشى واش أَنَّ الْخَلِيفَةَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِالْمُلْكِ، وَقَدْ خرج من بغداد إلى اللان لمحاربة الْأَعْدَاءِ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ سَنْجَرَ مِنْ ذَلِكَ وأضمر سوء، مَعَ أَنَّهُ قَدْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ. وفيها قتل القاضي أبو سعد بن نصر بن منصور الهروي بهمدان، قتلته الباطنية، وهو الّذي أرسله الخليفة إلى سنجر ليخطب ابنته. وحج بالناس قطز الخادم.
وممن توفى فيها من الأعيان.
آقسنقر البرشقي
صاحب حلب، قتلته الباطنية- وهم الفداوية- في مقصورة جامعها يوم الجمعة، وقد كان تركيا جيد السيرة، مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، كَثِيرَ الْبِرِّ والصدقات إلى الفقراء، كثير الإحسان إلى الرعايا، وقام فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ السُّلْطَانُ عِزُّ الدِّينِ مسعود، وأقره السلطان محمود على عمله.
بلال بن عبد الرحمن
ابن شُرَيْحِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ، مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَحَلَ وَجَالَ فِي الْبِلَادِ، وَكَانَ شَيْخًا جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، حَسَنَ الْقِرَاءَةِ، طَيِّبَ النَّغْمَةِ تُوُفِّيَ في هذه السنة بسمرقند رحمه الله.
القاضي أبو سعد الهروي
أحمد [1] بن نصر، أحد مشاهير الفقهاء، وسادة الكبراء، قتلته الباطنية بهمذان فيها.
ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة
فِيهَا تَرَاسَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ وَالْخَلِيفَةُ عَلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَأَنْ يَكُونَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ سَنْجَرُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ مَحْمُودٍ يَنْهَاهُ ويستميله إليه، ويحذره من الخليفة، وأنه لا تؤمن غائلته، وأنه متى فرغ منى دار إليك فأخذك، فَأَصْغَى إِلَى قَوْلِ عَمِّهِ وَرَجَعَ عَنْ عَزْمِهِ، وأقبل ليدخل بغداد عَامَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْأَقْوَاتِ بِهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَزِفَ قُدُومُهُ خَرَجَ الْخَلِيفَةُ من داره وتجهز إلى الجانب الغربي فشق عليه ذلك وَعَلَى النَّاسِ، وَدَخَلَ عِيدُ الْأَضْحَى فَخَطَبَ الْخَلِيفَةُ النَّاسَ بِنَفْسِهِ خُطْبَةً عَظِيمَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً جِدًّا، وَكَبَّرَ وَرَاءَهُ خُطَبَاءُ الْجَوَامِعِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَقَدْ سَرَدَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِطُولِهَا وَرَوَاهَا عَنْ من حضرها، مع قاضى القضاة الزينبي، وجماعة من العدول، وَلَمَّا نَزَلَ الْخَلِيفَةُ عَنِ الْمِنْبَرِ ذَبَحَ الْبَدَنَةَ بِيَدِهِ، وَدَخَلَ السُّرَادِقَ وَتَبَاكَى النَّاسُ وَدَعَوْا لِلْخَلِيفَةِ بِالتَّوْفِيقِ وَالنَّصْرِ، ثُمَّ دَخَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بَغْدَادَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي
__________
[1] كذا. وفي ابن الأثير محمد بن نصر.(12/195)
الْحِجَّةِ، فَنَزَلُوا فِي بُيُوتِ النَّاسِ وَحَصَلَ لِلنَّاسِ منهم أذى كثير في حريمهم، ثم إن السلطان راسل الْخَلِيفَةَ فِي الصُّلْحِ فَأَبَى ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ، وَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ وَقَاتَلَ الْأَتْرَاكَ وَمَعَهُ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ من المقاتلة، ولكن العامة كلهم معه، وقتل من الأتراك خلقا، ثُمَّ جَاءَ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِي فِي جَيْشٍ كثيف من واسط في سفن إِلَى السُّلْطَانِ نَجْدَةً، فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ دَعَا إِلَى الصُّلْحِ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَالْخَلِيفَةِ، وَأَخَذَ الْمَلِكُ يَسْتَبْشِرُ بِذَلِكَ جِدًّا، وَيَعْتَذِرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِمَّا وَقَعَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْآتِيَةِ إِلَى هَمَذَانَ لِمَرَضٍ حَصَلَ له. وفيها كَانَ أَوَّلُ مَجْلِسٍ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَعِظُ النَّاسَ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَحَضَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ على بن يعلى العلويّ البلخي، وكان نسيبا، عَلَّمَهُ كَلِمَاتٍ ثُمَّ أَصْعَدُهُ الْمِنْبَرَ فَقَالَهَا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَحُزِرَ الْجَمْعُ يومئذ بخمسين ألفا، والله أعلم. وَفِيهَا اقْتَتَلَ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ وَأَعْدَاؤُهُ مِنَ الْفِرِنْجِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْفَتْحِ الطُّوسِيُّ الْغَزَّالِيُّ، أَخُو أَبِي حَامِدٍ الْغَزَّالِيِّ، كَانَ وَاعِظًا مُفَوَّهًا، ذا حظ من الكلام والزهد وحسن التأني، وَلَهُ نُكَتٌ جَيِّدَةٌ، وَوَعَظَ مَرَّةً فِي دَارِ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ فَأَطْلَقَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَرَجَ فَإِذَا عَلَى الْبَابِ فَرَسُ الْوَزِيرِ بِسَرْجِهَا الذَّهَبِ، وسلاحها وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ، فَرَكِبَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْوَزِيرُ فَقَالَ: دَعُوهُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيَّ الْفَرَسُ، فأخذها الغزالي، وَسَمِعَ مَرَّةً نَاعُورَةً تَئِنُّ فَأَلْقَى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ فتمزق قطعا قِطَعًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَتْ لَهُ نُكَتٌ إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَلَامِهِ التَّخْلِيطُ والأحاديث الْمَوْضُوعَةِ الْمَصْنُوعَةِ، وَالْحِكَايَاتِ الْفَارِغَةِ، وَالْمَعَانِي الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً مِنْ كَلَامِهِ فاللَّه أَعْلَمُ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذلك فدله على الصواب، وكان يتعصب إلى بليس ويعتذر لَهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ كَثِيرٍ. قَالَ وَنُسِبَ إِلَى مَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ وَالْقَوْلِ بِالْمُشَاهَدَةِ فاللَّه أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
كَانَ وَاعِظًا مَلِيحَ الْوَعْظِ حَسَنَ الْمَنْظَرِ صَاحِبَ كَرَامَاتٍ وَإِشَارَاتٍ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَالَ إِلَى الْوَعْظِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ وَدَرَّسَ بالنظاميّة نيابة عن أخيه لما تزهد، وَاخْتَصَرَ إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ فِي مُجَلَّدٍ سَمَّاهُ «لباب الاحيا» وَلَهُ الذَّخِيرَةُ فِي عِلْمِ الْبَصِيرَةِ، وَطَافَ الْبِلَادَ وَخَدَمَ الصُّوفِيَّةِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ مَائِلًا إِلَى الِانْقِطَاعِ والعزلة والله أعلم بحاله.
أحمد بن على
ابن مُحَمَّدٍ الْوَكِيلُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَرْهَانَ، أَبُو الْفَتْحِ الفقيه الشافعيّ، تفقه على الغزالي وعلى الكيا الهراسي، وعلى الشاشي، وكان بارعا في الأصول، وله كتاب الذخيرة في أصول الفقه، وكان يعرف(12/196)
فنونا جيدة، بعينها. وولى تدريس النظامية ببغداد دون شهر.
بَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ
أَبُو شُجَاعٍ الْبَيِّعُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَبَنَى مَدْرَسَةً لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ بِكَلْوَاذَى، وَوَقَفَ قطعة من أملاكه على الفقهاء بها.
صاعد بن سيار
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الأعلى الإسحاق الْهَرَوِيُّ الْحَافِظُ، أَحَدُ الْمُتْقِنِينَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتُوُفِّيَ بعتورج قرية على باب هراة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة
استهلت هذه السنة والخليفة والسلطان محمود متحاربان وَالْخَلِيفَةُ فِي السُّرَادِقِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ الْمُحَرَّمِ تَوَصَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فَحَصَلَ فِيهَا أَلْفُ مُقَاتِلٍ عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، فَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَخَرَجَ الْجَوَارِي وَهُنَّ حَاسِرَاتٌ يَسْتَغِثْنَ حَتَّى دَخَلْنَ دَارَ الْخَاتُونِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَنَا رَأَيْتُهُنَّ كَذَلِكَ، فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ رَكِبَ الْخَلِيفَةُ فِي جيشه وجيء بالسفن وَانْقَلَبَتْ بَغْدَادُ بِالصُّرَاخِ حَتَّى كَأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ زُلْزِلَتْ، وَثَارَتِ الْعَامَّةُ مَعَ جَيْشِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرُوا جَيْشَ السُّلْطَانِ وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَسَرُوا آخَرِينَ وَنَهَبُوا دَارَ السُّلْطَانِ وَدَارَ وَزِيرِهِ وَدَارَ طَبِيبِهِ أَبِي الْبَرَكَاتِ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ فِي دَارِهِ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَمَرَّتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، حتى أنهم نهبوا الصوفية، برباط نهرجور، وجرت أمور طويلة، وَنَالَتِ الْعَامَّةُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ يا باطني تترك الْفِرِنْجِ وَالرُّومِ وَتُقَاتِلُ الْخَلِيفَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ انْتَقَلَ إِلَى دَارِهِ فِي سَابِعِ الْمُحَرَّمِ، فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَمَاثَلَ الْحَالُ وَطَلَبَ السُّلْطَانُ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ، فَلَانَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَبَاشَرَ النَّاسُ بِالصُّلْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ، وَشَيْخَ الشُّيُوخِ وبضعا وَثَلَاثِينَ شَاهِدًا، فَاحْتَبَسَهُمُ السُّلْطَانُ عِنْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ فَسَاءَ ذَلِكَ النَّاسَ، وَخَافُوا مِنْ فِتْنَةٍ أُخْرَى أشد من الأولى، وكان برنقش الزَّكَوِيُّ شِحْنَةُ بَغْدَادَ يُغْرِي السُّلْطَانَ بِأَهْلِ بَغْدَادَ لينهب أموالهم، فلم يقبل منه، ثم أدخل لأولئك الجماعة فأدخلو عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ فَصَلَّى بِهِمُ الْقَاضِي وَقَرَءُوا عليه كتاب الخليفة، فقام قائما، وأجاب الْخَلِيفَةَ إِلَى جَمِيعِ مَا اقْتَرَحَ عَلَيْهِ، وَوَقَعَ الصلح والتحليف، ودخل جيش السلطان وَهُمْ فِي غَايَةِ الْجَهْدِ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ عِنْدَهُمْ فِي الْعَسْكَرِ، وَقَالُوا: لَوْ لَمْ يُصَالِحْ لَمِتْنَا جُوعًا، وَظَهَرَ مِنَ السُّلْطَانِ حِلْمٌ كَثِيرٌ عن العوام، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِرَدِّ مَا نُهِبَ مِنْ دُورِ الْجُنْدِ، وَأَنَّ مَنْ كَتَمَ شَيْئًا أُبِيحَ دَمُهُ. وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَلِيَّ بْنَ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيَّ النَّقِيبَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ لِيُبْعِدَ عَنْ بَابِهِ دُبَيْسًا، وأرسل معه الخلع والاكرام، فأكرم سنجر رسول الخليفة، وأمر بِضَرْبِ الطُّبُولِ عَلَى بَابِهِ فِي ثَلَاثَةِ(12/197)
أوقات، وظهر منه طاعة كثيرة، ثُمَّ مَرِضَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِبَغْدَادَ فَأَمَرَهُ الطَّبِيبُ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، فَسَارَ فِي رَبِيعٍ الآخر فوضع شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، فَلَمَّا وصل السلطان إلى همذان بعث على شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ مُجَاهِدَ الدِّينِ بِهْرُوزَ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الْحِلَّةِ وَبَعَثَ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي إِلَى الْمَوْصِلِ وأعمالها. وفيها درس الحسن بن سليمان بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ. وَفِيهَا وَرَدَ أَبُو الْفُتُوحِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، فَأَوْرَدَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مُنْكَرَةً جِدًّا، فَاسْتُتِيبَ مِنْهَا وَأُمِرَ بِالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا فَشَدَّ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ وَرَدُّوهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ بين الناس، حتى رجمه بعض العامة بالأسواق، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُطْلِقُ عِبَارَاتٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِيرَادِهَا، فَنَفَرَتْ مِنْهُ قُلُوبُ الْعَامَّةِ وَأَبْغَضُوهُ، وَجَلَسَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ فَتَكَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَأَعْجَبَهُمْ، وَأَحَبُّوهُ وَتَرَكُوا ذَاكَ.
وَفِيهَا قَتَلَ السلطان سنجر من الباطنية اثنا عشر ألفا. وحج بالناس قطز الخادم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مُحَمَّدُ بْنُ عبد الملك
ابن إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْهَمَذَانِيُّ الْفَرَضِيُّ، صَاحِبُ التَّارِيخِ مَنْ بَيْتِ الحديث. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ شَيْخِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُ طَعَنَ فِيهِ. تُوُفِّيَ فَجْأَةً فِي شَوَّالٍ، ودفن إلى جانب ابن شريح.
فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضْلُوَيْهِ
سَمِعَتِ الْخَطِيبَ وَابْنَ الْمُسْلِمَةِ وَغَيْرَهُمَا، وَكَانَتْ وَاعِظَةً لَهَا رِبَاطٌ تَجْتَمِعُ فِيهِ الزَّاهِدَاتُ، وَقَدْ سَمِعَ عَلَيْهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ مُسْنَدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرَهُ.
أَبُو محمد عبد الله بن محمد
ابن السيد البطليوسي، ثم التنيسي صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا، جَمَعَ الْمُثَلَّثَ فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَزَادَ فِيهِ عَلَى قُطْرُبَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَلَهُ شَرْحُ سَقْطِ الزَّنْدِ لِأَبِي الْعَلَاءِ، أَحْسَنُ مِنْ شَرْحِ الْمُصَنِّفِ وَلَهُ شَرْحُ أَدَبِ الْكَاتِبِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أورده له ابن خلكان.
أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ... وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ
وَذُو الْجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى ... يُظَنُّ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ عديم
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة
فِي أَوَّلِهَا قَدِمَ رَسُولُ سَنْجَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بغداد، وكان يخطب له في كل جمعة بجامع المنصور. وفيها مات ابن صدقة وزير الخليفة، وجعل مكانه نَقِيبُ النُّقَبَاءِ. وَفِيهَا اجْتَمَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِعَمِّهِ سَنْجَرَ وَاصْطَلَحَا بَعْدَ خُشُونَةٍ، وَسَلَّمَ سَنْجَرُ دُبَيْسًا إلى السلطان مَحْمُودٍ عَلَى أَنْ يَسْتَرْضِيَ عَنْهُ الْخَلِيفَةَ وَيَعْزِلَ زنكي عن الموصل، وَيُسَلِّمَ ذَلِكَ إِلَى دُبَيْسٍ، وَاشْتَهَرَ فِي رَبِيعٍ الأول(12/198)
بِبَغْدَادَ أَنَّ دُبَيْسًا أَقْبَلَ إِلَى بَغْدَادَ فِي جيش كثيف، فكتب الخليفة إلى السلطان محمود: لئن لم تكف دبيسا عن القدوم إلى بَغْدَادَ وَإِلَّا خَرَجْنَا إِلَيْهِ وَنَقَضْنَا مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِنَ الْعُهُودِ وَالصُّلْحِ. وَفِيهَا مَلَكَ الْأَتَابِكُ زنكي بن آقسنقر مَدِينَةَ حَلَبَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ. وَفِيهَا مَلَكَ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورَى بْنُ طُغْتِكِينَ مَدِينَةَ دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ من مماليك أَلْبِ أَرْسَلَانَ، وَكَانَ عَاقِلًا حَازِمًا عَادِلًا خَيِّرًا، كثير الجهاد في الفرنج رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا عُمِلَ بِبَغْدَادَ مُصَلًّى لِلْعِيدِ ظاهر باب الحلية، وَحُوِّطَ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ فِيهِ قِبْلَةٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ قطز الخادم المتقدم ذكره.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ على بن صدقة
أبو على وزير الخليفة الْمُسْتَرْشِدِ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا. وَمِنْ شِعْرِهِ الّذي أورد له ابن الجوزي وقد بالغ في مدح الخليفة فيه وأخطأ:
وَجَدْتُ الْوَرَى كَالْمَاءِ طَعْمًا وَرِقَّةً ... وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ زُلَالُهُ
وَصَوَّرْتُ مَعْنَى الْعَقْلِ شَخْصًا مُصَوَّرًا ... وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثَالُهُ
فَلَوْلَا مَكَانُ الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالتُّقَى ... لَقُلْتُ مِنَ الْإِعْظَامِ جَلَّ جَلَالُهُ
الحسين بن على
ابن أَبِي الْقَاسِمِ اللَّامِشِيُّ، مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَكَانَ خَيِّرًا دَيِّنًا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، مُطَّرِحًا لِلتَّكَلُّفِ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ، قَدِمَ مِنْ عِنْدِ الْخَاقَانِ مَلِكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي رِسَالَةٍ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقِيلَ لَهُ أَلَا تَحُجُّ عَامَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ الْحَجَّ تَبَعًا لِرِسَالَتِهِمْ، فَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
طُغْتِكِينُ الْأَتَابِكُ
صَاحِبُ دِمَشْقَ التُّرْكِيُّ، أحد غلمان تتش، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَعْدَلِهِمْ وَأَكْثَرِهِمْ جِهَادًا للفرنج، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورَى.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بَغْدَادَ، وَاجْتَهَدَ فِي إِرْضَاءِ الْخَلِيفَةِ عَنْ دُبَيْسٍ، وَأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ بِلَادَ الْمَوْصِلِ، فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، هَذَا وَقَدْ تَأَخَّرَ دُبَيْسٌ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ دَخَلَهَا وَرَكِبَ بَيْنَ النَّاسِ فَلَعَنُوهُ وَشَتَمُوهُ فِي وَجْهِهِ، وَقَدِمَ عِمَادُ الدِّينِ زِّنْكِي فَبَذَلَ لِلسُّلْطَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَدَايًا وَتُحَفًا، وَالْتَزَمَ لِلْخَلِيفَةِ بِمِثْلِهَا عَلَى أَنْ لَا يُوَلِّيَ دُبَيْسًا شَيْئًا وَعَلَى أَنْ يَسْتَمِرَّ زَنْكِي عَلَى عَمَلِهِ بِالْمَوْصِلِ، فَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَخَلَعَ عليه، ورجع إلى عمله فملك حَلَبَ وَحَمَاةَ، وَأَسَرَ صَاحِبَهَا سُونْجَ بْنَ تَاجِ الملوك، فافتدى نفسه بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ(12/199)
سَلْخِ رَبِيعٍ الْآخِرِ خَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى نَقِيبِ النقباء اسْتِقْلَالًا، وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ بَاشَرَ الوزارة غيره. وفي رمضان منها جَاءَ دُبَيْسٌ فِي جَيْشٍ إِلَى الْحِلَّةِ فَمَلَكَهَا ودخلها فِي أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ، ثُمَّ إِنَّهُ شَرَعَ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِ الْغَلَّاتِ مِنَ الْقُرَى حَتَّى حَصَّلَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَخْدَمَ قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِهِ، وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَرْضِيهِ فلم يرض عليه، وعرض عليه أموالا فلم يقبلها، وبعث إليه السلطان جيشا فانهزم إلى البرية ثم أغار عَلَى الْبَصْرَةِ فَأَخَذَ مِنْهَا حَوَاصِلَ السُّلْطَانِ وَالْخَلِيفَةِ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَرِّيَّةَ فَانْقَطَعَ خَبَرُهُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ سِتَّةَ آلاف، وعلق رءوس كبارهم على باب القلعة، وأراح الله الشَّامِ مِنْهُمْ. وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ أهل دمشق عبد الله الواعظ ومعه جماعة من التجار يَسْتَغِيثُونَ بِالْخَلِيفَةِ، وَهَمُّوا بِكَسْرِ مِنْبَرِ الْجَامِعِ، حَتَّى وعدهم بأنه سيكتب إلى السلطان ليبعث لهم جيشا يقاتلون الفرنج، فسكنت الأمور، فلم يبعث لهم جيشا حتى نصرهم الله من عنده، فان المسلمين هزموهم وَقَتَلُوا مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ سِوَى أَرْبَعِينَ نَفْسًا وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقُتِلَ سمند الفرنجى صاحب أنطاكية. وفيها تَخَبَّطَ النَّاسُ فِي الْحَجِّ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ بسبب فتنة دبيس، حتى حج بهم برنقش الزكوى، وكان اسمه بغاجق.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَسْعَدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ
الْمِيهَنِيُّ أَبُو الْفَتْحِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْمُظَفَّرِ السمعاني، وساد أهل زمانه وبرع وَتَفَرَّدَ مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَحَصَلَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وعلق عنه تعليقة في الْخِلَافِ، ثُمَّ عُزِلَ عَنِ النِّظَامِيَّةِ فَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وخمسمائة
فيها كانت زلزلة عظيمة بالعراق تهدم بِسَبَبِهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ بِبَغْدَادَ. وَوَقَعَ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ مطر عظيم فسقط بعضه نارا تأجج فأحرقت دورا كثيرة، وخلقا من ذلك المطر وَتَهَارَبَ النَّاسُ.
وَفِيهَا وُجِدَ بِبَغْدَادَ عَقَارِبُ طَيَّارَةٌ لَهَا شَوْكَتَانِ، فَخَافَ النَّاسُ مِنْهَا خَوْفًا شَدِيدًا. وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مَدِينَةَ سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ بها محمد بن خاقان. وَفِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بِلَادًا كَثِيرَةً من الجزيرة وهما مع الفرنج، وجرت معهم حروب طويلة، نصر عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِفِ كُلِّهَا وللَّه الْحَمْدُ. وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ جَيْشِ الرُّومِ حِينَ قَدِمُوا الشَّامِ، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عَلَى ذَلِكَ،
قَتْلُ خَلِيفَةِ مصر
وَفِي ثَانِي ذِي الْقَعْدَةِ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الْفَاطِمِيُّ الآمر بأحكام الله بن المستعلى صاحب مصر، قتله الْبَاطِنِيَّةُ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أشهر(12/200)
ونصفا، وكان هو العاشر مِنْ وَلَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ، وَلَمَّا قُتِلَ تغلب على الديار المصرية غلام من غلمانه أَرْمَنِيٌّ فَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى حَضَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ الْأَفْضَلِ بْنِ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ فَأَقَامَ الْخَلِيفَةَ الْحَافِظَ أَبَا الْمَيْمُونِ عَبْدَ الْمَجِيدِ بْنَ الْأَمِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ المستنصر، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَلَمَّا أَقَامَهُ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ دُونَهُ وَحَصَرَهُ فِي مجلسه، لا يدع أحدا يدخل إليه إلا من يريد هو، وَنَقَلَ الْأَمْوَالَ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى دَارِهِ، وَلَمْ يبق للحافظ سوى الاسم فقط.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يحيى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو إِسْحَاقَ الْكَلْبِيُّ مِنْ أَهْلِ غَزَّةَ، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَلَهُ شِعْرٌ جيد في الأتراك. فمنه:
في فتية مِنْ جُيُوشِ التُّرْكِ مَا تَرَكَتْ ... لِلرَّعْدِ كَرَّاتُهُمْ صَوْتًا وَلَا صِيتَا
قَوْمٌ إِذَا قُوبِلُوا كَانُوا مَلَائِكَةً ... حُسْنًا وَإِنْ قُوتِلُوا كَانُوا عَفَارِيتَا
وَلَهُ
لَيْتَ الَّذِي بِالْعِشْقِ دُونَكَ خَصَّنِي ... يَا ظَالِمِي قَسَمَ الْمَحَبَّةَ بَيْنَنَا
أَلْقَى الْهِزَبْرَ فَلَا أَخَافُ وثوبه ... ويرو عنى نظر الغزال إذا دنا
وَلَهُ
إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ مَتَاعٌ ... وَالسَّفِيهُ الْغَوِيُّ مَنْ يَصْطَفِيهَا
مَا مَضَى فَاتَ وَالْمُؤَمَّلُ غَيْبٌ ... وَلَكَ السَّاعَةُ التَّي أَنْتَ فِيهَا
وَلَهُ أَيْضًا:
قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق
خلت الديار فَلَا كَرِيمٌ يُرْتَجَى ... مِنْهُ النَّوَالُ وَلَا مَلِيحٌ يُعْشَقُ
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى ... وَيُخَانُ فيه مع الكساد ويسرق
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبِلَادِ بَلْخَ ودفن بها. ومما أنشده ابن خلكان له:
إِشَارَةٌ مِنْكَ تَكْفِينَا وَأَحْسَنُ مَا ... رُدَّ السَّلَامُ غَدَاةَ الْبَيْنِ بِالْعَنَمِ
حَتَّى إِذَا طَاحَ عَنْهَا الْمِرْطُ مِنْ دَهَشٍ ... وَانْحَلَّ بِالضَّمِّ سِلْكُ الْعِقْدِ فِي الظُّلَمِ
تَبَسَّمَتْ فَأَضَاءَ اللَّيْلُ فَالْتَقَطَتْ ... حَبَّاتِ منتثر في ضوء منتظم
الحسين بن محمد
ابن عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ الدَّبَّاسُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْبَارِعِ، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ عَارِفًا بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ والأدب، وله شعر حسن، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ سعدون بن مرجا
أَبُو عَامِرٍ الْعَبْدَرِيُّ الْقُرَشِيُّ الْحَافِظُ، أَصْلُهُ مِنْ بيروقة من بلاد المغرب وبغداد، وسمع بِهَا عَلَى طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ وَالْحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، وَكَانَ يَذْهَبُ فِي الْفُرُوعِ مَذْهَبَ(12/201)
الظاهرية. توفى في ربيع الآخر في بغداد.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة
فِيهَا ضَلَّ دُبَيْسٌ عَنِ الطَّرِيقِ فِي الْبَرِّيَّةِ فَأَسَرَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ بِأَرْضِ الشَّامِ، وَحَمَلَهُ إِلَى مَلِكِ دِمَشْقَ بُورَى بْنِ طُغْتِكِينَ، فَبَاعَهُ من زنكي بن آقسنقر صَاحِبِ الْمَوْصِلِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَلَمَّا حَصَلَ في يده لم يشك أَنَّهُ سَيُهْلِكُهُ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ، فَأَكْرَمَهُ زَنْكِي وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَقَدَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ فِي طَلَبِهِ فَبَعَثَهُ مَعَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ حُبِسَ فِي قَلْعَتِهَا.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ مَحْمُودٌ وَمَسْعُودٌ، فَتَوَاجَهَا لِلْقِتَالِ ثُمَّ اصْطَلَحَا. وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ محمود بن ملك شاه فَأُقِيمَ فِي الْمُلْكِ مَكَانَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ، وَجُعِلَ له أتابك وزير أبيه وخطب له بأكثر البلاد.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن عبد القاهر الصوفي
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وكان شيخا لطيفا، عليه نور العبادة والعلم قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنْشَدَنِي:
عَلَى كُلِّ حَالٍ فاجعل الحزم عدة ... تقدمها بَيْنَ النَّوَائِبِ وَالدَّهْرِ
فَإِنْ نِلْتَ خَيْرًا نِلْتَهُ بعزيمة ... وإن قصرت عنك الأمور فَعَنْ عُذْرِ
قَالَ وَأَنْشَدَنِي أَيْضًا:
لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجَا وَالنَّاسُ قَدْ رَقَدُوا ... وَقُمْتُ أَشْكُو إِلَى مَوْلَايَ مَا أَجِدُ
وَقُلْتُ يَا عُدَّتِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ ... وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّرِ أَعْتَمِدُ
وَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَالضُّرُ مُشْتَمِلٌ ... إِلَيْكَ يَا خَيْرَ مَنْ مُدَّتْ إِلَيْهِ يَدُ
فَلَا تَرُدَّنَّهَا يَا رَبِّ خَائِبَةً ... فَبَحْرُ جُودِكَ يَرْوِي كُلَّ من يرد
الحسن بن سليمان
ابن عبد الله بن عبد الغنى أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَقَدْ وَعَظَ بجامع القصر، وكان يقول ما في الفقه منتهى، ولا في الوعظ مبتدى. توفى فيها وَغَسَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ.
حَمَّادُ بْنُ مُسْلِمٍ
الرَّحْبِيُّ الدَّبَّاسُ، كَانَ يُذْكَرُ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ وَاطِّلَاعٌ عَلَى مُغَيَّبَاتٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَرَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يَتَكَلَّمُ فِيهِ وَيَقُولُ: كَانَ عُرْيًا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفُقُ عَلَى الْجُهَّالِ وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ كَانَ ينفر منه، وَكَانَ حَمَّادٌ الدَّبَّاسُ يَقُولُ: ابْنُ عَقِيلٍ عَدُوِّي. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ النَّاسُ يَنْذِرُونَ لَهُ فَيَقْبَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَصَارَ يَأْخُذُ من المنامات وينفق على أصحابه. توفى فِي رَمَضَانَ وَدُفِنَ بِالْشُّونِيْزِيَّةِ.(12/202)
عَلِيُّ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ باللَّه
أَخُو الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، توفى في رجب منها وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَتُرِكَ ضَرْبُ الطُّبُولِ وَجَلَسَ النَّاسُ لِلْعَزَاءِ أَيَّامًا.
مُحَمَّدُ بن أحمد
ابن أبى الفضل الماهاني، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ، ورحل في طلب الحديث، ودرس وأفتى وناظر. توفى فيها وقد جاوز التسعين، ودفن بقرية ماهان من بلاد مرو،
محمود السلطان بن السلطان ملك شاه
كان من خيار الملوك، فيه حلم وأناة وصلابة، وجلسوا للعزاء به ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَامَحَهُ اللَّهُ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ محمد
ابن عبد الواحد بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَبُو الْقَاسِمِ الشَّيْبَانِيُّ، راوي المسند عن على بن المهذب عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ قديما لأنه ولد سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَبَاكَرَ بِهِ أَبُوهُ فَأَسْمَعُهُ، وَمَعَهُ أَخُوهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ عِلْيَةِ الْمَشَايِخِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا صَحِيحَ السَّمَاعِ، تُوُفِّيَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ منها وله ثلاث وتسعون سنة، رحمه الله، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وعشرين وخمسمائة
فيها قدم مسعود بن محمد بن ملك شاه بغداد وقدمها قراجا الساقي، وسلجوق شَاهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْمُلْكَ لنفسه، وقدم عماد الدين زنكي لينضم إليهما فتلقاه السَّاقِي فَهَزَمَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى تَكْرِيتَ، فَخَدَمَهُ نَائِبُ قَلْعَتِهَا نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبَ وَالِدُ الْمَلِكِ صلاح الدين يوسف، فاتح بيت المقدس كما سيأتي إن شاء الله، حتى عاد إلى بلاده، وكان هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَصِيرِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِحَلَبَ، فَخَدَمَ عِنْدَهُ ثُمَّ كان من الأمور ما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم إن الملكين مسعود وَسَلْجُوقَ شَاهْ اجْتَمَعَا فَاصْطَلَحَا وَرَكِبَا إِلَى الْمَلِكِ سنجر فاقتتلا معه، وكان جيشه مائة وستين ألفا وكان جيشهما قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَسَرَ جَيْشُ سَنْجَرَ قَرَاجَا السَّاقِي فَقَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجْلَسَ طُغْرُلَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَرَجَعَ سَنْجَرُ إِلَى بِلَادِهِ، وَكَتَبَ طُغْرُلُ إِلَى دُبَيْسٍ وَزَنْكِي لِيَذْهَبَا إلى بغداد ليأخذاها، فَأَقْبَلَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَبَرَزَ إِلَيْهِمَا الْخَلِيفَةُ فَهَزَمَهُمَا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَأَزَاحَ اللَّهُ شَرَّهُمَا عَنْهُ وللَّه الْحَمْدُ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو على الْأَفْضَلِ بْنِ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ وَزِيرُ الْحَافِظِ الْفَاطِمِيِّ، فَنَقَلَ الْحَافِظُ الْأَمْوَالَ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا إِلَى دَارِهِ وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا الْفَتْحِ، يَانَسَ الْحَافِظِيَّ، ولقبه أمير الجيوش، ثم احتال فَقَتَلَهُ وَاسْتَوْزَرَ وَلَدَهُ حَسَنًا وَخُطِبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ. وَفِيهَا عَزَلَ الْمُسْتَرْشِدُ وَزِيرَهُ عَلِيَّ بْنَ طراد الزينبي(12/203)
وَاسْتَوْزَرَ أَنُوشِرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ بَعْدَ تَمَنُّعٍ. وَفِيهَا مَلَكَ دِمَشْقَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَاسْتَوْزَرَ يُوسُفَ بن فيروز، وكان خيرا، ملك بلادا كثيرة، وأطاعه إخوته
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ عبيد الله
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عِيسَى بن إبراهيم بن غثنة بن يزيد السُّلَمِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ كَادِشٍ الْعُكْبَرِيُّ، أَبُو الْعِزِّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَفْهَمُهُ وَيَرْوِيهِ وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ يَتَّهِمُهُ وَيَرْمِيهِ بِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوَضْعِ حَدِيثٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْأَنْمَاطِيُّ كَانَ مُخَلِّطًا، تُوُفِّيَ في جمادى الأولى منها.
محمد بن محمد بن الحسين
ابن الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ، وَتَفَقَّهَ وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ فِيهِ مَالٌ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ فَقُتِلَ وَأُخِذَ مَالُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَاتِلِهِ فَقَتَلُوهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبع وعشرين وخمسمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بغداد فخطب له بها وخلع عليه الخليفة وولاه السلطنة ونثر الدنانير والدراهم على الناس، وخلع على السلطان دَاوُدَ بْنِ مَحْمُودٍ. وَفِيهَا جَمَعَ دُبَيْسٌ جَمْعًا كثيرا بواسط، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَيْشًا فَكَسَرُوهُ وَفَرَّقُوا شَمْلَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الموصل ليأخذها من زنكي، فعرض عليه زنكي من الأموال وَالتُّحَفِ شَيْئًا كَثِيرًا لِيَرْجِعَ عَنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، ثم بلغه أن السلطان مسعود قَدِ اصْطَلَحَ مَعَ دُبَيْسٍ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَكَرَّ رَاجِعًا سَرِيعًا إِلَى بَغْدَادَ سَالِمًا مُعَظَّمًا. وَفِيهَا مَاتَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ، فَطَلَبَ حَلْقَتَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَكَانَ شَابًّا، فَحَصَلَتْ لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَزِيرُ أَنُوشِرْوَانَ فِي الْوَعْظِ، فتكلم في هذه السنة على الناس في أماكن مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ بَغْدَادَ، وَكَثُرَتْ مَجَالِسُهُ وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ النَّاسُ. وَفِيهَا مَلَكَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ حَمَاةَ، وَكَانَتْ بِيَدِ زَنْكِي. وَفِي ذي الحجة نهب التركمان مدينة طرابلس وخرج إليهم القومص لعنه الله الفرنجى فهزموه وقتلوا خلقا من أصحابه، وحاصروه فيها مُدَّةً طَوِيلَةً، حَتَّى طَالَ الْحِصَارُ، فَانْصَرَفُوا. وَفِيهَا تولى قاسم بن أبى فليتة مكة بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا قَتَلَ شَمْسُ الْمُلُوكِ أَخَاهُ سونج، وفيها اشترى الباطنية قلعة حصن القدموس بالشام فسكنوها وَحَارَبُوا مَنْ جَاوَرَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ.
وَفِيهَا اقْتَتَلَتِ الْفِرِنْجُ فِيمَا بَيْنَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا فَمَحَقَ الله بسبب ذلك خلقا كثيرا، وغزاهم فيها عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَلْفَ قَتِيلٍ، وغنم أموالا جزيلة، ويقال لها غزوة أسوار. وحج بالناس فيها قطز الخادم وكذا في التي بعدها وقبلها.(12/204)
وتوفى فيها من الأعيان
أحمد بن سلامة
ابن عبد اللَّهِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ بِبَغْدَادَ، وَبِأَصْبَهَانَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الخجنديّ، ثم تولى الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ بِالْحَرِيمِ وَالْحِسْبَةَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُؤَدِّبُ أولاد الخليفة، توفى في رجب منها ودفن عند أَبِي إِسْحَاقَ.
أَسْعَدُ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ أبى الفضل
أبو الفضل الْمِيهَنِيُّ مَجْدُ الدِّينِ أَحَدُ أَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةِ، وَصَاحِبُ الخلاف والمطروقة، وقد درس بالنظاميّة في سنة سبع عشرة وخمسمائة إلى سنة ثلاث وعشرين فعزل عنها، واستمر أصحابه هنالك وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَنَّهُ وَلِيَهَا، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
ابن الزاغونى الحنبلي
على بن عبد اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ السَّرِيِّ الزَّاغُونِيُّ، الْإِمَامُ المشهور، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَلَهُ يَدٌ فِي الْوَعْظِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي جنازته، وكانت حافلة جدا.
الحسن بن محمد
ابن إبراهيم البوربارى، من قراء أَصْبَهَانَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَحَلَ وَخَرَّجَ، وَلَهُ تَارِيخٌ، وَكَانَ يَكْتُبُ حَسَنًا وَيَقْرَأُ فَصِيحًا، تُوُفِّيَ بِأَصْبَهَانَ في هذه السنة.
على بن يعلى
ابن عَوَضٍ، أَبُو الْقَاسِمِ الْعَلَوِيُّ الْهَرَوِيُّ، سَمِعَ مُسْنَدَ أحمد من أبى الحصين، والترمذي مِنْ أَبِي عَامِرٍ الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ بِنَيْسَابُورَ، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ بِهَا، فَحَصَلَ له القبول التام، وَجَمَعَ أَمْوَالًا وَكُتُبًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَكَنِي فِي الْوَعْظِ، وَتَكَلَّمْتُ بَيْنَ يديه وأنا صغير، وتكلمت عند انصرافه.
محمد بن أحمد
ابن يَحْيَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيُّ الدِّيبَاجِيُّ، وَكَانَ ببغداد يعرف بالمقدسى، كان أَشْعَرِيَّ الِاعْتِقَادِ وَوَعَظَ النَّاسَ بِبَغْدَادَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْتُهُ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِهِ قَوْلَهُ:
دَعْ دموعي يَحِقُّ لِي أَنْ أَنُوحَا ... لَمْ تَدَعْ لِي الذنوب قلبا صحيحا
أخلقت مهجتي أَكُفُّ الْمَعَاصِي ... وَنَعَانِي الْمَشِيبُ نَعْيًا فَصِيحًا
كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ بَرَا جُرْحُ قَلْبِي ... عَادَ قَلْبِي مِنَ الذُّنُوبِ جَرِيحَا
إِنَّمَا الْفَوْزُ وَالنَّعِيمُ لِعَبْدٍ ... جَاءَ فِي الْحَشْرِ آمِنًا مُسْتَرِيحَا(12/205)
محمد بن محمد
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ بن حازم بْنُ أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، الْفَقِيهُ ابْنُ الْفَقِيهِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الزَّاهِدِينَ الْأَخْيَارِ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ
ابن أبى بكر مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدِيسٍ الْأَزْدِيُّ الصَّقِلِّيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، أنشد لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْعَارًا رَائِقَةً فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
قُمْ هَاتِهَا مِنْ كَفِّ ذَاتِ الْوِشَاحْ ... فَقَدْ نَعَى اللَّيْلَ بَشِيرُ الصَّبَاحْ
بَاكِرْ إِلَى اللَّذَّاتِ وَارْكَبْ لَهَا ... سَوَابِقَ اللَّهْوِ ذَوَاتِ الْمِرَاحْ
مِنْ قبل أن ترشف شمس الضحا ... رِيقَ الْغَوَادِي مِنْ ثُغُورِ الْأَقَاحْ
وَمِنْ جُمْلَةِ مَعَانِيهِ النَّادِرَةِ
زَادَتْ عَلَى كَحَلِ الْجُفُونِ تَكَحُّلًا ... وتسم نَصْلُ السَّهْمِ وَهُوَ قَتُولُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وعشرين وخمسمائة
فِيهَا اصْطَلَحَ الْخَلِيفَةُ وَزَنْكِي. وَفِيهَا فَتَحَ زَنْكِي قِلَاعًا كَثِيرَةً، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ الْفِرِنْجِ. وَفِيهَا فتح شمس الملوك الشقيف تيروت، وَنَهَبَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ. وَفِيهَا قَدِمَ سَلْجُوقُ شَاهْ بَغْدَادَ فَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ وَأَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ قَدِمَ السُّلْطَانُ مسعود وأكثر أصحابه ركاب على الجمال لِقِلَّةِ الْخَيْلِ. وَفِيهَا تَوَلَّى إِمْرَةَ بَنِي عَقِيلٍ أَوْلَادُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُهَارِشٍ الْعَقِيلِيِّ، إِكْرَامًا لِجَدِّهِمْ. وَفِيهَا أُعِيدَ ابْنُ طِرَادٍ إِلَى الْوَزَارَةِ، وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى إِقْبَالٍ الْمُسْتَرْشِدِيِّ خِلَعَ الْمُلُوكِ، وَلُقِّبَ ملك العرب سيف الدولة، ثم ركب فِي الْخِلَعِ وَحَضَرَ الدِّيوَانَ. وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ الملك طغرل وضعف أمر الملك مسعود.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ على بن إبراهيم
أبو ألوفا الفيروزآبادي، أحد مشايخ الصوفية، يسكن رِبَاطَ الزَّوْزَنِيِّ، وَكَانَ كَلَامُهُ يُسْتَحْلَى، وَكَانَ يَحْفَظُ من أخبار الصوفية وسيرهم وَأَشْعَارِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا.
أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ
الْحَسَنُ بن إبراهيم بن مرهون أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ بَيَانٍ الْكَازَرُونِيِّ صَاحِبِ الْمَحَامِلِيِّ، ثُمَّ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ، وَسَمِعَ الحديث وكان يكرر على المهذب والشامل، ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِوَاسِطٍ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ جيد السريرة، ممتعا بعقله وحواسه، إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ عن ست وسبعين سنة.(12/206)
عبد الله بن محمد
ابن أحمد بن الحسن، أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيُّ، سَمَعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِيهِ، وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَكَانَ فَاضِلًا وَاعِظًا فَصِيحًا مُفَوَّهًا، شَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي وَعْظِهِ وَحُسْنِ نَظْمِهِ وَنَثْرِهِ، وَلَفْظِهِ، تُوُفِّيَ في المحرم وقد قارب الخمسين، ودفن عند أبيه.
محمد بن أحمد
ابن على بن أبى بكر العطان، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْحَلَّاجِ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ، وَكَانَ خَيِّرًا زَاهِدًا عَابِدًا، يُتَبَرَّكُ بِدُعَائِهِ ويزار.
محمد بن عَبْدُ الْوَاحِدِ الشَّافِعِيُّ
أَبُو رَشِيدٍ، مِنْ أَهْلِ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وحج وأقام بمكة، وسمع من الحديث شَيْئًا يَسِيرًا، وَكَانَ زَاهِدًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّاسِ مُشْتَغِلًا بِنَفْسِهِ، رَكِبَ مَرَّةً مَعَ تُجَّارٍ فِي الْبَحْرِ فَأَوْفَوْا عَلَى جَزِيرَةٍ. فَقَالَ: دَعُونِي فِي هذه أعبد الله تعالى، فما نعوه فَأَبَى إِلَّا الْمُقَامَ بِهَا. فَتَرَكُوهُ وَسَارُوا فَرَدَّتْهُمُ الريح إليه فقالوا: إنه لا يمكن المسير إِلَّا بِكَ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْمُقَامَ بِهَا فَارْجِعْ إِلَيْهَا، فَسَارَ مَعَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَأَقَامَ بها مدة ثم ترحل عنها ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ آمُلَ فَمَاتَ بِهَا رحمه الله، ويقال إنه كان يقتات في تلك الجزيرة بأشياء موجودة فيها، وكان بِهَا ثُعْبَانٌ يَبْتَلِعُ الْإِنْسَانَ، وَبِهَا عَيْنُ مَاءٍ يشرب منها ويتوضأ منها، وقبره مشهور بآمل يُزَارُ.
أُمُّ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَرْشِدِ تُوُفِّيَتْ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ بعد العتمة تاسع عشر شوال مِنْهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تسع وعشرين وخمسمائة
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَرْشِدِ وَوِلَايَةُ الرَّاشِدِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وبين الخليفة واقع كبير، اقتضى الْحَالُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَرَادَ قَطْعَ الْخُطْبَةِ لَهُ مِنْ بَغْدَادَ فَاتَّفَقَ مَوْتُ أَخِيهِ طُغْرُلَ بْنِ محمد بن ملك شاه، فسار إلى البلاد فملكها، وقوى جأشه، ثُمَّ شَرَعَ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ لِيَأْخُذَ بَغْدَادَ مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ انْزَعَجَ وَاسْتَعَدَّ لِذَلِكَ، وَقَفَزَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ سَطْوَةِ الْمَلِكِ محمود، وَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَغْدَادَ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ، فِيهِمُ الْقُضَاةُ وَرُءُوسُ الدَّوْلَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، فَمَشَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوَّلَ مَنْزِلِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى السُّرَادِقِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُقَدِّمَةً وَأَرْسَلَ الملك مسعود مقدمة عليهم دبيس بن صدقة بن منصور، فجرت خطوب كَثِيرَةٌ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْجَيْشَيْنِ الْتَقَيَا فِي عاشر رمضان يوم الاثنين فاقتتلوا قتالا شديدا، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الصَّفَّيْنِ سِوَى خَمْسَةِ أَنْفُسٍ، ثم حمل الخليفة على جيش مَسْعُودٍ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا فَحَمَلُوا عَلَى جَيْشِ الخليفة فهزموهم(12/207)
وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا الخليفة، ثم نهبت أموالهم وحواصلهم، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وغير ذلك من الأثاث والخلع والآنية والقماش، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَطَارَ الْخَبَرُ فِي الأقاليم بذلك، وَحِينَ بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ انْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، صُورَةً وَمَعْنًى، وَجَاءَتِ الْعَامَّةُ إِلَى الْمَنَابِرِ فَكَسَرُوهَا وَامْتَنَعُوا مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَخَرَجَ النِّسَاءُ فِي الْبَلَدِ حَاسِرَاتٍ يَنُحْنَ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْرِ، وَتَأَسَّى بِأَهْلِ بَغْدَادَ فِي ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، وَتَمَّتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ وَانْتَشَرَتْ في الأقاليم، واستمر الحال على ذلك شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ وَالشَّنَاعَةُ فِي الْأَقَالِيمِ مُنْتَشِرَةٌ، فَكَتَبَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ يُحَذِّرُهُ غب ذلك عاقبة ما وقع فيه من الأمر العظيم، ويأمره أن يعيد الخليفة إلى مكانه وَدَارِ خِلَافَتِهِ، فَامْتَثَلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ ذَلِكَ وَضُرِبَ لِلْخَلِيفَةِ سُرَادِقٌ عَظِيمٌ، وَنُصِبَ لَهُ فِيهِ قُبَّةٌ عظيمة وتحتها سرير هائل، وألبس السواد على عادته وأركبه بعض ما كان يركبه من مراكبه، وأمسك لجام الفرس ومشى فِي خِدْمَتِهِ، وَالْجَيْشُ كُلُّهُمْ مُشَاةٌ حَتَّى أُجْلِسَ الخليفة على سريره، ووقف الملك مسعود فقبل الأرض بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهِ، وَجِيءَ بِدُبَيْسٍ مَكْتُوفًا وَعَنْ يَمِينِهِ أَمِيرَانِ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَمِيرَانِ، وسيف مسلول ونسعة بَيْضَاءُ، فَطُرِحَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ مَاذَا يَرْسُمُ تطبيبا لقلبه، فأقبل السلطان فشفع فِي دُبَيْسٍ وَهُوَ مُلْقًى يَقُولُ الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا أَخْطَأْتُ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِطْلَاقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. فَنَهَضَ قَائِمًا وَالْتَمَسَ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ فأذن له فقبلها، وأمرها على وجهه وصدره. وَسَأَلَ الْعَفْوَ عَنْهُ وَعَمَّا كَانَ مِنْهُ، وَاسْتَقَرَّ الأمر على ذلك، وَطَارَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْآفَاقِ وَفَرِحَ النَّاسُ بذلك، فلما كان مستهل ذي الحجة جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ جِهَةِ الْمَلِكِ سَنْجَرَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ يَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَأَنْ يُبَادِرَ إِلَى سُرْعَةِ رَدِّهِ إِلَى وَطَنِهِ، وَأَرْسَلَ مَعَ الرُّسُلِ جَيْشًا لِيَكُونُوا فِي خِدْمَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَادَ، فَصَحِبَ الْجَيْشَ عَشَرَةٌ مِنَ الباطنية، فلما وصل الجيش حملوا على الخليفة فقتلوه في خيمته وقطعوه قطعا، ولم يَلْحَقِ النَّاسُ مِنْهُ إِلَّا الرُّسُومَ، وَقَتَلُوا مَعَهُ أصحابه منهم عبيد الله بن سكينة، ثم أخذ أولئك الباطنية فأحرقوا قبحهم الله، وقيل إنهم كانوا مجهزين لقتله فاللَّه أعلم. وطار هذا الخبر في الآفاق فاشتد حزن الناس على الخليفة المسترشد، وخرجت النساء في بغداد حاسرات عن وجوههن ينحن في الطرقات، قتل عَلَى بَابِ مَرَاغَةَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعَ عشر ذي الحجة وحملت أعضاؤه إلى بغداد، وعمل عزاؤه ثلاثة أيام بعد ما بويع لولده الراشد، وقد كَانَ الْمُسْتَرْشِدُ، شُجَاعًا مِقْدَامًا بَعِيدَ الْهِمَّةِ فَصِيحًا بَلِيغًا، عَذْبَ الْكَلَامِ حَسَنَ الْإِيرَادِ، مَلِيحَ الْخَطِّ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ مُحَبَّبًا إِلَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَهُوَ آخر خليفة رئي خطيبا، قتل وعمره خمس وأربعون سنة، وثلاثة أشهر، وكانت مدة خلافة سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وكانت أمه أم ولد من الأتراك(12/208)
رحمه الله.
خِلَافَةُ الرَّاشِدِ باللَّه
أَبِي جَعْفَرٍ مَنْصُورِ بْنِ الْمُسْتَرْشِدِ، كَانَ أَبُوهُ قَدْ أَخَذَ لَهُ الْعَهْدَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْلَعَهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذلك لأنه لم يغدر. فَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ بِبَابِ مَرَاغَةَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سنة تسع وعشرين وخمسمائة، بايعه الناس والأعيان، وخطب له على المنابر ببغداد، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ كَبِيرًا لَهُ أَوْلَادٌ، وَكَانَ أَبْيَضَ جَسِيمًا حَسَنَ اللَّوْنِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عرفة من هذه السنة جيء بالمسترشد وصلى عليه ببيت التوبة، وَكَثُرَ الزِّحَامُ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مِنَ الْغَدِ وَهُمْ فِي حُزْنٍ شَدِيدٍ عَلَى الْمُسْتَرْشِدِ، وَقَدْ ظَهَرَ الرَّفْضُ قَلِيلًا فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الراشد.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن الحسين
ابن عمرو، أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِيهِ وَاخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ بَعْدَ أَخِيهِ وَلَمْ يَبْلُغْ سن الرواية
إسماعيل بن عبد الله
ابن على أبو القاسم الحاكم، تفقه بإمام الحرمين، وكان رفيق الْغَزَالِيُّ يَحْتَرِمُهُ وَيُكْرِمُهُ، وَكَانَ فَقِيهًا بَارِعًا، وَعَابِدًا ورعا، توفى بطوس ودفن إلى جانب الغزالي.
دبيس بن صدقة
ابن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد، أَبُو الْأَعَزِّ الْأَسَدِيُّ الْأَمِيرُ مِنْ بَيْتِ الْإِمْرَةِ وِسَادَةِ الْأَعْرَابِ، كَانَ شُجَاعًا بَطَلًا، فَعَلَ الْأَفَاعِيلَ وتمرق في البلاد من خوفه من الخليفة، فَلَمَّا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ عَاشَ بَعْدَهُ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ يوما، ثم اتهم عند السلطان بِأَنَّهُ قَدْ كَاتَبَ زَنْكِي يَنْهَاهُ عَنِ الْقُدُومِ إلى السلطان، ويحذره منه، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَنْجُوَ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ غُلَامًا أَرْمَنِيًّا فَوَجَدَهُ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ يُفَكِّرُ فِي خيمته، فما كلمه حتى شهر سيفه فضربه فَأَبَانَ رَأْسَهُ عَنْ جُثَّتِهِ، وَيُقَالُ بَلِ اسْتَدْعَاهُ السلطان فَقَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ فاللَّه أَعْلَمُ.
طُغْرُلُ السلطان بن السلطان محمد بن ملك شاه
توفى بهمذان يوم الأربعاء ثالث المحرم منها.
على بن محمد النروجانى
كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أنه كان يقول بأن القدرة تتعلق بالمستحيلات، ثم أنكر ذلك وعذره لعدم تعقله لما يقول، ولجهله.
الفضل أبو منصور
أمير المؤمنين المسترشد، تقدم شيء من ترجمته والله أعلم.(12/209)
ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة
فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا كَانَ كَتَبَهُ لَهُ وَالِدُهُ الْمُسْتَرْشِدُ حِينَ أَسَرَهُ، الْتَزَمَ لَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فامتنع من ذَلِكَ وَقَالَ:
لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِلَّا السَّيْفُ، فوقع بينهما الخلف، فاستجاش السلطان بالعساكر، وَاسْتَنْهَضَ الْخَلِيفَةُ الْأُمَرَاءَ، وَأَرْسَلَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زنكي فجاء والتف على الخليفة خلائق، وجاء في غضون ذَلِكَ السُّلْطَانُ دَاوُدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بن ملك شاه، فَخَطَبَ لَهُ الْخَلِيفَةُ بِبَغْدَادَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَبَايَعَهُ عَلَى الْمُلْكِ، فَتَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَالْخَلِيفَةِ جِدًّا، وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَادَ وَمَشَى الْجَيْشُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا كَانُوا يُعَامِلُونَ أَبَاهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ شَعْبَانَ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ دَاوُدُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ كَثْرَةُ جيوش السلطان محمود حَسَّنَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَذْهَبَ معه إلى الموصل، واتفق دخول مَسْعُودٍ إِلَى بَغْدَادَ فِي غَيْبَتِهِمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ رَابِعَ شَوَّالٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى دَارِ الْخِلَافَةِ بِمَا فِيهَا جَمِيعِهِ، ثُمَّ اسْتَخْلَصَ مِنْ نِسَاءِ الْخَلِيفَةِ وخظاياه الْحُلِيَّ وَالْمَصَاغَ وَالثِّيَابَ الَّتِي لِلزِّينَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَجَمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ، وَأَبْرَزَ لَهُمْ خَطَّ الرَّاشِدِ أَنَّهُ مَتَى خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِقِتَالِ السُّلْطَانِ فَقَدْ خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، فَأَفْتَى مَنْ أَفْتَى مِنَ الْفُقَهَاءِ بِخَلْعِهِ، فَخُلِعَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ عَشَرَ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ بِحُكْمِ الحاكم وفتيا الفقهاء، وكانت خلافته إحدى عشر شهرا وإحدى عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَدْعَى السُّلْطَانُ بِعَمِّهِ الْمُقْتَفِي بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ أَخِيهِ الرَّاشِدِ باللَّه.
خِلَافَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ
أَبِي عبد الله بن المستظهر، وأمه صفراء تسمى نسيما، وَيُقَالُ لَهَا سِتُّ السَّادةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ سَنَةً، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ خَلْعِ الرَّاشِدِ بِيَوْمَيْنِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُقْتَفِي لِأَنَّهُ يُقَالُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ سَيَصِلُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَيْكَ فَاقْتَفِ بِي، فَصَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ فَلُقِّبَ بذلك
فائدة حسنة ينبغي التنبه لها
وَلِيَ الْمُقْتَفِي وَالْمُسْتَرْشِدُ الْخِلَافَةَ وَكَانَا أَخَوَيْنِ، وَكَذَلِكَ السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ، وَكَذَلِكَ الْهَادِي وَالرَّشِيدُ، ابْنَا الْمَهْدِيِّ، وَكَذَلِكَ الْوَاثِقُ وَالْمُتَوَكِّلُ ابْنَا الْمُعْتَصِمِ أَخَوَانِ، وَأَمَّا ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ فَالْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ وَالْمُعْتَصِمُ بَنُو الرَّشِيدِ، وَالْمُنْتَصِرُ وَالْمُعْتَزُّ وَالْمُعْتَمِدُ بَنُو الْمُتَوَكِّلِ، وَالْمُكْتَفِي وَالْمُقْتَدِرُ وَالْقَاهِرُ بَنُو الْمُعْتَضِدِ، وَالرَّاضِي وَالْمُقْتَفِي وَالْمُطِيعُ بَنُو الْمُقْتَدِرِ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي بَنِي أُمَيَّةَ وَهُمُ الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ وَيَزِيدُ وَهِشَامُ بَنُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُقْتَفِي بِالْخِلَافَةِ اسْتَمَرَّ الرَّاشِدُ ذَاهِبًا إِلَى الْمَوْصِلِ صُحْبَةَ صَاحِبِهَا عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، فَدَخَلَهَا في ذي الحجة من هذه السنة.(12/210)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مُحَمَّدُ بْنُ حمويه
ابن مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّوَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْنِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَكَانَ صَدُوقًا مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ، وَلَهُ كَرَامَاتٌ، دَخَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا وَدَّعَهُمْ بالخروج منها أَنْشَدَهُمْ:
لَئِنْ كَانَ لِي مِنْ بَعْدُ عَوْدٌ إليكم ... نصيب لبانات الفؤاد إليكم
وإن تكن الأخرى وفي الغيب غيره ... قضاه وإلا فالسلام عليكم
محمد بن عبد الله
ابن أَحْمَدَ بْنِ حَبِيبٍ، أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بابن الخباز، سمع الحديث وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ عَلَى طَرِيقِ التَّصَوُّفِ، وَكَانَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَنْ تَأَدَّبَ بِهِ، وَقَدْ أَثْنَى عليه وأنشد عنه من شِعْرِهِ:
كَيْفَ احْتِيَالِي وَهَذَا فِي الْهَوَى حَالِي ... وَالشَّوْقُ أَمْلَكُ لِي مِنْ عَذْلِ عُذَّالِي
وَكَيْفَ أشكو وَفِي حُبِّي لَهُ شُغُلٌ ... يَحُولُ بَيْنَ مُهِمَّاتِي وأشغالى
وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَقَدْ شَرَحَ كتاب الشهاب، وقد ابتنى رباطا، وكان عنده فيه جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ وَالزُّهَّادِ، وَلَمَّا احْتَضَرَ أَوْصَاهُمْ بتقوى الله عز وجل والإخلاص للَّه والدين، فلما فرغ شَرَعَ فِي النَّزْعِ وَعَرَقَ جَبِينُهُ فَمَدَّ يَدَهُ وقال بيتا لغيره:
هَا قَدْ بَسَطْتُ يَدِي إِلَيْكَ فَرُدَّهَا ... بِالْفَضْلِ لَا بِشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ
ثُمَّ قَالَ: أَرَى الْمَشَايِخَ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْأَطْبَاقُ وَهُمْ يَنْتَظِرُونَنِي، ثُمَّ مَاتَ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ نِصْفَ رَمَضَانَ وَدُفِنَ بِرِبَاطِهِ، ثم غرق رباطه وقبره في سنة أربعين وخمسمائة،
محمد بن الفضل
ابن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّاعِدِيُّ الْفُرَاوِيُّ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ ثَغْرِ فُرَاوَةَ، وَسَكَنَ نَيْسَابُورَ، فَوُلِدَ لَهُ بِهَا مُحَمَّدٌ هَذَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ بِالْآفَاقِ، وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ وَوَعَظَ، وَكَانَ ظَرِيفًا حَسَنَ الْوَجْهِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ كَثِيرَ التَّبَسُّمِ، وَأَمْلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مَجْلِسٍ، ورحل إليه الطلبة من الآفاق حتى يقال للفراوى ألف راوي، وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَكْتُوبًا فِي خَاتَمِهِ، وَقَدْ أَسْمَعَ صَحِيحَ مُسْلِمٍ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ مرة، توفى في شوال منها عن تسعين سنة.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة
فِيهَا كَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ بِأَصْبَهَانَ فَمَاتَ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ، وَأُغْلِقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ الخليفة بالخاتون فاطمة بنت محمد بن ملك شاه عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَحَضَرَ أَخُوهَا السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ الْعَقْدَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الدَّوْلَةِ وَالْوُزَرَاءُ وَالْأُمَرَاءُ، وَنُثِرَ عَلَى النَّاسِ أَنْوَاعُ النِّثَارِ. وَفِيهَا صَامَ أَهْلُ بَغْدَادَ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يَرَوُا الْهِلَالَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، مَعَ كَوْنِ السَّمَاءِ كَانَتْ مُصْحِيَةً.(12/211)
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ. وَفِيهَا هَرَبَ وَزِيرُ صَاحِبِ مِصْرَ وَهُوَ تَاجُ الدَّوْلَةِ بَهْرَامُ النَّصْرَانِيُّ، وَقَدْ كَانَ تَمَكَّنَ فِي الْبِلَادِ وَأَسَاءَ السِّيرَةَ، فَتَطَلَّبَهُ الْخَلِيفَةُ الْحَافِظُ حَتَّى أَخَذَهُ فَسَجَنَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ فَتَرَهَّبَ وَتَرَكَ العمل، فاستوزر بعده رضوان بن الريحينى ولقبه الملك الأفضل، ولم يلقب وزير قبله بهذا، ثم وقع بينه وبين الخليفة الْحَافِظِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْخَلِيفَةُ حَتَّى قَتَلَهُ واستقل بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِ وَحْدَهُ. وَفِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زنكي عدة بلدان. وفيها طلع بِالشَّامِ سَحَابٌ أَسْوَدُ أَظْلَمَتْ لَهُ الدُّنْيَا، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَهُ سَحَابٌ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ نَارٌ أَضَاءَتْ لَهُ الدُّنْيَا، ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ أَلْقَتْ أَشْجَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ وَقَعَ مَطَرٌ شَدِيدٌ، وَسَقَطَ بَرَدٌ كِبَارٌ. وَفِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ بِلَادَ الشَّامِ فَأَخَذَ بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وأطاعه ابن اليون ملك الأرمن.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ محمد بن ثابت
ابن الْحَسَنِ أَبُو سَعْدٍ الْخُجَنْدِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ الامام أبى بكر الخجنديّ الأصبهاني، وولى تدريس النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ مِرَارًا، وَيُعْزَلُ عَنْهَا، وَقَدْ سَمِعَ الحديث ووعظ، وتوفى في شعبان منها، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
ابن عمر الحريري، يعرف بابن الطير، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ ابْنِ زَوْجِ الْحُرَّةِ، وَقَدْ حَدَّثَ عنه الخطيب، وكان ثبتا كثير السَّمَاعِ، كَثِيرَ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ، مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ، إلى أن توفى في جمادى الأولى عن ست وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة
فِيهَا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْمَخْلُوعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ الْمَلِكُ دَاوُدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، فَقَصَدُوا قِتَالَ مَسْعُودٍ بِأَرْضِ مَرَاغَةَ فَهَزَمَهُمْ وبدد شملهم، وقتل منهم خلقا صبرا، مِنْهُمْ صَدَقَةُ بْنُ دُبَيْسٍ، وَوَلَّى أَخَاهُ مُحَمَّدًا مَكَانَهُ عَلَى الْحِلَّةِ، وَهَرَبَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْمَخْلُوعُ، فدخل أصبهان فقتله رجل ممن كَانَ يَخْدُمُهُ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ بَرَأَ مِنْ وَجَعٍ أَصَابَهُ، فَقَتَلُوهُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِشَهْرَسْتَانَ ظَاهِرَ أَصْبَهَانَ. وَقَدْ كَانَ حَسَنَ اللَّوْنِ مَلِيحَ الْوَجْهِ شَدِيدَ الْقُوَّةِ مهيبا، أمه أم ولد. وفيها كسى الْكَعْبَةَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ رَاسَتُ الْفَارِسِيُّ، بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم تأتها كسوة في هذا العام لأجل اختلاف الْمُلُوكِ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ الشَّامِ والجزيرة والعراق، فانهدم شيء كثير من البيوت، ومات تحت الهدم خلق كثير. وَفِيهَا أَخَذَ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي مَدِينَةَ حِمْصَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَتَزَوَّجَ فِي رَمَضَانَ بِالسِّتِّ زُمُرُّدَ خَاتُونَ، أُمِّ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَهِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهَا الْخَاتُونِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ. وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ الرُّومِ مَدِينَةَ بُزَاعَةَ، وَهِيَ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنْ حَلَبَ، فَجَاءَ أَهْلُهَا الَّذِينَ نَجَوْا مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ يَسْتَغِيثُونَ بِالْمُسْلِمِينَ بِبَغْدَادَ، فَمُنِعَتِ(12/212)
الْخُطْبَةُ بِبَغْدَادَ، وَجَرَتْ فِتَنٌ طَوِيلَةٌ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ السلطان مسعود بسفري بِنْتَ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ لِذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَسَادٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ مُنْتَشِرٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا. وفيها ولد للسلطان الناصر صلاح يوسف بن أيوب ابن شارى بقلعة تكريت.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ الدينَوَريّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيِّ وأفتى ودرس وناظر، كان أسعد الميهنى يقول عنه: مَا اعْتَرَضَ أَبُو بَكْرٍ الدينَوَريّ عَلَى دَلِيلِ أحد إلا ثلمه، وقد تخرج به ابن الجوزي وأنشد:
تمنيت أن يمسى فقيها مناظرا ... بغير عياء والجنون فُنُونُ
وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْمَالِ دُونَ مَشَقَّةٍ ... تَلَقَّيْتَهَا، فَالْعِلْمُ كَيْفَ يَكُونُ؟
عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَبْدِ الكريم
ابن هَوَازِنَ، أَبُو الْمُظَفَّرِ الْقُشَيْرِيُّ، آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، سَمِعَ أَبَاهُ وَأَبَا بَكْرٍ الْبَيْهَقِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَسَمِعَ مِنْهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْأَنْمَاطِيُّ، وَأَجَازَ ابْنَ الْجَوْزِيِّ، وَقَارَبَ التِّسْعِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
ابن محمد بن عمر، أبو الحسن الكرخي، سَمِعَ الْكَثِيرَ فِي بِلَادٍ شَتَّى، وَكَانَ فَقِيهًا مفتيا، تفقه بأبي إسحاق وغيره من الشافعية، وكان شَاعِرًا فَصِيحًا، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْفُصُولُ فِي اعْتِقَادِ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ، يَذْكُرُ فِيهِ مَذَاهِبَ السَّلَفِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ، وَيَحْكِي فِيهِ أَشْيَاءَ غَرِيبَةً حَسَنَةً، وَلَهُ تَفْسِيرٌ وَكِتَابٌ فِي الْفِقْهِ، وَكَانَ لَا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ، وَيَقُولُ: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ كَانَ إِمَامُنَا الشافعيّ يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي الْحَائِطَ. وَقَدْ كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، ومن شعره قوله:
تَنَاءَتْ دَارُهُ عَنِّي وَلَكِنْ ... خَيَالُ جَمَالِهِ فِي الْقَلْبِ سَاكِنْ
إِذَا امْتَلَأَ الْفُؤَادُ بِهِ فَمَاذَا ... يضر إذا خلت منه الأماكن
توفى وقد قارب التسعين.
الخليفة الراشد
منصور بن المسترشد، قتل بأصبهان بَعْدَ مَرَضٍ أَصَابَهُ، فَقِيلَ إِنَّهُ سُمَّ، وَقِيلَ قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَقِيلَ قَتَلَهُ الْفَرَّاشُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَلُونَ أَمْرَهُ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصُّولِيِّ أَنَّهُ قَالَ النَّاسُ يَقُولُونَ كُلُّ سَادِسٍ يَقُومُ بِأَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا بُدَّ أَنْ يُخْلَعَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
فَتَأَمَّلْتُ ذَلِكَ فَرَأَيْتُهُ عَجَبًا قيام رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ على ثم الحسن فخلعه معاوية(12/213)
ثم يزيد وَمُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ وَمَرْوَانُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، ثُمَّ الْوَلِيدُ ثُمَّ سُلَيْمَانُ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ لِبَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَهُ أَمْرٌ حَتَّى قَامَ السَّفَّاحُ الْعَبَّاسِيُّ ثُمَّ أَخُوهُ الْمَنْصُورُ ثُمَّ الْمَهْدِيُّ ثُمَّ الْهَادِي ثُمَّ الرَّشِيدُ ثُمَّ الْأَمِينُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، ثُمَّ الْمَأْمُونُ وَالْمُعْتَصِمُ وَالْوَاثِقُ وَالْمُتَوَكِّلُ وَالْمُنْتَصِرُ ثم المستعين فخلع ثم قتل، ثُمَّ الْمُعْتَزُّ وَالْمُهْتَدِي وَالْمُعْتَمِدُ وَالْمُعْتَضِدُ وَالْمُكْتَفِي ثُمَّ الْمُقْتَدِرُ فَخُلِعَ ثُمَّ أُعِيدَ فَقُتِلَ، ثُمَّ الْقَاهِرُ وَالرَّاضِي وَالْمُتَّقِي وَالْمُكْتَفِي وَالْمُطِيعُ ثُمَّ الطَّائِعُ فَخُلِعَ، ثُمَّ الْقَادِرُ وَالْقَائِمُ وَالْمُقْتَدِي وَالْمُسْتَظْهِرُ وَالْمُسْتَرْشِدُ ثُمَّ الراشد فخلع وقتل.
أنوشروان بن خالد
ابن محمد القاشاني القيني، من قرية قين مِنْ قَاشَانَ، الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرٍ، وَزَرَ لِلسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَلِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَكَانَ عَاقِلًا مَهِيبًا عَظِيمَ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَلْزَمَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيَّ بِتَكْمِيلِ الْمَقَامَاتِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا محمد كان جالسا في مسجد بنى حرام في محلة مِنْ مَحَالِّ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ ذُو طِمْرَيْنِ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا رَجُلٌ مِنْ سَرُوجَ، يُقَالُ لِي أَبُو زَيْدٍ. فَعَمِلَ الْحَرِيرِيُّ الْمَقَامَةَ الْحَرَامِيَّةَ وَاشْتُهِرَتْ فِي النَّاسِ، فَلَمَّا طَالَعَهَا الْوَزِيرُ أَنُوشِرْوَانُ أُعْجِبَ بِهَا وَكَلَّفَ أَبَا محمد الحريري أن يزيد عليها غيرها فزاد عليها غيرها إلى تَمَامَ خَمْسِينَ مَقَامَةً، فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ بين الناس، وقد كان الوزير أنوشروان كريما، وقد مدحه الحريري صاحب المقامات.
ألا ليت شعرى والتمني لعله ... وَإِنْ كَانَ فِيهِ رَاحَةٌ لِأَخِي الْكَرْبِ
أَتَدْرُونَ أَنِّي مُذْ تَنَاءَتْ دِيَارُكُمْ ... وَشَطَّ اقْتِرَابِي مِنْ جنابكم الرحب
أكابد شوقا ما أزال أداره ... يُقَلِّبُنِي فِي اللَّيْلِ جَنْبًا عَلَى جَنْبِ
وَأَذْكُرُ أَيَّامَ التَّلَاقِي فَأَنْثَنِي ... لِتِذْكَارِهَا بَادِي الْأَسَى طَائِرَ اللُّبِّ
وَلِي حَنَّةٌ فِي كُّلِّ وَقْتٍ إِلَيْكُمُ ... ولا حنة الصادي إلى البارد العذب
فو الله لَوْ أَنِّي كَتَمْتُ هَوَاكُمُ ... لَمَا كَانَ مَكْتُومًا بِشَرْقٍ وَلَا غَرْبِ
وَمِمَّا شَجَا قَلْبِي الْمُعَنَّى وَشَفَّهُ ... رِضَاكُمْ بِإِهْمِالِ الْإِجَابَةِ عَنْ كُتْبِي
وَقَدْ كُنْتُ لَا أَخْشَى مَعَ الذَّنْبِ جَفْوَةً ... فَقَدْ صِرْتُ أَخْشَاهَا وَمَا لِيَ مِنْ ذَنْبِ
وَلَمَّا سَرَى الْوَفْدُ الْعِرَاقِيُّ نَحْوَكُمْ ... وَأَعْوَزَنِي الْمَسْرَى إِلَيْكُمْ مع الركب
جعلت كتابي نائبا عن ضرورتى ... ومن لم يجد ماء تيمم بالترب
ويعضد أيضا بضعة من جوارحي ... تنبيكم عن سر حالي وتستنبى
ولست أرى اذكاركم بعد خيركم ... بمكرمة، حسبي اعتذاركم حسبي(12/214)
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة
فيها كانت زلزلة عظيمة بمدينة جبرت فمات بِسَبَبِهَا مِائَتَا أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَصَارَ مَكَانُهَا مَاءً أَسْوَدَ عَشَرَةَ فَرَاسِخَ فِي مِثْلِهَا، وَزُلْزِلَ أَهْلُ حَلَبَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثَمَانِينَ مَرَّةً. وفيها وضع السلطان محمود مُكُوسًا كَثِيرَةً عَنِ النَّاسِ، وَكَثُرَتِ الْأَدْعِيَةُ لَهُ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وخوارزم شاه، فهزمه سنجر وقتل ولده في المعركة، فَحَزِنَ عَلَيْهِ وَالِدُهُ حُزْنًا شَدِيدًا. وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ دِمَشْقَ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، قَتَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَوَاصِّهِ لَيْلًا وَهَرَبُوا مِنَ الْقَلْعَةِ، فَأُدْرِكُ اثْنَانِ فصلبا وأفلت واحد. وفيها عزل الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنِ الْمُبَاشَرَاتِ ثُمَّ أُعِيدُوا قَبْلَ شهر وحج بالناس فيها قطز الخادم.
وفيها توفى من الأعيان
زاهر بن طاهر
ابن مُحَمَّدٍ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبى بكر السحامى الْمُحَدِّثُ الْمُكْثِرُ، الرَّحَّالُ الْجَوَّالُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَمْلَى بجامع نيسابور ألف مجلس، وتكلم فِيهِ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يُخِلُّ بِالصَّلَوَاتِ. وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى السمعاني بعذر المرض وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يُكْثِرُ بِسَبَبِهِ جمع الصلوات فاللَّه أعلم، بلغ خمسا وثمانين سنة توفى بنيسابور في ربيع الآخر، ودفن بمقبرته.
يحيى بن يحيى بن على
ابن أَفْلَحَ، أَبُو الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ، وَقَدْ خَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَرْشِدُ وَلَقَبَّهُ جَمَالَ الْمُلْكِ، وَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دُورٍ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ إِلَى جَانِبِهِنَّ فَهَدَمَهُنَّ كُلَّهُنَّ وَاتَّخَذَ مَكَانَهُنَّ دَارًا هَائِلَةً، طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَأَطْلَقَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أخشابها وآجرها وطرازاتها، وكتب عليها أَشْعَارًا حَسَنَةً مِنْ نَظْمِهِ وَنَظْمِ غَيْرِهِ، فَمِنْ ذلك ما هو على باب دارها:
إن أعجب الرَّاءُونَ مِنْ ظَاهِرِي ... فَبَاطِنِي لَوْ عَلِمُوا أَعْجَبُ
شد بأني من كفه مزنة ... يخجل منها العارض الصيب
ورنحت روضة أخلاقه ... في ديار نورها مذهب
صدر كسى صَدْرِيَ مِنْ نُورِهِ ... شَمْسًا عَلَى الْأَيَّامِ لَا تَغْرُبُ
وَعَلَى الطُّرُزِ مَكْتُوبٌ:
وَمِنَ الْمُرُوءَةِ لِلْفَتَى ... مَا عَاشَ دَارٌ فَاخِرَهْ
فَاقْنَعْ مِنَ الدُّنْيَا بها ... واعمل لدار الآخرة
هاتيك وافيت بما ... وعدت وهاتي باتره
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَكْتُوبٌ:(12/215)
وناد كأن جنان الخلد ... أَعَارَتْهُ مِنْ حُسْنِهَا رَوْنَقَا
وَأَعْطَتْهُ مِنْ حَادِثَاتِ الزمان ... أن لا يلم به موبقا
فأضحى ينبئه عَلَى كُلِّ مَا ... بُنِيَ مَغْرِبًا كَانَ أَوْ مشرقا
تظل الوفود به عكفا ... ويمسى الضُّيُوفُ بِهِ طُرَّقَا
بَقِيتَ لَهُ يَا جَمَالَ الملوك ... وذا الفضل مَهْمَا أَرَدْتَ الْبَقَا
وَسَالَمَهُ فِيكَ رَيْبُ الزَّمَانِ ... ووقيت فيه الّذي يتقى
فما والله صدقت هذه الأماني، بل عما قريب اتهمه الخليفة بأنه يكاتب دبيسا فأمر بخراب داره تلك فلم يبق فيها جدار، بل صارت خربة بعد ما كانت قرة العيون من أحسن المقام والقرار، وهذه حكمة الله من تقلب الليل والنهار، وما تجرى بمشيئة الأقدار، وهي حكمته في كل دار بنيت بالأشر والبطر، وفي كل لباس لبس على التيه والكبر والأشر. وقد أورد له ابن الجوزي أشعارا حسنة من نظمه، وكلمات من نثره فمن ذلك قوله:
دع الهوى لا ناس يعرفون به ... قد مارسوا الحب حتى أصعبه
أدخلت نفسك فيما لست تجربه ... والشيء صعب على من لا يجربه
أمن اصطبار وإن لم تستطع خلدا ... فرب مدرك أمر عز مطلبه
أحن الضلوع على قلب يخيرني ... في كل يوم يعييني تقلبه
تأرج الريح من نجد يهيجه ... ولا مع البرق من نغمات يطربه
وقوله
هَذِهِ الْخَيْفُ وَهَاتِيكَ مِنَى ... فَتَرَفَّقْ أَيُّهَا الْحَادِي بنا
واحبس الركب علينا ساعة ... نندب الدار ونبكي الدنا
فلذا الموقف أعددت البكا ... ولذا اليوم الدموع تقتنى
زماننا كان وكنا جيرة ... فأعاد الله ذاك الزمنا
بيننا يوم ائتلاف نلتقي ... كان من غير تراضى بَيْنَنَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا حَاصَرَ زَنْكِيٌّ دِمَشْقَ فَحَصَّنَهَا الْأَتَابِكُ مُعِينُ الدين بن مَمْلُوكُ طُغْتِكِينَ، فَاتَّفَقَ مَوْتُ مَلِكِهَا جَمَالِ الدِّينِ محمود بْنِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، فَأَرْسَلَ مُعِينُ الدِّينِ إلى أخيه مجير الدين أتق، وَهُوَ بِبَعْلَبَكَّ فَمَلَّكَهُ دِمَشْقَ، فَذَهَبَ زَنْكِيٌّ إِلَى بَعْلَبَكَّ فَأَخَذَهَا وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ صلاح الدين.
وفيها دخل الخليفة على الخاتون فاطمة بنت السلطان مسعود، وأغلقت بغداد أياما. وَفِيهَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ فَاجْتَمَعَ الناس بمدرسة الشيخ عبد القادر فاتفق أَنَّ الرَّجُلَ عَطَسَ فَأَفَاقَ،(12/216)
وحضرت جنازة رجل آخر غيره فصلى عليه ذلك الجمع الكثير. وَفِيهَا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ مِنْ سَائِرِ الدُّنْيَا وَفِيهَا وُلِدَ صَاحِبُ حَمَاةَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمْرُ شَاهِنْشَاهْ بن أيوب بن شارى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ جعفر
ابن الْفَرَجِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَرْبِيُّ، أَحَدُ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ، سمع الحديث وكانت له أحوال صالحة، حَتَّى كَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يُرَى فِي بَعْضِ السِّنِينَ بِعَرَفَاتٍ، وَلَمْ يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْفَضْلِ
أَبُو الْقَاسِمِ الْجِيلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيَّ، وَبَرَعَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَلِيَ قضاء البصرة وكان من خيار القضاة.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة
فِيهَا وَصَلَتِ الْبُرْدَةُ وَالْقَضِيبُ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَا مع المسترشد حين هرب سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَخَمْسِمِائَةٍ فَحَفِظَهُمَا السُّلْطَانُ سَنْجَرُ عِنْدَهُ حَتَّى رَدَّهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِيهَا كَمُلَتِ الْمَدْرَسَةُ الْكَمَالِيَّةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى كَمَالِ الدِّينِ، أَبِي الْفُتُوحِ حَمْزَةَ بْنِ طَلْحَةَ، صَاحِبِ الْمَخْزَنِ، ودرس فيها الشيخ أبو الحسن الحلي، وحضر عنده الْأَعْيَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِسْمَاعِيلُ بن محمد
ابن على، أَبُو الْقَاسِمِ الطَّلْحِيُّ الْأَصْبِهَانِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ وَكَتَبَ وَأَمْلَى بِأَصْبَهَانَ، قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ مَجْلِسٍ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ، حَافِظًا مُتْقِنًا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ عِيدِ الْأَضْحَى وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَلَمَّا أَرَادَ الْغَاسِلُ تَنْحِيَةَ الخرقة عن فرجه ردها بيده، وقيل: إنه وضع يده على فرجه
محمد بن عبد الباقي
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ وهب بن مسجعة بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَرَّدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَأَمْلَى الْحَدِيثَ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَكَانَ مُشَارِكًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ أُسِرَ فِي صِغَرِهِ فِي أَيْدِي الرُّومِ فَأَرَادُوهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ خَطَّ الرُّومِ، وَكَانَ يَقُولُ مَنْ خَدَمَ الْمَحَابِرَ خِدْمَتْهُ الْمَنَابِرُ، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أورده له ابن الجوزي عنه وسمعه منه قَوْلُهُ:
احْفَظْ لِسَانَكَ لَا تَبُحْ بِثَلَاثَةٍ ... سِنٍّ ومال، إن سئلت، وَمَذْهَبٍ
فَعَلَى الثَّلَاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلَاثَةٍ ... بِمُكَفِّرٍ وَبِحَاسِدٍ ومكذب
وقوله:
لِي مُدَّةٌ لَا بُدَّ أَبْلُغُهَا ... فَإِذَا انْقَضَتْ مِتُّ
لَوْ عَانَدَتْنِي الْأُسْدُ ضَارِيَةً ... مَا ضَرَّنِي ما لم يجى الوقت(12/217)
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، لَمْ تَتَغَيَّرْ حَوَاسُّهُ وَلَا عَقْلُهُ، توفى ثانى رجب منها. وحضر جنازته الأعيان وغيرهم، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ بِشْرٍ.
يُوسُفُ بْنُ أيوب
ابن الحسن بن زهرة، أَبُو يَعْقُوبَ الْهَمَذَانِيُّ، تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وبرع في الفقه والمناظرة ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة، وَصَحِبَ الصَّالِحِينَ، وَأَقَامَ بِالْجِبَالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَوَعَظَ بِهَا، وَحَصَلَ لَهُ قَبُولٌ. تُوفِّيَ في ربيع الأول ببعض قرى هراة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة
فِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وخوارزم شاه، فاستحوذ خوارزم على مرو بعد هزيمة سنجر ففتك بِهَا، وَأَسَاءَ التَّدْبِيرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ بِهَا، وَكَانَ جَيْشُ خُوَارِزْمَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ مقاتل. وفيها تحمل عمل دمشق النهروز، وخلع نهروز شحنة بغداد على حباب صباغ الْحَرِيرِ الرُّومِيِّ، وَرَكِبَ هُوَ وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ فِي سَفِينَةٍ فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، وَفَرِحَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ صَرَفَ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ النَّهْرِ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِيهَا حَجَّ كَمَالُ الدِّينِ طَلْحَةَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ، وَعَادَ فَتَزَهَّدَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ وَلَزِمَ دَارَهُ. وَفِيهَا عُقِدَتِ الْجُمُعَةُ بِمَسْجِدِ الْعَبَّاسِيِّينَ باذن الخليفة. وحج بالناس قطز.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أحمد بن عمر
ابن الْأَشْعَثِ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ الدِّمَشْقِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَفَرَّدَ بِمَشَايِخَ، وَكَانَ سَمَاعُهُ صَحِيحًا، وَأَمْلَى بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ مَجَالِسَ كثيرة نحو ثلاثمائة مجلس، توفى وقد جاوز الثمانين
يحيى بن على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الطَّرَّاحِ المدبر، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا مَهِيبًا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ الْحَدِيثَةَ، وَنَقَلَ آلَ مُهَارِشٍ مِنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَرَتَّبَ فِيهَا نُوَّابًا مِنْ جِهَتِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وخمسمائة
فِيهَا تَجَهَّزَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ لِيَأْخُذَ الْمَوْصِلَ وَالشَّامَ من زَنْكِيٍّ، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مِنْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَطْلَقَ لَهُ الْبَاقِي، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ سَيْفَ الدِّينِ غازى كان لا يزال في خدمة السلطان مسعود. وَفِيهَا مَلَكَ زَنْكِيٌّ بَعْضَ بِلَادِ بَكْرٍ. وَفِيهَا حَصَرَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ خُوَارِزْمَ شَاهْ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا وَأَطْلَقَهُ. وَفِيهَا وُجِدَ رَجُلٌ يَفْسُقُ بِصَبِيٍّ فَأُلْقِيَ مِنْ رَأْسِ مَنَارَةٍ، وَفِي لَيْلَةِ الثلاثاء الرابع(12/218)
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ. وَحَجَّ بالناس قطز.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الْوَهَّابِ بن المبارك
ابن أحمد، أبو البركات الأنماطي، الحافظ الكبير، كَانَ ثِقَةً دَيِّنًا وَرِعًا، طَلِيقَ الْوَجْهِ، سَهْلَ الْأَخْلَاقِ، تُوَفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سنة.
على بن طراد
ابن محمد الزَّيْنَبِيُّ، الْوَزِيرُ الْعَبَّاسِيُّ، أَبُو الْقَاسِمِ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، فِي أَيَّامِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَوزَرَ لِلْمُسْتَرْشِدِ، وَتُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الزمخشريّ محمود
ابن عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، أَبُو الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ، صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي التَّفْسِيرِ، وَالْمُفَصَّلِ فِي النَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ، وَقَدْ سمع الحديث وطاف البلاد، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةً، وَكَانَ يُظْهِرُ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ ويصرح بذلك في تفسيره، ويناظر عليه، وكانت وفاته بخوارزم ليلة عرفة منها، عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تسع وثلاثين وخمسمائة
فِيهَا أَخَذَ الْعِمَادُ زَنْكِيٌّ الرُّهَا وَغَيْرَهَا مِنْ حُصُونِ الْجَزِيرَةِ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَى نِسَاءً كَثِيرَةً، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جزيلة، وأزال عن المسلمين كربا شديدا. وحج بالناس قطز الْخَادِمُ وَتَنَافَسَ هُوَ وَأَمِيرُ مَكَّةَ فَنَهَبَ الْحَجِيجَ وهم يطوفون.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورِ
ابن عمر أبو الوليد الكرخي، تفقه بأبي إِسْحَاقَ وَأَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي، حَتَّى صَارَ أَوْحَدَ زمانه فقها وصلاحا، مات في هذه السنة.
سعد بن محمد
ابن عمر أبو منصور البزار، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالْغَزَالِيِّ وَالشَّاشِيِّ وَالْمُتَوَلِّي وَإِلِكْيَا، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ حَسَنٌ، وَوَقَارٌ وَسُكُونٌ، وَكَانَ يَوْمُ جِنَازَتِهِ مَشْهُودًا، وَدُفِنَ عند أبى إسحاق.
عمر بن إبراهيم
ابن مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيُّ الْعَلَوِيُّ، وأبو الْبَرَكَاتِ الْكُوفِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَتَبَ كَثِيرًا، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً، وَكَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ وَالْأَدَبِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي النَّحْوِ، وَكَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ، صَابِرًا مُحْتَسِبًا، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.(12/219)
ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة
فِيهَا حَصَرَ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ أَخَاهُ مُحَمَّدًا وَلَمْ يَزَلْ يُحَاصِرُهُ حَتَّى اقْتَلَعَ مِنْ يَدِهِ الْحِلَّةَ وَمَلَكَهَا، وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بَغْدَادَ خَوْفًا مِنَ اجْتِمَاعِ عَبَّاسٍ صَاحِبِ الرَّيِّ، وَمُحَمَّدٍ شَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ، ثُمَّ خَرَجَ منها في رمضان، وحج بالناس أرجوان مملوك أمير الجيوش بسبب ما كان وقع بين قطز وأمير مكة في السنة الماضية.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ محمد
ابن الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، أَبُو سَعْدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وكان على طريقة السلف، حلو الشمائل، مطرح الْكُلْفَةَ، رُبَّمَا خَرَجَ إِلَى السُّوقِ بِقَمِيصٍ وَقَلَنْسُوَةَ. وَحَجَّ أَحَدَ عَشَرَ حِجَّةً، وَكَانَ يُمْلِي الْحَدِيثَ وَيُكْثِرُ الصَّوْمَ، تُوُفِّيَ بِنَهَاوَنْدَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
عَلِيُّ بن أحمد
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو الْحَسَنِ الْيَزْدِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ له ولأخيه قميص واحد، إذا خرج هذا لبسه وجلس الآخر في البيت عريانا، وكذا الآخر.
موهوب بن أحمد
ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ، أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ، شَيْخُ اللُّغَةِ فِي زَمَانِهِ، بَاشَرَ مَشْيَخَةَ اللُّغَةِ بِالنِّظَامِيَّةِ بعد شيخه أبى زكريا التبريزي، وكان يؤم بالمقتفى، وربما قرأ الخليفة عليه شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، وَكَانَ عَاقِلًا مُتَوَاضِعًا فِي ملبسه، طويل الصمت كثير الفكر، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْقَصْرِ أَيَّامَ الْجُمَعِ، وَكَانَ فِيهِ لُكْنَةٌ، وَكَانَ يَجْلِسُ إِلَى جَانِبِهِ الْمَغْرِبِيُّ مُعَبِّرُ الْمَنَامَاتِ، وَكَانَ فَاضِلًا لَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ النُّعَاسِ فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ فِيهِمَا بَعْضُ الأدباء:
بغداد عندي ذنبها لن يغفرا ... عيوبها مَكْشُوفَةٌ لَنْ تُسْتَرَا
كَوْنُ الْجَوَالِيقِيِّ فِيهَا مُمْلِيًا ... لغة وكون المغربي معبرا
ما سور للكنته يقول فصاحة ... ويوم يقظته يعبر في الكرا
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
فِي لَيْلَةِ مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا احْتَرَقَ الْقَصْرُ الَّذِي بَنَاهُ الْمُسْتَرْشِدُ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي قَدِ انْتَقَلَ بِجَوَارِيهِ وَحَظَايَاهُ إِلَيْهِ لِيُقِيمَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَمَا هو إلا أن ناموا احْتَرَقَ عَلَيْهِمُ الْقَصْرُ بِسَبَبِ أَنَّ جَارِيَةً أَخَذَتْ فِي يَدِهَا شَمْعَةً فَعَلِقَ لَهَبُهَا بِبَعْضِ الْأَخْشَابِ، فَاحْتَرَقَ الْقَصْرُ وَسَلَّمَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ وَأَهْلَهُ، فَأَصْبَحَ فَتَصَدَّقَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَأَطْلَقَ خَلْقًا مِنَ الْمُحْبَسِينَ. وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَاقِعٌ فَبَعْثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ فَأُغْلِقَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى(12/220)
اصطلحا. وفي يوم الجمعة نصف ذِي الْقَعْدَةِ جَلَسَ ابْنُ الْعَبَّادِيِّ الْوَاعِظُ فَتَكَلَّمَ وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ حَاضِرٌ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَ عَلَى النَّاسِ فِي الْبَيْعِ مَكْسًا فَاحِشًا، فَقَالَ فِي جُمْلَةِ وَعْظِهِ: يَا سُلْطَانَ الْعَالَمِ، أَنْتَ تُطْلِقُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِلْمُغَنِّي إِذَا طَرِبْتَ قَرِيبًا مِمَّا وَضَعْتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْمَكْسِ، فَهَبْنِي مُغَنِّيًا وَقَدْ طَرِبْتَ فَهَبْ لِي هَذَا الْمَكْسَ شُكْرًا لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ. فَأَشَارَ السُّلْطَانُ بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُ، فَضَجَّ النَّاسُ بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ سِجِلَّاتٍ، وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ الْمَكْسِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وللَّه الحمد والمنة. وفيها قَلَّ الْمَطَرُ جِدًّا، وَقَلَّتْ مِيَاهُ الْأَنْهَارِ، وَانْتَشَرَ جَرَادٌ عَظِيمٌ، وَأَصَابَ النَّاسَ دَاءٌ فِي حُلُوقِهِمْ، فمات بذلك خلائق كثيرة ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ عماد الدين زنكي بن قيم الدولة التركي صاحب الموصل، وحلب وغيرها من البلاد الشامية والجزيرة، وكان محاصرا قلعة جعبر، وفيها شهاب الدين سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ الْعُقَيْلِيُّ، فَبَرْطَلَ بَعْضَ مَمَالِيكِ زَنْكِيٍّ حَتَّى قَتَلُوهُ فِي اللَّيْلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ الْعِمَادُ الكاتب: كان سكرانا فاللَّه أعلم. وقد كان زنكي مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً وَشَكْلًا، وَكَانَ شُجَاعًا مِقْدَامًا حَازِمًا، خَضَعَتْ لَهُ مُلُوكُ الْأَطْرَافِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ غَيْرَةً عَلَى نِسَاءِ الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة، وقام بالأمر من بعده بالموصل ولده سيف الدولة، وبحلب نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ، فَاسْتَعَادَ نُورُ الدِّينِ هَذَا مدينة الرها، وكان أبوه قد فتحها. فلما مات عصوا فقهرهم نور الدين. وفيها ملك عبد المؤمن صاحب المغرب وخادم ابن تومرت جَزِيرَةَ الْأَنْدَلُسِ، بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ. وَفِيهَا مَلَكَتِ الفرنج مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ، وَفِيهَا اسْتَعَادَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مدينة بعلبكّ. وفيها جاء نجم الدين أيوب إلى صاحب دمشق فسلمه القلعة وأعطاه أمزبه عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ. وَفِيهَا قَتَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ حَاجِبَهُ عبد الرحمن بن طغرلبك وَقَتَلَ عَبَّاسًا صَاحِبَ الرَّيِّ، وَأَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَانْزَعَجَ النَّاسُ وَنَهَبُوا خِيَامَ عَبَّاسٍ هَذَا، وَقَدْ كَانَ عَبَّاسٌ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، قَاتَلَ الْبَاطِنِيَّةَ مَعَ مَخْدُومِهِ جَوْهَرٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْتُلُ مِنْهُمْ حَتَّى بَنَى مِئْذَنَةً مِنْ رُءُوسِهِمْ بِمَدِينَةِ الرَّيِّ. وَفِيهَا مَاتَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ بِبَغْدَادَ مُحَمَّدُ بن طراد الزينبي، فتولى بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الزَّيْنَبِيُّ. وَفِيهَا سَقَطَ جِدَارٌ عَلَى ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ مَبَالِغَ النِّسَاءِ، فَمَاتَتْ فَحَضَرَ جِنَازَتَهَا الْأَعْيَانُ. وَحَجَّ بالناس قطز الخادم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
زَنْكِيُّ بْنُ آقسنقر
تقدم ذكر شيء من ترجمته، وهو أبو نور الدين محمود الشهيد، وقد أطنب الشيخ أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَمَا قِيلَ فِيهِ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
سعد الخير
مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَبُو الْحَسَنِ المغربي الأندلسى الأنصاري، رحل وَحَصَّلَ كُتُبًا نَفِيسَةً،(12/221)
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ أَوْصَى عند وفاته أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْغَزْنَوِيُّ، وَأَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ قَبْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ.
شَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرشيد
ابن الْقَاسِمِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجِيلِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ على الكيا وَعَلَى الْغَزَالِيِّ، وَكَانَ يَسْكُنُ الْكَرْخَ، وَلَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي الرُّوَاقِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَكُنْتُ أَحْضُرُ حَلْقَتَهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ
ابن أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو مُحَمَّدٍ سِبْطُ أَبِي مَنْصُورٍ الزَّاهِدُ، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَصَنَّفَ فِيهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَاقْتَنَى الْكُتُبَ الْحَسَنَةَ، وَأَمَّ فِي مَسْجِدِهِ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَعَلَّمَ خَلْقًا الْقُرْآنَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ قِرَاءَةً مِنْهُ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
عَبَّاسٌ شِحْنَةُ الرَّيِّ
تَوَصَّلَ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا ثم قتله مسعود، وَقَدْ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وقتل من الباطنية خلقا حتى بنى مِنْ رُءُوسِهِمْ مَنَارَةً بِالرَّيِّ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ.
محمد بن طراد
ابن محمد الزينبي، أبو الحسن نقيب النقباء، وَهُوَ أَخُو عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ الْوَزِيرِ، سَمِعَ الكثير من أبيه ومن عمه أَبِي نَصْرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَارَبَ السَّبْعِينَ.
وَجِيهُ بْنُ طاهر
ابن محمد بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو بَكْرٍ الشَّحَّامِيُّ، أَخُو زَاهِرٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنَ الْوَجْهِ، سَرِيعَ الدمعة، كثير الذكر، جمع السماع إلى العمل إلى صدق اللَّهْجَةِ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دخلت سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة
فِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ. وَفِيهَا مَلَكَ نُورُ الدِّينِ بْنُ مَحْمُودٍ زنكي عدة حصون من يد الفرنج بالسواحل. وَفِيهَا خُطِبَ لِلْمُسْتَنْجِدِ باللَّه بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بعد أبيه المقتفى. وفيها تولى عون بن يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ كِتَابَةَ دِيوَانِ الزِّمَامِ، وَوَلِيَ زَعِيمُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ صَدْرِيَّةَ الْمَخْزَنِ المعمورة. وفيها اشتد الغلاء بإفريقية وهلك بسببه أكثر الناس حتى خلت المنازل، وأقفلت الْمَعَاقِلُ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ بِنْتَ صَاحِبِ مَارْدِينَ حُسَامِ الدِّينِ تَمُرْتَاشَ بْنِ أُرْتُقَ، بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ إِلَى الْمَوْصِلِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَهُوَ مَرِيضٌ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حتى مات، فتولى بعده على الموصل أَخُوهُ قُطْبُ بْنُ مَوْدُودٍ فَتَزَوَّجَهَا. قَالَ ابْنُ الجوزي:(12/222)
وَفِي صَفَرٍ رَأَى رَجُلٌ فِي المنام قائلا يقول له: من زار أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ غُفِرَ لَهُ. قَالَ فَلَمْ يَبْقَ خَاصٌّ وَلَا عَامٌّ إِلَّا زَارَهُ. قَالَ ابن الجوزي: وعقدت يومئذ ثم مجلسا فاجتمع فيه ألوف من الناس.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَسْعَدُ بْنُ عبد الله
ابن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي باللَّه، أَبُو مَنْصُورٍ، سمع الحديث الكثير، وكان خيرا صَالِحًا مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ، إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ. وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ بِنَحْوٍ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ
أبو محمد عبد الله بن محمد
ابن خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ اللَّخْمِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ، الرباطي الْحَافِظُ، مُصَنِّفُ كِتَابِ اقْتِبَاسِ الْأَنْوَارِ وَالْتِمَاسِ الْأَزْهَارِ، فِي أَنْسَابِ الصَّحَابَةِ وَرُوَاةِ الْآثَارِ، وَهُوَ مِنْ أحسن التصانيف الْكِبَارِ، قُتِلَ شَهِيدًا صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْعِشْرِينَ من جمادى بالبرية.
نصر الله بن محمد
ابن عَبْدِ الْقَوِيِّ، أَبُو الْفَتْحِ اللَّاذِقِيُّ الْمِصِّيصِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ، بِصُورَ، وَسَمِعَ بِهَا مِنْهُ وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ، وَسَمِعَ بِبَغْدَادَ وَالْأَنْبَارِ، وَكَانَ أَحَدَ مَشَايِخِ الشَّامِ، فقيها في الأصول والفروع، توفى فيها وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ.
هِبَةُ اللَّهِ بن على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ أَبُو السَّعَادَاتِ ابْنُ الشَّجَرِيِّ النَّحْوِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وانتهت إليه رياسة النحاة. قال سَمِعْتُ بَيْتًا فِي الذَّمِّ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِ مكوبه:
وَمَا أَنَا إِلَّا الْمِسْكُ قَدْ ضَاعَ عِنْدَكُمْ ... يَضِيعُ وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ يَضُوعُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثلاث وأربعين وخمسمائة
فِيهَا اسْتَغَاثَ مُجِيرُ الدِّينِ بْنُ أَتَابِكِ دِمَشْقَ بِالْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ حَلَبَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَرَكِبَ سَرِيعًا فَالْتَقَى مَعَهُمْ بِأَرْضِ بُصْرَى فَهَزَمَهُمْ، وَرَجَعَ فَنَزَلَ عَلَى الْكِسْوَةِ، وَخَرَجَ مَلِكُ دِمَشْقَ مجير الدين أرتق فَخَدَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَشَاهَدَ الدَّمَاشِقَةُ حُرْمَةَ نُورِ الدِّينِ حتى تمنوه. وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَهْدِيَّةَ وَهَرَبَ مِنْهَا صَاحِبُهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يوسف بن بليكين بأهله وخاف على أمواله فتمزقت في البلاد، وتمزق هو أيضا فِي الْبِلَادِ، وَأَكَلَتْهُمُ الْأَقْطَارُ، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ بَنِي بَادِيسَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِهِمْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائةٍ، فَدَخَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا وَخَزَائِنُهَا مشحونة بالحواصل والأموال والعدد وغير ذلك، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ وَهُمْ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَمَعَهُمْ مَلِكُ الْأَلْمَانِ فِي خَلْقٍ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عز وجل، دمشق وعليها مجير الدين أرتق وَأَتَابِكُهُ مَعِينُ الدِّينِ، وَهُوَ مُدَبِّرُ الْمَمْلَكَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ رَبِيعٍ(12/223)
الْأَوَّلِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فِي مِائَةِ أَلْفٍ وثلاثين ألفا، فاقتتلوا معهم قتالا شديدا، قتل مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ نَحْوٌ مِنَ مائتي رجل، ومن الفرنج خلق كثير لا يحصون، واستمر الْحَرْبُ مُدَّةً، وَأُخْرِجَ مُصْحَفُ عُثْمَانَ إِلَى وَسَطِ صَحْنِ الْجَامِعِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ مُكَشَّفِي الرُّءُوسِ يَدْعُونَ ويتباكون، والرماد مفروش في البلد، فاستغاث أرتق بنور الدِّينِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ حَلَبَ وَبِأَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقَصَدَاهُ سَرِيعًا فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا بِمَنِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ مِنَ الملوك وغيرهم، فلما سمعت الفرنج بِقُدُومِ الْجَيْشِ تَحَوَّلُوا عَنِ الْبَلَدِ، فَلَحِقَهُمُ الْجَيْشُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا، وَقَتَلُوا قسيسا معهم اسْمُهُ إِلْيَاسُ، وَهُوَ الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِدِمَشْقَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ افْتَرَى مَنَامًا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ وَعَدَهُ فَتْحَ دِمَشْقَ، فَقُتِلَ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَادُوا يَأْخُذُونَ الْبَلَدَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، وَحَمَاهَا بِحَوْلِهِ وقوته. قال تَعَالَى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيراً) 22: 40 وَمَدِينَةُ دِمَشْقَ لَا سَبِيلَ لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْكَفَرَةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا الْمَحَلَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا أَنَّهَا مَعْقِلُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ، وَبِهَا ينزل عيسى ابن مريم، وقد قتل الفرنج خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، وَمِمَّنْ قَتَلُوا الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الْمُلَقَّبُ حُجَّةَ الدِّينِ شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ بها، أبو الحجاج يوسف بن درناس الْفِنْدَلَاوِيُّ، بِأَرْضِ النَّيْرَبِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وكان مجير الدين قد صالح الْفِرِنْجَ عَنْ دِمَشْقَ بِبَانِيَاسَ، فَرَحَلُوا عَنْهَا وَتَسَلَّمُوا بَانِيَاسَ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَأُمَرَائِهِ فَفَارَقُوهُ، وَقَصَدُوا بَغْدَادَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْعَامَّةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، ثُمَّ اجتمعوا قبال التاج وقبلوا الْأَرْضَ وَاعْتَذَرُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ مِمَّا وَقَعَ، وَسَارُوا نَحْوَ النَّهْرَوَانِ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَنَهَبُوا أَهْلَهَا، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَفِيهَا وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الدَّامَغَانِيُّ، بَعْدَ وَفَاةِ الزينبي. وفيها ملك سولي بن الحسين ملك الثغور مَدِينَةَ غَزْنَةَ، فَذَهَبَ صَاحِبُهَا بَهْرَامُ شَاهْ بْنُ مسعود من أولاد سبكتكين إلى فرغانة فاستغاث بملكها، فجاء بجيوش عظيمة فاقتلع غزنة من سولي، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا فَصَلَبَهُ، وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا جَوَادًا، كثير الصدقات.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ محمد
ابن نهار بْنِ مُحْرِزٍ الْغَنَوِيُّ الرَّقِّيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّاشِيِّ وَالْغَزَالِيِّ، وَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، وَصَحِبَهُ كَثِيرًا، وَكَانَ مَهِيبًا كَثِيرَ الصمت، توفى في ذي الحجة منها وقد جاوز الثمانين.
شاهان شاه بن أيوب
ابن شادى، اسْتُشْهِدَ مَعَ نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ وَالِدُ السِّتِّ عذار، واقفة العذارية، وتقى الدين عمر واقف التقوية.(12/224)
على بن الحسين
ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيُّ، أَبُو الْقَاسِمِ الْأَكْمَلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ نُورُ الْهُدَى بْنُ أَبِي الْحَسَنِ نِظَامُ الْحَضْرَتَيْنِ ابْنُ نَقِيبِ النُّقَبَاءِ أَبِي القاسم بن الْقَاضِي أَبِي تَمَّامٍ الْعَبَّاسِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ وغيرها، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ فَقِيهًا رَئِيسًا، وَقُورًا حَسَنَ الْهَيْئَةِ وَالسَّمْتِ، قَلِيلَ الْكَلَامِ، سَافَرَ مَعَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً
أبو الحجاج يوسف بن درباس
الْفِنْدَلَاوِيُّ، شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ، قُتِلَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَرِيبًا مِنَ الرَّبْوَةِ فِي أرض النيرب، هو والشيخ عبد الرحمن الجلجولى، أحد الزهاد رحمهما اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة أربع وأربعين وخمسمائة
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَاضِي عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضٍ الْيَحْصُبِيِّ السَّبْتِيِّ، قَاضِيهَا أَحَدُ مَشَايِخِ الْعُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وصاحب المصنفات الكثيرة المفيدة، منها الشفا، وشرح مسلم، ومشارق الْأَنْوَارِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، كَالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ وَالْأَدَبِ، وَأَيَّامِ النَّاسِ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وأربعمائة، ومات يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَقِيلَ فِي رمضان من هذه السنة، بمدينة سبتة. وَفِيهَا غَزَا الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ حَلَبَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خلقا، وكان فيمن قَتَلَ الْبِرِنْسُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَفَتَحَ شَيْئًا كَثِيرًا من قلاعهم وللَّه الحمد. وَكَانَ قَدِ اسْتَنْجَدَ بِمُعِينِ الدِّينِ بْنِ أَتَابِكِ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِفَرِيقٍ مِنْ جَيْشِهِ صُحْبَةَ الأمير مجاهد الدين بن مروان بن ماس، نَائِبِ صَرْخَدَ فَأَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، وَقَدْ قَالَ الشُّعَرَاءُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَشْعَارًا كَثِيرَةً، مِنْهُمُ ابْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ سَرَدَهَا أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ رَبِيعٍ الْآخَرِ اسْتَوْزَرَ لِلْخِلَافَةِ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ، وَلُقِّبَ عَوْنُ الدِّينِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ. وَفِي رجب قصد الملك شاه بْنُ مَحْمُودٍ بَغْدَادَ وَمَعَهُ خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَغَيْرُهُمْ، وَطَلَبُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَكَرَّرَتِ الْمُكَاتَبَاتُ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَسْتَحِثُّهُ فِي الْقُدُومِ، فَتَمَادَى عَلَيْهِ وَضَاقَ النِّطَاقُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يتوعده إن لم يسرع إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَمَا جَاءَ إِلَّا فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ، فَانْقَشَعَتْ تِلْكَ الشُّرُورُ كُلُّهَا، وَتَبَدَّلَتْ سُرُورًا أَجْمَعُهَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَتَمَوَّجَتِ الْأَرْضُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَتَقَطَّعَ جَبَلٌ بحلوان، وانهدم الرباط النهر جوري، وَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْبِرْسَامِ، لَا يَتَكَلَّمُ الْمَرْضَى به حَتَّى يَمُوتُوا.
وَفِيهَا مَاتَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيُّ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ(12/225)
زَنْكِيٍّ، وَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَخِيهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، الْخَاتُونِ بِنْتِ تَمُرْتَاشَ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ، صَاحِبِ مَارِدِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا كُلُّهُمْ ملكوا الموصل، وكانت هذه المرأة تضع خمارها بين خَمْسَةَ عَشَرَ مَلِكًا.
وَفِيهَا سَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى سِنْجَارَ فَفَتَحَهَا، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ جَيْشًا لِيَرُدَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ اصْطَلَحَا فَعَوَّضَهُ مِنْهَا الرَّحْبَةَ وَحِمْصَ، وَاسْتَمَرَّتْ سِنْجَارُ لِقُطْبِ الدين، وعاد نور الدين إلى بلده. ثم غزا فيها الْفِرِنْجَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرَ الْبِرِنْسَ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، فَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ مِنْهُمُ الْفَتْحُ الْقَيْسَرَانِيُّ بِقَصِيدَةٍ يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
هَذِي الْعَزَائِمُ لَا مَا تنعق الْقُضُبُ ... وَذِي الْمَكَارِمُ لَا مَا قَالَتِ الْكُتُبُ
وَهَذِهِ الْهِمَمُ اللَّاتِي مَتَى خُطِبَتْ ... تَعَثَّرَتْ خَلْفَهَا الْأَشْعَارُ وَالْخُطَبُ
صَافَحْتَ يَا ابْنَ عِمَادِ الدِّينِ ذُرْوَتَهَا ... بِرَاحَةٍ لِلْمَسَاعِي دُونَهَا تَعَبُ
مَا زَالَ جَدُّكَ يَبْنِي كُلَّ شَاهِقَةٍ ... حَتَّى بَنَى قُبَّةً أَوْتَادُهُا الشُّهُبُ
وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ حِصْنَ فاميا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ حَمَاةَ. وَفِيهَا مَاتَ صَاحِبُ مِصْرَ الْحَافِظُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أبى القاسم بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الظَّافِرُ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ الْأَفْضَلِ بْنِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْحَافِظِ وخطب له بمصر ثلاثا، ثم آخر الأمر أذن بحي على خير العمل، والحافظ هذا هو الّذي وُضِعَ طَبْلُ الْقُولَنْجِ الَّذِي إِذَا ضَرَبَهُ مَنْ بِهِ الْقُولَنْجُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْقُولَنْجُ وَالرِّيحُ الَّذِي به، وخرج بالحجاج الأمير قطز الخادم فمرض بالكوفة فرجع واستخلف على الحجاج مولاه قيماز، وحين وصوله إلى بغداد توفى بعد أيام، فطمعت العرب في الحجاج فَوَقَفُوا لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَهُمْ رَاجِعُونَ، فَضَعُفَ قيماز عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ أَمَانًا وَهَرَبَ وَأَسْلَمَ إِلَيْهِمُ الْحَجِيجَ، فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ، وقل من سلم فيمن نجا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا مَاتَ مُعِينُ الدين بن أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ أَحَدَ مَمَالِيكِ طُغْتِكِينَ، وهو والد الست خاتون زوجة نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ الْمُعِينِيَّةِ، دَاخِلَ باب الفرج، وقبره في قبة قتلى الشامية البرانية، بمحلة العونية، عند دار البطيخ. وَلَمَّا مَاتَ مُعِينُ الدِّينِ قَوِيَتْ شَوْكَةُ الْوَزِيرِ الرئيس مؤيد الدولة على ابن الصُّوفِيِّ وَأَخِيهِ زَيْنِ الدَّوْلَةِ حَيْدَرَةَ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمَا وبين الملك مجير الدين أرتق وحشة، اقتضت أنهما جندا مِنَ الْعَامَّةِ وَالْغَوْغَاءِ مَا يُقَاوِمُهُ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَعْدَ ذلك.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ نظام الملك
أبو الحسن على بن نَصْرٍ الْوَزِيرُ لِلْمُسْتَرْشِدِ، وَالسُّلْطَانُ مَحْمُودٌ، وَقَدْ سَمِعَ الحديث، وكان من خيار الوزراء.
أحمد بن محمد
ابن الْحُسَيْنِ الْأَرْجَانِيُّ، قَاضِي تُسْتَرَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَكَانَ له شعر رائق يتضمن معاني حسنة(12/226)
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَمَّا بَلَوْتُ النَّاسَ أَطْلُبُ عندهم ... أخا ثقة عند اعتراض الشدائد
تطعمت فِي حَالَيْ رَخَاءٍ وَشِدَّةٍ ... وَنَادَيْتُ فِي الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ؟
فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي غَيْرَ شَامِتٍ ... وَلَمْ أَرَ فِيمَا سَرَّنِي غَيْرَ حاسد
فطلقت ود العالمين جميعهم ... ورحت فلا ألوى على غير واحد
تَمَتَّعْتُمَا يَا نَاظِرَيَّ بِنَظْرَةٍ ... وَأَوْرَدْتُمَا قَلْبِي أَمَرَّ الْمَوَارِدِ
أَعَيْنَيَّ كُفَّا عَنْ فُؤَادِي فَإِنَّهُ ... مِنَ البغي سعى اثنين في قتل واحد
والقاضي عياض بن موسى السبتي
صاحب التصانيف المفيدة ومن شعره قوله:
الله يعلم أنى منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين
ولو قدرت ركبت الريح نحوكم ... فان بعدكم عنى جنى حينى
وقد ترجمه ابن خلكان ترجمة حسنة.
عيسى بن هبة الله
ابن عيسى، أبو عبد الله النقاش، سمع الحديث، مولده سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ ظَرِيفًا خَفِيفَ الرُّوحِ، لَهُ نَوَادِرُ حَسَنَةٌ رَأَى النَّاسَ، وَعَاشَرَ الْأَكْيَاسَ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسِي وَيُكَاتِبُنِي وَأُكَاتِبُهُ، كَتَبْتُ إِلَيْهِ مَرَّةً فَعَظَّمْتُهُ فِي الكتاب فَكَتَبَ إِلَيَّ: قَدْ زِدْتِنِي فِي الْخِطَابِ حَتَّى خشيت نقصا من الزيادة، وَلَهُ:
إِذَا وَجَدَ الشَّيْخُ فِي نَفْسِهِ ... نَشَاطًا فَذَلِكَ مَوْتٌ خَفِي
أَلَسْتَ تَرَى أَنَّ ضَوْءَ السِّرَاجِ ... لَهُ لَهَبٌ قَبْلَ أَنْ يَنْطَفِي
غَازِيُّ بن آقسنقر
الْمَلِكُ سَيْفُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ أَخُو نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، صَاحِبِ حَلَبَ ثُمَّ دِمَشْقَ فِيمَا بَعْدُ، وَقَدْ كَانَ سَيْفُ الدِّينِ هَذَا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، وَأَجْوَدِهِمْ سَرِيرَةً، وَأَصْبَحِهِمْ صُورَةً، شُجَاعًا كَرِيمًا، يَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ لِجَيْشِهِ مِائَةً مِنَ الْغَنَمِ، وَلِمَمَالِيكِهِ ثَلَاثِينَ رَأْسًا، وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ أَلْفَ رَأْسٍ سِوَى الْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حُمِلَ عَلَى رَأْسِهِ سَنْجَقٌ مِنْ مَلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَأَمَرَ الْجُنْدَ أَنْ لَا يَرْكَبُوا إِلَّا بِسَيْفٍ وَدَبُّوسٍ، وَبَنَى مَدْرَسَةً بِالْمَوْصِلِ وَرِبَاطًا لِلصُّوفِيَّةِ وَامْتَدَحَهُ الْحَيْصَ بَيْصَ فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا، وَخِلْعَةً. وَلَمَّا تُوُفِّيَ بِالْحُمَّى في جمادى الآخرة دُفِنَ فِي مَدْرَسَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ بَعْدَ أَبِيهِ ثلاث سنين وخمسين يوما، رحمه الله.(12/227)
قطز الْخَادِمُ
أَمِيرُ الْحَاجِّ مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَكْثَرَ، سمع الْحَدِيثَ وَقَرَأَ عَلَى ابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَكَانَ يُحِبُّ العلم والصدقة، وكان الحاج معه في غاية الدعة والراحة وَالْأَمْنِ، وَذَلِكَ لِشَجَاعَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَدُفِنَ بِالرُّصَافَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وأربعين وخمسمائة
فيها فتح نور الدين محمود حصن فامية، وهو من أحصن القلاع، وقيل فتحه في التي قبلها.
وفيها قصد دمشق ليأخذها فلم يتفق له ذلك، فخلع على ملكها مجير الدين أرتق، وعلى وزيره ابن الصوفي، وتقررت الْخُطْبَةِ لَهُ بِهَا بَعْدَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ السكة. وفيها فتح نور الدين حصن إعزاز وأسر ابن ملكها ابن جوسليق، ففرح المسلمون بذلك، ثم أسر بعده والده جوسليق الفرنجى، فتزايدت الفرحة بذلك، وفتح بلادا كثيرة من بلاده. وفي المحرم منها حَضَرَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ بَلْ بمرسوم السلطان وابن النظام، مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَزِمَ بَيْتَهُ وَلَمْ يَعُدْ إلى المدرسة بالكلية، وتولاها الشَّيْخُ أَبُو النَّجِيبِ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ وَمَرْسُومِ السُّلْطَانِ.
قال ابن الجوزي: في هذه السنة وقع مطر باليمن كله دم، حتى صبغ ثياب الناس.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ ذِي النُّونِ
ابْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، أَبُو الْمَفَاخِرِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ بها، وجعل ينال من الأشاعرة فأحبته الْحَنَابِلَةُ، ثُمَّ اخْتَبَرُوهُ فَإِذَا هُوَ مُعْتَزِلِيٌّ فَفَتَرَ سُوقُهُ، وَجَرَتْ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، مِنْ ذَلِكَ:
مَاتَ الْكِرَامُ وَمَرُّوا وَانْقَضُّوا وَمَضَوْا ... وَمَاتَ مِنْ بَعْدِهِمْ تِلْكَ الْكَرَامَاتُ
وَخَلَّفُونِيَ فِي قَوْمٍ ذَوِي سَفَهٍ ... لَوْ أَبْصَرُوا طَيْفَ ضَيْفٍ فِي الْكَرَى مَاتُوا
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ
الحنبلي القاضي بهاء الدين، كان يعرف مذهب أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَيُنَاظِرُ عَنْهُمَا، وَدُفِنَ مَعَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ بِقُبُورِ الشُّهَدَاءِ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أبى نصر بن عمر
أبو المعالي الجبليّ، كان فقيها صالحا مُتَعَبِّدًا فَقِيرًا، لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَإِنَّمَا يبيت في المساجد المهجورة، وقد خرج مع الحجيج فأقام بمكة يعبد ربه ويفيد العلم، فَكَانَ أَهْلُهَا يُثْنُونَ عَلَيْهِ خَيْرًا
الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ
الْمَالِكِيُّ، شَارِحُ التِّرْمِذِيِّ، كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا، وَزَاهِدًا عَابِدًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بَعْدَ اشتغاله في(12/228)
الْفِقْهِ، وَصَحِبَ الْغَزَالِيَّ وَأَخَذَ عَنْهُ، وَكَانَ يَتَّهِمُهُ بِرَأْيِ الْفَلَاسِفَةِ، وَيَقُولُ دَخَلَ فِي أَجْوَافِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وأربعين وخمسمائة
فِيهَا أَغَارَ جَيْشُ السُّلْطَانِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ. وَفِيهَا حَاصَرَ نُورُ الدين دمشق شهورا ثم ترحل عنها إلى حلب، وكان الصلح على يدي البرهان البلخي. وفيها اقتتل الفرنج وجيش نور الدين فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا الأمر شق ذلك على نور الدين وترك الترفه وهجر اللذة حتى يأخذ بالثار، ثم إن أمراء التركمان ومعهم جماعة من أعوانهم ترصدوا الملك جوسليق الْإِفْرِنْجِيِّ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَسَرُوهُ فِي بَعْضِ مُتَصَيِّدَاتِهِ فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ فَكَبَسَ التُّرْكُمَانَ وأخذ منهم جوسليق أسيرا، وكان من أعيان الكفرة، وأعظم الفجرة، فَأَوْقَفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي أَذَلِّ حَالٍ، ثُمَّ سجنه. ثم سار نُورُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِهِ فَأَخَذَهَا كُلَّهَا بِمَا فِيهَا.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ جَلَسَ ابْنُ الْعَبَّادِيِّ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ وَتَكَلَّمَ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، فَكَادَتِ الْحَنَابِلَةُ يُثِيرُونَ فِتْنَةً ذَلِكَ الْيَوْمَ، ولكن لطف الله وسلم. وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الشَّيْخُ.
بُرْهَانُ الدين أبو الحسن بن عَلِيٌّ الْبَلْخِيُّ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ، دَرَسَ بِالْبَلْخِيَّةِ ثُمَّ بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَكَانَ عَالِمًا عَامِلًا، وَرِعًا زَاهِدًا، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبع وأربعين وخمسمائة
فِيهَا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بعده أخوه ملك شاه بن محمود، ثم جاء السلطان محمد وأخذ الْمُلْكَ وَاسْتَقَرَّ لَهُ، وَقَتَلَ الْأَمِيرَ خَاصَّ بِكْ، وأخذ أمواله وألقاه للكلاب، وبلغ الخليفة أن واسط قَدْ تَخَبَّطَتْ أَيْضًا، فَرَكِبَ إِلَيْهَا فِي الْجَيْشِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَصْلَحَ شَأْنَهَا، وَكَرَّ عَلَى الكوفة والحلة، ثم عاد إلى بغداد فزينت له البلد. وفيها ملك عبد المؤمن صاحب الْمَغْرِبِ بِجَايَةَ وَهِيَ بِلَادُ بَنِي حَمَّادٍ، فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِهِمْ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حماد، ثم جهز عبد المؤمن جَيْشًا إِلَى صِنْهَاجَةَ فَحَاصَرَهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَهَا. وَفِيهَا كانت وقعة عظيمة بين نور الدين الشهيد وبين الفرنج، فكسرهم وقتل منهم خلقا وللَّه الحمد. وفيها اقتتل السلطان سَنْجَرُ وَمَلِكُ الْغُورِ عَلَاءُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ بْنُ الحسن أَوَّلُ مُلُوكِهِمْ، فَكَسَرَهُ سَنْجَرُ وَأَسَرَهُ، فَلَمَّا أَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: مَاذَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِي لَوْ أَسَرْتَنِي؟
فَأَخْرَجَ قَيْدًا مِنْ فِضَّةٍ وَقَالَ: كُنْتُ أُقَيِّدُكَ بِهَذَا. فَعَفَا عَنْهُ وَأَطْلَقَهُ إِلَى بِلَادِهِ، فَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا بَهْرَامْ شَاهْ السُّبُكْتُكِينِيِّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أَخَاهُ سَيْفَ الدِّينِ فَغَدَرَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ وَسَلَّمُوهُ إِلَى بَهْرَامْ شَاهْ فَصَلَبَهُ، وَمَاتَ بَهْرَامْ شاه قريبا فسار إليه عَلَاءُ الدِّينِ فَهَرَبَ خُسْرُو بْنُ بَهْرَامْ(12/229)
شَاهْ عَنْهَا، فَدَخَلَهَا عَلَاءُ الدِّينِ فَنَهْبَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرًا كَثِيرًا، وَسَخَّرَ أهلها فحملوا ترابا في مخالى إلى محلة هنالك بَعِيدَةٍ عَنِ الْبَلَدِ، فَعَمَّرَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ قَلْعَةً مَعْرُوفَةً إِلَى الْآنِ، وَبِذَلِكَ انْقَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي سُبُكْتُكِينَ عَنْ بِلَادِ غَزْنَةَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِمْ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وثلاثمائة إلى سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ، وَأَكْثَرِهِمْ جِهَادًا فِي الكفرة، وأكثرهم أموالا ونساء وعددا وعددا، وقد كَسَرُوا الْأَصْنَامَ وَأَبَادُوا الْكُفَّارَ، وَجَمَعُوا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَجْمَعْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُلُوكِ، مَعَ أن بلادهم كانت من أطيب البلاد وأكثرهم رِيفًا وَمِيَاهًا فَفَنِيَ جَمِيعُهُ وَزَالَ عَنْهُمْ (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 3: 26 ثُمَّ مَلَكَ الْغُورَ وَالْهِنْدَ وَخُرَاسَانَ، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُمْ وعظم سلطان علاء الدين بعد الأسر، وحكى ابن الجوزي أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَاضَ دِيكٌ بَيْضَةً واحدة، ثم باض بازي بيضتين، وباضت نعامة من غير ذكر، وهذا شيء عجيب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْمُظَفَّرُ بْنُ أَرْدَشِيرَ
أَبُو مَنْصُورٍ الْعَبَّادِيُّ، الْوَاعِظُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ ودخل إلى بغداد فأملى ووعظ، وكان الناس يكتبون ما يعظ بِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا تَكَادُ تَجِدُ فِي الْمُجَلَّدِ خَمْسَ كَلِمَاتٍ جَيِّدَةٍ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ وَأَطَالَ الْحَطَّ عَلَيْهِ، وَاسْتَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ قَوْلَهُ: وَقَدْ سَقَطَ مطر وهو يعظ الناس، وقد ذهب الناس إلى تَحْتَ الْجُدْرَانِ، فَقَالَ لَا تَفِرُّوا مِنْ رَشَّاشِ مَاءِ رَحْمَةٍ قَطَرَ مِنْ سَحَابِ نِعْمَةٍ، وَلَكِنْ فروا من رشاش نَارٍ اقْتُدِحَ مِنْ زِنَادِ الْغَضَبِ. تُوُفِّيَ وَقَدْ جاوز الخمسين بقليل.
مسعود السلطان
صَاحِبُ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا، حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالسَّعَادَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ، وَجَرَتْ له خطوب طويلة، كما تقدم بعض ذلك، وقد أسر في بعض حروبه الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَرْشِدَ كَمَا تَقَدَّمَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سلخ جمادى الآخرة منها.
يَعْقُوبُ الْخَطَّاطُ الْكَاتِبُ
تُوُفِّيَ بِالنِّظَامِيَّةِ، فَجَاءَ دِيوَانُ الحشر ليأخذوا ميراثه فَمَنَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ فَجَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ آلَ الْحَالُ إلى عزل المدرس الشيخ أبى النجيب وضربه في الديوان تَعْزِيرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فيها وقع الحرب بين السلطان سنجر وبين الأتراك، فقتل الأتراك من جيشه خلقا كثيرا بحيث صارت القتلى مثل التلول الْعَظِيمَةِ، وَأَسَرُوا السُّلْطَانَ سَنْجَرَ وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ معه من الأمراء صبرا، ولما أحضروه قاموا بين يديه وقبلوا الأرض له، وَقَالُوا نَحْنُ عَبِيدُكَ، وَكَانُوا عِدَّةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الكبار(12/230)
من مماليكهم، فأقام عندهم شهرين ثم أخذوه وساروا به فَدَخَلُوا مَرْوَ، وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَةِ خُرَاسَانَ، فَسَأَلَهُ بعضهم أن يجعلها له إقطاعا، فقال سنجر هَذَا لَا يُمْكِنُ، هَذِهِ كُرْسِيُّ الْمَمْلَكَةِ، فَضَحِكُوا منه وخرطوا به فَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ وَدَخَلَ خَانِقَاهُ، وَصَارَ فَقِيرًا مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِهَا، وَتَابَ عَنِ الْمُلْكِ وَاسْتَحْوَذَ أُولَئِكَ الْأَتْرَاكُ عَلَى الْبِلَادِ فَنَهَبُوهَا وَتَرَكُوهَا قاعا صفصفا، وأفسدوا في الأرض فسادا عريضا، وأقاموا سليمان شاه ملكا، فلم تطل أيامه حَتَّى عَزَلُوهُ، وَوَلَّوُا ابْنَ أُخْتِ سَنْجَرَ الْخَاقَانِ محمود ابن كوخان، وتفرقت الأمور واستحوذ كل إنسان منهم عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَمَالِكِ، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ دُوَلًا. وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْعَرَبِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ. وَفِيهَا أَخَذَتِ الفرنج مدينة عسقلان من ساحل غزة. وَفِيهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَاسِطٍ فِي جَحْفَلٍ فَأَصْلَحَ شَأْنَهَا وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فيها قيماز الأرجواني.
وفيها كانت وفاة
الشاعرين القرينين الشهيرين فِي الزَّمَانِ الْأَخِيرِ.
بِالْفَرَزْدَقِ وَجَرِيرٍ
وَهُمَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُنِيرٍ الْجَوْنِيُّ بِحَلَبَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ صَغِيرٍ القيسراني الحلبي بدمشق، وعلى بن السلار الملقب بالعادل وزير الظاهر صَاحِبِ مِصْرَ، وَهُوَ بَانِي الْمَدْرَسَةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِلشَّافِعِيَّةِ للحافظ أبى طاهر السلفي، وَقَدْ كَانَ الْعَادِلُ هَذَا ضِدَّ اسْمِهِ، كَانَ ظَلُومًا غَشُومًا حَطُومًا، وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة
فِيهَا رَكِبَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إلى تكريت فحاصر قلعتها، ولقي هناك جمعا من الأتراك والتركمان، فأظفره الله بهم، ثم عاد إلى بغداد.
ملك السلطان نور الدين الشهيد بدمشق
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مِصْرَ قَدْ قُتِلَ خَلِيفَتُهَا الظَّافِرُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا صَبِيٌّ صَغِيرٌ ابن خمس شهور، قَدْ وَلَّوْهُ عَلَيْهِمْ وَلَقَّبُوُهُ الْفَائِزَ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ عهدا إلى نور الدين محمود بن زنكي بالولاية على بلاد الشام وَالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا. وَفِيهَا هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِيهَا نَارٌ فَخَافَ النَّاسُ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، وَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ وَتَغَيَّرَ مَاءُ دجلة إلى الحمرة، وظهر بأرض واسط بالأرض دم لا يعرف ما سببه، وجاءت الأخبار عن الملك سنجر أنه في أسر الترك، وهو فِي غَايَةِ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ، وَأَنَّهُ يَبْكِي عَلَى نفسه كل وقت. وفيها انتزع نور الدين محمود دمشق من يد ملكها نور الدين أرتق، وَذَلِكَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ وَضَعْفِ دَوْلَتِهِ، وَمُحَاصَرَةِ الْعَامَّةِ له في القلعة، مع وزيره مؤيد الدولة على بْنِ الصُّوفِيِّ، وَتَغَلُّبِ الْخَادِمِ عَطَاءٍ عَلَى الْمَمْلَكَةِ مع ظلمه وغشمه، وكان الناس يدعون لَيْلًا وَنَهَارًا أَنْ يُبَدِّلَهُمْ بِالْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَاتَّفَقَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَخَذُوا عَسْقَلَانَ فحزن نُورُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ،(12/231)
ولا يمكنه الوصول إليهم، لأن دمشق بينه وبينهم، ويخشى أن يحاصروا دمشق فيشق على أهلها، ويخاف أن يرسل مجير الدين إلى الفرنج فيخذلونه كما جرى غير مرة، وذلك أن الْفِرِنْجَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَمْلِكَ نُورُ الدِّينِ دمشق فيقوى بِهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُونَهُ، فَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الأمير أسد الدين شير كوه فِي أَلْفِ فَارِسٍ فِي صِفَةِ طَلَبِ الصُّلْحِ، فلم يلتفت إليه مجير الدين ولا عده شيئا، ولا خرج إليه أحد من أعيان أَهْلِ الْبَلَدِ، فَكَتَبَ إِلَى نُورِ الدِّينِ بِذَلِكَ، فَرَكِبَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فِي جَيْشِهِ فَنَزَلَ عُيُونَ الْفَاسْرَيَا مِنْ أَرْضِ دِمَشْقَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا ودخل من الباب الشرقي بعد حصار عشرة أيام، وكان دخوله في يَوْمَ الْأَحَدِ عَاشِرَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَتَحَصَّنَ مُجِيرُ الدِّينِ فِي الْقَلْعَةِ فَأَنْزَلَهُ مِنْهَا وعوضه مدينة حمص ودخل نور الدين إلى الْقَلْعَةَ وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى دِمَشْقَ وللَّه الْحَمْدُ. ونادى في البلد بالأمان والبشارة بالخير، ثم وضع عنهم المكوس وقرئت عليهم التواقيع على المنابر، ففرح الناس بذلك وَأَكْثَرُوا الدُّعَاءَ لَهُ، وَكَتَبَ مُلُوكُ الْفِرِنْجِ إِلَيْهِ يهنونه بدمشق ويتقربون إليه، ويخضعون له.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الرَّئِيسُ مُؤَيَّدُ الدولة
على بْنُ الصُّوفِيِّ وَزِيرُ دِمَشْقَ لِمُجِيرِ الدِّينِ، وَقَدْ ثار على الملك غير مرة، واستفحل أَمْرُهُ، ثُمَّ يَقَعُ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ.
عَطَاءٌ الْخَادِمُ
أَحَدُ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ،، وَقَدْ تَغَلَّبَ على الأمور بأمر مجير الدين، وكان ينوب على بعلبكّ في بعض الأحيان، وقد كان ظَالِمًا غَاشِمًا وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ مَسْجِدُ عَطَاءٍ خَارِجَ بَابِ شَرْقِيٍّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دخلت سنة خمسين وخمسمائة هجرية
فيها خرج الخليفة في تجمل إلى دموقا فحاصرها فخرج إليه أهلها أَنْ يَرْحَلَ عَنْهُمْ فَإِنَّ أَهْلَهَا قَدْ هَلَكُوا من الْجَيْشَيْنِ، فَأَجَابَهُمْ وَرَحَلَ عَنْهُمْ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَنِصْفٍ، ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ الْحِلَّةِ وَالْكُوفَةِ وَالْجَيْشُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ شاه أنا ولى عهد سنجر، فان قررتنى في ذَلِكَ وَإِلَّا فَأَنَا كَأَحَدِ الْأُمَرَاءِ، فَوَعْدَهُ خَيْرًا، وَكَانَ يَحْمِلُ الْغَاشِيَةَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ عَلَى كَاهِلِهِ، فَمَهَّدَ الْأُمُورَ وَوَطَّدَهَا، وَسَلَّمَ عَلَى مَشْهَدِ على إشارة بإصبعه، وكأنه خاف عليه غائلة الروافض أو أن يعتقد في نفسه من القبر شيئا أو غير ذلك، والله أعلم.
فتح بعلبكّ بيد نور الدين الشهيد
وَفِيهَا افْتَتَحَ نُورُ الدِّينِ بَعْلَبَكَّ عَوْدًا عَلَى بدء وذلك أن نجم الدين أيوب كان نائبا بها على البلد والقلعة فسلمها إلى رجل يقال له الضحاك البقاعي، فاستحوذ عليها وكاتب نَجْمُ الدِّينِ لِنُورِ الدِّينِ، وَلَمْ يَزَلْ نُورُ الدِّينِ يَتَلَطَّفُ حَتَّى أَخَذَ الْقَلْعَةَ أَيْضًا وَاسْتَدْعَى بنجم الدين أيوب إليه إلى دمشق فأقطعه(12/232)
إقطاعا حسنا، وَأَكْرَمَهُ مِنْ أَجْلِ أَخِيهِ أَسَدِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ كَانَتْ لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي فَتْحِ دِمَشْقَ، وجعل الأمير شمس الدولة بوران شاه بْنَ نَجْمِ الدِّينِ شِحْنَةَ دِمَشْقَ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ جَعَلَ أَخَاهُ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ هُوَ الشِّحْنَةَ، وَجَعَلَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ لَا يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا، لِأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ حَسَنَ اللَّعِبِ بِالْكُرَةِ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يُحِبُّ لَعِبَ الكرة لتدمين الخيل وتعليمها الكر والفر، وفي شحنة صلاح الدين يوسف يقول عرقلة [وهو حسان بن نمير الكلبي] الشَّاعِرُ:
رُوَيْدَكُمْ يَا لُصُوصَ الشَّآمِ ... فَإِنِّي لَكُمْ ناصح في مقالي
فإياكم وسمى النبي يوسف ... رب الحجا والكمال
فذاك مقطع أيدي النسا ... وَهَذَا مُقَطِّعُ أَيْدِي الرِّجَالِ
وَقَدْ مَلَكَ أَخَاهُ بوران شاه بِلَادَ الْيَمَنِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ شمس الدولة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
مُحَمَّدُ بْنُ ناصر
ابن محمد بن على الْحَافِظُ، أَبُو الْفَضْلِ الْبَغْدَادِيُّ. وُلِدَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَفَرَّدَ بِمَشَايِخَ، وَكَانَ حَافِظًا ضَابِطًا مُكْثِرًا من السُّنَّةِ كَثِيرَ الذِّكْرِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ. وَقَدْ تَخْرَّجَ به جماعة منهم أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، سَمِعَ بِقِرَاءَتِهِ مُسْنَدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْكِبَارِ، وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَقَدْ رَدَّ عَلَى أَبِي سَعْدٍ السمعاني في قوله: مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ يُحِبُّ أَنْ يَقَعَ فِي الناس. قال ابن الجوزي: والكلام في الناس بالجرح وَالتَّعْدِيلِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِنَّمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ يُحِبُّ أَنْ يَتَعَصَّبَ عَلَى أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، نَعُوذُ باللَّه مِنْ سُوءِ الْقَصْدِ وَالتَّعَصُّبِ.
توفى مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ من شعبان منها، عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّاتٍ، ودفن بباب حرب.
مجلى بن جميع أَبُو الْمَعَالِي
الْمَخْزُومِيُّ الْأَرْسُوفِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ قَاضِيهَا، الفقيه الشافعيّ، مصنف الذخائر وَفِيهَا غَرَائِبُ كَثِيرَةٌ وَهِيَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة
في المحرم دَخَلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ملك شاه إِلَى بَغْدَادَ وَعَلَى رَأْسِهِ الشَّمْسِيَّةُ، فَتَلَقَّاهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَأَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَحَلَّفَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَصَفَاءِ النِّيَّةِ وَالْمُنَاصَحَةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خُلَعَ الْمُلُوكِ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ لِلْخَلِيفَةِ الْعِرَاقَ وَلِسُلَيْمَانَ شَاهْ مَا يَفْتَحُهُ مِنْ خُرَاسَانَ، ثُمَّ خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ بَعْدَ الْمَلِكِ سَنْجَرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَاقْتَتَلَ هو والسلطان محمد بن محمود بن ملك شاه، فهزمه محمد وهزم عسكره، فذهب مهزوما فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فَأَسَرَهُ وَحَبَسَهُ بِقَلْعَةِ الْمَوْصِلِ، وَأَكْرَمَهُ مُدَّةَ حَبْسِهِ وَخَدَمَهُ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ(12/233)
الِاتِّفَاقَاتِ. وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَهْدِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ. وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدين محمود بن زنكي قلعة تل حازم وَاقْتَلَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِ الْبِقَاعِ، وَذَلِكَ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ ووقعة هائلة كانت من أكبر الفتوحات، وامتدحه الشُّعَرَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا هَرَبَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ مِنَ الْأَسْرِ وَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ بِمَرْوَ، وَكَانَ له في يد أعدائه نحو من خمس سنين.
وفيها ولى عبد المؤمن ملك الغرب أولاده على بلاده، استناب كل واحد منهم على بلد كبير، وإقليم متسع.
ذِكْرُ حِصَارِ بَغْدَادَ
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ محمد بن محمود بن ملك شاه أرسل إلى المقتفى يطلب منه أن يخطب له في بغداد، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى بَغْدَادَ لِيُحَاصِرَهَا، فَانْجَفَلَ النَّاسُ وَحَصَّنَ الْخَلِيفَةُ الْبَلَدَ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَحَصَرَ بَغْدَادَ، وَوَقَفَ تُجَاهَ التَّاجِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي جَحْفَلٍ عظيم، ورموا نحوه النشاب، وقاتلت العامة مع الخليفة قتالا شديدا بالنفط وغيره، واستمر القتال مدة، فبينما هم كذلك إذ جاءه الخبر أَنَّ أَخَاهُ قَدْ خَلَفَهُ فِي هَمَذَانَ، فَانْشَمَرَ عن بغداد إليها فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وتفرقت عنه الْعَسَاكِرُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي الْبِلَادِ، وَأَصَابَ الناس بعد ذلك الْقِتَالِ مَرَضٌ شَدِيدٌ، وَمَوْتٌ ذَرِيعٌ، وَاحْتَرَقَتْ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهَا مُدَّةَ شهرين.
وفيها أطلق أبو الوليد الْبَدْرِ بْنُ الْوَزِيرِ بْنِ هُبَيْرَةَ مِنْ قَلْعَةِ تكريت، وكان معتقلا فيها من مدة ثَلَاثَ سِنِينَ، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وامتدحه الشعراء، وكان مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْأَبْلَهُ الشَّاعِرُ، أَنْشَدَ الْوَزِيرَ قَصِيدَةً يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
بِأَيِّ لِسَانٍ لِلْوُشَاةِ أُلَامُ ... وَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي سَهِرْتُ وَنَامُوا؟
إِلَى أَنْ قال:
ويستكثرون الوصل لي لَيْلَةً ... وَقَدْ مَرَّ عَامٌ بِالصُّدُودِ وَعَامُ
فَطَرِبَ الوزير عِنْدَ ذَلِكَ. وَخَلَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَأَطْلَقَ لَهُ خمسين دينارا، وحج بالناس قيماز.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْحَسَنِ الْغَزْنَوِيُّ الْوَاعِظُ، كَانَ لَهُ قَبُولٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وَبَنَتْ لَهُ الْخَاتُونُ زَوْجَةُ الْمُسْتَظْهِرِ رِبَاطًا بِبَابِ الْأَزَجِّ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ أوقافا كثيرة، وحصل لَهُ جَاهٌ عَرِيضٌ وَزَارَهُ السُّلْطَانُ. وَكَانَ حَسَنَ الْإِيرَادِ مَلِيحَ الْوَعْظِ، يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وجم غفير من أصناف الناس. وقد ذكر ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ مِنْ وَعْظِهِ، قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَوْمًا يَقُولُ: حُزْمَةُ حُزْنٍ خَيْرٌ مِنْ أَعْدَالِ أَعْمَالِ. ثُمَّ أَنْشَدَ:
كَمْ حَسْرَةٍ لِي فِي الْحَشَا ... مِنْ وَلَدٍ إِذَا نَشَا
أَمَّلْتُ فِيهِ رشده ... فما يشاء كما نشا
قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَوْمًا يُنْشِدُ:(12/234)
يَحْسُدُنِي قَوْمِي عَلَى صَنْعَتِي ... لِأَنَّنِي فِي صَنْعَتِي فَارِسُ
سَهِرْتُ فِي لَيْلِي وَاسْتَنْعَسُوا ... وَهَلْ يَسْتَوِي السَّاهِرُ وَالنَّاعِسُ؟
قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: تُوَلُّونَ الْيَهُودَ والنصارى فيسبون نبيكم في يوم عيدكم، ثم يصبحون يَجْلِسُونَ إِلَى جَانِبِكُمْ؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالَ: وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، ثُمَّ سُعِيَ فِي مَنْعِهِ مِنَ الْوَعْظِ ثُمَّ أُذِنَ لَهُ، وَلَكِنْ ظهر للناس أمر العبادي، وكان كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ السلطان يُعَظِّمُهُ وَيَحْضُرُ مَجْلِسَهُ، فَلَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ ولى الْغَزْنَوِيُّ بَعْدَهُ، وَأُهِينَ إِهَانَةً بَالِغَةً، فَمَرِضَ وَمَاتَ في هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَعْرَقُ فِي نَزْعِهِ ثُمَّ يَفِيقُ وَهُوَ يَقُولُ: رِضًى وَتَسْلِيمٌ، وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي رِبَاطِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.
مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قَادُوسَ
أَبُو الْفَتْحِ الدِّمْيَاطِيُّ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بالديار المصرية، وهو شيخ القاضي الفاضل، كان يُسَمِّيهِ ذَا الْبَلَاغَتَيْنِ، وَذَكَرَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي الجريدة. ومن شعره فيمن يكرر التكبير ويوسوس في نية الصلاة في أولها:
وفاتر النية عنينها ... مع كثرة الرعدة والهمزة
يكبر التسعين في مرة ... كأنه يصلى على حمزة
الشيخ أبو البيان
بنا بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَوْرَانِيِّ، الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ العابد الفاضل الخاشع، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَكِتَابَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ، وَلَهُ كَلَامٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا بِخَطِّهِ فيه النظائم التي يَقُولُهَا أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ بِلَهْجَةٍ غَرِيبَةٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ نَشْأَتِهِ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ عَلَى طَرِيقَةٍ صالحة، وقد زاره الملك نور الدين محمود فِي رِبَاطِهِ دَاخِلَ دَرْبِ الْحَجَرِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ شيئا، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الباب الصغير، وكان يوم جنازته يَوْمًا مَشْهُودًا. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ رحمه الله.
عبد الغافر بن إسماعيل
ابن عبد القادر بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ، الْفَارِسِيُّ الْحَافِظُ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ عَلَى جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي الْقَاسِمِ القشيري، ورحل إلى البلاد وأسمع، وَصَنَّفَ الْمُفْهِمَ فِي غَرِيبِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَوَلِيَ خطابة نيسابور، وكان فاضلا ديِّنًا حَافِظًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وخمسمائة
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَمُحَمَّدُ شَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ مُحَاصِرٌ بَغْدَادَ وَالْعَامَّةُ وَالْجُنْدُ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ المقتفى(12/235)
يُقَاتِلُونَ أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَالْجُمُعَةُ لَا تُقَامُ لِعُذْرِ القتال، والفتنة منتشرة، ثُمَّ يَسَّرَ اللَّهُ بِذَهَابِ السُّلْطَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَطَوَّلَ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ، هَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَتَهَدَّمَ أَكْثَرُ حَلَبَ وَحَمَاةُ وَشَيْزَرُ وَحِمْصُ وَكَفْرُ طَابَ وَحِصْنُ الأكراد واللاذقية والمعرة وفامية وَأَنْطَاكِيَةُ وَطَرَابُلُسُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَمَّا شَيْزَرُ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا امْرَأَةٌ وَخَادِمٌ لَهَا، وَهَلَكَ الْبَاقُونَ، وَأَمَّا كَفْرُ طَابَ فَلَمْ يَسْلَمْ من أهلها أحد، وأما فاميه فساخت قلعتها، وتل حران انْقَسَمَ نِصْفَيْنِ فَأَبْدَى نَوَاوِيسَ وَبُيُوتًا كَثِيرَةً فِي وسطه. قال: وهلك من مدائن الفرنج شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَتَهَدَّمَ أَسْوَارُ أَكْثَرِ مُدُنِ الشَّامِ، حتى أن مكتبا من مدينة حماه انهدم على من فيه من الصغار فهلكوا عن آخرهم، فلم يأت أَحَدٌ يَسْأَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ الروضتين مستقصى، وذكر ما قاله الشعراء من القصائد فِي ذَلِكَ. وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ محمد بعد خاله سنجر جميع بلاده. وفيها فتح السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ حِصْنَ شَيْزَرَ بَعْدَ حِصَارٍ، وَأَخَذَ مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ، وَكَانَ بِهَا الضَّحَّاكُ الْبِقَاعِيُّ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سنة خمسين كما تقدم فاللَّه أعلم، وقد تقدم ذلك. وَفِيهَا مَرِضَ نُورُ الدِّينِ فَمَرِضَ الشَّامُ بِمَرَضِهِ ثم عوفي ففرح المسلمون فَرَحًا شَدِيدًا، وَاسْتَوْلَى أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ صاحب الموصل عَلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ. وَفِيهَا عَمِلَ الْخَلِيفَةُ بَابًا لِلْكَعْبَةِ مُصَفَّحًا بِالذَّهَبِ، وَأَخَذَ بَابَهَا الْأَوَّلَ فَجَعْلَهُ لِنَفْسِهِ تَابُوتًا. وَفِيهَا أَغَارَتِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ عَلَى حجاج خراسان فلم يبقوا منهم أحدا، لا زاهدا ولا عالما. وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِخُرَاسَانَ حَتَّى أَكَلُوا الحشرات، وذبح إنسان منهم رَجُلًا عَلَوِيًّا فَطَبَخَهُ وَبَاعَهُ فِي السُّوقِ، فَحِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِ قُتِلَ.
[وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَنَّ فَتْحَ بَانِيَاسَ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى يد نُورِ الدِّينِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ مُعِينُ الدِّينِ سلمها إلى الفرنج حين حاصروا دمشق، فعوضهم بها، وقيل ملكها وغنم شيئا كثيرا] . وَفِيهَا قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَقْتِ عَبْدُ الْأَوَّلِ بن عيسى بن شعيب السنجري، فسمعوا عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي دَارِ الْوَزِيرِ بِبَغْدَادَ، وَحَجَّ بالناس قيماز.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ محمد
ابن عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو اللَّيْثِ النَّسَفِيُّ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ، وَكَانَ حَسَنَ السَّمْتِ، قَدِمَ بغداد فوعظ الناس، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَقَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ رحمه الله تعالى
أحمد بن بختيار
ابن على بن محمد، أبو العباس المارداني الْوَاسِطِيُّ قَاضِيهَا، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تامة في الأدب وَاللُّغَةِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بالنظاميّة(12/236)
السلطان سنجر
ابن الملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بْنِ سَلْجُوقَ، أَبُو الْحَارِثِ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَلُقِّبَ بِسَنْجَرَ، مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَامَ فِي الْمُلْكِ نَيِّفًا وَسِتِّينَ سَنَةً، مِنْ ذَلِكَ اسْتِقْلَالًا إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ أَسَرَهُ الْغُزُّ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، ثُمَّ هرب منهم وعاد إلى ملكه بمرو، ثم تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ فِي قُبَّةٍ بَنَاهَا سَمَّاهَا دَارَ الْآخِرَةِ رحمه الله.
محمد بن عبد اللطيف
ابن مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَبُو بَكْرٍ الْخُجَنْدِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُنَاظِرُ حَسَنًا وَيَعِظُ النَّاسَ وَحَوْلَهُ السُّيُوفُ مُسَلَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْوَعْظِ، وكانت حَالُهُ أَشْبَهُ بِالْوُزَرَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ السَّلَاطِينَ حَتَّى كَانُوا يُصْدِرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، تُوُفِّيَ بأصبهان فجأة فيها.
محمد بن المبارك
ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِّ أَبُو الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْبَقَاءِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّاشِيِّ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى، وَتُوُفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتُوُفِّيَ أَخُوهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْخَلِّ الشَّاعِرُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
يَحْيَى بْنُ عِيسَى
ابن إِدْرِيسَ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْأَنْبَارِيُّ الْوَاعِظُ، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَبْكِي مِنْ أَوَّلِ صُعُودِهِ إِلَى حين نزوله، وكان زاهدا عابدا وَرِعًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَرُزِقَ أَوْلَادًا صَالِحِينَ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَاءِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيُّ.
وَحَفَّظَهُمُ الْقُرْآنَ كُلَّهُمْ بنفسه، وَخَتَّمَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ يَصُومَانِ الدَّهْرَ، وَيَقُومَانِ اللَّيْلَ، وَلَا يُفْطِرَانِ إِلَّا بَعْدَ الْعَشَاءِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ وَمَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ زَوْجَتُهُ: اللَّهمّ لَا تُحْيِنِي بَعْدَهُ، فَمَاتَتْ بَعْدَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثلاث وخمسين وخمسمائة
فيها كثر فساد التركمان من أصحاب ابن برجم الايوانى، فجهز إليهم الخليفة مَنْكُورُسُ [1] الْمُسْتَرْشِدِيُّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَهَزَمَهُمْ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَجَاءُوا بِالْأُسَارَى وَالرُّءُوسِ إِلَى بغداد. وفيها كانت وقعة عظيمة بين السلطان محمود وبين الغز، فكسروه ونهبوا البلاد، وأقاموا بمرو ثم طَلَبُوهُ إِلَيْهِمْ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَرْسَلَ وَلَدَهُ بين يديه فأكرموه، ثم قدم السلطان عَلَيْهِمْ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِمَرْوَ بَيْنَ فَقِيهِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُؤَيَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَبَيْنَ نَقِيبِ الْعَلَوِيِّينَ بِهَا أَبِي الْقَاسِمِ زيد بن الحسن، فقتل منهم خلق كثير، وأحرقت المدارس والمساجد والأسواق، وانهزم المؤيد
__________
[1] كذا في الأصل وفي ابن الأثير «خطلوبرس» .(12/237)
الشَّافِعِيُّ إِلَى بَعْضِ الْقِلَاعِ. وَفِيهَا وُلِدَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَفِيهَا خَرَجَ الْمُقْتَفِي نَحْوَ الْأَنْبَارِ مُتَصَيِّدًا وَعَبَرَ الْفُرَاتَ وَزَارَ الْحُسَيْنَ وَمَضَى إِلَى وَاسِطٍ وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ الوزير. وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني. وَفِيهَا كَسَرَ جَيْشُ مِصْرَ الْفِرِنْجَ بِأَرْضِ عَسْقَلَانَ كسر وهم كسرة فجيعة صحبة الملك صالح أبو الْغَارَاتِ، فَارِسِ الدِّينِ طَلَائِعِ بْنِ رُزِّيكَ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ. وَفِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ شُفِيَ مِنَ الْمَرَضِ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَخَرَجَ إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، فانهزم جيشه وبقي هو في شرذمة قليلة من أصحابه في نحر العدو، فرموهم بالسهام الكثيرة، ثم خاف الفرنج أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ فِي هَذِهِ الشِّرْذِمَةِ الْقَلِيلَةِ خَدِيعَةً لِمَجِيءِ كَمِينٍ إِلَيْهِمْ، فَفَرُّوا مُنْهَزِمِينَ وللَّه الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الْأَوَّلِ بن عيسى
ابن شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، أَبُو الْوَقْتِ السجزى الصوفي الهروي، راوي البخاري ومسند الدارميّ، والمنتخب مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ هَذِهِ الْكُتُبَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمَشَايِخِ وَأَحْسَنِهِمْ سَمْتًا وَأَصْبَرِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ التَّكْرِيتِيُّ الصُّوفِيُّ قَالَ أسندته إلى فمات، وَكَانَ آخَرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكْرَمِينَ) 36: 26- 27.
نصر بن منصور
ابن الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْعَطَّارُ، أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، يَعْمَلُ مِنْ صَدَقَاتِهِ الْمَعْرُوفَ الْكَثِيرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ الْحَسَنَةِ، وَيُكْثِرُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَيُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ في الجماعة، ورئيت له منامات صالحة، وقارب الثمانين رحمه الله.
يحيى بن سلامة
ابن الحسين أَبُو الْفَضْلِ الشَّافِعِيُّ، الْحَصْكَفِيُّ نِسْبَةً إِلَى حِصْنِ كَيْفَا، كَانَ إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الفقه والآداب، نَاظِمًا نَاثِرًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى الْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِطْعَةً مِنْ نَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ لَهُ:
تَقَاسَمُوا يَوْمَ الْوَدَاعِ كَبِدِي ... فَلَيْسَ لِي مُنْذُ تَوَلَّوْا كَبِدُ
عَلَى الجفون رحلوا وفي الحشا ... نزلوا وماء عيني وردوا
وأدمعى مسفوحة وكبدي ... مقروحة وعلتي ما قد بدوا
وَصَبْوَتِي دَائِمُةٌ وَمُقْلَتِي ... دَامِيَةٌ وَنَوْمُهَا مُشَرَّدُ
تَيَّمَنِي مِنْهُمْ غَزَالٌ أَغْيَدُ ... يَا حَبَّذَا ذَاكَ الْغَزَالُ الأغيد(12/238)
حُسَامُهُ مُجَرَّدٌ وَصَرْحُهُ ... مُمَرَّدٌ وَخَدُّهُ مُوَرَّدُ
وَصُدْغُهُ فَوْقَ احْمِرَارِ خَدِّهِ ... مُبَلْبَلٌ مُعَقْرَبٌ مُجَعَّدُ
كَأَنَّمَا نَكْهَتُهُ وَرِيقُهُ ... مِسْكٌ وَخَمْرٌ وَالثَّنَايَا بَرَدُ
يُقْعِدُهُ عِنْدَ الْقِيَامِ رِدْفُهُ ... وَفِي الْحَشَا مِنْهُ الْمُقِيمُ الْمُقْعِدُ
لَهُ قِوَامٌ كَقَضِيبِ بَانَةٍ ... يَهْتَزُّ قَصْدًا لَيْسَ فِيهِ أَوَدُ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ هَذَا التَّغَزُّلِ إِلَى مَدْحِ أَهْلِ البيت والأئمة الاثني عشر رحمهم الله
وَسَائِلِي عَنْ حُبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ ... هَلْ أُقِرُّ إِعْلَانًا بِهِ أَمْ أَجْحَدُ؟
هَيْهَاتَ مَمْزُوجٌ بِلَحْمِي وَدَمِي ... حُبُّهُمْ وَهْوَ الْهُدَى وَالرَّشَدُ
حَيْدَرَةُ وَالْحَسَنَانِ بَعْدَهُ ... ثُمَّ عَلِيٌّ وَابْنُهُ مُحَمَّدُ
وَجَعْفَرُ الصَّادِقُ وَابْنُ جَعْفَرٍ ... مُوسَى وَيَتْلُوهُ عَلِيُّ السَّيِّدُ
أَعْنِي الرضى ثُمَّ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ ... ثُمَّ عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْمُسَدَّدُ
والحسن الثاني وَيَتْلُو تِلْوَهُ ... مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُفْتَقَدُ
فَإِنَّهُمْ أَئِمَّتِي وَسَادَتِي ... وَإِنْ لَحَانِي مَعْشَرٌ وَفَنَّدُوا
أَئِمَّةٌ أَكْرِمْ بِهِمْ أَئِمَّةً ... أَسْمَاؤُهُمْ مَسْرُودَةٌ تَطَّرِدُ
هُمْ حُجَجُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ... وَهُمْ إِلَيْهِ مَنْهَجٌ وَمَقْصِدُ
قَوْمٌ لَهُمْ فَضْلٌ وَمَجْدٌ بَاذِخٌ ... يَعْرِفُهُ الْمُشْرِكُ وَالْمُوَحِّدُ
قَوْمٌ لَهُمْ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَشْهَدُ ... لَا بَلْ لَهُمْ فِي كُلِّ قَلْبٍ مَشْهَدُ
قَوْمٌ مِنًى وَالْمَشْعَرَانِ لَهُمْ ... وَالْمَرْوَتَانِ لَهُمْ والمسجد
قوم لهم مكة والأبطح والخيف ... وجمع والبقيع الغرقد
ثم ذكر بلطف مقتل الحسين بألطف عبارة إِلَى أَنْ قَالَ:
يَا أَهْلَ بَيْتِ الْمُصْطَفَى يَا ... عِدَّتِي وَمَنْ عَلَى حُبِّهِمْ أَعْتَمِدُ
أَنْتُمْ إِلَى اللَّهِ غَدًا وَسِيْلَتِي ... وَكَيْفَ أَخْشَى وَبِكُمْ أَعْتَضِدُ
وَلِيُّكُمْ فِي الْخُلْدِ حَيٌّ خَالِدُ ... وَالضِّدُّ فِي نَارٍ لَظًى مُخَلَّدُ
وَلَسْتُ أَهْوَاكُمْ بِبُغْضِ غَيْرِكُمْ ... إِنِّي إِذًا أَشْقَى بِكُمْ لَا أَسْعَدُ
فَلَا يَظُنُّ رَافِضِيُّ أَنَّنِي ... وَافَقْتُهُ أَوْ خَارِجِيٌّ مُفْسِدُ
مُحَمَّدٌ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ... أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ فِيمَا أَجِدُ
هُمْ أَسَّسُوا قَوَاعِدَ الدِّينِ لَنَا ... وَهُمْ بَنَوا أَرْكَانَهُ وَشَيَّدوُا(12/239)
وَمَنْ يَخُنْ أَحْمَدَ فِي أَصْحَابِهِ ... فَخَصْمُهُ يَوْمَ الْمَعَادِ أَحْمَدُ
هَذَا اعْتِقَادِي فَالْزَمُوهُ تَفْلَحُوا ... هَذَا طَرِيقِي فَاسْلُكُوهُ تَهْتَدُوا
وَالشَّافِعِيُّ مَذْهَبِي مَذْهَبُهُ ... لِأَنَّهُ في قوله مؤيد
اتبعته في الأصل والفرع معا ... فليتبعني الطالب المرشد
إني باذن الله تاج سابق ... إذا ونى الظالم ثم المفسد
ومن شعره أيضا:
إذا قل مالي لم تجدني جازعا ... كثير الأسى معرى بِعَضِّ الْأَنَامِلِ
وَلَا بَطِرًا إِنْ جَدَّدَ اللَّهُ نعمة ... ولو أن ما أوتى جميع الناس لي
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة
فِيهَا مَرِضَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي مَرَضًا شَدِيدًا، ثُمَّ عوفي منه فزينت بغداد أياما، وتصدق بصدقات كَثِيرَةٍ. وَفِيهَا اسْتَعَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ الْمَهْدِيَّةِ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَقَدْ كَانُوا أَخَذُوهَا مِنَ المسلمين في سنة ثلاث وأربعين. وفيها قاتل عبد المؤمن خلقا كثيرا من الغرب حَتَّى صَارَتْ عِظَامُ الْقَتْلَى هُنَاكَ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ، وفي صفر منها سَقَطَ بَرَدٌ بِالْعِرَاقِ كِبَارٌ، زِنَةُ الْبَرَدَةِ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ بِالْبَغْدَادِيِّ، فَهَلَكَ بِذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَاسِطٍ فَاجْتَازَ بِسُوقِهَا وَرَأَى جَامِعَهَا، وَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَشُجَّ جَبِينُهُ، ثُمَّ عُوفِيَ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ زَادَتْ دِجْلَةُ زيادة عظيمة، فغرق بِسَبَبِ ذَلِكَ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ، حَتَّى صَارَ أَكْثَرُ الدُّورِ بِهَا تُلُولًا، وَغَرِقَتْ تُرْبَةُ أحمد، وخسفت هناك الْقُبُورُ، وَطَفَتِ الْمَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ الْمَرَضُ وَالْمَوْتُ، وَفِيهَا أَقْبَلَ مَلِكُ الرُّومِ فِي جَحَافِلَ كثيرة قاصدا بلاد الشام فرده الله خائبا خاسئا، وَذَلِكَ لِضِيقِ حَالِهِمْ مِنَ الْمِيرَةِ، وَأَسَرَ الْمُسْلِمُونَ ابن أخته وللَّه الحمد. وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ معالي
ابن بركة الحربي، تفقه بأبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي، وبرع وناظر ودرس وأفتى، ثم صار بعد ذلك شَافِعِيًّا، ثُمَّ عَادَ حَنْبَلِيًّا، وَوَعَظَ بِبَغْدَادَ وَتُوُفِّيَ في هذه السنة، وذلك أنه دخلت به راحلته فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ فَدَخَلَ قَرَبُوسُ سَرْجِهِ فِي صدره فمات.
السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملك شاه
لَمَّا رَجَعَ مِنْ مُحَاصَرَةِ بَغْدَادَ إِلَى هَمَذَانَ أصابه مرض السل فلم ينجح منه، بل توفى في ذي الحجة منها، وَقَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ أَمَرَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يَمْلِكُهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ في المنظرة،(12/240)
فَرَكِبَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ وَأُحْضِرَتْ أَمْوَالُهُ كُلُّهَا، وَمَمَالِيكُهُ حَتَّى جَوَارِيِهِ وَحَظَايَاهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ:
هَذِهِ العساكر لا يدفعون عنى مثقال ذرة من أمر ربى، ولا يزيدون في عمري لحظة، ثم ندم وتأسف عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي، وأهل بغداد وحصارهم وأذيتهم، ثم قال: وهذه الخزائن والأموال والجواهر لو قبلهم ملك الموت منى فداء لجدت بذلك جميعه له، وهذه الحظايا والجواري الحسان والمماليك لو قبلهم فداء منى لكنت بذلك سمحا له. ثم قال (مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) 69: 28- 29 ثم فرق شيئا كثيرا من ذلك مِنْ تِلْكَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ وَلَدٍ صَغِيرٍ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْأُمَرَاءُ عَلَى عَمِّهِ سُلَيْمَانَ شاه بن محمد بن ملك شاه، وكان مسجونا بالموصل فأفرج عنه وانعقدت له السلطنة، وخطب له على منابر تلك البلاد سوى بغداد والعراق. والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة
فيها كانت وفاة الخليفة المقتفى بأمر الله.
أبو عبد الله محمد بن المستظهر باللَّه
مرض بالتراقي وقيل بدمل خرج بحلقة، فمات ليلة الأحد ثانى ربيع الأول منها عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، إِلَّا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الترب، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وستة وعشرين يوما، وكان شَهْمًا شُجَاعًا مِقْدَامًا، يُبَاشِرُ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَيُشَاهِدُ الحروب ويبذل الأموال الكثيرة لأصحاب الأخبار، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَبَدَّ بِالْعِرَاقِ مُنْفَرِدًا عَنِ السلطان، مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الدَّيْلَمِ إِلَى أَيَّامِهِ، وَتَمَكَّنَ فِي الْخِلَافَةِ وَحَكَمَ عَلَى الْعَسْكَرِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ فِي أَشْيَاءَ: مِنْ ذَلِكَ مَرَضُهُ بِالتَّرَاقِي، وَمَوْتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَتَقَدَّمَ مَوْتُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ شَاهْ قَبْلَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ أبوه المستظهر مات قبله السلطان محمود بثلاثة أشهر، وبعد غرق بغداد بسنة مات أبوه، وَكَذَلِكَ هَذَا. قَالَ عَفِيفٌ النَّاسِخُ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: إِذَا اجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ خَاءَاتٍ مَاتَ الْمُقْتَفِي- يَعْنِي خَمْسًا وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
خِلَافَةُ المستنجد باللَّه أبو الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ الْمُقْتَفِي
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ كما ذكرنا بويع بالخلافة فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بَايَعَهُ أَشْرَافُ بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ الْوَزِيرُ وَالْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، ثُمَّ عمل عزاء أبيه، ولما ذكر اسمه يوم الجمعة في الخطبة نُثِرَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَى النَّاسِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَأَقَرَّ الْوَزِيرَ ابْنَ هُبَيْرَةَ عَلَى مَنْصِبِهِ وَوَعَدَهُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ، وَعَزَلَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ ابْنَ الدَّامَغَانِيِّ وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا جعفر بن عبد الواحد، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، لَهُ سَمَاعٌ بِالْحَدِيثِ، وَبَاشَرَ الحكم بالكوفة، ثم توفى في(12/241)
ذي الحجة منها. وَفِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اتَّفَقَ الْأَتْرَاكُ بباب همذان على سليمان شاه، وخطبوا لأرسلان شاه بن طغرل،
وفيها توفى.
الفائز خليفة مصر الفاطمي
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الظَّافِرُ، توفى في صفر منها وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ مِنْ ذَلِكَ سِتُّ سِنِينَ وَشَهْرَانِ، وَكَانَ مُدَبِّرَ دَوْلَتِهِ أَبُو الْغَارَاتِ. ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ الْعَاضِدُ آخِرُ خُلَفَائِهِمْ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْحَافِظِ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُوهُ خَلِيفَةً، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، فَقَامَ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ طَلَائِعُ بْنُ رُزِّيكَ الْوَزِيرُ، أَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ، وَجَهَّزَهَا بجهاز عظيم يعجز عنه الوصف، وَقَدْ عُمِّرَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا الْعَاضِدِ وَرَأَتْ زَوَالَ دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَى يَدِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ بن يوسف، في سنة أربع وستين كما سيأتي. وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ السُّلْطَانِ الْكَبِيرِ صَاحِبِ غَزْنَةَ.
خسرو شاه بن ملك شاه
ابن بَهْرَامْ شَاهْ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتُكِينَ، مِنْ بَيْتِ مُلْكٍ وَرِيَاسَةٍ بَاذِخَةٍ، يَرِثُونَهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، يُحِبُّ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، توفى في رجب منها، وقام بعده ولده ملك شاه، فسار إليه علاء الدين الحسين بن الغور فحاصر غزنة فلم يقدر عليها، ورجع خائبا. وفيها مات.
ملك شاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملك شاه
السلجوقي بأصبهان مسموما، فيقال إِنَّ الْوَزِيرَ عَوْنَ الدِّينِ بْنَ هُبَيْرَةَ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ سَقَاهُ إِيَّاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا مات أمير الحاج.
قيماز بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُرْجُوَانِيُّ
سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ بِمَيْدَانِ الْخَلِيفَةِ، فَسَالَ دِمَاغُهُ من أذنه فمات من ساعته، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، فَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ فِي شعبان منها، فحج بالناس فيها الأمير برغش مقطع الكوفة. وحج الأمير الكبير شير كوه بْنُ شَاذِيٍّ، مُقَدَّمُ عَسَاكِرِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَتَصَدَّقَ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. وَفِيهَا اسْتَعْفَى الْقَاضِي زَكِيُّ الدين أبو الحسن على بن محمد ابن يحيى أبو الحسن القرشي من القضاء بدمشق، فأعفاه نُورُ الدِّينِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ الْقَاضِي كَمَالَ الدَّيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيَّ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَكْثَرِهِمْ صَدَقَةً، وَلَهُ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ بعده، وكان عالما، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الشُّبَّاكُ الْكَمَالِيُّ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ الحكام بعد صلاة الجمعة من المشهد الغربي بالجامع الأموي، والله أعلم.(12/242)
وممن توفي فيها من الأعيان.
الأمير مجاهد الدين
نرار بْنُ مَامِينَ الْكُرْدِيُّ، أَحَدُ مُقَدَّمِي جَيْشِ الشَّامِ، قبل نُورِ الدِّينِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ نَابَ فِي مَدِينَةِ صرخد، وكان شهما شجاعا كثير البر والصدقات، وهو واقف المدرسة المجاهدية بالقرب من الغورية جوار الخيميين، وله أيضا المدرسة المجاهدية دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ الْبَرَّانِيِّ، وَبِهَا قَبْرُهُ. وَلَهُ السَّبْعُ الْمُجَاهِدِيُّ دَاخِلَ بَابِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجَامِعِ بمقصورة الخضر، توفى بداره في صفر منها، فَحُمِلَ إِلَى الْجَامِعِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى مَدْرَسَتِهِ وَدُفِنَ بِهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وتأسف الناس عليه.
الشيخ عدي بن مسافر
ابن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرْوَانَ الْهَكَّارِيُّ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ الْعَدَوِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنَ الْبِقَاعِ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ، مِنْ قَرْيَةِ بَيْتِ نار، ثم دخل إِلَى بَغْدَادَ فَاجْتَمَعَ فِيهَا بِالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ حَمَّادٍ الدَّبَّاسِ، وَالشَّيْخِ عَقِيلٍ الْمَنْبِجِيِّ، وَأَبِي ألوفا الْحُلْوَانِيِّ، وَأَبِي النَّجِيبِ السُّهْرَوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ انْفَرَدَ عن الناس وتخلى بجبل هكار وبنى له هناك زاوية وأعتقده أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ اعْتِقَادًا بَلِيغًا، حَتَّى إِنَّ منهم من يغلو غلوا كثيرا منكرا ومنهم من يجعله إلها أو شريكا، وهذا اعتقاد فاحش يؤدى إلى الخروج من الدين جملة. مات فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِزَاوِيَتِهِ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً رحمه الله.
عبد الواحد بن أحمد
ابن مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، أَبُو جَعْفَرٍ الثَّقَفِيُّ، قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ، وَلِيَهَا بَعْدَ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ في أول هذه السنة، وكان قاضيا بالكوفة قبل ذلك، توفى في ذي الحجة منها وَقَدْ نَاهَزَ الثَّمَانِينَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ. والفائز صاحب مصر، وقيماز تقدما في الحوادث.
محمد بن يحيى
ابن عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْدِيُّ، ولد بمدينة زبيد باليمن سنة ثمانين تقريبا، وَقِدَمَ بَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَوَعَظَ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ لَا يَشْكُو حَالَهُ إِلَى أَحَدٍ، وَكَانَتْ له أحوال صالحة رحمه الله، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وخمسين وخمسمائة
فِيهَا قُتِلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ بْنُ مُحَمَّدِ بن ملك شاه، وكان عنده استهزاء وقلة مبالاة بالدين، مدمن شرب الخمر في رمضان، فثار عليه مدبر مملكته يزديار الْخَادِمُ فَقَتَلَهُ، وَبَايَعَ بَعْدَهُ السُّلْطَانَ أَرْسَلَانَ شَاهْ بن طغرل بن محمد بن ملك شاه. وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ فَارِسُ الدِّينِ أَبُو الغارات طلائع ابن رُزِّيكَ الْأَرْمَنِيُّ، وَزِيرُ الْعَاضِدِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَوَالِدِ زَوْجَتِهِ، وَكَانَ قَدْ حَجَرَ عَلَى الْعَاضِدِ لِصِغَرِهِ واستحوذ على الأمور والحاشية، وَوَزَرَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ رُزِّيكُ، وَلُقِّبَ بِالْعَادِلِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الصَّالِحُ(12/243)
كَرِيمًا أَدِيبًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَالْوُزَرَاءِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشُّعَرَاءِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كان أولا متوليا بمنية بنى الخصيب، ثم آل به الحال إلى أن صار وزير العاضد والفائز قبله، ثم قَامَ فِي الْوِزَارَةِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْعَادِلُ رُزِّيكُ بْنُ طَلَائِعَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهَا حَتَّى انْتَزَعَهَا منه شَاوَرُ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ: وَالصَّالِحُ هَذَا هُوَ بَانِي الْجَامِعِ عِنْدَ بَابِ زُوَيْلَةَ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ، قَالَ: وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُ وَلِيَ الْوِزَارَةَ فِي تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ وَنُقِلَ مِنْ دَارِ الْوِزَارَةِ إلى القرافة في تاسع عشر شهر، وَزَالَتْ دَوْلَتُهُمْ فِي تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ آخَرَ. قال ومن شعره ما رواه عنه زين الدين على بن نجا الحنبلي
مشيبك قد محى صنع الشَّبَابِ ... وَحَلَّ الْبَازُ فِي وَكْرِ الْغُرَابِ
تَنَامُ ومقلة الحدثان يقظى ... وما ناب النوائب عنك ناب
وكيف نفاد عمرك وهو كنز ... وقد أنفقت منه بلا حساب
وله
كَمْ ذَا يُرِينَا الدَّهْرُ مِنْ أَحْدَاثِهِ ... عِبَرًا وَفِينَا الصَّدُّ وَالْإِعْرَاضُ
نَنْسَى الْمَمَاتَ وَلَيْسَ يَجْرِي ذِكْرُهُ ... فِينَا فَتُذْكِرُنَا بِهِ الْأَمْرَاضُ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَدُومَ لَنَا الدَّهْرُ ... وَيَخْدِمُنَا فِي مُلْكِنَا الْعِزُّ وَالنَّصْرُ
عَلِمْنَا بِأَنَّ الْمَالَ تَفْنَى أُلُوفُهُ ... وَيَبْقَى لَنَا مِنْ بَعْدِهِ الْأَجْرُ وَالذِّكْرُ
خَلَطْنَا النَّدَى بِالْبَأْسِ حَتَّى كَأَنَّنَا ... سَحَابٌ لَدَيْهِ الْبَرْقُ وَالرَّعْدُ وَالْقَطْرُ
وَلَهُ أَيْضًا وَهُوَ مِمَّا نَظَمَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بثلاث ليال:
[نحن في غفلة ونوم وللموت ... عُيُونٌ يَقْظَانَةٌ لَا تَنَامُ
]
قَدْ رَحَلْنَا إِلَى الْحِمَامِ سِنِينًا ... لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ الْحِمَامُ؟
ثُمَّ قَتَلَهُ غِلْمَانُ الْعَاضِدِ فِي النَّهَارِ غِيلَةً وَلَهُ إِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً، وَخَلَعَ عَلَى وَلَدِهِ العادل بالوزارة ورثاه عمارة التميمي بقصائد حسان، ولما نُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ بِالْقَرَافَةِ سَارَ الْعَاضِدُ مَعَهُ حتى وصل إلى قبره فدفنه في التابوت. قال ابن خلكان: فعمل الفقيه عمارة في التابوت قصيدة فجار فيها في قَوْلُهُ:
وَكَأَنَّهُ تَابُوتُ مُوسى أُودِعَتْ ... فِي جَانِبَيْهِ سكينة ووقار
وفيها كانت وقعة عظيمة بين بنى خفاجة وأهل الكوفة، فقتلوا من أهل الكوفة خَلْقًا، مِنْهُمُ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ وَجَرَحُوا أَمِيرَ الْحَاجِّ برغش جِرَاحَاتٍ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ وَزِيرُ الْخِلَافَةِ عَوْنُ الدِّينِ بن هبيرة، فتبعهم حتى أوغل خلفهم في البرية في جيش كثيف، فَبَعَثُوا يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ. وَفِيهَا وَلِيَ مَكَّةَ الشَّرِيفُ عِيسَى بْنُ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، وَقِيلَ قاسم، بن أبى فُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ. وَفِيهَا أمر الخليفة بِإِزَالَةِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي تُضَيِّقُ الطُّرُقَاتِ، وَأَنْ لَا يجلس أحد من الباعة في عرض الطريق،(12/244)
لِئَلَّا يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْمَارَّةِ. وَفِيهَا وَقَعَ رُخْصٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ جِدًّا. وَفِيهَا فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي بَنَاهَا ابْنُ الشَّمْحَلِ فِي الْمَأْمُونِيَّةِ وَدَرَّسَ فِيهَا أَبُو حَكِيمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ النَّهْرَوَانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَقَدْ تُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدَرَّسَ بعده فيها أبو الفرج ابن الجوزي، وقد كان عنده معيدا، ونزل عَنْ تَدْرِيسٍ آخَرَ بِبَابِ الْأَزَجِّ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وممن توفى في فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
حَمْزَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ
أَبُو الْفُتُوحِ الْحَاجِبُ، كَانَ خِصِّيصًا عِنْدَ المسترشد والمقتفى، وَقَدْ بَنَى مَدْرَسَةً إِلَى جَانِبِ دَارِهِ، وَحَجَّ فرجع متزهدا ولزم بيته معظما نحوا من عشرين سنة، وقد امتدحه الشعراء فقال فيه بعضهم:
يَا عَضُدَ الْإِسْلَامِ يَا مَنْ سَمَتْ ... إِلَى الْعُلَا هِمَّتُهُ الْفَاخِرهْ
كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا فَلَمْ تَرْضَهَا ... مُلْكًا فَأَخْلَدْتَ إِلَى الْآَخِرَهْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبع وخمسين وخمسمائة
فِيهَا دَخَلَتِ الْكُرْجُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا خَلْقًا من الرجال وأسروا من الذراري، فاجتمع مُلُوكُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ: إِيلْدِكْزُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَابْنُ سكمان صاحب خلاط، وابن آقسنقر صَاحِبُ مَرَاغَةَ، وَسَارُوا إِلَى بِلَادِهِمْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ فَنَهَبُوهَا، وَأَسَرُوا ذَرَارِيَهِمْ، وَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَكَسَرُوهُمْ كسرة فَظِيعَةً مُنْكَرَةً، مَكَثُوا يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَفِي رَجَبٍ أُعِيدَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ إِلَى تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ عَزْلِ ابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ بِسَبَبِ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَأَنْكَرَ ثُمَّ اعْتَرَفَ، فَعُزِلَ عَنِ التَّدْرِيسِ. وَفِيهَا كَمَلَتِ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي بَنَاهَا الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، وَرَتَّبَ فِيهَا مُدَرِّسًا وَفَقِيهًا، وَحَجَّ بِالنَّاسِ أمير الكوفة برغش.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
شُجَاعٌ شَيْخُ الحنفية
ودفن عند المشهد، وكان شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ جَيِّدَ الكلام في النظر، أخذ عنه الحنفية.
صدقة بن وزير الواعظ
دَخَلَ بَغْدَادَ وَوَعَظَ بِهَا وَأَظْهَرَ تَقَشُّفًا، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى التَّشَيُّعِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ، وَمَعَ هَذَا كله راج عند العوام وبعض الأمراء، وحصل له فتوح كثير، ابْتَنَى مِنْهُ رِبَاطًا وَدُفِنَ فِيهِ سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
زُمُرُّدُ خَاتُونَ
بِنْتُ جَاوْلِي أُخْتُ الْمَلِكِ دقماق بْنِ تُتُشَ لِأُمِّهِ، وَهِيَ بَانِيَةُ الْخَاتُونِيَّةِ ظَاهِرَ دِمَشْقَ عِنْدَ قَرْيَةِ صَنْعَاءَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ تَلُّ الثَّعَالِبِ، غَرْبِيَّ دِمَشْقَ، عَلَى جَانِبِ الشَّرْقِ الْقِبْلِيِّ بِصَنْعَاءِ الشَّامِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدِيمًا، وَأَوْقَفَتْهَا عَلَى الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيِّ الْحَنَفِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ الْمَلِكِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَيْهِ شَمْسَ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ(12/245)
أَبِيهِ وَسَارَ سِيرَتَهُ، وَمَالَأَ الْفِرِنْجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَمَّ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ وَالْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ، وَتَمَلَّكَ أَخُوهُ وَذَلِكَ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهَا وَمُسَاعَدَتِهَا، وَقَدْ كَانَتْ قَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَسَمِعَتِ الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ حَنَفِيَّةَ الْمَذْهَبِ تُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْأَتَابِكِيُّ زَنْكِيٌّ صَاحِبُ حَلَبَ طَمَعًا فِي أَنْ يَأْخُذَ بِسَبَبِهَا دِمَشْقَ فَلَمْ يَظْفَرْ بِذَلِكَ، بَلْ ذَهَبَتْ إِلَيْهِ إِلَى حَلَبَ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ دَخَلَتْ بَغْدَادَ وَسَارَتْ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْحِجَازِ، وَجَاوَرَتْ بِمَكَّةَ سَنَةً، ثُمَّ جَاءَتْ فَأَقَامَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حَتَّى مَاتَتْ بِهَا وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَتْ كَثِيرَةَ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، قَالَ السِّبْطُ وَلَمْ تمت حتى قل ما بيدها، وكانت تُغَرْبِلُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَتَتَقَوَّتُ بِأُجْرَتِهِ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وخمسمائة
فِيهَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ على التومرتي، وخلفه في الملك من بعده ابنه يوسف وحمل أباه إلى مراكش على صِفَةِ أَنَّهُ مَرِيضٌ، فَلَمَّا وَصَلَهَا أَظْهَرَ مَوْتَهُ فعزاه الناس وبايعوه على الملك من بعد أبيه، وَلَقَّبُوهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ هَذَا حَازِمًا شُجَاعًا، جَوَادًا مُعَظِّمًا لِلشَّرِيعَةِ، وَكَانَ مَنْ لَا يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِهِ يقتل، وكان إذا أذن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد، وكان حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها، كثير الخشوع، وَلَكِنْ كَانَ سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، حَتَّى عَلَى الذَّنْبِ الصغير، فأمره إلى الله يحكم فيه بما يشاء. وفيها قتل سيف الدين محمد بن علاء الدين الغزى، قَتَلَهُ الْغُزُّ، وَكَانَ عَادِلًا. وَفِيهَا كَبَسَتِ الْفِرِنْجُ نُورَ الدِّينِ وَجَيْشَهُ فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَنَهَضَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَالشِّبْحَةُ فِي رِجْلِهِ فَنَزَلَ رَجُلٌ كردى فقطعها فسار نور الدين فنجا، وأدركت الفرنج ذلك الْكُرْدِيَّ فَقَتَلُوهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَحْسَنَ نُورُ الدِّينِ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ لَا يَنْسَى ذَلِكَ لَهُ. وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِجْلَاءِ بَنِي أَسَدٍ عَنِ الْحِلَّةِ وَقَتَلَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِإِفْسَادِهِمْ وَمُكَاتَبَتِهِمُ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ شَاهْ، وَتَحْرِيضِهِمْ لَهُ عَلَى حِصَارِ بَغْدَادَ، فَقَتَلَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَخَرَجَ الْبَاقُونَ مِنْهَا، وَتَسَلَّمَ نُوَّابُ الْخَلِيفَةِ الحلة. وحج بالناس فيها الأمير برغش الكبير.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ
الْقَيْسِيُّ الْكُوفِيُّ تِلْمِيذُ ابْنِ التُّومَرْتِ، كَانَ أَبُوهُ يَعْمَلُ فِي الطِّينِ فَاعِلًا، فَحِينَ وَقَعَ نَظَرُ ابْنِ التومرت عليه أحبه وتفرس فيه أنه شجاع سَعِيدٌ، فَاسْتَصْحَبَهُ فَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ الَّتِي جَمَعَهَا ابْنُ التُّومَرْتِ مِنَ الْمَصَامِدَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَحَارَبُوا صَاحِبَ مُرَّاكِشَ عَلِيَّ بْنَ يُوسُفَ بْنِ تاشفين، ملك الملثمين، واستحوذ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ عَلَى وَهْرَانَ وَتِلِمْسَانَ وَفَاسَ وَسَلَا وَسَبْتَةَ، ثُمَّ حَاصَرَ مُرَّاكِشَ أَحَدَ(12/246)
عشر شهرا فافتتحها في سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة، وتمهدت له الممالك هنالك، وصفا له الوقت وكان عاقلا وقورا شكلا حسنا محبا للخير، توفى في هذه السنة ومكث في الملك ثلاثا وثلاثين سنة، وكان يسمى نفسه أمير المؤمنين رحمه الله.
طلحة بن على
ابن طراد، أبو أحمد الزينبي، نقيب النقباء، مات فجأة وولى النقابة بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ وَكَانَ أَمْرَدَ فَعُزِلَ وَصُودِرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عبد الكريم
ابن إبراهيم، أبو عبد الله المعروف بابن الْأَنْبَارِيِّ كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، كَانَ شَيْخًا حَسَنًا ظَرِيفًا وَانْفَرَدَ بِصَنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ، وَبَعَثَ رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ وَغَيْرِهِ، وَخَدَمَ الْمُلُوكَ وَالْخُلَفَاءَ، وَقَارَبَ التسعين. ومن شعره في محبي الدنيا والصور:
يا من هجرت ولا تبالي ... هل ترجع دولة الوصال
هل أَطْمَعُ يَا عَذَابَ قَلْبِي ... أَنْ يَنْعَمَ فِي هواك بالي
مَا ضَرَّكِ أَنْ تُعَلِّلِينِي ... فِي الْوَصْلِ بِمَوْعِدٍ المحال
أَهْوَاكِ وَأَنْتِ حَظُّ غَيْرِي ... يَا قَاتِلَتِي فَمَا احتيالى
أيام عنائي قبل سُودٌ ... مَا أَشْبَهَهُنَّ بِاللَّيَالِي
الْعُذَّلُ فِيكِ يَعْذِلُونِي ... عن حبك مالهم ومالي
يَا مُلْزِمِي السُّلُوَّ عَنْهَا ... الصَّبُّ أَنَا وَأَنْتَ سَالِي
وَالْقَوْلُ بِتَرْكِهَا صَوَابٌ ... مَا أَحْسَنَهُ لَوِ اسْتَوَى لِي
طَلَّقْتُ تَجَلُّدِي ثَلَاثًا ... وَالصَّبْوَةُ بَعْدُ فِي خَيَالِي
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وخمسمائة
فِيهَا قَدِمَ شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ أَبُو شُجَاعٍ السَّعْدِيُّ الْمُلَقَّبُ بِأَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ وَزِيرُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ آلِ رُزِّيكَ، لما قتل الناصر رُزِّيكَ لَمَّا قُتِلَ النَّاصِرُ رُزِّيكُ بْنُ طَلَائِعَ، وَقَامَ فِي الْوِزَارَةِ بَعْدَهُ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ فِيهَا، ثار عَلَيْهِ أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ الضِّرْغَامُ بْنُ سَوَّارٍ، وَجَمَعَ لَهُ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ وَقَتَلَ ولديه طيبا وَسُلَيْمَانَ، وَأَسَرَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْكَامِلُ بْنُ شَاوَرَ، فَسَجَنَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ، لِيَدٍ كَانَتْ لِأَبِيهِ عِنْدَهُ، واستوزر ضرغام وَلُقَّبَ بِالْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ شَاوَرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ هاربا من العاضد ومن ضرغام، ملتجئا إلى نور الدين محمود، وهو نازل بجوسق الميدان الأخضر، فأحسن ضيافته وأنزله بالجوسق المذكور، وطلب شاور منه عسكرا ليكونوا معه ليفتح بهم الديار المصرية، وليكون لنور الدين(12/247)
ثُلُثُ مُغَلِّهَا، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا عَلَيْهِ أَسَدُ الدين شيركوه بن شادى، فَلَمَّا دَخَلُوا بِلَادَ مِصْرَ خَرَجَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ بِهَا فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَهَزَمَهُمْ أَسَدُ الدِّينِ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَقَتَلَ ضِرْغَامَ بْنَ سَوَّارٍ وَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْبِلَادِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ شَاوَرَ فِي الْوِزَارَةِ، وَتَمَهَّدَ حَالُهُ، ثُمَّ اصْطَلَحَ العاضد وشاور على أسد الدين، ورجع عَمًّا كَانَ عَاهَدَ عَلَيْهِ نُورَ الدِّينِ، وَأَمَرَ أَسَدَ الدِّينِ بِالرُّجُوعِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ، وَأَخَذَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَافْتَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرْقِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَاسْتَغَاثَ شَاوَرُ عَلَيْهِمْ بِمَلِكِ الْفِرِنْجِ الَّذِي بِعَسْقَلَانَ، وَاسْمُهُ مُرِّيٌّ، فَأَقْبَلَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ فَتَحَوَّلَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى بِلْبِيسَ وَقَدْ حَصَّنَهَا وَشَحَنَهَا بِالْعُدَدِ وَالْآلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحَصَرُوهُ فِيهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَامْتَنَعَ أَسَدُ الدِّينِ وَأَصْحَابُهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدين قدم اغتنم غيبة الفرنج فَسَارَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وفتح حارم وقتل من الفرنج بها خلقا، وسار إلى بانياس، فضعف صاحب عسقلان الفرنجى، وطلبوا من أسد الدين الصلح فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَبَضَ مِنْ شَاوَرَ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَرَجَ أَسَدُ الدِّينِ وَجَيْشُهُ فَسَارُوا إلى الشام في ذي الحجة.
وقعة حارم
فتحت فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نور الدين استغاث بعساكر المسلمين فجاءوه من كل فج ليأخذ ثأره من الفرنج، فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة، وأسر البرنس بيمند صاحب أنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، والدوك صاحب الروم، وابن جوسليق، وَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مدينة بانياس، وقيل إنه إنما فتحها فِي سَنَةِ سِتِّينَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ نَصْرُ الدِّينِ أَمِيرُ أَمِيرَانَ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ نور الدين: لو نظرت لما أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ لَأَحْبَبْتَ أَنْ تَذْهَبَ الْأُخْرَى. وَقَالَ لِابْنِ مُعِينِ الدين: إنه اليوم بَرَدَتْ جَلْدَةُ وَالِدِكَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّهُ كان سلمها للفرنج، فصالحه عن دمشق. وفي شهر ذي الحجة احْتَرَقَ قَصْرُ جَيْرُونَ حَرِيقًا عَظِيمًا، فَحَضَرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْأُمَرَاءُ مِنْهُمْ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، بعد رجوعه من مصر، وَسَعَى سَعْيًا عَظِيمًا فِي إِطْفَاءِ هَذِهِ النَّارِ وصون حوزة الجامع منها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
جَمَالُ الدِّينِ
وزير صاحب الموصل، قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ، كَانَ كَثِيرَ المعروف، واسمه محمد بن على ابن أبى منصور، أبو جعفر الأصبهاني، الملقب بالجمال، كان كثير الصدقة والبر، وَقَدْ أَثَّرَ آثَارًا حَسَنَةً بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَاقَ عَيْنًا إِلَى عَرَفَاتٍ، وَعَمِلَ هناك مصانع، وبنى مسجد الخيف ودرجه، وَعَمِلَهَا بِالرُّخَامِ، وَبَنَى عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ سُورًا، وَبَنَى جِسْرًا عَلَى دِجْلَةَ عِنْدَ جَزِيرَةِ ابْنِ(12/248)
عُمَرَ بِالْحَجَرِ الْمَنْحُوتِ، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَبَنَى الرُّبُطَ الكثيرة، وكان يتصدق في كل يوم في بَابِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَفْتَدِي مِنَ الْأُسَارَى فِي كل سنة بعشرة آلاف دينار، وكان لا تَزَالُ صَدَقَاتُهُ وَافِدَةً إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، حَيْثُ كَانُوا مِنْ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ حُبِسَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، فَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي تَارِيخِهِ عَنْ شَخْصٍ كَانَ مَعَهُ فِي السِّجْنِ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَيْهِ طَائِرٌ أَبْيَضُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ وَهُوَ يَذْكُرُ الله حَتَّى تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ طَارَ عَنْهُ وَدُفِنَ فِي رِبَاطٍ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ بِالْمَوْصِلِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدِ الدين شيركوه بن شادى مواخاة وَعَهْدٌ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلى المدينة النبويّة، فحمل إليها من الموصل على أعناق الرجال، فَمَا مَرُّوا بِهِ عَلَى بَلْدَةٍ إِلَّا صَلَّوْا عَلَيْهِ وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ، وَأَثْنَوْا خَيْرًا، فَصَلَّوا عَلَيْهِ بالموصل وتكريت وبغداد والحلة والكوفة وقيدو مكة وطيف به حول الكعبة، ثم حمل إلى المدينة النبويّة فدفن بها في رباط بناه شرقى مسجد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ السَّاعِي: لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَرِهِ سِوَى خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا.
قَالَ ابْنُ الساعي: ولما صلى عليه بالحلة صعد شاب نشزا فأنشد:
سرى نعشه على الرِّقَابِ وَطَالَمَا ... سَرَى جُودُهُ فَوْقَ الرِّكَابِ وَنَائِلُهْ
يَمُرُّ عَلَى الْوَادِي فَتُثْنِي رِمَالُهُ ... عَلَيْهِ وَبِالنَّادِي فتثنى أرامله
وممن توفى بَعْدَ الْخَمْسِينَ
ابْنُ الْخَازِنِ الْكَاتِبُ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ أَبُو الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَازِنِ الْكَاتِبُ الْبَغْدَادِيُّ الشَّاعِرُ. كَانَ يَكْتُبُ جَيِّدًا فَائِقًا، اعْتَنَى بِكِتَابَةِ الْخَتَمَاتِ، وأكثر ابنه نصر الله من كتابة المقامات، وجمع لابنه دِيوَانَ شِعْرٍ أَوْرَدَ مِنْهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قِطْعَةً كبيرة.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَتْ بِأَصْبَهَانَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِسَبَبِ الْمَذَاهِبِ دَامَتْ أَيَّامًا، وَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا كَانَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ فَاحْتَرَقَتْ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَدَتِ امْرَأَةٌ بِبَغْدَادَ أَرْبَعَ بَنَاتٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَحَجَّ بالناس فيها الأمير برغش الكبير
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عُمَرُ بْنُ بَهْلَيْقَا
الطَّحَّانُ الَّذِي جَدَّدَ جَامِعَ الْعُقَيْبَةِ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ قَدِ اشْتَرَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْقُبُورِ فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَنَبَشَ الْمَوْتَى مِنْهَا، فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ نَبَشَهُ مَنْ قبره بعد دفنه، جزاء وفاقا.
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ، كَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الشُّهُودِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ، وَقَدْ(12/249)
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا، جَمَعَ كِتَابًا سماه روضة الأدباء، فيها نُتَفٌ حَسَنَةٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ زُرْتُهُ يَوْمًا فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ عِنْدَهُ فَقُلْتُ: أَقْوَمُ فَقَدْ ثَقَّلْتُ، فأنشدنى:
لئن سئمت إِبْرَامًا وَثُقْلًا ... زِيَارَاتٍ رَفَعْتَ بِهِنَّ قَدْرِي
فَمَا أَبْرَمْتَ إِلَّا حَبْلَ وُدِّي ... وَلَا ثَقَّلْتَ إِلَّا ظَهْرَ شُكْرِي
مَرْجَانُ الْخَادِمُ
كَانَ يَقْرَأُ الْقِرَاءَاتِ، وَتَفَقَّهَ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ يَتَعَصَّبُ عَلَى الْحَنَابِلَةِ وَيَكْرَهُهُمْ، وَيُعَادِي الْوَزِيرَ ابْنَ هُبَيْرَةَ وَابْنَ الْجَوْزِيِّ مُعَادَاةً شَدِيدَةً، وَيَقُولُ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ: مَقْصُودِي قَلْعُ مذهبكم، وقطع ذكركم. ولما توفى ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَوِيَ عَلَى بن الْجَوْزِيِّ وَخَافَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَرِحَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَرَحًا شَدِيدًا، توفى [فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
ابْنُ التِّلْمِيذِ
الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ، اسْمُهُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ صَاعِدٍ توفى] عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُ عِنْدَ النَّاسِ وَجَاهَةٌ كَبِيرَةٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ قَبَّحَهُ اللَّهُ عَلَى دِينِهِ، وَدُفِنَ بِالْبَيْعَةِ الْعَتِيقَةِ، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَ مَاتَ نَصْرَانِيًّا، فَإِنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى دِينِهِ.
الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ، أَبُو الْمُظَفَّرِ الوزير للخلافة عون الدين، مصنف كتاب الإفصاح، وقد قرأ القرآن وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا جَيِّدَةً مُفِيدَةً، مِنْ ذَلِكَ الْإِفْصَاحُ في مجلدات، شرح فيه الحديث وتكلم على مذاهب الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَقَدْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ تَعَرَّضَ لِلْخِدْمَةِ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِلْمُقْتَفِي ثُمَّ لِابْنِهِ الْمُسْتَنْجِدِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، وَأَبْعَدِهِمْ عَنِ الظُّلْمِ، وَكَانَ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَكَانَ الْمُقْتَفِي يَقُولُ مَا وَزَرَ لِبَنِي العباس مثله، وكذلك ابنه المستنجد، وكان المستنجد مُعْجَبًا بِهِ، قَالَ مَرْجَانُ الْخَادِمُ سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْجِدَ يُنْشِدُ لِابْنِ هُبَيْرَةَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ شِعْرِهِ.
صَفَتْ نِعْمَتَانِ خَصَّتَاكَ وَعَمَّتَا ... فَذِكْرُهُمَا حَتَّى الْقِيَامَةِ يُذْكَرُ
وُجُودُكَ وَالدُّنْيَا إِلَيْكَ فَقِيْرَةٌ ... وَجُودُكَ وُالْمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ يُنْكَرُ
فَلَوْ رَامَ يَا يَحْيَى مَكَانَكَ جَعْفَرٌ ... وَيَحْيَى لَكَفَّا عَنْهُ يَحْيَى وَجَعْفَرُ
وَلَمْ أَرَ مَنْ يَنْوِي لك السوء يا أبا ... المظفر إِلَّا كُنْتَ أَنْتَ الْمُظَفَّرُ
وَقَدْ كَانَ يُبَالِغُ فِي إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَحَسْمِ مَادَّةِ الْمُلُوكِ السَّلْجُوقِيَّةِ عَنْهُمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ،(12/250)
حَتَّى اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ فِي الْعِرَاقِ كُلِّهِ، لَيْسَ للملوك معهم حكم بالكلية وللَّه الحمد. وَكَانَ يَعْقِدُ فِي دَارِهِ لِلْعُلَمَاءِ مَجْلِسًا لِلْمُنَاظَرَةِ يبحثون فيه ويناظرون عنده، يستفيد مِنْهُمْ وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ، فَاتَّفَقَ يَوْمًا أَنَّهُ كَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةً فِيهَا بَشَاعَةٌ قَالَ لَهُ: يَا حِمَارُ، ثُمَّ نَدِمَ فَقَالَ: أُرِيدُ أن تقول لي كما قلت لك، فامتنع ذلك الرجل، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ. مَاتَ فَجْأَةً، وَيُقَالُ إِنَّهُ سَمَّهُ طَبِيبٌ فَسُمَّ ذَلِكَ الطَّبِيبُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ الطَّبِيبُ يَقُولُ سَمَمْتُهُ فَسُمِمْتُ. مَاتَ يَوْمَ الْأَحَدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً، وَغَسَّلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كثير وجم غفير جِدًّا، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَتَبَاكَى النَّاسُ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِبَابِ الْبَصْرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقد رثاه الشعراء بمراثي كثيرة.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة
فيها فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة [من الشام] وقتل عنده خلق كثير مِنَ الْفِرِنْجِ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً. وَفِيهَا هَرَبَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِنَ السِّجْنِ، وَمَعَهُ مَمْلُوكٌ تُرْكِيٌّ، فَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ مَنْ رَدَّهُ فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَمَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ هُدِمَتْ دَارُهُ وَصُلِبَ عَلَى بَابِهَا، وَذُبِحَتْ أَوْلَادُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَيْهِ فَأُخِذَ مِنْ بُسْتَانٍ فَضُرِبَ ضَرْبًا شديدا وَأُعِيدَ إِلَى السِّجْنِ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ. وَفِيهَا أَظْهَرَ الرَّوَافِضُ سَبَّ الصَّحَابَةِ وَتَظَاهَرُوا بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ، وَلَمْ يَكُونُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ، خَوْفًا مِنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَوَقَعَ بَيْنَ الْعَوَامِّ كَلَامٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ برغش.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ
ابْنِ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ رُسْتُمَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، كَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ البكاءين، قال:
حضرت يوما مجلس ما شاده وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فَرَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَهُوَ يَقُولُ لِي:
وَقَفْتَ على مبتدع وسمعت كلامه؟ لأحرمنك منك النَّظَرَ فِي الدُّنْيَا، فَأَصْبَحَ لَا يُبْصِرُ وَعَيْنَاهُ مفتوحتان كأنه بصير
عبد العزيز بن الحسن
ابن الحباب الْأَغْلَبِيُّ السَّعْدِيُّ الْقَاضِي، أَبُو الْمَعَالِي الْبَصْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَلِيسِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ صَاحِبَ مِصْرَ، وقد ذكره العماد في الجريدة، وَقَالَ: كَانَ لَهُ فَضْلٌ مَشْهُورٌ وَشِعْرٌ مَأْثُورٌ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ السُّيُوفَ لديهم ... تحيض دما وَالسُّيُوفُ ذُكُورُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّهَا فِي أَكُفِّهِمْ ... تَأَجَّجُ نَارًا وَالْأَكُفُّ بُحُورُ(12/251)
الشيخ عبد القادر الجليلى
ابن أَبِي صَالِحٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِيلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْمُخَرِّمِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، وَقَدْ كَانَ بَنَى مَدْرَسَةً فَفَوَّضَهَا إِلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ بِهَا، وَيَعِظُهُمْ، وَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ انْتِفَاعًا كَثِيرًا، وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكان فيه تزهد كَثِيرٌ وَلَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَلِأَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ فِيهِ مَقَالَاتٌ، وَيَذْكُرُونَ عَنْهُ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا وَمُكَاشَفَاتٍ أَكْثَرُهَا مُغَالَاةٌ، وَقَدْ كَانَ صَالِحًا وَرِعًا، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَ الْغَنِيَّةِ وَفُتُوحِ الْغَيْبِ، وَفِيهِمَا أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ، وَذَكَرَ فِيهِمَا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً، وَبِالْجُمْلَةِ كان من سادات المشايخ، [توفى] وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَقْبَلَتِ الْفِرِنْجُ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَسَاعَدَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ فَتَصَرَّفُوا فِي بَعْضِ البلاد، فبلغ ذلك أسد الدين شير كوه فَاسْتَأْذَنَ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ فِي الْعَوْدِ إِلَيْهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَنَقِ عَلَى الْوَزِيرِ شَاوَرَ، فَأَذِنَ لَهُ فَسَارَ إِلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ وَقَدْ وَقَعَ فِي النُّفُوسِ أَنَّهُ سَيَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَرْقَلَةُ الْمُسَمَّى بِحَسَّانَ الشاعر:
وَالْأَتْرَاكُ قَدْ أَزْمَعَتْ ... مِصْرَ إِلَى حَرْبِ الْأَعَارِيبِ
رب كما ملكها يوسف ... الصديق من أولاد يعقوب
فملكها في عصرنا يوسف ... الصادق مِنْ أَوْلَادِ أَيُّوبِ
مَنْ لَمْ يَزَلْ ضَرَّابَ هَامِ الْعِدَا ... حَقًّا وَضَرَّابَ الْعَرَاقِيبِ
وَلَمَّا بَلَغَ الْوَزِيرَ شَاوَرَ قَدُومُ أَسَدِ الدِّينِ وَالْجَيْشُ مَعَهُ بَعَثَ إِلَى الْفِرِنْجِ فَجَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ إِلَيْهِ، وَبَلَغَ أَسَدَ الدِّينِ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وإنما معه ألف فَارِسٍ، فَاسْتَشَارَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى نُورِ الدِّينِ، لِكَثْرَةِ الْفِرِنْجِ، إِلَّا أَمِيرًا وَاحِدًا يُقَالُ لَهُ شَرَفُ الدين برغش، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ خَافَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ فَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَمَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ الناس فَلَا يُسَلِّمْ بِلَادَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، فَعَزَمَ اللَّهُ لَهُمْ فَسَارُوا نَحْوَ الْفِرِنْجِ فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلُوا مِنَ الفرنج مقتلة عظيمة، وهزموهم، ثم قتلوا مِنْهُمْ خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وللَّه الحمد.
فتح الاسكندرية على يدي أسد الدين شير كوه
ثم أشار أسد الدين بالمسير [إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ] فَمَلَكَهَا وَجَبَى أَمْوَالَهَا، وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا ابْنَ أَخِيهِ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ وَعَادَ إِلَى الصَّعِيدِ فَمَلَكَهُ، وَجَمَعَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ(12/252)
وَالْمِصْرِيِّينَ اجْتَمَعُوا عَلَى حِصَارِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْتَزِعُوهَا مِنْ يَدِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ فِي غيبة عمه في الصعيد، وامتنع فيها صلاح الدين أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَلَكِنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ وَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ جِدًّا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ أَسَدُ الدِّينِ فَصَالَحَهُ شَاوَرُ الْوَزِيرُ عَنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ، وَعَادَ إِلَى الشَّامِ في منتصف شوال، وَقَرَّرَ شَاوَرُ للْفِرِنْجِ عَلَى مِصْرَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ شحنة بالقاهرة، وعادوا إِلَى بِلَادِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدين أعقبهم في بلادهم، وفتح من بلادهم حصونا كثيرة، وقتل منهم خلقا من الرجال، وأسر جما غفيرا من النساء والأطفال، وغنم شيئا كثيرا من الأمتعة والأموال وللَّه الْحَمْدُ. وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مودود فأطلق له الرقة فسار فتسلمها. وفيها فِي شَعْبَانَ مِنْهَا كَانَ قُدُومُ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى دِمَشْقَ، وَهُوَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، صَاحِبُ الْفَتْحِ الْقُدْسِيِّ، والبرق الشامي، والجريدة، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، فَأَنْزَلَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالُ الدَّيْنِ الشَّهْرُزُورِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ النُّورِيَّةِ الشَّافِعِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ لِسُكْنَاهُ بِهَا، فَيُقَالُ لَهَا الْعِمَادِيَّةُ، ثُمَّ وَلِيَ تَدْرِيسَهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ بَعْدَ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ ابْنِ عَبْدٍ [1] وَأَوَّلُ مَنْ جَاءَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ نَجْمُ الدِّينِ أيوب كانت له وبه مَعْرِفَةٌ مِنْ تَكْرِيتَ، فَامْتَدَحَهُ الْعِمَادُ بِقَصِيدَةٍ ذَكَرَهَا أبو شامة، وكان أسد الدين وصلاح الدين بِمِصْرَ فَبَشَّرَهُ فِيهَا بِوِلَايَةِ صَلَاحِ الدِّينِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ حَيْثُ يَقُولُ:
وَيَسْتَقِرُّ بِمِصْرَ يُوسُفٌ وَبِهِ ... تَقَرُّ بَعْدَ التَّنَائِي عَيْنُ يَعْقُوبِ
وَيَلْتَقِي يُوسُفٌ بها بِإِخْوَتِهِ ... وَاللَّهُ يَجْمَعُهُمْ مِنْ غَيرْ تَثْرِيبِ
ثُمَّ تولى عماد الدين كتابة الإنشاء للملك نور الدين محمود.
وممن توفى فيها من الأعيان.
برغش أَمِيرُ الْحَاجِّ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةً
كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ، خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِقِتَالِ شُمْلَةَ التُّرْكُمَانِيِّ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَمَاتَ.
أَبُو الْمَعَالِي الْكَاتِبُ
محمد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حمدون، صاحب التذكرة الحمد ونية، وَقَدْ وَلِيَ دِيوَانَ الزِّمَامِ مُدَّةً، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ.
الرَّشِيدُ الصَّدَفِيُّ
كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيِ الْعَبَّادِيِّ عَلَى الْكُرْسِيِّ، كَانَتْ لَهُ شَيْبَةٌ وَسَمْتٌ وَوَقَارٌ، وَكَانَ يُدْمِنُ حضور السماعات، ويرقص، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ يَرْقُصُ فِي بَعْضِ السماعات.
__________
[1] بياض بنسخة الاستانة ولم يكن بالمصرية بياض.(12/253)
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَصَلَ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَلَدِيِّ مِنْ وَاسِطٍ إِلَى بَغْدَادَ، فَخَرَجَ الْجَيْشُ لِتَلَقِّيهِ وَالنَّقِيبَانِ وَالْقَاضِي، وَمَشَى النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى الدِّيوَانِ فَجَلَسَ فِي دَسْتِ الْوِزَارةِ، وَقُرِئَ عُهْدُهُ وَلُقِّبَ بِالْوَزِيرِ شَرَفِ الدِّينِ جلال الإسلام معز الدولة سيد الوزارء صَدْرِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ. وَفِيهَا أَفْسَدَتْ خَفَاجَةُ فِي الْبِلَادِ وَنَهَبُوا الْقُرَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ بَغْدَادَ فَهَرَبُوا فِي الْبَرَارِي فَانْحَسَرَ الْجَيْشُ عَنْهُمْ خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ، فَكَرُّوا عَلَى الْجَيْشِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ، وَكَانَ قَدْ أَسَرَ الْجَيْشُ مِنْهُمْ خَلْقًا فَصُلِبُوا عَلَى الْأَسْوَارِ. وَفِي شوال منها وصلت امرأة الملك نور الدين محمود ابن زَنْكِيٍّ إِلَى بَغْدَادَ تُرِيدُ الْحَجَّ مِنْ هُنَاكَ، وَهِيَ السِّتُّ عِصْمَتُ الدِّينِ خَاتُونُ بِنْتُ مُعِينِ الدين، ومعها الخدم والخدام، وفيهم صندل الخادم، وحملت لها الامامات وَأُكْرِمَتْ غَايَةَ الْإِكْرَامِ. وَفِيهَا مَاتَ قَاضِي قُضَاةِ بغداد جعفر، فشغر البلد عن حاكم ثلاثا وعشرين يوما، حتى ألزموا روح بن الحدثنى قاضى القضاة في رابع رجب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَعْفَرُ بْنُ عبد الواحد
أبو البركات الثقفي، قاضى قضاة بغداد بعد أبيه، ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وَسَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ مَالٌ وَكَلَّمَهُ الْوَزِيرُ ابْنُ الْبَلَدِيِّ كَلَامًا خَشِنًا فَخَافَ فَرَمَى الدم ومات.
أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ، رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا وَذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِهَا لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَقَدْ نَاقَشَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَصَّبُ عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِهِ، وَيَطْعَنُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ يُتَرْجِمُ بِعِبَارَةٍ عَامِّيَّةٍ، مِثْلَ قَوْلِهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيخَاتِ إِنَّهَا كَانَتْ عَفِيفَةً. وَعَنِ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ بِحَيْصَ بَيْصَ إِنَّهُ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ يُقَالُ لَهَا دَخَلَ خَرَجَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ محمد
ابن عبد الله أَبُو النَّجِيبِ السُّهْرَوَرْدِيُّ، كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ مِنْ سلالة أبى بكر الصديق رضى الله عنه سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَابْتَنَى لِنَفْسِهِ مَدْرَسَةً وَرِبَاطًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَصَوِّفًا يَعِظُ النَّاسَ، وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الحميد
ابن أَبِي الْحُسَيْنِ أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْعَلَاءِ الْعَالِمِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ مِنَ الْفُحُولِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ، يُقَالُ لَهَا التَّعْلِيقَةُ الْعَالَمِيَّةُ. قَالَ ابْنُ الجوزي وقد قدم بَغْدَادَ وَحَضَرَ مَجْلِسِي، وَقَالَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ: كان يد من شرب الخمر. قال وَكَانَ يَقُولُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ كتاب المناظرة وباطية من خمر أَشْرَبُ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ بَلَغَنِي عنه(12/254)
أَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَأَقْبَلَ على النسك والخير.
يوسف بن عبد الله
ابن بُنْدَارٍ الدِّمَشْقِيُّ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، تَفَقَّهَ عَلَى أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ، وَبَرَعَ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَكَانَ يَتَعَصَّبُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى شُمْلَةَ التُّرْكُمَانِيِّ فَمَاتَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة
فِيهَا كَانَ فَتْحُ مِصْرَ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَفِيهَا طَغَتِ الْفِرِنْجُ بِالدِّيَارِ المصرية، وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجا أفواجا، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَنْ يَسْتَحْوِذُوا عَلَيْهَا ويخرجوا منها أهلها من المسلمين، وقد سكنها أكثر شجعانهم، فلما سمع الفرنج بذلك جاءوا إليها من كل فج وناحية صحبة مَلِكِ عَسْقَلَانَ فِي جَحَافِلَ هَائِلَةٍ، فَأَوَّلُ مَا أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقا وأسروا آخرين، ونزلوا بها وتزكوا بها أثقالهم، وجعلوها موئلا ومعقلا لهم، ثم ساروا فَنَزَلُوا عَلَى الْقَاهِرَةِ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ الْبَرْقِيَّةِ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ النَّاسَ أَنْ يَحْرِقُوا مِصْرَ، وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة، فنهبوا الْبَلَدُ وَذَهَبَ لِلنَّاسِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبَقِيَتِ النَّارُ تَعْمَلُ فِي مِصْرَ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ صَاحِبُهَا الْعَاضِدُ يَسْتَغِيثُ بِنُورِ الدِّينِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِشُعُورِ نِسَائِهِ يَقُولُ أَدْرِكْنِي وَاسْتَنْقِذْ نِسَائِيَ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَالْتَزَمَ لَهُ بِثُلُثِ خَرَاجِ مِصْرَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَسَدُ الدين مقيما بها عندهم، والتزم له بأقطاعات زَائِدَةٌ عَلَى الثُّلُثِ، فَشَرَعَ نُورُ الدِّينِ فِي تجهيز الجيوش إلى مصر، فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ بِوُصُولِ الْمُسْلِمِينَ أَرْسَلَ إلى ملك الفرنج يقول قد عرفت محبتي ومودتي لكم، وَلَكِنَّ الْعَاضِدَ وَالْمُسْلِمِينَ لَا يُوَافِقُونِي عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ، وَصَالَحَهُمْ لِيَرْجِعُوا عَنِ الْبَلَدِ بِأَلْفِ أَلْفِ دينار، وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف دينار، فانشمروا راجعين إلى بلادهم خوفا من عساكر نُورِ الدِّينِ، وَطَمَعًا فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ 3: 54. ثُمَّ شَرَعَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ فِي مُطَالَبَةِ النَّاسِ بالذهب الّذي صالح به الفرنج وتحصيله، وَضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ مَعَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الضيق والحريق والخوف، فجبر الله مصابهم بقدوم عساكر المسلمين عليهم وهلاك الوزير على يديهم، وذلك أن نور الدين استدعى الأمير أسد الدين من حمص إلى حلب فساق إليه هذه المسافة وقطعها في يوم واحد، فإنه قام من حمص بعد أن صلى الصبح ثم دخل منزله فأصاب فيه شيئا من الزاد، ثم ركب وقت طلوع الشمس فدخل حلب على السلطان نور الدين من آخر ذلك اليوم، ويقال إن هذا لم يتفق لغيره إلا للصحابة، فسر بذلك نور الدين فقدمه على العساكر وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَضَافَ إِلَيْهِ من الأمراء الأعيان، كل منهم يبتغى بمسيره رضى الله والجهاد في سبيله، وكان من جملة الأمراء ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، وَلَمْ يَكُنْ مُنْشَرِحًا لِخُرُوجِهِ هَذَا بَلْ كَانَ كارها(12/255)
له، وقد قال الله تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) 3: 26 الآية، وأضاف إليه ستة آلاف من التركمان، وجعل أسد الدين مقدما على هذه العساكر كلها، فسار بهم من حلب إلى دمشق ونور الدين معهم، فجهزه من دمشق إلى الديار المصرية، وأقام نور الدين بدمشق، وَلَمَّا وَصَلَتِ الْجُيُوشُ النُّورِيَّةُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَجَدُوا الْفِرِنْجَ قَدِ انْشَمَرُوا عَنِ الْقَاهِرَةِ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَدَخَلَ الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ عَلَى الْعَاضِدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً فَلَبِسَهَا وَعَادَ إِلَى مُخَيَّمِهِ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِقُدُومِهِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الجرايات، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِمُ التُّحَفُ وَالْكَرَامَاتُ، وَخَرَجَ وُجُوهُ النَّاسِ إلى المخيم خدمة لأسد الدين، وَكَانَ فِيمَنْ جَاءَ إِلَيْهِ الْمُخَيَّمَ الْخَلِيفَةُ الْعَاضِدُ مُتَنَكِّرًا، فَأَسَرَّ إِلَيْهِ أُمُورًا مُهِمَّةً مِنْهَا قَتْلُ الوزير شاور، وقرر ذلك معه وأعظم أمر الأمير أَسَدِ الدِّينِ، وَلَكِنْ شَرَعَ يُمَاطِلُ بِمَا كَانَ التزمه للملك نور الدين، وهو مع ذلك يتردد إلى أَسَدِ الدِّينِ، وَيَرْكَبُ مَعَهُ، وَعَزَمَ عَلَى عَمَلِ ضِيَافَةٍ لَهُ فَنَهَاهُ أَصْحَابُهُ عَنِ الْحُضُورِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ غَائِلَتِهِ، وَشَاوَرُوهُ فِي قَتْلِ شَاوَرَ فَلَمْ يُمَكِّنْهُمُ الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ جَاءَ شَاوَرُ إلى منزل أَسَدِ الدِّينِ فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الشافعيّ، وإذا ابن أخيه يوسف هنالك فأمر صلاح الدين يوسف بالقبض على الوزير شاور، وَلَمْ يُمْكِنْهُ قَتْلُهُ إِلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ عَمِّهِ أسد الدين وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فَأَعْلَمُوا الْعَاضِدَ لَعَلَّهُ يَبْعَثُ يُنْقِذُهُ، فأرسل العاضد إِلَى الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ رَأْسَهُ، فَقُتِلَ شَاوَرُ وَأَرْسَلُوا بِرَأْسِهِ إِلَى الْعَاضِدِ فِي سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَأَمَرَ أَسَدُ الدِّينِ بِنَهْبِ دَارِ شَاوَرَ، فَنُهِبَتْ، وَدَخَلَ أَسَدُ الدِّينِ عَلَى الْعَاضِدِ فَاسْتَوْزَرَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً عَظِيمَةً، وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ، فَسَكَنَ دَارَ شَاوَرَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ هُنَالِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ نُورَ الدِّينِ خَبَرُ فَتْحِ مِصْرَ فَرِحَ بِذَلِكَ وَقَصَدَتْهُ الشُّعَرَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَرِحْ لكون أسد الدين صار وزيرا للعاضد، وَكَذَلِكَ لَمَّا انْتَهَتِ الْوِزَارَةُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ صلاح الدين، فشرع نور الدين فِي إِعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ، وَلَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ اسْتَحْوَذَ عَلَى خَزَائِنِ العاضد كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَرْسَلَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى الْقَصْرِ يَطْلُبُ كَاتِبًا فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ رَجَاءَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ إِذَا قَالَ وَأَفَاضَ فِيمَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ، وَبَعَثَ أَسَدُ الدِّينِ الْعُمَّالَ فِي الْأَعْمَالِ وَأَقْطَعَ الْإِقْطَاعَاتِ، وَوَلَّى الْوِلَايَاتِ، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، فَأَدْرَكَهُ حِمَامُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَسَدُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ الْأُمَرَاءُ الشَّامِيُّونَ عَلَى الْعَاضِدِ بِتَوْلِيَةِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ الوزارة بعد عمه، فولاه العاضد الْوِزَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الناصر.(12/256)
صِفَةُ الْخِلْعَةِ الَّتِي لَبِسَهَا صَلَاحُ الدِّينِ يَوْمَئِذٍ
مما ذكره أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ عِمَامَةٌ بَيْضَاءُ تِنِّيسِيٌّ بطرف ذهب، وثوب ديبقي بِطِرَازِ ذَهَبٍ وَجُبَّةٌ بِطِرَازِ ذَهَبٍ، وَطَيْلَسَانُ بِطِرَازٍ مُذَهَّبَةٍ، وَعَقْدُ جَوْهَرٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَسَيْفٌ محلى بخمسة آلاف دينار، وحجزة بثمانية آلاف دينار، وعليها طوق ذهب وسر فسار ذَهَبٍ مُجَوْهَرٌ، وَفِي رَأْسِهَا مِائَتَا حَبَّةِ جَوْهَرٍ، وَفِي قَوَائِمِهَا أَرْبَعَةُ عُقُودِ جَوْهَرٍ، وَفِي رَأْسِهَا قصبة ذهب فيها تندة بَيْضَاءُ بِأَعْلَامٍ بِيضٍ وَمَعَ الْخِلْعَةِ عِدَّةُ بُقَجٍ، وَخَيْلٌ وَأَشْيَاءُ أُخَرُ، وَمَنْشُورُ الْوِزَارَةِ مَلْفُوفٌ بِثَوْبٍ أَطْلَسَ أَبْيَضَ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَسَارَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ فِي خِدْمَتِهِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ سِوَى عَيْنِ الدَّوْلَةِ الياروقى، وقال: لَا أَخْدِمُ يُوسُفَ بَعْدَ نُورِ الدِّينِ، ثُمَّ سَارَ بِجَيْشِهِ إِلَى الشَّامِ فَلَامَهُ نُورُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِمِصْرَ بِصِفَةِ نَائِبٍ لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، يَخْطُبُ لَهُ على المنابر بالديار المصرية، ويكاتبه بالأمير الاسفهلار صَلَاحِ الدِّينِ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْكُتُبِ وَالْعَلَامَةِ، لَكِنْ قَدِ الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَخَضَعَتْ لَهُ النُّفُوسُ، وَاضْطُهِدَ الْعَاضِدُ فِي أَيَّامِهِ غَايَةَ الِاضْطِهَادِ، وَارْتَفَعَ قَدْرُ صَلَاحِ الدِّينِ بَيْنَ الْعِبَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَزَادَ فِي إِقْطَاعَاتِ الَّذِينَ مَعَهُ فَأَحَبُّوهُ وَاحْتَرَمُوهُ وَخَدَمُوهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ يُعَنِّفُهُ عَلَى قَبُولِ الْوِزَارَةِ بِدُونِ مَرْسُومِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَيِّمَ حِسَابَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ وَجَعَلَ نُورُ الدين يقول في غضون ذلك: ملك ابن أيوب. وأرسل [صلاح الدين] إلى نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَهْلَهُ وَإِخْوَتَهُ وَقَرَابَتَهُ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لَهُ، فاستقر أمره بمصر وتوطأت دَوْلَتَهُ بِذَلِكَ، وَكَمَلَ أَمْرُهُ وَتَمَكَّنَ سُلْطَانُهُ وَقَوِيَتْ أَرْكَانُهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي قَتْلِ صلاح الدين لشاور الوزير
هيا لمصر حور يُوسُفَ مُلْكَهَا ... بِأَمْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ كَانَ مَوْقُوتَا
وَمَا كَانَ فِيهَا قَتْلُ يُوسُفَ شَاوَرًا ... يُمَاثِلُ إِلَّا قَتْلَ دَاوُدَ جَالُوتَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَتَلَ الْعَاضِدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْلَادَ شَاوَرَ وَهُمْ شُجَاعٌ الْمُلَقَّبُ بِالْكَامِلِ وَالطَّارِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْمُعَظَّمِ، وَأَخُوهُمَا الْآخَرُ الْمُلَقَّبُ بِفَارِسِ الْمُسْلِمِينَ، وَطِيفَ بِرُءُوسِهِمْ بِبِلَادِ مِصْرَ.
ذِكْرُ قَتْلِ الطَّوَاشِيِّ
مُؤْتَمَنِ الْخِلَافَةِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى يَدَيْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِمِصْرَ إِلَى الْفِرِنْجِ لِيَقْدَمُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيُخْرِجُوا مِنْهَا الْجُيُوشَ الإسلامية الشامية، وكان الّذي يفد بالكتاب إليهم الطواشى مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ، مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ بِالْقَصْرِ، وَكَانَ حَبَشِيًّا، وأرسل الكتاب مَعَ إِنْسَانٍ أَمِنَ إِلَيْهِ، فَصَادَفَهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مَنْ أَنْكَرَ حَالَهُ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ فَقَرَّرَهُ، فَأَخْرَجَ الْكِتَابَ فَفَهِمَ صَلَاحُ الدين الحال فكتمه، واستشعر الطواشى مؤتمن الدولة أن صَلَاحَ الدِّينِ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى الْأَمْرِ(12/257)
فَلَازَمَ الْقَصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ خرج إلى الصيد، فأرسل صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ مَنْ قَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتْلَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَزَلَ جَمِيعَ الْخُدَّامِ الَّذِينَ يَلُونَ خِدْمَةَ الْقَصْرِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْقَصْرِ عِوَضَهُمْ بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُطَالِعَهُ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ، صِغَارِهَا وَكِبَارِهَا
وَقْعَةُ السُّودَانِ
وَذَلِكَ أنه لما قتل الطواشى مؤتمن الخلافة الْحَبَشِيُّ، وَعُزِلَ بَقِيَّةُ الْخُدَّامِ غَضِبُوا لِذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَجَيْشُ صَلَاحِ الدِّينِ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ الْعَاضِدُ يَنْظُرُ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى الْمَعْرَكَةِ، وَقَدْ قُذِفَ الْجَيْشُ الشَّامِيُّ مِنَ الْقَصْرِ بِحِجَارَةٍ، وَجَاءَهُمْ مِنْهُ سِهَامٌ فَقِيلَ كَانَ ذلك بأمر العاضد، وَقِيلَ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّ أَخَا الناصر نور شاه شمس الدولة- وَكَانَ حَاضِرًا لِلْحَرْبِ قَدْ بَعَثَهُ نُورُ الدِّينِ لِأَخِيهِ لِيَشُدَّ أَزْرَهُ- أَمَرَ بِإِحْرَاقِ مَنْظَرَةِ الْعَاضِدِ، فَفُتِحَ الْبَابُ وَنُودِيَ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا هَؤُلَاءِ السُّودَانَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَمِنْ بِلَادِكُمْ، فَقَوِيَ الشَّامِيُّونَ وَضَعُفَ جَأْشُ السُّودَانِ جدا، وأرسل السلطان إلى محلة السودان الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَنْصُورَةِ، الَّتِي فِيهَا دُورُهُمْ وَأَهْلُوهُمْ بِبَابِ زُوَيْلَةَ فَأَحْرَقَهَا، فَوَلَّوْا عِنْدَ ذَلِكَ مُدْبِرِينَ، وَرَكِبَهُمُ السَّيْفُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ طَلَبُوا الأمان فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُمْ إِلَى الْجِيزَةِ، ثُمَّ خرج لهم شمس الدولة نور شاه أَخُو الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ أَيْضًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوية بما ظلموا.
وفيها افتتح نور الدين قَلْعَةَ جَعْبَرَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا شِهَابِ الدين مالك بن على الْعَقِيلِيِّ وَكَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَيَّامِ السُّلْطَانِ ملك شاه. وَفِيهَا احْتَرَقَ جَامِعُ حَلَبَ فَجَدَّدَهُ نُورُ الدِّينِ. وفيها مات ما روق الّذي تنسب إليه المحلة بظاهر حلب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
سَعْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرِ بْنِ سَعِيدٍ الدَّجَاجِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ الواعظ الحنبلي، ولد سَنَةِ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ، وَكَانَ لَطِيفَ الْوَعْظِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَنَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ وأنشد:
أبى الغائب الغضبان يا نفس أن ترضى ... وَأَنْتِ الَّذِي صَيَّرْتِ طَاعَتَهُ فَرْضَا
فَلَا تَهْجُرِي مَنْ لَا تُطِيقِينَ هَجْرَهُ ... وَإِنْ هَمَّ بِالْهُجْرَانِ خَدَّيْكِ وَالْأَرْضَا
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خِفْتُ مَرَّةً مِنَ الْخَلِيفَةِ فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لِي اكْتُبْ
ادْفَعْ بِصَبْرِكَ حَادِثَ الْأَيَّامِ ... وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَلَّامِ
لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَا ... وَرَمَاكَ رَيْبُ صروفها بسهام(12/258)
فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فَرْجَةٌ ... تَخْفَى عَلَى الافهام وَالْأَوْهَامِ
كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ الْقَنَا ... وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنَ الضِّرْغَامِ
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ عند رباط الزورى ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ
أَبُو شُجَاعٍ السَّعْدِيُّ، الْمُلَقَّبُ أَمِيرَ الْجُيُوشِ، وَزِيرُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَيَّامَ الْعَاضِدِ، وَهُوَ الَّذِي انْتَزَعَ الْوِزَارَةَ مِنْ يَدَيْ رُزِّيكَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَكْتَبَ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ، اسْتَدْعَى بِهِ مِنْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ مِنْ بَابِ السِّدْرَةِ فَحَظِيَ عِنْدَهُ وَانْحَصَرَ مِنْهُ الْكُتَّابُ بِالْقَصْرِ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ فَضْلِهِ وَفَضِيلَتِهِ. وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ مِنْهُمْ عُمَارَةُ الْيَمَنِيُّ حَيْثُ يَقُولُ:
ضَجِرَ الْحَدِيدُ مِنَ الحديد وشاور ... من نَصْرِ دِينِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَضْجَرِ
حَلَفَ الزَّمَانُ ليأتين بمثله ... حنثت بمينك يَا زَمَانُ فَكَفِّرِ
وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ قَائِمًا إِلَى أَنْ ثَارَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ ضِرْغَامُ بْنُ سوار فالتجأ إلى نُورِ الدِّينِ فَأَرْسَلَ مَعَهُ الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ شير كوه فَنَصَرُوهُ عَلَى عَدُوِّهِ، فَنَكَثَ عَهْدَهُ فَلَمْ يَزَلْ أسد الدين حنقا عليه حتى قَتْلُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى يَدَيِ ابْنِ أخيه صلاح الدين، ضرب عنقه بين يدي الأمير جردنك فِي السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَاسْتُوزِرَ بعده أسد الدين، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ إِلَّا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: هُوَ أَبُو شُجَاعٍ شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ بْنِ نِزَارِ بْنِ عشائر بن شاس بن مغيث ابن حبيب بن الحارث بن ربيعة بن مخيس بْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ وَالِدُ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، كَذَا قَالَ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ لقصر هذا النسب لبعد المدة والله أعلم.
شير كوه بن شادى
أسد الدين الكردي الزرزارى وَهُمْ أَشْرَفُ شُعُوبِ الْأَكْرَادِ، وَهُوَ مِنْ قَرْيَةٍ يقال لها درين مِنْ أَعْمَالِ أَذْرَبِيجَانَ، خَدَمَ هُوَ وَأَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ- وَكَانَ الْأَكْبَرَ- الْأَمِيرَ مُجَاهِدَ الدِّينِ نهروز الْخَادِمَ شِحْنَةَ الْعِرَاقِ، فَاسْتَنَابَ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ على قلعة تكريت، فاتفق أن دخلها عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ هَارِبًا مِنْ قَرَاجَا السَّاقِي، فأحسنا إليه وخدماه، ثم اتفق أنه قتل رجلا من العامة فأخرجهما نهروز مِنَ الْقَلْعَةِ فَصَارَا إِلَى زَنْكِيٍّ بِحَلَبَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ حَظِيَا عِنْدَ وَلَدِهِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَاسْتَنَابَ أَيُّوبَ عَلَى بَعْلَبَكَّ، وَأَقَرَّهُ وَلَدُهُ نُورُ الدِّينِ، وَصَارَ أَسَدُ الدِّينِ عِنْدَ نُورِ الدِّينِ أَكْبَرَ أُمَرَائِهِ، وَأَخَصَّهُمْ عِنْدَهُ وَأَقْطَعَهُ الرَّحْبَةَ وحمص مع ماله عِنْدَهُ مِنَ الْإِقْطَاعَاتِ، وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَصَرَامَتِهِ وجهاده في الفرنج، في أيام معدودات ووقعات معتبرات، ولا سيما يَوْمَ فَتْحِ دِمَشْقَ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ بِدِيَارِ مِصْرَ، بَلَّ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ وجعل الجنة مأواه، وكانت وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً بِخَانُوقٍ حَصَلَ لَهُ، وذلك(12/259)
فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وإليه تنسب الخانقاه الأسدية بالشرق الْقِبْلِيِّ، ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ، ثُمَّ اسْتَوْسَقَ له الملك والممالك هنالك.
محمد بن عبد الله بن عبد الواحد
ابن سُلَيْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَطِّيِّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وأسمع ورحل إليه وقارب التسعين.
مُحَمَّدٌ الْفَارِقِيُّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظُ، يُقَالُ إنه كان يحفظ نهج البلاغة ويعبر أَلْفَاظَهُ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا يُكْتَبُ كَلَامُهُ وَيُرْوَى عنه كتاب يعرف بالحكم الفارقية.
المعمر بن عبد الواحد
ابن رجار أَبُو أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْوُعَّاظِ، رَوَى عَنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْحَدِيثِ، تُوُفِّيَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحَجِّ بِالْبَادِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وستين وخمسمائة
فِي صَفَرٍ مِنْهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ دِمْيَاطَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ خَمْسِينَ يَوْمًا، بِحَيْثُ ضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَقَتَلُوا أُمَمًا كَثِيرَةً، جَاءُوا إِلَيْهَا مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ رَجَاءَ أَنْ يَمْلِكُوا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَخَوْفًا مِنَ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقُدْسِ، فَكَتَبَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَيْهِمْ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ بِأَمْدَادٍ مِنَ الْجُيُوشِ، فَإِنَّهُ إِنْ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ خَلَفَهُ أَهْلُهَا بِسُوءٍ، وَإِنْ قَعَدَ عَنِ الْفِرِنْجِ أَخَذُوا دِمْيَاطَ وَجَعَلُوهَا مَعْقِلًا لَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى أَخْذِ مِصْرَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ بِبُعُوثٍ كَثِيرَةٍ، يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
ثُمَّ إِنَّ نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلدانهم فَصَمَدَ إِلَيْهِمْ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ فَجَاسَ خِلَالَ ديارهم، وغنم من أموالهم وقتل وسبى شيئا كثيرا، وكان من جملة من أرسله إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ أَبُوهُ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، فِي جَيْشٍ مِنْ تِلْكَ الْجُيُوشِ، وَمَعَهُ بقية أولاده، فتلقاه الجيش من مصر، وخرج العاضد لتلقيه إكراما لولده، وأقطعه اسكندرية ودمياط، وكذلك لبقية أَوْلَادِهِ، وَقَدْ أَمَدَّ الْعَاضِدُ صَلَاحَ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ حَتَّى انْفَصَلَتِ الْفِرِنْجُ عَنْ دِمْيَاطَ، وَأَجْلَتِ الْفِرِنْجُ عِنْ دِمْيَاطَ لأنه بلغهم أن نُورَ الدِّينِ قَدْ غَزَا بِلَادَهُمْ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ رِجَالِهِمْ، وَسَبَى كَثِيرًا مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ وغنم مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. ثُمَّ سَارَ نُورُ الدِّينِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ إلى الكرخ ليحاصرها- وَكَانَتْ مِنْ أَمْنَعِ الْبِلَادِ- وَكَادَ أَنْ يَفْتَحَهَا وَلَكِنْ بَلَغَهُ أَنَّ مُقَدَّمَيْنِ مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ أَقْبَلَا نَحْوَ دِمَشْقَ، فَخَافَ أَنْ يَلْتَفَّ عَلَيْهِمَا الْفِرِنْجُ فَتَرَكَ الْحِصَارَ وَأَقْبَلَ نَحْوَ دِمَشْقَ فَحَصَّنَهَا، وَلَمَّا انْجَلَتِ الْفِرِنْجُ عَنْ دِمْيَاطَ فَرِحَ نُورُ الدين فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَنْشَدَ الشُّعَرَاءُ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ قَصِيدًا، وَقَدْ كَانَ(12/260)
الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ قَوِيَّ الِاغْتِمَامِ بذلك، حتى قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءا في ذلك فِيهِ حَدِيثٌ مُسَلْسَلٌ بِالتَّبَسُّمِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يتبسم ليصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال: إني لأستحي من الله أن يراني متبسما والمسلمون يحاصرهم الْفِرِنْجُ بِثَغْرِ دِمْيَاطَ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ أَنَّ إِمَامَ مَسْجِدِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ رَأَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَجْلَى فِيهَا الْفِرِنْجُ عَنْ دِمْيَاطَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يقول: سَلِّمْ عَلَى نُورِ الدِّينِ وَبِشِّرْهُ بِأَنَّ الْفِرِنْجَ قَدْ رَحَلُوا عَنْ دِمْيَاطَ، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَيِّ عَلَامَةٍ؟ فَقَالَ: بِعَلَامَةِ مَا سَجَدَ يَوْمَ تَلِّ حَارِمٍ وَقَالَ فِي سُجُودِهِ: اللَّهمّ انصر دينك ومن هو محمود الكلب؟. فَلَمَّا صَلَّى نُورُ الدِّينِ عِنْدَهُ الصُّبْحَ بَشَّرَهُ بذلك وأخبره بالعلامة، فلما جاء إلى عند ذكر «من هو محمود الكلب» انقبض من قول ذلك، فقال له نور الدين: قل ما أمرك بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال ذلك: فقال: صدقت، وبكى نور الدين تصديقا وفرحا بذلك، ثم كشفوا فإذا الأمر كما أخبر في المنام.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَّرَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ جَامِعَ دَارِيَّا، وَعَمَّرَ مَشْهَدَ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ بِهَا، وَشَتَّى بِدِمَشْقَ. وَفِيهَا حاصر الْكَرَكَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَفَارَقَهُ مِنْ هُنَاكَ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ وَالِدُ صَلَاحِ الدِّينِ، مُتَوَجِّهًا إِلَى ابنه بمصر، وقد وصاه نُورُ الدِّينِ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَهُ صَلَاحَ الدِّينِ أَنْ يَخْطُبَ بِمِصْرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ باللَّه الْعَبَّاسِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعَثَ يُعَاتِبُهُ فِي ذَلِكَ. وَفِيهَا قَدِمَ الْفِرِنْجُ مِنَ السَّوَاحِلِ لِيَمْنَعُوا الْكَرَكَ مع ثبيب بن الرقيق وابن القنقري، وَكَانَا أَشْجَعَ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ، فَقَصَدَهُمَا نُورُ الدِّينِ ليقابلهما فَحَادَا عَنْ طَرِيقِهِ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بالشام والجزيرة وعمت أكثر الأرض، وتهدمت أَسْوَارٌ كَثِيرَةٌ بِالشَّامِ، وَسَقَطَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أهلها، ولا سيما بِدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَحَمَاةَ وَحَلَبَ وَبَعْلَبَكَّ، سَقَطَتْ أَسْوَارُهَا وَأَكْثَرُ قَلْعَتِهَا، فَجَدَّدَ نُورُ الدِّينِ عِمَارَةَ أَكْثَرِ ما وقع بهذه الأماكن.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْمَلِكُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ
أَخُو نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْهَا إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ، مُحَبَّبًا إِلَى الرَّعِيَّةِ، عَطُوفًا عَلَيْهِمْ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، حَسَنَ الشَّكْلِ.
وَتَمَلَّكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ مِنَ السِّتِّ خَاتُونَ بِنْتِ تَمُرْتَاشَ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ أَصْحَابِ مَارِدِينَ، وَكَانَ مُدَبِّرَ مَمْلَكَتِهِ وَالْمُتَحَكِّمَ فِيهَا فَخْرُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا. وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ مُلُوكِ الْغَرْبِ بِجَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ مُلُوكِ الشَّرْقِ أيضا. وحج بالناس فيها وفيها قبلها الأمير برغش الكبير، ولم أر أحدا من أكابر الأعيان توفى فيها.(12/261)
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَنْجِدِ وَخِلَافَةُ ابْنِهِ الْمُسْتَضِيءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَنْجِدَ كَانَ قَدْ مَرِضَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ عُوفِيَ فِيمَا يَبْدُو للناس، فعمل ضِيَافَةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، ثم أدخله الطبيب إلى الحمام وبه ضعف شديد فمات في الحمام، وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِشَارَةِ بَعْضِ الدَّوْلَةِ على الطبيب، استعجالا لموته، توفى يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الظُّهْرِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرًا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ وَأَعْدَلِهِمْ وَأَرْفَقِهِمْ بِالرَّعَايَا، وَمَنَعَ عَنْهُمُ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِالْعِرَاقِ مَكْسًا، وَقَدْ شَفَعَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي رَجُلٍ شِرِّيرٍ، وَبَذَلَ فِيهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَنَا أُعْطِيكَ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَائْتِنِي بِمِثْلِهِ لِأُرِيحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ، وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ أَسْمَرَ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَذَلِكَ فِي الْجُمَّلِ لَامٌ بَاءٌ وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
أَصْبَحْتَ لُبَّ بَنِي الْعَبَّاسِ جملتها ... إذا عددت حساب الْجُمَّلِ الْخُلَفَا
وَكَانَ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: قُلِ اللَّهمّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فَيْمَنْ عَافَيْتَ، دُعَاءَ الْقُنُوتِ بِتَمَامِهِ. وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَحَدِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التُّرَبِ مِنَ الرُّصَافَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
خِلَافَةُ الْمُسْتَضِيءِ
وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ يُوسُفَ الْمُسْتَنْجِدِ بْنِ الْمُقْتَفِي، وَأُمُّهُ أَرْمَنِيَّةٌ تُدْعَى عصمت، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ أَبُوهُ بُكْرَةَ الْأَحَدِ تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَحَدٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بَعْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ غَيْرُ هَذَا، وَوَافَقَهُ فِي الْكُنْيَةِ أَيْضًا، وَخَلَعَ يَوْمئِذٍ عَلَى النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ خِلْعَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَوَلَّى قَضَاءَ قضاة بغداد الروح ابن الحدثنى يوم الجمعة حادي عشرين ربيع الآخر، وخلع على الوزير وهو الأستاذ عضد الدولة، وضربت على بابه الدبابات ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَأَمَّرَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَمِيرًا مِنَ الْمَمَالِيكِ وَأَذِنَ لِلْوُعَّاظِ فَتَكَلَّمُوا بعد ما منعوا مدة طويلة، لما كان يحدث بسبب ذلك من الشرور الطويلة، ثم كثر احتجابه، ولما جاءت البشارة بولايته إلى الموصل قال العماد الكاتب:
قد أضاء الزمان بالمستضيء ... وَارِثِ الْبَرْدِ وَابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ
جَاءَ بِالْحَقِّ والشريعة والعدل ... فيا مرحبا بهذا المحيي
فَهَنِيئًا لِأَهْلِ بَغْدَادَ فَازُوا ... بَعْدَ بُؤْسٍ بِكُلِّ عَيْشٍ هَنِيِّ
وَمُضِيٌّ إِنْ كَانَ فِي الزَّمَنِ المظلم ... بالعود فِي الزَّمَانِ الْمُضِيِّ(12/262)
وفيها سار الملك نور الدين إِلَى الرَّقَّةِ فَأَخَذَهَا، وَكَذَا نَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ وَسِنْجَارَ، وسلمها إلى زوج ابنته ابن أخيه مودود بن عماد الدين، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَقَرَّهَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيِّ بْنِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ، مَعَ الْجَزِيرَةِ، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الْأُخْرَى، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ جَامِعِهَا وَتَوْسِعَتِهِ، وَوَقَفَ عَلَى تَأْسِيسِهِ بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ لَهُ خطيبا ودرسا للفقه، وولى التدريس للفقيه أبى بكر البرقاني، تِلْمِيذِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، وَكَتَبَ لَهُ مَنْشُورًا بِذَلِكَ، وَوَقَفَ عَلَى الْجَامِعِ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ الشَّيْخِ الصالح العابد عمر الملا، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ زَاوِيَةٌ يُقْصَدُ فِيهَا، وَلَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ دَعْوَةٌ فِي شَهْرِ الْمَوْلِدِ، يحضر فيها عِنْدَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَيَحْتَفِلُ بِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ صَاحِبَهُ، وَكَانَ يستشيره في أموره، وممن يعتمده في مهماته وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ فِي الْمَوْصِلِ بِجَمِيعِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ، فَلِهَذَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ لِأَهْلِ الْمَوْصِلِ كُلُّ مَسَرَّةٍ، واندفعت عنهم كل مضرة، وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين عَبْدَ الْمَسِيحِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَسِيحِ هَذَا نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ يُقَالُ إِنَّ لَهُ كَنِيسَةً فِي جوف داره، وكان سيئ السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين خاصة، وَلَمَّا دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ كَانَ الَّذِي استأمن له نور الدين الشيخ عمر الملا، وَحِينَ دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ خَرَجَ إِلَيْهِ ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه، وألبسه خلعة جاءته من الخليفة فدخل فيها إِلَى الْبَلَدِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ حَتَّى قَوِيَ الشِّتَاءُ فَأَقَامَ بها كما ذكرنا، فلما كان في آخر ليلة من إقامته بِهَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ:
طَابَتْ لَكَ بَلَدُكَ وَتَرَكْتَ الْجِهَادَ وَقِتَالَ أَعْدَاءِ اللَّهِ؟ فَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى السفر، وما أصبح إلا سائرا إلى الشام، واستقضى الشيخ ابن أَبِي عَصْرُونَ، وَكَانَ مَعَهُ عَلَى سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ، فَاسْتَنَابَ فِيهَا ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ نُوَّابًا وَأَصْحَابًا.
وَفِيهَا عَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ قُضَاةَ مِصْرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا شِيعَةً، وَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِهَا لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعيّ، فاستناب فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ قُضَاةً شَافِعِيَّةً، وَبَنَى مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأُخْرَى لِلْمَالِكِيَّةِ، وَاشْتَرَى ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدين عمر دارا تُعْرَفُ بِمَنَازِلِ الْعِزِّ، وَجَعَلَهَا مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا الرَّوْضَةَ وَغَيْرَهَا. وَعَمَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَسْوَارَ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ أَسْوَارَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعَايَا إِحْسَانًا كَثِيرًا، وَرَكِبَ فَأَغَارَ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ بنواحي عسقلان وغزة وضرب قَلْعَةً كَانَتْ لَهُمْ عَلَى أَيْلَةَ، وَقَتَلَ خَلْقًا كثيرا من مقاتلتهم، وتلقى أهله وهم قادمون مِنَ الشَّامِ، وَاجْتَمَعَ شَمْلُهُ بِهِمْ بَعْدَ فُرْقَةٍ طَوِيلَةٍ. وَفِيهَا قَطَعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَذَانَ بِحَيٍّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ كُلِّهَا، وَشَرَعَ فِي تَمْهِيدِ الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَلَى المنابر.(12/263)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ
أَبُو زُرْعَةَ الْمَقْدِسِيُّ الْأَصْلُ، الرَّازِيُّ الْمَوْلِدُ، الْهَمْدَانِيُّ الدَّارُ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَأَسْمَعَهُ وَالِدُهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْكَثِيرَ، وَمِمَّا كَانَ يَرْوِيهِ مُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ، توفى بهمدان يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ.
يُوسُفُ الْقَاضِي
أَبُو الْحَجَّاجِ بْنُ الْخَلَّالِ صاحب ديوان الإنشاء بمصر، وَهُوَ شَيْخُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ فِي هَذَا الْفَنِّ، اشْتَغَلَ عَلَيْهِ فِيهِ فَبَرَعَ حَتَّى قُدِّرَ أَنَّهُ صار مكانه حين ضعف عن القيام بأعباء الوظيفة لكبره، وكان الْقَاضِي الْفَاضِلُ يَقُومُ بِهِ وَبِأَهْلِهِ حَتَّى مَاتَ، ثم كان بعد موته كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
يُوسُفُ بْنُ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَنْجِدِ باللَّه بْنِ الْمُقْتَفِي بْنِ المستظهر، تقدم ذكر وفاته وترجمته، وقد توفى بعده عمه أبو نصر ابن الْمُسْتَظْهِرِ بِأَشْهُرٍ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبع وستين وخمسمائة
«فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْعَاضِدِ صَاحِبِ مِصْرَ» فِي أول جمعة منها، فأمر صَلَاحُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ بِمِصْرَ وأعمالها في الجمعة الثانية، وكان يَوْمًا مَشْهُودًا، وَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ نور الدين أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، مَعَ ابْنِ أبى عصرون شهاب الدين أبى المعالي، فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَعُمِلَتِ الْقِبَابُ وَفَرِحَ المسلمون فرحا شديدا، وكانت قد قطعت الخطبة لبني العباس مِنْ دِيَارِ مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي خِلَافَةِ الْمُطِيعِ الْعَبَّاسِيِّ، حِينَ تَغَلَّبَ الْفَاطِمِيُّونَ على مصر أَيَّامَ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، بَانِي الْقَاهِرَةِ، إِلَى هَذَا الآن، وَذَلِكَ مِائَتَا سَنَةٍ وَثَمَانِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ أَلَّفْتُ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ النَّصْرَ عَلَى مِصْرَ.
مَوْتُ الْعَاضِدِ آخِرِ خُلَفَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ
وَالْعَاضِدُ فِي اللُّغَةِ الْقَاطِعُ، «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» لَا يُقْطَعُ، وَبِهِ قُطِعَتْ دَوْلَتُهُمْ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَيُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الحافظ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الْحَاكِمِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ المعز بن المنصور القاهري، أبى الغنائم بن المهدي أولهم، كَانَ مَوْلِدُ الْعَاضِدِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، فَعَاشَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَذْمُومَةً، وَكَانَ شِيعِيًّا خَبِيثًا، لَوْ أَمْكَنَهُ قَتَلَ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ رَسَمَ بِالْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ مَرْسُومِ الْمَلِكِ نور الدين، وذلك أن الخليفة بعث إلى نور الدين فعاتبه في ذلك قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ إِذْ ذَاكَ مُدْنِفًا مَرِيضًا، فَلَمَّا مَاتَ تَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ، فَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِمِصْرَ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَاضِدَ مَرِضَ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ(12/264)
عَاشُورَاءَ، فَحَضَرَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ جِنَازَتَهُ وَشَهِدَ عزاه، وبكى عليه وتأسف، وظهر منه حزن كثير عليه، وَقَدْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وكان العاضد كريما جوادا سامحه الله. وَلَمَّا مَاتَ اسْتَحْوَذَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى الْقَصْرِ بِمَا فِيهِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ أَهْلَ الْعَاضِدِ إِلَى دَارٍ أَفْرَدَهَا لَهُمْ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ وَالنَّفَقَاتِ الْهَنِيَّةَ، وَالْعِيشَةَ الرَّضِيَّةَ، عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ الخلافة، وكان صلاح يَتَنَدَّمُ عَلَى إِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ بِمِصْرَ قبل وفاة العاضد، وهلا صبر بها إلى بعد وفاته، ولكن كان ذلك قدرا مقدورا.
وَمِمَّا نَظَمَهُ الْعِمَادُ فِي ذَلِكَ:
تُوُفِّيَ الْعَاضِدُ الدَّعِيُّ فَمَا ... يَفْتَحُ ذُو بِدْعَةٍ بِمِصْرَ فَمَا
وَعَصْرُ فِرْعَوْنِهَا انْقَضَى وَغَدَا ... يُوسُفُهَا فِي الْأُمُورِ محتكما
قد طفئت جمرة الغواة وقد ... داخ مِنَ الشِّرْكِ كُلُّ مَا اضْطَرَمَا
وَصَارَ شَمْلُ الصَّلَاحِ مُلْتَئِمًا ... بِهَا وَعِقْدُ السَّدَادِ مُنْتَظِمَا
لَمَّا غدا مشعرا شعار بنى ... العباس حقا والباطل اكتتما
وبات داعي التوحيد منتظرا ... وَمِنْ دُعَاةِ الْإِشْرَاكِ مُنْتَقِمَا
وَظَلَّ أَهْلُ الضَّلَالِ في ظلل ... داجية من غبائة وعمى
وارتكس الْجَاهِلُونَ فِي ظُلَمٍ ... لَمَّا أَضَاءَتْ مَنَابِرُ الْعُلَمَا
وارتكس الْجَاهِلُونَ فِي ظُلَمٍ ... لَمَّا أَضَاءَتْ مَنَابِرُ الْعُلَمَا
وعاد بالمستضيء معتليا ... بناء حق بعد ما كان منهدما
أعيدت الدولة التي اضطهدت ... وانتصر الدين بعد ما اهتضما
واهتز عطف الإسلام من جلل ... وَافْتَرَّ ثَغْرُ الْإِسْلَامِ وَابْتَسَمَا
وَاسْتَبْشَرَتْ أَوْجُهُ الْهُدَى فَرَحًا ... فَلْيَقْرَعِ الْكُفْرُ سِنَّهُ نَدَمَا
عَادَ حَرِيمُ الأعداء منتهك ... الحمى وفي الطغاة منقسما
قُصُورُ أَهْلِ الْقُصُورِ أَخْرَبَهَا ... عَامِرُ بَيْتٍ مِنَ الكمال سما
أزعج بعد السكوت سَاكِنَهَا ... وَمَاتَ ذُلًّا وَأَنْفُهُ رَغِمَا
وَمِمَّا قِيلَ من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستضيء بالخطبة له بمصر وأعمالها:
ليهنيك يا مولاي فتح تتابعت ... إليك به خوض الرَّكَائِبِ تُوجَفُ
أَخَذْتَ بِهِ مِصْرًا وَقَدْ حَالَ دونها ... من الشرك يأس في لها الْحَقِّ يُقْذَفُ
فَعَادَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ بِاسْمِ إِمَامِنَا ... تَتِيهُ عَلَى كُلِّ الْبِلَادِ وَتَشْرُفُ
وَلَا غَرْوَ أَنْ ذُلَّتْ لِيُوسُفَ مِصْرُهُ ... وَكَانَتْ إِلَى عَلْيَائِهِ تتشوف
فشابهه خَلْقًا وَخُلْقًا وَعِفَّةً ... وَكُلٌّ عَنِ الرَّحْمَنِ فِي الأرض يخلف(12/265)
كَشَفْتَ بِهَا عَنْ آلِ هَاشِمِ سُبَّةً ... وَعَارًا أبى إلا بسيفك يكشف
وقد ذكر ذلك أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ، وَهَيَ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا الْفَضَائِلِ الْحُسَيْنَ بْنَ محمد بن بركات الوزير أنشدها للخليفة عند موته بعد منام رآه، وأراد بيوسف الثاني المستنجد، وهكذا ذكر ابن الجوزي: أنها أنشدت في حياة المستنجد، ولم يخطب بها إلا لابنه الْمُسْتَضِيءِ، فَجَرَى الْمَقَالُ بِاسْمِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدين يوسف بن أيوب، وقد أرسل الخليفة إلى الملك نور الدين معظمة لما بشر بالخطبة له بمصر، وَكَذَلِكَ لِلْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهَا أَعْلَامٌ سُودٌ وَلِوَاءٌ مَعْقُودٌ، فَفُرِّقَتْ عَلَى الجوامع بالشام وبمصر. قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ فِي كِتَابِهِ: وَلَمَّا تفرغ صلاح الدين من توطيد المملكة وإقامة الخطبة والتعزية، اسْتَعْرَضَ حَوَاصِلَ الْقَصْرَيْنِ فَوَجَدَ فِيهِمَا مِنَ الْحَوَاصِلِ والأمتعة والآلات وَالْمَلَابِسِ وَالْمَفَارِشِ شَيْئًا بَاهِرًا، وَأَمْرًا هَائِلًا، مِنْ ذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ يَتِيمَةٍ مِنَ الْجَوْهَرِ، وَقَضِيبُ زُمُرُّدٍ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ شِبْرٍ وَسُمْكُهُ نَحْوُ الْإِبْهَامِ، وحبل من ياقوت، وإبريق عَظِيمٌ مِنَ الْحَجَرِ الْمَانِعِ، وَطَبْلٌ لِلْقُولَنْجِ إِذَا ضرب عليه أحد فيه ريح غليظة أو غيرها خرج منه ذلك الريح من دبره، وينصرف عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْقُولَنْجِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أُمَرَاءِ الْأَكْرَادِ أَخَذَهُ فِي يَدِهِ وَلَمْ يدر ما شأنه، فضرب عليه فحبق- أي ضرط- فَأَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَكَسَرَهُ فَبَطَلَ أمره. وأما القضيب الزمرد فان صلاح الدين كَسَرَهُ ثَلَاثَ فِلَقٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَقَسَّمَ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ قِطَعِ الْبَلْخَشِ والياقوت والذهب والفضة والأثاث والأمتعة وغير ذلك، ثم باع ما فضل عن ذلك وجمع عليه أعيان التجار، فاستمر الْبَيْعُ فِيمَا بَقِيَ هُنَالِكَ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ ببغداد من ذلك هدايا سنية نفيسة، وَكَذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ من ذلك جانبا كثيرا صالحا، ولم يدخر لنفسه شيئا مما حصل لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، بَلْ كَانَ يُعْطِي ذَلِكَ من حوله من الأمراء وغيرهم، فكان مِمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى نُورِ الدِّينِ ثَلَاثُ قِطَعٍ بلخش زنة الواحدة إحدى وَثَلَاثُونَ مِثْقَالًا، وَالْأُخْرَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا، وَالثَّالِثَةُ عشرة مثاقيل، وقيل أكثر مَعَ لَآلِئَ كَثِيرَةٍ، وَسِتُّونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعِطْرٌ لم يسمع بمثله، ومن ذلك حمارة وَفِيلٌ عَظِيمٌ جِدًّا، فَأُرْسِلَتِ الْحِمَارَةُ إِلَى الْخَلِيفَةِ في جملة هدايا. قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ: وَوَجَدَ خِزَانَةَ كُتُبٍ ليس لها في مدائن الإسلام نَظِيرٌ، تَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ مُجَلَّدٍ، قَالَ وَمِنْ عَجَائِبِ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِهَا أَلْفٌ ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، وكذا قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: كَانْتِ الْكُتُبُ قَرِيبَةً مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُجَلَّدٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كَانَ فِيهَا مِنَ الْكُتُبِ بِالْخُطُوطِ الْمَنْسُوبَةِ مِائَةُ أَلْفِ مُجَلَّدٍ، وَقَدْ تَسَلَّمَهَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ، فَأَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِمَّا اخْتَارَهُ وَانْتَخَبَهُ، قَالَ وَقَسَمَ الْقَصْرَ الشَّمَالِيَّ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ فَسَكَنُوهُ، وَأَسْكَنَ أَبَاهُ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ فِي قَصْرٍ عَظِيمٍ عَلَى الْخَلِيجِ، يُقَالُ لَهُ اللُّؤْلُؤَةُ، الَّذِي فِيهِ بستان الكافوري(12/266)
وأسكن أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ فِي دُورِ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى الْفَاطِمِيِّينَ، وَلَا يَلْقَى أَحَدٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ أحدا من أولئك الذين كانوا بها من الأكابر إلا شلحوه ثِيَابَهُ وَنَهَبُوا دَارَهُ، حَتَّى تَمَزَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ في البلاد، وتفرقوا شذر مذر وصاروا أيدي سَبَا.
وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِ الْفَاطِمِيِّينَ مِائَتَيْنِ وثمانين سنة وكسرا، فصاروا كأمس الذاهب كأن لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمُ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ مِنْ سَلَمْيَةَ حَدَّادًا اسْمُهُ عبيد، وَكَانَ يَهُودِيًّا، فَدَخَلَ بِلَادَ الْمَغْرِبِ وَتَسَمَّى بِعُبَيْدِ اللَّهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ عَلَوِيٌّ فَاطِمِيٌّ، وَقَالَ عن نفسه إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الدَّعِيَّ الْكَذَّابَ رَاجَ لَهُ مَا افْتَرَاهُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَوَازَرَهُ جماعة من الجهلة، وَصَارَتْ لَهُ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ، ثُمَّ تَمَكَّنَ إِلَى أَنْ بَنَى مَدِينَةً سَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ نِسْبَةً إِلَيْهِ، وَصَارَ مَلِكًا مُطَاعًا، يُظْهِرُ الرَّفْضَ وَيَنْطَوِي عَلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ دِيَارَ مِصْرَ مِنْهُمْ، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الطاهر على، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلى أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وَهُوَ آخِرُهُمْ، فَجُمْلَتُهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا، وَمُدَّتَهُمْ مِائَتَانِ وَنَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ عِدَّةُ خُلَفَاءِ بَنَى أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَيْضًا، وَلَكِنْ كَانَتْ مدتهم نيفا وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بِأُرْجُوزَةٍ تَابِعَةٍ لِأُرْجُوزَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ عِنْدَ انْقِضَاءِ دَوْلَتِهِمْ بِبَغْدَادَ، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، كما سيأتي. وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الْخُلَفَاءِ وَأَجْبَرِهِمْ وَأَظْلِمِهِمْ، وَأَنْجَسِ الْمُلُوكِ سِيرَةً، وَأَخْبَثِهِمْ سَرِيرَةً، ظَهَرَتْ فِي دَوْلَتِهِمُ الْبِدَعُ وَالْمُنْكَرَاتُ وَكَثُرَ أَهْلُ الْفَسَادِ وَقَلَّ عِنْدَهُمُ الصَّالِحُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية وَالدَّرْزِيَّةُ وَالْحُشَيْشِيَّةُ، وَتَغَلَّبَ الْفِرِنْجُ عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ بِكَمَالِهِ، حَتَّى أَخَذُوا الْقُدْسَ وَنَابُلُسَ وَعَجْلُونَ وَالْغُورَ وَبِلَادَ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ وَكَرَكَ الشَّوْبَكِ وَطَبَرِيَّةَ وَبَانِيَاسَ وصور وعكا وصيدا وبيروت وَصَفَدَ وَطَرَابُلُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَجَمِيعَ مَا وَالَى ذَلِكَ، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا عل بِلَادِ آمِدَ وَالرُّهَا وَرَأْسِ الْعَيْنِ وَبِلَادٍ شَتَّى غير ذلك، وقتلوا من المسلمين خلقا وأمما لا يحصيهم إِلَّا اللَّهُ، وَسَبَوْا ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النِّسَاءِ والولدان مما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَكَادُوا أَنْ يتغلبوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن الله سلم، وَحِينَ زَالَتْ أَيَّامُهُمْ وَانْتَقَضَ إِبْرَامُهُمْ أَعَادَ اللَّهُ عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته، وقد قال الشاعر المعروف عرقلة:(12/267)
أَصْبَحَ الْمُلْكُ بَعْدَ آلِ عَلِيٍّ ... مُشْرِقًا بِالْمُلُوكِ من آل شادى
وغدا الشرق يحسد الغرب ... للقوم فمصر تزهو على بغداد
ما حووها إلا بعزم وحزم ... وصليل الفولاذ في الأكباد
لا كفرعون والعزيز ومن ... كان بها كالخطيب والأستاد
قال أبو شامة: يعنى بالأستاد كأنه نور الإخشيدي، وقوله آل على يعنى الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين، وإنما كانوا يُنْسَبُونَ إِلَى عُبَيْدٍ، وَكَانَ اسْمُهُ سَعِيدًا، وَكَانَ يَهُودِيًّا حَدَّادًا بِسَلَمْيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِيهِمْ وَطَعْنِهِمْ فِي نَسَبِهِمْ. قال وقد استقصيت الكلام فِي مُخْتَصَرِ تَارِيخِ دِمَشْقَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرحمن بْنِ إِلْيَاسَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ فِي هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته مِنْ قَبَائِحِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَجْهَرُونَ بِهِ فِي بعض الأحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شيء كثير في تراجمهم، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ أَفْرَدْتُ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ «كَشْفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَنُو عُبَيْدٍ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ» وَكَذَا صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كُتُبًا كَثِيرَةً، مِنْ أَجَلِ ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، الَّذِي سَمَّاهُ «كَشْفَ الْأَسْرَارِ وَهَتْكَ الْأَسْتَارِ» وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي بَنِي أَيُّوبَ يَمْدَحُهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بديار مصر:
أبدتم من بلى دَوْلَةَ الْكُفْرِ مِنْ ... بَنِي عُبَيْدٍ بِمِصْرَ إِنَّ هَذَا هُوَ الْفَضْلُ
زَنَادِقَةٌ شِيعِيَّةٌ بَاطِنِيَّةٌ ... مَجُوسٌ وَمَا فِي الصَّالِحِينَ لَهُمْ أَصْلُ
يُسَرُّونَ كُفْرًا يظهرون تشيعا ... ليستروا سابور عمهم الجهل
وفيها أَسْقَطَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَقُرِئَ الْمَنْشُورُ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَالِثَ صَفَرٍ. وفيها حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ غَزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِلَادَ الْفِرِنْجِ فِي السَّوَاحِلِ فَأَحَلَّ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَرَّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْهُ نِقْمَةً وَوَعِيدًا، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الْكَرَكِ وَكَتَبَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَلْتَقِيهِ بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ إلى بلاد الكرك، ليجتمعا هنالك ويتفقا على المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، فتوهم من ذلك صَلَاحُ الدِّينِ وَخَافَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْأَمْرِ غَائِلَةٌ يَزُولُ بِهَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ التمكن من بلاد مصر، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ مِنَ مصر لأجل امْتِثَالَ الْمَرْسُومِ، فَسَارَ أَيَّامًا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا مُعْتَلًّا بِقِلَّةِ الظَّهْرِ، وَالْخَوْفِ عَلَى اخْتِلَالِ الْأُمُورِ إِذَا بَعُدَ عَنْ مِصْرَ وَاشْتَغَلَ عَنْهَا، وَأَرْسَلَ يعتذر إلى نُورِ الدِّينِ. فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، وَاشْتَدَّ غضبه عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غَيْرِهِ، وَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْخَبَرُ صَلَاحَ الدِّينِ ضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعُهُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، فَبَادَرَ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عَمَرُ وقال: وَاللَّهِ لَوْ قَصَدَنَا نُورُ الدِّينِ لَنُقَاتِلَنَّهُ، فَشَتَمَهُ الأمير(12/268)
نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وَأَسْكَتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ، وَاللَّهِ مَا هَاهُنَا أَحَدٌ أَشْفَقُ عَلَيْكَ مِنِّي وَمِنْ خَالِكَ هَذَا- يَعْنِي شِهَابَ الدِّينِ الْحَارِمِيَّ- وَلَوْ رَأَيْنَا نُورَ الدِّينِ لَبَادَرْنَا إِلَيْهِ وَلَقَبَّلْنَا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأُمَرَاءِ والجيش، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِ مَعَ نَجَّابٍ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ هُنَالِكَ بِالِانْصِرَافِ والذهاب، فلما خلى بِابْنِهِ قَالَ لَهُ: أَمَا لَكَ عَقْلٌ؟ تَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا بِحَضْرَةِ هَؤُلَاءِ فَيَقُولُ عُمْرُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَتُقِرُّهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَ نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا، وأعمارنا، ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم، ولذهبوا كلهم إليه، وَلَكِنِ ابْعَثْ إِلَيْهِ وَتَرَفَّقْ لَهُ وَتَوَاضَعْ عِنْدَهُ، وَقُلْ لَهُ: وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مَجِيءِ مَوْلَانَا السلطان إلى قتالي؟ ابعث إلى بنجاب أو جمال حَتَّى أَجِيءَ مَعَهُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْكَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَانَ قَلْبُهُ لَهُ، وَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُ عَنْهُ، وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.
وَفِيهَا اتَّخَذَ نُورُ الدِّينِ الْحَمَامَ الْهَوَادِيَ، وَذَلِكَ لِامْتِدَادِ مَمْلَكَتِهِ وَاتِّسَاعِهَا، فَإِنَّهُ مَلَكَ مِنْ حَدِّ النُّوبَةِ إِلَى هَمَذَانَ لَا يَتَخَلَّلُهَا إِلَّا بلاد الفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته، ولذلك اتَّخَذَ فِي كُلِّ قَلْعَةٍ وَحِصْنٍ الْحَمَامَ الَّتِي يحمل الرَّسَائِلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ، وَأَيْسَرِ عُدَّةٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِنَّ الْقَاضِي الفاضل الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب ذلك العماد الكاتب، وأطرب وأعجب وأغرب.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد
ابن أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالنَّحْوِ حَتَّى سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ فِيهِمَا، وَشَرَحَ الْجُمَلَ لِعَبْدِ القاهر [الجرجاني] ، وكان رجلا صالحا متطوعا، وهذا نادر في النحاة، توفى فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟
فَقَالَ غَفَرَ لِي وَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ إِلَّا أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِّي وعن جماعة من العلماء تركوا العمل واشتغلوا بالقول، قال ابن خلكان: كان مطرحا للكلفة فِي مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ، وَكَانَ لَا يُبَالِي بِمَنْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ محمد
أبو المظفر الدوي، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، وَنَاظَرَ وَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُظْهِرُ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ، وَيَتَكَلَّمُ فِي الْحَنَابِلَةِ مَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
ناصر بن الجونى الصُّوفِيُّ
كَانَ يَمْشِي فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ حَافِيًا، توفى ببغداد. قال أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ.
نَصْرُ اللَّهِ [بْنُ عَبْدِ اللَّهِ] أَبُو الْفُتُوحِ
الْإِسْكَنْدَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قلاقس الشاعر بعيذاب، توفى عن خمس وأربعين سنة.(12/269)
وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ يَحْيَى بْنُ سَعْدُونَ الْقُرْطُبِيُّ، نزيل الموصل المقري النَّحْوِيُّ، قَالَ: وَفِيهَا وُلِدَ الْعَزِيزُ وَالظَّاهِرُ ابْنَا صَلَاحِ الدِّينِ، وَالْمَنْصُورُ مُحَمَّدُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فيها أرسل نور الدين إلى صلاح الدين- وكان الرسول الْمُوَفَّقَ خَالِدَ بْنَ الْقَيْسَرَانِيِّ- لِيُقَيَّمَ حِسَابَ الدِّيَارِ المصرية، وذلك لأن نور الدين استقل الهدية التي أرسل بها إِلَيْهِ مِنْ خَزَائِنِ الْعَاضِدِ، وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُقَرِّرَ على الديار المصرية خراجا منها في كل عام. وفيها حاصر صلاح الدين الكرك والشوبك فضيق على أهلها، وَخَرَّبَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنْ مُعَامَلَاتِهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا عَامَهُ ذَلِكَ. وَفِيهَا اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ بالشام لقصد زرع [1] ، فوصلوا إلى سمسكين فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ نُورُ الدِّينِ فَهَرَبُوا مِنْهُ إِلَى الغور، ثُمَّ إِلَى السَّوَادِ، ثُمَّ إِلَى الشِّلَالَةِ، فَبَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى طَبَرِيَّةَ فَعَاثُوا هُنَالِكَ وَسَبَوْا وَقَتَلُوا وغنموا وعادوا سالمين، ورجع الفرنج خائبين. وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ شَمْسَ الدولة نور شاه إِلَى بِلَادِ النُّوبَةِ فَافْتَتَحَهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَعْقِلِهَا وَهُوَ حِصْنٌ يُقَالُ لَهُ إِبْرِيمُ، وَلَمَّا رَآهَا بلدة قَلِيلَةَ الْجَدْوَى لَا يَفِي خَرَاجُهَا بِكُلْفَتِهَا، اسْتَخْلَفَ عَلَى الْحِصْنِ الْمَذْكُورِ رَجُلًا مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، فَجَعَلَهُ مُقَدَّمًا مُقَرَّرًا بِحِصْنِ إِبْرِيمَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكْرَادِ الْبَطَّالِينَ، فَكَثُرَتْ أموالهم وحسنت أحوالهم هنالك وشنوا الغارات وحصلوا على الغنائم.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْأَمِيرِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ بن شادى والد صلاح الدين، سقط عن فرسه فمات وسنأتي على ترجمته في الوفيات. وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِ عز الدين قلج أرسلان بن مسعود ابن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي، وَأَصْلَحَ مَا وَجَدَهُ فِيهَا مِنَ الْخَلَلِ. ثُمَّ سَارَ فَافْتَتَحَ مَرْعَشَ وَبَهَسْنَا، وَعَمِلَ فِي كُلٍّ منهما بالحسنى. قال العماد: وفيها وَصَلَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَهُوَ فَقِيهُ عَصْرِهِ وَنَسِيجُ وَحْدِهِ، فَسُرَّ بِهِ نُورُ الدِّينِ وَأَنْزَلَهُ بِحَلَبَ بِمَدْرَسَةِ بَابِ الْعِرَاقِ، ثم أتى به إلى دمشق فدرس بزاوية جامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي، ثم نزل بمدرسة الحاروق، ثم شرع نور الدين بإنشاء مَدْرَسَةٍ كَبِيرَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَأَدْرَكَهُ الْأَجَلُ قَبْلَ ذَلِكَ. قال أبو شامة: وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعد ذلك الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ. وَفِيهَا رجع شِهَابُ الدِّينِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ مِنْ بَغْدَادَ وقد أدى الرسالة بِالْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ مِنَ الخلافة باقطاع درب هارون وصريفين لنور الدِّينِ، وَقَدْ كَانَتَا قَدِيمًا لِأَبِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زنكي، فأراد نور الدين أن ينشئ ببغداد مدرسة على حافة الدجلة، وَيَجْعَلَ هَذَيْنَ الْمَكَانَيْنِ وَقْفًا عَلَيْهَا فَعَاقَهُ الْقَدَرُ عن ذلك. وفيها وقعت بناحية خوارزم حروب كثيرة بين سلطان شاه وبين أعدائه، استقصاها ابن الأثير وابن الساعي.
__________
[1] كذا في الأصل. وفي ابن الأثير: قصدوا بلاد حوران من أعمال دمشق.(12/270)
وَفِيهَا هَزَمَ مَلِكُ الْأَرْمَنِ مَلِيحُ بْنُ لِيُونَ عَسَاكِرَ الرُّومِ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَبَعَثَ إلى نور الدين بأموال كثيرة، وثلاثين رأسا من رءوس كبارهم، فأرسلها نور الدين إلى الخليفة المستضيء. وفيها بعث صلاح الدين سرية صحبه قراقرش مملوك تقى الدين عمر ابن شَاهِنْشَاهْ إِلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَمَلَكُوا طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهَا، مِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ وَعِدَّةَ مدن معها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِيلْدِكِزُ التُّرْكِيُّ الْأَتَابِكِيُّ
صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرِهَا، كَانَ مَمْلُوكًا لِلْكَمَالِ السميرمى، وزير السلطان محمود، ثم علا أمره وتمكن وملك بلاد أَذْرَبِيجَانَ وَبِلَادَ الْجَبَلِ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ عَادِلًا مُنْصِفًا شجاعا محسنا إلى الرعية، توفى بهمدان
الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الشُّكْرِ أَيُّوبُ بْنُ شادى
ابن مروان، زاد بَعْضُهُمْ بَعْدَ مَرْوَانَ بْنَ يَعْقُوبَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جمهورهم أنه لا يعرف بعد شادى أحد في نسبهم، وأغرب بعضهم وزعم أنهم من سلالة مروان بن محمد آخِرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، والّذي نسب اليه ادعاء هذا هو أَبُو الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ طُغْتِكِينَ بْنِ أَيُّوبَ بن شادى وَيُعْرَفُ بِابْنِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ مَلَكَ الْيَمَنَ بَعْدَ أَبِيهِ فَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ وَادَّعَى الْخِلَافَةَ وتلقب بالإمام الهادي بنور الله ولهجوا بذلك وقال هو في ذلك:
وأنا الْهَادِي الْخَلِيفَةُ وَالَّذِي ... أَدُوسُ رِقَابَ الْغلْبِ بِالضُّمَّرِ الجرد
ولا بد من بغداد أطوى ربوعها ... وأنشرها نشر الشماس على البرد
وَأَنْصِبُ أَعْلَامِي عَلَى شُرُفَاتِهَا ... وَأُحْيِي بِهَا مَا كَانَ أَسَّسَهُ جَدِّي
وَيُخْطَبُ لِي فَيْهَا عَلَى كل منبر ... وأظهر أمر الله في الغور والنجد
وما ادعاه لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، ولا مستند يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَمِيرَ نَجْمَ الدِّينِ كَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، ولد بأرض الموصل، كان الأمير نجم الدين شجاعا، خدم الملك محمد بن ملك شاه فَرَأَى فِيهِ شَهَامَةً وَأَمَانَةً، فَوَلَّاهُ قَلْعَةَ تَكْرِيتَ، فحكم فيها فعدل، وكان مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ، ثُمَّ أَقْطَعَهَا الْمَلِكُ مَسْعُودٌ لمجاهد الدين نهروز شحنة العراق، فاستمر فِيهَا، فَاجْتَازَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ مُنْهَزِمًا مِنْ قُرَاجَا السَّاقِي فآواه وخدمه خدمة بالغة تامة، وداوى جراحاته وأقام عنده مدة خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى بَلَدِهِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ عَاقَبَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا فَقَتَلَهُ، وَقِيلَ إِنَّمَا قَتَلَهُ أخوه أسد الدين شيركوه، وهذا بخلاف الّذي ذكره ابن خلكان، فإنه قَالَ: رَجَعَتْ جَارِيَةٌ مِنْ بَعْضِ الْخَدَمِ فَذَكَرَتْ له أَنَّهُ تَعَرَّضَ لَهَا إِسْفَهْسَلَارُ الَّذِي بِبَابِ الْقَلْعَةِ، فخرج إليه أسد الدين فَطَعْنَهُ بِحَرْبَةٍ فَقَتَلَهُ، فَحَبَسَهُ أَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ وكتب إلى مجاهد الدين نهروز يُخْبِرُهُ بِصُورَةِ الْحَالِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنَّ أباكما كانت(12/271)
لَهُ عَلَيَّ خِدْمَةٌ، وَكَانَ قَدِ اسْتَنَابَهُ فِي هذه القلعة قبل ابنه نجم الدين أيوب، وإني أكره أن أسوأ كما، ولكن انتقلا منها. فأخرجهما نهروز مِنْ قَلْعَتِهِ. وَفِي لَيْلَةِ خُرُوجِهِ مِنْهَا وُلِدَ لَهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ. قَالَ فتشاءمت به لفقدى بلدي ووطني، فقال له بَعْضُ النَّاسِ: قَدْ نَرَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ التَّشَاؤُمِ بِهَذَا الْمَوْلُودِ فَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْلُودُ مَلِكًا عَظِيمًا لَهُ صِيتٌ؟ فكان كما قال، فاتصلا بخدمة الملك عماد الدين زنكي أبى نور الدين، ثم كانا عند نور الدين متقدمان عنده، وارتفعت منزلتهما وعظما، فاستناب نور الدين نجم الدين أيوب على بعلبكّ، وكان أسد الدين من أكبر أمرائه، ولما تسلم بعلبكّ أقام مدة طويلة، وولد له فيها أكثر أولاده، ثم كان من أمره ما ذكرناه في دخوله الديار المصرية. ثم أَنَّهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فمات بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ ابنه صلاح الدين محاصر الكرك غائبا عنه، فلما بلغه خبر موته تألم لغيبته عن حضوره، وأرسل يتحرق ويتحزن، وأنشد:
وتخطفه يَدُ الرَّدَى فِي غَيْبَتِي ... هَبْنِي حَضرْتُ، فَكُنْتُ مَاذَا أَصْنَعُ؟
وَقَدْ كَانَ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ كثير الصلاة والصدقة والصيام، كَرِيمَ النَّفْسِ جَوَادًا مُمَدَّحًا. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ خَانِقَاهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَسْجِدٌ وَقَنَاةٌ خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَقَفَهَا فِي سَنَةِ ست وستين. قلت: وَلَهُ بِدِمَشْقَ خَانِقَاهُ أَيْضًا، تُعْرَفُ بِالنَّجْمِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَنَابَهُ ابْنُهُ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حِينَ خَرَجَ إلى الكرك، وحكمه في الخزائن، وكان مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ كَالْعِمَادِ وغيره ورثوه بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى الشَّيْخُ أبو شامة في الروضتين، ودفن مع أخيه أسد الدين بِدَارِ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ نُقِلَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ، فَدُفِنَا بِتُرْبَةِ الْوَزِيرِ جَمَالِ الدين الموصلي، الّذي كان مواخيا لأسد الدين شيركوه، وهو الجمال المتقدم ذكره، الّذي ليس بين تربته ومسجد النبي صلى الله عليه وسلّم إلا مقدار سبعة عشر ذراعا، فدفنا عنده. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ ملك الرافضة والنحاة.
الحسن بن ضافى بن بزدن التُّرْكِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ بَغْدَادَ الْمُتَحَكِّمِينَ فِي الدَّوْلَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا مُتَعَصِّبًا لِلرَّوَافِضِ، وَكَانُوا فِي خِفَارَتِهِ وَجَاهِهِ، حَتَّى أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ ثُمَّ نُقِلَ إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة. وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحا شديدا، وأظهروا الشكر للَّه، فلا تجد أحدا منهم إلا بحمد الله، فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك.
وَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُ كَانَ في صغره شابا حسنا مليحا معشوقا للأكابر من الناس. قَالَ وَلِشَيْخِنَا أَبِي الْيُمْنِ الْكِنْدِيِّ فِيهِ، وَقَدْ رمدت عينه:(12/272)
بِكُلِّ صَبَاحٍ لِي وَكُلِّ عَشِيَّةٍ ... وُقُوفٌ عَلَى أَبْوَابِكُمْ وَسَلَامُ
وَقَدْ قِيلَ لِي يَشْكُو سَقَامًا بِعَيْنِهِ ... فَهَا نَحْنُ مِنْهَا نَشْتَكِي وَنُضَامُ
ثُمَّ دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: إِنَّهُ سَقَطَ عندهم ببغداد بَرَدٌ كِبَارٌ كَالنَّارَنْجِ، وَمِنْهُ مَا وَزْنُهُ سَبْعَةُ أرطال، ثم أعقب ذلك سيل عظيم، وزيادة عظيمة في دجلة، لم يعهد مثلها أصلا، فخرب أشياء كثيرة مِنَ الْعُمْرَانِ وَالْقُرَى وَالْمَزَارِعِ، حَتَّى الْقُبُورِ، وَخَرَجَ الناس إلى الصحراء، وكثر الضجيج والابتهال إلى الله حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَنَاقَصَتْ زِيَادَةُ الماء بحمد الله ومنّه، قال: وأما الموصل فإنه كان بها نحو ما كان ببغداد وَانْهَدَمَ بِالْمَاءِ نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ دَارٍ، وَاسْتُهْدِمَ بسببه مثل ذلك، وهلك تحت الردم خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ الْفُرَاتُ زَادَتْ زِيَادَةً عَظِيمَةً، فَهَلَكَ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَى، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الزُّرُوعِ والثمار، ووقع الموت في الغنم، وأصيب كَثِيرٌ مِمَّنْ أَكَلَ مِنْهَا بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا. قَالَ ابن الساعي: وفي شوال منها تَوَالَتِ الْأَمْطَارُ بِدِيَارِ بَكْرٍ وَالْمَوْصِلِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وليلة لم يروا الشمس سوى مرتين لحظتين يسيرتين، ثم تستتر بالغيوم، فتهدمت بيوت كثيرة، ومساكن على أهلها، وزادت الدجلة بسبب ذلك زيادة عظيمة، وغرق كَثِيرٌ مِنْ مَسَاكِنِ بَغْدَادَ وَالْمَوْصِلِ، ثُمَّ تَنَاقَصَ الماء باذن الله. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَجَبٍ وَصَلَ ابْنُ الشهرزوري من عند نُورِ الدِّينِ وَمَعَهُ ثِيَابٌ مِصْرِيَّةٌ، وَحِمَارَةٌ مُلَوَّنَةٌ جلدها مخطط مثل الثوب العتابى. وفيها عزل ابن الشامي عن تدريس النظامية ووليها أَبُو الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ. قَالَ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ اعْتُقِلَ الْمُجِيرُ الْفَقِيهُ وَنُسِبَ إِلَى الزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ وترك الصلاة والصوم، فغضب له ناس وزكوه وأخرج، وذكر أنه وعظ بالحدثية فاجتمع عنده قريبا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. قَالَ ابْنُ السَّاعِي: وَفِيهَا سقط أَحْمَدُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضِيءِ مِنْ قُبَّةٍ شاهقة إلى الأرض فسلم، ولكن نبت يده اليمنى وساعده الْيُسْرَى، وَانْسَلَخَ شَيْءٌ مِنْ أَنْفِهِ، وَكَانَ مَعَهُ خَادِمٌ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ نَجَاحٌ، فَلَمَّا رَأَى سَيِّدَهُ قَدْ سَقَطَ أَلْقَى هُوَ نَفْسَهُ أَيْضًا خلفه، وقال: لا حاجة لي في الحياة بَعْدَهُ، فَسَلِمَ أَيْضًا، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ النَّاصِرِ- وَهُوَ هَذَا الَّذِي قَدْ سَقَطَ- لَمْ يَنْسَهَا لِنَجَاحٍ هَذَا، فَحَكَّمَهُ فِي الدولة وأحسن إليه، وقد كانا صغيرين لما سقطا. وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ نَحْوَ بِلَادِ الرُّومِ وَفِي خِدْمَتِهِ الْجَيْشُ وَمَلِكُ الْأَرْمَنِ وَصَاحِبُ مَلَطْيَةَ، وَخَلْقٌ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَافْتَتَحَ عِدَّةً من حصونهم، وَحَاصَرَ قَلْعَةَ الرُّومِ فَصَالَحَهُ صَاحِبُهَا بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ جِزْيَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ وَقَدْ وَجَدَ النَّجَاحَ فِي كُلِّ مَا طَلَبَ، ثُمَّ أتى دمشق مسرورا محبورا. وفيها كَانَ فَتْحُ بِلَادِ الْيَمَنِ لِلْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، وكان سبب ذلك أن صلاح الدين بَلَغَهُ أَنَّ بِهَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ النبي بن مهدي، وقد تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَتَسَمَّى بِالْإِمَامِ، وزعم أنه(12/273)
سَيَمْلِكُ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَقَدْ كَانَ أَخُوهُ عَلِيُّ بن مهدي قد تغلب قبله عليها، وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي أَهْلِ زَبِيدَ، وَمَاتَ سَنَةَ ستين فملكها بعده أخوه هذا، وكل منهما كان سيء السيرة والسريرة، فعزم صَلَاحُ الدِّينِ لِكَثْرَةِ جَيْشِهِ وَقُوَّتِهِ عَلَى إِرْسَالِ سَرِيَّةٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَخُوهُ الْأَكْبَرُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ شُجَاعًا مَهِيبًا بَطَلًا وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ عُمَارَةَ اليمنى الشاعر، وكان عمارة يَنْعَتُ لَهُ بِلَادَ الْيَمَنِ وَحُسْنَهَا وَكَثْرَةَ خَيْرِهَا، فحداه ذلك على أن خرج في تلك السَّرِيَّةِ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَرَدَ مكة فَاعْتَمَرَ بِهَا ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى زَبِيدَ، فخرج إليه عبد النبي فقاتله فهزمه توران شاه، وَأَسَرَهُ وَأَسَرَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، وَكَانَتْ ذَاتَ أَمْوَالٍ جزيلة فاستقرها على أشياء جزيلة، وذخائر جليلة، ونهب الجيش زبيد، ثم توجه إلى عدن فقاتله ياسر ملكها فهزمه وَأَسَرَهُ، وَأَخَذَ الْبَلَدَ بِيَسِيرٍ مِنَ الْحِصَارِ، وَمَنَعَ الْجَيْشَ مِنْ نَهْبِهَا، وَقَالَ مَا جِئْنَا لِنُخَرِّبَ الْبِلَادَ، وَإِنَّمَا جِئْنَا لِعِمَارَتِهَا وَمُلْكِهَا، ثُمَّ سَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً عَادِلَةً فَأَحَبُّوهُ، ثُمَّ تسلم بقية الحصون والمعاقل والمخالف، وَاسْتَوْسَقَ لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ بِحَذَافِيرِهِ وَأَلْقَى إِلَيْهِ أفلاذ كبده ومطاميره، وخطب للخليفة العباسي الْمُسْتَضِيءِ، وَقَتَلَ الدَّعِيَّ الْمُسَمَّى بِعَبْدِ النَّبِيِّ، وَصَفَتِ الْيَمَنُ مِنْ أَكْدَارِهَا، وَعَادَتْ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ مِضْمَارِهَا، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ الناصر يُخْبِرُهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِذَلِكَ إِلَى نُورِ الدِّينِ، فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُبَشِّرُهُ بِفَتْحِ الْيَمَنِ وَالْخُطْبَةِ بِهَا لَهُ. وَفِيهَا خَرَجَ الْمُوَفَّقُ خَالِدُ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ أَقَامَ بِهَا الْمَلِكُ النَّاصِرُ حِسَابَ الديار المصرية وما خرج من الحواصل حسب ما رَسَمَ بِهِ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ، وقد كاد صلاح الدين لَمَّا جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ بِذَلِكَ يُظْهِرُ شَقَّ الْعَصَا ويواجه بالمخالفة والاباء، لكنه عَادَ إِلَى طِبَاعِهِ الْحَسَنَةِ وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ، وأمر بكتابة الحساب وتحرير الكتاب والجواب، فبادر إلى ذَلِكَ جَمَاعَةُ الدَّوَاوِينِ وَالْحِسَابِ وَالْكُتَّابُ، وَبَعَثَ مَعَ ابْنَ الْقَيْسَرَانِيِّ بِهَدِيَّةٍ سَنِيَّةٍ وَتُحَفٍ هَائِلَةٍ هَنِيَّةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ خَمْسُ خَتَمَاتٍ شَرِيفَاتٍ مُغَطَّاتٍ بِخُطُوطٍ مُسْتَوَيَاتٍ، وَمِائَةُ عِقْدٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَاتِ، خَارِجًا عن قطع البلخش واليواقيت، وَالْفُصُوصِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَاتِ، وَالْأَوَانِي وَالْأَبَارِيقِ وَالصِّحَافِ الذَّهَبِيَّاتِ والفضيات، والخيول المسومات، وَالْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي الْحِسَانِ وَالْحَسَنَاتِ، وَمِنَ الذَّهَبِ عَشَرَةُ صَنَادِيقَ مُقَفَّلَاتٍ مَخْتُومَاتٍ، مِمَّا لَا يُدْرَى كَمْ فيها من مئين ألوف ومئات، مِنَ الذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ الْمُعَدِّ لِلنَّفَقَاتِ. فَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمْ تَصِلْ إِلَى الشام حتى أن نور الدين مات رحمه الله رب الأرضين والسموات، فأرسل صلاح الدين من ردها إليه وأعادها عليه، وَيُقَالُ إِنَّ مِنْهَا مَا عُدِيَ عَلَيْهِ وَعَلِمَ بِذَلِكَ حِينَ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ.
مَقْتَلُ عُمَارَةَ بن أبى الحسن
ابن زَيْدَانَ الْحَكَمِيِّ مِنْ قَحْطَانَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بنجم الدين اليمنى الفقيه الشاعر الشافعيّ،(12/274)
وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاما فاتفقوا بينهم أن يردوا الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ، فَكَتَبُوا إِلَى الْفِرِنْجِ يَسْتَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِمْ، وعينوا خليفة من الْفَاطِمِيِّينَ، وَوَزِيرًا وَأُمَرَاءَ وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ بِبِلَادِ الْكَرَكِ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فَحَرَّضَ عُمَارَةُ اليمنى شمس الدولة توران شاه عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْيَمَنِ لِيَضْعُفَ بِذَلِكَ الْجَيْشُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْفِرِنْجِ، إِذَا قَدِمُوا لِنُصْرَةِ الْفَاطِمِيِّينَ، فخرج توران شاه وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ عُمَارَةُ، بَلْ أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ يُفِيضُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُدَاخِلُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ ويصافيهم، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الدُّعَاةِ إِلَيْهِ وَالْمُحَرِّضِينَ عَلَيْهِ، وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فَخَانَهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِ وَهُوَ الشَّيْخُ زين الدين على بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالئوا وتعاقدوا عليه، فَأَطْلَقَ لَهُ السُّلْطَانُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَفَاضَ عَلَيْهِ حُلَلًا جَمِيلَةً، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُمُ السُّلْطَانُ وَاحِدًا وَاحِدًا فقررهم فأقروا بِذَلِكَ، فَاعْتَقَلَهُمْ ثُمَّ اسْتَفْتَى الْفُقَهَاءَ فِي أَمْرِهِمْ فأفتوه بقتلهم، ثم عند ذلك أمر بقتل رُءُوسِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ، دُونَ أَتْبَاعِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ، وَأَمَرَ بِنَفْيِ من بقي من جيش العبيدين إِلَى أَقْصَى الْبِلَادِ، وَأَفْرَدَ ذَرِّيَّةَ الْعَاضِدِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فِي دَارٍ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ إِصْلَاحٌ ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب، وكان عمارة معاديا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان لِيَشْفَعَ فِيهِ عِنْدَهُ فَتَوَهَّمَ عُمَارَةُ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ، فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا السُّلْطَانُ لَا تَسْمَعْ منه، فغضب الْفَاضِلُ وَخَرَجَ مِنَ الْقَصْرِ، فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: إنه إنما كان يشفع فِيكَ، فَنَدِمَ نَدَمًا عَظِيمًا. وَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ ليصلب مر بدار الفاضل فَطَلَبَهُ فَتَغَيَّبَ عَنْهُ فَأَنْشَدَ:
عَبْدُ الرَّحِيمِ قَدِ احْتَجَبْ ... إِنَّ الْخَلَاصَ هُوَ الْعَجَبْ
قَالَ ابْنُ أبى طى: وكان الذين صلبوا الفضل بن الكامل الْقَاضِي، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَامِلٍ قَاضِي قُضَاةِ الدِّيَارِ المصرية زمن الفاطميين، ويلقب بفخر الأمناء، فكان أول من صلب فيما قاله العماد، وَقَدْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى فَضِيلَةٍ وَأَدَبٍ، وَلَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي غُلَامٍ رفاء
يا رافيا خرق كل ثوب ... وما رفا حُبُّهُ اعْتِقَادِي
عَسَى بِكَفِّ الْوِصَالِ تَرْفُو ... مَا مَزَّقَ الْهَجْرُ مِنْ فُؤَادِي
وَابْنَ عَبْدِ الْقَوِيٍّ دَاعَيَ الدُّعَاةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِدَفَائِنِ الْقَصْرِ فَعُوقِبَ ليدل عليها، فامتنع من ذلك فمات واندرست. والعويرس وهو ناظر الديوان، وتولى مع ذلك القضاء. وشبريا وهو كاتب السر.
وعبد الصمد الكاتب وهو أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي ومنجم نصراني كَانَ قَدْ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَتِمُّ بعلم النجوم.(12/275)
وعمارة اليمنى الشاعر
وكان عمارة شاعرا مطيقا بَلِيغًا فَصِيحًا، لَا يُلْحَقُ شَأْوُهُ فِي هَذَا الشأن، وله ديوان شعر مشهور وقد ذكرته في طبقات الشافعية لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعيّ، وله مصنف فِي الْفَرَائِضِ، وَكِتَابُ الْوُزَرَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ، وَكِتَابٌ جَمَعَ سِيرَةَ نَفِيسَةَ الَّتِي كَانَ يَعْتَقِدُهَا عَوَّامُّ مِصْرَ، وقد كان أديبا فاضلا فقيها، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى مُوَالَاةِ الْفَاطِمِيِّينَ، وَلَهُ فِيهِمْ وَفِي وُزَرَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ مَدَائِحُ كَثِيرَةٌ جدا وأقل ما كان ينسب إلى الرفض، وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العماد في الجريدة أَنَّهُ قَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
الْعِلْمُ مُذْ كَانَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَلَمِ ... وَشَفْرَةُ السَّيْفِ تَسْتَغْنِي عَنِ الْقَلَمِ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة. قال وفيها:
قَدْ كَانَ أَوَّلُ هَذَا الدِّينِ مِنْ رَجُلٍ ... سَعَى إِلَى أَنْ دَعَوْهُ سَيِّدَ الْأُمَمِ
قَالَ العماد فأفتى أهل العلم من أهل مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة به وبمثله، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَيْتُ مَعْمُولًا عليه والله أَعْلَمُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ السَّاعِي شَيْئًا مِنْ رَقِيقِ شِعْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ يَمْدَحُ بَعْضَ الملوك:
إذا قابلت بشرى جَبِينِهِ ... فَارَقْتُهُ وَالْبِشْرُ فَوْقَ جَبِينِي
وَإِذَا لَثَمْتُ يمينه وخرجت من ... بابه لثم الملوك يميني
ومن ذلك قوله:
لِي فِي هَوَى الرَّشَأِ الْعُذْرِيِّ أَعْذَارُ ... لَمْ يبق لي مدا قسر الدَّمْعُ إِنْكَارُ
لِي فِي الْقُدُودِ وَفِي لَثْمِ الْخُدُودِ ... وَفِي ضَمِّ النُّهُودِ لُبَانَاتٌ وَأَوْطَارُ
هَذَا اختياري فوافق إن رضيت به ... وإلا فدعني لما أهوى وأختار
ومما أنشده الْكِنْدِيُّ فِي عُمَارَةَ الْيَمَنِيِّ حِينَ صُلِبَ:
عُمَارَةُ في الإسلام أبدى جناية ... وَبَايَعَ فِيهَا بَيْعَةً وَصَلِيبَا
وَأَمْسَى شَرِيكَ الشِّرْكِ في بعض أحمد ... وأصبح في حب الصليب صليبا
سيلقى غدا ما كان يسعى لنفسه ... وَيُسْقَى صَدِيدًا فِي لَظًى وَصَلِيبَا
قَالَ الشَّيْخُ أبو شامة: فَالْأَوَّلُ صَلِيبُ النَّصَارَى، وَالثَّانِي بِمَعْنَى مَصْلُوبٍ، وَالثَّالِثُ بِمَعْنَى الْقَوِيِّ، وَالرَّابِعُ وَدَكُ الْعِظَامِ. وَلَمَّا صَلَبَ الملك الناصر هؤلاء يَوْمَ السَّبْتِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ مِنَ الْقَاهِرَةِ، كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ منهم وبهم مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، قَالَ الْعِمَادُ: فَوَصَلَ الْكِتَابُ بِذَلِكَ يَوْمَ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ رَحِمَهُ الله تعالى،(12/276)
وكذلك قتل صَلَاحُ الدِّينِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يُقَالُ له قديد القفاجى، كان قَدِ افْتَتَنَ بِهِ النَّاسُ، وَجَعَلُوا لَهُ جُزْءًا مِنْ أَكْسَابِهِمْ، حَتَّى النِّسَاءُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ، فَأُحِيطَ به فأراد القفاجى الخلاص ولات حين مناص، فقتل أسوة فيمن سلف، وَمِمَّا وُجِدَ مِنْ شِعْرِ عُمَارَةَ يَرْثِي الْعَاضِدَ ودولته وأيامه.
أسفى على زمان الْإِمَامِ الْعَاضِدِ ... أَسَفُ الْعَقِيمِ عَلَى فِرَاقِ الْوَاحِدِ
لَهْفِي عَلَى حُجُرَاتِ قَصْرِكَ إِذْ خَلَتْ ... يَا ابْنَ النَّبِيِّ مِنَ ازْدِحَامِ الْوَافِدِ
وَعَلَى انْفِرَادِكَ من عساكرك التي ... كانوا كأمواج الخضم الراكد
قلدت مؤتمن أَمْرَهُمْ فَكَبَا ... وَقَصَّرَ عَنْ صَلَاحِ الْفَاسِدِ
فَعَسَى الليالي أن ترد إليكم ... مَا عَوَّدَتْكُمْ مِنْ جَمِيلِ عَوَائِدِ
وَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ:
يَا عَاذِلِي فِي هَوَى أَبْنَاءِ فَاطِمَةٍ ... لَكَ الْمَلَامَةُ إِنْ قَصَّرْتَ فِي عَذْلِي
باللَّه زر ساحة القصرين وابك معى ... لا على صفين [البكا] ولا الجمل
وَقُلْ لِأَهْلِهِمَا وَاللَّهِ مَا الْتَحَمَتْ ... فَيكُمْ قُرُوحِي وَلَا جُرْحِي بِمُنْدَمِلِ
مَاذَا تَرَى كَانَتِ الْإِفْرِنْجُ فاعلة ... في نسل ابني أمير المؤمنين على
وقد أورد له الشيخ أبو شامة في الروضتين أشعارا كثيرة من مدائحه في الفاطميين، وكذا ابن خلكان.
ابن قسرول
صاحب كتاب مطالع الأنوار، وضعه على كِتَابِ مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بِلَادِهِ وَفُضَلَائِهِمُ الْمَشْهُورِينَ، مَاتَ فَجْأَةً بَعْدَ صلاة الجمعة سادس شوال منها عَنْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ والله سبحانه وتعالى أعلم.
فَصْلٌ «فِي وَفَاةِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ نُورِ الدِّينِ محمود بن زنكي بن آقسنقر التُّرْكِيِّ السَّلْجُوقِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَذِكْرُ شَيْءٍ من سيرته العادلة الْكَامِلَةِ»
هُوَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ الْمَلِكِ الْأَتَابِكِ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ عِمَادِ الدِّينِ أَبِي سَعِيدٍ زَنْكِيٍّ الْمُلَقَّبِ بِالشَّهِيدِ بن الملك آقسنقر الاتابك الملقب بقسيم الدولة التُّرْكِيُّ السَّلْجُوقِيُّ مَوْلَاهُمْ، وُلِدَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ بِحَلَبَ، وَنَشَأَ فِي كَفَالَةِ وَالِدِهِ صَاحِبِ حَلَبَ وَالْمَوْصِلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرآن(12/277)
والفروسية وَالرَّمْيَ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ جَعْبَرَ كَمَا ذَكَرْنَا، صَارَ الْمُلْكُ بِحَلَبَ إلى ابنه نور الدين هَذَا، وَأَعْطَاهُ أَخُوهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ الْمَوْصِلَ، ثم تقدم، ثم افتتح دِمَشْقَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ فَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا وَبَنَى لَهُمُ الْمَدَارِسَ وَالْمَسَاجِدَ وَالرُّبُطَ، وَوَسَّعَ لهم الطرق على المارة، وبنى عليها الرصافات ووسع الأسواق، ووضع المكوس بدار الغنم والبطيخ وَالْعَرْصَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ يُحِبُّ العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم، ويحسن إليهم، وكان يقوم فِي أَحْكَامِهِ بِالْمَعْدِلَةِ الْحَسَنَةِ، وَاتِّبَاعِ الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ، وَيَعْقِدُ مَجَالِسَ الْعَدْلِ وَيَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ، وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ في ذلك الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُفْتُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَيَجْلِسُ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ بِالْمَسْجِدِ الْمُعَلَّقِ، الَّذِي بِالْكُشْكِ، لِيَصِلَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذمة، حتى يساويهم، وَأَحَاطَ السُّورَ عَلَى حَارَةِ الْيَهُودِ، وَكَانَ خَرَابًا، وأغلق باب كسان وفتح باب الفرج، ولم يكن هناك قبله بَابٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَظْهَرَ بِبِلَادِهِ السُّنَّةَ وَأَمَاتَ الْبِدْعَةَ، وَأَمَرَ بِالتَّأْذِينِ بِحَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيِّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ بِهِمَا فِي دَوْلَتِي أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُؤَذَّنُ بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ لِأَنَّ شِعَارَ الرَّفْضِ كَانَ ظَاهِرًا بِهَا، وَأَقَامَ الْحُدُودَ وَفَتَحَ الْحُصُونَ، وَكَسَرَ الْفِرِنْجَ مرارا عديدة، وَاسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مَعَاقِلَ كَثِيرَةً مِنَ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، الَّتِي كَانُوا قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا مِنْ معاقل الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي السِّنِينَ المتقدمة، وأقطع الْعَرَبِ إِقْطَاعَاتٍ لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا لِلْحَجِيجِ، وَبَنَى بِدِمَشْقَ مارستانا لَمْ يُبْنَ فِي الشَّامِ قَبْلَهُ مِثْلُهُ وَلَا بَعْدَهُ أَيْضًا، وَوَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَنْ يُعَلِّمُ الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين وله أوقاف دارة على جميع أبواب الخير، وعلى الأرامل والمحاويج، وكان الجامع دائرا فَوَلَّى نَظَرَهُ الْقَاضِيَ كَمَالَ الدَّيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيَّ الْمَوْصِلِيَّ، الَّذِي قُدِمَ بِهِ فولاه قضاء قضاة دمشق، فَأَصْلَحَ أُمُورَهُ وَفَتَحَ الْمَشَاهِدَ الْأَرْبَعَةَ، وَقَدْ كَانَتْ حواصل الجامع بها من حين احترقت في سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَضَافَ إِلَى أَوْقَافِ الْجَامِعِ الْمَعْلُومَةِ الْأَوْقَافَ الَّتِي لَا يُعْرَفُ وَاقِفُوهَا، وَلَا يُعْرَفُ شُرُوطُهُمْ فِيهَا، وَجَعَلَهَا قَلَمًا وَاحِدًا، وسمى مال المصالح، ورتب عَلَيْهِ لِذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ وما أشبه ذلك. وقد كان رحمه الله حَسَنَ الْخَطِّ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ لِلْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، مُتَّبِعًا لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ، مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ مُحِبًّا لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، عَفِيفَ الْبَطْنِ والفرج مقتصدا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع مِنْهُ كَلِمَةُ فُحْشٍ قَطُّ، فِي غَضَبٍ وَلَا رضى، صموتا وقورا. قال ابن الأثير: لَمْ يَكُنْ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَلَا أَكْثَرُ تَحَرِّيًا للعدل والإنصاف منه، وَكَانَتْ لَهُ دَكَاكِينُ بِحِمْصَ قَدِ اشْتَرَاهَا مِمَّا يخصه من المغانم،(12/278)
فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا، ولو مات جوعا، وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد، وكان لا يلبس الحرير، وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه، وَرَكِبَ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَالشَّمْسُ فِي ظهورهما والظل بين أيديهما بَيْنَ أَيْدِيهِمَا لَا يُدْرِكَانِهِ ثُمَّ رَجَعَا فَصَارَ الظل وراءهما ثم ساق نور الدين فرسه سوقا عنيفا وظله يتبعه، فقال لصاحبه: أتدري ما شبهت هذا الّذي نحن فيه؟ شبهته بِالدُّنْيَا تَهْرُبُ مِمَّنْ يَطْلُبُهَا، وَتَطْلُبُ مَنْ يَهْرُبُ مِنْهَا، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
مثل الرزق الّذي تطلبه ... مثل الظل يمشى معك
أنت لا تدركه مستعجلا ... فَإِذَا وَلَّيْتَ عَنْهُ تَبِعَكْ
وَكَانَ فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ إِلَى أَنْ يَرْكَبَ:
جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُشُوعَ لَدَيْهِ ... مَا أحسن الشجعان فِي الْمِحْرَابِ
وَكَذَلِكَ كَانَتْ زَوْجَتُهُ عِصْمَتُ الدِّينِ خاتون بنت الاتابك معين الدين تكثر القيام في اللَّيْلِ فَنَامَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ عَنْ وِرْدِهَا فَأَصْبَحَتْ وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الّذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرا جزيلا، وجراية كثيرة
فألبس اللَّهُ هَاتِيكَ الْعِظَامَ وَإِنْ ... بَلِينَ تَحْتَ الثَّرَى عَفْوًا وَغُفْرَانَا
سَقَى ثَرًى أُودِعُوهُ رَحْمَةً مَلَأَتْ ... مَثْوَى قُبُورِهِمُ رَوْحًا وَرَيْحَانَا
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ إِذْ رَأَى رَجُلًا يُحَدِّثُ آخَرَ ويومئ إلى نور الدين، فَبَعَثَ الْحَاجِبَ لِيَسْأَلَهُ مَا شَأْنُهُ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مَعَهُ رَسُولٌ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ يزعم أن له على نور الدين حقا يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بِذَلِكَ أَلْقَى الْجُوكَانَ مِنْ يَدِهِ، وَأَقْبَلَ مَعَ خصمه ماشيا إلى القاضي الشهرزوريّ، وأرسل نور الدين إلى القاضي أَنْ لَا تُعَامِلَنِي إِلَّا مُعَامَلَةَ الْخُصُومِ، فَحِينَ وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فَلَمَّا تَبَيَّنَ ذَلِكَ قَالَ السُّلْطَانُ إِنَّمَا جِئْتُ مَعَهُ لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ عَنِ الْحُضُورِ إِلَى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ولشرعه(12/279)
فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لاحق للرجل عِنْدِي، وَمَعَ هَذَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ مَلَّكْتُهُ ذلك الّذي ادعى به ووهبته له. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ ابْتَنَى دارا للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل أربع مرات، وقيل خمس. ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره بل يصل إليه القوى والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم، وكان سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَسَدَ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بْنَ شادى كان قد عظم شأنه عند نور الدين، حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الْمَمْلَكَةِ، وَاقْتَنَى الأملاك والأموال والمزارع والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك العدل، وَكَانَ الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ يُنْصِفُ كُلَّ مَنِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ إِلَّا أَسَدَ الدِّينِ هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نُورُ الدِّينِ دَارَ الْعَدْلِ تَقَدَّمَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى نُوَّابِهِ أَنْ لَا يَدَعُوَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ ظلامة، وإن كانت عظيمة، فان زوال ماله عنده أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرَاهُ نُورُ الدِّينِ بِعَيْنِ ظَالِمٍ، أَوْ يُوقِفَهُ مَعَ خَصْمٍ مِنَ الْعَامَّةِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا جَلَسَ نُورُ الدِّينِ بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحدا يستعدى على أسد الدين، سأل الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ فَأَعْلَمَهُ بِصُورَةِ الْحَالِ، فَسَجَدَ نُورُ الدِّينِ شُكْرًا للَّه، وَقَالَ الْحَمْدُ للَّه الّذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم.
وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه، وكان حسن اللعب بالكرة وكان ربما ضَرَبَهَا ثُمَّ يَسُوقُ وَرَاءَهَا وَيَأْخُذُهَا مِنَ الْهَوَى بِيَدِهِ، ثُمَّ يَرْمِيهَا إِلَى آخِرِ الْمَيْدَانِ، وَلَمْ يُرَ جُوكَانُهُ يَعْلُو عَلَى رَأْسِهِ، وَلَا يُرَى الجو كان فِي يَدِهِ، لِأَنَّ الْكُمَّ سَاتِرٌ لَهَا، وَلَكِنَّهُ اسْتِهَانَةٌ بِلَعِبِ الْكُرَةِ، وَكَانَ شُجَاعًا صَبُورًا فِي الْحَرْبِ، يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ: قَدْ تَعَرَّضْتُ لِلشَّهَادَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يتفق لي ذلك، ولو كان في خير ولى عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنية. وقال له يوما قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ: باللَّه يَا مَوْلَانَا السُّلْطَانُ لَا تُخَاطِرْ بِنَفْسِكَ فَإِنَّكَ لَوْ قُتِلْتَ قُتِلَ جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين. فقال: له اسكت يا قطب الدين فان قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الّذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود؟ قال فبكى من كان حاضرا رحمه الله.
وَقَدْ أَسَرَ بِنَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ بَعْضَ ملوك الافرنج فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاءَ فِيهِ هَلْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَأْخُذُ ما يبذل له من المال؟ وكان قد بذل له في فداء نفسه مالا كثيرا، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ ثُمَّ حَسُنَ فِي رَأْيِهِ إِطْلَاقُهُ وأخذ الفداء منه، فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه، فجاء به سريعا فأطلقه نور الدين، فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده، فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه، وبنى من ذلك المال المارستان الّذي بدمشق، وليس له في البلاد نظير، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنَّهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ(12/280)
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْضُ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي يَعِزُّ وُجُودُهَا إِلَّا فِيهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْأَغْنِيَاءُ، ومن جاء إليه فَلَا يُمْنَعُ مِنْ شَرَابِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ وَشَرِبَ مِنْ شَرَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قُلْتُ: وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّهُ لَمْ تَخْمُدْ مِنْهُ النَّارُ مُنْذُ بُنِيَ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فاللَّه أعلم. وقد بنى الخانات الكثيرة في الطرقات وَالْأَبْرَاجَ، وَرَتَّبَ الْخُفَرَاءَ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَخُوفَةِ، وَجَعَلَ فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الأخبار في أسرع مدة، وبنى الربط والخانقات، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم، وكان يحب الصالحين، وقد نال بعض الأمراء مرة عنده من بعض الفقهاء، وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ، فَقَالَ لَهُ نُورُ الدِّينِ: وَيْحَكَ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك مَا لَيْسَ عِنْدَكَ مِمَّا يُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئَاتِ مَا ذَكَرْتَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، عَلَى أَنِّي وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُكَ، وَإِنْ عُدْتَ ذَكَرْتَهُ أَوْ أحدا غيره عندي بسوء لأوذينك، فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك. وقد ابتنى بدمشق دارا لاستماع الْحَدِيثِ وَإِسْمَاعِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى دَارَ حَدِيثٍ، وَقَدْ كَانَ مَهِيبًا وقورا شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَجْلِسُ بِلَا إِذْنٍ سِوَى الْأَمِيرِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ، وَأَمَّا أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَمَجْدُ الدِّينِ بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته فِي وَقَارٍ وَسُكُونٍ، وَإِذَا أَعْطَى أَحَدًا مِنْهُمْ شيئا مستكثرا يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ أَضْعَافُ مَا أُعْطِيهِمْ، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فَلَهُمُ الْمِنَّةُ عَلَيْنَا.
وَقَدْ سُمِّعَ عَلَيْهِ جُزْءُ حَدِيثٍ وَفِيهِ «فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ» فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم ولا يفعلون كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَ الْجُنْدَ بِأَنْ لَا يَحْمِلُوا السُّيُوفَ إِلَّا متقلديها، ثم خرج هو فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَى الْمَوْكِبِ وَهُوَ مُتَقَلِّدُ السيف وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرحمه الله.
وَقَصَّ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ مُوَفَّقُ الدِّينِ خَالِدُ بْنُ محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين، فأمره بأن يَكْتَبَ مَنَاشِيرَ بِوَضْعِ الْمُكُوسِ وَالضَّرَائِبِ عَنِ الْبِلَادِ، وقال له هذا تأويل رؤياك. وكتب إلى الناس ليكون مِنْهُمْ فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ أَخَذَ مِنْهُمْ، ويقول لهم إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذّب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم. وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى سَائِرِ مَمَالِكِهِ وَبُلْدَانِ سُلْطَانِهِ، وَأَمَرَ الْوُعَّاظَ أَنْ يَسْتَحِلُّوا لَهُ مِنَ التُّجَّارِ، وكان يقول في سجوده: اللَّهمّ ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب، وَقِيلَ إِنَّ بُرْهَانَ الدِّينِ الْبَلْخِيَّ أَنْكَرَ عَلَى الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس، وقال له مرة: كَيْفَ تُنْصَرُونَ وَفِي عَسَاكِرِكُمُ(12/281)
الْخُمُورُ وَالطُّبُولُ وَالزَّمُورُ؟ وَيُقَالُ إِنَّ سَبَبَ وَضْعِهِ المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب ابن أَبِي مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيَّ- وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، وكان هذا الرجل ليس له شيء ولا يقبل من أحد شيئا، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج إلى مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الألوف من الناس- أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له: -
مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ
إِنْ قِيلَ نُورُ الدِّينِ رُحْتَ مُسَلِّمًا ... فاحذر بأن تبقى ومالك نور
أنهيت عن شرب الخمور وأنت في ... كأس المظالم طائش مَخْمُورُ
عَطَّلْتَ كَاسَاتِ الْمُدَامِ تَعَفُّفًا ... وَعَلَيْكَ كَاسَاتُ الْحَرَامِ تَدُورُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا نُقِلْتَ إِلَى البلى ... فردا وجاءك منكر ونكير؟
ماذا تقول إذا وقفت بموقف ... فردا ذليلا والحساب عسير؟
وَتَعَلَّقَتْ فَيكَ الْخُصُومُ وَأَنْتَ فِي ... يَوْمِ الْحِسَابِ مسلسل مَجْرُورُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُودُ وَأَنْتَ فِي ... ضِيقِ القبور مُوَسَّدٌ مَقْبُورُ
وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيتَ وِلَايَةً ... يَوْمًا وَلَا قَالَ الْأَنَامُ أَمِيرُ
وَبَقِيُتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حُفَيْرَةٍ ... فِي عَالَمِ الْمَوْتَى وَأَنْتَ حقير
وحشرت عريانا حزينا باكيا ... قلقا ومالك فِي الْأَنَامِ مُجِيرُ
أَرَضِيتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارِسٌ ... عَافِي الْخَرَابِ وَجِسْمُكَ الْمَعْمُورُ
أَرَضِيتَ أَنْ يحظى سواك بقربة ... أبدا وأنت معذّب مَهْجُورُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا ... يَوْمَ المعاد ويوم تبدو العور
فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديدا، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد. وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل- وكان قد أمر الولاة والأمراء بِهَا أَنْ لَا يَفْصِلُوا بِهَا أَمْرًا حَتَّى يعلموا الملا به، فَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ شَيْءٍ امْتَثَلُوهُ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الزَّاهِدِينَ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يَسْتَقْرِضُ منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان- فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سِيَاسَةٍ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ إِلَّا بِقَتْلٍ وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء يشهد له؟ فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَشَرَعَ لَهُمْ شَرِيعَةً وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى(12/282)
فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدى، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم. فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول: انْظُرُوا إِلَى كِتَابِ الزَّاهِدِ إِلَى الْمَلِكِ، وَكِتَابِ الْمَلِكِ إِلَى الزَّاهِدِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ أَخُو الشَّيْخِ أبى البيان يستعديه على رجل أنه سبه ورماه بأنه يرائى وأنه وأنه، وجعل يبالغ في الشكاية عليه، فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) 25: 63 وقال (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) 7: 199 فسكت الشيخ ولم يحر جوابا. وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان، وأتاه زائرا مرات، ووقف عليه وقفا. وقال الفقيه أبو الفتح الأشرى مُعِيدُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ سِيرَةً مختصرة لنور الدين، قال: وكان نور الدين محافظا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فِي جَمَاعَةٍ بِتَمَامِ شروطها والقيام بها بأركانها والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا. قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ دَخَلُوا بِلَادَ الْقُدْسِ للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعهم يقولون: إن القسيم ابْنُ الْقَسِيمِ- يَعْنُونُ نُورَ الدِّينِ- لَهُ مَعَ الله سر، فإنه لم يظفر وينصر عَلَيْنَا بِكَثْرَةِ جُنْدِهِ وَجَيْشِهِ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ عَلَيْنَا وينصر بِالدُّعَاءِ وَصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَرْفَعُ يده إلى الله ويدعو فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فَيَظْفَرُ عَلَيْنَا. قَالَ: فَهَذَا كَلَامُ الْكُفَّارِ فِي حقه.
وحكى الشيخ أبو شامة أن نُورَ الدِّينِ وَقَفَ بُسْتَانَ الْمَيْدَانِ سِوَى الْغَيْضَةِ الَّتِي تَلِيهِ نِصْفَهُ عَلَى تَطْيِيبِ جَامِعِ دِمَشْقَ، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء جزءان على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنفية، والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة، وهي مسجد الصالحين بجبل قيسون وَجَامِعُ الْقَلْعَةِ، وَمَسْجِدُ عَطِيَّةَ، وَمَسْجِدُ ابْنِ لَبِيدٍ بالعسقار، ومسجد الرماحين المعلق، ومسجد العباس بالصالحية، وَمَسْجِدُ دَارِ الْبِطِّيخِ الْمُعَلَّقُ، وَالْمَسْجِدُ الَّذِي جَدَّدَهُ نُورُ الدِّينِ جِوَارَ بَيْعَةِ الْيَهُودِ، لِكُلٍّ مِنْ هذه المساجد جزء من إحدى عشر جزء من النصف. ومناقبه ومآثره كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَبْذَةً مِنْ ذَلِكَ يستدل بها على ما وراءها.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ فِي أَوَّلِ الروضتين كثيرا من محاسنه، وذكر ما مدح به من القصائد، وذكر أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ أَسَدُ الدِّينِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ ثُمَّ مَاتَ، ثُمَّ تَوَلَّى صَلَاحُ الدِّينِ هَمَّ بِعَزْلِهِ عَنْهَا وَاسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ فِيهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، ولكن يعوقه عن ذلك ويصده قتال الفرنج، واقتراب أجله، فلما كان في هذه السنة- وهي سنة تسع وستين وخمسمائة- وهي آخر مدته، أضمر على الدخول إلى الديار المصرية وصمم عليه، وأرسل إلى عساكر بلاد الموصل وغيرها ليكونوا ببلاد الشام حفظا لها من الفرنج في غيبته(12/283)
ويركب هو في جمهور الجيش إِلَى مِصْرَ، وَقَدْ خَافَ مِنْهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الأخضر القبلي وصلى فيه صلاة عيد الفطر، وكان ذلك نهار الأحد، ورمى العتق فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ الشَّمَالِيِّ، وَالْقَدَرُ يَقُولُ لَهُ: هذا آخر أعيادك، ومد في ذلك اليوم سماطا حافلا، وأمر بانتهابه، وَطَهَّرَ وَلَدَهُ الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ فِي هَذَا اليوم، وزينت له البلد، وضربت البشائر للعيد والختان، ثم ركب في يوم الاثنين وأكب على العادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم، فَحَصَلَ لَهُ غَيْظٌ مِنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ- وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ سَجِيَّتِهِ- فَبَادَرَ إِلَى الْقَلْعَةِ وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج، واشتغل بنفسه وأوجاعه، وَتَنَكَّرَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ حَوَاسِّهِ وَطِبَاعِهِ، وَاحْتَبَسَ أُسْبُوعًا عَنِ النَّاسِ، وَالنَّاسُ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِمَا هم فيه من اللعب والانشراح في الزينة التي نصبوها لأجل طهور ولده، فهذا يجود بروحه، وهذا يجود بموجودة، سرورا بذلك، فانعكست تِلْكَ الْأَفْرَاحُ بِالْأَتْرَاحِ، وَنَسَخَ الْجِدُّ ذَلِكَ الْمِزَاحَ، وَحَصَلَتْ لِلْمَلِكِ خَوَانِيقُ فِي حَلْقِهِ مَنَعَتْهُ مِنْ النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل، وبالمبادرة إلى المعالجة فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ إِلَى رَحْمَةِ الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله، وصلى عليه بجامع القلعة بدمشق، ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين، وباب الخيميين على الدرب، وقبره بها يزار، ويحلق بشباكه، ويطيب ويتبرك.
كل مار، فيقول قبر نُورُ الدِّينِ الشَّهِيدُ، لِمَا حَصَلَ لَهُ فِي حلقه من الخوانيق، وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول له القسيم ابن القسيم. وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ قَدْ أَوْرَدَهَا أبو شامة، وما أحسن ما قاله العماد:
عجبت من الموت لما أتى ... إِلَى مَلِكٍ فِي سَجَايَا مَلَكْ
وَكَيْفَ ثَوَى الفلك المستدير ... في الأرض وسط فلك
وَقَالَ حَسَّانُ الشَّاعِرُ الْمُلَقَّبُ بِالْعَرْقَلَةِ فِي مَدْرَسَةِ نور الدين لما دفن بها رحمه الله تعالى.
ومدرسة ستدرس كُلُّ شَيْءٍ ... وَتَبْقَى فِي حِمَى عِلْمٍ وَنُسْكِ
تَضَوَّعَ ذِكْرُهَا شَرْقًا وَغَرْبًا ... بِنُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي
يَقُولُ وَقَوْلُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ ... بِغَيْرِ كِنَايَةٍ وَبِغَيْرِ شَكِّ
دِمَشْقٌ فِي الْمَدَائِنِ بَيْتُ ملكي ... وهذي في المدارس بنت ملكي
صفة نُورِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
كَانَ طَوِيلَ الْقَامَةِ أَسْمَرَ اللَّوْنِ حُلْوَ الْعَيْنَيْنِ وَاسِعَ الْجَبِينِ، حَسَنَ الصُّورَةِ، تُرْكِيَّ الشَّكْلِ، لَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا فِي حَنَكِهِ، مَهِيبًا مُتَوَاضِعًا عَلَيْهِ جَلَالَةُ ونور، يعظم الإسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع(12/284)
فصل
فلما مات نُورُ الدِّينِ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ مِنْ بَعْدِهِ بِالْمُلْكِ لِوَلَدِهِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ صَغِيرًا، وَجَعَلَ أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ شَمْسَ الدِّينِ بن مقدم، فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور، وكثرت الخمور، وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئا منها، ولا من الفواحش، وانتشرت الفواحش وظهرت حَتَّى إِنَّ ابْنَ أَخِيهِ سَيْفَ الدِّينِ غَازِيَّ بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته- وَكَانَ مَحْصُورًا مِنْهُ- نَادَى مُنَادِيهِ بِالْبَلَدِ بِالْمُسَامَحَةِ باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب، ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَخِيهِ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ لَهُ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْمُنَاكِرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَلَمَّا مات مرح أَمْرُهُمْ وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَتَحَقَّقَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا فَاسْقِنِي خَمْرًا وَقُلْ لِي هِيَ الخمر ... ولا تسقني سرا وقد أَمْكَنَ الْجَهْرُ
وَطَمِعَتِ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَعَزَمَ الْفِرِنْجُ عَلَى قَصْدِ دِمَشْقَ وَانْتِزَاعِهَا مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ ابْنُ مُقَدِّمِ الْأَتَابِكِ فَوَاقَعَهُمْ عِنْدَ بَانِيَاسَ فَضَعُفَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، فَهَادَنَهُمْ مُدَّةً، وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً عَجَّلَهَا لَهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُ خَوَّفَهُمْ بِقُدُومِ الْمَلِكِ الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه. ولما بلغ ذلك صلاح الدين كَتَبَ إِلَى الْأُمَرَاءِ وَخَاصَّةً ابْنَ مُقَدَّمٍ يَلُومُهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنَ الْمُهَادَنَةِ وَدَفْعِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَهُمْ أَقَلُّ وَأَذَلُّ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ على عزم قَصْدِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ لِيَحْفَظَهَا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَرَدُّوا إِلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ غِلْظَةٌ، وَكَلَامٌ فِيهِ بَشَاعَةٌ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ مِنْهُ كَتَبُوا إِلَى سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صَاحِبَ مِصْرَ، فَلَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مَكِيدَةً مِنْهُمْ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قد هرب منه الطواشى سعد الدولة مستكين الّذي كان قد جعله الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ عَيْنًا عَلَيْهِ، وَحَافِظًا لَهُ مِنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ. فَلَمَّا مَاتَ نُورُ الدِّينِ وَنَادَى فِي الْمَوْصِلِ تِلْكَ الْمُنَادَاةَ الْقَبِيحَةَ خَافَ مِنْهُ الطَّوَاشِيُّ الْمَذْكُورُ أَنْ يُمْسِكَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ سرا، فلما تحقق غازى موت عمه بعث في إثر هذا الْخَادِمِ فَفَاتَهُ فَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ، وَدَخَلَ الطَّوَاشِيُّ حَلَبَ ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَاتَّفَقَ مَعَ الأمراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ إِلَى حَلَبَ فَيُرَبِّيَهُ هُنَالِكَ مكان ربى والده، وَتَكُونَ دِمَشْقُ مُسَلَّمَةً إِلَى الْأَتَابِكِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُقَدَّمٍ، وَالْقَلْعَةُ إِلَى الطَّوَاشِيِّ جَمَالِ الدِّينِ رَيْحَانٍ.
فَلَمَّا سَارَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ مِنْ دِمَشْقَ خرج معه الكبراء والأمراء مِنْ دِمَشْقَ إِلَى حَلَبَ، وَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحِينَ وَصَلُوا حَلَبَ جَلَسَ الصَّبِيُّ عَلَى سَرِيرِ ملكها(12/285)
وَاحْتَاطُوا عَلَى بَنِي الدَّايَةِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الدَّايَةِ أَخُو مَجْدِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ رَضِيعَ نُورِ الدِّينِ، وَإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ كَانَ شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الدَّايَةِ يَظُنُّ أَنَّ ابْنَ نُورِ الدِّينِ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ فَيُرَبِّيهِ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَخَيَّبُوا ظَنَّهُ وَسَجَنُوهُ وَإِخْوَتَهُ فِي الْجُبِّ، فَكَتَبَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْأُمَرَاءِ [يلومهم] على ما فعلوا من نَقْلِ الْوَلَدِ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى حَلَبَ، وَمِنْ حبسهم بنى الداية وهم مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَرُءُوسِ الْكُبَرَاءِ، وَلِمَ لَا يسلموا الْوَلَدَ إِلَى مَجْدِ الدِّينِ بْنِ الدَّايَةِ الَّذِي هو أحظى عِنْدَ نُورِ الدِّينِ وَعِنْدَ النَّاسِ مِنْهُمْ. فَكَتَبُوا إليه يسيئون الأدب عليه، وكل ذلك يزيده حنقا عليهم، ويحرضه على القدوم إليهم، ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْآتِيَةِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
وَالْمَشَاهِيرِ.
الْحَسَنُ بن الحسن
ابن أحمد بن محمد العطار، أبو العلاء الهمدانيّ الْحَافِظُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ إِلَى بُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، اجْتَمَعَ بِالْمَشَايِخِ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَحَصَّلَ الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ، وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ وَاللُّغَةِ، حَتَّى صَارَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ فِي عِلْمَيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الكثيرة المفيدة، وكان على طريقة حسنة سَخِيًّا عَابِدًا زَاهِدًا صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ حَسَنَ السَّمْتِ، لَهُ بِبَلَدِهِ الْمَكَانَةُ وَالْقَبُولُ التَّامُّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ ليلة الخميس الحادي عشر من جماد الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ فِي مَدِينَةٍ جَمِيعُ جُدْرَانِهَا كُتُبٌ وَحَوْلَهُ كُتُبٌ لَا تعد ولا تحصى، وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِمُطَالَعَتِهَا، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَشْغَلَنِي بِمَا كُنْتُ أشتغل به في الدنيا فأعطانى. وفيها توفى
الْأَهْوَازِيُّ
خَازِنُ كُتُبِ مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السنة.
محمود بن زنكي بن آقسنقر
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ، صَاحِبُ بِلَادِ الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهدا في الفرنج، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، محبا للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضا للظلم، صحيح الاعتقاد مؤثرا لأفعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحدا في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمنا لقيام الليل يصوم كثيرا، ويمنع نفسه عن الشهوات، وكان يحب التيسير على المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله وبل ثراه بالرحمة والرضوان. قال ابن الجوزي: استرجع نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ مَدِينَةً، وقد كان يكاتبني وأكاتبه، قال: ولما(12/286)
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى الْأُمَرَاءِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ- يَعْنِي الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ- وَجَدَّدَ الْعَهْدَ مَعَ صَاحِبِ طَرَابُلُسَ أَنْ لَا يُغِيرَ عَلَى الشام في المدة التي كان ماده فيها، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسَرَهُ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ وَأَسَرَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ دَوْلَتِهِ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِمِائَةِ حصان وخمسمائة وردية ومثلها برانس، أي لبوس، وَقَنْطُورِيَّاتٌ وَخَمْسِمِائَةِ أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَاهَدَهُ أَنْ لا يغير على بلاد المسلمين لمدة سبعة سِنِينَ وَسَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ رهائن على ذلك مائة من أولاده وأولاد أَكَابِرِ الْفِرِنْجِ وَبَطَارِقَتِهِمْ، فَإِنْ نَكَثَ أَرَاقَ دِمَاءَهُمْ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ اللَّهُ، فَوَافَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هذه السنة، والأعمال بالنيات، فحصل له أجر ما نوى، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَهَذَا مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الجوزي ومعناه.
الخضر بن نصر
على بْنِ نَصْرٍ الْإِرْبِلِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَوَّلُ مَنْ دَرَّسَ بِإِرْبِلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا، انْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ، وَكَانَ قَدِ اشْتَغَلَ عَلَى إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ وَغَيْرِهِ بِبَغْدَادَ، وقدم دمشق فأرخه ابن عساكر في هذه السنة، وترجمه ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ، وَقَالَ قَبْرُهُ يُزَارُ، وقد زرته غير مرة، ورأيت الناس ينتابون قبره ويتبركون به، وهذا الّذي قاله ابن خلكان مما ينكره أهل العلم عليه وعلى أمثاله ممن يعظم القبور. وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ مُرِّيٌّ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَأَظُنُّهُ مَلَكَ عَسْقَلَانَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ كَانَ قَارَبَ أَنْ يَمْلِكَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبعين وخمسمائة
اسْتُهِلَّتْ [هَذِهِ السَّنَةُ] وَالسُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدين بْنُ أَيُّوبَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى بلاد الشام لأجل حفظه من الفرنج، ولكن دَهَمَهُ أَمْرٌ شَغَلَهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِمُوا إِلَى السَّاحِلِ الْمِصْرِيِّ فِي أُسْطُولٍ لَمْ يسمع بمثله، وكثرة مراكب وآلات من الحرب والحصار والمقاتلة، من جملة ذلك مائتي شِينِيٍّ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا، وَأَرْبَعُمِائَةِ قِطْعَةٍ أُخْرَى، وَكَانَ قُدُومُهُمْ مِنْ صِقِلِّيَةَ إِلَى ظَاهِرِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ قَبْلَ رَأْسِ السَّنَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَنَصَبُوا الْمَنْجَنِيقَاتِ وَالدَّبَّابَاتِ حَوْلَ الْبَلَدِ، وَبَرَزَ إليهم أهلها فقاتلوهم دونها قتالا شديدا أَيَّامًا، وَقُتِلَ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ اتفق أهل البلد على حريق المنجانيق وَالدَّبَّابَاتِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَأَضْعَفَ ذَلِكَ قُلُوبَ الْفِرِنْجِ، ثم كبسهم المسلمون فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَغَنِمُوا مِنْهُمْ مَا أَرَادُوا، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ إِلَّا الْبَحْرُ أَوِ الْقَتْلُ أَوِ الأسر، واستحوذ المسلمون على أموالهم وعلى خيولهم وخيامهم، وبالجملة قتلوا خلقا من الرجال وركب من بقي منهم في أسطول إِلَى بِلَادِهِمْ خَائِبِينَ.
وَمِمَّا عَوَّقَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ عَنِ الشَّامِ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا يُعْرَفُ بِالْكَنْزِ سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ عَبَّاسَ بْنَ شَادِيٍّ(12/287)
وكان من مقدمي الديار المصرية والدولة الفاطمية، كان قد استند إلى بلد يقال له أَسْوَانَ، وَجَعَلَ يَجْمَعُ عَلَيْهِ النَّاسَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خلق كثير من الرعاع من الحاضرة والغربان والرعيان، وكان يزعم إليهم أَنَّهُ سَيُعِيدُ الدَّوْلَةَ الْفَاطِمِيَّةَ، وَيَدْحَضُ الْأَتَابِكَةَ التُّرْكِيَّةَ، فالتف عليه خلق كثير، ثم قصدوا قُوصَ وَأَعْمَالَهَا، وَقَتَلَ طَائِفَةً مِنْ أُمَرَائِهَا وَرِجَالِهَا، فجرد إليه صلاح الدين طائفة من الجيش وأمر عليهم أخاه الملك العادل أَبَا بَكْرٍ الْكُرْدِيَّ، فَلَمَّا الْتَقَيَا هَزَمَهُ أَبُو بكر وأسر أهله وقتله.
فصل
فلما تمهدت البلاد ولم يبق بها رأس من الدَّوْلَةِ الْعُبَيْدِيَّةِ، بَرَزَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ فِي الْجُيُوشِ التُّرْكِيَّةِ قَاصِدًا الْبِلَادَ الشَّامِيَّةَ، وَذَلِكَ حِينَ مَاتَ سُلْطَانُهَا نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيِّ وَأُخِيفَ سُكَّانُهَا وَتَضَعْضَعَتْ أَرْكَانُهَا، واختلف حكامها، وفسد نقضها وإبرامها، وقصده جَمْعُ شَمْلِهَا وَالْإِحْسَانُ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَمْنُ سَهْلِهَا وَجَبَلِهَا، وَنُصْرَةُ الْإِسْلَامِ وَدَفْعُ الطَّغَامِ وَإِظْهَارُ الْقُرَآنِ وإخفاء سائر الأديان، وتكسير الصلبان في رضى الرحمن، وإرغام الشيطان. فنزل الْبِرْكَةِ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى اجتمع عليه العسكر واستناب على مصر أخاه أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلْبِيسَ فِي الثالث عشر من ربيع الأول، فَدَخَلَ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَلْخَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ، وَلَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ سَيْفَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَائِبَهَا شَمْسَ الدِّينِ بْنَ مُقَدَّمٍ كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَوَّلًا فَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْكِتَابِ، فَلَمَّا رَأَى أَمْرَهُ مُتَوَجِّهًا جَعَلَ يُكَاتِبُهُ وَيَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْقُدُومِ إِلَى دِمَشْقَ، وَيَعِدُهُ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ، فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُخَالَفَةُ، فَسَلَّمَ الْبَلَدَ إِلَيْهِ بِلَا مُدَافَعَةٍ، فَنَزَلَ السُّلْطَانُ أَوَّلًا فِي دَارِ والده دار العقيلي التي بناها الملك الظاهر بيبرس مدرسة، وجاء أعيان البلد للسلام عليه فرأوا منه غاية الإحسان، وكان نائب القلعة إذ ذاك الطواشى ريحان، فكاتبه وأجزل نواله حتى سلمها إليه، ثم نزل إليه فأكرمه واحترمه، ثم أظهر السلطان أَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِ نُورِ الدِّينِ، لِمَا لِنُورِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِحْسَانِ الْمَتِينِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَطَبَ لِنُورِ الدِّينِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ثم إن السلطان عَامَلَ النَّاسَ بِالْإِحْسَانِ وَأَمَرَ بِإِبْطَالِ مَا أُحْدِثَ بعد نور الدين من المكوس والضرائب، وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وللَّه عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
فَصْلٌ
فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ لَهُ دِمَشْقُ بِحَذَافِيرِهَا نَهَضَ إِلَى حَلَبَ مُسْرِعًا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّخْبِيطِ وَالتَّخْلِيطِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ أَخَاهُ طُغْتِكِينَ بْنَ أَيُّوبَ الْمُلَقَّبَ بِسَيْفِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا اجْتَازَ حمص أخذ ربضها(12/288)
ولم يشتغل بقلعتها، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَمَاةَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ صَاحِبِهَا عز الدين بن جبريل، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُونَ سَفِيرَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَلَبِيِّينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ صلاح الدين فلم يلتفتوا إليه، بل أمروا بسجنه واعتقاله، فأبطأ الجواب على السلطان، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا بَلِيغًا يَلُومُهُمْ فِيهِ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَعَدَمِ الِائْتِلَافِ، فردوا عليه أسوأ جواب، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ أَيَّامَهُ وَأَيَّامَ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فِي خِدْمَةِ نُورِ الدِّينِ فِي الْمَوَاقِفِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي يَشْهَدُ لَهُمْ بِهَا أَهْلُ الدِّينِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ فَنَزَلَ عَلَى جَبَلِ جَوْشَنَ، ثم نودي فِي أَهْلِ حَلَبَ بِالْحُضُورِ فِي مَيْدَانِ بَابِ الْعِرَاقِ، فَاجْتَمَعُوا فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَتَوَدَّدَ إِلَيْهِمْ وَتَبَاكَى لَدَيْهِمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى قِتَالِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ، فَأَجَابَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ عَلَى كل أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بحي عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأَنْ يُذْكَرَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي الْجَامِعِ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ، وَأَنْ يُذْكَرَ أَسْمَاءُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَنَائِزِ، وَأَنْ يُكَبِّرُوا عَلَى الْجِنَازَةِ خَمْسًا، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبى طاهر بن أبى المكارم حمزة بن زاهر الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله، فأذن بالجامع وسائر البلد بحي عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَعَجَزَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَنْ مقاومة الناصر، وأعملوا في كيده كل خاطر، فأرسلوا أولا إلى شيبان صاحب الحسبة فَأَرْسَلَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى النَّاصِرِ لِيَقْتُلُوهُ فلم يظفر مِنْهُ بِشَيْءٍ، بَلْ قَتَلُوا بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم، فَرَاسَلُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْقُومَصَ صَاحِبَ طَرَابُلُسَ الْفِرِنْجيَّ، وَوَعَدُوهُ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ إِنْ هُوَ رَحَّلَ عَنْهُمُ النَّاصِرَ، وَكَانَ هَذَا الْقُومَصُ قَدْ أَسَرَهُ نُورُ الدِّينِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ عِنْدَهُ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ افْتَدَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفِ أسير من المسلمين، وكان لا ينساها لنور الدين، بل قصد لحمص ليأخذها فركب إليه السلطان الناصر، وقد أرسل السلطان إلى بلده طرابلس سرية فقتلوا وأسروا وغنموا، فلما اقترب الناصر منه نكص على عقبيه رَاجِعًا إِلَى بَلَدِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَجَابَهُمْ إلى ما أرادوا منه، فلما فصل الناصر إِلَى حِمْصَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَ قَلْعَتَهَا فتصدى لأخذها، فنصب عليها المنجنيقات فأخذها قسرا وملكها قَهْرًا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى حَلَبَ، فَأَنَالَهُ الله في هذه الكرّة ما طلب، فلما نزل بها كتب إِلَيْهِمُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ كِتَابًا بليغا فصيحا فائقا رائقا، عَلَى يَدَيِ الْخَطِيبِ شَمْسِ الدِّينِ يَقُولُ فِيهِ: «فإذا قضى التسليم حق اللقاء فاستدعى الإخلاص جهد الدعا، فليعد وليعد حوادث ما كان حديثا يفترى، وحواري أُمُورٍ إِنْ قَالَ فِيهَا كَثِيرًا فَأَكْثَرُ مِنْهُ ما قد جرى، ويشرح صدر منها لعله يشرح منها صدرا، وليوضح الأحوال المستبشرة فان الله لا يعبد سرا.
ومن العجائب أَنْ تَسِيرَ غَرَائِبٌ ... فِي الْأَرْضِ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْمَأْمُولُ
كَالْعِيسِ أَقْتَلُ مَا يَكُونُ لَهَا الصَّدَى ... وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ(12/289)
فَإِنَّا كُنَّا نَقْتَبِسُ النَّارَ بِأَكُفِّنَا، وَغَيْرُنَا يَسْتَنِيرُ، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير، ونلتقي السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، والأبدان تسترد بضاعتنا بموقف العدل الّذي يرد به المغصوب ونظهر طاعتنا فتأخذ بحظ كما أخذ بِحَظِّ الْقُلُوبِ، وَكَانَ أَوَّلَ أَمْرِنَا أَنَّا كُنَّا في الشام نفتح الفتوح بمباشرتنا أنفسنا، وَنُجَاهِدُ الْكَفَّارَ مُتَقَدِّمِينَ بِعَسَاكِرِنَا، نَحْنُ وَوَالِدُنَا وَعَمُّنَا، فأى مدينة فتحت أو أي معقل للعدو أو عسكر أو مصاف للإسلام معه ضرب؟ فَمَا يَجْهَلُ أَحَدٌ صُنْعَنَا، وَلَا يَجْحَدُ عَدُوُّنَا أن يصطلى الجمرة ونملك الكرة، ونقدم الْجَمَاعَةَ وَنُرَتِّبُ الْمُقَاتِلَةَ، وَنُدَبِّرُ التَّعْبِئَةَ، إِلَى أَنْ ظَهَرَتْ فِي الشَّامِ الْآثَارُ الَّتِي لَنَا أَجْرُهَا، وَلَا يَضُرُّنَا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِنَا ذِكْرُهَا» ثُمَّ ذَكَرَ مَا صَنَعُوا بِمِصْرَ مِنْ كَسْرِ الْكُفْرِ وإزالة المنكر وقمع الفرنج وهدم البدع، وما بسط من العدل ونشر مِنَ الْفَضْلِ، وَمَا أَقَامَهُ مِنَ الْخُطَبِ الْعَبَّاسِيَّةِ ببلاد مصر والدين وَالنُّوبَةِ وَإِفْرِيقِيَّةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِكَلَامٍ بَسِيطٍ حَسَنٍ.
فَلَمَّا وَصَلَهُمُ الْكِتَابُ أَسَاءُوا الْجَوَابَ، وَقَدْ كَانُوا كَاتَبُوا صَاحِبَ الْمَوْصِلِ سَيْفَ الدِّينِ غَازِيَّ بْنَ مَوْدُودٍ أَخِي نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ فِي عَسَاكِرِهِ، وأقبل إليهم في دساكره، وانضاف إِلَيْهِمُ الْحَلَبِيُّونَ وَقَصَدُوا حَمَاةَ فِي غَيْبَةِ النَّاصِرِ وَاشْتِغَالِهِ بِقَلْعَةِ حِمْصَ وَعِمَارَتِهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبُرُهُمْ سَارَ إِلَيْهِمْ فِي قُلٍّ مِنَ الْجَيْشِ، فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ، فَوَاقَفُوهُ وَطَمِعُوا فِيهِ لِقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ، وَهَمُّوا بِمُنَاجَزَتِهِ فَجَعَلَ يُدَارِيهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُصَالَحَةِ لَعَلَّ الْجَيْشَ يَلْحَقُونَهُ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: أَنَا أَقْنَعُ بِدِمَشْقَ وَحَدَهَا وَأُقِيمُ بِهَا الْخُطْبَةَ لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَتْرُكُ مَا عَدَاهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْمُصَالَحَةِ الْخَادِمُ سَعْدُ الدولة كُمُشْتِكِينَ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الرَّحْبَةَ الَّتِي هِيَ بِيَدِ ابْنِ عَمِّهِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ، فَقَالَ لَيْسَ لِي ذَلِكَ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأَبَوُا الصُّلْحَ وَأَقْدَمُوا عَلَى الْقِتَالِ، فَجَعَلَ جَيْشَهُ كُرْدُوسًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ عِنْدَ قُرُونِ حَمَاةَ، وصبر صبرا عظيما، وجاء فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عمر بن شاهنشاه ومعه أخوه فروخ شاه فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ دَسْتُهُ عَلَيْهِمْ، وَخَلَصَ رُعْبُهُ إِلَيْهِمْ، فَوَلَّوْا هُنَالِكَ هَارِبِينَ، وَتَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، فَأُسَرَ مَنْ أُسِرَ مِنْ رُءُوسِهِمْ، وَنَادَى أَنْ لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يَذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ ثُمَّ أَطْلَقَ مَنْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ وَسَارَ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى حَلَبَ، وَقَدِ انْعَكَسَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ وَآلَوْا إِلَى شَرِّ مَآلٍ فَبِالْأَمْسِ كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمُصَالَحَةَ وَالْمُسَالَمَةَ، وَهُمُ الْيَوْمَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ وَيَرْجِعَ، على أن المعرة وكفر طاب وماردين لَهُ زِيَادَةً عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ أَرَاضِي حماه وحمص، فَقَبِلَ ذَلِكَ وَكَفَّ عَنْهُمْ وَحَلَفَ عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَ بَعْدَهَا الْمَلِكَ الصَّالِحَ، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُ عَلَى سَائِرِ مَنَابِرِ بِلَادِهِ، وَشَفَعَ فِي بنى الداية أخوه مجد الدين، على أن يخرجوا، ففعل ذلك ثم رجع مؤيدا منصورا.
فَلَمَّا كَانَ بِحَمَاةَ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ المستضيء بأمر الله بالخلع السنية والتشريفات العباسية(12/290)
والأعلام السود، والتوقيع مِنَ الدِّيوَانِ بِالسَّلْطَنَةِ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَأُفِيضَتِ الخلع على أهله وأقاربه وأصحابه وأعوانه، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَاسْتَنَابَ عَلَى حَمَاةَ ابْنَ خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمود، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ فَأَطْلَقَهَا إِلَى ابْنِ عَمِّهِ نَاصِرِ الدِّينِ، كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلِهِ لأبيه شيركوه أسد الدين، ثم بعلبكّ على البقاع إلى دمشق في ذي القعدة.
وفيها ظهر رجل من قرية مشغرى مِنْ مُعَامَلَةِ دِمَشْقَ وَكَانَ مَغْرِبِيًّا فَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وأظهر شيئا من المخاريق والمحاييل والشعبذة والأبواب النارنجية، فافتتن به طوائف من الهمج والعوام، فتطلبه السلطان فهرب إلى معاملة حلب، فالف عَلَيْهِ كُلُّ مَقْطُوعِ الذَّنَبِ، وَأَضَلَّ خَلْقًا مِنَ الفلاحين، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أَحَبَّهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ البطائح فَعَلَّمَهَا أَنِ ادَّعَتِ النُّبُوَّةَ، فَأَشْبَهَا قِصَّةَ مُسَيْلِمَةَ وسجاح. وَفِيهَا هَرَبَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ وَنُهِبَتْ دَارُهُ. وَفِيهَا درس أبو الفرج ابن الْجَوْزِيِّ بِمَدْرَسَةٍ أُنْشِئَتْ لِلْحَنَابِلَةِ فَحَضَرَ عِنْدَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ وَالْفُقَهَاءُ وَالْكُبَرَاءُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَخُلِعَتْ عَلَيْهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
رَوْحُ بْنُ أَحْمَدَ
أبو طالب الحدثنى قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَكَانَ ابنه في أرض الْحِجَازِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ أَبِيهِ مَرِضَ بَعْدَهُ فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَكَانَ يُنْبَذُ بِالرَّفْضِ.
شُمْلَةُ التُّرْكُمَانِيُّ
كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ وَاسْتَحْدَثَ قِلَاعًا وَتَغَلَّبَ عَلَى السَّلْجُوقِيَّةِ، وَانْتَظَمَ لَهُ الدست نحوا من عشرين سنة، ثم حاربه بعض التركمان فقتلوه.
قيماز بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قُطْبُ الدِّينِ الْمُسْتَنْجَدِيُّ، وَزَرَ للخليفة المستضيء، وكان مقدما على العساكر كلها، ثم خَرَجَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَقَصَدَ أَنْ يَنْهَبَ دَارَ الْخِلَافَةِ فَصَعِدَ الْخَلِيفَةُ فَوْقَ سَطْحٍ فِي دَارِهِ وأمر العامة بنهب دار قيماز، فَنُهِبَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِفْتَاءِ الْفُقَهَاءِ، فَهَرَبَ فَهَلَكَ هو ومن مَعَهُ فِي الْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وسبعين وخمسمائة
فِيهَا طَلَبَ الْفِرِنْجُ مِنَ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ وهو مقيم بمرج الصُّفَّرِ أَنْ يُهَادِنَهُمْ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الشام كان مجدبا، وَأَرْسَلَ جَيْشَهُ صُحْبَةَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيَسْتَغِلُّوا الْمُغَلَّ ثُمَّ يُقْبِلُوا، وَعَزَمَ هُوَ عَلَى الْمُقَامِ بِالشَّامِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى كَاتِبِهِ الْعِمَادِ عوضا عن القاضي، ولم يكن أحد أعز عليه منه:
وما عن رضى كانت سليمى بديلة ... ولكن للضرورات أحكام(12/291)
وكانت إقامة السلطان بالشام وَإِرْسَالُ الْجَيْشِ صُحْبَةَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ غَايَةَ الْحَزْمِ والتدبير، لِيَحْفَظَ مَا اسْتَجَدَّ مِنَ الْمَمَالِكِ خَوْفًا عَلَيْهِ مما هُنَالِكَ، فَلَمَّا أَرْسَلَ الْجُيُوشَ إِلَى مِصْرَ وَبَقِيَ هو في طائفة يسيرة والله قد تكفل له بِالنَّصْرِ، كَتَبَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ ابْنُ أَخِي نُورِ الدِّينِ إِلَى جَمَاعَةِ الْحَلَبِيِّينَ يلومهم على ما وقع بينهم وبين الناصر مِنَ الْمُصَالَحَةِ، وَقَدْ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَشْغُولًا بمحاربة أخيه ومحاصرته، وهو عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ بِسِنْجَارَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِفِعْلَةٍ صَالِحَةٍ، وَمَا كَانَ سَبَبُ قِتَالِهِ لِأَخِيهِ إِلَّا لكونه أبى طاعة الملك الناصر، فَاصْطَلَحَ مَعَ أَخِيهِ حِينَ عَرَفَ قُوَّةَ النَّاصِرِ وناصريه، ثم حرض الحلبيين على نقض العهود ونبذها إليه، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ بِالْعُهُودِ الَّتِي عَاهَدُوهُ عَلَيْهَا وَدَعَوْهُ إِلَيْهَا، فَاسْتَعَانَ عَلَيْهِمْ باللَّه وَأَرْسَلَ إِلَى الْجُيُوشِ المصرية ليقدموا عليه، فأقبل صاحب الموصل بعساكره وَدَسَاكِرِهِ، وَاجْتَمَعَ بِابْنِ عَمِّهِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَارَ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ على الخيول المضمرة الْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ، وَسَارَ نَحْوَهُمُ النَّاصِرُ وَهُوَ كَالْهِزَبْرِ الْكَاسِرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ مِنَ الْحُمَاةِ، وكم مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، ولكن الجيوش المصرية قد خرجوا إليه قاصدين، وله ناصرين في جحافل كالجبال، فاجتمع الفريقان وتداعوا إلى النزال، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعَاشِرِ مِنْ شَوَّالٍ فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى حمل الملك الناصر بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، وَكَانَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْحَلَبِيِّينَ وَالْمَوَاصِلَةِ، وَأَخَذُوا مَضَارِبَ الْمَلِكِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ وَحَوَاصِلَهُ، وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنْ رءوسهم فأطلقهم الناصر بعد ما أَفَاضَ الْخِلَعَ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا اسْتَعَانُوا بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي حَالِ الْقِتَالِ، وهذا ليس من أفعال الْأَبْطَالِ، وَقَدْ وَجَدَ السُّلْطَانُ فِي مُخَيَّمِ السُّلْطَانِ غازى سبتا من الأقفاص التي فيها الطيور والمطربة، وَذَلِكَ فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ الْمُسْكِرِ، وَكَيْفَ مَنْ هذا حاله ومسلكه يَنْتَصِرُ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ وَتَسْيِيرِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ قُلْ لَهُ بَعْدَ وُصُولِكَ إِلَيْهِ وَسَلَامِكَ عَلَيْهِ: اشْتِغَالُكَ بِهَذِهِ الطُّيُورِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مما وقعت فيه من المحذور، وغنم منهم شيئا كثيرا ففرقه على أصحابه غيبا وحضورا، وأنعم بخيمة سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ عِزِّ الدين فروخ شاه بْنِ نَجْمِ الدِّينِ، وَرَدَّ مَا كَانَ فِي وِطَاقِهِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْمُغَنِّيَاتِ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ أكثر من مائة مغنية، ورد آلات اللهو واللعب إلى حلب، وقال قولوا لهم هذه أحب إليكم من الركوع والسجود، وَوَجَدَ عَسْكَرَ الْمَوَاصِلَةِ كَالْحَانَةِ مِنْ كَثْرَةِ الْخُمُورِ والبرابط والملاهي، وهذه سبيل كل فاسق ساه لاهى.
فصل
فلما رجعت الجيوش إِلَى حَلَبَ وَقَدِ انْقَلَبُوا شَرَّ مُنْقَلَبٍ، وَنَدِمُوا على ما نقضوا من الايمان، وَشَقِّهِمُ الْعَصَا عَلَى السُّلْطَانِ، حَصَّنُوا الْبَلَدَ، خَوْفًا من الْأَسَدِ، وَأَسْرَعَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ فَوَصَلَهَا، وَمَا صَدَّقَ حتى(12/292)
دخلها، فلما فرغ الناصر مما غنم أسرع المسير إلى حلب وهو في غاية القوة، فوجدهم قد حصنوها، فقال الْمَصْلَحَةِ أَنْ نُبَادِرَ إِلَى فَتْحِ الْحُصُونِ الَّتِي حَوْلَ الْبَلَدِ، ثُمَّ نَعُودَ إِلَيْهِمْ فَلَا يَمْتَنِعُ علينا منهم أحد، فشرع يفتحها حصنا حصنا، ويهدم أركان دولتهم ركنا ركنا، ففتح مراغة ومنبج ثم سار إلى إعزاز فأرسل الحلبيون إلى سنان فأرسل جماعة لقتل السلطان، فدخل جماعة مِنْهُمْ فِي جَيْشِهِ فِي زِيِّ الْجُنْدِ فَقَاتَلُوا أشد القتال، حتى اختلطوا بهم فوجدوا ذات يوم فرصة وَالسُّلْطَانُ ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا هُوَ مُحْتَرِسٌ مِنْهُمْ بِاللَّأْمَةِ، فَسَلَّمَهُ اللَّهُ، غَيْرَ أَنَّ السِّكِّينَ مَرَّتْ عَلَى خَدِّهِ فَجَرَحَتْهُ جُرْحًا هَيِّنًا، ثُمَّ أخذ الفداوى رأس السلطان فوضعه إلى الْأَرْضِ لِيَذْبَحَهُ، وَمَنْ حَوْلَهُ قَدْ أَخَذَتْهُمْ دَهْشَةٌ، ثُمَّ ثَابَ إِلَيْهِمْ عَقْلُهُمْ فَبَادَرُوا إِلَى الْفِدَاوِيِّ فقتلوه وقطعوه، ثم هجم عليه آخر في الساعة الراهنة فَقُتِلَ، ثُمَّ هَجَمَ آخَرُ عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ فقتل أيضا، ثم هرب الرَّابِعُ فَأُدْرِكَ فَقُتِلَ، وَبَطَلَ الْقِتَالُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، ثم صمم السلطان على البلد ففتحها وأقطعها ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بْنِ أَيُّوبَ، وَقَدِ اشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَى أَهْلِ حلب. لما أرسلوا إليه من الفداوية وإقدامهم على ذلك منه، فَجَاءَ فَنَزَلَ تُجَاهَ الْبَلَدِ عَلَى جَبَلِ جَوْشَنَ، وَضُرِبَتْ خَيْمَتُهُ عَلَى رَأْسِ الْبَادُوقِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي خَامِسَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنَ الْقُرَى، وَمَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ شيء أو يخرج منه أحد، واستمر محاصرا لها حَتَّى انْسَلَخَتِ السَّنَةُ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هذه السنة عاد نور الدولة أخو السلطان من بلاد اليمن إلى أخيه شوقا إليه، وقد حصل أموالا جزيلة، ففرح به السلطان، فلما اجتمعا قال السلطان البر التقى: أنا يوسف وهذا أخى، وقد استناب على بلاد اليمن من ذوى قرابته، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَخِيهِ اسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَقِيلَ إِنَّ قُدُومَهُ كَانَ قَبْلَ وَقْعَةِ الْمَوَاصِلَةِ، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، لشجاعته وفروسيته. وفيها أنفذ تقى الدين عمر بن أخى الناصر مملوكه بهاء الدين قراقوش في جيشه إلى بلاد المغرب ففتح بلادا كثيرة، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ. وفيها قدم إلى دمشق أبو الفتوح الواعظ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَلِّدٍ التَّنُوخِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الْأَصْلُ، الْبَغْدَادِيُّ الْمَنْشَأُ، ذَكَرَهُ العماد في الجريدة. قَالَ: وَكَانَ صَاحِبِي، وَجَلَسَ لِلْوَعْظِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مُقَطِّعَاتِ أَشْعَارٍ، فمن ذلك ما كان يقول:
يَا مَالِكًا مُهْجَتِي يَا مُنْتَهَى أَمَلِي ... يَا حَاضِرًا شَاهِدًا فِي الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ
خَلَقْتَنِي مِنْ تُرَابٍ أَنْتَ خَالِقُهُ ... حَتَّى إِذَا صِرْتُ تِمْثَالًا مِنَ الصُّوَرِ
أَجْرَيْتَ فِي قَالِبِي رُوحًا مُنَوَّرَةً ... تمر فيه كجرى الماء في الشجر
جمعتني من صَفَا رُوحٍ مُنَوَّرَةٍ ... وَهَيْكَلٍ صُغْتَهُ مِنْ مَعْدِنٍ كدر(12/293)
إِنْ غِبْتُ فِيكَ فَيَا فَخْرِي وَيَا شَرَفِي ... وإن حضرت فيا سمعي ويا بصرى
أو احْتَجَبْتَ فَسِرِّي فِيكَ فِي وَلَهٍ ... وَإِنْ خَطَرْتَ فَقَلْبِي مِنْكَ فِي خَطَرِ
تَبْدُو فَتَمْحُو رُسُومِي ثم تثبتها ... وإن تغيب عنى عشت بالأثر
وفيها توفى من الأعيان
الحافظ أبو القاسم ابن عَسَاكِرَ.
عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ
ابن عَسَاكِرَ أَبُو الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيُّ، أَحَدُ أَكَابِرِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَمَنْ عُنِيَ بِهِ سَمَاعًا وَجَمْعًا وَتَصْنِيفًا وَاطِّلَاعًا وَحِفْظًا لِأَسَانِيدِهِ وَمُتُونِهِ، وَإِتْقَانًا لِأَسَالِيبِهِ وَفُنُونِهِ، صَنَّفَ تَارِيخَ الشَّامِ فِي ثَمَانِينَ مُجَلَّدَةً، فَهِيَ باقية بعده مخلدة، وقد ندر عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَأَتْعَبَ مَنْ يأتى بعده من المتأخرين، فحاز فيه قصب السبق، ومن نظر فيه وتأمله رأى ما وصفه فيه وأصله، وحكم بأنه فريد دهره، في التواريخ، وأنه الذروة العليا من الشماريخ، هذا مع ماله في علوم الحديث من الكتب المفيدة، وما هو مشتمل عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالطَّرَائِقِ الْحَمِيدَةِ، فَلَهُ أَطْرَافُ الكتب الستة، والشيوخ النبل، وتبيين كَذِبِ الْمُفْتَرِي عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَسْفَارِ، وَقَدْ أَكْثَرَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنَ التِّرْحَالِ والأسفار، وجاز الْمُدُنَ وَالْأَقَالِيمَ وَالْأَمْصَارَ، وَجَمَعَ مِنَ الْكُتُبِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ نَسْخًا وَاسْتِنْسَاخًا، ومقابلة وتصحيح الألفاظ، وكان من أكابر سروات الدَّمَاشِقَةِ، وَرِيَاسَتُهُ فِيهِمْ عَالِيَةٌ بَاسِقَةٌ، مِنْ ذَوِي الأقدار والهيئات، والأموال الجزيلة، والصلاة والهبات، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْحَادِي عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ، وله من العمر ثنتان وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ جِنَازَتَهُ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَلَهُ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ منها:
أَيَا نَفْسُ وَيْحَكِ جَاءَ الْمَشِيبُ ... فَمَاذَا التَّصَابِي وَمَاذَا الْغَزَلْ؟
تَوَلَّى شَبَابِي كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ... وَجَاءَ الْمَشِيبُ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ
كَأَنِّي بِنَفْسِي عَلَى غِرَّةٍ ... وَخَطْبُ الْمَنُونِ بِهَا قَدْ نَزَلْ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِيَ مِمَّنْ أَكُونُ ... وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ لِي فِي الْأَزَلْ
قَالَ: وَقَدِ الْتَزَمَ فيها بما لم يلزم وهو الزاى مع اللَّامِ. قَالَ: وَكَانَ أَخُوهُ صَائِنُ الدِّينِ هِبَةُ الله ابن الْحَسَنِ مُحَدِّثًا فَقِيهًا، اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ عَلَى أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ، وَتُوفِّيَ بها عن ثلاث وستين سنة.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة
استهلت هذه السنة والناصر محاصر حلب، فَسَأَلُوهُ وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أن(12/294)
تكون حلب وأعمالها للملك الصالح فقط، فكتبوا بذلك الكتاب، فلما كان المساء بعث السلطان الصالح إسماعيل يطلب منه زيادة قلعة إعزاز، وَأَرْسَلَ بِأُخْتٍ لَهُ صَغِيرَةٍ وَهِيَ الْخَاتُونُ بِنْتُ نور الدين ليكون ذلك أدعى له بقبول السؤال، وأنجع في حصول النوال، فحين رآها السلطان قام قائما، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَأَجَابَهَا إِلَى سُؤَالِهَا، وَأَطْلَقَ لَهَا من الجواهر والتحف شيئا كثيرا، ثم ترحل عن حلب فقصد الفداوية الذين اعتدوا عليه فحاصر حصنهم مصبات فقتل وسبى وحرق وأخذ بقارهم وخرب ديارهم، ثم شَفَعَ فِيهِمْ خَالُهُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تتش صاحب حماه، لأنهم جيرانه، فقبل شفاعته، وأحضر إِلَيْهِ نَائِبُ بَعْلَبَكَّ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بن الملك مُقَدَّمٍ، الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ، جَمَاعَةً مِنْ أسارى الفرنج الذين عاثوا في البقاع في غيبته، فجدد ذلك له الغزو في الفرنج، فصالح الفداوية الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ أَصْحَابَ سِنَانٍ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى دمشق فتلقاه أخوه شمس الدولة. توران شاه، فلقبه الملك المعظم، وعزم الناصر على دخول مصر، وكان القاضي كمال الدين محمد الشهرزوريّ قد توفى في السادس من الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَخَصِّ النَّاسِ بِنُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ، فَوَّضَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْجَامِعِ وَدَارَ الضَّرْبِ وَعِمَارَةَ الْأَسْوَارِ وَالنَّظَرَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى بِالْقَضَاءِ لِابْنِ أَخِيهِ ضِيَاءِ الدِّينِ بن تاج الدين الشهرزوريّ، مع أنه كان يجد عليه، لما كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِينَ كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ سجنه بِدِمَشْقَ، وَكَانَ يُعَاكِسُهُ وَيُخَالِفُهُ، وَمَعَ هَذَا أَمْضَى وَصِيَّتَهُ لِابْنِ أَخِيهِ، فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ على عادة عمه وقاعدته، وَبَقِيَ فِي نَفْسِ السُّلْطَانِ مِنْ تَوْلِيَةِ شَرَفِ الدين أبى سعيد عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ الْحَلَبِيِّ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ إِلَى السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ فَوَعْدَهُ أن يوليه قضاءها، وأسر بذلك إلى القاضي الفاضل، فأشار الْفَاضِلُ عَلَى الضِّيَاءِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ مِنْ الْقَضَاءِ فَاسْتَعْفَى فَأُعْفِيَ، وَتُرِكَ لَهُ وَكَالَةُ بَيْتِ الْمَالِ، وَوَلَّى السُّلْطَانُ ابْنَ أَبِي عَصْرُونَ عَلَى أَنْ يستنيب القاضي محيي الدين أبى المعالي محمد بن زكى الدين، ففعل ذلك، ثم بعد ذلك اسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ مُحْيِي الدِّينِ أَبُو حَامِدِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ شَرَفِ الدِّينِ، بسبب ضعف بصره.
وفي صفر منها وقف السلطان النَّاصِرُ قَرْيَةَ حَزْمٍ عَلَى الزَّاوِيَةِ الْغَزَّالِيَّةِ، وَمَنْ يشتغل بها بالعلوم الشرعية، وما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْفَقِيهُ، وَجَعَلَ النَّظَرَ لِقُطْبِ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيِّ مُدَرِّسِهَا. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ الملك الناصر بِالسِّتِّ خَاتُونَ عِصْمَةِ الدِّينِ بِنْتِ مُعِينِ الدِّينِ أنر، وكانت زوجة نور الدين محمود، وكانت مقيمة بالقلعة، وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ أَخُوهَا الْأَمِيرُ سَعْدُ الدِّينِ بن أنر، وحضر القاضي ابن عَصْرُونَ الْعَقْدَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعُدُولِ، وَبَاتَ النَّاصِرُ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ سافر إلى مصر بعد يومين، ركب يوم الجمعة قبل الصلاة فنزل مرج الصفر، ثم سافر فعشا قريبا من الصفين، ثم سار فدخل مصر يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هذه السنة، وتلقاه(12/295)
أخوه ونائبة عليها الْمَلِكُ الْعَادِلُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عِنْدَ بَحْرِ الْقُلْزُمِ، وَمَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا شَيْءٌ كثير من المآكل المتنوعة وغيرها، وَكَانَ فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ، وَلَمْ يكن ورد الديار المصرية قبل ذلك، فجعل يَذْكُرُ مَحَاسِنَهَا وَمَا اخْتُصَّتْ بِهِ مِنْ بَيْنِ البلدان، وذكر الاهرام وَشَبَّهَهُمَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّشْبِيهَاتِ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ حَسْبَ مَا ذَكَرَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ.
وَفِي شَعْبَانَ منها ركب الناصر إلى الاسكندرية فأسمع ولديه الفاضل على وَالْعَزِيزَ عُثْمَانَ عَلَى الْحَافِظِ السَّلَفِيِّ، وَتَرَدَّدَ بِهِمَا إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ رَابِعَ رمضان، وعزم الناصر على تمام الصِّيَامِ بِهَا، وَقَدْ كَمَّلَ عِمَارَةَ السُّورِ عَلَى الْبَلَدِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْأُسْطُولِ وَإِصْلَاحِ مَرَاكِبِهِ وَسُفُنِهِ وشحنه بالمقاتلة وَأَمَرَهُمْ بِغَزْوِ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، وَأَقْطَعَهُمُ الْإِقْطَاعَاتِ الْجَزِيلَةَ على ذلك، وأرصد للاسطول مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ شُئُونِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي أَثْنَاءِ رَمَضَانَ فأكمل صومه.
وفيها أمر الناصر ببناء مدرسة للشافعية على قبر الشَّافِعِيِّ، وَجَعَلَ الشَّيْخَ نَجْمَ الدِّينِ الْخُبُوشَانِيَّ مُدَرِّسَهَا وَنَاظِرَهَا. وَفِيهَا أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَارَسْتَانِ بِالْقَاهِرَةِ وَوَقَفَ عليه وقوفا كثيرة. وفيها بنى الأمير مجاهد الدين قيماز نَائِبُ قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ جَامِعًا حَسَنًا وَرِبَاطًا وَمَدْرَسَةً ومارستانا متجاورات بظاهر الْمَوْصِلِ وَقَدْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وتسعين وخمسمائة رحمه الله. وله عدة مدارس وخوانقات وَجَوَامِعَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ دَيِّنًا خَيِّرًا فَاضِلًا حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، يُذَاكِرُ فِي الْأَدَبِ وَالْأَشْعَارِ والفقه، كثير الصيام وقيام الليل. وفيها أمر الخليفة بإخراج المجذومين من بغداد لناحية مِنْهَا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ أَهْلِ الْعَافِيَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ العافية. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ عَنِ امْرَأَةٍ قَالَتْ: كُنْتُ أَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَكَأَنَّ رَجُلًا يُعَارِضُنِي كُلَّمَا مَرَرْتُ بِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى هَذَا الَّذِي تَرُومُهُ مِنِّي إلا بكتاب وشهود، فَتَزَوَّجَنِي عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَمَكَثْتُ مَعَهُ مُدَّةً ثُمَّ اعتراه انتفاخ ببطنه فكنا نظن أنه اسْتِسْقَاءً فَنُدَاوِيهِ لِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَلَدَ وَلَدًا كَمَا تَلِدُ النِّسَاءُ، وَإِذَا هُوَ خنثى مشكل، وهذا من أغرب الأشياء.
وفيها توفى من الأعيان
على بن عساكر
ابن المرحب بن العوام أبو الحسن البطائحي المقري اللُّغَوِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بالنحو واللغة، ووقف كتبه بمسجد ابن جرارة ببغداد، توفى في شعبان وقد نيف على الثمانين
محمد بن عبد الله
ابن الْقَاسِمِ أَبُو الْفَضْلِ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ، كَمَالُ الدَّيْنِ الشَّهْرُزُورِيُّ، الْمَوْصِلِيُّ، وَلَهُ بِهَا مَدْرَسَةٌ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ، وَأُخْرَى بِنَصِيبِينَ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا أَمِينًا ثقة، ولى القضاء بدمشق لنور الدين الشهيد مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ، وَاسْتَوْزَرَهُ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ السَّاعِي. قَالَ وَكَانَ يَبْعَثُهُ فِي الرَّسَائِلِ، كتب(12/296)
مرة على قِصَّةٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّسُولُ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ تَحْتَ ذَلِكَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: وَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ نور الدين نظر الجامع ودار الضرب والأسوار، وعمر له المارستان والمدارس وغير ذلك وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بدمشق.
الخطيب شمس الدين
ابن الوزير أبو الضياء خَطِيبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَابْنُ وَزِيرِهَا، كَانَ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ بِدِيَارِ مِصْرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ الله العباسي، بأمر الملك صلاح الدين، ثُمَّ حَظِيَ عِنْدَهُ حَتَّى جَعَلَهُ سَفِيرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ، وَكَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا كَرِيمًا ممدحا، يقرأ عليه الشعراء والأدباء. ثم جعل الناصر مكانه الشهرزوريّ المتقدم بمرسوم السلطان، وصارت وَظِيفَةً مُقَرَّرَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وخمسمائة
فيها أمر الملك الناصر ببناء قلعة الجبل وإحاطة السور على القاهرة ومصر، فعمر قَلْعَةٌ لِلْمَلِكِ لَمْ يَكُنْ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِثْلُهَا وَلَا عَلَى شَكْلِهَا، وَوَلِيَ عِمَارَةَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ مَمْلُوكُ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الرَّمْلَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي جُمَادَى الْأُولَى منها سار السلطان الناصر صلاح الدين مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا غَزْوَ الْفِرِنْجِ، فَانْتَهَى إِلَى بلاد الرملة فسبى وغنم، ثُمَّ تَشَاغَلَ جَيْشُهُ بِالْغَنَائِمِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْقُرَى والمحال، وبقي هو فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ مُنْفَرِدًا فَهَجَمَتْ عَلَيْهِ الْفِرِنْجُ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ فَمَا سَلِمَ إلا بعد جهد جهيد، ثم تراجع الجيش إليه وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَوَقَعَتِ الْأَرَاجِيفُ فِي الناس بسبب ذلك، وما صدق أهل مصر حتى نظروا إليه وَصَارَ الْأَمْرُ كَمَا قِيلَ رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ وَمَعَ هَذَا دَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي الْبُلْدَانِ فرحا بسلامة السلطان، ولم تجر هَذِهِ الْوَقْعَةِ إِلَّا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، وَذَلِكَ يوم حطين، وَقَدْ ثَبَتَ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ثَبَاتًا عَظِيمًا، وَأَسَرَ لِلْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بن أَخِي السُّلْطَانِ وَلَدُهُ شَاهِنْشَاهْ، فَبَقِيَ عِنْدَهُمْ سَبْعَ سنين، وقتل ابنه الا حر، وَكَانَ شَابًّا قَدْ طَرَّ شَارِبُهُ، فَحَزِنَ عَلَى الْمَقْتُولِ وَالْمَفْقُودِ، وَصَبَرَ تَأَسِّيًا بِأَيُّوبَ، وَنَاحَ كَمَا نَاحَ دَاوُدُ، وَأُسِرَ الْفَقِيهَانِ الْأَخَوَانِ ضِيَاءُ الدِّينِ عيسى وظهير الدين فافتداهما السلطان بعد سنتين بتسعين ألف دينار.
وفيها تخبطت دولة حلب وَقَبَضَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُورِ الدِّينِ عَلَى الْخَادِمِ كُمُشْتِكِينَ، وَأَلْزَمَهُ بِتَسْلِيمِ قَلْعَةِ حَارِمٍ، وَكَانَتْ لَهُ، فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ فَعَلَّقَهُ مَنْكُوسًا وَدَخَّنَ تَحْتَ أَنْفِهِ حَتَّى مَاتَ مِنْ ساعته. وَفِيهَا جَاءَ مَلِكٌ كَبِيرٌ مِنْ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ يَرُومُ أَخْذَ الشَّامِ لِغَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِ نُوَّابِهِ ببلدانهم. قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَمِنْ شَرْطِ هُدْنَةِ الْفِرِنْجِ أَنَّهُ مَتَى جَاءَ مَلِكٌ كَبِيرٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ لا يمكنهم دفعه أنهم يُقَاتِلُونَ مَعَهُ وَيُؤَازِرُونَهُ وَيَنْصُرُونَهُ، فَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهُمْ عَادَتِ الْهُدْنَةُ كَمَا كَانَتْ، فَقَصَدَ(12/297)
هذا الملك وجملة الفرنج مَدِينَةَ حَمَاةَ وَصَاحِبُهَا شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ خَالُ السُّلْطَانِ مَرِيضٌ، وَنَائِبُ دِمَشْقَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الأمراء مشغولون ببلدانهم، فَكَادُوا يَأْخُذُونَ الْبَلَدَ وَلَكِنْ هَزَمَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَانْصَرَفُوا إِلَى حَارِمٍ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِهَا وَكَشْفَهُمْ عَنْهَا الْمَلِكُ الصَّالِحُ صَاحِبُ حلب، وقد دفع إليهم من الأموال والأسراء ما طلبوه منه وتوفى صاحب حماه شهاب الدين محمود خال السلطان الناصر، وتوفى قبله ولده تتش بثلاثة أيام، وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ بِنُزُولِ الْفِرِنْجِ عَلَى حَارِمٍ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ، فدخل دمشق في رابع عشر شَوَّالٍ، وَصُحْبَتُهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ، وَتَأَخَّرَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ بمصر لأجل الحج.
وفيها جاء كتاب القاضي الفاضل الناصر يهنئه بوجود مولود وَهُوَ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ، وَبِهِ كَمَلَ لَهُ اثنى عَشَرَ ذَكَرًا، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ بَعْدَهُ عِدَّةُ أولاد ذكور، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَابْنَةٍ صَغِيرَةٍ اسْمُهَا مُؤْنِسَةُ، الَّتِي تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا الْمَلِكُ الْكَامِلُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَادِلِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا جَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْعَامَّةِ بِبَغْدَادَ، بسبب أن مؤذنا أذن عند كنيسة فنال منه بعض اليهود بكلام أغلظ له فيه، فَشَتَمَهُ الْمُسْلِمُ فَاقْتَتَلَا، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ يَشْتَكِي مِنْهُ إلى الديوان، فتفاقم الحال، وكثرت العوام، وأكثروا الضجيج، فلما حان وقت الجمعة منعت العامة الخطباء فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ، وَخَرَجُوا مِنْ فَوْرِهِمْ فَنَهَبُوا سُوقَ الْعَطَّارِينَ الَّذِي فِيهِ الْيَهُودُ، وَذَهَبُوا إِلَى كَنِيسَةِ الْيَهُودِ فَنَهَبُوهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الشُّرَطُ مِنْ رَدِّهِمْ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِصَلْبِ بَعْضِ الْعَامَّةِ، فَأَخْرَجَ فِي اللَّيْلِ جَمَاعَةً مِنَ الشُّطَّارِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْحُبُوسِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فَصُلِبُوا، فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ هَذَا كَانَ بسبب هذه الكائنة، فسكن الناس. وفيها خرج الوزير الْخَلِيفَةِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ قَاصِدًا الْحَجَّ، وَخَرَجَ النَّاسُ فِي خِدْمَتِهِ لِيُوَدِّعُوهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ فِي صُورَةِ فُقَرَاءَ وَمَعَهُمْ قِصَصٌ، فَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ لِيُنَاوِلَهُ قصة فاعتنقه وضربه بالسكين ضربات، وهجم الثاني وكذلك الثالث عليه فَهَبَرُوهُ وَجَرَحُوا جَمَاعَةً حَوْلَهُ، وَقُتِلَ الثَّلَاثَةُ مِنْ فورهم، ورجع الوزير إلى منزله محمولا فمات من يَوْمِهِ، وَهَذَا الْوَزِيرُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ وَلَدَيِ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَأَعْدَمَهُمَا، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، جَزَاءً وِفَاقًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
صَدَقَةُ بْنُ الحسين
أبو الفرج الْحَدَّادِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى، وقال الشعر وقال في الكلام، وله تاريخ ذيل عَلَى شَيْخِهِ ابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَفِيهِ غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ. قال ابْنُ السَّاعِي: كَانَ شَيْخًا عَالِمًا فَاضِلًا وَكَانَ فَقِيرًا يَأْكُلُ مِنْ أُجْرَةِ النَّسْخِ، وَكَانَ يَأْوِي إِلَى مَسْجِدٍ بِبَغْدَادَ عِنْدَ الْبَدْرِيَّةِ يَؤُمُّ فِيهِ، وكان يعتب(12/298)
عَلَى الزَّمَانِ وَبَنِيهِ، وَرَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ يَذُمُّهُ وَيَرْمِيهِ بِالْعَظَائِمِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ مَا فِيهِ مُشَابَهَةٌ لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ فِي الزندقة فاللَّه أعلم. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وسبعين سنة، ودفن بباب حرب، ورئيت لَهُ مَنَامَاتٌ غَيْرُ صَالِحَةٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ في الدنيا والآخرة.
مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مَنْصُورٍ الْعَطَّارُ، الْمَعْرُوفُ بِحَفَدَةَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَفَقَّهَ وَنَاظَرَ وأفتى ودرس، وقدم بغداد فمات بها
محمود بن تتش شِهَابُ الدِّينِ الْحَارِمِيُّ
خَالُ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، كان من خيار الأمراء وشجعانهم، أقطعه ابن أخته حماه، وقد حاصره الفرنج وهو مريض فأخذوا حماه وقتلوا بعض أهلها، ثم تناخى أهلها فردوهم خائبين.
فاطمة بنت نصر الْعَطَّارِ
كَانَتْ مِنْ سَادَاتِ النِّسَاءِ، وَهِيَ مِنْ سلالة أخت صاحب المخزن، كانت مِنَ الْعَابِدَاتِ الْمُتَوَرِّعَاتِ الْمُخَدَّرَاتِ، يُقَالُ إِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مَنْزِلِهَا سِوَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهَا الْخَلِيفَةُ وَغَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وخمسمائة
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ مِنْ مصر إلى الناصر وهو بالشام يهنيه بسلامة أولاده الملوك الاثني عشر، يقول: وهم بحمد الله بهجة الحياة وزينتها، وريحانة القلوب والأرواح وزهرتها، إن فُؤَادًا وَسِعَ فِرَاقَهُمْ لَوَاسِعٌ، وَإِنَّ قَلْبًا قَنِعَ بِأَخْبَارِهِمْ لَقَانِعٌ، وَإِنَّ طَرَفًا نَامَ عَنِ الْبُعْدِ عنهم لهاجع، وإن ملكا ملك صبره عَنْهُمْ لَحَازِمٌ، وَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ لَنِعْمَةٌ بِهَا الْعَيْشُ نَاعِمٌ، أَمَا يَشْتَاقُ جِيدُ الْمَوْلَى أن تطوق بدرهم؟ أما تظمأ عينه أن تروى بنظرهم؟ أما يحن قلبه للقيهم؟ أما يلتقط هذا الطائر بفتيلهم؟ وَلِلْمَوْلَى أَبْقَاهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ:
وَمَا مِثْلُ هذا الشوق يحمل بعضه ... وَلَكِنَّ قَلْبِي فِي الْهَوَى يَتَقَلَّبُ
وَفِيهَا أَسْقَطَ صَلَاحُ الدِّينِ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ عَنِ الْحُجَّاجِ بِمَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ حُجَّاجِ الْغَرْبِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ حُبِسَ فَرُبَّمَا فاته الوقوف بعرفة، وعوض أمير مكة بمال أقطعه إياه بمصر، وَأَنْ يُحْمَلَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةُ آلاف أردب إِلَى مَكَّةَ، لِيَكُونَ عَوْنًا لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، وَرِفْقًا بالمجاورين، وقررت للمجاورين أيضا غلات تحمل إليهم رحمه الله. وَفِيهَا عَصَى الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُقَدَّمٍ بِبَعْلَبَكَّ، وَلَمْ يَجِئْ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ نازل على حِمْصَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَخَا السُّلْطَانِ توران شاه طلب بعلبكّ منه فَأَطْلَقَهَا لَهُ، فَامْتَنَعَ ابْنُ الْمُقَدَّمِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا حَتَّى جَاءَ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ فَحَصَرَهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، ثُمَّ عَوَّضَ ابْنَ الْمُقَدَّمِ عَنْهَا بِتَعْوِيضٍ كَثِيرٍ خَيْرٍ مِمَّا كَانَ بِيَدِهِ، فخرج منها وتسلمها وسلمها توران شاه. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِسَبَبِ(12/299)
قِلَّةِ الْمَطَرِ، عَمَّ الْعِرَاقَ وَالشَّامَ وَدِيَارَ مِصْرَ، وَاسْتَمَرَّ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَجَاءَ الْمَطَرُ ورخصت الأسعار ثم عقب ذلك وباء شديد، وعم البلاد مرض آخر وَهُوَ السِّرْسَامُ، فَمَا ارْتَفَعَ إِلَّا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، فَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وأمم لا يعلم عددهم إلا الله. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا وَصَلَتْ خُلَعُ الْخَلِيفَةِ إِلَى الملك صلاح الدين وهو بدمشق، وَزِيدَ فِي أَلْقَابِهِ مُعِزُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَلَعَ على أخيه توران شاه وَلُقِّبَ بِمُصْطَفَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِيهَا جَهَّزَ النَّاصِرُ ابن أخيه فروخ شاه بن شاهنشاه بين يديه لقتال الفرنج الذين عاثوا في نواحي دمشق، فنهبوا ما حولها، وَأَمْرَهُ أَنْ يُدَارِيَهُمْ حَتَّى يَتَوَسَّطُوا الْبِلَادَ وَلَا يقاتلهم حتى يقدم عليه، فلما رأوه عَاجَلُوهُ بِالْقِتَالِ فَكَسَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْ مُلُوكِهِمْ صَاحِبَ النَّاصِرَةِ الْهَنْفَرِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ مُلُوكِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، لَا يُنَهْنِهُهُ اللِّقَاءَ، فَكَبَتَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الغزوة، ثم ركب الناصر فِي إِثْرِ ابْنِ أَخِيهِ فَمَا وَصَلَ إِلَى الْكُسْوَةِ حَتَّى تَلَقَّتْهُ الرُّءُوسُ عَلَى الرِّمَاحِ، وَالْغَنَائِمُ والأسارى. وفيها بنت الفرنج قلعة عند بيت الأحزان للداوية فجعلوها مرصد الحرب المسلمين، وقطع طريقهم، وَنَقَضَتْ مُلُوكُهُمُ الْعُهُودَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَغَارُوا عَلَى نَوَاحِي الْبُلْدَانِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِيَشْغَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ، وَتَفَرَّقَتْ جُيُوشُهُمْ فَلَا تَجْتَمِعُ فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَرَتَّبَ السُّلْطَانُ ابن أخيه عمر على حماه ومعه ابن مُقَدَّمٍ وَسَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ بنواحي البقاع وغيرها، وَبِثَغْرِ حِمْصَ ابْنَ عَمِّهِ نَاصِرَ الدِّينِ بْنَ أسد الدين شيركوه، وبعث إلى أخيه الملك أبى بكر العادل تائبه بِمِصْرَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ يَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَكَتَبَ إِلَى الْفِرِنْجِ يَأْمُرُهُمْ بِتَخْرِيبِ هَذَا الْحِصْنِ الَّذِي بَنَوْهُ لِلدَّاوِيَةِ فَامْتَنَعُوا إِلَّا أَنْ يَبْذُلَ لَهُمْ مَا غَرِمُوهُ عَلَيْهِ، فَبَذَلَ لَهُمْ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ فلم يقبلوا، ثم أوصلهم إلى مائة ألف دينار، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ: ابذل هذا إلى أجناد الْمُسْلِمِينَ وَسِرْ إِلَى هَذَا الْحِصْنِ فَخَرِّبْهُ، فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ وَخَرَّبَهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ كما سنذكره.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ بِكِتَابَةِ لَوْحٍ عَلَى قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِيهِ آيَةُ الكرسي، وبعدها هذا قبر تاج السنة وحبر الْأُمَّةِ الْعَالِي الْهِمَّةِ الْعَالِمِ الْعَابِدِ الْفَقِيهِ الزَّاهِدِ، وذكروا تَارِيخَ وَفَاتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا احْتِيطَ ببغداد على شاعر ينشد للروافض أشعارا في ثلب الصحابة وسبهم، وتهجين من يحبهم، فعقد له مجلس بأمر الخليفة ثم أستنطق فإذا هو رافضي خبيث داعية إليه، فَأَفْتَى الْفُقَهَاءُ بِقَطْعِ لِسَانِهِ وَيَدَيْهِ، فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَطَفَتْهُ الْعَامَّةُ فَمَا زَالُوا يَرْمُونَهُ بِالْآجُرِّ حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي دِجْلَةَ فَاسْتَخْرَجُوهُ منها فقتلوه حتى مات، فأخذوا شريطا وربطوه في رجله وجروه على وجهه حتى طافوا به البلد وجميع الأسواق، ثم ألقوه في بعض الاتونة مع الآجر والكاس، وعجز الشرط عن تخليصه منهم(12/300)
وفيها توفى من الأعيان
أسعد بن بلدرك الجبريلى
سمع الحديث وكان شيخا ظريف المذاكرة جيد المبادرة، توفى عن مائة سنة وأربع سنين.
الْحَيْصَ بَيْصَ
سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ [الملقب] شهاب الدين، أبو الفوارس المعروف بحيص بيص، له ديوان شعر مشهور، توفى يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ التِّبْنِ، وَلَمْ يُعْقِبْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمُرَاسَلَاتِ بَدِيلٌ، كَانَ يَتَقَعَّرُ فِيهَا وَيَتَفَاصَحُ جِدًّا، فَلَا تُوَاتِيهِ إِلَّا وَهِيَ مُعَجْرَفَةٌ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَسُئِلَ أَبُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَا سَمِعْتُهُ إِلَّا مِنْهُ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ يَهْجُوهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ:
كم تبادى وكم تطيل طرطورك ... وما فيك شعرة من تميم
فكل الضب وأقرط الحنظل اليابس ... واشرب ان شئت يول الظليم
فليس ذا وجه من يضيف ولا يقرى ... وَلَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ حَرِيمِ
وَمِنْ شِعْرِ الْحَيْصَ بَيْصَ الْجَيِّدِ:
سَلَامَةُ الْمَرْءِ سَاعَةً عَجَبُ ... وَكُلُّ شَيْءٍ لِحَتْفِهِ سَبَبُ
يَفِرُّ وَالْحَادِثَاتُ تَطْلُبُهُ ... يفر منها ونحوها الهرب
وكيف يَبْقَى عَلَى تَقَلُّبِهِ ... مُسَلَّمًا مَنْ حَيَاتُهُ الْعَطَبُ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
لَا تَلْبَسِ الدَّهْرَ عَلَى غِرَّةٍ ... فَمَا لِمَوْتِ الْحَيِّ مِنْ بُدِّ
وَلَا يخادعك طول البقا ... فتحسب التطويل من خلد
يقرب ما كان آخرا ... مَا أَقْرَبَ الْمَهْدَ مِنَ اللَّحْدِ
وَيَقْرُبُ مِنْ هذا ما ذكره صاحب العقد أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي عِقْدِهِ:
أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا غُضَارَةُ أَيْكَةٍ ... إِذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ
وَمَا الدَّهْرُ وَالْآمَالُ إِلَّا فَجَائِعٌ ... عَلَيْهَا وَمَا اللَّذَّاتُ إِلَّا مَصَائِبُ
فَلَا تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ مِنْهَا بِعَبْرَةٍ ... عَلَى ذَاهِبٍ مِنْهَا فَإِنَّكَ ذَاهِبُ
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ حَيْصَ بَيْصَ هَذَا فِي ذَيْلِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَسَمَّعَ عَلَيْهِ دِيوَانَهُ وَرَسَائِلَهُ، وَأَثْنَى عَلَى رَسَائِلِهِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ، وَقَالَ: كَانَ فِيهِ تِيهٌ وَتَعَاظُمٌ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا مُعْرِبًا، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، وَاشْتَغَلَ بِالْخِلَافِ وَعِلْمِ النَّظَرِ، ثُمَّ تَشَاغَلَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالشِّعْرِ، وَكَانَ مَنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِأَشْعَارِ الْعَرَبِ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ. قَالَ: وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْحَيْصَ بَيْصَ، لِأَنَّهُ رَأَى النَّاسَ فِي حَرَكَةٍ(12/301)
وَاخْتِلَاطٍ، فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ فِي حَيْصَ بَيْصَ، أي في شر وهرج، فغلب عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ طَبِيبِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَتْرُكْ عَقِبًا. كَانَتْ لَهُ حَوَالَةٌ بِالْحِلَّةِ فَذَهَبَ يتقاضاها فتوفى ببغداد في هذه السنة.
محمد بن نسيم
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَيَّاطُ، عَتِيقُ الرَّئِيسِ أَبِي الفضل بن عبسون، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ، سَقَطَ مِنْ دَرَجَةٍ فمات. قال: أنشدنى مولى الدين يعنى ابن علام الحكيم بن عبسون.
للقارئ المحزون أَجْدَرُ بِالتُّقَى ... مِنْ رَاهِبٍ فِي دَيْرِهِ مُتَقَوِّسِ
وَمُرَاقِبُ الْأَفِلَاكِ كَانَتْ نَفْسُهُ ... بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ أَحْرَى الْأَنْفُسِ
وَالْمَاسِحُ الْأَرْضِينَ وَهْيَ فَسِيحَةٌ ... أَوْلَى بِمَسْحٍ فِي أَكُفِّ اللُّمَّسِ
أَوْلَى بِخَشْيَةِ رَبِّهِ مِنْ جاهل ... بمثلث ومربع ومخمس
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ عُيُونٍ اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السنة والسلطان صلاح الدين الناصر نَازِلٌ بِجَيْشِهِ عَلَى تَلِّ الْقَاضِي بِبَانِيَاسَ، ثُمَّ قصده الفرنج بجمعهم فنهض إليهم فما هو إلا أن التقى الفريقان واصطدم الجندان، فأنزل الله نصره وأعز جنده، فولت ألوية الصلبان ذاهبة وخيل الله لركابهم راكبة، فقتل منهم خلق كثير، وَأُسِرَ مِنْ مُلُوكِهِمْ جَمَاعَةٌ، وَأَنَابُوا إِلَى السَّمْعِ والطاعة، منهم مقدم الداوية ومقدم الابسباتارية وَصَاحِبُ الرَّمْلَةِ وَصَاحِبُ طَبَرِيِّةَ وَقَسْطَلَانُ يَافَا وَآخَرُونَ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَخَلْقٌ مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَأَبْطَالِهِمْ، وَمِنْ فرسان القدس جماعة كثيرون تقريبا من ثلاثمائة أسير من أشرافهم، فصاروا يهانون في القيود. قال العماد: فَاسْتَعْرَضَهُمُ السُّلْطَانُ فِي اللَّيْلِ حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ، وصلى يومئذ الصبح بوضوء العشاء، وكان جالسا ليلتئذ في نحو العشرين والفرنج كثير، فسلمه الله مِنْهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى دِمَشْقَ لِيُعْتَقَلُوا بِقَلْعَتِهَا، فافتدى ابن البارزانى صاحب الرملة نفسه بِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ صُورِيَّةٍ، وَإِطْلَاقِ أَلْفِ أَسِيرٍ مِنْ بِلَادِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وافتدى جماعة منهم أنفسهم بأموال جزيلة، ومنهم من مات في السجن، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي ظَفِرَ فِيهِ السلطان بالفرنج بمرج عيون، ظهر أسطول المسلمين على بطشة لِلْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ وَأُخْرَى مَعَهَا فَغَنِمُوا مِنْهَا أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ السَّبْيِ، وَعَادَ إِلَى السَّاحِلِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَقَدِ امْتَدَحَ الشُّعَرَاءُ السُّلْطَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِمَدَائِحَ كَثِيرَةٍ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ إِلَى بغداد فدقت البشائر بها فرحا وسرورا، وَكَانَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ غَائِبًا عن هذه الوقعة مشتغلا بما هو أعظم منها، وذلك أن ملك الروم قرارسلان بعث يطلب حصن رعنان، وَزَعَمَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ، وَأَنَّ ولده قد عصى، فلم يجبه إلى ذلك السلطان، فَبَعَثَ صَاحِبُ الرُّومِ(12/302)
عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ يُحَاصِرُونَهُ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ فِي ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ مِنْهُمْ سَيْفُ الدين على بن أحمد المشطوب، فالتقوا معهم فهزموهم باذن الله، واستقرت يد صلاح الدين على حصن رعنان، وقد كان مما عوض به ابن مقدم عَنْ بَعْلَبَكَّ، وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ يَفْتَخِرُ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ هَزَمَ عِشْرِينَ ألفا، وقيل ثلاثين ألفا بثمانمائة، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّتَهُمْ وَأَغَارَ عليهم، فما لبثوا بَلْ فَرُّوا مُنْهَزِمِينَ عَنْ آخِرِهِمْ، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى جَمِيعِ مَا تَرَكُوهُ فِي خِيَامِهِمْ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَسَرَهُمْ يَوْمَ كَسَرَ السُّلْطَانُ الفرنج بمرج عيون والله أعلم.
ذكر تخريب حصن الأحزان
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ صَفَدَ. ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ إِلَى الْحِصْنِ الَّذِي كَانَتِ الْفِرِنْجُ قَدْ بَنَوْهُ في العام الماضي وحفروا فيه بئرا وجعلوه لهم عينا، وَسَلَّمُوهُ إِلَى الدَّاوِيَّةِ، فَقَصَدَهُ السُّلْطَانُ فَحَاصَرَهُ وَنَقَبَهُ من جميع جهاته، وألقى فيه النيران وَخَرَّبَهُ إِلَى الْأَسَاسِ، وَغَنِمَ جَمِيعَ مَا فِيهِ، فَكَانَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفِ قِطْعَةٍ مِنَ السِّلَاحِ، وَمِنَ الْمَأْكَلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَأَخَذَ مِنْهُ سَبْعَمِائَةِ أسير فقتل بعضا وأرسل إلى دمشق الباقي، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، غَيْرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ أُمَرَائِهِ عَشَرَةٌ بِسَبَبِ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْوَبَاءِ فِي مُدَّةِ الْحِصَارِ، وكانت أربعة عشر يوما، ثم إن الناس زاروا مَشْهَدِ يَعْقُوبَ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فقال بعضهم:
بجدك أعطاف القنا قد تعطفت ... وَطَرْفُ الْأَعَادِي دُونَ مَجْدِكَ يَطْرِفُ
شِهَابُ هُدًى في ظلمة الليل ثَاقِبُ ... وَسَيْفٌ إِذَا مَا هَزَّهُ اللَّهُ مُرْهَفُ
وقفت على حصن المحاض وَإِنَّهُ ... لَمَوْقِفُ حَقٍّ لَا يُوَازِيهِ مَوْقِفُ
فَلَمْ يَبْدُ وَجْهُ الْأَرْضِ بَلْ حَالَ دُونَهُ ... رِجَالٌ كآساد الثرى وهي ترجف
وجرد سلهوب ودرع مضاعف ... وأبيض هندي ولدن مهفهف
وما رجعت أعلامك البيض ساعة ... إلا غدت أكبادها السود ترجف
كنائس أغياد صَلِيبٌ وَبِيعَةٌ ... وَشَادَ بِهِ دِينٌ حَنِيفٌ وَمُصْحَفُ
صليب وعباد الصليب ومنزل ... لنوال قد غَادَرْتَهُ وَهْوَ صَفْصَفُ
أَتَسْكُنُ أَوْطَانَ النَّبِيِّينَ عُصْبَةٌ ... تَمِينُ لَدَى أَيْمَانِهَا وَهْيَ تَحْلِفُ
نَصَحْتُكُمُ وَالنُّصْحُ فِي الدِّينِ وَاجِبٌ ... ذَرُوا بَيْتَ يَعْقُوبَ فَقَدْ جَاءَ يُوسُفُ
وَقَالَ آخَرُ:
هَلَاكُ الْفِرِنْجِ أَتَى عَاجِلًا ... وَقَدْ آنَ تَكْسِيرُ صُلْبَانِهَا
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَنَا حَتْفُهَا ... لَمَا عَمَّرَتْ بَيْتَ أحزانها(12/303)
من كتاب كتبه القاضي الفاضل إلى بغداد في خراب هذا الحصن. وقد قيس عرض حائطه فزاد عَلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ وَقُطِعَتْ لَهُ عِظَامُ الْحِجَارَةِ كل فص منها سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، إِلَى مَا فَوْقَهَا وَمَا دُونَهَا، وَعِدَّتُهَا تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ حَجَرٍ، لَا يستقر الحجر فِي بُنْيَانِهِ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَمَا فَوْقَهَا، وَفِيمَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ حَشْوٌ مِنَ الْحِجَارَةِ الضَّخْمَةِ الصم، أتوا بها من رءوس الجبال الشم، وقد جعلت شعبيته بالكلس الّذي إذا أحاطت بالحجر مازجه بمثل جسمه، ولا يستطيع الحديد أن يتعرض إلى هدمه. وفيها أقطع صلاح الدين ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بعلبكّ. وأغار فيها على صفت وأعمالها، فقتل طائفة كبيرة من مقاتليها، وكان فروخ شاه من الصناديد الأبطال.
وَفِيهَا حَجَّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ وَعَادَ إِلَى مِصْرَ فَقَاسَى فِي الطَّرِيقِ أَهْوَالًا، وَلَقِيَ ترحا وَتَعَبًا وَكَلَالًا، وَكَانَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي قَدْ حج من مصر وعاد إلى الشام، وكان ذلك العام في حقه أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْعَامِ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ انْهَدَمَ بِسَبَبِهَا قِلَاعٌ وَقُرًى، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِيهَا مِنَ الْوَرَى، وَسَقَطَ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ صُخُورٌ كِبَارٌ، وَصَادَمَتْ بَيْنَ الْجِبَالِ فِي الْبَرَارِي وَالْقِفَارِ، مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَ الْجِبَالِ مِنَ الْأَقْطَارِ. وَفِيهَا أَصَابَ النَّاسَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ وَفَنَاءٌ شَرِيدٌ وَجُهْدٌ جَهِيدٌ، فَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بهذا وهذا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156.
ذكر وَفَاةُ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَشَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ
كان ابتداء مرضه أواخر شوال فَأَرَادَتْ زَوْجَتُهُ أَنْ تَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْهَا، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِبَغْدَادَ وَنَهَبَتِ الْعَوَامُّ دُورًا كَثِيرَةً، وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ خُطِبَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُسْتَضِيءِ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا نُثِرَ الذَّهَبُ فِيهِ عَلَى الْخُطَبَاءِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَمَنْ حَضَرَ ذلك، عند ذكر اسمه على المنبر. وكان مرضه بالحمى ابتدأ فيها يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ يَتَزَايَدُ به حتى استكمل في مرضه شهرا، ومات سَلْخَ شَوَّالٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ تِسْعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ. وَدُفِنَ بِدَارِ النَّصْرِ الَّتِي بَنَاهَا، وذلك عن وصيته التي أوصاها، وترك ولدين أحدهما ولى عهده وهو عدة الدنيا والدين، أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ، وَالْآخَرُ أَبُو مَنْصُورٍ هَاشِمُ، وَقَدْ وَزَرَ لَهُ جَمَاعَةٌ من الرؤساء، وكان من خيار الخلفاء، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، مزيلا عن الناس المكوسات والضرائب، مبطلا للبدع والمعايب، وكان حليما وقورا كريما، وبويع بالخلافة من بعده لولده الناصر.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو إِسْحَاقَ الفقه الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَرَّاءِ الْأُمَوِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، كان فاضلا مناظرا(12/304)
فصيحا بليغا شاعرا، تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أبو الحسن القزويني مدرس النظامية
إسماعيل بن موهوب
ابن محمد بن أحمد الخضر أبو محمد الجواليقي، حُجَّةَ الْإِسْلَامِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي زَمَانِهِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ بِحُسْنِ الدِّينِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، وَعِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَصِدْقِ اللَّهْجَةِ وَخُلُوصِ النِّيَّةِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ فِي مُرَبَّاهُ وَمَنْشَاهُ ومنتهاه، سمع الحديث وسمع الأثر واتبع سبيله ومرماه، رحمه الله تعالى.
المبارك بن على بن الحسين
أبو محمد ابن الطَّبَّاخِ الْبَغْدَادِيُّ، نَزِيلُ مَكَّةَ وَمُجَاوِرُهَا، وَحَافِظُ الْحَدِيثِ بِهَا وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ فِيهَا. كَانَ يَوْمُ جنازته يوما مشهودا.
ذكر خِلَافَةُ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ المستضيء بأمر الله
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي سَلْخِ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، بَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ وَالْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَكَانَ قَدْ خُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرٍ، فَقِيلَ إِنَّهُ إِنَّمَا عَهِدَ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ، وَقِيلَ بِأُسْبُوعٍ، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ اثْنَانِ بَعْدَ وَفَاةِ أبيه، ولقب بالناصر، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ قَبْلَهُ أطول مدة منه، فإنه مكث خليفة إلى سنة وفاته في ثلاث وعشرين وستمائة، وكان ذكيا شجاعا مهيبا كما سيأتي ذكر سيرته عند وفاته. وَفِي سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَطَّارِ، وَأُهِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ وقتل خلق منهم، وشهر فِي الْبَلَدِ، وَتَمَكَّنَ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ وَعَظُمَتْ هيبته في البلاد، وقام قائم الخلافة في جميع الأمور. وَلَمَّا حَضَرَ عِيدُ الْأَضْحَى أُقِيمَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ست وسبعين وخمسمائة
فِيهَا هَادَنَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ وَسَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَأَصْلَحَ بَيْنَ مُلُوكِهَا، مِنْ بين أرتق وكرّ على بلاد الأرمن فأقام عليها وفتح بعض حصونها، وأخذ منها غنائم كثيرة جدا، من أواني الفضة والذهب، لأن ملكها كان قد غدر بقوم من التركمان، فرده إِلَى بِلَادِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ وَأُسَارَى يُطْلِقُهُمْ مِنْ أَسْرِهِ، وَآخَرِينَ يَسْتَنْقِذُهُمْ من أيدي الفرنج، ثم عاد مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فَدَخَلَ حَمَاةَ فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَاتَ صَاحِبُ الموصل سيف الدين غازى بن مودود، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا مَلِيحَ الشَّكْلِ تَامَّ الْقَامَةِ، مُدَوَّرَ اللِّحْيَةِ، مَكَثَ فِي الْمُلْكِ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَفِيفًا فِي نَفْسِهِ، مَهِيبًا وَقُورًا، لَا يَلْتَفِتُ إِذَا رَكِبَ وإذا جلس، وكان غيورا لا يدع أحدا من الخدم الكبار يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ، وَكَانَ لَا يَقْدَمُ عَلَى سفك الدماء، وكان ينسب إلى شيء من البخل سامحه الله، توفى فِي ثَالِثِ صَفَرٍ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أن يجعل(12/305)
الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عِزِّ الدِّينِ سَنْجَرَ شَاهْ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْأُمَرَاءُ خَوْفًا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَخِيهِ فأجلس مكانه في المملكة، وكان يقال له عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، وَجُعِلَ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ نَائِبَهُ وَمُدَبِّرَ مَمْلَكَتِهِ. وَجَاءَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ يَلْتَمِسُونَ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ أَنْ يُبْقِيَ سَرُوجَ وَالرُّهَا وَالرَّقَّةَ، وَحَرَّانَ وَالْخَابُورَ وَنَصِيبِينَ فِي يَدِهِ كَمَا كَانَتْ فِي يَدِ أَخِيهِ، فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذِهِ الْبِلَادُ هِيَ حِفْظُ ثُغُورِ المسلمين، وإنما تَرَكْتُهَا فِي يَدِهِ لِيُسَاعِدَنَا عَلَى غَزْوِ الْفِرِنْجِ، فلم يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعَرِّفُهُ أَنَّ المصلحة في ترك ذلك عونا للمسلمين.
وفاة السلطان توران شاه
فيها توفى السلطان الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب، أخى الملك صلاح الدين، وهو الَّذِي افْتَتَحَ بِلَادَ الْيَمَنِ عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ، فَمَكَثَ فِيهَا حِينًا وَاقْتَنَى مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثم استناب فيها وأقبل إلى الشام شوقا إلى أخيه، وقد كتب إليه في أثناء الطريق شعرا عمله له بعض الشعراء، يقال له ابن المنجم، وكانوا قد وصلوا إلى سما: -
هل لأخى بل مالكي علم بالذي ... إِلَيْهِ وَإِنْ طَالَ التَّرَدُّدُ رَاجِعُ
وَإِنِّي بِيَوْمٍ واحد من لقائه ... على وإن عظم الموت بايع
ولم يبق إلا دون عشرين ليلة ... ويحيى اللقا أبصارنا والمسامع
إلى مَلِكٍ تَعْنُو الْمُلُوكُ إِذَا بَدَا ... وَتَخْشَعُ إِعْظَامًا لَهُ وَهْوَ خَاشِعُ
كَتَبْتُ وَأَشْوَاقِي إِلَيْكَ بِبَعْضِهَا ... تَعَلَّمَتِ النَّوْحَ الْحَمَامُ السَّوَاجِعُ
وَمَا الْمُلْكُ إِلَّا رَاحَةً أَنْتَ زَنْدُهَا ... تَضُمُّ عَلَى الدَّنْيَا وَنَحْنُ الأصابع
وكان قدومه على أخيه سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فشهد معه مواقف مشهودة مَحْمُودَةً، وَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ مُدَّةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَاسْتَنَابَهُ عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَلَمْ تُوَافِقْهُ، وكانت تعتريه القوالنج فمات فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ فِيهَا، ثُمَّ نَقَلَتْهُ أُخْتُهُ سِتُّ الشَّامِ بِنْتُ أَيُّوبَ فَدَفَنَتْهُ بِتُرْبَتِهَا الَّتِي بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، فَقَبْرُهُ الْقِبْلِيُّ، وَالْوَسْطَانِيُّ قَبْرُ زَوْجِهَا وَابْنِ عَمِّهَا نَاصِرِ الدِّينِ محمد بن أسد الدين شيركوه، صاحب حماه والرحبة، والمؤخر قبرها، وَالتُّرْبَةُ الْحُسَامِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى وَلَدِهَا حُسَامِ الدِّينِ عمر بن لاشين، وَهِيَ إِلَى جَانِبِ الْمَدْرَسَةِ مِنْ غَرْبِهَا، وَقَدْ كان توران شاه هذا كريما شجاعا عظيم الهيبة كبير النفس، واسع النفقة والعطاء، قَالَ فِيهِ ابْنُ سَعْدَانَ الْحَلَبِيُّ:
هُوَ الْمَلْكُ إِنْ تَسْمَعْ بِكِسْرَى وَقَيْصَرٍ ... فَإِنَّهُمَا فِي الْجُودِ وِالْبَأْسِ عَبْدَاهُ
وَمَا حَاتِمٌ مِمَّنْ يُقَاسُ بِمِثْلِهِ ... فَخُذْ مَا رَأَيْنَاهُ وَدَعْ مَا رَوَيْنَاهُ
وَلُذْ بعلاه مُسْتَجِيرًا فَإِنَّهُ ... يُجِيرُكَ مِنْ جَوْرِ الزَّمَانِ وَعَدْوَاهُ(12/306)
ولا تحمل للسحائب منه إذا ... هطلت جودا سحائب كفاه
فترسل كفاه بِمَا اشْتَقَّ مِنْهُمَا ... فَلِلْيُمْنِ يُمْنَاهُ وَلِلْيُسْرِ يُسْرَاهُ
ولما بلغ موته أخاه صلاح الدين بن أيوب وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِظَاهِرِ حِمْصَ، حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ بَابَ الْمَرَاثِي مِنَ الْحَمَاسَةِ وكانت محفوظة.
وفي رجب منها قدمت رسل الخليفة الناصر وخلع وهدايا إلى الناصر صلاح الدين، فلبس خِلْعَةَ الْخَلِيفَةِ بِدِمَشْقَ، وَزُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِي رَجَبٍ أَيْضًا مِنْهَا سَارَ السلطان إلى مصر لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا وَيَصُومَ بِهَا رَمَضَانَ، وَمِنْ عزمه أن يحج عامه ذلك، وَاسْتَنَابَ عَلَى الشَّامِ ابْنَ أَخِيهِ عِزَّ الدِّينِ فروخ شاه، وَكَانَ عَزِيزَ الْمَثَلِ غَزِيرَ الْفَضْلِ، فَكَتَبَ الْقَاضِي الفاضل عن الملك العادل أبى بكر إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَالْبَقِيعِ وَمَكَّةَ يُعْلِمُهُمْ بِعَزْمِ السلطان الناصر على الحج، ومعه صدر الدين أبو الْقَاسِمِ عَبْدَ الرَّحِيمِ شَيْخَ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ، الَّذِي قدم من جهة الخليفة في الرسالة، وجاء بالخلع لِيَكُونَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَفِي صحبته إلى الحجاز، فدخل السلطان مصر وتلقاه الجيش، وأما شيخ الشيوخ فَإِنَّهُ لَمْ يُقِمْ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى توجه إلى الحجاز في البحر، فأدرك الصيام في المسجد الحرام.
وفيها سار قراقوش التقوى إلى المغرب فحاصر بها فاس وقلاعا كثيرة حولها، واستحوذ على أكثرها، واتفق لَهُ أَنَّهُ أَسَرَ مِنْ بَعْضِ الْحُصُونِ غُلَامًا أسود فَأَرَادَ قَتْلَهُ فَقَالَ لَهُ أَهْلُ الْحِصْنِ لَا تقتله وخذ لك ديته عشرة آلاف دينار، فأبى فأوصله إلى مائة ألف، فَأَبَى إِلَّا قَتْلَهُ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ نَزَلَ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ ذلك الحصن، فقال له خُذْ هَذِهِ فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَحْفَظُهُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الصَّبِيِّ الَّذِي قَتَلْتَهُ، ولي أولاد داخ أَكْرَهُ أَنْ يَمْلِكُوهُ بَعْدِي، فَأَقَرَّهُ فِيهِ وَأَخَذَ منه أموالا كثيرة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ
أَحْمَدُ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ سِلَفَةَ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْمُعَمَّرُ، أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَإِنَّمَا قِيلَ له السلفي لِجَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ سِلَفَةُ، لِأَنَّهُ كَانَ مَشْقُوقَ إِحْدَى الشفتين، وكان له ثلاث شفاه فسمته الأعاجم لذلك. قال ابن خلكان: وكان يُلَقَّبُ بِصَدْرِ الدِّينِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، وَرَدَ بَغْدَادَ وَاشْتَغَلَ بِهَا عَلَى إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنِ الْخَطِيبِ أَبِي زَكَرِيَّا. يَحْيَى بْنِ على التبريزي سمع الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ إِلَى الْآفَاقِ ثُمَّ نَزَلَ ثَغْرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَبَنَى لَهُ الْعَادِلُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ السَّلَّارِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ الظَّافِرِ مَدْرَسَةً، وفوضها إليه، فهي معروفة به إلى الآن. قال ابن خلكان: وأما أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جدا، وكان مولده فيما ذكر المصريون سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَنَقَلَ الْحَافِظُ عَبْدُ الغنى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَذْكُرُ مَقْتَلَ نِظَامِ الْمُلْكِ في سنة(12/307)
خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَأَنَا ابْنُ عَشَرٍ تقريبا، ونقل أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفْرَاوِيُّ أَنَّهُ قَالَ: مَوْلِدِي بِالتَّخْمِينِ لَا بِالْيَقِينِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ، فَيَكُونُ مَبْلَغُ عُمْرِهِ ثَمَانِيًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وخمسمائة بثغر الاسكندرية والله أعلم، ودفن بوعلة، وفيها جماعة من الصالحين. وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ خَلِّكَانَ قَوْلَ الصَّفْرَاوِيِّ، قَالَ ولم يبلغنا من ثلاثمائة أَنَّ أَحَدًا جَاوَزَ الْمِائَةَ إِلَّا الْقَاضِي أَبَا الطيب الطبري، وقد ترجمه ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ تَرْجَمَةً حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ بِخَمْسِ سِنِينَ، فَذَكَرَ رِحْلَتَهُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَدَوَرَانَهُ فِي الْأَقَالِيمِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَصَوَّفُ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَامَ بِثَغْرِ الاسكندرية وتزوج بامرأة ذات يسار، فحسنت حاله، وبنت عَلَيْهِ مَدْرَسَةً هُنَاكَ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْ أَشْعَارِهِ منها قوله:
أتأمن إِلْمَامَ الْمَنِيَّةِ بَغْتَةً ... وَأَمْنُ الْفَتَى جَهْلٌ وَقَدْ خَبَرَ الدَّهْرَا
وَلَيْسَ يُحَابِي الدَّهْرُ فِي دَوَرَانِهِ ... أَرَاذِلَ أَهْلِيهِ وَلَا السَّادَةَ الزُّهْرَا
وَكَيْفَ وَقَدْ مَاتَ النَّبِيُّ وَصَحْبُهُ ... وَأَزْوَاجُهُ طُرًّا وَفَاطِمَةُ الزَّهْرَا
وله أيضا:
يا قاصدا علم الحديث لدينه ... إِذْ ضَلَّ عَنْ طُرُقِ الْهِدَايَةِ وَهْمُهُ
إِنَّ الْعُلُومَ كَمَا عَلِمْتَ كَثيرَةٌ ... وَأَجَلُّهَا فِقْهُ الْحَدِيثِ وَعِلْمُهُ
مَنْ كَانَ طَالِبَهُ وَفِيهِ تَيَقُّظٌ ... فَأَتَمُّ سَهْمٍ فِي الْمَعَالِي سَهْمُهُ
لَوْلَا الْحَدِيثُ وَأَهْلُهُ لَمْ يَسْتَقِمْ ... دِينُ النَّبِيِّ وَشَذَّ عَنَّا حُكْمُهُ
وإذا استراب بقولنا متحذلق ... ما كل فَهْمٍ فِي الْبَسِيطَةِ فَهْمُهُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سبع وسبعين وخمسمائة
استهلت وصلاح الدين مقيم بالقاهرة مواظب على سماع الحديث، وجاءه كتاب من نائبة بالشام عز الدين فروخ شاه يخبره فيه بما من الله به على الناس من ولادة النساء بالتوأم جبرا لما كان أصابهم من الوباء بالعام الماضي والفناء، وبأن الشام مخصبة باذن الله لما كان أصابهم من الغلاء. وَفِي شَوَّالٍ تَوَجَّهَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الاسكندرية لينظر مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَحْصِينِ سُورِهَا وَعِمَارَةِ أبراجها وقصورها، وسمع بها موطأ مَالِكٍ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ الطَّرْطُوشِيِّ، وَسَمِعَ مَعَهُ الْعِمَادَ الْكَاتِبَ، وَأَرْسَلَ القاضي الفاضل رسالة إلى السلطان يهنئه بهذا السماع.
ذكر وفاة الملك الصالح بن نور الدين الشهيد «صَاحِبِ حَلَبَ وَمَا جَرَى بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ»
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِقَلْعَةِ حَلَبَ، وَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ فِيمَا قِيلَ أَنَّ الْأَمِيرَ علم الدين سليمان بن حيدر سَقَاهُ سُمًّا فِي عُنْقُودِ عِنَبٍ فِي الصَّيْدِ، وقيل(12/308)
بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب فَاعْتَرَاهُ قُولَنْجٌ فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ شَابٌّ حَسَنُ الصُّورَةِ، بَهِيُّ الْمَنْظَرِ، وَلَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَعِفِّ الْمُلُوكِ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، وَصَفَ لَهُ الأطباء في مرضه شرب الخمر فاستفتي الفقهاء في شربها تداويا فأفتوه بذلك، فقال: أَيُزِيدُ شُرْبُهَا فِي أَجَلِي أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ تركها شيئا؟ قالوا: لا قال: فو الله لا أشربها وألقى اللَّهَ وَقَدْ شَرِبْتُ مَا حَرَّمَهُ عَلَيَّ. وَلَمَّا يئس من نفسه استدعا الْأُمَرَاءَ فَحَلَّفَهُمْ لِابْنِ عَمِّهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ وَتُمَكُّنِهِ، لِيَمْنَعَهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَخَشِيَ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ عَمِّهِ الْآخَرِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ، صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ وَتَرْبِيَةُ وَالِدِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمَّا مَاتَ اسْتَدْعَى الْحَلَبِيُّونَ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودَ بْنَ قُطْبِ الدِّينِ، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَدَخَلَ حَلَبَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَذَلِكَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَتَسَلَّمَ خَزَائِنَهَا وَحَوَاصِلَهَا. وَمَا فِيهَا من السلاح، وكان تقى الدين عمه في مدينة مَنْبِجَ فَهَرَبَ إِلَى حَمَاةَ فَوَجَدَ أَهْلَهَا قَدْ نادوا بشعار صاحب الموصل وأطمع الحلبيون مسعودا بأخذ دمشق لغيبة صلاح الدين عنها، وَأَعْلَمُوهُ مَحَبَّةَ أَهْلِ الشَّامِ لِهَذَا الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ نور الدين، فقال لهم: بيننا وبين صلاح الدين أيمان وعهود، وأنا لا أَغْدِرُ بِهِ، فَأَقَامَ بِحَلَبَ شُهُورًا وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ الْمَلِكِ الصَّالِحِ فِي شَوَّالٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الرقة فنزلها وجاءه رُسُلُ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُقَايِضَهُ مِنْ حَلَبَ إِلَى سِنْجَارَ، وَأَلَحَّ عليه في ذلك، وتمنع أخوه ثم فعل على كره منه، فسلم إليه حلب وتسلم عز الدِّينِ سِنْجَارَ وَالْخَابُورَ وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ وَسَرُوجَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ.
وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ رَكِبَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي عَسَاكِرِهِ فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْفُرَاتَ فَعَبَرَهَا، وخامر إليه بعض أمراء صاحب الموصل، وتقهقر صاحب الموصل عن لقائه، واستحوذ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ بِكَمَالِهَا، وَهُمْ بمحاصرة الموصل فلم يتفق له ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ عماد الدين زنكي لضعفه عن ممانعتها، ولقلة مَا تَرَكَ فِيهَا عِزُّ الدِّينِ مِنَ الْأَسْلِحَةِ، وذلك في السنة الآتية.
وفيها عزم البرنس صاحب الكرك عَلَى قَصْدِ تَيْمَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، لِيَتَوَصَّلَ منها إلى المدينة النبويّة، فجهز له صلاح الدين سَرِيَّةٌ مِنْ دِمَشْقَ تَكُونُ حَاجِزَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الحجاز، فصده ذلك عن قصده. وَفِيهَا وَلَّى السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ سَيْفَ الْإِسْلَامِ ظَهِيرَ الدِّينِ طُغْتِكِينَ بْنَ أَيُّوبَ نِيَابَةَ اليمن، وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ نُوَّابِهَا وَاضْطِرَابِ أَصْحَابِهَا، بعد وفاة المعظم أخى السلطان، فسار إليها طغتكين فَوَصَلَهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، فَسَارَ فِيهَا أحسن سيرة، واحتاط على أموال حطان بن منقذ صاحب زَبِيدَ، وَكَانَتْ تُقَارِبُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَمَّا نَائِبُ عَدَنَ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ [الزنجبيلى] فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ قَبْلَ قُدُومِ طُغْتِكِينَ فَسَكَنَ الشَّامَ، وَلَهُ أَوْقَافٌ مَشْهُورَةٌ(12/309)
باليمن ومكة، وإليه تنسب المدرسة الزنجبيلية، خارج باب توما، تجاه دار المطعم، وكان قد حصل من اليمن أموالا عظيمة جدا.
وفيها غدرت الفرنج ونقضت عهودها، وَقَطَعُوا السُّبُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَرًّا وَبَحْرًا وَسِرًّا وجهرا، فأمكن الله من لطيشة عظيمة فيها نحو من ألفين وخمسمائة من مقاتلتهم المعدودين، أَلْقَاهَا الْمَوْجُ إِلَى ثَغْرِ دِمْيَاطَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّلْطَانِ مِنْ مِصْرَ، فَأُحِيطَ بِهَا فَغَرِقَ بَعْضُهُمْ وحصل في الأسر نحو ألف وسبعمائة. وَفِيهَا سَارَ قَرَاقُوشُ إِلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ فَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَقَاتَلَ عَسْكَرَ ابْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ صاحب المغرب، واستفحل أمره هناك، وقراقوش مملوك تقى الدين عمر بن أَخِي السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مصر فأمره صلاح الدين أن يُتِمَّ السُّورَ الْمُحِيطَ بِالْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ، وَذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخر عهده بها حتى توفاه الله بعد أن أناله الله بلوغ مناه، ففتح عليه بيت المقدس وما حوله، ولما خيم بارزا، من مصر وأولاده حوله جعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم فأنشد بعضهم في ذلك:
تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ ... فَمَا بَعْدَ العشية من عرار
وكان الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَمْ يَعُدْ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ، بَلْ كَانَ مُقَامُهُ بِالشَّامِ. وفيها ولد للسلطان ولدان أحدهما المعظم توران شاه، وَالْمَلِكُ الْمُحْسِنُ أَحْمَدُ، وَكَانَ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ وَاسْتَمَرَّ الْفَرَحُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يوما.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
الشَّيْخُ كَمَالُ الدَّيْنِ أَبُو الْبَرَكَاتِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّعَادَاتِ، عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الأنباري النحويّ الفقيه العابد الزاهد، كَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَلَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ يَحْضُرُ نَوْبَةَ الصُّوفِيَّةِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ جَوَائِزِ الخليفة ولا فلسا، وكان مثابرا على الاشتغال، وله تصانيف مفيدة، توفى في شعبان من هذه السنة. قال ابْنُ خَلِّكَانَ: لَهُ كِتَابُ أَسْرَارِ الْعَرَبِيَّةِ مُفِيدٌ جدا، وطبقات النحاة، مفيد جدا، وكتاب الميزان في النحو أيضا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وسبعين وخمسمائة
في خامس محرمها كان بروز السلطان من مصر قاصدا دمشق لأجل الغزو والإحسان إلى الرعايا وكان ذلك آخر عهده بمصر، وأغار بطريقة على بعض نواحي بلاد الافرنج، وقد جعل أَخَاهُ تَاجَ الْمُلُوكِ بُورِي بْنَ أَيُّوبَ عَلَى الميمنة، فَالْتَقَوْا عَلَى الْأَزْرَقِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ أغار عز الدين فروخ شاه على بلاد طبرية وافتتح حصونا جيدة، وأسر منهم خلقا، واغتنم عشرين ألف رأس من الأنعام، ودخل الناصر دمشق سابع صفر ثم خرج منها فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَاقْتَتَلَ مع الفرنج(12/310)
فِي نَوَاحِي طَبَرِيَّةَ وَبَيْسَانَ تَحْتَ حِصْنِ كَوْكَبٍ، فقتل خلق من الفريقين، وكانت النصرة للمسلمين على الفرنج، ثم رجع إلى دمشق مؤيدا منصورا، ثم ركب قَاصِدًا حَلَبَ وَبِلَادَ الشَّرْقِ لِيَأْخُذَهَا وَذَلِكَ أَنَّ المواصلة والحلبيين كاتبوا الفرنج على حرب المسلمين، فغارت الفرنج على بعض أطراف البلاد ليشغلوا الناصر عنهم بنفسه، فجاء إلى حلب فحاصرها ثلاثا، ثم رأى العدول عنها إلى غيرها أولى، فسار حتى بلغ الفرات، واستحوذ على بلاد الجزيرة والرها والرقة ونصيبين، وخضعت له الملوك، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ صَاحِبِهَا عماد الدين زنكي، فاستوثقت له الممالك شرقا وغربا، وتمكن حينئذ من قتال الفرنج.
فصل
ولما عجز ابرنس الكرك عن إيصال الأذى إلى المسلمين فِي الْبَرِّ، عَمِلَ مَرَاكِبَ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ ليقطعوا الطريق على الحجاج والتجار، فَوَصَلَتْ أَذِيَّتُهُمْ إِلَى عَيْذَابَ، وَخَافَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ النبويّة من شرهم، فأمر الملك العادل الأمير حسام الدين لؤلؤ صَاحِبَ الْأُسْطُولِ أَنْ يَعْمَلَ مَرَاكِبَهُ فِي بَحْرِ القلزم ليحارب أصحاب الابرنس، ففعل ذلك فظفر بِهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَحَرَّقُوا وغرقوا وسبوا في مواطن كثيرة، ومواقف هائلة، وأمن البر والبحر باذن الله تعالى، وأرسل الناصر إلى أخيه العادل ليشكر ذلك عن مساعيه، وأرسل إلى ديوان الخليفة يعرفهم بذلك.
فصل في وفاة المنصور عز الدين
فروخ شاه بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ وَنَائِبِ دمشق لعمه الناصر، وهو والد الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبكّ بعد أبيه، وإليه تنسب المدرسة الفروخ شاهية بالشرق الشمالي بدمشق، وَإِلَى جَانِبِهَا التُّرْبَةُ الْأَمْجَدِيَّةُ لِوَلَدِهِ، وَهُمَا وَقْفٌ على الحنفية والشافعية، وقد كان فروخ شاه شجاعا شهما عاقلا ذكيا كريما ممدحا، امتدحه الشعراء لفضله وجوده، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ أَبِي الْيُمْنِ الْكِنْدِيِّ، عَرَفَهُ مِنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي الفاضل، فانتمى إليه، وكان يحسن إليه، وله وللعماد الكاتب فيه مدائح، وكان ابنه الأمجد شاعرا جيدا، وَلَّاهُ عَمُّ أَبِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْلَبَكَّ بَعْدَ أَبِيهِ، وَاسْتَمَرَّ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، وَمِنْ مَحَاسِنِ فروخ شاه صحبته لتاج الدين الكندي وله شعر رائق:
أنا في أسر السقام ... وهو في هذا المقام
رشا يرشق عيناه ... فؤادي بسهام
كلما أرشفنى فاه ... على حر الأوام
ذقت منه الشهد ... المصفى في المدام
وقد دخل يوما الْحَمَّامِ فَرَأَى رَجُلًا كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ نَزَلَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى إِنَّهُ كان يستتر ببعض ثيابه لئلا تبدو عورته، فَرَقَّ لَهُ وَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَنْقُلَ بَقُجَّةً وبساطا إلى موضع الرجل،(12/311)
وأمره فأحضر ألف دينار وبغلة وتوقيعا له في كل شهر بعشرين ألف دينار، فدخل الرجل الحمام فقيرا وخرج منه غنيا، فرحمة الله على الأجواد الجياد
وفيها توفى من الأعيان.
الشيخ أبو العباس
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرِّفَاعِيِّ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ الأحمدية الرفاعية الْبَطَائِحِيَّةِ، لِسُكْنَاهُ أُمَّ عَبِيدَةَ مِنْ قُرَى الْبَطَائِحِ، وَهِيَ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ، كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْعَرَبِ فَسَكَنَ هَذِهِ الْبِلَادَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ حَفِظَ التَّنْبِيهَ فِي الْفِقْهِ على مذهب الشافعيّ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلِأَتْبَاعِهِ أَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ مِنْ أكل الحيات وهي حية، والدخول في النار في التنانير وهي تضطرم، ويلعبون بها وهي تشتعل، ويقال إنهم في بلادهم يركبون الأسود.
وذكر ابن خلكان أنه قَالَ وَلَيْسَ لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ عَقِبٌ، وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِأَخِيهِ وَذُرِّيَّتُهُ يَتَوَارَثُونَ الْمَشْيَخَةَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ. وَقَالَ: ومن شعره عَلَى مَا قِيلَ:
إِذَا جَنَّ لَيْلِي هَامَ قَلْبِي بِذِكْرِكُمْ ... أَنُوحُ كَمَا نَاحَ الْحَمَامُ الْمُطَوَّقُ
وفوقى سحاب يمطر الهم والأسى ... وحتى بِحَارٌ بِالْأَسَى تَتَدَفَّقُ
سَلُوا أُمَّ عَمْرٍو كَيْفَ بَاتَ أَسِيرُهَا ... تُفَكُّ الْأُسَارَى دُونَهُ وَهْوَ مُوثَقُ
فَلَا هُوَ مَقْتُولٌ فَفِي الْقَتْلِ رَاحَةٌ ... وَلَا هُوَ مَمْنُونٌ عَلَيْهِ فَيُطْلَقُ
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَغَارُ عَلَيْهَا مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا ... وَمِنْ كُلِّ من يدنو إليها وينظر
وأحسد للمرآة أيضا بكفها ... إذا نظرت مثل الَّذِي أَنَا أَنْظُرُ
قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
خَلَفُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ بَشْكُوَالَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْقُرْطُبِيُّ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الْمُؤَرِّخُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، لَهُ كِتَابُ الصِّلَةِ جَعَلَهُ ذَيْلًا عَلَى تَارِيخِ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ الْفَرَضِيِّ، وَلَهُ كتاب المستغيثين باللَّه، وله مجلدة في تعيين الأسماء المبهمة على طريق الخطيب، وله أسماء مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، بَلَغُوا ثلاثة وسبعين رجلا، مات في رمضان عن أربع وثمانين سنة.
الْعَلَّامَةُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي
مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ النَّيْسَابُورِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى صَاحِبِ الْغَزَالِيِّ، قَدِمَ دِمَشْقَ وَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ وَالْمُجَاهِدِيَّةِ، وَبِحَلَبَ بِمَدْرَسَةِ نُورِ الدِّينِ وَأَسَدِ الدين، ثم بهمدان، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ وَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْمَذْهَبِ، وَمَاتَ بِهَا فِي سَلْخِ رَمَضَانَ يَوْمَ الْعِيدِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ(12/312)
وَخَمْسِمِائَةٍ، عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَعَنْهُ أَخَذَ الفخر ابن عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة تسع وسبعين وخمسمائة
في رابع عشر محرمها تسلم السلطان الناصر مَدِينَةَ آمِدَ صُلْحًا بَعْدَ حِصَارٍ طَوِيلٍ، مِنْ يد صاحبها ابن بيسان، بعد حمل ما أمكنه من حواصله وأمواله مدة ثلاثة أيام، ولما تسلم الْبَلَدَ وَجَدَ فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحَوَاصِلِ وآلات الحرب، حَتَّى إِنَّهُ وَجَدَ بُرْجًا مَمْلُوءًا بِنُصُولِ النُّشَّابِ، وَبُرْجًا آخَرَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفِ شَمْعَةٍ، وَأَشْيَاءَ يطول شرحها، ووجد فيها خزانة كتب ألف ألف مجلد، وأربعين أَلْفَ مُجَلَّدٍ، فَوَهَبَهَا كُلَّهَا لِلْقَاضِي الْفَاضِلِ، فَانْتَخَبَ مِنْهَا حِمْلَ سَبْعِينَ حِمَارَةٍ. ثُمَّ وَهَبَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ بِمَا فِيهِ لِنُورِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ قَرَا أَرْسَلَانَ- وَكَانَ قَدْ وَعَدَهُ بِهَا- فَقِيلَ له: إن الحواصل لم تدخل في الهبة، فَقَالَ:
لَا أَبْخَلُ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي خزانتها ثلاثة آلاف ألف دينار، فامتدحه الشعراء على هذا الصنيع.
ومن أحسن ذلك قول بعضهم:
قُلْ لِلْمُلُوكِ تَنَحَّوا عَنْ مَمَالِكِكُمْ ... فقَدْ أَتَى آخِذُ الدُّنْيَا وَمُعْطِيهَا
ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ فِي بقية المحرم إلى حلب فحاصرها وقاتله أهلها قتالا شديدا، فجرح أَخُو السُّلْطَانِ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِي بْنُ أَيُّوبَ جُرْحًا بَلِيغًا، فَمَاتَ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَكَانَ أَصْغَرَ أَوْلَادِ أَيُّوبَ، لَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً، وقيل إنه جاوزها بثنتين، وَكَانَ ذَكِيًّا فَهِمًا، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ لَطِيفٍ، فحزن عليه أخوه صَلَاحُ الدِّينِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَدَفَنَهُ بِحَلَبَ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَيْنَ الناصر وَبَيْنَ صَاحِبِ حَلَبَ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ بْنِ آقسنقر على عوض أطلقه له الناصر، بأن يرد عليه سنجار ويسلمه حلب، فخرج عماد الدين من القلعة إلى خدمة الناصر وَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ وَنَزَلَ عِنْدَهُ فِي الْمُخَيَّمِ، وَنَقَلَ أَثْقَالَهُ إِلَى سِنْجَارَ، وَزَادَهُ السُّلْطَانُ الْخَابُورَ وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ وَسَرُوجَ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ إِرْسَالَ الْعَسْكَرِ في الخدمة لأجل الغزاة في الفرنج، ثُمَّ سَارَ وَوَدَّعَهُ السُّلْطَانُ وَمَكَثَ السُّلْطَانُ فِي المخيم يرى حلب أياما غير مكترث بحلب ولا وقعت منه موقعا، ثم صعد إلى قلعتها يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر، وعمل له الأمير طهمان وليمة عظيمة، فتلا هذه الآية وهو داخل في بابها (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) 3: 26 الآية. ولما دخل دار الملك تلا قوله تعالى (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) 33: 27 الآية، وَلَمَّا دَخَلَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وأطال السجود به، والدعاء والتضرع إلى الله، ثم شرع في عمل وليمة، وضربت البشائر، وخلع على الأمراء، وأحسن إلى الرؤساء والفقراء، ووضعت الحرب أوزارها، وقد امتدحه الشعراء بمدائح حسان. ثم إن القلعة وقعت منه بموقع عظيم، ثم قَالَ: مَا سُرِرْتُ بِفَتْحِ قَلْعَةٍ أَعْظَمَ سُرُورًا من فتح مدينة حلب، وأسقطت عَنْهَا وَعَنْ سَائِرِ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ الْمُكُوسَ(12/313)