شَدِيدًا جِدًّا. وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَجُلًا طُوَالًا رَقِيقًا أَسْمَرَ اللَّوْنِ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ رَحِمَهُ الله.
وَلَمَّا حُمِلَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ صَائِمٌ، أَتَوْهُ بِسَوِيقٍ لِيُفْطِرَ مِنَ الضَّعْفِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَتَمَّ صَوْمَهُ، وَحِينَ حَضَرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ صَلَّى مَعَهُمْ فقال له ابن سماعة القاضي:
وصليت فِي دَمِكَ! فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: قَدْ صَلَّى عُمَرُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، فَسَكَتَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ لِيُضْرَبَ انْقَطَعَتْ تِكَّةُ سَرَاوِيلِهِ فَخَشِيَ أَنْ يَسْقُطَ سَرَاوِيلُهُ فَتُكْشَفَ عَوْرَتَهُ فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فدعا الله فعاد سراويله كما كان، ويرويه أَنَّهُ قَالَ: يَا غَيَّاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ، يَا إِلَهَ الْعَالَمِينَ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَائِمٌ لَكَ بِحَقٍّ فَلَا تَهْتِكْ لِي عَوْرَةً.
وَلَمَّا رَجَعَ إلى منزله جاءه الجرائحي فَقَطَعَ لَحْمًا مَيِّتًا مِنْ جَسَدِهِ وَجَعَلَ يُدَاوِيهِ والنائب فِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى أَحْمَدَ نَدَمًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّائِبَ عَنْهُ وَالنَّائِبُ يَسْتَعْلِمُ خَبَرَهُ، فَلَمَّا عُوفِيَ فَرِحَ الْمُعْتَصِمُ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ بِالْعَافِيَةِ بَقِيَ مُدَّةً وَإِبْهَامَاهُ يُؤْذِيهِمَا الْبَرْدُ، وَجَعَلَ كُلَّ مَنْ آذاه فِي حِلٍّ إِلَّا أَهْلَ الْبِدْعَةِ، وَكَانَ يَتْلُو في ذلك قوله تعالى وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا 24: 22 الآية. وَيَقُولُ: مَاذَا يَنْفَعُكَ أَنْ يُعَذَّبَ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ بسببك؟ وقد قال تَعَالَى فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 42: 40 وينادى المنادي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَنْ تَوَاضَعَ للَّه رَفَعَهُ اللَّهُ» وكان الذين ثبتوا على الفتنة فَلَمْ يُجِيبُوا بِالْكُلِّيَّةِ أَرْبَعَةٌ [1] : أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَهُوَ رَئِيسُهُمْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحِ بْنِ مَيْمُونٍ الجنديسابوري، ومات في الطريق. وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ، وَقَدْ مَاتَ فِي السِّجْنِ، وَأَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ وَقَدْ مَاتَ فِي سجن الواثق على القول بخلق القرآن. وكان مثقلا بالحديد.
وَأَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ مقتله.
ذِكْرُ ثَنَاءِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْمُعَظِّمِ الْمُبَجَّلِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمَّا ضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كُنَّا بِالْبَصْرَةِ فَسَمِعْتُ أَبَا الوليد الطيالسي يقول:
لو كان أحمد فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكَانَ أُحْدُوثَةً. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بن الخليل: لو كان أحمد في بنى إسرائيل لكان نبيا. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمَ الْمِحْنَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَوْمَ الرِّدَّةِ، وَعُمَرُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وعثمان يوم الدار، وعلى يوم الجمل وصفين. وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ العراق فما تركت رَجُلًا أَفْضَلَ وَلَا أَعْلَمَ وَلَا أَوْرَعَ وَلَا أتقى من أحمد بن حنبل. وقال شيخ أحمد يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا قَدِمَ عَلَيَّ بَغْدَادَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ: مَاتَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَاتَ الْوَرَعُ، وَمَاتَ الشَّافِعِيُّ وَمَاتَتِ السُّنَنُ، وَيَمُوتُ أَحْمَدُ بن حنبل وتظهر البدع. وقال إن أحمد
__________
[1] هم خمسة كما سيأتي.(10/335)
ابن حَنْبَلٍ قَامَ فِي الْأُمَّةِ مَقَامَ النُّبُوَّةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ- يَعْنِي فِي صَبْرِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ من الأذى في ذات الله وقال أبو عمر بن النَّحَّاسِ- وَذَكَرَ أَحْمَدَ يَوْمًا- فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الدِّينِ مَا كَانَ أَبْصَرَهُ، وَعَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ، وَفِي الزُّهْدِ مَا كَانَ أَخْبَرَهُ، وَبِالصَّالِحِينَ مَا كَانَ أَلْحَقَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كان أشبهه، عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها. وقال بشر الحافى بعد ما ضرب أحمد بن حنبل: أدخل أحمد الكبير فَخَرَجَ ذَهَبًا أَحْمَرَ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ قَالَ لِي على بن المديني بعد ما امتحن أحمد وقيل قبل أن يمتحن: يا ميمون مَا قَامَ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَامَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَعَجِبْتُ مِنْ هَذَا عَجَبًا شَدِيدًا وَذَهَبْتُ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ فَحَكَيْتُ لَهُ مَقَالَةَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ فقال: صدق، إن أبا بكر وَجَدَ يَوْمَ الرِّدَّةِ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، وَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْصَارٌ وَلَا أَعْوَانٌ. ثُمَّ أَخَذَ أَبُو عُبَيْدٍ يُطْرِي أَحْمَدَ وَيَقُولُ: لَسْتُ أَعْلَمُ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَهُ. وَقَالَ إسحاق بن راهويه: أحمد حُجَّةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبِيدِهِ فِي أَرْضِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: إِذَا ابْتُلِيتُ بِشَيْءٍ فَأَفْتَانِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ أُبَالِ إِذَا لقيت ربى كيف كان. وقال أيضا: إني اتخذت أحمد حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ:
وَمَنْ يَقْوَى عَلَى مَا يَقْوَى عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ؟ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ معين: كَانَ فِي أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ خِصَالٌ مَا رَأَيْتُهَا فِي عَالِمٍ قَطُّ، كَانَ مُحَدِّثًا، وَكَانَ حَافِظًا، وَكَانَ عَالِمًا، وَكَانَ وَرِعًا، وَكَانَ زَاهِدًا، وَكَانَ عَاقِلًا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَيْضًا: أَرَادَ النَّاسُ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَاللَّهِ مَا نَقْوَى أَنْ نَكُونَ مثله ولا نطيق سلوك طريقه. وقال الذهلي: اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله. وقال هلال بن المعلى الرَّقِّيُّ: مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَرْبَعَةٍ: بالشافعي فهم الأحاديث وفسرها، وبين مجملها من مفصلها، والخاص والعام والناسخ والمنسوخ. وبأبي عبيد بين غريبها. وَبِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ نَفَى الْكَذِبَ عَنِ الْأَحَادِيثِ، وَبِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَبَتَ فِي الْمِحْنَةِ لَوْلَا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ لَهَلَكَ النَّاسُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مُقَدَّمٌ على كل من يحمل بِيَدِهِ قَلَمًا وَمِحْبَرَةً- يَعْنِي فِي عَصْرِهِ- وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَجَاءٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا رَأَيْتُ مَنْ رَأَى مِثْلَهُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: مَا أَعْرِفُ فِي أَصْحَابِنَا أَسْوَدَ الرَّأْسِ أَفْقَهَ مِنْهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو عبد الله البوسندى فِي أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: -
إِنَّ ابْنَ حَنْبَلٍ إِنْ سَأَلْتَ إَمَامُنَا ... وَبِهِ الْأَئِمَّةُ فِي الْأَنَامِ تَمَسَّكُوا
خَلَفَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا بَعْدَ الألى ... خلفوا الْخَلَائِفَ بَعْدَهُ وَاسْتَهْلَكُوا
حَذْوَ الشِّرَاكِ عَلَى الشِّرَاكِ وإنما ... يحذو المثال مثاله المستمسك
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ طاهرين لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ(10/336)
أَبِي سَعِيدٍ الْمَالِينِيِّ عَنْ ابْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الوليد عن معاذ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ ح. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَحَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أيوب حدثنا مبشر عن معاذ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ ح. قال البغوي قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عدو له يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ وَإِسْنَادُهُ فِيهِ ضَعْفٌ. وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ صَحَّحَهُ وَاحْتَجَّ به على عدالة كل من حَمْلِ الْعِلْمِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ العلم رحمه الله وأكرم مثواه.
ذِكْرُ مَا كَانَ مَنْ أَمْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بعد المحنة
حين خرج من دار الخلافة صار إلى منزله فدووي حتى برأ وللَّه الحمد، ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جمعة ولا جماعة، وَامْتَنَعَ مِنَ التَّحْدِيثِ، وَكَانَتْ غَلَّتُهُ مِنْ مِلْكٍ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يُنْفِقُهَا عَلَى عِيَالِهِ وَيَتَقَنَّعُ بِذَلِكَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا. وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُعْتَصِمِ، وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْوَاثِقِ، فلما ولى المتوكل على الله الخلافة اسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِوِلَايَتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُحِبًّا لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا، وَرَفَعَ الْمِحْنَةَ عَنِ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَى الآفاق لَا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ بِبَغْدَادَ- وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ- أَنْ يَبْعَثَ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى إِسْحَاقُ بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَيْهِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ إِعْظَامِ الْخَلِيفَةِ لَهُ وَإِجْلَالِهِ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَنِ القرآن فقال له أحمد: سؤالك هذا سُؤَالُ تَعَنُّتٍ أَوِ اسْتِرْشَادٍ. فَقَالَ: بَلْ سُؤَالُ اسْتِرْشَادٍ. فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَسَكَنَ إِلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ جهزه إلى الخليفة إلى سرمن رَأَى ثُمَّ سَبَقَهُ إِلَيْهِ.
وَبَلَغَهُ أَنَّ أَحْمَدَ اجْتَازَ بِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَلْمْ يَأْتِهِ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَغَضِبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذَلِكَ وَشَكَاهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ: يُرَدُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ بِسَاطِي، فَرَجَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى بَغْدَادَ. وَقَدْ كان الامام أحمد كارها لمجيئه إليهم وَلَكِنْ لَمْ يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَإِنَّمَا كَانَ رُجُوعُهُ عَنْ قَوْلِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي ضَرْبِهِ. ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ يُقَالُ له ابن البلخي وَشَى إِلَى الْخَلِيفَةِ شَيْئًا فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا من العلويين قد أوى إِلَى مَنْزِلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُوَ يُبَايِعُ لَهُ النَّاسَ فِي الْبَاطِنِ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ نَائِبَ بغداد أن يكبس منزل أَحْمَدَ مِنَ اللَّيْلِ.
فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَالْمَشَاعِلُ قَدْ أَحَاطَتْ بِالدَّارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى مِنْ فَوْقِ الْأَسْطِحَةِ، فَوَجَدُوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ جَالِسًا فِي دَارِهِ مَعَ عِيَالِهِ فَسَأَلُوهُ عَمَّا ذُكِرَ عَنْهُ فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَلَا هَذَا مِنْ نِيَّتِي، وَإِنِّي لِأَرَى طَاعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَفِي عُسْرِي وَيُسْرِي وَمَنْشَطِي وَمَكْرَهِي، وَأَثَرَةٍ عَلَيَّ، وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ لَهُ بِالتَّسْدِيدِ وَالتَّوْفِيقِ، فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ. فَفَتَّشُوا مَنْزِلَهُ حَتَّى مَكَانَ الْكُتُبِ وَبُيُوتَ النِّسَاءِ وَالْأَسْطِحَةَ وَغَيْرَهَا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَلَمَّا بَلَغَ(10/337)
الْمُتَوَكِّلَ ذَلِكَ وَعَلِمَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ علم أن يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَعْقُوبَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفَ بِقَوْصَرَةَ- وَهُوَ أَحَدُ الْحَجَبَةِ- بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ: هُوَ يَقْرَأُ عليك السلام ويقول: اسْتَنْفَقَ هَذِهِ، فَامْتَنَعَ مَنْ قَبُولِهَا. فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي أَخْشَى مِنْ رَدِّكَ إِيَّاهَا أَنْ يَقَعَ وَحْشَةٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَالْمَصْلَحَةُ لكل قَبُولُهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَهُ ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمَّا كَانَ من آخر الليل استدعى أَحْمَدُ أَهْلَهُ وَبَنِي عَمِّهِ وَعِيَالَهُ وَقَالَ: لَمْ أَنَمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، فَجَلَسُوا وَكَتَبُوا أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ إلى المائة والمائتين، فلم يبق منها درهما، وأعطى منها لأبى أيوب وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، وَتَصَدَّقَ بِالْكِيسِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهَا لِأَهْلِهِ شَيْئًا وَهُمْ في غاية الفقر والجهد، وجاء بنو ابْنِهِ فَقَالَ: أَعْطِنِي دِرْهَمًا. فَنَظَرَ أَحْمَدُ إِلَى ابْنِهِ صَالِحٍ فَتَنَاوَلَ صَالِحٌ قِطْعَةً فَأَعْطَاهَا الصَّبِيَّ فسكت أحمد.
وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ قَبِلَهَا مِنْكَ وَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْكَ، وماذا يَصْنَعُ أَحْمَدُ بِالْمَالِ؟ إِنَّمَا يَكْفِيهِ رَغِيفٌ. فَقَالَ: صَدَقْتَ.
فَلَمَّا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا الْقَرِيبُ، وَتَوَلَّى نيابة بغداد عبد الله ابن إِسْحَاقَ، كَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، فَقَالَ لِأَحْمَدَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَضَعِيفٌ، فَرَدَّ الْجَوَابَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ يَعْزِمُ عَلَيْهِ لَتَأْتِيَنِّي، وَكَتَبَ إلى أحمد: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ آنَسَ بِقُرْبِكَ وَبِالنَّظَرِ إِلَيْكَ، وَيَحْصُلَ لِي بَرَكَةُ دُعَائِكَ. فَسَارَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ- وَهُوَ عَلِيلٌ- فِي بَنِيهِ وَبَعْضِ أَهْلِهِ، فَلَمَّا قَارَبَ الْعَسْكَرَ تَلَقَّاهُ وَصِيفٌ الْخَادِمُ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، فَسَلَّمَ وَصِيفٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فرد السلام وقال لَهُ وَصِيفٌ: قَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْ عَدُوِّكَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا، وَجَعَلَ ابْنُهُ يَدْعُو اللَّهَ لِلْخَلِيفَةِ وَلِوَصِيفٍ. فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْعَسْكَرِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، أُنْزِلَ أَحْمَدُ فِي دَارِ إِيتَاخَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ ارْتَحَلَ مِنْهَا وَأَمَرَ أَنْ يُسْتَكْرَى لَهُ دَارٌ غَيْرُهَا. وَكَانَ رُءُوسُ الْأُمَرَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْضُرُونَ عِنْدَهُ وَيُبَلِّغُونَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ السَّلَامَ، وَلَا يدخلون عليه حتى يقلعون مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الزِّينَةِ وَالسِّلَاحِ. وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِالْمَفَارِشِ الْوَطِيئَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِتِلْكَ الدَّارِ الْعَظِيمَةِ، وَأَرَادَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُقِيمَ هُنَاكَ لِيُحَدِّثَ النَّاسَ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْهُ فِي أَيَّامِ الْمِحْنَةِ وَمَا بَعْدَهَا من السنين المتطاولة، فاعتذر إليه بِأَنَّهُ عَلِيلٌ وَأَسْنَانُهُ تَتَحَرَّكُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يَبْعَثُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَائِدَةً فِيهَا أَلْوَانُ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَالثَّلْجُ، مِمَّا يُقَاوِمُ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ يَوْمِ، وَالْخَلِيفَةُ يَحْسَبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ أحمد يأكل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ كَانَ صَائِمًا يَطْوِي، فَمَكَثَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْتَطْعِمْ بِطَعَامٍ، ومع ذلك هو مريض، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَيْهِ وَلَدُهُ حَتَّى شَرِبَ قَلِيلًا مِنَ السَّوِيقِ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ. وَجَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ بِمَالٍ جَزِيلٍ من الخليفة جائزة له فامتنع(10/338)
من قبوله، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ فَلَمْ يَقْبَلْ. فَأَخَذَهَا الْأَمِيرُ فَفَرَّقَهَا عَلَى بَنِيهِ وَأَهْلِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يمكن ردها على الخليفة. وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ لِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَمَانَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الخليفة، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا هَذَا إِلَّا لِوَلَدِكَ. فَأَمْسَكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عن مما نعته ثم أخذ يلوم أهله وعمه، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا بَقِيَ لَنَا أَيَّامٌ قَلَائِلُ، وكأننا قد نَزَلَ بِنَا الْمَوْتُ، فَإِمَّا إِلَى جَنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى نَارٍ، فَنَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَبُطُونُنَا قَدْ أَخَذَتْ مِنْ مَالِ هَؤُلَاءِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ يَعِظُهُمْ بِهِ.
فَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ ولا مستشرف فخذه» . وأن ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ قَبِلَا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ. فقال: وما هَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال.
ولما استمر ضعفه جَعَلَ الْمُتَوَكِّلُ يَبْعَثُ إِلَيْهِ بِابْنِ مَاسَوَيْهِ الْمُتَطَبِّبِ لِيَنْظُرَ فِي مَرَضِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين إن أحمد لَيْسَ بِهِ عِلَّةٌ فِي بَدَنِهِ، وَإِنَّمَا عِلَّتُهُ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ وَكَثْرَةِ الصِّيَامِ وَالْعِبَادَةِ. فَسَكَتَ الْمُتَوَكِّلُ ثُمَّ سَأَلَتْ أَمُّ الْخَلِيفَةِ مِنْهُ أَنْ تَرَى الْإِمَامَ أَحْمَدَ، فَبَعَثَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له، ولكن فِي حِجْرِهِ. فَتَمَنَّعَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَجَابَ إِلَيْهِ رَجَاءَ أَنْ يُعَجِّلَ بِرُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ بِبَغْدَادَ. وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ بِخِلْعَةٍ سَنِيَّةٍ وَمَرْكُوبٍ من مراكبه، فَامْتَنَعَ مِنْ رُكُوبِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ مِيثَرَةُ نُمُورٍ، فَجِيءَ بِبَغْلٍ لِبَعْضِ التُّجَّارِ فَرَكِبَهُ وَجَاءَ إِلَى مَجْلِسٍ الْمُعْتَزِّ، وَقَدْ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ وَأَمُّهُ فِي نَاحِيَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رقيق. فلما جاء أحمد قال: سلام عَلَيْكُمْ. وَجَلَسَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، فَقَالَتْ أَمُّ الْخَلِيفَةِ: اللَّهَ اللَّهَ يَا بُنَيَّ فِي هَذَا الرَّجُلِ تَرُدُّهُ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّنْ يُرِيدُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ. وَحِينَ رَأَى الْمُتَوَكِّلُ أَحْمَدَ قَالَ لِأُمِّهِ: يَا أُمَّهْ قد تأنست الدَّارُ. وَجَاءَ الْخَادِمُ وَمَعَهُ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ مُبَطَّنَةٌ وثوب وقلنسوة وطيلسان، فألبسها أَحْمَدَ بِيَدِهِ، وَأَحْمَدُ لَا يَتَحَرَّكُ بِالْكُلِّيَّةِ.
قَالَ الامام أحمد: ولما جَلَسْتُ إِلَى الْمُعْتَزِّ قَالَ مُؤَدِّبُهُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ هَذَا الَّذِي أَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّبَكَ. فَقَالَ: إِنْ عَلَّمَنِي شَيْئًا تَعَلَّمْتُهُ، قَالَ أحمد: فتعجبت مِنْ ذَكَائِهِ فِي صِغَرِهِ لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا جدا فخرج أَحْمَدُ عَنْهُمْ وَهُوَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَسْتَعِيذُ باللَّه مِنْ مَقْتِهِ وَغَضَبِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ أَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ بِالِانْصِرَافِ وَهَيَّأَ لَهُ حَرَّاقَةً فَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَنْحَدِرَ فِيهَا، بَلْ رَكِبَ فِي زَوْرَقٍ فَدَخَلَ بَغْدَادَ مُخْتَفِيًا، وَأَمَرَ أَنْ تُبَاعَ تِلْكَ الْخِلْعَةُ وَأَنْ يُتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَجَعَلَ أَيَّامًا يَتَأَلَّمُ مِنَ اجْتِمَاعِهِ بِهِمْ وَيَقُولُ: سَلِمْتُ مِنْهُمْ طُولَ عُمْرِي ثُمَّ ابْتُلِيتُ بِهِمْ فِي آخِرِهِ. وَكَانَ قَدْ جَاعَ عِنْدَهُمْ جوعا عظيما كثيرا حتى كاد أن يقتله الجوع. وقد قال بعض الأمراء للمتوكل: إن أحمد لَا يَأْكُلُ لَكَ طَعَامًا، وَلَا يَشْرَبُ لَكَ شَرَابًا، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى فَرْشِكَ، وَيُحَرِّمُ مَا تشربه. فقال: وَاللَّهِ لَوْ نُشِرَ الْمُعْتَصِمُ وَكَلَّمَنِي فِي أَحْمَدَ مَا قَبِلْتُ مِنْهُ. وَجَعَلَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ تَفِدُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْتَعْلِمُ أَخْبَارَهُ(10/339)
وَكَيْفَ حَالُهُ. وَجَعَلَ يَسْتَفْتِيهِ فِي أَمْوَالِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَلَا يُجِيبُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ المتوكل أخرج ابن أبى دؤاد من سرمن رَأَى إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ نَفْسَهُ بِبَيْعِ ضِيَاعِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِ كُلِّهَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: وَحِينَ رَجَعَ أبى من سامرا وَجَدْنَا عَيْنَيْهِ قَدْ دَخَلَتَا فِي مُوقَيْهِ، وَمَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ إِلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَرَابَتِهِ أَوْ يَدْخُلَ بَيْتًا هُمْ فِيهِ أَوْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ لِأَجْلِ قَبُولِهِمْ أَمْوَالَ السُّلْطَانِ.
وَكَانَ مَسِيرُ أَحْمَدَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ مَكَثَ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إِلَيْهِ فِي أُمُورٍ يُشَاوِرُهُ فِيهَا، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَشْيَاءَ تَقَعُ لَهُ. وَلَمَّا قَدِمَ الْمُتَوَكِّلُ بَغْدَادَ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنَ خَاقَانَ وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى مَنْ يَرَى، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا وَتَفْرِقَتِهَا، وَقَالَ:
إِنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَعْفَانِي مِمَّا أَكْرَهُ فَرَدَّهَا. وَكَتَبَ رَجُلٌ رُقْعَةً إِلَى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين إن أحمد يَشْتُمُ آبَاءَكَ وَيَرْمِيهِمْ بِالزَّنْدَقَةِ. فَكَتَبَ فِيهَا الْمُتَوَكِّلُ: أَمَّا الْمَأْمُونُ فَإِنَّهُ خَلَطَ فَسَلَّطَ النَّاسَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا أَبِي الْمُعْتَصِمُ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلَ حَرْبٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَصَرٌ بِالْكَلَامِ، وَأَمَّا أَخِي الْوَاثِقُ فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ مَا قِيلَ فِيهِ. ثم أمر أن يضرب الرَّجُلُ الَّذِي رَفَعَ إِلَيْهِ الرُّقْعَةَ مِائَتَيْ سَوْطٍ، فأخذه عبد الله بن إسحاق ابن إِبْرَاهِيمَ فَضَرَبَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ. فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: لِمَ ضَرَبْتَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ؟ فَقَالَ: مِائَتَيْنِ لِطَاعَتِكَ ومائتين لطاعة الله، وَمِائَةً لِكَوْنِهِ قَذَفَ هَذَا الشَّيْخَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ كَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَحْمَدَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ وَاسْتِفَادَةٍ لَا سُؤَالَ تَعَنُّتٍ وَلَا امْتِحَانٍ وَلَا عِنَادٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ رِسَالَةً حَسَنَةً فِيهَا آثَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ. وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُهُ صَالِحٌ فِي الْمِحْنَةِ الَّتِي سَاقَهَا، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ، وَقَدْ نقلها غير واحد من الحفاظ
. ذكر وفاة الامام أحمد بن حنبل
قَالَ ابْنُهُ صَالِحٌ: كَانَ مَرَضُهُ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَحْمُومٌ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَقُلْتُ:
يَا أَبَتِ مَا كَانَ غَدَاؤُكَ؟ فَقَالَ: ماء الباقلاء. ثم إن صالحا ذَكَرَ كَثْرَةَ مَجِيءِ النَّاسِ مِنَ الْأَكَابِرِ وَعُمُومِ الناس لعيادته وكثرة حرج النَّاسِ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَعَهُ خُرَيْقَةٌ فِيهَا قُطَيْعَاتٌ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا، وَقَدْ أَمَرَ وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَالِبَ سُكَّانَ مِلْكِهِ وَأَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ فَاشْتَرَى تَمْرًا وَكَفَّرَ عَنْ أَبِيهِ، وَفَضَلَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ. وَكَتَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصِيَّتَهُ:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يُشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وَأَوْصَى مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي الْعَابِدِينَ، وَأَنْ يَحْمَدُوهُ فِي(10/340)
الحامدين، وأن ينصحوا الجماعة الْمُسْلِمِينَ، وَأُوصِي أَنِّي قَدْ رَضِيتُ باللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَأُوصِي لِعَبْدِ اللَّهِ بن محمد المعروف ببوران على نحو من خمسين دينارا وهو مصدق فيها فيقضى ماله عَلَيَّ مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا اسْتُوْفِيَ أُعْطِي وَلَدُ صَالِحٍ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالصِّبْيَانِ مَنْ وَرَثَتِهِ فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ، وَكَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ صَبِيٌّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِينَ يَوْمًا فَسَمَّاهُ سَعِيدًا، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ قد مشى حين مرض فدعا، فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَهُ ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِالْوَلَدِ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ؟ فَقِيلَ لَهُ: ذُرِّيَّةٌ تكون بعدك يدعون لك. قال وذاك إن حصل. وجعل يحمد الله تعالى. وَقَدْ بَلَغَهُ فِي مَرَضِهِ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كان يكره أنين المريض فَتَرَكَ الْأَنِينَ فَلَمْ يَئِنَّ حَتَّى كَانَتِ اللَّيْلَةُ التي توفى في صبيحتها أنّ، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَنَّ حِينَ اشْتَدَّ به الْوَجَعُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ويروى عن صالح أيضا أنه قال:
حين احتضر أبى جَعَلَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: لَا بَعْدُ، لَا بعد، فقلت: يا أبة ما هذه اللفظة التي تلهج بِهَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ إِبْلِيسَ وَاقِفٌ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ وَهُوَ عَاضٌّ عَلَى أُصْبُعِهِ وَهُوَ يَقُولُ: فُتَّنِي يَا أَحْمَدُ؟ فَأَقُولُ لَا بَعْدُ لَا بَعْدُ- يَعْنِي لا يفوته حتى تخرج نفسه مِنْ جَسَدِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ- كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ قَالَ إِبْلِيسُ: يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فقال الله: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَلَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي.
وَأَحْسَنُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يُوَضِّئُوهُ فَجَعَلُوا يُوَضِّئُونَهُ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ أَنْ خَلَّلُوا أَصَابِعِي وَهُوَ يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَتْ وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الشَّوَارِعِ وَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مَنَادِيلَ فِيهَا أَكْفَانٌ، وَأَرْسَلَ يَقُولُ: هَذَا نِيَابَةً عَنِ الْخَلِيفَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَبَعَثَ بِهَذَا. فَأَرْسَلَ أَوْلَادُهُ يَقُولُونَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ قَدْ أَعْفَاهُ فِي حَيَاتِهِ مِمَّا يَكْرَهُ وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان، وأتى بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه وَاشْتَرَوْا مَعَهُ عَوَزَ لِفَافَةٍ وَحَنُوطًا، وَاشْتَرَوْا لَهُ راوية ماء وامتنعوا ان يغسلوه بماء بُيُوتِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ هَجَرَ بُيُوتَهُمْ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا وَلَا يَسْتَعِيرُ مَنْ أَمْتِعَتِهِمْ شَيْئًا، وَكَانَ لَا يَزَالُ مُتَغَضِّبًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مَا رُتِّبَ لَهُمْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. وكان لهم عيال كثيرة وهم فَقُرَاءَ. وَحَضَرَ غُسْلَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ بَيْتِ الْخِلَافَةِ مَنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَ بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله. وَخَرَجَ النَّاسُ بِنَعْشِهِ وَالْخَلَائِقُ حَوْلَهُ مِنَ الرِّجَالِ والنساء ما لم يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَنَائِبُ الْبَلَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَاقِفٌ فِي جملة الناس، ثم تقدم فَعَزَّى أَوْلَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَمَّ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر وعلى القبر بعد أن دفن من أجل(10/341)
ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي قَبْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْأَمِيرَ محمد بن طاهر أمر بحرز النَّاسِ فَوُجِدُوا أَلْفَ أَلْفٍ وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ وَسَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ سِوَى مَنْ كَانَ فِي السفن. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ بَلَغَنِي أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ أَمَرَ أَنْ يُمْسَحَ الموضع الّذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الامام أحمد بن حنبل فبلغ مقاسه ألفى ألف وخمسمائة ألف. قال الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ الْقَاضِي يَقُولُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الزِّنْجَانِيَّ سَمِعَتْ عَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقَ يَقُولُ: ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الّذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل. فقال عبد الرحمن بن أبى حاتم سمعت أبى يقول حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمَكِّيُّ سَمِعْتُ الْوَرْكَانِيَّ- جار أحمد ابن حَنْبَلٍ- قَالَ: أَسْلَمَ يَوْمَ مَاتَ أَحْمَدُ عِشْرُونَ ألفا من اليهود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَسْلَمَ عَشَرَةُ آلَافٍ بَدَلَ عِشْرِينَ أَلْفًا فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ الدار قطنى: سَمِعْتُ أَبَا سَهْلِ بْنَ زِيَادٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمر. وقد صدق الله قول أحمد في هذا، فإنه كَانَ إِمَامَ السُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَعُيُونُ مُخَالِفِيهِ أحمد بن أبى دؤاد وهو قاضى قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه. ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان. وَكَذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ مَعَ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَتَنْقِيرِهِ وَمُحَاسَبَتِهِ نَفْسَهُ فِي خِطْرَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ، لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ من الناس.
وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جِدًّا، فَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّاعِرِ أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ أُصَلِّ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَرُوِيَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ دُفِنَ أَحْمَدُ: دُفِنَ الْيَوْمَ سَادِسُ خَمْسَةٍ، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعُمَرُ بْنُ عبد العزيز وأحمد. وكان عمره يوم مات سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً وَأَيَّامًا أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ رحمه الله تعالى.
ذكر ما رئي له من المنامات الصالحة وما رأى هو لنفسه
وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ» . وَفِي رِوَايَةٍ «إِلَّا الرُّؤْيَا يا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» . وَرَوَى البيهقي عن الحاكم سمعت على بن محشاد سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ شَبِيبٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجَاءَهُ شَيْخٌ وَمَعَهُ عُكَّازَةٌ فَسَلَّمَ وَجَلَسَ فَقَالَ:
مَنْ مِنْكُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: أَنَا مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ ضَرَبْتُ إِلَيْكَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ فَرْسَخٍ، أُرِيتُ الْخَضِرَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: سِرْ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَلْ عَنْهُ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ سَاكِنَ العرش والملائكة راضون بِمَا صَبَرْتَ نَفْسَكَ للَّه عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ. قال: لما(10/342)
مَاتَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اغْتَمَمْتُ غَمًّا شَدِيدًا فَرَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ مِشْيَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مِشْيَةُ الْخُدَّامِ فِي دَارِ السلام. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَتَوَّجَنِي وَأَلْبَسَنِي نَعْلَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ هَذَا بِقَوْلِكَ الْقُرْآنُ كَلَامِي، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ ادْعُنِي بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ الَّتِي بَلَغَتْكَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَكُنْتَ تدعو بهن في دار الدنيا، فقلت:
يَا رَبِّ كُلُّ شَيْءٍ، بِقُدْرَتِكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اغْفِرْ لِي كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى لَا تَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ. فَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ هَذِهِ الْجَنَّةُ قُمْ فَادْخُلْهَا. فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بسفيان الثوري وله جناحان أخضر ان يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة، وهو يقول الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي 39: 74 ... وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ 39: 74. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ بِشْرٌ الْحَافِي؟ فَقَالَ بَخٍ بَخٍ، وَمَنْ مِثْلُ بِشْرٍ؟ تَرَكْتُهُ بين يدي الجليل وبين يديه مائة مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَلِيلُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَاشْرَبْ يَا مَنْ لَمْ يَشْرَبْ، وَانْعَمْ يَا مَنْ لَمْ يَنْعَمْ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بن أبى حاتم عن محمد بن مسلم ابن وَارَةَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو زُرْعَةَ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ قال الْجَبَّارُ: أَلْحِقُوهُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بن حنبل. وقال أحمد بْنُ خُرَّزَادَ الْأَنْطَاكِيُّ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ القيامة قد قامت وقد بر الرب جل جلاله، لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَكَأَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنْ تَحْتٍ الْعَرْشِ: أَدْخِلُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الجنة. قال فقلت لملك إلى جنبي: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بن حنبل. وروى أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ الْمَقْدِسِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ وَهُوَ نائم وعليه ثوب مغطى به وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَذُبَّانِ عنه. وقد تقدم فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ عَنْ يَحْيَى الْجَلَّاءِ أَنَّهُ رَأَى كَأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي حَلْقَةٍ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَأَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ فِي حَلْقَةٍ أُخْرَى وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بَيْنَ الحلقتين وهو يتلو هذه الآية فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ 6: 89 وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ 6: 89 ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كانت زلازل هائلة في البلاد، فمنها مَا كَانَ بِمَدِينَةِ قُومِسَ، تَهَدَّمَتْ مِنْهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا نَحْوٌ مَنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ نَفْسًا. وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ وَخُرَاسَانَ وَفَارِسَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ زَلَازِلُ مُنْكِرَةٌ. وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ فانتهبوا شَيْئًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الذَّرَارِي. فَإِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وفيها حج بالناس عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامُ بن محمد بن على نائب مكة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ قَاضِي مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ.(10/343)
وأبو حسان الزيادي
قاضى الشرقية، واسمه الحسن بن عثمان بن خماد بن حسان بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ، وَوَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَالْوَاقِدِيَّ، وَخَلْقًا سِوَاهُمْ. وَعَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدنيا وعلى ابن عبد الله الفرغاني الحافظ المعروف بطفل، وجماعة. ترجمه ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ. قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ مِنْ سُلَالَةِ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، إِنَّمَا تَزَوَّجَ بَعْضُ أَجْدَادِهِ بِأُمِّ وَلَدٍ لِزِيَادٍ، فَقِيلَ لَهُ الزِّيَادِيُّ. ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ حَدِيثِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» . الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ عَنِ الْخَطِيبِ أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَفَاضِلِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَلِيَ قَضَاءَ الشَّرْقِيَّةِ فِي خِلَافَةِ الْمُتَوَكِّلِ، وَلَهُ تَارِيخٌ على السنين، وَلَهُ حَدِيثٌ كَثِيرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ صَالِحًا دَيِّنًا قَدْ عَمِلَ الْكُتُبَ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جيدة بِأَيَّامِ النَّاسِ، وَلَهُ تَارِيخٌ حَسَنٌ، وَكَانَ كَرِيمًا مِفْضَالًا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، مِنْهَا أَنَّهُ أَنْفَذَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يذكر له أَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ ضَائِقَةٌ فِي عِيدٍ مِنَ الْأَعْيَادِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُ مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَرْسَلَهَا بِصُرَّتِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ صاحب له أيضا وشكا إليه مثلما شكا إلى الزيادي، فأرسل بها الآخر إلى ذلك الآخر. وكتب أبو حسان إلى ذلك الرجل الأخير الّذي وصلت إليه أخيرا يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِالْأَمْرِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْمِائَةِ فِي صُرَّتِهَا، فَلِمَا رَآهَا تعجب من أمرها وركب إليه يسأله عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ أَنَّ فُلَانًا أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ، فاجتمعوا الثلاثة واقتسموا المائة الدينار رحمهم الله وجزاهم عن مروءتهم خيرا.
وفيها توفى أبو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ أَحَدُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. وَالْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أكثم.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا تَوَجَّهَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْعِرَاقِ قَاصِدًا مَدِينَةَ دِمَشْقَ لِيَجْعَلَهَا لَهُ دار إقامة ومحلة إمامة فأدركه عيد الأضحى بها، وتأسف أهل العراق على ذهاب الخليفة من بين أظهرهم، فَقَالَ فِي ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ:
أَظُنُّ الشَّامَ تَشْمَتُ بِالْعِرَاقِ ... إِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ على الطلاق
فان يدع الْعِرَاقَ وَسَاكِنِيهَا ... فَقَدْ تُبْلَى الْمَلِيحَةُ بِالطَّلَاقِ
وَحَجَّ بالناس فيها الّذي حج بهم في التي قبلها وهو نائب مكة.
وفيها توفى من الأعيان
كما قال ابن جرير:
إبراهيم بن العباس
متولى ديوان الضياع. قلت: هو إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ الصولي الشاعر الكاتب،(10/344)
وَهُوَ عَمُّ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ، وَكَانَ جده صول بكر مَلِكَ جُرْجَانَ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْهَا، ثُمَّ تَمَجَّسَ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَلِإِبْرَاهِيمَ هَذَا دِيوَانُ شِعْرٍ ذَكَرَهُ ابْنُ خِلِّكَانَ وَاسْتَجَادَ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُهُ:
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى ... ذَرَعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا مَخْرَجُ
ضَاقَتْ فَلَمَّا استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لَا تُفْرَجُ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
كُنْتَ السَّوَادَ لِمُقْلَتِي ... فَبَكَى عَلَيْكَ النَّاظِرُ
مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ ... فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ
وَمِنْ ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ إِلَى وَزِيرِ الْمُعْتَصِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ:
وَكُنْتَ أَخِي بِإِخَاءِ الزَّمَانِ ... فلما ثنى صِرْتَ حَرْبًا عَوَانَا
وَكُنْتُ أَذُمُّ إِلَيْكَ الزَّمَانَ ... فَأَصْبَحْتُ مِنْكَ أَذُمُّ الزَّمَانَا
وَكُنْتُ أَعُدُّكَ لِلنَّائِبَاتِ ... فها أنا أطلب منك الأمانا
وله أيضا:
لا يمنعك خَفْضُ الْعَيْشِ فِي دَعَةٍ ... نُزُوعُ نَفْسٍ إِلَى أَهْلٍ وَأَوْطَانِ
تَلَقَى بِكُلِّ بِلَادٍ إِنْ حَلَلْتَ بها ... أهلا بأهل وأوطانا بأوطان
كانت وَفَاتُهُ بِمُنْتَصَفِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. بِسُرَّ من رأى. والحسن بن مخلد بن الجراح خليفة إبراهيم بن شعبان. قال: ومات هاشم بن فيجور في ذي الحجة.
قُلْتُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ. وَالْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ. أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ. وحرملة ابن يَحْيَى التُّجِيبِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ. وَهَارُونُ ابن عبد الله الحماني. وهناد بن السري.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صِفْرٍ مِنْهَا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى مَدِينَةِ دِمَشْقَ فِي أُبَّهَةِ الْخِلَافَةِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى الْإِقَامَةِ بِهَا، وَأَمَرَ بِنَقْلِ دَوَاوِينِ الْمُلْكِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْقُصُورِ بِهَا فَبُنِيَتْ بِطَرِيقِ دَارَيَّا، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَوْخَمَهَا وَرَأَى أَنَّ هَوَاءَهَا بَارِدٌ نَدِيٌّ وَمَاءَهَا ثَقِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَوَاءِ الْعِرَاقِ وَمَائِهِ، وَرَأَى الْهَوَاءَ بِهَا يَتَحَرَّكُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، فَلَا يَزَالُ فِي اشْتِدَادٍ وَغُبَارٍ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ثُلْثِ اللَّيْلِ، وَرَأَى كَثْرَةَ الْبَرَاغِيثِ بِهَا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ فَصْلُ الشِّتَاءِ فَرَأَى مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ أَمْرًا عَجِيبًا، وغلت الأسعار وهو بها لكثرة الخلق الذين معه، وَانْقَطَعَتِ الْأَجْلَابُ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ، فَضَجِرَ منها ثم جهز بُغَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ آخر السنة إلى سامرا بعد ما أقام بدمشق شهرين وعشرة أيام، ففرح به أهل بغداد فرحا شديدا. وفيها أُتِيَ الْمُتَوَكِّلُ بِالْحَرْبَةِ(10/345)
الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ففرح بها فرحا شديدا، وقد كَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْعِيدِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ لِلنَّجَاشِيِّ فَوَهَبَهَا لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَوَهَبَهَا الزُّبَيْرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، ثم إن المتوكل أمر صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهَا غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى الطَّبِيبِ بَخْتَيَشُوعَ وَنَفَاهُ وَأَخَذَ مَالَهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فيها عبد الصمد المتقدم ذكره قَبْلَهَا. وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمُ عِيدِ الأضحى وخميس فطر اليهود وشعانين النصارى وهذا عجيب غريب.
وفيها توفى أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ. وَإِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْخَطْمِيُّ. وحميد بن مسعدة. وعبد الحميد بن سنان. وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ. وَالْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الملك الزَّيَّاتِ. وَيَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ صَاحِبُ إِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ
. ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أمر المتوكل ببناء مدينة الماحوزة وحفر نهرها، فَيُقَالُ إِنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى بِنَائِهَا وَبِنَاءِ قَصْرٍ الخلافة بها الّذي يقال له «اللؤلؤة» ألفى ألف دينار. وفيها وَقَعَتْ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ فِي بِلَادٍ شَتَّى، فَمِنْ ذلك بمدينة أنطاكية سَقَطَ فِيهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ دَارٍ، وَانْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ بُرْجًا، وَسُمِعَتْ مَنْ كُوَى دُورِهَا أَصْوَاتٌ مُزْعِجَةٌ جِدًّا فَخَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ سِرَاعًا يُهْرَعُونَ، وَسَقَطَ الْجَبَلُ الَّذِي إِلَى جَانِبِهَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْأَقْرَعُ فَسَاخَ فِي الْبَحْرِ، فهاج البحر عند ذلك وارتفع دُخَانٌ أَسْوَدُ مُظْلِمٌ مُنْتِنٌ، وَغَارَ نَهْرٌ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهَا فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ. ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: وَسَمِعَ فِيهَا أَهْلُ تِنِّيسَ ضَجَّةً دَائِمَةً طَوِيلَةً مَاتَ مِنْهَا خلق كثير. قال: وزلزلت فيها الرها والرقة وحران ورأس العين وحمص ودمشق وَطَرَسُوسُ وَالْمِصِّيصَةُ، وَأَذَنَةُ وَسَوَاحِلُ الشَّامِ، وَرَجَفَتِ اللَّاذِقِيَّةُ بأهلها فما بقي منها منزل إلا انهدم، وما بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا الْيَسِيرُ، وَذَهَبَتْ جَبَلَةُ بأهلها. وفيها غارت مشاش- عين- مكة حَتَّى بَلَّغَ ثَمَنُ الْقِرْبَةِ بِمَكَّةَ ثَمَانِينَ دِرْهَمًا. ثم أرسل المتوكل فأنفق عليها مالا جزيلا حتى خرجت. وَفِيهَا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي. وَهِلَالٌ الرَّازِيُّ.
وَفِيهَا هلك نجاح بن سلمة وقد كَانَ عَلَى دِيوَانِ التَّوْقِيعِ. وَقَدْ كَانَ حَظِيًّا عند المتوكل، ثم جرت له حكاية أفضت به إلى أن أخذ المتوكل أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ قِصَّتَهُ ابْنُ جرير مطولة.
وفيها توفى
أحمد بن عبدة الضبيّ، وأبو الحيس القواس مقرى مَكَّةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ. وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى ابْنُ بِنْتِ السدي. وذو النون المصري، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رافع، وهشام بن عمار، وأبو تراب النخشى.
وابن الراونديّ
الزنديق، وهو أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو الْحُسَيْنِ بن الراونديّ، نسبة إلى قرية ببلاد قاشان(10/346)
ثُمَّ نَشَأَ بِبَغْدَادَ، كَانَ بِهَا يُصَنِّفُ الْكُتُبَ في الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا ولا في الآخرة. وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً حَسَبَ مَا ذكرها ابن الجوزي في سنة ثمان وتسعين ومائتين وإنما ذكرناه هاهنا لأن ابْنَ خِلِّكَانَ ذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السنة، وقد تلبس عليه ولم يجرحه بل مدحه فقال: هو أبو الحسين أحمد بْنِ إِسْحَاقَ الرَّاوَنْدِيُّ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ، لَهُ مَقَالَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَكَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ فِي عَصْرِهِ، وَلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ نَحْوٌ مِنْ مائة وأربعة عشرة كتابا، منها فَضِيحَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكِتَابُ التَّاجِ، وَكِتَابُ الزُّمُرُّدَةِ، وَكِتَابُ الْقَصَبِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَلَهُ مَحَاسِنُ وَمُحَاضَرَاتٌ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِمَذَاهِبَ نقلها عنه أهل الكلام.
تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، بِرَحْبَةِ مَالِكِ بن طوق التغلبي، وقيل ببغداد. نقلت ذلك عن ابن خلكان بحروفه وهو غلط. وَإِنَّمَا أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ ثمان وتسعين ومائتين كما سيأتي له هناك تَرْجَمَةٌ مُطَوَّلَةٌ.
ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ
ثَوْبَانُ بْنُ إبراهيم، وقيل ابن الْفَيْضُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْفَيْضِ الْمِصْرِيُّ أَحَدُ المشايخ المشهورين، وقد ترجمه ابْنُ خِلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثمان وأربعين ومائتين فاللَّه أَعْلَمُ. وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأَ عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تاريخ مصر، قال: كان أبوه نوبيا، وقيل إنه كان من أهل اخميم، وكان حكيما فصيحا، قيل وَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ تَوْبَتِهِ فَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى قبرة عمياء نزلت من وكرها فانشقت لها الْأَرْضُ عَنْ سُكُرَّجَتَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فِي إِحْدَاهِمَا سِمْسِمٌ وَفِي الْأُخْرَى مَاءٌ، فَأَكَلَتْ مِنْ هذه وشربت من هذه. وقد شكى عليه مَرَّةً إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فَأَحْضَرَهُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَعَظَهُ فَأَبْكَاهُ، فَرَدَّهُ مكرما. فكان بعد ذلك إذا ذكر عند المتوكل يثنى عليه.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْهَا دَخَلَ الْمُتَوَكِّلُ الْمَاحُوزَةَ فَنَزَلَ بقصر الخلافة فيها، واستدعى بالقراء ثم بالمطر بين وَأَعْطَى وَأَطْلَقَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَفِي صَفَرٍ منها وقع الفداء بين المسلمين والروم، ففدى مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ أَسِيرٍ. وفي شعبان منها أمطرت بَغْدَادُ مَطَرًا عَظِيمًا اسْتَمَرَّ نَحْوًا مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَوَقَعَ بِأَرْضِ بَلْخَ مَطَرٌ مَاؤُهُ دَمٌ عَبِيطٌ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سليمان الزنيبى، وَحَجَّ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بن طاهر وولى أمر الموسم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم الدورقي. والحسين بن أبى الحسن المروزي. وأبو عمرو الدُّورِيُّ. أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى الحمصي.(10/347)
ودعبل بن على
ابن رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخُزَاعِيُّ، مَوْلَاهُمُ الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ البليغ في المدح، وفي الهجاء أكثر.
حَضَرَ يَوْمًا عِنْدَ سَهْلِ بْنِ هَارُونَ الْكَاتِبِ وَكَانَ بَخِيلًا، فَاسْتَدْعَى بِغَدَائِهِ فَإِذَا دِيكٌ فِي قصعة، وإذا هو قاس لا يقطعه سكين إلا بشدة، ولا يعمل فيه ضرس. فلما حضر بين يديه فُقِدَ رَأَسُهُ فَقَالَ لِلطَّبَّاخِ وَيْلَكَ، مَاذَا صَنَعْتَ؟ أَيْنَ رَأْسُهُ، قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّكَ لَا تَأْكُلُهُ فَأَلْقَيْتُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعِيبُ عَلَى مَنْ يُلْقِي الرِّجْلَيْنِ فَكَيْفَ بِالرَّأْسِ، وَفِيهِ الْحَوَاسُّ الأربع، ومنه يصوت وبه، فضل عينيه وبهما يضرب المثل، وعرفه وبه يتبرك، وعظمه أهنى الْعِظَامِ، فَإِنْ كُنْتَ رَغِبْتَ عَنْ أَكْلِهِ فَأَحْضِرْهُ. فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ؟ فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَدْرِي، هُوَ فِي بَطْنِكَ قَاتَلَكَ اللَّهُ. فهجاه بأبيات ذكر فيها بخلة ومسكه
. أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ
وَاسْمُهُ [1] عَبْدُ اللَّهِ بن ميمون بن عياش بْنِ الْحَارِثِ أَبُو الْحَسَنِ التَّغْلِبِيُّ الْغَطَفَانِيُّ، أَحَدُ العلماء الزُّهَّادِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْأَبْرَارِ الْمَشْكُورِينَ، ذَوِي الأحوال الصالحة، والكرامات الواضحة، أصله من الكوفة وسكن دمشق وتخرج بأبي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعٍ وَأَبِي أُسَامَةَ وَخَلْقٍ. وَعَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَخَلْقٌ كثير. وقد ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ:
إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ اللَّهُ يَسْقِي أَهْلَ الشَّامِ بِهِ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ يقول: هو ريحانة الشام.
وروى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَاهَدَ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ أَلَّا يُغْضِبَهُ وَلَا يُخَالِفَهُ، فَجَاءَهُ يَوْمًا وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي هذا قَدْ سَجَّرُوا التَّنُّورَ فَمَاذَا تَأْمُرُ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَبُو سُلَيْمَانَ، لِشُغْلِهِ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَعَادَهَا أحمد ثانية، وقال لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: اذْهَبْ فَاقْعُدْ فِيهِ. ثُمَّ اشْتَغَلَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّاسِ ثُمَّ اسْتَفَاقَ فَقَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: إِنِّي قُلْتُ لِأَحْمَدَ: اذهب فاقعد في التنور، وإني أحسب أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقُومُوا بِنَا إِلَيْهِ. فَذَهَبُوا فَوَجَدُوهُ جَالِسًا فِي التَّنُّورِ وَلَمْ يحترق منه شيء ولا شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ. وَرَوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْحَوَارِيِّ أَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُصْلِحُ بِهِ الْوَلَدَ، فَقَالَ لِخَادِمِهِ: اذْهَبْ فَاسْتَدِنْ لَنَا وَزْنَةً مِنْ دَقِيقٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ إِنَّهُ قَدْ وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ ولد ولا أملك شيئا، فرفع طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: يَا مَوْلَايَ هَكَذَا بالعجلة. ثم قال للرجل: خذ هذه الدراهم، فأعطاه إياها كلها، ولم يبق منها شيئا، وَاسْتَدَانَ لِأَهْلِهِ دَقِيقًا. وَرَوَى عَنْهُ خَادِمُهُ أَنَّهُ خرج للثغر لأجل الرباط فَمَا زَالَتِ الْهَدَايَا تَفِدُ إِلَيْهِ مِنْ بُكْرَةِ النَّهَارِ إِلَى الزَّوَالِ، ثُمَّ فَرَّقَهَا كُلَّهَا إِلَى وقت
__________
[1] أي اسم أبى الحواري والد أحمد.(10/348)
الْغُرُوبِ ثُمَّ قَالَ لِي: كُنْ هَكَذَا لَا تَرُدَّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَدَّخِرْ عَنْهُ شيئا.
ولما جاءت المحنة في زَمَنَ الْمَأْمُونِ إِلَى دِمَشْقَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ عُيِّنَ فيها أحمد بن أبى الحواري وهشام ابن عَمَّارٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن ذكوان، فكلهم أجابوا إلا ابن أَبِي الْحَوَارِيِّ فَحُبِسَ بِدَارِ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ هُدِّدَ فَأَجَابَ تَوْرِيَةً مُكْرَهًا، ثُمَّ أُطْلِقَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ قَامَ لَيْلَةً بِالثَّغْرِ يُكَرِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5 حَتَّى أَصْبَحَ. وَقَدْ أَلْقَى كُتُبَهُ فِي الْبَحْرِ وَقَالَ: نِعْمَ الدَّلِيلُ كُنْتَ لِي عَلَى اللَّهِ وَإِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالدَّلِيلِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مُحَالٌ. وَمِنْ كَلَامِهِ لَا دَلِيلَ عَلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِآدَابِ الْخِدْمَةِ. وَقَالَ: مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا زَهِدَ فِيهَا، وَمَنْ عَرَفَ الْآخِرَةَ رَغِبَ فِيهَا، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ آثَرَ رِضَاهُ. وَقَالَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ إِرَادَةٍ وَحُبٍّ لَهَا أَخْرَجَ اللَّهُ نُورَ الْيَقِينِ وَالزُّهْدَ مَنْ قَلْبِهِ. وَقَالَ: قلت لأبى سليمان في ابتداء أمرى: أوصني، فقال: أتستوص أَنْتَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فقال: خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الأمارة بالسوء، وإياك أن تحقر إخوانك الْمُسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ طَاعَةَ اللَّهِ دِثَارًا، وَالْخَوْفَ مِنْهُ شعارا، والإخلاص له زادا، والصدق حسنة، وَاقْبَلْ مِنِّي هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ وَلَا تُفَارِقْهَا ولا تغفل عنها:
مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ وأحواله وأفعاله، بلغه الله إِلَى مَقَامِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ فَجَعَلْتُ هذه الكلمات أمامى في كُلِّ وَقْتٍ أَذْكُرُهَا وَأُطَالِبُ نَفْسِي بِهَا. وَالصَّحِيحُ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فاللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي شَوَّالٍ مِنْهَا كَانَ مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى الله على يد وَلَدِهِ الْمُنْتَصِرِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمُعْتَزَّ الَّذِي هُوَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَخْطُبَ بِالنَّاسِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَأَدَّاهَا أَدَاءً عَظِيمًا بَلِيغًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْتَصِرِ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَحَنَقَ عَلَى أبيه وأخيه، فأحضره أبوه وأهانه وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فِي رَأْسِهِ وَصَفْعِهِ، وَصَرَّحَ بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ، فَاشْتَدَّ أَيْضًا حَنَقُهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ. فَلَمَّا كَانَ يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف مِنْ عِلَّةٍ بِهِ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى خِيَامٍ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ فِي مِثْلِهَا، فَنَزَلَ هُنَاكَ ثُمَّ اسْتَدْعَى فِي يَوْمِ ثَالِثِ شوال بند مائه عَلَى عَادَتِهِ فِي سَمَرِهِ وَحَضْرَتِهِ، وَشُرْبِهِ، ثُمَّ تَمَالَأَ وَلَدُهُ الْمُنْتَصِرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى الفتك به فدخلوا عليه لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، وَيُقَالُ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ عَلَى السِّمَاطِ فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّيُوفِ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ وَلَّوْا بَعْدَهُ ولده المنتصر.
وهذه ترجمة المتوكل على الله
جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، وأم المتوكل أَمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا(10/349)
شجاع، وكانت من سروات النساء سنحا وَحَزْمًا. كَانَ مَوْلِدُهُ بِفَمِ الصُّلْحِ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ الْوَاثِقِ فِي يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين.
وقد روى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ الْخَيْرَ» . ثُمَّ أَنْشَأَ الْمُتَوَكِّلُ يَقُولُ:
الرّفق يمن والاناة سعادة ... فاستأذن فِي رِفْقٍ تُلَاقِ نَجَاحَا
لَا خَيْرَ فِي حَزْمٍ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ ... وَالشَّكُ وَهْنٌ إِنْ أَرَدْتَ سراحا
وقال ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ: وَحَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ الْمُعْتَصِمِ وَيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي. وَرَوَى عَنْهُ على ابن الْجَهْمِ الشَّاعِرُ، وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَقَدِمَ المتوكل دمشق في خلافته وبنى بِهَا قَصْرًا بِأَرْضِ دَارَيَّا. وَقَالَ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ: إن الخلفاء تتغضب عَلَى الرَّعِيَّةِ لِتُطِيعَهَا، وَإِنِّي أَلِينُ لَهُمْ لِيُحِبُّونِي وَيُطِيعُونِي. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الْمَالِكِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ قَالَ: وَجَّهَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَذَّلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَجَمَعَهُمْ فِي دَارِهِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الناس كلهم إليه إلا أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَذَّلِ. فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إن هذا لا يرى بيعتنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين بلى! وَلَكِنْ فِي بَصَرِهِ سُوءٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ المعذل: يا أمير المؤمنين مَا فِي بَصَرِي سُوءٌ، وَلَكِنْ نَزَّهْتُكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنَّ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . فَجَاءَ الْمُتَوَكِّلُ فجلس إلى جنبه. وروى الخطيب أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْجَهْمِ دَخَلَ عَلَى الْمُتَوَكِّلِ وَفِي يَدِهِ دُرَّتَانِ يُقَلِّبُهُمَا فَأَنْشُدُهُ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يقول فيها: -
وإذا مررت ببئر عروة ... فاستقى مِنْ مَائِهَا
فَأَعْطَاهُ الَّتِي فِي يَمِينِهِ وَكَانَتْ تُسَاوِي مِائَةَ أَلْفٍ. ثُمَّ أَنْشَدَهُ:
بِسُرَّ مَنْ رأى أمير ... تَغْرِفُ مِنْ بَحْرِهِ الْبِحَارُ
يُرْجَى وَيُخْشَى لِكُلِّ خَطْبٍ ... كَأَنَّهُ جَنَّةٌ وَنَارُ
الْمُلْكُ فِيهِ وَفِي بَنِيهِ ... مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
يَدَاهُ فِي الْجُودِ ضَرَّتَانِ ... عَلَيْهِ كِلْتَاهُمَا تَغَارُ
لَمْ تَأْتِ مِنْهُ الْيَمِينُ شَيْئًا ... إِلَّا أَتَتْ مِثْلَهُ الْيَسَارُ
قال: فأعطاه التي في يساره أيضا. قال الخطيب: وقد رويت هذه الأبيات لعلى بن هارون البحتري فِي الْمُتَوَكِّلِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بن الجهم قال: وقفت فتحية حَظِيَّةُ الْمُتَوَكِّلِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَدْ كَتَبَتْ عَلَى خَدِّهَا بِالْغَالِيَةِ جَعْفَرٌ فَتَأَمَّلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَنْشَأَ يقول:(10/350)
وكاتبه في الخد بالمسك جعفرا ... بنفسي تحط الْمِسْكِ مِنْ حَيْثُ أَثَّرَا
لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْرًا مِنَ الْمِسْكِ خَدَّهَا ... لَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي مِنَ الْحُبِّ أَسْطُرًا
فَيَا مَنْ مُنَاهَا فِي السَّرِيرَةِ جَعْفَرٌ ... سَقَى اللَّهُ مِنْ سُقْيَا ثَنَايَاكِ جَعْفَرًا
ويا من لمملوك بملك يَمِينِهِ ... مُطِيعٍ لَهُ فِيمَا أَسَرَّ وَأَظْهَرَا
قَالَ ثم أمر المتوكل عربا فَغَنَّتْ بِهِ. وَقَالَ الْفَتْحُ بْنُ خَاقَانَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمُتَوَكِّلِ فَإِذَا هُوَ مُطْرِقٌ مُفَكِّرٌ فقلت: يا أمير المؤمنين مالك مفكر؟ فو الله مَا عَلَى الْأَرْضِ أَطْيَبُ مِنْكَ عَيْشًا، وَلَا أنعم منك بالا. قال: بلى أَطْيَبُ مِنِّي عَيْشًا رَجُلٌ لَهُ دَارٌ وَاسِعَةٌ وَزَوْجَةٌ صَالِحَةٌ وَمَعِيشَةٌ حَاضِرَةٌ، لَا يَعْرِفُنَا فَنُؤْذِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْنَا فَنَزْدَرِيهِ. وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ مُحَبَّبًا إلى رعيته قائما في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حَتَّى رَجَعُوا إِلَى الدِّينِ. وَبِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز حين رد مظالم بنى أمية. وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بَعْدَ انْتِشَارِهَا وَاشْتِهَارِهَا فَرَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ في نور قال فقلت:
المتوكل؟ قال: المتوكل. قلت: فَمَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قُلْتُ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِقَلِيلٍ مِنَ السُّنَّةِ أَحْيَيْتُهَا. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ لَيْلَةَ مَاتَ الْمُتَوَكِّلُ كَأَنَّ رَجُلًا يَصْعَدُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَائِلًا يَقُولُ:
مَلِكٌ يُقَادُ إِلَى مَلِيكٍ عَادِلٍ ... مُتَفَضِّلٍ فِي الْعَفْوِ لَيْسَ بِجَائِرِ
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شيبان الحلبي قال: رأيت ليلة الْمُتَوَكِّلُ قَائِلًا يَقُولُ: -
يَا نَائِمَ الْعَيْنِ فِي أوطان جُثْمَانِ ... أَفِضْ دُمُوعَكَ يَا عَمْرُو بْنَ شَيْبَانِ
أما ترى الفئة الْأَرْجَاسَ مَا فَعَلُوا ... بِالْهَاشِمِيِّ وَبِالْفَتْحِ بْنِ خَاقَانِ
وَافَى إِلَى اللَّهِ مَظْلُومًا فَضَجَّ لَهُ ... أَهْلُ السموات من مثنى ووحدان
وسوف يأتيكم من بعده فتن ... تَوَقَّعُوهَا لَهَا شَأْنٌ مِنَ الشَّانِ
فَابْكُوا عَلَى جعفر وابكوا خَلِيفَتَكُمْ ... فَقَدْ بَكَاهُ جَمِيعُ الْإِنْسِ وَالْجَانِ
قَالَ: فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياى فجاء نعى المتوكل أنه قد قُتِلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، قَالَ ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا بِشَهْرٍ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي.
قُلْتُ بِمَاذَا؟ قَالَ: بِقَلِيلٍ مِنَ السُّنَّةِ أَحْيَيْتُهَا. قُلْتُ فَمَا تَصْنَعُ هَاهُنَا؟ قَالَ: أَنْتَظِرُ ابْنِي مُحَمَّدًا أُخَاصِمُهُ إِلَى الله الحليم العظيم الكريم.
وذكرنا قريبا كيفية مقتله وأنه قتل فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ لِأَرْبَعٍ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سبع وأربعين ومائتين- بالمتوكلية وهي الماحوزية، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ،(10/351)
وَدُفِنَ بِالْجَعْفَرِيَّةِ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ أَسْمَرَ حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ نَحِيفَ الْجِسْمِ خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ والله سبحانه اعلم.
خلافة محمد المنتصر بن الْمُتَوَكِّلِ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَمَالَأَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، وَحِينَ قُتِلَ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ شَوَّالٍ أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ مِنَ الْعَامَّةِ وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَزِّ فَأَحْضَرَهُ إِلَيْهِ فَبَايَعَهُ الْمُعْتَزُّ، وَقَدْ كَانَ المعتز هو ولى العهد من بعد أبيه، ولكنه أكرهه وخاف فَسَلَّمَ وَبَايَعَ. فَلَمَّا أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ كَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنَّهُ اتَّهَمَ الْفَتْحَ بْنَ خَاقَانَ عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، وَقُتِلَ الْفَتْحُ أَيْضًا، ثُمَّ بَعَثَ الْبَيْعَةَ لَهُ إِلَى الْآفَاقِ. وَفِي ثَانِي يَوْمٍ مِنْ خِلَافَتِهِ وَلَّى الْمَظَالِمَ لأبى عمرة أحمد ابن سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَا ضَيْعَةَ الْإِسْلَامِ لَمَّا وَلِيَ ... مَظَالِمَ النَّاسِ أَبُو عَمْرَهْ
صُيِّرَ مَأْمُونًا عَلَى أُمَّةٍ ... وَلَيْسَ مَأْمُونًا عَلَى بَعْرَهْ
وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ بِالْمُتَوَكِّلِيَّةِ، وَهِيَ الْمَاحُوزَةُ، فَأَقَامَ بِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ هو وجميع قوّاده وحشمه منها إلى سامرا. وفيها في ذي الحجة أخرج المنتصر عمه على بن المعتصم من سامرا إِلَى بَغْدَادَ وَوَكَّلَ بِهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بن سليمان الزينبي.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ.
وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَسَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ.
وَأَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ
وَاسْمُهُ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ شَيْخُ النُّحَاةِ فِي زمانه، أخذه عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَأَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ وَأَكْثَرَ عَنْهُ، وَلِلْمَازِنِيِّ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَكَانَ شَبِيهًا بِالْفُقَهَاءِ وَرِعًا زَاهِدًا ثِقَةً مَأْمُونًا. رَوَى عَنْهُ الْمُبَرِّدُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَيُعْطِيَهُ مِائَةَ دِينَارٍ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. فَلَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا تركت أخذ الأجرة عليه لِمَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. فَاتَّفَقَ بَعْدَ هَذَا أَنَّ جَارِيَةً غَنَّتْ بِحَضْرَةِ الْوَاثِقِ:
أَظَلُومُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجْلًا ... رَدَّ السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ
فَاخْتَلَفَ مَنْ بِحَضْرَةِ الْوَاثِقِ فِي إِعْرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، وَهَلْ يَكُونُ رَجُلًا مَرْفُوعًا أَوْ مَنْصُوبًا، وَبِمَ نُصِبَ؟ أَهْوَ اسْمٌ أَوْ مَاذَا؟ وَأَصَرَّتِ الْجَارِيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَازِنِيَّ حَفَّظَهَا هَذَا هَكَذَا. قَالَ فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمَازِنِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ مِنْ مَازِنِ تَمِيمٍ أَمْ مِنْ مازن ربيعة أم مَازِنِ قَيْسٍ؟ فَقُلْتُ مِنْ مَازِنِ رَبِيعَةَ. فَأَخَذَ يكلمني بلغني، فَقَالَ: بَاسْمُكَ؟ وَهُمْ يَقْلِبُونَ الْبَاءَ مِيمًا وَالْمِيمَ بَاءً، فَكَرِهْتُ أَنْ أَقُولَ مَكْرٌ فَقُلْتُ: بَكْرٌ، فَأَعْجَبَهُ إِعْرَاضِي عَنِ الْمَكْرِ إِلَى الْبِكْرِ، وَعَرَفَ ما أردت.(10/352)
فقال: على م انتصب رجلا؟ فقلت: لأنه معمول المصدر بمصابكم فَأَخَذَ الْيَزِيدِيُّ يُعَارِضُهُ فَعَلَاهُ الْمَازِنِيُّ بِالْحُجَّةِ فَأَطْلَقَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَلْفَ دِينَارٍ وَرَدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ مكرما. فعوضه الله عن المائة الدينار- لما تركها للَّه سبحانه ولم يمكن الّذي مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ القرآن- ألف دينار عشرة أمثالها. روى الْمُبَرِّدُ عَنْهُ قَالَ: أَقَرَأْتُ رَجُلًا كِتَابَ سِيبَوَيْهِ إلى آخره، فلما انتهى إلى آخره قَالَ لِي: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ فَجَزَاكَ الله خيرا، وأما أنا فو الله مَا فَهِمْتُ مِنْهُ حَرْفًا. تُوُفِّيَ الْمَازِنِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين
فيها أَغْزَى الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا التُّرْكِيَّ الصَّائِفَةَ لِقِتَالِ الرُّومِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَصَدَ بِلَادَ الشَّامِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَهَّزَ الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا وَجَهَّزَ مَعَهُ نفقات وعددا كَثِيرَةٍ، وَأَمَرَهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ الرُّومِ أَنْ يُقِيمَ بِالثَّغْرِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَتَبَ لَهُ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نَائِبِ الْعِرَاقِ كِتَابًا عَظِيمًا فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّحْرِيضِ لِلنَّاسِ عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ. وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد إبراهيم أَنْفَسَهُمَا مِنَ الْخِلَافَةِ، وَأَشْهَدَا عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمَا عاجزان عن الخلافة، والمسلمين في حل من بيعتهما، وذلك بعد ما تَهَدَّدَهُمَا أَخُوهُمَا الْمُنْتَصِرُ وَتَوَعَّدَهُمَا بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُ تَوْلِيَةُ ابْنِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِإِشَارَةِ أُمَرَاءِ الْأَتْرَاكِ بِذَلِكَ. وَخَطَبَ بِذَلِكَ عَلَى رءوس الأشهاد بحضرة القواد والقضاة وأعيان الناس والعوام، وكتب بذلك إلى الآفاق لِيَعْلَمُوا بِذَلِكَ وَيَخْطُبُوا لَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَيَتَوَالَى عَلَى مَحَالِّ الْكِتَابَةِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْلُبَهُمَا الْمُلْكَ وَيَجْعَلَهُ فِي ولده، وَالْأَقْدَارُ تُكَذِّبُهُ وَتُخَالِفُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ سِوَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَفِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَرَضَتْ لَهُ علة كان فيها حتفه، وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ يَصْعَدُ سُلَّمًا فَبَلَغَ إِلَى آخَرِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ درجة. فقصّها على بعض المعبرين فقال: تلى خمسا وعشرين سنة الْخِلَافَةَ، وَإِذَا هِيَ مُدَّةُ عُمْرِهِ قَدِ اسْتَكْمَلَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ يَوْمًا فَإِذَا هُوَ يَبْكِي وَيَنْتَحِبُ شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْ بُكَائِهِ فَقَالَ: رَأَيْتُ أَبِي الْمُتَوَكِّلَ فِي مَنَامِي هَذَا وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكَ يَا مُحَمَّدُ قَتَلْتَنِي وَظَلَمْتَنِي وَغَصَبْتَنِي خِلَافَتِي، وَاللَّهِ لا أمتعت بِهَا بَعْدِي إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً ثُمَّ مَصِيرُكَ إِلَى النَّارِ. قَالَ: فَمَا أَمْلِكُ عَيْنِي وَلَا جزعي. فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغزون النَّاسَ وَيَفْتِنُونَهُمْ: هَذِهِ رُؤْيَا وَهِيَ تَصْدُقُ وَتَكْذِبُ، قم بِنَا إِلَى الشَّرَابِ لِيَذْهَبَ هَمُّكَ وَحُزْنُكَ. فَأَمَرَ بالشراب فأحضر وجاء ندماؤه فأخذه فِي الْخَمْرِ وَهُوَ مُنْكَسِرُ الْهِمَّةِ، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ مَكْسُورًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي علته التي كان فيها هلاكه، فقيل دَاءٌ فِي رَأْسِهِ فَقُطِّرَ فِي أُذُنِهِ دُهْنٌ فلما وصل(10/353)
إِلَى دِمَاغِهِ عُوجِلَ بِالْمَوْتِ، وَقِيلَ بَلْ وَرِمَتْ مَعِدَتُهُ فَانْتَهَى الْوَرَمُ إِلَى قَلْبِهِ فَمَاتَ، وَقِيلَ بَلْ أَصَابَتْهُ ذَبْحَةٌ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَاتَ، وَقِيلَ بَلْ فَصَدَهُ الْحَجَّامُ بِمِفْصَدٍ مَسْمُومٍ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا الْحَجَّامَ رَجَعَ إِلَى منزله وهو محموم فدعا تلميذا له حتى يفصده فأخذ مبضع أستاذه ففصده به وَهُوَ لَا يَشْعُرُ وَأَنْسَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّامَ فَمَا ذَكَرَ حَتَّى رَآهُ قَدْ فَصَدَهُ بِهِ وَتَحَكَّمَ فِيهِ السُّمُّ، فَأَوْصَى عِنْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ أُمَّ الْخَلِيفَةِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ حَالُكَ؟ فَقَالَ: ذَهَبَتْ مِنِّي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَنْشَدَ لما أحيط به وأيس من الحياة:
فَمَا فَرِحَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَصَبْتُهَا ... وَلَكِنْ إِلَى الحرب الكريم أصير
فمات يوم الأحد لخمس بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقْتَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، قِيلَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِنَّمَا مكث بالخلافة سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا أَزْيَدَ مِنْهَا. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ- الْعَامَّةَ وَغَيْرَهُمْ حِينَ وَلِيَ الْمُنْتَصِرُ- إِنَّهُ لَا يَمْكُثُ فِي الْخِلَافَةِ سِوَى ستة أشهر، وذلك مدة خلافة من قتل أباه لأجلها، كما مكث شبرويه بْنُ كِسْرَى حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ لِأَجْلِ الْمُلْكِ. وكذلك وقع، وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ أَعْيَنَ أَقْنَى قَصِيرًا مَهِيبًا جَيِّدَ الْبَدَنِ، وَهُوَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ مِنْ بَنِي العباس أبرز قبره بِإِشَارَةِ أُمِّهِ حَبَشِيَّةَ الرُّومِيَّةِ.
وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ مَا عَزَّ ذُو بَاطِلٍ قَطُّ، وَلَوْ طَلَعَ الْقَمَرُ مِنْ جَبِينِهِ، وَلَا ذَلَّ ذُو حَقٍّ قَطُّ وَلَوْ أَصْفَقَ الْعَالَمُ عَلَيْهِ.
بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء العاشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الحادي عشر وأوله خلافة أحمد المستعين باللَّه. والله نسأل المعونة والتوفيق.(10/354)
[المجلد الحادي عشر]
[تتمة سنة ثمان وأربعين ومائتين]
بسم الله الرحمن الرحيم
خِلَافَةُ الْمُسْتَعِينِ باللَّه
وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بن محمد الْمُعْتَصِمِ. بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ الْمُنْتَصِرُ، بَايَعَهُ عُمُومُ النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجَتْ عَلَيْهِ شِرْذِمَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ يَقُولُونَ: يَا مُعْتَزُّ يَا مَنْصُورُ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ، وَقَامَ بِنَصْرِ الْمُسْتَعِينِ جُمْهُورُ الجيش، فاقتتلوا قتالا شديدا أياما فقتل منهم خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَانْتُهِبَتْ أَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ مِنْ بغداد، وجرت فتن منتشرة كَثِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِلْمُسْتَعِينِ فَعَزَلَ وولى وقطع ووصل، وأمر ونهى أياما ومدة غير طويلة. وَفِيهَا مَاتَ بُغَا الْكَبِيرُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ منها، فَوَلَّى الْخَلِيفَةُ مَكَانَهُ وَلَدَهُ مُوسَى بْنَ بُغَا. وقد كانت له همم عَالِيَةٌ وَآثَارٌ سَامِيَةٌ، وَغَزَوَاتٌ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ متوالية وكان له من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار. وترك عشر حبات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار، وثلاث جبات سلا ذهبا وورق وَفِيهَا عَدَا أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ فَأَخْرَجُوهُ من بين أظهرهم، فأخذ منهم المستعين مِائَةَ رَجُلٍ مِنْ سَرَاتِهِمْ وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِهِمْ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ
. وفيها توفى من الأعيان
أحمد ابن صَالِحٍ. وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ. وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ. وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ. وَعِيسَى ابن حَمَّادٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ زينور. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ
وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ
وَاسْمُهُ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ يزيد الجشمي أبو حاتم النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ(11/2)
الْكَثِيرَةِ وَكَانَ بَارِعًا فِي اللُّغَةِ. اشْتَغَلَ فِيهَا على أبى عبيد وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَأَخَذَ عَنْهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا. وَكَانَ صالحا كثير الصدقة والتلاوة، كان يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ بِدِينَارٍ وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ أسبوع بختمة، وَلَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ مِنْهُ قَوْلُهُ:
أَبْرَزُوا وَجْهَهُ الجميل ... وَلَامُوا مَنِ افْتُتِنْ
لَوْ أَرَادُوا صِيَانَتِي ... سَتَرُوا وجهه الحسن
كانت وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يوم الجمعة للنصف من رجب الْتَقَى جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَخَلْقٌ مِنَ الرُّومِ بالقرب من ملطية، فاقتتلوا قتالا شديدا، قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَقْطَعِ، وَقُتِلَ مَعَهُ أَلْفَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ قتل على بن يحيى الأرمني، وكان أميرا في طائفة من المسلمين أيضا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَقَدْ كَانَ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ. وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ منها، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ كَرِهُوا جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ قَدْ تَغَلَّبُوا عَلَى أَمْرِ الْخِلَافَةِ وَقَتَلُوا الْمُتَوَكِّلَ وَاسْتَضْعَفُوا الْمُنْتَصِرَ وَالْمُسْتَعِينَ بَعْدَهُ، فَنَهَضُوا إِلَى السجن فأخرجوا من كان فيه، وجاءوا إلى أحد الجسرين فقطعوه وضربوا الآخر بالنار، وأحرقوا وَنَادَوْا بِالنَّفِيرِ فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَنَهَبُوا أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةً، وَذَلِكَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بغداد. ثم جمع أهل اليسار أموالا كثيرة من أهل بغداد لتصرف إلى من ينهض إلى ثغور المسلمين لقتال العدو عِوَضًا عَنْ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَاكَ، فأقبل الناس من نواحي الجبال وأهواز وَفَارِسَ وَغَيْرِهَا لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ والجيش لم ينهضوا إلى بلاد الروم وقتال أعداء الإسلام، وقد ضعف جانب الخلافة واشتغلوا بالقيان والملاهي، فعند ذلك غضبت العوام مِنْ ذَلِكَ وَفَعَلُوا مَا ذَكَرْنَا. وَلِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَهَضَ عَامَّةُ أَهْلِ سَامَرَّا إلى السجن فأخرجوا من فيه أيضا كما فعل أهل بغداد وَجَاءَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْجَيْشِ يُقَالُ لَهُمُ الزُّرَافَةُ فهزمتهم العامة، فعند ذلك ركب وَصِيفٌ وَبُغَا الصَّغِيرُ وَعَامَّةُ الْأَتْرَاكِ فَقَتَلُوا مِنَ العامة خلقا كثيرا، وجرت فتن طويلة ثم سكنت.
وفي منتصف رَبِيعٍ الْآخَرِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَذَلِكَ أن المستعين قَدْ فَوَّضَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَهُمْ أُتَامِشُ التُّرْكِيُّ، وكان أخص من عند الخليفة وهو بمنزلة الوزير، وفي حجره العباس بن الْمُسْتَعِينِ يُرَبِّيهِ وَيَعَلِّمُهُ الْفُرُوسِيَّةَ. وَشَاهَكُ الْخَادِمُ، وَأُمُّ الْخَلِيفَةِ.
وَكَانَ لَا يَمْنَعُهَا شَيْئًا تُرِيدُهُ، وَكَانَ لَهَا كَاتِبٌ يُقَالُ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ النَّصْرَانِيُّ. فَأَقْبَلَ أُتَامِشُ فَأَسْرَفَ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ بِبَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا، فَغَضِبَ الأتراك من ذلك وغاروا منه فاجتمعوا(11/3)
وركبوا عليه وَأَحَاطُوا بِقَصْرِ الْخِلَافَةِ وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ، وَلَمْ يمكنه منعه منهم ولا دفعهم عنه، فأخذوه صَاغِرًا فَقَتَلُوهُ وَانْتَهَبُوا أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ وَدُورَهُ، وَاسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ أَبَا صَالِحٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ محمد ابن يَزْدَادَ، وَوَلَّى بُغَا الصَّغِيرَ فِلَسْطِينَ، وَوَلَّى وَصِيفًا الأهواز، وجرى خبط كثير وشر كثير، ووهن الخليفة وضعف. وتحركت المغاربة بسامراء فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَرْكَبُونَ ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَهُوَ الْيَوْمُ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ تَمُّوزَ، مُطِرَ أهل سامرا مطرا عظيما برعد شديد، وبرق متصل وغيم منعقد مُطْبِقٌ وَالْمَطَرُ مُسْتَهِلٌّ كَثِيرٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ أَصَابَ أهل الري زلزلة شديدة جدا، وتبعتها رجفة هَائِلَةٌ تَهَدَّمَتْ مِنْهَا الدُّورُ وَمَاتَ مِنْهَا خَلْقٌ كثير، وخرج بقية أهلها إلى الصحراء. وفيها حج بالناس عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم الامام وهو والى مكة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ. وَالْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ صَاحِبُ كِتَابِ السُّنَنِ.
وَرَجَاءُ بن مرجا الحافظ. وعبد بن حميد صاحب التَّفْسِيرِ الْحَافِلِ. وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ
وَعَلِيُّ بن الجهم
ابن بدر بْنِ مَسْعُودِ بْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيُّ السَّامِيُّ مِنْ وَلَدِ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ الْخُرَاسَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَأَهْلِ الدِّيَانَةِ الْمُعْتَبَرِينَ. وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ فِيهِ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ فِيهِ تَحَامُلٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِالْمُتَوَكِّلِ ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ فَنَفَاهُ إِلَى خُرَاسَانَ وَأَمَرَ نَائِبَهُ بها أن يضربه مُجَرَّدًا فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ:
بَلَاءٌ لَيْسَ يَعْدِلُهُ بَلَاءٌ ... عَدَاوَةُ غَيْرِ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ
يُبِيحُكَ مِنْهُ عِرْضًا لَمْ يَصُنْهُ ... ويرتع منك في عرض مصون
قال ذلك في مروان بن حفصة حين هجاء فَقَالَ فِي هِجَائِهِ لَهُ:
لَعَمْرُكَ مَا الْجَهْمُ بْنُ بَدْرٍ بِشَاعِرٍ ... وَهَذَا عَلِيٌّ بَعْدَهُ يَدَّعِي الشِّعْرَا
وَلَكِنْ أَبِي قَدْ كَانَ جَارًا لِأُمِّهِ ... فلما ادعى الاشعار أو همني أَمْرَا
كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ قَدْ قَدِمَ الشَّامَ ثُمَّ عَادَ قَاصِدًا الْعِرَاقَ، فَلَمَّا جَاوَزَ حَلَبَ ثَارَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي كَلْبٍ فَقَاتَلَهُمْ فَجُرِحَ جُرْحًا بَلِيغًا فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فوجد في ثِيَابِهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا:
يَا رَحْمَتَا لِلْغَرِيبِ بالبلد ... النازح مَاذَا بِنَفْسِهِ صَنَعَا
فَارَقَ أَحْبَابَهُ فَمَا انْتَفَعُوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا
كانت وفاته بهذا السبب في هذه السنة(11/4)
ثم دخلت سنة خمسين ومائتين من الهجرة
فِيهَا كَانَ ظُهُورُ أَبِي الْحُسَيْنِ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى بْنِ حُسَيْنِ بْنِ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن أبى طالب، وَأُمُّهُ أُمُّ الْحُسَيْنِ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن جعفر ابن أَبِي طَالِبٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فَدَخَلَ سَامَرَّا فَسَأَلَ وَصِيفًا أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا فَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ. فَرَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ عَلَى الْفَلُّوجَةِ وَقَدْ كَثُرَ الْجَمْعُ مَعَهُ، فَكَتَبَ مُحَمَّدُ بن عبد الله بن طاهر نائب العراق إلى عامله بالكوفة- وهو أبو أيوب بن الحسين بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ- يَأْمُرُهُ بقتاله. ودخل يحيى ابن عُمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فَاحْتَوَى عَلَى بَيْتِ مَالِهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ سِوَى أَلْفَيْ دِينَارٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ بِالْكُوفَةِ وَفَتَحَ السِّجْنَيْنِ وَأَطْلَقَ مَنْ فِيهِمَا، وَأَخْرَجَ نُوَّابَ الْخَلِيفَةِ مِنْهَا وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَاسْتَحْكَمَ أَمْرُهُ بِهَا، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى سَوَادِهَا ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا، فَتَلَقَّاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطَّابِ الْمُلَقَّبُ وَجْهَ الْفُلْسِ، فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَ وَجْهُ الْفُلْسِ وَدَخَلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْكُوفَةَ وَدَعَا إلى الرضى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ جَدًّا، وَصَارَ إليه جماعة كثيرة من أهل الكوفة، وَتَوَلَّاهُ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنَ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ينسب إلى التشيع، وأحبوه أكثر من كل من خرج قبله مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَشَرَعَ فِي تَحْصِيلِ السِّلَاحِ وإعداد آلات الحرب وجمع الرجال. وقد هرب نائب الكوفة منها إِلَى ظَاهِرِهَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جهة الخليفة مع محمد بن عبد الله بن طاهر، واستراحوا وجمعوا خيولهم، فلما كان اليوم الثاني عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ أَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَى يَحْيَى بْنِ عُمَرَ مِمَّنْ لَا رَأْيَ لَهُ، أن يركب ويناجز الحسين ابن إِسْمَاعِيلَ وَيَكْبِسَ جَيْشَهُ، فَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْمُشَاةِ أَيْضًا مِنْ عامة أهل الكوفة بغير أسلحة، فساروا إِلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي ظُلْمَةِ آخِرِ اللَّيْلِ، فَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِلَّا وَقَدِ انْكَشَفَ أصحاب يحيى بن عمر، وقد تقنطر به فرسه ثم طعن في ظهره فخر أيضا، فأخذوه وحزوا رأسه وحملوه إلى الأمير فبعثوه إلى ابن طَاهِرٍ فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنَ الْغَدِ مَعَ رجل يقال له عمر بن الخطاب، أخى عبد الرحمن بن الخطاب، فنصب بسامراء ساعة من النهار ثم بعث به إلى بغداد فنصب عند الجسر، ولم يمكن نصبه مِنْ كَثْرَةِ الْعَامَّةِ فَجُعِلَ فِي خَزَائِنِ السِّلَاحِ. وَلَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ دَخَلَ النَّاسُ يُهَنُّونَهُ بِالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو هَاشِمٍ دَاوُدُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْجَعْفَرِيُّ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ! إِنَّكَ لَتُهَنَّى بِقَتْلِ رَجُلٍ لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا لَعُزِّيَ بِهِ، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ أَبُو هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا بَنِي طَاهِرٍ كُلُوُهُ وَبِيَّا ... إِنَّ لَحْمَ النَّبِيِّ غُيْرُ مَرِيِّ(11/5)
إن وترا يكون طالبه الله ... لوتر تجاحه بالحرى
وكان الخليفة قَدْ وَجَّهَ أَمِيرًا إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ نَائِبِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ دَخَلُوا الْكُوفَةَ فَأَرَادَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ أَنْ يَضَعَ فِي أَهْلِهَا السَّيْفَ فَمَنَعَهُ الْحُسَيْنُ وَأَمَّنَ الْأَسْوَدَ والأبيض، وأطفأ الله هذه الفتنة.
فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بن الحسين بن زيد ابن الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِنَاحِيَةِ طبرستان، وكان سبب خروجه أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَقْطَعَ الْمُسْتَعِينُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ طَائِفَةً مِنْ أَرْضِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَبَعَثَ كَاتِبًا له يقال له جابر ابن هَارُونَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، لِيَتَسَلَّمَ تِلْكَ الْأَرَاضِيَ، فَلَمَّا انتهى إليهم كرهوا ذلك جدا وأرسلوا إلى الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ هَذَا فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَبَايَعُوهُ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الدَّيْلَمِ وَجَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، فَرَكِبَ فِيهِمْ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَأَخَذَهَا قَهْرًا، وَجَبَى خَرَاجَهَا، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا طَالِبًا لِقِتَالِ سُلَيْمَانَ بْنِ عبد الله أمير تلك الناحية، فالتقيا هنالك فكانت بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ ثُمَّ انْهَزَمَ سُلَيْمَانُ هَزِيمَةً مُنْكَرَةٌ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ دُونَ جُرْجَانَ. فدخل الحسن بن زيد سارية فأخذ ما فيها مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، وَسَيَّرَ أَهْلَ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ مكرمين على مراكب، وَاجْتَمَعَ لِلْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ إِمْرَةُ طَبَرِسْتَانَ بِكَمَالِهَا. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الرَّيِّ فَأَخَذَهَا أَيْضًا وَأَخْرَجَ منها الطاهرية، وصار إلى جند همذان ولما بلغ خبره المستعين- وكان مدير مَلِكِهِ يَوْمَئِذٍ وَصِيفٌ التُّرْكِيُّ- اغْتَمَّ لِذَلِكَ جِدًّا وَاجْتَهَدَ فِي بَعْثِ الْجُيُوشِ وَالْأَمْدَادِ لِقِتَالِ الْحَسَنِ بن زيد هذا.
وفي يوم عرفة منها ظَهَرَ بِالرَّيِّ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ حُسَيْنٍ الصَّغِيرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ ابن أَبِي طَالِبٍ، وَإِدْرِيسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الله بن موسى بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ أَحْمَدُ بن عيسى هذا ودعا إلى الرضى مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ، فَحَارَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بن طاهر فهزمه أحمد بن عيسى هذا وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ. وَفِيهَا وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عاملهم الفضل بْنِ قَارَنَ فَقَتَلُوهُ فِي رَجَبٍ، فَوَجَّهَ الْمُسْتَعِينُ إِلَيْهِمْ مُوسَى بْنَ بُغَا الْكَبِيرِ فَاقْتَتَلُوا بِأَرْضِ الرَّسْتَنِ فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا وَأَحْرَقَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنْهَا، وَأَسَرَ أَشْرَافَ أَهْلِهَا. وَفِيهَا وَثَبَتِ الشَّاكِرِيَّةُ وَالْجُنْدُ فِي أَرْضِ فَارِسَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَانْتَهَبُوا دَارَهُ وَقَتَلُوا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ قَارَنَ. وَفِيهَا غَضِبَ الْخَلِيفَةُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَنَفَاهُ إِلَى الْبَصْرَةِ. وَفِيهَا أُسْقِطَتْ مَرْتَبَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ [1] فِي دَارِ الخلافة. وفيها حج بالناس جعفر بن الفضل أمير مكة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ. والبزي أحد القراء المشاهير.
__________
[1] كذا. ولم نهتد إلى صوابه.(11/6)
والحارث بن مسكين. وأبو حاتم السجستاني. وقد تقدم ذكره في التي قبلها. وعياد بن يعقوب الرواجى. وَعَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ صَاحِبُ الْكَلَامِ وَالْمُصَنَّفَاتِ. وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحِمْصِيُّ. وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الجهضمي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا اجْتَمَعَ رَأْيُ الْمُسْتَعِينِ وَبُغَا الصَّغِيرِ وَوَصِيفٍ عَلَى قتل باغر التركي، وكان من قواد الأمراء الْكِبَارِ الَّذِينَ بَاشَرُوا قَتْلَ الْمُتَوَكِّلِ، وَقَدِ اتَّسَعَ إقطاعه وكثرت عماله، فَقُتِلَ وَنُهِبَتْ دَارُ كَاتِبِهِ دَلِيلِ بْنِ يَعْقُوبَ النصراني، ونهبت أمواله وحواصله، وركب الْخَلِيفَةُ فِي حَرَّاقَةِ مَنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ فاضطربت الأمور بسبب خروجه، وذلك في المحرم. فنزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر. وفيها وَقَعَتْ فِتْنَةٌ شَنْعَاءُ بَيْنَ جُنْدِ بَغْدَادَ وَجُنْدِ سَامَرَّا، وَدَعَا أَهْلُ سَامَرَّا إِلَى بَيْعَةِ الْمُعْتَزِّ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ بَغْدَادَ عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَأُخْرِجَ الْمُعْتَزُّ وَأَخُوهُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ السِّجْنِ فَبَايَعَ أَهْلُ سَامَرَّا الْمُعْتَزَّ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلَ بَيْتِ الْمَالِ بِهَا فَإِذَا بِهَا خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي خِزَانَةِ أَمِّ الْمُسْتَعِينِ أَلْفُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَفِي حواصل العباس بن الْمُسْتَعِينِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْمُعْتَزِّ بسامراء. وَأَمَرَ الْمُسْتَعِينُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ يُحَصِّنَ بَغْدَادَ وَيَعْمَلَ فِي السُّورَيْنِ وَالْخَنْدَقِ، وَغَرِمَ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وثلاثين ألف دينار، وو كل بِكُلِّ بَابٍ أَمِيرًا يَحْفَظُهُ، وَنَصَبَ عَلَى السُّورِ خمسة مناجيق، مِنْهَا وَاحِدٌ كَبِيرٌ جِدًّا، يُقَالُ لَهُ الْغَضْبَانُ، وَسِتَّ عَرَّادَاتٍ وَأَعَدُّوا آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْحِصَارِ وَالْعُدَدَ، وَقُطِعَتِ الْقَنَاطِرُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِئَلَّا يَصِلَ الْجَيْشُ إِلَيْهِمْ. وَكَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ فِي أَمْرِهِ، وَيُذَكِّرُهُ مَا كَانَ أَخَذَهُ عليهم أبوه المتوكل من العهود والمواثيق، من أنه ولى العهد بعده، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ بَلْ رَدَّ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِحُجَجٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَكَتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَعِينِ وَالْمُعْتَزِّ إِلَى مُوسَى بْنِ بُغَا الْكَبِيرِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِأَطْرَافِ الشَّامِ لِحَرْبِ أَهْلِ حِمْصَ يَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْوِيَةٍ يَعْقِدُهَا لِمَنِ اخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي عَمَلِهِ، فَرَكِبَ مُسْرِعًا فَسَارَ إِلَى سَامَرَّا فَكَانَ مَعَ الْمُعْتَزِّ عَلَى الْمُسْتَعِينِ. وَكَذَلِكَ هَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُغَا الصَّغِيرِ مِنْ عند أبيه من بغداد إلى المعتز، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَتْرَاكِ. وَعَقَدَ الْمُعْتَزُّ لأخيه أبى أحمد بن الْمُتَوَكِّلِ عَلَى حَرْبِ الْمُسْتَعِينِ وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا لِذَلِكَ، فَسَارَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ نَحْوَ بَغْدَادَ، وَصَلَّى بِعُكْبَرَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدَعَا لِأَخِيهِ الْمُعْتَزِّ. ثُمَّ وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ فَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ هُنَالِكَ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بَاذِنْجَانَةُ كَانَ فِي عَسْكَرِ أَبِي أَحْمَدَ: -
يَا بنى طاهر جُنُودُ اللَّهِ ... وَالْمَوْتُ بَيْنَهَا مَنْثُورُ
وَجُيُوشٌ أَمَامَهُنَّ أبو أحمد ... نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ وَفِتَنٌ مَهُولَةٌ جِدًّا قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ مُطَوَّلَةً، ثُمَّ بَعَثَ الْمُعْتَزُّ مَعَ(11/7)
موسى بن ارشناس ثلاثة آلاف مددا لأخيه أبى أحمد فَوَصَلُوا لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَوَقَفُوا في الجانب الغربي عند باب قطر بل، وَأَبُو أَحْمَدَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَالْحَرْبُ مستعرة والقتال كثير جدا، وَالْقَتْلُ وَاقِعٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ الْمُعْتَزَّ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ يَلُومُهُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي قِتَالِ أَهْلِ بَغْدَادَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ:
لِأَمْرِ الْمَنَايَا عَلَيْنَا طَرِيقُ ... وللدهر فينا اتساع وضيق
وأيامنا عِبَرٌ لِلَأَنَامِ ... فَمِنْهَا الْبُكُورُ وَمِنْهَا الطَّرُوقُ
وَمِنْهَا هَنَاتٌ تُشِيبُ الْوَلِيدَ ... وَيَخْذُلُ فِيهَا الصَّدِيقَ الصَّدِيقُ
وَسُورٌ عَرِيضٌ لَهُ ذِرْوَةٌ ... تَفُوتُ الْعُيُونَ وَبَحْرٌ عَمِيقُ
قِتَالٌ مُبِيدٌ وَسَيْفٌ عَتِيدٌ ... وَخَوْفٌ شَدِيدٌ وَحِصْنٌ وَثِيقُ
وَطُولُ صِيَاحٍ لِدَاعِي الصَّبَاحِ ... السِّلَاحَ السِّلَاحَ فَمَا يَسْتَفِيقُ
فَهَذَا طَرِيحٌ وَهَذَا جَرِيحٌ ... وَهَذَا حَرِيقٌ وَهَذَا غَرِيقُ
وَهَذَا قَتِيلٌ وَهَذَا تَلِيلٌ ... وَآخَرُ يَشْدُخُهُ الْمِنْجَنِيقُ
هُنَاكَ اغْتِصَابٌ وَثَمَّ انْتِهَابٌ ... وَدُورٌ خَرَابٌ وَكَانَتْ تَرُوقُ
إِذَا مَا سَمَوْنَا إِلَى مَسْلَكٍ ... وَجَدْنَاهُ قَدْ سُدَّ عَنَّا الطَّرِيقُ
فباللَّه نَبْلُغُ مَا نَرْتَجِيهِ ... وباللَّه نَدْفَعُ مَا لَا نُطِيقُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الشِّعْرُ يُنْشَدُ لِعَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ فِي فِتْنَةِ الْمَخْلُوعِ وَالْمَأْمُونِ، وَقَدِ اسْتَمَرَّتِ الْفِتْنَةُ وَالْقِتَالُ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ أَخِي الْمُعْتَزِّ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نَائِبِ الْمُسْتَعِينِ. وَالْبَلَدُ مَحْصُورٌ وَأَهْلُهُ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ جِدًّا، بَقِيَّةَ شُهُورِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي وَقَعَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ، وَأَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، فَتَارَةً يَظْهَرُ أَصْحَابُ أَبِي أَحْمَدَ وَيَأْخُذُونَ بَعْضَ الْأَبْوَابِ فَتَحْمِلُ عَلَيْهِمُ الطَّاهِرِيَّةُ فَيُزِيحُونَهُمْ عَنْهَا، وَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا ثُمَّ يَتَرَاجَعُونَ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ وَيُصَابِرُونَهُمْ مصابرة عظيمة.
لكن أهل بغداد كلما هم إِلَى ضَعْفٍ بِسَبَبِ قِلَّةِ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ إِلَى دَاخِلِ الْبَلَدِ، ثُمَّ شَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَنْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ الْمُسْتَعِينَ وَيُبَايِعَ لِلْمُعْتَزِّ، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِرَ السَّنَةِ، فَتَنَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتَذَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَإِلَى الْعَامَّةِ. وَحَلَفَ بِالْأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ فَلَمْ تَبْرَأْ سَاحَتُهُ مِنْ ذَلِكَ حَقَّ الْبَرَاءَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ وَالْغَوْغَاءُ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ وَالْخَلِيفَةُ نَازِلٌ بِهَا، فَسَأَلُوا أَنْ يُبْرِزَ لَهُمُ الْخَلِيفَةَ لِيَرَوْهُ وَيَسْأَلُوهُ عَنِ ابْنِ طَاهِرٍ أَهْوَ رَاضٍ عَنْهُ أَمْ لَا. وَمَا زَالَتِ الضجة والأصوات مرتفعة حتى برز لهم الْخَلِيفَةُ مِنْ فَوْقِ الْمَكَانِ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِ السَّوَادُ وَمِنْ فَوْقِهِ الْبُرْدَةُ النَّبَوِيَّةُ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكُمْ بِحَقٍّ صَاحِبِ هَذِهِ الْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ لَمَا رَجَعْتُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ(11/8)
وَرَضِيتُمْ عَنِ ابْنِ طَاهِرٍ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ لَدَيَّ. فَسَكَتَ الْغَوْغَاءُ وَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ الْخَلِيفَةُ مِنْ دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ إِلَى دار رزق الخادم، وذلك في أوائل ذِي الْحِجَّةِ، وَصَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ يَوْمَ الْأَضْحَى فِي الْجَزِيرَةِ الَّتِي بِحِذَاءِ دَارَ ابْنِ طَاهِرٍ، وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ يَوْمَئِذٍ لِلنَّاسِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْحَرْبَةُ وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا ببغداد على ما بأهلها من الحصار والغلاء بالأسعار، وقد اجتمع على الناس الخوف والجوع المترجمان لباس الخوع وَالْخَوْفِ [1] نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَضَاقَ الْمَجَالُ وجاع العيال وجهد الرجال، جعل ابْنُ طَاهِرٍ يُظْهِرُ مَا كَانَ كَامِنًا فِي نَفْسِهِ مِنْ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، فَجَعَلَ يُعَرِّضُ لَهُ في ذلك وَلَا يُصَرِّحُ، ثُمَّ كَاشَفَهُ بِهِ وَأَظْهَرَهُ لَهُ وَنَاظَرَهُ فِيهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ تُصَالِحَ عَنِ الْخِلَافَةِ عَلَى مَالٍ تَأْخُذُهُ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا، وَأَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ عَامٍ مَا تَخْتَارُهُ وَتَحْتَاجُهُ، وَلَمْ يزل يقتل فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ وأناب. فكتب فيما اشْتَرَطَهُ الْمُسْتَعِينُ فِي خَلْعِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ كِتَابًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ رَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى الرُّصَافَةِ وَجَمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَأَدْخَلَهُمْ عَلَى الْمُسْتَعِينِ فَوْجًا فَوْجًا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَيَّرَ أَمْرَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ الْحُجَّابِ وَالْخَدَمِ، ثُمَّ تَسَلَّمَ مِنْهُ جَوْهَرَ الْخِلَافَةِ، وَأَقَامَ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ إِلَى هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ. وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ وَيَتَنَوَّعُونَ فِيمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَرَاجِيفِ. وَأَمَّا ابْنُ طَاهِرٍ فَإِنَّهُ أَرْسَلَ بِالْكِتَابِ مع جماعة من الأمراء إلى المعتز بسامراء، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَكْرَمَهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَهُمْ فَأَسْنَى جَوَائِزَهُمْ.
وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أمره أول السنة الداخلة.
وفيها كَانَ ظُهُورُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَيْضًا بأرض قزوين وزنجان في ربيع الأول منها، وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَرْقَطِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَيُعْرَفُ بِالْكَوْكَبِيِّ. وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ هُنَاكَ. وَفِيهَا خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ العلويّ، وهو ابن أخت موسى بن عبيد اللَّهِ الْحَسَنِيِّ، وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَيْضًا. وَفِيهَا خَرَجَ بِالْكُوفَةِ أَيْضًا رَجُلٌ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بن الحسين بن على ابن أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ مُزَاحِمَ بْنَ خَاقَانَ فَاقْتَتَلَا فَهُزِمَ الْعَلَوِيُّ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ. وَلَمَّا دَخَلَ مُزَاحِمٌ الْكُوفَةَ حَرَّقَ بِهَا أَلْفَ دَارٍ وَنَهَبَ أَمْوَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، وَبَاعَ بَعْضَ جِوَارِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ هذا، وكانت معتقة.
وَفِيهَا ظَهَرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ فَهَرَبَ مِنْهُ نَائِبُهَا جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ بن عيسى بن موسى، فانتهب مَنْزِلَهُ وَمَنَازِلَ أَصْحَابِهِ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَخَذَ مَا فِي الكعبة من الذهب والفضة والطيب وكسوة
__________
[1] كذا ولعل فيه تحريفا.(11/9)
الْكَعْبَةِ، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ نَحَوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فهرب منه نائبها أيضا على بن الحسين بن على بْنِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ رَجَعَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَجَبٍ فَحَصَرَ أَهْلَهَا حَتَّى هَلَكُوا جُوعًا وَعَطَشًا فَبِيعَ الْخُبْزُ ثَلَاثُ أَوَاقٍ بِدِرْهَمٍ، وَاللَّحْمُ الرِّطْلُ بِأَرْبَعَةٍ، وَشَرْبَةُ الْمَاءِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَلَقِيَ مِنْهُ أَهْلُ مَكَّةَ كُلَّ بَلَاءٍ، فترحل عنهم إلى جدة- بعد مقامه عليهم سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا- فَانْتَهَبَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ هُنَالِكَ وَأَخَذَ الْمَرَاكِبَ وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ لَمْ يُمَكِّنِ النَّاسَ مِنَ الْوُقُوفِ نَهَارًا وَلَا لَيْلًا، وَقَتَلَ مِنَ الْحَجِيجِ أَلْفًا وَمِائَةً، وَسَلَبَهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ عَامَئِذٍ سِوَاهُ وَمِنْ معه من الحرامية، لَا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وفيها وهن أمر الخلافة جدا. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ الكوننج وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كثير بن دينار الحمصي. وأبو البقى هشام بن عبد الملك اليزني
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
«ذِكْرُ خلافة المعتز باللَّه بن الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ بَعْدَ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ نَفْسَهُ»
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِ أبى عبد الله محمد المعتز بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هارون الرشيد، وَقِيلَ إِنَّ اسْمَ الْمُعْتَزِّ أَحْمَدُ، وَقِيلَ الزُّبَيْرُ، وهو الّذي عول عليه ابْنُ عَسَاكِرَ وَتَرْجَمَهُ فِي تَارِيخِهِ. فَلَمَّا خَلَعَ المستعين نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ وَبَايَعَ لِلْمُعْتَزِّ دَعَا الْخُطَبَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِجَوَامِعِ بَغْدَادَ عَلَى الْمَنَابِرِ لِلْخَلِيفَةِ الْمُعْتَزِّ باللَّه، وَانْتَقَلَ الْمُسْتَعِينُ مِنَ الرُّصَافَةِ إِلَى قَصْرِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ هُوَ وَعِيَالُهُ وَوَلَدُهُ وَجَوَارِيهِ، وَوَكَّلَ بِهِمْ سَعِيدَ بْنَ رَجَاءٍ فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ، وَأَخَذَ مِنَ الْمُسْتَعِينِ الْبُرْدَةَ وَالْقَضِيبَ وَالْخَاتَمَ، وَبَعَثَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَزِّ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزُّ يطلب منه خاتمين من جوهر ثمين عِنْدَهُ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا بُرْجٌ وَلِلْآخَرِ جَبَلٌ. فَأَرْسَلَهُمَا. وَطَلَبَ الْمُسْتَعِينُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمْ يُمَكَّنْ، فَطَلَبَ الْبَصْرَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا وَبِيئَةٌ. فقال إن ترك الخلافة أو بأمنها. ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى وَاسِطَ فَخَرَجَ وَمَعَهُ حَرَسٌ يُوَصِّلُونَهُ إِلَيْهَا نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ. وَاسْتَوْزَرَ الْمُعْتَزُّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي إِسْرَائِيلَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَلْبَسَهُ تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ. وَلَمَّا تَمَهَّدَ أَمْرُ بَغْدَادَ وَاسْتَقَرَّتِ الْبَيْعَةُ لِلْمُعْتَزِّ بِهَا ودان له أهلها وَقَدِمَتْهَا الْمِيرَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاتَّسَعَ النَّاسُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَطْعِمَةِ، رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ مِنْهَا في يوم السبت لثنتى عشرة ليلة من المحرم إلى سامرا وشيعه ابن طاهر في وجوه الأمراء، فَخَلَعَ أَبُو أَحْمَدَ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ خَمْسَ خلع وسيفا ورده من الطريق إلى بغداد. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَدَائِحَ الشُّعَرَاءِ فِي الْمُعْتَزِّ وَتَشَفِّيَهُمْ بِخَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بن أبى الجنوب ابن مَرْوَانَ فِي مَدْحِ الْمُعْتَزِّ وَذَمِّ الْمُسْتَعِينِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الشُّعَرَاءِ:
إِنَّ الْأُمُورَ إِلَى الْمُعْتَزِّ قَدْ رَجَعَتْ ... وَالْمُسْتَعِينُ إِلَى حَالَاتِهِ رَجَعَا(11/10)
وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُلْكَ لَيْسَ لَهُ ... وَأَنَّهُ لَكَ لَكِنْ نَفْسَهُ خَدَعَا
وَمَالِكُ الْمُلْكِ مُؤْتِيهِ وَنَازِعُهُ ... آتَاكَ مُلْكًا وَمِنْهُ الْمُلْكَ قَدْ نَزَعَا
إِنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ لَا تُلَائِمُهُ ... كَانَتْ كَذَاتِ حَلِيلٍ زُوِّجَتْ مُتَعَا
مَا كَانَ أَقْبَحَ عِنْدَ النَّاسِ بَيْعَتَهُ ... وَكَانَ أَحْسَنَ قَوْلَ النَّاسِ قَدْ خُلِعَا
لَيْتَ السَّفِينَ إِلَى قَافٍ دَفَعْنَ بِهِ ... نَفْسِي الْفِدَاءُ لِمَلَّاحٍ بِهِ دَفَعَا
كَمْ سَاسَ قَبْلَكَ أَمْرَ النَّاسِ مِنْ مَلِكٍ ... لَوْ كَانَ حُمِّلَ مَا حُمِّلْتَهُ ظَلَعَا
أَمَسَى بِكَ النَّاسُ بَعْدَ الضِّيقِ فِي سِعَةٍ ... وَاللَّهُ يَجْعَلُ بَعْدَ الضِّيقِ مُتَّسَعَا
وَاللَّهُ يَدْفَعُ عَنْكَ السُّوءَ مِنْ مَلِكٍ ... فَإِنَّهُ بِكَ عَنَّا السُّوءَ قَدْ دَفَعَا
وكتب الْمُعْتَزُّ مِنْ سَامَرَّا إِلَى نَائِبِ بَغْدَادَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ يُسْقِطَ اسْمَ وَصِيِفٍ وَبُغَا وَمَنْ كَانَ فِي رَسْمِهِمَا فِي الدَّوَاوِينِ وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِمَا، ثُمَّ اسْتُرْضِيَ عَنْهُمَا فَرَضِيَ عَنْهُمَا. وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ الْمُعْتَزُّ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ الْمُلَقَّبَ بِالْمُؤَيَّدِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ وَحَبَسَهُ، وَأَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ، بعد ما ضَرَبَ الْمُؤَيَّدَ أَرْبَعِينَ مَقْرَعَةً. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الجمعة خَطَبَ بِخَلْعِهِ وَأَمْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَقِيلَ إِنَّهُ أُدْرِجَ فِي لِحَافِ سَمُّورٍ وَأُمْسِكَ طَرَفَاهُ حَتَّى مَاتَ غَمًّا، وَقِيلَ بَلْ ضُرِبَ بِحِجَارَةٍ مِنْ ثَلْجٍ حَتَّى مَاتَ بردا وبعد ذلك أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ وَلَا أَثَرَ بِهِ فَأُحْضِرَ القضاة والأعيان فشهدوا على موته من غير سبب ولا أَثَرٌ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَى حِمَارٍ وَمَعَهُ كَفَنُهُ إِلَى أُمِّهِ فَدَفَنَتْهُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْمُسْتَعِينِ
فِي شوال منها كَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى نَائِبِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَأْمُرُهُ بِتَجْهِيزِ جَيْشٍ نَحْوَ الْمُسْتَعِينِ فَجَهَّزَ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ التُّرْكِيَّ فَوَافَاهُ فَأَخْرَجَهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدِمَ بِهِ الْقَاطُولَ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ قُتِلَ، فَقِيلَ ضُرِبَ حَتَّى مَاتَ، وَقِيلَ بَلْ غُرِّقَ فِي دُجَيْلٍ، وَقِيلَ بَلْ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُسْتَعِينَ سَأَلَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ صَالِحٍ التُّرْكِيِّ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَأَمْهَلَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ قَتَلَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، ودفن جثته في مكان صلاته، وخفي أَثَرَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْمُعْتَزِّ فَدَخَلَ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقِيلَ هَذَا رَأْسُ الْمَخْلُوعِ.
فَقَالَ: ضَعُوهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنَ الدَّسْتِ. فَلَمَّا فَرَغَ نَظَرَ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِ، ثُمَّ أمر لسعيد بن صالح الّذي قتله بخمسين ألف درهم، وولاه معونة البصرة. وفيها مَاتَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلَوِيُّ الَّذِي فَعَلَ بمكة ما فعل كما تقدم من إلحاده في الحرم، فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاجِلًا وَلَمْ ينظره. وفيها مات أحمد بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ وَهُوَ الْمُسْتَعِينُ باللَّه كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِسْحَاقُ بْنُ بُهْلُولٍ، وَزِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ ومحمد ابن بشار. وغندر. وموسى بْنُ الْمُثَنَّى الزَّمِنُ. وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ.(11/11)
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَجَبٍ مِنْهَا عَقَدَ الْمُعْتَزُّ لِمُوسَى بْنِ بُغَا الْكَبِيرِ عَلَى جَيْشٍ قَرِيبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ لِيَذْهَبُوا إِلَى قِتَالِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دلف بناحية همذان، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَهُوَ فِي نَحْوٍ من عشرين ألفا بناحية همذان، فهزموا عبد العزيز في أواخر هذه السنة هَزِيمَةً فَظِيعَةً، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمَا وَقْعَةٌ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْكَرَجِ فَهُزِمَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَيْضًا وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَأَسَرُوا ذَرَارِيَّ كَثِيرَةً حَتَّى أَسَرُوا أَمَّ عَبْدِ الْعَزِيزِ أيضا، وبعثوا إلى المعتز سَبْعِينَ حِمْلًا مِنَ الرُّءُوسِ وَأَعْلَامًا كَثِيرَةً، وَأُخِذَ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ من البلاد. وفي رمضان منها خلع عَلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ وَالْوِشَاحَيْنِ. وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ عِنْدَ مكان يقال له الْبَوَازِيجِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَكَمَ فِيهَا وَالْتَفَّ عَلَيْهِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِمِائَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَقَصَدَ لَهُ رجل يقال له بندار الطبري في ثلاثمائة من أصحابه، فالتقوا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ بُنْدَارٍ مِائَتَانِ وقيل وخمسون رجلا. وقتل بندار فيمن قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ صَمَدَ مُسَاوِرٌ إِلَى حلوان فقاتله أهلها وأعانهم حجاج أهل خراسان فقتل مساور منهم نحوا من أربعمائة قبحه الله. وقتل من جماعته كَثِيرُونَ أَيْضًا. وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ قُتِلَ وصيف التركي وأرادت العامة نهب داره في سامرا وَدُورَ أَوْلَادِهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ مَا كَانَ إِلَيْهِ إِلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ.
وَفِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَسَفَ الْقَمَرُ حَتَّى غَابَ أَكْثَرُهُ وَغَرِقَ نُورُهُ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ خُسُوفِهِ مَاتَ مُحَمَّدُ بن عبد الله بن طاهر نائب العراق بِبَغْدَادَ. وَكَانَتْ عِلَّتُهُ قُرُوحًا فِي رَأْسِهِ وَحَلْقِهِ فَذَبَحَتْهُ، وَلَمَّا أُتِيَ بِهِ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ اخْتَلَفَ أخوه عبيد الله وابنه طاهر وتنازعا الصلاة عليه حَتَّى جُذِبَتِ السُّيُوفُ وَتَرَامَى النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ، وَصَاحَتِ الْغَوْغَاءُ يَا طَاهِرُ يَا مَنْصُورُ: فَمَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّرْقِيَّةِ وَمَعَهُ الْقُوَّادُ وَأَكَابِرُ النَّاسِ، فدخل داره وصلى عليه ابنه وكان أبوه قَدْ أَوْصَى إِلَيْهِ.
وَحِينَ بَلَغَ الْمُعْتَزَّ مَا وَقَعَ بَعَثَ بِالْخِلَعِ وَالْوِلَايَةِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَأَطْلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِلَّذِي قَدِمَ بِالْخِلَعِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وفيها نفى المعتز أخاه أبا أحمد من سرمن رَأَى إِلَى وَاسِطَ، ثُمَّ إِلَى الْبَصْرَةِ. ثُمَّ رُدَّ إِلَى بَغْدَادَ أَيْضًا. وَفِي يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ منها سَلْخَ ذِي الْقَعْدَةِ الْتَقَى مُوسَى بْنُ بُغَا الكبير وَالْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَوْكَبِيُّ الطَّالِبِيُّ الَّذِي خَرَجَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ عِنْدَ قَزْوِينَ فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ هُزِمَ الْكَوْكَبِيُّ وَأَخَذَ مُوسَى قَزْوِينَ وَهَرَبَ الْكَوْكَبِيُّ إِلَى الدَّيْلَمِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْوَقْعَةَ أَنَّ الْكَوْكَبِيَّ حِينَ الْتَقَى أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يتترسوا بالحجف- وكانت السهم لَا تَعْمَلُ فِيهِمْ- فَأَمَرَ مُوسَى بْنُ بُغَا أَصْحَابَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَطْرَحُوا مَا مَعَهُمْ من النفط ثم حاولوهم وَأَرَوْهُمْ أَنَّهُمْ قَدِ انْهَزَمُوا مِنْهُمْ، فَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ الْكَوْكَبِيِّ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النِّفْطُ أمر عند ذلك(11/12)
بإلقاء النار فيه فجعل النفط يحرق أَصْحَابَ الْكَوْكَبِيِّ فَفَرُّوا سِرَاعًا هَارِبِينَ، وَكَرَّ عَلَيْهِمْ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَهَرَبَ الكوكبي إلى الديلم، وتسلم موسى قزوين. وفيها حج بالناس عبد الله ابن محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو الْأَشْعَثِ. وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ.
وَسَرِيٌّ السَّقَطِيُّ
أَحَدُ كِبَارِ مَشَايِخِ الصوفية. تِلْمِيذُ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ. حَدَّثَ عَنْ هُشَيْمٍ وَأَبِي بكر بن عياش وعلى ابن عراب وَيَحْيَى بْنِ يَمَانٍ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ ابْنُ أُخْتِهِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَأَبُو الْحَسَنِ النُّورِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ السَّقَطِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَكَانَتْ لَهُ دُكَّانٌ يَتَّجِرُ فِيهَا فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ قَدِ انْكَسَرَ إِنَاءٌ كَانَ مَعَهَا تَشْتَرِي فِيهِ شَيْئًا لِسَادَتِهَا، فَجَعَلَتْ تَبْكِي فأعطاها سرى شيئا تشترى بَدَلَهُ، فَنَظَرَ مَعْرُوفٌ إِلَيْهِ وَمَا صَنَعَ بِتِلْكَ الْجَارِيَةِ فَقَالَ لَهُ: بَغَّضَ اللَّهُ إِلَيْكَ الدُّنْيَا فوجد الزهد من يومه. وَقَالَ سَرِيٌّ: مَرَرْتُ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَإِذَا معروف ومعه صَغِيرٌ شَعِثُ الْحَالِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هذا كان واقفا عند صبيان يلعبون بالجوز وهو مفكر، فقلت له: مالك لا تلعب كما يلعبون؟ فَقَالَ: أَنَا يَتِيمٌ وَلَا شَيْءَ مَعِي أَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا أَلْعَبُ بِهِ. فَأَخَذْتُهُ لِأَجْمَعَ لَهُ نَوًى يَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا يَفْرَحُ بِهِ.
فَقُلْتُ أَلَا أَكْسُوهُ وَأُعْطِيهِ شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا؟ فقال أو تفعل؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ خُذْهُ أَغْنَى اللَّهُ قَلْبَكَ. قال سرى: فصغرت عندي الدنيا حتى لهى أَقَلَّ شَيْءٍ. وَكَانَ عِنْدَهُ مَرَّةً لَوْزٌ فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ عَلَى الْكُرِّ بِثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ دِينَارًا، ثُمَّ ذهب الرجل فإذا اللوز يساوى الكر تِسْعِينَ دِينَارًا فَقَالَ لَهُ:
إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ الكر بتسعين دينارا. فقال له إني إنما ساومتك بثلاثة وستين دينارا وَإِنِّي لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أنا أشترى منك بتسعين دينارا. فقال لا أبيعك هو إلا بما ساومتك عليه.
فقال له الرَّجُلُ: إِنَّ مِنَ النُّصْحِ أَنْ لَا أَشْتَرِيَ مِنْكَ إِلَّا بِتِسْعِينَ دِينَارًا. وَذَهَبَ فَلَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ.
وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ يَوْمًا إِلَى سَرِيٍّ فَقَالَتْ: إن ابني قد أخذه الحرسي وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ لئلا يضرب، فقام فصلى فطول الصلاة وجعلت الْمَرْأَةُ تَحْتَرِقُ فِي نَفْسِهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَتِ الْمَرْأَةُ اللَّهَ اللَّهَ فِي وَلَدِي. فقال لها: إني إنما كنت في حاجتك. فما رام مجلسه الّذي صلى فيه حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ لها: ابشرى فقد أطلق ولدك وها هو في المنزل. فَانْصَرَفَتْ إِلَيْهِ. وَقَالَ سَرِيٌّ: أَشْتَهِي أَنْ آكُلَ أكلة ليس للَّه فيها على تَبِعَةٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عَلَيَّ فِيهَا مِنَّةٌ. فَمَا أجد إلى ذلك سبيلا. وفي رواية عنه أنه قَالَ: إِنِّي لَأَشْتَهِي الْبَقْلَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً فما أقدر عليه. وقال:
احْتَرَقَ سُوقُنَا فَقَصَدْتُ الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ دُكَّانِي فَتَلَقَّانِي رَجُلٌ فَقَالَ: أَبْشِرْ فَإِنَّ دُكَّانَكَ قَدْ سلمت.
فقلت: الحمد للَّه. ثم ذكرت ذلك التحميد إذا حمدت الله على سلامة دنياي وإني لم أواس الناس فيما(11/13)
هم فيه، فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. رَوَاهَا الخطيب عنه. وقال: صَلَّيْتُ وِرْدِي ذَاتَ لَيْلَةٍ ثُمَّ مَدَدْتُ رِجْلِي في المحراب فنوديت: يا سرى هكذا تجالس الملوك؟ قال فضممت رجلي وقلت:
وَعِزَّتِكَ لَا مَدَدْتُ رِجْلِي أَبَدًا. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: ما رأيت أعبد من سرى السَّقَطِيِّ. أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ سَنَةً مَا رئي مضطجعا إلا في علة الموت. وروى الْخَطِيبُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ عن الجنيد قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ أَعُودُهُ فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ:
كَيْفَ أَشْكُو إِلَى طَبِيبِي مَا بِي ... والّذي أصابنى من طبيبي
قال: فأخذت المروحة لأروح عليه فقال: كَيْفَ يَجِدُ رَوْحَ الْمِرْوَحَةِ مَنْ جَوْفُهُ يَحْتَرِقُ مِنْ دَاخِلٍ؟ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
الْقَلْبُ مُحْتَرِقٌ وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ ... وَالْكَرْبُ مُجْتَمِعٌ وَالصَّبْرُ مُفْتَرِقُ
كَيْفَ الْقَرَارُ عَلَى مَنْ لَا قَرَارَ لَهُ ... مِمَّا جَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ
يَا رَبِّ إِنْ كان شيء لي به فَرَجٌ ... فَامْنُنْ عَلَيَّ بِهِ مَا دَامَ بِي رمق
قال فقلت لَهُ: أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَصْحَبِ الْأَشْرَارَ، وَلَا تشتغل عن الله بمجالسة الأبرار الْأَخْيَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَفَاتَهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ بَعْدَ أَذَانِ الْفَجْرِ، وَدُفِنَ بَعْدَ الْعَصْرِ بمقبرة الشوينزى، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ، وَإِلَى جَنْبِهِ قَبْرُ الْجُنَيْدِ.
وروى عن أبى عبيدة بن حريوبة قَالَ: رَأَيْتُ سَرِيًّا فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ غَفَرَ لِي وَلِكُلِّ مَنْ شَهِدَ جِنَازَتِي. قُلْتُ: فَإِنِّي مِمَّنْ حَضَرَ جِنَازَتَكَ وَصَلَّى عَلَيْكَ. قَالَ: فَأَخْرَجَ دُرْجًا فَنَظَرَ فِيهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ اسْمِي، فَقُلْتُ: بَلَى! قَدْ حَضَرْتُ فَإِذَا اسْمِي فِي الْحَاشِيَةِ. وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ قَوْلًا أَنَّ سَرِيًّا تُوَفِّي سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ فاللَّه أعلم. قال ابن خلكان: وكان السري ينشد كثيرا:
ولما ادعيت الْحُبَّ قَالَتْ كَذَبْتَنِي ... فَمَا لِي أَرَى الْأَعْضَاءَ مِنْكَ كَوَاسِيَا
فَلَا حُبَّ حَتَى يَلْصَقَ الْجِلْدُ بالحشى ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ بِقَتْلِ بُغَا الشَّرَابِيِّ وَنَصَبَ رأسه بسامراء ثُمَّ بِبَغْدَادَ وَحُرِّقَتْ جُثَّتُهُ وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُ وَحَوَاصِلُهُ. وفيها ولى الخليفة أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَهُوَ بَانِي الْجَامِعِ الْمَشْهُورِ بِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ محمد.
وتوفى فيها من الأعيان
زياد بن أيوب الحسيانى. وعلى بن محمد بن موسى الرضى، يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ بِبَغْدَادَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُتَوَكِّلُ فِي الشَّارِعِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ. وَدُفِنَ بِدَارِهِ ببغداد.
ومحمد بن عبد الله المخرمي. وموهل بن إهاب.(11/14)
وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ الْهَادِي
[فَهُوَ] ابْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوَادِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الاثني عشرية، وهو والد الحسن ابن على العسكري المنتظر عند الفرقة الضالة الجاهلة الْكَاذِبَةِ الْخَاطِئَةِ. وَقَدْ كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا نَقَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى سَامَرَّا فَأَقَامَ بِهَا أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً بِأَشْهُرٍ. وَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ لِلْمُتَوَكِّلِ أَنَّ بِمَنْزِلِهِ سِلَاحًا وكتبا كثيرة من الناس، فبعث كبسة فَوَجَدُوهُ جَالِسًا مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ وَعَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ صوف وهو على التراب ليس دونه حَائِلٌ، فَأَخَذُوهُ كَذَلِكَ فَحَمَلُوهُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ وَهُوَ عَلَى شَرَابِهِ، فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجَلَّهُ وأعظمه وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَنَاوَلَهُ الْكَأْسَ الَّذِي فِي يده فقال:
يا أمير المؤمنين لم يدخل باطني ولم يُخَالِطْ لَحْمِي وَدَمِي قَطُّ، فَأَعْفِنِي مِنْهُ. فَأَعْفَاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْشِدْنِي شِعْرًا فَأَنْشَدَهُ: -
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ ... غُلْبُ الرِّجَالِ فَمَا أَغْنَتْهُمُ الْقُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ ... فأودعوا حفرا يا بئس ما تزلوا
نادى بهم صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِرُوا ... أَيْنَ الْأَسِرَّةُ وَالتِّيجَانُ وَالْحُلَلُ
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً ... مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ ... تَلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْرًا وَمَا لبسوا ... فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُولِ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
قَالَ: فَبَكَى الْمُتَوَكِّلُ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، وَبَكَى مَنْ حَوْلَهُ بِحَضْرَتِهِ، وَأَمَرَ بِرَفْعِ الشَّرَابِ وَأَمَرَ لَهُ بأربعة آلاف دينار، وتحلل منه ورده إلى منزله مكرما رحمه الله.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُفْلِحٍ وَبَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الطَّالِبِيِّ فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَحَرَقَ مَنَازِلَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ ثُمَّ سَارَ وَرَاءَهُ إِلَى الدَّيْلَمِ. وَفِيهَا كَانَتْ مُحَارَبَةٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ شِبْلٍ، فَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَجُلًا مِنْ جِهَتِهِ يُقَالُ لَهُ طَوْقُ بْنُ الْمُغَلِّسِ، فَصَابَرَهُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ ثم ظفر يعقوب بطوق فأسره فأسر وجوه أصحابه، ثم سار إلى على ابن الحسين هذا فأسره وَأَخَذَ بِلَادَهُ- وَهِيَ كَرْمَانُ- فَأَضَافَهَا إِلَى مَا بيده من مملكة خراسان سِجِسْتَانَ: ثُمَّ بَعَثَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ بِهَدِيَّةٍ سنية إلى المعتز: دواب وبازات وَثِيَابٍ فَاخِرَةٍ. وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَفِيهَا أَخَذَ صَالِحُ ابن وَصِيفٍ أَحْمَدَ بْنَ إِسْرَائِيلَ كَاتِبَ الْمُعْتَزِّ وَالْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ كَاتِبَ قَبِيحَةَ أَمِّ الْمُعْتَزِّ وَأَبَا نوح عيسى(11/15)
ابن إبراهيم، وكانوا قد تمالئوا على أكل بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانُوا دَوَّاوِينَ وَغَيْرَهُمْ، فَضَرَبَهُمْ وَأَخَذَ خطوطهم بأموال جزيلة يحملونها، وذلك بغير رضى مِنَ الْمُعْتَزِّ فِي الْبَاطِنِ وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَحَوَاصِلِهِمْ وَضِيَاعِهِمْ وَسُمُّوا الْكُتَّابَ الْخَوَنَةَ وَوَلَّى الْخَلِيفَةُ عن قهر غيرهم.
وفي رجب منها ظَهَرَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْحَسَنِيَّانِ بِالْكُوفَةِ وَقَتَلَا بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمَا بها.
موت الخليفة المعتز بن المتوكل
وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ باللَّه، وَلِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ شَعْبَانَ أُظْهِرَ مَوْتُهُ. وَكَانَ سَبَبَ خَلْعِهِ أَنَّ الْجُنْدَ اجْتَمَعُوا فَطَلَبُوا مِنْهُ أَرْزَاقَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ عنده ما يعطيهم، فسأل من أَنْ تُقْرِضَهُ مَالًا يَدْفَعُهُمْ عَنْهُ بِهِ فَلَمْ تُعْطِهِ. وَأَظْهَرَتْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا، فَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ عَلَى خَلْعِهِ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ قَدْ شَرِبَ دَوَاءً وَأَنَّ عِنْدَهُ ضَعْفًا، وَلَكِنْ لِيَدْخُلْ إِلَيَّ بَعْضُكُمْ.
فَدَخَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فَتَنَاوَلُوهُ بِالدَّبَابِيسِ يَضْرِبُونَهُ وَجَرُّوا بِرِجْلِهِ وَأَخْرَجُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مُخَرَّقٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، فَأَقَامُوهُ فِي وَسَطِ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حتى جعل يراوح بين رجليه مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَلْطِمُهُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ لَهُ الضَّارِبُ اخْلَعْهَا وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ ثُمَّ أَدْخَلُوهُ حُجْرَةً مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فِيهَا. وَمَا زَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْمُهْتَدِي باللَّه كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ سَلَّمُوهُ إِلَى مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ بِأَنْوَاعِ الْمَثُلَاتِ، وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَعَلَ يَطْلَبُ شَرْبَةً مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَلَمْ يُسْقَ، ثُمَّ أَدْخَلُوهُ سِرْبًا فِيهِ جَصُّ جِيرٍ فَدَسُّوهُ فِيهِ فَأَصْبَحَ مَيِّتًا، فاستلوه من الجص سليم الجسد وأشهدوا عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ أَنَّهُ مَاتَ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُهْتَدِي باللَّه، وَدُفِنَ مَعَ أَخِيهِ الْمُنْتَصِرِ إِلَى جَانِبِ قَصْرِ الصَّوَامِعِ، عَنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا وَسِيمًا أَقْنَى الْأَنْفِ مُدَوَّرَ الْوَجْهِ حَسَنَ الضحك أبيض أسود الشعر مجعده، كثيف اللحية حسن العينين ضيق الحاجبين أحمر الوجه وقد أثنى عليه الامام أحمد في جَوْدَةِ ذِهْنِهِ وَحُسْنِ فَهْمِهِ وَأَدَبِهِ حِينَ دَخَلَ عليه في حياة أبيه المتوكل، كما قدمنا في ترجمة أحمد. وروى الخطيب عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى المعتز فَمَا رَأَيْتُ خَلِيفَةً أَحْسَنَ وَجْهًا مِنْهُ، فَلَمَّا رأيته سجدت فقال: يا شيخ تسجد لغير اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّبِيلُ ثَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى مَا يَفْرَحُ بِهِ أَوْ بُشِّرَ بِمَا يَسُرُّهُ سَجَدَ شُكْرًا للَّه عَزَّ وجل» . وقال الزبير ابن بكار: سرت إِلَى الْمُعْتَزِّ وَهُوَ أَمِيرٌ فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِي خَرَجَ مُسْتَعْجِلًا إِلَيَّ فَعَثَرَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: -(11/16)
يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ ... وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ ... وَعَثْرَتُهُ فِي الرِّجْلِ تَبْرَأُ عَلَى مهل
وذكر ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمُعْتَزَّ لَمَّا حَذَقَ الْقُرْآنَ في حياة أبيه المتوكل اجتمع أبوه والأمراء لذلك وكذلك الْكُبَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَاخْتَلَفُوا لِذَلِكَ أَيَّامًا عَدِيدَةً، وَجَرَتْ أَحْوَالٌ عَظِيمَةٌ. وَلَمَّا جَلَسَ وَهُوَ صَبِيٌّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ بالخلافة، وخطب الناس نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِثْلَهَا ذَهَبًا، وَأَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ مَا كَانَ مِنْ خِلَعٍ وَأَسْمِطَةٍ وَأَقْمِشَةٍ مِمَّا يَفُوتُ الْحَصْرَ، وَكَانَ وَقْتًا مشهودا لم يكن سرورا بِدَارِ الْخِلَافَةِ أَبْهَجَ مِنْهُ وَلَا أَحْسَنَ. وَخَلَعَ الخليفة على أم ولده المعتز قَبِيحَةُ خِلَعًا سَنِيَّةً، وَأَعْطَاهَا وَأَجْزَلَ لَهَا الْعَطَاءَ، وكذلك خلع على مؤدب ولده وهو محمد بن عمران، أعطاه من الجوهر والذهب والفضة والقماش شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذكر خلافة المهتدي باللَّه
أبى محمد عبد الله محمد بن الواثق بن المعتصم بن هارون، كانت بَيْعَتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَّيْلَةِ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ خَلْعِ الْمُعْتَزِّ نَفْسَهُ بين يديه وإشهاده عليه بأنه عاجز عن القيام بها، وَأَنَّهُ قَدْ رَغِبَ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَائِهَا. وهو مُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ باللَّه، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَبَايَعَهُ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْخَاصَّةُ ثم كانت بيعة العامة على المنبر، وكتب على المعتز كتابا أشهد فِيهِ بِالْخَلْعِ وَالْعَجْزِ وَالْمُبَايَعَةِ لِلْمُهْتَدِي. وَفِي آخِرِ رجب وقعت في بغداد فِتْنَةٌ هَائِلَةٌ، وَثَبَتَ فِيهَا الْعَامَّةُ عَلَى نَائِبِهَا سليمان بن عبد الله ابن طاهر ودعوا إلى بيعة أحمد بن الْمُتَوَكِّلِ أَخِي الْمُعْتَزِّ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِ أَهْلِ بغداد بما وقع بسامراء من بيعة المهتدي، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كثير، ثم لما بلغهم بيعة المهتدي سكنوا، - وإنما بلغتهم في سابع شعبان- فاستقرت الأمور واستقر المهتدي في الخلافة. وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عِنْدَ قَبِيحَةَ أُمِّ الْمُعْتَزِّ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ، وَجَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ. كَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يُقَارِبُ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الزُّمُرُّدِ الَّذِي لَمْ يُرَ مثله مقدار مكرك، وَمِنَ الْحَبِّ الْكِبَارِ مَكُّوكٌ، وَكَيْلَجَةُ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ مما لم ير مثله أيضا. وقد كان الأمراء طَلَبُوا مِنَ ابْنِهَا الْمُعْتَزِّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ تُصْرَفُ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَضَمِنُوا لَهُ أَنْ يَقْتُلُوا صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ ذلك شيء، فطلب من أمه قبيحة هذه قبحها الله فامتنعت أن تقرضه ذلك، فأظهرت الفقر والشح: وأنه لَا شَيْءَ عِنْدَهَا. ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ ابْنُهَا وَكَانَ مَا كَانَ، ظَهَرَ عِنْدَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ ما ذكرنا. وكان عندها من الذهب والفضة والآنية شيء كثير، وَقَدْ كَانَ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا يَعْدِلُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مُخْتَفِيَةً عِنْدَ صَالِحِ بن وصيف عدو ولدها، ثم تزوجت به وكانت تَدْعُو عَلَيْهِ تَقُولُ: اللَّهمّ أَخْزِ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ كَمَا هَتَكَ سِتْرِي(11/17)
وَقَتَلَ وَلَدِي وَبَدَّدَ شَمْلِي وَأَخَذَ مَالِي وَغَرَّبَنِي عن بلدي وركب الفاحشة منى. ثم استقرت الخلافة باسم المهتدي باللَّه. وكانت بمحمد الله خلافة صالحة. قَالَ يَوْمًا لِلْأُمَرَاءِ: إِنِّي لَيْسَتْ لِي أُمٌّ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ مَا يُقَاوِمُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَسْتُ أُرِيدُ إِلَّا الْقُوتَ فَقَطْ لا أُرِيدُ فَضْلًا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِإِخْوَتِي، فَإِنَّهُمْ مَسَّتْهُمُ الْحَاجَةُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ أَمَرَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ بِضَرْبِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا، وَأَبِي نُوحٍ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ كَاتِبَ قَبِيحَةَ، فَضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ بَعْدَ اسْتِخْلَاصِ أَمْوَالِهِمَا ثُمَّ طِيفَ بِهِمَا عَلَى بَغْلَيْنِ مُنَكَّسَيْنِ فَمَاتَا وهما كذلك، ولم يكن ذلك عن رضى المهتدي ولكنه ضعيف لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ. وَفِي رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ أَيْضًا بَيْنَ محمد بن أوس ومن تبعه مِنَ الشَّاكِرِيَّةِ وَالْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَيْنَ الْعَامَّةِ وَالرَّعَاعِ، فَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ أَلْفٍ وكان بين الناس قتال بالنبال والرماح والسوط، فقتل خَلْقٌ كَثِيرٌ ثُمَّ انْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ أَوْسٍ وَأَصْحَابُهُ فَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ مَا وَجَدُوا مِنْ أَمْوَالِهِ، وهو ما يُعَادِلُ أَلْفَيْ أَلْفٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى إِخْرَاجِ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ من بغداد إلى أين أراد. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا طَرِيدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّاسِ مَرْضِيَّ السِّيرَةِ بَلْ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا، وَفَاسِقًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ الخليفة بان ينفى القيان والمغنون مَنْ سَامَرَّا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ السِّبَاعِ وَالنُّمُورِ الَّتِي في دار السلطان، وقتل الكلاب المعدة للصيد أيضا. وأمر بإبطال الْمَلَاهِي وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَأَنْ يُؤْمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عن المنكر، وجلس للعامة.
وكانت ولايته في الدنيا كُلُّهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا مُفْتَرِقَةٌ. ثُمَّ استدعى الخليفة مُوسَى بْنَ بُغَا الْكَبِيرِ إِلَى حَضْرَتِهِ لِيَتَقَوَّى به على من عنده من الأتراك ولتجتمع كلمة الخلافة، فاعتذر إليه مِنَ اسْتِدْعَائِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادِ في تلك الْبِلَادِ.
ذِكْرُ خَارِجِيٍّ آخَرَ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ أهل البيت بالبصرة
في النصف من شوال ظَهَرَ رَجُلٌ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أبى طالب، ولم يكن صادقا وإنما كان عسيفا- يعنى أجيرا- مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَأُمُّهُ قُرَّةُ بِنْتُ عَلِيِّ بن رحيب من مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الرَّيِّ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ أَيْضًا في سنة تسع وأربعين ومائتين بالنجدين فَادَّعَى أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَدَعَا النَّاسَ بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة من أهل هجر، ووقع بِسَبَبِهِ قِتَالٌ كَثِيرٌ وَفِتَنٌ كِبَارٌ، وَحُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمَّا خَرَجَ خَرْجَتَهُ هَذِهِ الثَّانِيَةَ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ التف عليه(11/18)
خَلْقٌ مِنَ الزَّنْجِ الَّذِينَ كَانُوا يَكْسَحُونَ السِّبَاخَ، فَعَبَرَ بِهِمْ دِجْلَةَ فَنَزَلَ الدِّينَارِيَّ، وَكَانَ يَزْعُمُ لبعض من معه أَنَّهُ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَقْتُولُ بناحية الكوفة، وكان يدعى أنه يحفظ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ جَرَى بِهَا لِسَانُهُ لَا يَحْفَظُهَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةٍ دهر طويل، وهن سبحان والكهف وص وعم.
وزعم أنه فَكَّرَ يَوْمًا وَهُوَ فِي الْبَادِيَةِ إِلَى أَيِّ بلد يسير فَخُوطِبَ مِنْ سَحَابَةٍ أَنْ يَقْصِدَ الْبَصْرَةَ فَقَصَدَهَا، فلما اقْتَرَبَ مِنْهَا وَجَدَ أَهْلَهَا مُفْتَرِقِينَ عَلَى شُعْبَتَيْنِ، سعدية وبلالية، فطمع أن ينضم إلى إِحْدَاهُمَا فَيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَارْتَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً وَانْتَسَبَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ يَزْعُمُ بِهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَهَلَةٌ من الطغام، وطائفة من الرعاع الْعَوَامِّ. ثُمَّ عَادَ إِلَى أَرْضِ الْبَصْرَةِ فِي رمضان فَاجْتَمَعَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عُدَدٌ يُقَاتِلُونَ بِهَا فَأَتَاهُمْ جَيْشٌ مِنْ ناحية البصرة فاقتتلوا جميعا، ولم يَكُنْ فِي جَيْشِ هَذَا الْخَارِجِيِّ سِوَى ثَلَاثَةِ أَسْيَافٍ، وَأُولَئِكَ الْجَيْشُ مَعَهُمْ عُدَدٌ وَعَدَدٌ وَلَبُوسٌ، وَمَعَ هَذَا هَزَمَ أَصْحَابُ هَذَا الْخَارِجِيِّ ذَلِكَ الجيش، وكانوا أَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، ثُمَّ مَضَى نَحْوَ الْبَصْرَةِ بِمَنْ مَعَهُ فَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ جبى فَرَسًا فَلَمْ يَجِدْ لَهَا سَرْجًا وَلَا لِجَامًا، وإنما ألقى عليها حبلا وركبها وسنف حنكها بليف، ثم صادر رجلا وتهدده بِالْقَتْلِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَلْفَ درهم، وكان هذا أول مال نهبه مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَأَخَذَ مِنْ آخَرَ ثَلَاثَةَ براذين، ومن موضع آخر شيئا من الأسلحة والأمتعة، ثم سار في جيش قليل السلاح والخيول، ثم جرت بينه وبين نَائِبِ الْبَصْرَةِ وَقْعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، يَهْزِمُهُمْ فِيهَا وَكُلُّ ما لأمره يقوى وتزداد أصحابه ويعظم أمره ويكثر جَيْشُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْوَالِ الناس ولا يؤذى أحدا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَخْذَ أَمْوَالِ السُّلْطَانِ. وَقَدِ انْهَزَمَ أصحابه في بعض حر وبه هزيمة عظيمة ثُمَّ تَرَاجَعُوا إِلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ، ثُمَّ كَرُّوا على أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخرين، وكان لا يؤتى بأسير إلا قتله ثم قوى أمره وَخَافَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا مَدَدًا ليقاتلوا هذا الخارجي وهو صاحب الزنج قبحه الله، ثم أشار عليه بعض أصحابه أن يهجم بمن معه على الْبَصْرَةِ فَيَدْخُلُونَهَا عَنْوَةً فَهَجَّنَ آرَاءَهُمْ وَقَالَ: بَلْ نَكُونُ مِنْهَا قَرِيبًا حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَنَا إِلَيْهَا وَيَخْطُبُونَنَا عَلَيْهَا. وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي السَّنَةِ المستقبلة إن شاء الله. وفيها حج بالناس على بن الحسين بن إسماعيل بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْجَاحِظُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْفِرْقَةُ الْجَاحِظِيَّةُ لِجُحُوظِ عَيْنَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ الْحَدَقِيُّ وَكَانَ شَنِيعَ الْمَنْظَرِ سَيِّئَ الْمَخْبَرِ رَدِيءَ الِاعْتِقَادِ، يُنْسَبُ إِلَى البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال حتى قيل فِي الْمَثَلِ يَا وَيْحَ مَنْ كَفَّرَهُ الْجَاحِظُ. وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا قَدْ أَتْقَنَ عُلُومًا كَثِيرَةً وَصَنَّفَ كُتُبًا جَمَّةً تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ(11/19)
ذِهْنِهِ وَجَوْدَةِ تَصَرُّفِهِ. وَمِنْ أَجَلِّ كُتُبِهِ كِتَابُ الْحَيَوَانِ، وَكِتَابُ الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ. قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ:
وهما أحسن مصنفاته وَقَدْ أَطَالَ تَرْجَمَتَهُ بِحِكَايَاتٍ ذَكَرَهَا عَنْهُ. وَذَكَرَ أَنَّهُ أَصَابَهُ الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَحَكَى أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْ جَانِبِي الْأَيْسَرِ مَفْلُوجٌ لَوْ قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ مَا عَلِمْتُ، وَجَانِبِي الْأَيْمَنُ منضرس لو مرت به ذبابة لآلمتنى، وَبِي حَصَاةٌ، وَأَشَدُّ مَا عَلَيَّ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً. وَكَانَ يُنْشِدُ: -
أَتَرْجُو أَنْ تَكُونَ وَأَنْتَ شَيْخٌ ... كَمَا قَدْ كُنْتَ أَيَّامَ الشَّبَابِ
لَقَدْ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ لَيْسَ ثَوْبٌ ... دَرِيسٌ كَالْجَدِيدِ مِنَ الثياب
وفيها توفى عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ الطُّوسِيُّ. وَالْخَلِيفَةُ أَبُو عبد الله المعتز بن المتوكل. ومحمد بن عبد الرحيم الملقب صاعقة.
محمد بن كرّام
الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْكَرَّامِيَّةُ. وَقَدْ نُسِبَ إليه جواز وضع الأحاديث على الرسول وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ جَمَّالٍ- بْنِ عراف بن حزامة بْنِ الْبَرَاءِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السِّجِسْتَانِيُّ الْعَابِدُ، يقال إنه من بنى تراب، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ كِرَامٍ بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهُوَ الَّذِي سَكَنَ بَيْتَ المقدس إلى أن مات، وَجَعَلَ الْآخَرَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ. وَالصَّحِيحُ الّذي يظهر من كلام أبى عبد الله الحاكم وابن عَسَاكِرَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ كَرَّامٍ عن على بن حجرد وَعَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ السَّمَرْقَنْدِيِّ، سَمِعَ مِنْهُ التفسير عن محمد ابن مروان عن الكلبي، وإبراهيم بن يوسف الماكناني، وملك بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ، وَعَتِيقِ بن محمد الجسرى، وَأَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ النَّيْسَابُورِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الله الحوسارى، ومحمد بن تميم القارياني، وَكَانَا كَذَّابَيْنِ وَضَّاعَيْنِ- وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقِيرَاطِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ حُبِسَ فِي حَبْسِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا أَطْلَقَهُ ذَهَبَ إِلَى ثُغُورِ الشَّامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَحَبَسَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ الله وأطال حَبْسُهُ وَكَانَ يَتَأَهَّبُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَيَأْتِي إِلَى السَّجَّانِ فَيَقُولُ:
دَعْنِي أَخْرُجْ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَيَمْنَعُهُ السَّجَّانُ فَيَقُولُ: اللَّهمّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ غَيْرِي. وَقَالَ غَيْرُهُ:
أَقَامَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْوَعْظِ عِنْدَ الْعَمُودِ الَّذِي عِنْدَ مَشْهَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ فَتَرَكَهُ أَهْلُهَا وَنَفَاهُ مُتَوَلِّيهَا إِلَى غَوْرِ زُغَرَ فَمَاتَ بها، ونقل إلى بيت المقدس. مات فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: تُوُفِّيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلًا وَدُفِنَ بِبَابِ أَرِيحَا عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْأَصْحَابِ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا والله أعلم.(11/20)
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ مُوسَى بْنُ بُغَا الْكَبِيرِ إِلَى سَامَرَّا فَدَخَلَهَا فِي جَيْشٍ هَائِلٍ قَدْ عَبَّاهُ مَيْمَنَةً وميسرة وقلبا وجناحين، فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدي جالسا لكشف المظالم فاستأذنوا عليه فأبطأ الْإِذْنُ سَاعَةً، وَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ فَظَنُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّمَا طَلَبَهُمْ خَدِيعَةً مِنْهُ لِيُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ هَجْمًا فَجَعَلُوا يُرَاطِنُونَهُمْ بِالتُّرْكِيِّ ثُمَّ عَزَمُوا فَأَقَامُوهُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَانْتَهَبُوا مَا كَانَ فِيهِ، ثُمَّ أَخَذُوهُ مُهَانًا إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَجَعَلَ يَقُولُ لِمُوسَى بن بغا: مالك وَيْحَكَ؟ إِنَّى إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِأَتَقَوَّى بِكَ على صالح بن وصيف. فقال له موسى:
لَا بَأْسَ عَلَيْكَ احْلِفْ لِي أَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِي خِلَافَ مَا أَظْهَرْتَ. فَحَلَفَ لَهُ المهتدي فطابت الأنفس وَبَايَعُوهُ بَيْعَةً ثَانِيَةً مُشَافَهَةً وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يُمَالِئَ صَالِحًا عَلَيْهِمْ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ لِيَحْضُرَهُمْ لِلْمُنَاظَرَةِ فِي أَمْرِ الْمُعْتَزِّ وَمَنْ قَتَلَهُ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ مِنَ الْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ، فَوَعَدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَخَذَ يَتَأَهَّبُ لِجَمْعِ الْجُيُوشِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ اخْتَفَى مِنْ لَيْلَتِهِ لَا يَدْرِي أَحَدٌ أَيْنَ ذَهَبَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَبَعَثُوا المنادية تنادى عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه فلم يزل مختفيا إلى آخر صَفَرٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ، وَرُدَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى نِيَابَةِ بَغْدَادَ، وَسُلِّمَ الْوَزِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ الَّذِي كَانَ أَرَادَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ قَتْلَهُ مَعَ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ، فَبَقِيَ فِي السِّجْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْوِزَارَةِ.
وَلَمَّا أَبْطَأَ خَبَرُ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ عَلَى مُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اخْلَعُوا هَذَا الرَّجُلَ- يَعْنِي- الْخَلِيفَةَ- فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا صَوَّامًا قَوَّامًا لَا يَشْرَبُ الخمر وَلَا يَأْتِي الْفَوَاحِشَ؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيْسَ كغيره من الخلفاء ولا تطاوعكم النَّاسُ عَلَيْهِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ وَاسْتَدْعَى بِمُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي مَا تَمَالَأْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا وَأَنَا مُتَحَنِّطٌ وقد أوصيت أَخِي بِوَلَدِي، وَهَذَا سَيْفِي، وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ بِهِ مَا اسْتَمْسَكَ قَائِمُهُ بِيَدِي، وَاللَّهِ لَئِنْ سَقَطَ من شعرى شعرة ليهلكن بدلها منكم، أَوْ لِيَذْهَبَنَّ بِهَا أَكْثَرُكُمْ، أَمَا دِينٌ؟ أَمَا حياء؟ أما تستحيون؟ كم يكون هذا الاقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز وجل وأنتم لا تبصرون؟ سواء عندكم من قصد الإبقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء، هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وَفِي مَنَازِلِ إِخْوَتِي وَمَنْ يَتَّصِلُ بِي هَلْ ترون فيها من آلات الخلافة شيئا، أو من فرشها أو غير ذلك؟ وإنما في بيوتنا ما فِي بُيُوتِ آحَادِ النَّاسِ، وَيَقُولُونَ إِنِّي أَعْلَمُ علم صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد مِنْكُمْ؟ فَاذْهَبُوا فَاعْلَمُوا(11/21)
عِلْمَهُ فَابْلُغُوا شِفَاءَ نُفُوسِكُمْ فِيهِ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَعْلَمُ عِلْمَهُ. قَالُوا: فَاحْلِفْ لَنَا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَمَّا الْيَمِينُ فَإِنِّي أَبْذُلُهَا لَكُمْ، ولكن أدخرها لَكُمْ حَتَّى تَكُونَ بِحَضْرَةِ الْهَاشِمِيِّينَ وَالْقُضَاةِ وَالْمُعَدَّلِينَ وَأَصْحَابِ الْمَرَاتِبِ فِي غَدٍ إِذَا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ لَانُوا لِذَلِكَ قَلِيلًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ ظَفِرُوا بِصَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فَقُتِلَ وَجِيءَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُهْتَدِي باللَّه وَقَدِ انْفَتَلَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ: وَارُوهُ. ثُمَّ أَخَذَ فِي تَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ. وَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ مِنْ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ رُفِعَ الرَّأْسُ عَلَى رُمْحٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ قَتَلَ مَوْلَاهُ. وَمَا زَالَ الْأَمْرُ مضطربا متفاقما وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله رحمه الله.
ذكر خلع المهتدي باللَّه وولاية المعتمد أحمد بن المتوكل على الله وَإِيرَادُ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْمُهْتَدِي
لَمَّا بَلَغَ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فسادا رَكِبَ إِلَيْهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ وَمَعَهُ مُفْلِحٌ وبايكباك التركي فاقتتلوا هم ومساور الخارجي ولم يظفروا به بل هرب مِنْهُمْ وَأَعْجَزَهُمْ، وَكَانَ قَدْ فَعَلَ قَبْلَ مَجِيئِهِمُ الأفاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه. ثم إن الخليفة أَرَادَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَتْرَاكِ فَكَتَبَ إِلَى بَايَكْبَاكَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الْجَيْشَ مِنْ مُوسَى بْنِ بُغَا وَيَكُونَ هُوَ الْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يُقْبِلَ بِهِمْ إِلَى سَامَرَّا فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ أَقْرَأَهُ مُوسَى بْنَ بُغَا فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى الْمُهْتَدِي وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَا إِلَيْهِ إلى سَامَرَّا، وَتَرَكَا مَا كَانَا فِيهِ. فَلَمَّا بَلَغَ المهتدي ذلك اسْتَخْدَمَ مِنْ فَوْرِهِ جُنْدًا مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْفَرَاغِنَةِ والأشروسية والارزكشية وَالْأَتْرَاكِ أَيْضًا، وَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ رَجَعَ مُوسَى بْنُ بُغَا إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ وَأَظْهَرَ بَايَكْبَاكُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، فَدَخَلَ فِي ثَانِيَ عَشَرَ رَجَبٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ سَامِعًا مُطِيعًا، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَحَوْلَهُ الْأُمَرَاءُ والسادة من بنى هاشم شاورهم في قتله فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ فِي الشَّجَاعَةِ مَا بَلَغْتَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ شَرًّا مِنْ هَذَا وَأَكْثَرَ جُنْدًا، وَلَمَّا قَتَلَهُ الْمَنْصُورُ سَكَنَتِ الْفِتْنَةُ وَخَمَدَ صَوْتُ أَصْحَابِهِ. فَأَمَرَ عند ذلك بِضَرْبِ عُنُقِ بَايَكْبَاكَ ثُمَّ أَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَأَصْبَحُوا مِنَ الغد مجتمعين على أخى بايكباك طُغُوتْيَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ فِيمَنْ مَعَهُ فَلَمَّا التقوا خامرت الأتراك الذين مَعَ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَصَارُوا أَلْبًا وَاحِدًا على الخليفة، فحمل الخليفة فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ ثُمَّ حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة وَبِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا وَهُوَ يُنَادِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصُرُوا خَلِيفَتَكُمْ. فَدَخَلَ دَارَ أَحْمَدَ بْنِ جَمِيلٍ صَاحِبِ الْمَعُونَةِ، فَوَضَعَ فِيهَا سِلَاحَهُ وَلَبِسَ الْبَيَاضَ وَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ فَيَخْتَفِيَ، فَعَاجَلَهُ أَحْمَدُ بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب، ورماه بسهم وطعن في خاصرته به وَحُمِلَ عَلَى دَابَّةٍ وَخِلْفَهُ سَائِسُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وسراويل حتى أدخلوه دَارِ أَحْمَدَ بْنِ خَاقَانَ، فَجَعَلَ مَنْ هُنَاكَ يصفعونه ويبزقون في وجهه، وأخذ خَطَّهُ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،(11/22)
وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ خصيتيه ويطؤهما حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لثنتى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أقل من سنة بخمسة أيام، وكان مولده فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ ومائتين، وكان أسمر رقيقا أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبد الله. وَصَلَّى عَلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَدُفِنَ بمقبرة المنتصر بن المتوكل. قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلَفَاءِ مَذْهَبًا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة. قال: وروى حديثا واحدا قال: حدثني على بن هشام بن طراح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَقِيهِ عَنِ ابْنِ أبى ليلى- وهو دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ- عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: «لِي النُّبُوَّةُ وَلَكُمُ الْخِلَافَةُ، بِكُمْ يُفْتَحُ هَذَا الْأَمْرُ وَبِكُمْ يُخْتَمُ» وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: «مَنْ أَحَبَّكَ نَالَتْهُ شَفَاعَتِي، وَمَنْ أَبْغَضَكَ لَا نَالَتْهُ شَفَاعَتِي» . وَرَوَى.
الخطيب أن رجلا استعان الْمُهْتَدِي عَلَى خَصْمِهِ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فَأَنْشَأَ الرَّجُلُ يَقُولُ:
حَكَّمْتُمُوهُ فَقَضَى بَيْنَكُمْ ... أَبْلَجُ مِثْلُ الْقَمَرِ الزَّاهِرِ
لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ ... وَلَا يُبَالِي غَبَنَ الْخَاسِرِ
فَقَالَ لَهُ الْمُهْتَدِي: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الرَّجُلُ فَأَحْسَنَ اللَّهُ مَقَالَتَكَ، ولست أغتر بما قلت: وأما أنا فانى ما جلست مجلسى هذا حَتَّى قَرَأْتُ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) 21: 47 قال: فبكى الناس حوله فما رئي أكثر باكيا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَرَدَ الْمُهْتَدِي الصوم من حين تولى إلى حين قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ يُحِبُّ الِاقْتِدَاءَ بِمَا سَلَكَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيُّ فِي خِلَافَتِهِ مِنَ الْوَرَعِ وَالتَّقَشُّفِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَشِدَّةِ الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ: كُنَّا جُلُوسًا بِمَكَّةَ وَعِنْدِي جَمَاعَةٌ وَنَحْنُ نَبْحَثُ فِي النَّحْوِ وأشعار العرب، إذ وقف علينا رجل نظنه مجنونا فأنشأ يقول:
أما تستحيون الله يا معدن النحو ... شُغِلْتُمْ بِذَا وَالنَّاسُ فِي أَعْظَمِ الشُّغْلِ
إِمَامُكُمْ أضحى قتيلا مجندلا ... وَقَدْ أَصْبَحَ الْإِسْلَامُ مُفْتَرِقَ الشَّمْلِ
وَأَنْتُمْ عَلَى الأشعار والنحو عكّفا ... تصيحون بالأصوات في أحسن السبل
قال فنظر وَأَرَّخْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَإِذَا الْمُهْتَدِي باللَّه قَدْ قتل في ذلك اليوم، وهو يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.
خِلَافَةُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى الله
وهو أحمد بن الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ وَيُعْرَفُ بِابْنِ فِتْيَانَ، بُويِعَ بالخلافة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة(11/23)
خلت من رجب في هذه السنة فِي دَارِ الْأَمِيرِ يَارْجُوخَ وَذَلِكَ قَبْلَ خَلْعِ الْمُهْتَدِي بِأَيَّامٍ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ يَوْمَ الاثنين لثمان مضت من رجب، قيل ولعشرين بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ دَخَلَ مُوسَى بْنُ بُغَا ومفلح إلى سرمن رأى فنزل موسى في داره وسكن وَخَمَدَتِ الْفِتْنَةُ هُنَالِكَ، وَأَمَّا صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَلَوِيٌّ فَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْبَصْرَةِ وَالْجُيُوشُ الْخَلِيفِيَّةُ في وجهه دونها، وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يَفِدُ إِلَيْهِمْ فِي الْمَرَاكِبِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، ثم استحوذ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْأُبُلَّةِ وَعَبَّادَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ وَخَافَ مِنْهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ خَوْفًا شَدِيدًا، وكلما لأمره في قوة وجيوشه في زيادة، ولم يزل ذلك دأبه إلى انسلاخ هذه السنة.
وفيها خرج رجل آخر في الكوفة يقال له على بن زيد الطالبي، وجاء جَيْشٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرَهُ الطَّالِبِيُّ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ بِالْكُوفَةِ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ. وَفِيهَا وَثَبَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ التَّمِيمِيُّ عَلَى نَائِبِ الأهواز الْحَارِثِ بْنِ سِيمَا الشَّرَابِيِّ فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بلاد الأهواز. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تَغَلَّبَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الطَّالِبِيُّ عَلَى بِلَادِ الرَّيِّ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ مُوسَى بن بغا في شوال، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ لِتَوْدِيعِهِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ بَيْنَ أَمَاجُورَ نَائِبِ دِمَشْقَ- وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ فارس- وبين ابن عيسى بن الشَّيْخِ، وَهُوَ فِي قَرِيبٍ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فهزمه اماجور وجاءت ولاية من الخليفة لابن الشيخ على بِلَادَ أَرْمِينِيَّةَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ أَهْلَ الشَّامِ، فقبل ذلك وانصرف عنهم. وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وكان في جملة من حج أبو أحمد بن الْمُتَوَكِّلِ. فَتَعَجَّلَ وَعَجَّلَ السَّيْرَ إِلَى سَامَرَّا فَدَخَلَهَا ليلة الأربعاء لثلاث بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا توفى
المهتدي باللَّه الخليفة
كما تقدم رحمه الله تعالى.
والزبير بن بكار
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ الزُّبَيْرِيُّ قَاضِي مَكَّةَ.
قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وله كتاب أنساب قريش، وكان من أهل العلم بِذَلِكَ، وَكِتَابُهُ فِي ذَلِكَ حَافِلٌ جِدًّا. وَقَدْ روى عنه ابن ماجة وغيره، ووثقه الدار قطنى وَالْخَطِيبُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى كِتَابِهِ.
وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بن إسماعيل الْبُخَارِيُّ
صَاحِبُ الصَّحِيحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ تَرْجَمَةً حافلة في أول شرحنا لصحيحه، ولنذكر ها هنا نبذة يسيرة من ذلك فنقول: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ المغيرة بن بزدز به الْجُعْفِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ الْحَافِظُ، إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي زَمَانِهِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِ فِي أَوَانِهِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ أَضْرَابِهِ وَأَقْرَانِهِ، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك(11/24)
سائر أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وُلِدَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَنَشَأَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الْمَكْتَبِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ الْمَشْهُورَةَ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ وَهُوَ صَبِيٌّ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ سَرْدًا، وَحَجَّ وَعَمُرُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَائِرِ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ فِي البلدان التي أمكنته الرِّحْلَةُ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ. وَرَوَى عَنْهُ خَلَائِقُ وَأُمَمٌ. وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْفِرَبْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَ الصحيح من البخاري معى نحو من سبعين أَلْفًا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي. وَقَدْ روى البخاري من طريق الفر بري كَمَا هِيَ رِوَايَةُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ وَطَاهِرِ بْنِ مَخْلَدٍ وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو طلحة منصور بن محمد بن على البردي النَّسَفِيُّ وَقَدْ تُوُفِّيَ النَّسَفِيُّ هَذَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَوَثَّقَهُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا. وَمِمَّنْ رَوَى عَنِ الْبُخَارِيِّ مُسْلِمٌ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ، وَكَانَ مُسْلِمٌ يُتَلْمِذُ لَهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا يَجْتَمِعُ بالإمام أحمد فَيَحُثُّهُ أَحْمَدُ عَلَى الْمُقَامِ بِبَغْدَادَ وَيَلُومُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِخُرَاسَانَ، وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ يَسْتَيْقِظُ فِي الليلة الواحدة من نومه فيوقد السِّرَاجَ وَيَكْتُبُ الْفَائِدَةَ تَمُرُّ بِخَاطِرِهِ ثُمَّ يُطْفِئُ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً. وَقَدْ كَانَ أُصِيبَ بَصَرُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ فَرَأَتْ أُمُّهُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ يَا هَذِهِ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى وَلَدِكِ بَصَرَهُ بِكَثْرَةِ دُعَائِكِ، أَوْ قَالَ بُكَائِكِ، فَأَصْبَحَ وَهُوَ بَصِيرٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فَكَّرْتُ الْبَارِحَةَ فَإِذَا أَنَا قَدْ كَتَبْتُ لي مصنفات نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ مُسْنَدَةً. وَكَانَ يَحْفَظُهَا كُلَّهَا. وَدَخَلَ مَرَّةً إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَاجْتَمَعَ بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركبوا أَسَانِيدَ وَأَدْخَلُوا إِسْنَادَ الشَّامِ فِي إِسْنَادِ الْعِرَاقِ، وَخَلَطُوا الرِّجَالَ فِي الْأَسَانِيدِ وَجَعَلُوا مُتُونَ الْأَحَادِيثِ عَلَى غَيْرِ أَسَانِيدِهَا، ثُمَّ قَرَءُوهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ فَرَدَّ كُلَّ حَدِيثٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَقَوَّمَ تِلْكَ الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يعلقوا عليه سقطة في إسناد ولا متن. وكذلك صنع في بَغْدَادَ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة. والأخبار عنه في ذلك كَثِيرَةٌ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ زَمَانِهِ مِنْ شُيُوخِهِ وَأَقْرَانِهِ. فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَمْ يَرَ الْبُخَارِيُّ مِثْلَ نَفْسِهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَسَنِ لَاحْتَاجَ الناس إليه في الحديث ومعرفته وَفِقْهِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ: لَا أعلم مثله. وقال محمود بن النظر بن سَهْلٍ الشَّافِعِيُّ: دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ وَالشَّامَ وَالْحِجَازَ وَالْكُوفَةَ وَرَأَيْتُ عُلَمَاءَهَا كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إسماعيل(11/25)
الْبُخَارِيِّ فَضَّلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيُّ: كَتَبَ أَهْلُ بَغْدَادَ إِلَى الْبُخَارِيِّ:
الْمُسْلِمُونَ بخير ما حبيت لَهُمْ ... وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ
وَقَالَ الْفَلَّاسُ: كُلُّ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُهُ الْبُخَارِيُّ فَلَيْسَ بحديث. وقال أبو نعيم أحمد بْنُ حَمَّادٍ: هُوَ فَقِيهُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَكَذَا قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَهُ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: رُحِلَ إِلَيَّ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وغربها خلق فَمَا رَحَلَ إِلَيَّ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ البخاري. وقال مرجّى بن رجاء: فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء- يعنى في زمانه- وأما قبل زمانه مثل قرب الصحابة والتابعين فلا. وقال هو آية من آيات الله تمشى عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدارميّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ أَفْقَهُنَا وَأَعْلَمُنَا وَأَغْوَصُنَا وَأَكْثَرُنَا طَلَبًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هُوَ أَبْصَرُ مِنِّي.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَعْلَمُ مَنْ دَخَلَ الْعِرَاقَ. وَقَالَ عبد الله الْعِجْلِيُّ: رَأَيْتَ أَبَا حَاتِمٍ وَأَبَا زُرْعَةَ يَجْلِسَانِ إليه يسمعان مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْلِمٌ يَبْلُغُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ بِكَذَا وكذا، وكان حييا فَاضِلًا يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ يَسْأَلُ الْبُخَارِيَّ عَنِ الْأَسَامِي وَالْكُنَى وَالْعِلَلِ، وَهُوَ يَمُرُّ فِيهِ كَالسَّهْمِ، كأنه يقرأ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ 112: 1. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونَ الْقَصَّارُ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ جَاءَ إِلَى الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عينيه وقال: دعني أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَذَكَرَ لَهُ عِلَّتَهُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ مُسْلِمٌ لَا يُبْغِضُكَ إِلَّا حَاسِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُكَ. وَقَالَ الترمذي: لم أر بالعراق ولا في خراسان فِي مَعْنَى الْعِلَلِ وَالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ أَعْلَمَ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَكُنَّا يَوْمًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ فَقَالَ لِلْبُخَارِيِّ: جَعَلَكَ اللَّهُ زَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: مَا رَأَيْتُ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أحفظ له من محمد ابن إسماعيل البخاري، ولو استقصينا ثناء العلماء عليه فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَعِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وعبادته لَطَالَ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ عَلَى عَجَلٍ مِنْ أَجْلِ الحوادث والله سبحانه الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَايَةِ الْحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا دَارِ الْفَنَاءِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ دَارِ البقاء. وقال البخاري: إني لأرجو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطَالِبُنِي أَنِّي اغْتَبْتُهُ. فَذُكِرَ لَهُ التَّارِيخُ وَمَا ذَكَرَ فِيهِ مِنَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ هَذَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْذَنُوا لَهُ فَلَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» وَنَحْنُ إِنَّمَا رَوَيْنَا ذَلِكَ رِوَايَةً وَلَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ خَتْمَةً، وَكَانَتْ لَهُ جِدَةٌ وَمَالٌ جَيِّدٌ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّدَقَةَ بالليل والنهار، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مُسَدَّدَ(11/26)
الرَّمْيَةِ شَرِيفَ النَّفْسِ، بَعَثَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَاطِينِ لِيَأْتِيَهُ حَتَّى يَسْمَعَ أَوْلَادُهُ عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: في بيته العلم والحلم يؤتى- يعنى إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ ذَلِكَ فَهَلُمُّوا إِلَيَّ- وَأَبَى أن يذهب إليهم. والسلطان خالد ابن أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ نَائِبُ الظَّاهِرِيَّةِ بِبُخَارَى، فَبَقِيَ فِي نفس الأمير من ذلك، فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق- وكان قد وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَبَيْنَ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ وَصَنَّفَ الْبُخَارِيُّ فِي ذلك كتاب أَفْعَالِ الْعِبَادِ- فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ السَّمَاعِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَهُ جِدًّا، وَحِينَ رَجَعَ إِلَيْهِمْ نَثَرُوا عَلَى رَأْسِهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَوْمَ دَخَلَ بُخَارَى عَائِدًا إِلَى أهله، وكان له مجلس يجلس فيه للاملاء بِجَامِعِهَا فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنَ الْأَمِيرِ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذلك بنفيه من تلك الْبِلَادِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَدَعَا عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ فِلَمْ يَمْضِ شَهْرٌ حَتَّى أَمَرَ ابْنُ طَاهِرٍ بِأَنْ يُنَادَى عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى أَتَانٍ، وَزَالَ مُلْكُهُ وَسُجِنَ فِي بَغْدَادَ حتى مات، ولم يبق أحد يساعده عَلَى ذَلِكَ إِلَّا ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ شَدِيدٍ، فَنَزَحَ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا خَرْتَنْكُ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ سَمَرْقَنْدَ، فَنَزَلَ عِنْدَ أَقَارِبَ لَهُ بِهَا وَجَعَلَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ» . ثُمَّ اتَّفَقَ مَرَضُهُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ. فَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ الفطر- وكان لَيْلَةَ السَّبْتِ- عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ- وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عمامة، وفق ما أوصى به، وحين ما دُفِنَ فَاحَتْ مِنْ قَبْرِهِ رَائِحَةُ غَالِيَةٍ أَطْيَبُ من ريح المسك ثم دام ذلك أياما ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره. وكان عمره يوم مات ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَدْ تَرَكَ رَحِمَهُ اللَّهُ بعده علما نافعا لجميع المسلمين، فعلمه لَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ هُوَ مَوْصُولٌ بِمَا أَسْدَاهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِي الْحَيَاةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَشَرْطُهُ فِي صَحِيحِهِ هَذَا أَعَزُّ مِنْ شَرْطِ كُلِّ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي الصَّحِيحِ، لَا يُوَازِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ، لَا صَحِيحُ مُسْلِمٍ وَلَا غَيْرُهُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ مِنَ الشُّعَرَاءِ.
صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ لَوْ أَنْصَفُوهُ ... لَمَا خُطَّ إِلَّا بِمَاءِ الذَّهَبْ
هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالْعَمَى ... هُوَ السَّدُ بَيْنَ الْفَتَى وَالْعَطَبْ
أَسَانِيدُ مِثْلُ نجوم السماء ... أمام متون لها كالشهب
بِهَا قَامَ مِيزَانُ دِينِ الرَّسُولِ ... وَدَانَ بِهِ الْعُجْمُ بَعْدَ الْعَرَبْ
حِجَابٌ مِنَ النَّارِ لَا شك فيه ... يميز بين الرضى وَالْغَضَبْ
وَسِتْرٌ رَقِيقٌ إِلَى الْمُصْطَفَى ... وَنَصٌّ مُبِينٌ لكشف الريب(11/27)
فَيَا عَالِمًا أَجْمَعَ الْعَالِمُونَ ... عَلَى فَضْلِ رُتْبَتِهِ في الرتب
سبقت الأئمة فيما جَمَعْتَ ... وَفُزْتَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْقَصَبْ
نَفَيْتَ الضَّعِيفَ مِنَ النَّاقِلِينَ ... وَمَنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبْ
وَأَبْرَزْتَ فِي حُسْنِ تَرْتِيبِهِ ... وَتَبْوِيبِهِ عَجَبًا لِلْعَجَبْ
فَأَعْطَاكَ مَوْلَاكَ مَا تَشْتَهِيهِ ... وَأَجْزَلَ حَظَّكَ فِيمَا وَهَبْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ولى الخليفة المعتمد لِيَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ بَلْخَ وَطَخَارِسْتَانَ وَمَا يَلِي ذَلِكَ مِنْ كَرْمَانَ وَسَجِسْتَانَ وَالسِّنْدِ وَغَيْرِهَا. وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا عَقَدَ الْمُعْتَمِدُ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى الْكُوفَةِ وَطَرِيقِ مَكَّةَ وَالْحَرَمَيْنِ وَالْيَمَنِ وَأَضَافَ إِلَيْهِ فِي رَمَضَانَ نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ وَوَاسِطَ وَكُوَرِ دِجْلَةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَفِيهَا تَوَاقَعَ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ وَصَاحِبُ الزَّنْجِ فِي أَرَاضِي الْبَصْرَةِ فَهَزَمَهُ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ وَاسْتَنْقَذَ مِنْ يَدِهِ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَاسْتَرْجَعَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً. وأهان الزنج غاية الإهانة. ثُمَّ إِنَّ الزِّنْجَ بَيَّتُوا سَعِيدًا وَجَيْشَهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَيُقَالُ إِنَّ سَعِيدَ بْنَ صالح قتل أيضا. ثم إن الزنج التقوا هم ومنصور بْنِ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَهَزَمَهُمْ صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ طَالِبِيٌّ، وَهُوَ كَاذِبٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا ظُفِرَ بِبَغْدَادَ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ بِرْكَةُ زَلْزَلٍ بِرَجُلٍ خَنَّاقٍ قَدْ قتل خلقا من النساء كان يؤلف المرأة ثم يخنقها ويأخذ ما عليها، فَحُمِلَ إِلَى الْمُعْتَمِدِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَلْفَيْ سوط وأربعمائة، فلم يمت حتى ضربه الْجَلَّادُونَ عَلَى أُنْثَيَيْهِ بِخَشَبِ الْعُقَابَيْنِ فَمَاتَ، وَرُدَّ إِلَى بَغْدَادَ وَصُلِبَ هُنَاكَ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ جُثَّتَهُ. وَفِي لَيْلَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَسَفَ الْقَمَرُ وَغَابَ أَكْثَرُهُ. وَفِي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا فقتل من أهلها خلقا وَهَرَبَ نَائِبُهَا بُغْرَاجُ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَحْرَقَتِ الزِّنْجُ جَامِعَ الْبَصْرَةِ وَدُورًا كَثِيرَةً، وَانْتَهَبُوهَا ثُمَّ نَادَى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحد أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الأمان فليحضر. فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة فَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ فُرْصَةً فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّاذُّ:
كانت الزنج تحيط بجماعة مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كيلوا- وهي الإشارة بينهم إلى القتل- فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله إلا الله، من أولئك المقتولين وضجيجهم عند القتل- أي صراخ الزنج وضحكهم- ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام نحسات، وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْهُمْ كُلَّ مَهْرَبٍ، وَحَرَقُوا الْكَلَأَ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق مَا وَجَدَتْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بهيمة أو آثار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجامع [وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأدباء والفضلا. والمحدثين(11/28)
والعلماء. ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [1]] . وَكَانَ هَذَا الْخَبِيثُ قد أوقع في أهل فَارِسَ وَقْعَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَقَدِ اتَّسَعُوا بَعْدَ الضِّيقِ فَحَسَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَخُوطِبْتُ فَقِيلَ: إنما أهل البصرة خبزة لك تَأْكُلُهَا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَإِذَا انْكَسَرَ نِصْفُ الرَّغِيفِ خربت البصرة فأولت الرغيف القمر وانكساره انكسافه، وَقَدْ كَانَ هَذَا شَائِعًا فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى وقع الأمر طبق ما أخبر به. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا كَانَ مَعَهُ شَيْطَانٌ يخاطبه، كما كان يأتى الشيطان مسيلمة وغيره. قال: ولما وقع ما وقع من الزنج بأهل البصرة قال هذا الخبيث لمن معه: إني صبيحة ذلك دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَرُفِعَتْ لِي البصرة بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَرَأَيْتُ أَهْلَهَا يُقَتَّلُونَ وَرَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُقَاتِلُ مَعَ أَصْحَابِي وَإِنِّي لَمَنْصُورٌ عَلَى الناس والملائكة تقاتل معى، وتثبت جيوشى، ويؤيدونى فِي حُرُوبِي. وَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ الْعَلَوِيَّةُ الَّذِينَ كانوا بالبصرة انتسب هو حِينَئِذٍ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ كَاذِبٌ في ذلك بالإجماع، لابن يحيى ابن زَيْدٍ لَمْ يُعْقِبْ إِلَّا بِنْتًا مَاتَتْ وَهِيَ تَرْضَعُ، فَقَبَّحَ اللَّهُ هَذَا اللَّعِينَ مَا أَكْذَبَهُ وأفجره وأغدره.
وفيها في مستهل ذي القعدة وجه الخليفة جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ الْأَمِيرِ مُحَمَّدٍ- الْمَعْرُوفِ بِالْمُوَلَّدِ- لِقِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، فَقَبَضَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى سعد بْنِ أَحْمَدَ الْبَاهِلِيِّ الَّذِي كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ على أرض البطائح وأخاف السبيل. وفيها خالف محمد بن واصل الخليفة بِأَرْضِ فَارِسَ وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا. وَفِيهَا وَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ بَسِيلُ الصَّقْلَبِيُّ عَلَى مَلِكِ الرُّومِ مِيخَائِيلَ بْنِ تَوْفِيلَ فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَةِ الرُّومِ، وَقَدْ كَانَ لِمِيخَائِيلَ فِي الملك على الروم أربع وعشرون سنة. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ بْنِ يَزِيدَ
صَاحِبُ الْجُزْءِ الْمَشْهُورِ الْمَرْوِيِّ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِسَبْعٍ، وَكَانَ لَهُ عَشَرَةٌ من الولد سماهم بأسماء العشرة. وَقَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ يتردد إلى الامام أحمد بن حنبل ولد فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السنة عن مائة وسبع سنين وأبو سعيد الأشج. وبريد بن أخرم الطائي. والرواسي ذبحهما الزنج في جملة من ذبحوا من أهل البصرة. وعلى بن خشرم. أحد مشايخ مسلم الّذي يكثر عنهم الرواية.
وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ
أَبُو الْفَضْلِ الرِّيَاشِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، كَانَ عَالِمًا بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَالسِّيَرِ وَكَانَ كَثِيرَ الِاطِّلَاعِ ثِقَةً عَالِمًا، رَوَى عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو بكر بن أبى الدنيا وغيرهما. قتل بالبصرة في هذه السنة، قتله الزنج. ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه الأصمعي أنه قال:
__________
[1] زيادة من نسخة أخرى بالأستانة ومن المصرية.(11/29)
مَرَّ بِنَا أَعْرَابِيٌّ يَنْشُدُ ابْنَهُ فَقُلْنَا لَهُ صِفْهُ لَنَا. فَقَالَ: كَأَنَّهُ دُنَيْنِيرٌ. فَقُلْنَا: لَمْ نَرَهُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَحْمِلُهُ عَلَى عنقه أسيود كأنه سفل قدر. فقلت: لَوْ سَأَلْتَنَا عَنْ هَذَا لَأَرْشَدْنَاكَ، إِنَّهُ مُنْذُ الْيَوْمِ يَلْعَبُ هَاهُنَا مَعَ الْغِلْمَانِ. ثُمَّ أَنْشَدَ الأصمعي:
نعم ضجيع الفتى إذا برد ... الليل سحرا وقرقف العرد
زَيَّنَهَا اللَّهُ فِي الْفُؤَادِ كَمَا ... زُيِّنَ فِي عين والد ولد
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عقد الخليفة لأخيه أبى أحمد على ديار مصر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس في مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْآخَرِ فَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ وَعَلَى مُفْلِحٍ وَرَكِبَا نَحْوَ الْبَصْرَةِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ في عدد وعدد، فاقتتلوا هم والزنج قِتَالًا شَدِيدًا فَقُتِلَ مُفْلِحٌ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، أَصَابَهُ سَهْمٌ بِلَا نَصْلٍ فِي صَدْرِهِ فأصبح ميتا، وحملت جثته إلى سامرا فدفن بِهَا. وَفِيهَا أُسِرَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيُّ أَحَدُ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الزَّنْجِ الْكِبَارِ، وَحُمِلَ إِلَى سَامَرَّا فَضُرِبَ بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَمِدِ مِائَتَيْ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مِنْ خِلَافٍ، ثُمَّ أخذ بِالسُّيُوفِ ثُمَّ ذُبِحَ ثُمَّ أُحْرِقَ، وَكَانَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ جَيْشَ أَبِي أَحْمَدَ فِي وَقْعَةٍ هَائِلَةٍ مَعَ الزَّنْجِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ صَاحِبَ الزَّنْجِ أَسِفَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ خُوطِبْتُ فِيهِ فَقِيلَ لِي: قَتْلُهُ كَانَ خَيْرًا لَكَ. لِأَنَّهُ كَانَ شَرِهًا يُخْفِي مِنَ المغانم خيارها وقد كان صاحب الزنج يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ النُّبُوَّةُ فَخِفْتُ أَنْ لَا أَقُومَ بِأَعْبَائِهَا فَلَمْ أَقْبَلْهَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا وَصَلَ سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ الباهلي إلى باب الخليفة فَضُرِبَ سَبْعَمِائَةِ سَوْطٍ حَتَّى مَاتَ ثُمَّ صُلِبَ. وَفِيهَا قُتِلَ قَاضٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ أصحاب صاحب الزنج عند باب العامة بسامراء. وَفِيهَا رَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ إِلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ وَحَمَلِ خَرَاجَ فَارِسَ وَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ هُنَاكَ.
وفيها في أواخر رجب كان بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ وَبَيْنَ الزَّنْجِ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ فقتل منها خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. ثُمَّ اسْتَوْخَمَ أَبُو أَحْمَدَ منزله فانتقل إلى واسط فنزلها في أوائل شعبان، فلما نزلها وقعت هناك زلزلة شديدة وهدة عظيمة، تهدمت فيها بيوت ودور كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ مِنَ النَّاسِ نَحْوٌ مَنْ عِشْرِينَ ألفا. وفيها وقع في الناس وباء شديد وموت عريض بِبَغْدَادَ وَسَامَرَّا وَوَاسِطَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَحَصَلَ للناس ببغداد داء يقال له القفاع. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، أخذ رجل من باب العامة بسامراء ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ يَسُبُّ السَّلَفَ فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ حَتَّى مَاتَ. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنِهِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ يَارْجُوخُ فَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُو الْخَلِيفَةِ أَبُو عِيسَى وَحَضَرَهُ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ مُوسَى بن بغا وبين أصحاب الحسين بن زيد ببلاد خراسان فهزمهم موسى هَزِيمَةً فَظِيعَةً. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مَسْرُورٍ البلخي وبين مساور الخارجي فكسره مسرور وأسر مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً(11/30)
كَثِيرَةً. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ المتقدم ذكره. وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ أَحْمَدُ بْنُ بُدَيْلٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حفص. وأحمد بن سنان القطان. وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: وَيَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرازيّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ رَجَعَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ مِنْ وَاسِطَ إلى سامرا وقد استخلف على حرب الزنج محمد الْمُلَقَّبَ بِالْمَوْلَّدِ، وَكَانَ شُجَاعًا شَهْمًا. وَفِيهَا بَعَثَ الخليفة إلى نَائِبِ الْكُوفَةِ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ فَذَبَحُوهُ وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ فَإِذَا هُوَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِيهَا تَغَلَّبَ رِجْلٌ جَمَّالٌ يقال له شركب الجمال على مدينة مرو فانتهبها وتفاقم أمره وأمر أتباعه هُنَاكَ.
وَلِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ توجه موسى بن بغا إلى حرب الزنج، وخرج الْمُعْتَمِدُ لِتَوْدِيعِهِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهُ، وَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُفْلِحٍ إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَلِيَكُونَ عَوْنًا لِمُوسَى بْنِ بغا على حرب صاحب الزنج الخبيث، فهزم عبد الرحمن بن مفلح جيش الخبيث وَقَتَلَ مِنَ الزَّنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرَ طَائِفَةً كبيرة منهم وأرعبهم رعبا كثيرا بحيث لم يتجاسروا على مواقفته مَرَّةً ثَانِيَةً، وَقَدْ حَرَّضَهُمُ الْخَبِيثُ كُلَّ التَّحْرِيضِ فَلَمْ يَنْجَعْ ذَلِكَ فِيهِمْ، ثُمَّ تَوَاقَعَ عَبْدُ الرحمن بن مفلح وعلى ابن أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيُّ وَهُوَ مُقَدَّمُ جُيُوشِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، ثُمَّ كَانَتِ الدائرة على الزنج وللَّه الحمد. فرجع على بن أبان إلى الخبيث مغلوبا مقهورا، وبعث عبد الرحمن بِالْأُسَارَى إِلَى سَامَرَّا فَبَادَرَ إِلَيْهِمُ الْعَامَّةُ فَقَتَلُوا أكثرهم وسلبوهم قبل أن يصلوا إلى الخليفة.
وفيها دنا مَلِكُ الرُّومِ لَعَنَهُ اللَّهُ إِلَى بِلَادِ سُمَيْسَاطَ ثُمَّ إِلَى مَلَطْيَةَ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا بطريق البطارقة من أصحابه، وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ. وَفِيهَا دخل يعقوب بن الليث إلى نيسابور وظفر بِالْخَارِجِيِّ الَّذِي كَانَ بِهَرَاةَ يَنْتَحِلُ الْخِلَافَةَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَقَتَلَهُ وَحُمِلَ رَأْسُهُ عَلَى رُمْحٍ وطيف به في الآفاق. ومعه رقعة مكتوب فيها ذلك. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسماعيل بن إبراهيم ابن يعقوب بن سليمان بن إسحاق بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ خَطِيبُ دِمَشْقَ وَإِمَامُهَا وَعَالِمُهَا وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ الْمُفِيدَةُ، مِنْهَا الْمُتَرْجَمُ فِيهِ علوم غزيرة وفوائدة كثيرة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ
فيها وقع غلاء شديد بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا حَتَّى أَجْلَى أَكْثَرَ أَهْلِ البلدان منها إلى غَيْرَهَا، وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ حَتَّى ارْتَحَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَخَرَجَ نَائِبُ مَكَّةَ مِنْهَا. وَبَلَغَ كُرُّ الشَّعِيرِ بِبَغْدَادَ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ شُهُورًا. وفيها قتل صاحب الزنج على بن زيد صاحب الكوفة، وفيها أخذ الرُّومُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ لُؤْلُؤَةَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ قبلها.(11/31)
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، وَعَبْدُ الرحمن بن شرف. ومالك بن طوق صاحب الرحبة التي تنسب إليه، وهو مالك بن طوق، ويقال للرحبة رحبة مالك بن طوق، وحنين ابن إسحاق العبادي الّذي عرّب كتاب أقليدس وحرره بعد ثابت بن قرة. وعرب حنين أيضا كتاب المجسطي وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ مِنْ لُغَةِ الْيُونَانِ إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الْمَأْمُونُ شَدِيدَ الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ جَدًّا، وَكَذَلِكَ جَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ قَبْلَهُ وَلَحُنَيْنٍ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الطِّبِّ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ مَسَائِلُ حُنَيْنٍ، وَكَانَ بَارِعًا فِي فَنِّهِ جِدًّا، توفى يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا انْصَرَفَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ بِلَادِ الدَّيْلَمِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ وَأَحْرَقَ مَدِينَةَ شَالُوسَ لِمُمَالَأَتِهِمْ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ عَلَيْهِ. وَفِيهَا قَتَلَ مَسَاوِرٌ الْخَارِجِيُّ يَحْيَى بْنَ حَفْصٍ الَّذِي كَانَ يَلِي طَرِيقَ خُرَاسَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فَشَخَصَ إِلَيْهِ مَسْرُورٌ البلخي ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل فهرب مَسَاوِرٌ فَلَمْ يُلْحَقْ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ ابْنِ وَاصِلٍ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى فَارِسَ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُفْلِحٍ فَكَسَرَهُ ابْنُ وَاصِلٍ وأسره وقتل طاشتمر واصطلم الجيش الذين كانوا معه فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، ثُمَّ سَارَ ابْنُ وَاصِلٍ إِلَى وَاسِطَ يُرِيدُ حَرْبَ مُوسَى بن بغا فرجع موسى إلى نائب الخليفة وسأل أن يعفى من ولاية بلاد المشرق لما بها من الفتن، فعزل عنها وولاها الخليفة إلى أخيه أبى أحمد. وفيها سار أبو الساج إلى حرب الزنج فاقتتلوا قتالا شديدا وغلبتهم الزنج ودخلوا الأهواز فقتلوا خلقا من أهلها وأحرقوا منازل كثيرة، ثُمَّ صُرِفَ أَبُو السَّاجِ عَنْ نِيَابَةِ الْأَهْوَازِ وخربها الزنج وولى الخليفة ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَا. وَفِيهَا تَجَهَّزَ مَسْرُورٌ البلخي في جيش لقتال الزنج. وفيها ولى الخليفة نصر بن أحمد ابن أَسَدٍ السَّامَانِيَّ مَا وَرَاءَ نَهْرِ بَلْخَ وَكَتَبَ إليه بذلك في شهر رمضان. وفي شوال قصد يعقوب بن الليث حرب ابْنِ وَاصِلٍ فَالْتَقَيَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَهَزَمَهُ يعقوب وأخذ عسكره وأسر رجاله وَطَائِفَةً مِنْ حَرَمِهِ وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَتَلَ مَنْ كَانَ يُمَالِئُهُ وَيَنْصُرُهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ. وأصلح الله به تلك الناحية.
ولا ثنتى عشرة ليلة خلت من شوال وَلَّى الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ وَلَدَهُ جَعْفَرًا الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ وَسَمَّاهُ الْمُفَوِّضَ إِلَى اللَّهِ وَوَلَّاهُ المغرب وضم إليه موسى بن بغا وولاية إِفْرِيقِيَّةَ وَمِصْرَ وَالشَّامَ وَالْجَزِيرَةَ وَالْمَوْصِلَ وَأَرْمِينِيَّةَ وَطَرِيقَ خُرَاسَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ ولده لأبى أحمد الْمُتَوَكِّلِ وَلَقَّبَهُ الْمُوَفَّقَ باللَّه وَوَلَّاهُ الْمَشْرِقَ وَضَمَّ إليه مسرور الْبَلْخِيَّ وَوَلَّاهُ بَغْدَادَ وَالسَّوَادَ وَالْكُوفَةَ وَطَرِيقَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالْيَمَنَ وَكَسْكَرَ وَكُوَرَ دِجْلَةَ وَالْأَهْوَازَ وَفَارِسَ وأصبهان وَالْكَرْخَ وَالدِّينَوَرَ وَالرِّيَّ وَزَنْجَانَ وَالسِّنْدَ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة. وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق.(11/32)
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّهَاوِيُّ. وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ. وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ بِمَكَّةَ. وَدَاودُ بن سليمان الْجَعْفَرِيُّ. وَشُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَاثِقِ أَخُو الْمُهْتَدِي باللَّه. وَأَبُو شُعَيْبٍ السُّوسِيُّ. وَأَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ. وَعَلِيُّ بن إشكاب وأخوه أبو محمد ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح
وهذا ذكر شيء من ترجمته على سبيل الاختصار
هو مُسْلِمٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ صَاحِبُ الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء، وذهبت المغاربة وأبو على النَّيْسَابُورِيِّ مِنَ الْمَشَارِقَةِ إِلَى تَفْضِيلٍ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنْ أَرَادُوا تَقْدِيمَهُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ إِلَّا الْقَلِيلَ، وَأَنَّهُ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ بِتَمَامِهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَا يَقْطَعُهَا كَتَقْطِيعِ الْبُخَارِيِّ لَهَا فِي الْأَبْوَابِ فَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوَازِي قُوَّةَ أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها مَا أَوْرَدَهُ فِي جَامِعِهِ مُعَاصَرَةَ الرَّاوِي لِشَيْخِهِ وسماعه منه وفي الجملة فان مسلما لم يَشْتَرِطُ فِي كِتَابِهِ الشَّرْطَ الثَّانِيَ كَمَا هُوَ مقرر في علوم الحديث، وقد بسطت ذلك في أول شرح البخاري. والمقصود أَنَّ مُسْلِمًا دَخَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ ومصر وسمع من جماعة كثيرين قد ذكرهم شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مُرَتَّبَيْنَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ مِنْهُمُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ حَدِيثًا وَاحِدًا وَهُوَ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ» . وصالح بن محمد حرره. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ صَاعِدٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا أحمد بْنُ نُعَيْمٍ الضَّبِّيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ يُقَدِّمَانِ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ عَلَى مَشَايِخِ عصرهما. وأخبرنى ابن يعقوب أنا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الماسرخسي يقول سمعت أبى يقول سمعت مسلما بْنَ الْحَجَّاجِ يَقُولُ: صَنَّفْتُ هَذَا الْمُسْنَدَ الصَّحِيحَ مِنْ ثَلَاثمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ. وَرَوَى الْخَطِيبُ قائلا: حدثني أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ على السودرجانى- بِأَصْبَهَانَ- سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَهْ سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذُكِرَ مُسْلِمٌ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ فَقَالَ بِالْعَجَمِيَّةِ مَا مَعْنَاهُ: أَيُّ رَجُلٍ كَانَ هَذَا؟ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِمُسْلِمٍ: لَنْ نَعْدَمَ الْخَيْرَ مَا أَبْقَاكَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أثنى عليه جماعة من العلماء من أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَخْرَمُ: قَلَّ مَا يَفُوتُ البخاري ومسلما ما يَثْبُتُ فِي الْحَدِيثِ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ أَبِي عمر ومحمد بْنِ حَمْدَانَ الْحِيرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ عُقْدَةَ الْحَافِظَ(11/33)
عَنِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَيُّهُمَا أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: كَانَ الْبُخَارِيُّ عَالِمًا وَمُسْلِمٌ عَالِمًا، فَكَرَّرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِرَارًا وَهُوَ يَرُدُّ عَلَيَّ هَذَا الْجَوَابَ ثُمَّ قال: يَا أَبَا عَمْرٍو قَدْ يَقَعُ لِلْبُخَارِيِّ الْغَلَطُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَ كُتُبَهُمْ فَنَظَرَ فِيهَا فَرُبَّمَا ذَكَرَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ بِكُنْيَتِهِ وَيَذُكُرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاسْمِهِ وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُمَا اثنان، وأما مُسْلِمٌ فَقَلَّ مَا يَقَعُ لَهُ الْغَلَطُ لِأَنَّهُ كتب الْمَقَاطِيعَ وَالْمَرَاسِيلَ. قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّمَا قَفَا مُسْلِمٌ طَرِيقَ الْبُخَارِيِّ وَنَظَرَ فِي عِلْمِهِ وَحَذَا حَذْوَهُ. وَلَمَّا وَرَدَ الْبُخَارِيُّ نَيْسَابُورَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ لَازَمَهُ مُسْلِمٌ وَأَدَامَ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ. وَقَدْ حَدَّثَنِي عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصير في قال سمعت أبا الحسن قطنى يقول:
لولا البخاري ما ذَهَبَ مُسْلِمٌ وَلَا جَاءَ قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَخْبَرَنِي أبو بكر المنكدر ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنِي أَبُو نصر بن محمد الزراد سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنَ حَمْدَانَ الْقَصَّارَ سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَجَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ، حَدَّثَكَ محمد بن سلام ثنا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانَيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ؟ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ ثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلَهُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِمُوسَى بْنِ عَقَبَةَ سَمَاعٌ مَنْ سُهَيْلٍ. قُلْتُ: وَقَدْ أَفْرَدْتُ لِهَذَا الْحَدِيثِ جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ وَأَوْرَدْتُ فيه طرقه وألفاظه ومتنه وعلله. قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ كَانَ مُسْلِمٌ يُنَاضِلُ عَنِ البخاري. ثم ذكر ما وَقَعَ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ فِي نَيْسَابُورَ، وَكَيْفَ نُودِيَ عَلَى الْبُخَارِيِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِنَيْسَابُورَ، وَأَنَ الذُّهْلِيَّ قَالَ يَوْمًا لِأَهْلِ مَجْلِسِهِ وَفِيهِمْ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: أَلَا مَنْ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ فَلْيَعْتَزِلْ مَجْلِسَنَا. فَنَهَضَ مُسْلِمٌ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَجَمَعَ ما كان سمعه من الذهلي جميعه وأرسله إِلَيْهِ وَتَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنِ الذُّهْلِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا لَا فِي صَحِيحِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَاسْتَحْكَمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا. هَذَا وَلَمْ يَتْرُكِ الْبُخَارِيُّ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ بَلْ رَوَى عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ وَعَذَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ سَبَبَ مَوْتِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْمُذَاكَرَةِ فسئل يوما عن حديث فلم يَعْرِفْهُ فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَوْقَدَ السِّرَاجَ وَقَالَ لِأَهْلِهِ: لَا يَدْخُلْ أَحَدٌ اللَّيْلَةَ عَلَيَّ، وَقَدْ أُهْدِيَتْ لَهُ سَلَّةٌ مِنْ تَمْرٍ فَهِيَ عِنْدُهُ يأكل تمرة ويكشف عن حديث ثم يأكل أخرى ويكشف عن آخر، فلم يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ وَقَدْ أَكَلَ تِلْكَ السَّلَّةَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ثِقَلٌ وَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعِ ومائتين، فكان(11/34)
عُمُرُهُ سَبْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو يَزِيدِ الْبِسْطَامِيُّ
اسْمُهُ طَيْفُورُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ جَدُّهُ مجوسيا فأسلم، وكان لأبى يزيد أخوات صالحات عابدات، وهو أجلهم، قيل لأبى يزيد: بأي شيء وصلت إلى الْمَعْرِفَةِ؟ فَقَالَ بِبَطْنٍ جَائِعٍ وَبَدَنٍ عَارٍ. وَكَانَ يَقُولُ: دَعَوْتُ نَفْسِي إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَلَمْ تجبني فمنعتها الماء سنة، وقال إذا رأيتم الرجل قد أُعْطِي مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَفِعَ فِي الْهَوَاءِ فلا تعتروا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ والنهى وحفظ الحدود والوقوف عند الشريعة. قال ابن خلكان: وله مقامات ومجاهدات مشهورة وكرامات ظاهرة. توفى سنة إحدى وستين ومائتين. قلت: وقد حكى عنه شحطات ناقصات، وقد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة، وقد قال بعضهم:
إنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة. ومن العلماء من بدّعه وخطّأه وجعل ذلك من أكبر البدع وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته والله أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَدِمَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ فِي جَحَافِلَ فَدَخَلَ وَاسِطَ قَهْرًا فَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ بِنَفْسِهِ مِنْ سَامَرَّا لِقِتَالِهِ فَتَوَسَّطَ بَيْنَ بَغْدَادَ وَوَاسِطَ فَانْتَدَبَ لَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ باللَّه أَخُو الْخَلِيفَةِ، فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ مُوسَى بْنُ بُغَا، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ، فَاقْتَتَلُوا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أياما قتالا عظيما، ثم كانت العلبة عَلَى يَعْقُوبَ وَأَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ عِيدِ الشَّعَانِينَ. فقتل منهم خلق كثير وَغَنِمَ مِنْهُمْ أَبُو أَحْمَدَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمِسْكِ وَالدَّوَابِّ. وَيُقَالُ إِنَّهُمْ وَجَدُوا فِي جَيْشِ يَعْقُوبَ هَذَا رَايَاتٍ عَلَيْهَا صُلْبَانٌ ثُمَّ انْصَرَفَ الْمُعْتَمِدُ إِلَى الْمَدَائِنِ وَرَدَّ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ إِلَى نِيَابَةِ بَغْدَادَ وَأَمْرِ لَهُ بِخَمْسمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِيهَا غُلِبَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ وَهَرَبَ ابْنُ وَاصِلٍ مِنْهَا. وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَجَيْشِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ. وَفِيهَا جُمِعَ لِلْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ قَضَاءُ جَانِبَيْ بَغْدَادَ. وفيها حج بالناس الفضل ابن إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا وَقَعَ بين الخياطين والخرازين بِمَكَّةَ فَاقْتَتَلُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ. فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا وَخَافَ النَّاسُ أَنْ يَفُوتَهُمُ الْحَجُّ بِسَبَبِهِمْ، ثُمَّ تَوَادَعُوا إِلَى ما بعد الحج. وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَنْصُورِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا.
وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ النَّمِيرِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ. وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ الْحَافِلِ الْمَشْهُورِ وَاللَّهُ أعلم.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا جرت حروب كثيرة منتشرة في بلاد شَتَّى فَمِنْ ذَلِكَ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الزَّنْجِ لعنهم الله،(11/35)
حَصَرَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَقَتَلَ الْمَوْجُودِينَ عِنْدَهُ عَنْ آخِرِهِمْ. وَفِيهَا سَلَّمَتِ الصَّقَالِبَةُ حِصْنَ لُؤْلُؤَةَ إِلَى طَاغِيَةِ الروم. وَفِيهَا تَغَلَّبَ أَخُو شَرْكَبَ الْجَمَّالِ عَلَى نَيْسَابُورَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا عَامِلَهَا الْحُسَيْنَ بْنَ طَاهِرٍ وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ مُصَادَرَةً قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ مَسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الشَّارِي الخارجي، وقد كان من الأبطال وَالشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَطَالَتْ مُدَّتُهُ حَتَّى قَصَمَهُ اللَّهُ. وَوَزِيرُ الْخِلَافَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ صَدَمَهُ فِي الْمَيْدَانِ خَادِمٌ يُقَالُ لَهُ رَشِيقٌ فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَخَرَجَ دِمَاغُهُ مِنْ أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ فَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ ساعات، وصلى عليه أبو أحمد الموفق بن الْمُتَوَكِّلِ، وَمَشَى فِي جِنَازَتِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاسْتَوْزَرَ مِنَ الْغَدِ الْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ، فَلَمَّا قَدِمَ مُوسَى بْنُ بُغَا سَامَرَّا عَزَلَهُ وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ وَهْبٍ، وَسُلِّمَتْ دَارُ عبد اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ إِلَى الْأَمِيرِ المعروف بكيطلغ. وفيها توفى أحمد بْنُ الْأَزْهَرِ. وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ. وَمُعَاوِيَةُ بن صالح الأشعري.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَسْكَرَ أَبُو أَحْمَدَ وَمُوسَى بْنُ بغا بسامراء وخرجها مِنْهَا لِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ صَفَرٍ، وَخَرَجَ الْمُعْتَمِدُ لتوديعهما، وسارا إلى بغداد. فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى بَغْدَادَ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مُوسَى بن بغا وحمل إلى سامرا فدفن بها. وفيها ولى محمد بن المولد واسطا لمحاربة سليمان بن جامع نائبها من جهة صَاحِبِ الزَّنْجِ، فَهَزَمَهُ ابْنُ الْمُوَلَّدِ بَعْدَ حُرُوبٍ طويلة. وَفِيهَا سَارَ ابْنُ الدِّيرَانِيِّ إِلَى مَدِينَةِ الدِّينَوَرِ واجتمع عَلَيْهِ دُلَفُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ وَابْنُ عِيَاضٍ فَهَزَمَاهُ وَنَهَبَا أَمْوَالَهُ وَرَجَعَ مَغْلُولًا. وَلَمَّا تُوُفِّيَ مُوسَى بْنُ بُغَا عَزَلَ الخليفة الْوَزِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ سُلَيْمَانُ بن حرب وَحَبَسَهُ مُقَيَّدًا وَأَمَرَ بِنَهْبِ دُورِهِ وَدُورِ أَقْرِبَائِهِ وَرَدَّ الْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ إِلَى الْوِزَارَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا أَحْمَدَ وَهُوَ بِبَغْدَادَ فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى سَامَرَّا فَتَحَصَّنَ مِنْهُ أَخُوهُ الْمُعْتَمِدُ بِجَانِبِهَا الْغَرْبِيِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ عَبَرَ جَيْشُ أَبِي أَحْمَدَ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ الْمُعْتَمِدُ فِلْمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بَلِ اصْطَلَحُوا عَلَى رَدِّ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ إِلَى الْوِزَارَةِ وهرب الحسن بن خلد فنهبت أمواله وحواصله واختفى أبو عيسى بن الْمُتَوَكِّلِ ثُمَّ ظَهَرَ، وَهَرَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ إلى الموصل خوفا من أبى أحمد، وفيها حج بالناس هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بن عيسى الهاشمي الكوفي.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَقَدْ ترجمناه في طبقات الشافعيين.(11/36)
وَأَبُو زُرْعَةَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّازِيُّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمَشْهُورِينَ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَانَ فَقِيهًا وَرِعًا زاهدا عابدا متواضعا خاشعا أَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِهِ بِالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ، وَشَهِدُوا لَهُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَكَانَ فِي حَالٍ شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل يَقْتَصِرُ أَحْمَدُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَلَا يَفْعَلُ المندوبات اكتفاء بمذاكرته. توفى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ مِائَتَيْنِ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ مَبْسُوطَةً فِي التكميل.
ومحمد بن إسماعيل بن عُلَيَّةَ قَاضِي دِمَشْقَ. وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصدفي المصري وهو ممن روى عن الشافعيّ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّكْمِيلِ وَفِي الطَّبَقَاتِ. وَقَبِيحَةُ أَمُّ الْمُعْتَزِّ إِحْدَى حَظَايَا الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، وقد جَمَعَتْ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالذَّهَبِ وَالْمَصَاغِ مَا لَمْ يُعْهَدْ لِمِثْلِهَا. ثُمَّ سُلِبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ وَقُتِلَ وَلَدُهَا الْمُعْتَزُّ لِأَجْلِ نَفَقَاتِ الْجُنْدِ، وَشَحَّتْ عليه، بخمسين ألف دينار تدارى بها عنه. كانت وَفَاتُهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ ابْنِ لَيْثَوَيْهِ عَامِلِ أَبِي أحمد وبين سليمان بن جامع فظفر بها ابن ليثويه بابن جامع نائب صاحب الزنج، فقتل خلقا من أصحابه وأسر مِنْهُمْ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ أَسِيرًا، وَحَرَّقَ لَهُ مَرَاكِبَ كثيرة، وغنم منهم أموالا جزيلة. وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ حَاصَرَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ نَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ وفيها سيما الطويل فأخذها منه وجاءته هَدَايَا مَلَكِ الرُّومِ، وَفِي جُمْلَتِهَا أُسَارَى مِنَ أسارى المسلمين، ومع كل أسير مصحف، منهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيدِ بْنِ كَاوِسَ الَّذِي كَانَ عَامِلَ الثُّغُورِ فَاجْتَمَعَ لِأَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مُلْكُ الشَّامِ بِكَمَالِهِ مَعَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، لِأَنَّهُ لما مات نائب دمشق اما خور ركب ابن طولون من مصر قتلقاه ابن اما خور إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا ثُمَّ إِلَى حِمْصَ فَتَسَلَّمَهَا ثُمَّ إِلَى حلب فأخذها ثُمَّ رَكِبَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ ما تقدم. وكان قد استخلف على مصر ابْنَهُ الْعَبَّاسَ فَلَمَّا بَلَغَهُ قُدُومُ أَبِيهِ عَلَيْهِ مَنَ الشَّامِ أَخَذَ مَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَوَازَرَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ذَلِكَ، ثم ساروا إِلَى بَرْقَةَ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ أَبِيهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ أَخَذَهُ ذَلِيلًا حَقِيرًا، وَرَدُّوهُ إِلَى مِصْرَ فَحَبَسَهُ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَفِيهَا خرج رجل يقال له القاسم بن مهاة عَلَى دُلَفِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ الْعِجْلِيِّ فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَصْبَهَانَ فَانْتَصَرَ أصحاب دلف له فقتلوا القاسم وَرَأَّسُوا عَلَيْهِمْ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَفِيهَا لِحَقَ مُحَمَّدٌ الْمُوَلَّدُ بِيَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ فَسَارَ إليه في المحرم فأمر الخليفة بنهب حواصله وأمواله وأملاكه. وَفِيهَا دَخَلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ إِلَى النُّعْمَانِيَّةِ فَقَتَلَ وَحَرَّقَ ثُمَّ سَارَ إِلَى جَرْجَرَايَا فَانْزَعَجَ النَّاسُ منه(11/37)
ودخل أهل السواد إلى بغداد. وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو أَحْمَدَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ خُرَاسَانَ وَفَارِسَ وَأَصْبَهَانَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَالسِّنْدَ، وَوَجَّهَهُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ وَبِالْخِلَعِ وَالتُّحَفِ. وَفِيهَا حَاصَرَتِ الزَّنْجُ تستر حتى كادوا يأخذونها فَوَافَاهُمْ تِكِينُ الْبُخَارِيُّ فَلَمْ يَضَعْ ثِيَابَ سَفَرِهِ حتى ناجز الزنج فقتل منهم خلقا وهزمهم هزيمة فظيعة جدا، وهرب أميرهم على بن أبان المهلبي مَخْذُولًا: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ وَقْعَةُ بَابِ كُودَكَ الْمَشْهُورَةُ، ثُمَّ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيَّ أَخَذَ فِي مُكَاتَبَةِ تِكِينَ وَاسْتِمَالَتِهِ إِلَيْهِ وإلى صاحب الزنج فسارع تكين في إجابته إِلَى ذَلِكَ فَبَلَغَ خَبَرُهُ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ فَسَارَ نحوه وأظهر له الأمان حتى أخذه فقيده وَتَفَرَّقَ جَيْشُهُ عَنْهُ فَفِرْقَةٌ صَارَتْ إِلَى الزَّنْجِ وَفِرْقَةٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْكُرْدِيِّ. وفرقة انضافت إلى مسرور بَعْدَ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمُ الْأَمَانَ، وَوَلَّى مَكَانَهُ عَلَى عمالته أميرا آخر يقال له اغرتمش. وفيها حج بالناس هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى العباسي.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ رَاوِيَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَدْ صَحِبَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَكَانَ يعد من الابدال توفى عن ثلاث وستين سَنَةً. وَسَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد المخزومي وَعَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ الْمَوْصِلِيُّ. وَأَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ عَلِيُّ بْنُ مُوَفَّقٍ الزَّاهِدُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ: وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ صاحب أبى عبيدة والأصمعي قتلته الزنج بالبصرة.
يعقوب بْنُ اللَّيْثِ الصِّفَّارُ
أَحَدُ الْمُلُوكِ الْعُقَلَاءِ الْأَبْطَالِ. فتح بلادا كثيرة من ذلك بلد الرجح التي كان فيها ملك صاحب الزنج وكان يُحْمَلُ فِي سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ عَلَى رُءُوسِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ فِي رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ سَمَّاهُ مَكَّةَ، فَمَا زَالَ حتى قتل وأخذ بلده واستسلم أهلها فأسلموا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ وَقَاتَلَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا مَاتَ وَلَّوْا أَخَاهُ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ مَا كَانَ يَلِيهِ أَخُوهُ يَعْقُوبُ مَعَ شرطة بغداد وسامرا كما سيأتي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا تَغَلَّبَ أَسَاتِكِينُ عَلَى بَلَدِ الرِّيِّ وَأَخْرَجَ عَامِلَهَا مِنْهَا ثُمَّ مَضَى إِلَى قَزْوِينَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا فَدَخَلَهَا وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى الرِّيِّ فَمَانَعَهُ أَهْلُهَا عَنِ الدخول إليها فقهرهم ودخلها [وفيها غارت سَرِيَّةٌ مِنَ الرُّومِ عَلَى نَاحِيَةِ دِيَارِ رَبِيعَةَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَمَثَّلُوا وَأَخَذُوا نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْنِ وخمسين أسيرا، فنفر إليهم أهل الصين وَأَهْلُ الْمَوْصِلِ فَهَرَبَتْ مِنْهُمُ الرُّومُ وَرَجَعُوا إِلَى بلادهم] [1] وَفِيهَا وَلِيَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ شُرْطَةَ بَغْدَادَ وَسَامَرَّا لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ أبو أحمد بالخلعة
__________
[1] سقط من المصرية.(11/38)
وَخَلَعَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ أَيْضًا وَأَهْدَى إِلَيْهِ عَمُودَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، وَذَلِكَ مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ يَلِيهِ أَخُوهُ مِنَ الْبُلْدَانِ. وَفِيهَا سار اغرتمش إلى قتال عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ بِتُسْتَرَ فَأَخَذَ مَنْ كَانَ فِي السِّجْنِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ فَاقْتَتَلَا قتالا شديدا في مرات عديدة، كان آخِرُهَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ، قَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ أَغْرِتْمِشَ وَأَسَرَ بَعْضَهُمْ فَقَتَلَهُمْ أيضا، وبعث برءوسهم إلى صاحب الزنج فنصبت رءوسهم على باب مَدِينَتِهِ قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ عِيسَى الْكَرْخِيِّ فَقَتَلُوهُ فِي شَوَّالٍ منها، وفيها دعا الحسن بن محمد ابن جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُسَيْنٍ الْأَصْغَرُ العقيلي أَهْلَ طَبَرِسْتَانَ إِلَى نَفْسِهِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ الحسين بن زيد أُسِرَ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ غيره، فبايعوه. فلما بلغ ذلك الحسين بن زيد قصده فقاتله فقتله ونهب أمواله وأموال من اتبعه وأحرق دُورَهُمْ. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا بَيْنَ الْجَعْفَرِيَّةِ وَالْعَلَوِيَّةِ [وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ سُلَالَةِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى طَبَرِسْتَانَ، وَجَرَتْ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ هُنَالِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ الْجَعْفَرِيَّةِ وَالْعَلَوِيَّةِ] [1] يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَفِيهَا وَثَبَتِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فانتهبوها، وسار بعضهم إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ [وَأَصَابَ الْحَجِيجَ مِنْهُمْ شِدَّةٌ وبلاء شديد وأمور كريهة. وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ أَيْضًا عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ. وَفِيهَا دَخَلَ أَصْحَابُ صَاحِبِ الزَّنْجِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَافْتَتَحُوهَا بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ] [2] وَفِيهَا دَخَلَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ مَكَّةَ فَقَاتَلَهُ الْمَخْزُومِيُّ فَقَهَرَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ وَحَرَّقَ دَارَهُ وَاسْتَبَاحَ مَالَهُ، وَذَلِكَ يوم التروية في هذه السنة. ثم جعلت إمرة الحرمين إلى ابن أبى الساج من جهة الخليفة. وحج بالناس فيها هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ قَبْلَهَا. وَفِيهَا عمل محمد بن عبد الرحمن الداخل إلى بلاد المغرب- وهو خليفة بلاد الْأَنْدَلُسِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ- مَرَاكِبَ فِي نَهْرِ قُرْطُبَةَ ليدخل بها إلى البحر المحيط ولتسير الجيوش في أطرافه إلى بعض البلاد لِيُقَاتِلُوهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَرَاكِبُ الْبَحْرَ الْمُحِيطَ تَكَسَّرَتْ وَتَقَطَّعَتْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا الْيَسِيرُ بل غرق أَكْثَرُهُمْ. وَفِيهَا التَّقَى أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ وَأُسْطُولُ الرُّومِ بِبِلَادِ صِقِلِّيَّةَ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كثير ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا حَارَبَ لُؤْلُؤٌ غلام ابن طولون لموسى بن اتامش فكسره لؤلؤ وأسره وَبَعَثَ بِهِ إِلَى مَوْلَاهُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وهو إذا ذاك نائب الشام ومصر وإفريقية من جهة الخليفة، ثُمَّ اقْتَتَلَ لُؤْلُؤٌ هَذَا وَطَائِفَةٌ مِنَ الرُّومِ فقتل من الروم خَلْقًا كَثِيرًا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ:
وَفِيهَا اشْتَدَّ الحال وضاق الناس ذرعا بكثرة الهياج والفتن وَتَغَلُّبِ الْقُوَّادِ وَالْأَجْنَادِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ بسبب ضعف منصب الخلافة وَاشْتِغَالِ أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ بِقِتَالِ الزَّنْجِ. وَفِيهَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فِي تِشْرِينَ الثَّانِي جِدًّا ثُمَّ قوى به البرد حتى جمد الماء.
__________
[1] زيادة من المصرية ومن نسخة أخرى بالأستانة
[2] سقط من المصرية.(11/39)
وفيها توفى من الأعيان إبراهيم بن رومة. وصالح بن الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَاضِي أَصْبَهَانَ.
وَمُحَمَّدُ بن شجاع البلخي أَحَدُ عُبَّادِ الْجَهْمِيَّةِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الدقيقي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ فِي نَحْوٍ مَنْ عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ فِي أَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَأَكْمَلِ تَجَمُّلٍ لِقِتَالِ الزَّنْجِ، فساروا نحوهم فكان بينهم وبينهم مِنَ الْقِتَالِ وَالنِّزَالِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ وَوَقَعَاتٍ مشهورات ما يطول بسطه، وقد استقصاه ابن جرير في تاريخه مبسوطا مطولا. وحاصل ذلك أنه آل الحال أَنِ اسْتَحْوَذَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ عَلَى مَا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الزَّنْجُ بِبِلَادِ وَاسِطَ وَأَرَاضِي دِجْلَةَ، هَذَا وَهُوَ شَابٌّ حَدَثٌ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالْحَرْبِ، [وَلَكِنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ وَغَنَّمَهُ وَأَعْلَى كَلِمَتِهِ وَسَدَّدَ رَمْيَتَهُ وَأَجَابَ دَعْوَتَهُ وَفَتَحَ على يديه وأسبغ لعمه عَلَيْهِ، وَهَذَا الشَّابُّ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ] [1] بعد عمه المعتمد كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ ناصر دين الله في بغداد في صفر منها فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ فَدَخَلَ وَاسِطَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَتَلَقَّاهُ ابْنُهُ وَأَخْبَرَهُ عَنِ الْجُيُوشِ الذين معه، وأنهم نصحوا وتحملوا من أعباء الجهاد، فخلع على الْأُمَرَاءِ كُلِّهِمْ خِلَعًا سَنِيَّةً، ثُمَّ سَارَ بِجَمِيعِ الْجُيُوشِ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أنشأها وسماها المنيعة، فقاتل الزنج دونها قتالا شديدا فَقَهَرَهُمْ وَدَخَلَهَا عَنْوَةً وَهَرَبُوا مِنْهَا، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ جَيْشًا فَلَحِقُوهُمْ إِلَى الْبَطَائِحِ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وغنم أبو أحمد بن الْمَنِيعَةِ شَيْئًا كَثِيرًا وَاسْتَنْقَذَ. مِنَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ خَمْسَةَ آلَافِ امْرَأَةٍ، وَأَمَرَ بِإِرْسَالِهِنَّ إِلَى أَهَالِيهِنَّ بواسط، وأمر بهدم سور البلد وبطم خندقها وجعلها بلقعا بعد ما كانت للشر مجمعا.
ثم سار الموفق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها المنصورة وبها سليمان بن جامع، فحاصروها وَقَاتَلُوهُ دُونَهَا فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ورمى أبو العباس بن الموفق بسهم أحمد بن هندي أحد أمراء صاحب الزنج فَأَصَابَهُ فِي دِمَاغِهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أمراء صاحب الزنج، فشق ذلك على الزنج جدا وأصبح الناس محاصرين مدينة الزنج يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَالْجُيُوشُ الْمُوَفَّقِيَّةُ مُرَتَّبَةٌ أَحْسَنَ تَرْتِيبٍ، فَتَقَدَّمَ الْمُوَفَّقُ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَابْتَهَلَ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَاجْتَهَدَ فِي حِصَارِهَا فَهَزَمَ اللَّهُ مُقَاتِلَتَهَا وَانْتَهَى إِلَى خَنْدَقِهَا فَإِذَا هُوَ قَدْ حُصِّنَ غَايَةَ التَّحْصِينِ، وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا حَوْلَ الْبَلَدِ خَمْسَةَ خَنَادِقَ وَخَمْسَةَ أَسْوَارٍ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جاوز سورا قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوز إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَلَدِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ وَأَسَرَ من نساء الزنج من حَلَائِلِ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ وَذَوِيهِ نِسَاءً كَثِيرَةً وصبيانا، واستنقذ من أيديهم النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ نَسَمَةٍ فَسَيَّرَهُمْ إِلَى أهليهم، جزاه الله خيرا.
__________
[1] زيادة من المصرية.(11/40)
ثم أمر بهدم فنادقها وَأَسْوَارِهَا وَرَدْمِ خَنَادِقِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَأَقَامَ بِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَعَثَ فِي آثَارِ مَنِ انْهَزَمَ منهم، فكان لا يأتون بأحد منهم إلا استماله إلى الحق برفق ولين وصفح، فمن أجابه أضافه إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ- وَكَانَ مَقْصُودُهُ رُجُوعَهُمْ إِلَى الدين والحق- ومن لم يجبه قتله وحبسه. ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَأَجْلَاهُمْ عَنْهَا وَطَرَدَهُمْ مِنْهَا وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَصْرِيُّ وَكَانَ رَئِيسًا فِيهِمْ مُطَاعًا، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَتَبَ الْمُوَفَّقُ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ قَبَّحَهُ الله كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَظَالِمِ وَالْمَحَارِمِ وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج الحرام. ونبذ لَهُ الْأَمَانَ إِنْ هُوَ رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الزَّنْجِ جَوَابًا
ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي فِيهَا صَاحِبُ الزَّنْجِ وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ لِيُحَاصِرَهَا
لَمَّا كَتَبَ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ يَدْعُوهُ إِلَى الْحَقِّ فَلَمْ يُجِبْهُ، اسْتِهَانَةً بِهِ، رَكِبَ من فوره فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ قَرِيبٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ مقاتل، قاصدا إلى المختارة مدينة صاحب الزنج، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا وَجَدَهَا فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَقَدْ حَوَّطَ عَلَيْهَا مِنْ آلَاتِ الْحِصَارِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدِ الْتَفَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ بِسَيْفٍ وَرُمْحٍ وَمِقْلَاعٍ، وَمَنْ يَكْثُرُ سَوَادُهُمْ، فَقَدَّمَ الْمُوَفَّقُ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَقَدَّمَ حَتَّى وَقَفَ تَحْتَ قصر الملك فحاصره محاصرة شديدة، وتعجب الزنج من إقدامه وجرأته، ثم تراكمت الزنج عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَهَزَمَهُمْ وَأَثْبَتَ بَهْبُوذَ أكبر أمراء صاحب الزنج بالسهام والحجارة ثم خامر جماعة من أصحاب أمراء صاحب الزنج إلى الموفق فأكرمهم وأعطاهم خلعا سنية ثم رغب إلى ذلك جماعة كثيرون فصاروا إلى الموفق، ثُمَّ رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ فِي يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَنَادَى فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ بِالْأَمَانِ إِلَّا صَاحِبَ الزَّنْجِ فَتَحَوَّلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ من جيش صاحب الزنج إلى الموفق، وابتنى الموفق مدينة تجاه مدينة صاحب الزنج سَمَّاهَا الْمُوَفَّقِيَّةَ، وَأَمَرَ بِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَالتِّجَارَاتِ إِلَيْهَا، فَاجْتَمَعَ بِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْيَاءِ وَصُنُوفِهَا مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي بَلَدٍ قَبْلَهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهَا وَامْتَلَأَتْ مِنَ الْمَعَايِشِ وَالْأَرْزَاقِ وَصُنُوفِ التِّجَارَاتِ وَالسُّكَّانِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا بَنَاهَا لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى قِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عظيمة، وما زالت الحرب ناشبة حتى انسلخت هذه السنة وهم محاصرون للخبيث صاحب الزنج، وَقَدْ تَحَوَّلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَصَارُوا عَلَى صاحب الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عدد من تحول قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْخَوَاصِّ والأجناد، والموفق وأصحابه في زيادة وقوة ونصر وظفر. وفيها حج بالناس هارون بن محمد الهاشمي وفيها توفى من الأعيان إسماعيل بن سيبويه. وإسحاق بن إبراهيم بن شاذان. ويحيى بْنُ نَصْرٍ الْخَوْلَانِيُّ. وَعَبَّاسٌ التَّرَقُفِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ أَبُو بَكْرٍ المقري صَاحِبُ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ(11/41)
الْبَزَّارِ بِبَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُزَيْزٍ الْأَيْلِيُّ. وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي حنكان. ويونس ابن حَبِيبٍ رَاوِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا اسْتَأْمَنَ جَعْفَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بالسجان- وكان من أكابر صَاحِبِ الزَّنْجِ وَثِقَاتِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ- الْمُوَفَّقَ فَأَمَّنَهُ وَفَرِحَ بِهِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَرَكِبَ فِي سُمْرَتِهِ فَوَقَفَ تُجَاهَ قَصْرِ الْمَلِكِ فَنَادَى فِي النَّاسِ وَأَعْلَمَهُمْ بِكَذِبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَفُجُورِهِ، وَأَنَّهُ فِي غُرُورٍ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، فَاسْتَأْمَنَ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَبَرَدَ قِتَالُ الزَّنْجِ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى رَبِيعٍ الْآخَرِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمُوَفَّقُ أَصْحَابَهُ بِمُحَاصَرَةِ السُّورِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا دخلوه أَنْ لَا يَدْخُلُوا الْبَلَدَ حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، فَنَقَبُوا السُّورَ حَتَّى انْثَلَمَ ثُمَّ عَجَّلُوا الدُّخُولَ فَدَخَلُوا فَقَاتَلَهُمُ الزَّنْجُ فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَتَقَدَّمُوا إِلَى وَسَطِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَتْهُمُ الزَّنْجُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَخَرَجَتْ عليهم الكمائن من أماكن لا يهتدون لها، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا وَاسْتَلَبُوهُمْ وَفَرَّ الباقون فلامهم الموفق على مخالفته وعلى الْعَجَلَةِ، وَأَجْرَى الْأَرْزَاقَ عَلَى ذُرِّيَّةِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَحَسُنَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ جِدًّا، وَظَفِرَ أبو العباس بن الموفق بجماعة من الأعراب كَانُوا يَجْلِبُونَ الطَّعَامَ إِلَى الزَّنْجِ فَقَتَلَهُمْ، وَظَفِرَ بهبوذ بن عبد الله بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْفَتْحِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمِ الرَّزَايَا عِنْدَ الزنج. وَبَعْثَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ مَنًّا مِنْ مِسْكٍ، وَخَمْسِينَ مَنًّا مِنْ عَنْبَرٍ، وَمِائَتَيْ مَنٍّ من عود، وفضة بقيمة أَلْفٍ وَثِيَابًا مِنْ وَشْيٍ وَغِلْمَانًا كَثِيرَةً جِدًّا. وَفِيهَا خَرَجَ مَلِكُ الرُّومِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّقْلَبِيَّةِ فَحَاصَرَ أَهْلَ مَلَطْيَةَ فَأَعَانَهُمْ أَهْلُ مَرْعَشَ فَفَرَّ الْخَبِيثُ خَاسِئًا. وَغَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الثُّغُورِ عامل بن طُولُونَ فَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وحج بالناس فيها هارون الْمُتَقَدِّمُ: وَفِيهَا قُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الخجستانى.
وفيها توفي من الأعيان أحمد بن سيار. وَأَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ. وَأَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الضَّبِّيُّ. وعيسى ابن أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ. وَقَدْ صَحِبَ الشافعيّ وروى عنه
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين
فيها اجتهد الموفق باللَّه في تخريب مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَخَرَّبَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَتَمَكَّنَ الْجُيُوشُ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْبَلَدِ، وَلَكِنْ جَاءَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْحَالَةِ سَهْمٌ فِي صَدْرِهِ مِنْ يَدِ رَجُلٍ رُومِيٍّ يُقَالُ لَهُ قِرْطَاسٌ فَكَادَ يَقْتُلُهُ، فَاضْطَرَبَ الْحَالُ لِذَلِكَ وَهُوَ يتجلد ويحض على القتال مع ذلك، ثم أقام ببلده الموفقية أياما يتداوى فاضطربت الأحوال وخوف الناس مِنْ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَأَشَارُوا عَلَى الْمُوَفَّقِ بِالْمَسِيرِ إلى بغداد فلم يقبل فقويت عِلَّتُهُ ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَافِيَةِ فِي شَعْبَانَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، فَنَهَضَ مُسْرِعًا إِلَى الْحِصَارِ فَوَجَدَ الْخَبِيثَ قَدْ رَمَّمَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ الْمُوَفَّقُ قَدْ خَرَّبَهُ وَهَدَمَهُ(11/42)
فَأَمَرَ بِتَخْرِيبِهِ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ، ثم لازم الحصار فما زال حَتَّى فَتَحَ الْمَدِينَةَ الْغَرْبِيَّةَ وَخَرَّبَ قُصُورَ صَاحِبِ الزنج ودور أمرائه، وأخذ من أموالهم شيئا كثيرا مما لا يجد ولا يوصف كثرة، وأسر مِنْ نِسَاءِ الزَّنْجِ وَاسْتَنْقَذَ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وصبيانهم خلقا كثيرا، فأمر بردهم إلى أهاليهم مُكَرَّمِينَ وَقَدْ تَحَوَّلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ إِلَى الْجَانِبِ الشرقي وعمل الجسر والقناطر الحائلة بينه وبين وصول السمريات إِلَيْهِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِتَخْرِيبِهَا وَقَطْعِ الْجُسُورِ، وَاسْتَمَرَّ الحصار باقي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا بَرِحَ حَتَّى تَسَلَّمَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ أَيْضًا وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَفَرَّ الخبيث هاربا غير آئب، وخرج منها هَارِبًا وَتَرَكَ حَلَائِلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَحَوَاصِلَهُ، فَأَخَذَهَا الْمُوَفَّقُ وشرح ذلك يَطُولُ جِدًّا. وَقَدْ حَرَّرَهُ مَبْسُوطًا ابْنُ جَرِيرٍ ولخصه ابن الأثير واختصره ابن كثير والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
وَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى أُمُورِ الْخِلَافَةِ وَصَارَ هُوَ الْحَاكِمَ الْآمِرَ النَّاهِيَ، وإليه تجلب التقادم وتحمل الأموال والخراج، وهُوَ الَّذِي يُوَلِّي وَيَعْزِلُ، كَتَبَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ يَشْكُو إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابن طولون أن يتحول إلى عنده إلى مِصْرَ وَوَعَدَهُ النَّصْرَ وَالْقِيَامَ مَعَهُ، فَاسْتَغْنَمَ غَيْبَةَ أَخِيهِ الْمُوَفَّقِ وَرَكِبَ فِي جُمَادَى الْأُولَى وَمَعَهُ جماعة من القواد وقد أرصد له ابن طُولُونَ جَيْشًا بِالرَّقَّةِ يَتَلَقَّوْنَهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ الْخَلِيفَةُ بِإِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجٍ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَعَامَّةِ الْجَزِيرَةِ اعْتَقَلَهُ عِنْدَهُ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى ابْنِ طُولُونَ، وفند أَعْيَانَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَعَاتَبَ الْخَلِيفَةَ وَلَامَهُ على هذا الصنع أَشَدَّ اللَّوْمِ، ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْعَوْدَ إِلَى سَامَرَّا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَرَجَعُوا إِلَيْهَا فِي غَايَةِ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ. وَلَمَّا بَلَغَ الْمُوَفَّقَ ذَلِكَ شَكَرَ سَعْيَ إِسْحَاقَ وَوَلَّاهُ جَمِيعَ أَعْمَالِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ أَنْ يَلْعَنَ ابْنَ طُولُونَ فِي راد الْعَامَّةِ، فَلَمْ يُمْكِنِ الْمُعْتَمِدَ إِلَّا إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَارِهٌ، وَكَانَ ابْنُ طُولُونَ قَدْ قَطَعَ ذِكْرَ الْمُوَفَّقِ فِي الْخُطَبِ وَأَسْقَطَ اسْمَهُ عَنِ الطِّرَازَاتِ.
وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ وَأَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ مِائَتَانِ وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، واسْتَلَبَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ شَيْئًا كَثِيرًا. وفيها قطع الأعراب على الحجيج الطريق وأخذ منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها وفيها توفى إبراهيم بن منقذ الكناني. وأحمد بن خلاد مَوْلَى الْمُعْتَصِمِ- وَكَانَ مِنْ دُعَاةِ الْمُعْتَزِلَةِ أَخَذَ الكلام عن جعفر بن معشر الْمُعْتَزِلِيِّ- وَسُلَيْمَانُ بْنِ حَفْصٍ الْمُعْتَزِلِيُّ صَاحِبُ بِشْرٍ المريسي، وأبى الهذيل العلاف. وعيسى بن الشيخ بن السَّلِيلِ الشَّيْبَانِيُّ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ وَدِيَارِ بَكْرٍ. وَأَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرًّهَاوِيُّ أَحَدُ الضُّعَفَاءِ.
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين من الهجرة
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ صَاحِبِ الزَّنْجِ قَبَّحَهُ اللَّهُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمُوَفَّقَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ(11/43)
وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ وَاحْتَازَ مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَى مَنْ وَجَدَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وهرب صاحب الزنج عن حومة الحرب والجلاد، وَسَارَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ طَرِيدًا شَرِيدًا بِشَرِّ حال، عاد الموفق إِلَى مَدِينَتِهِ الْمُوَفَّقِيَّةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَقَدِمَ عَلَيْهِ لُؤْلُؤَةُ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مُنَابِذًا لِسَيِّدِهِ سميعا مطيعا للموفق، وكان وُرُودُهُ عَلَيْهِ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَعْطَاهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَبَعَثَهُ طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ لِقِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَرَكِبَ الْمُوَفَّقُ فِي الْجُيُوشِ الْكَثِيفَةِ الْهَائِلَةِ وَرَاءَهُ فَقَصَدُوا الْخَبِيثَ وَقَدْ تَحَصَّنَ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى، فلم يزل به محاصرا له حتى أخرجه منها ذليلا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ والمغانم، ثم بعث السرايا والجيوش وراء حاجب الزنج فَأَسَرُوا عَامَّةَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وجماعته، مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ فَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِأَسْرِهِ وكبروا الله وحمدوه فَرَحًا بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ، وَحَمَلَ الْمُوَفَّقُ بِمَنِّ مَعَهُ حَمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى أَصْحَابِ الْخَبِيثِ فَاسْتَحَرَّ فِيهِمُ القتل، وما انجبلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صَاحِبِ الزَّنْجِ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَأَتَى بِرَأْسِهِ مَعَ غلام لؤلؤة الطولونى، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمُوَفَّقُ أَنَّهُ رَأَسُهُ بَعْدَ شَهَادَةِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ خرّ ساجدا للَّه، ثُمَّ انْكَفَأَ رَاجِعًا إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ وَرَأْسُ الْخَبِيثِ يحمل بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ، فَدَخَلَ الْبَلَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بذلك في المغارب والمشارق، ثم جيء بانكلانى وَلَدِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَأَبَانِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُهَلَّبِيِّ مُسَعَّرِ حَرْبِهِمْ مَأْسُورَيْنِ وَمَعَهُمَا قَرِيبٌ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، فَتَمَّ السُّرُورُ وَهَرَبَ قِرْطَاسٌ الَّذِي رمى الموفق بصدره بِذَلِكَ السَّهْمِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَأُخِذَ وَبُعِثَ بِهِ إلى الموفق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفق. واستتاب من بقي من أصحاب صاحب الزنج وأمنهم الْمُوَفَّقُ وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَأَنْ يَرْجِعَ كُلُّ مَنْ كَانَ أُخْرِجَ مِنْ دِيَارِهِ بِسَبَبِ الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس فَدَخَلَهَا لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَانْتَهَتْ أَيَّامُ صَاحِبِ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي الْكَذَّابِ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانَ ظُهُورُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يَوْمَ السَّبْتِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي انْقِضَاءِ دَوْلَةِ الزَّنْجِ وَمَا كَانَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَسْلَمِيِّ:
أَقُولُ وَقَدْ جَاءَ الْبَشِيرُ بِوَقْعِةٍ ... أَعَزَّتْ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ وَاهِيًا
جَزَى اللَّهُ خَيْرَ النَّاسِ للناس بعد ما ... أُبِيحَ حِمَاهُمْ خَيْرَ مَا كَانَ جَازِيَا
تَفَرَّدَ إِذْ لَمْ يَنْصُرِ اللَّهُ نَاصِرٌ ... بِتَجْدِيدِ دِينٍ كان أصبح باليا(11/44)
وتشديد مُلْكٍ قَدْ وَهَى بَعْدَ عِزِّهِ ... وَأَخْذٍ بِثَارَاتٍ تُبِيرُ الْأَعَادِيَا
وَرَدِّ عِمَارَاتٍ أُزِيلَتْ وَأُخْرِبَتْ ... لِيَرْجِعَ فَيْءٌ قَدْ تَخَرَّمَ وَافِيَا
وَتَرْجِعَ أَمْصَارٌ أُبِيحَتْ وأحرقت ... مرارا وقد أَمْسَتْ قَوَاءً عَوَافِيَا
وَيَشْفِي صُدُورَ الْمُسْلِمِينَ بِوَقْعَةٍ ... تقر بِهَا مِنَّا الْعُيُونَ الْبَوَاكِيَا
وَيُتْلَى كِتَابُ اللَّهِ في كل مسجد ... ويلفى دُعَاءُ الطَّالِبِيِّينَ خَاسِيَا
فَأَعْرَضَ عَنْ أَحْبَابِهِ وَنَعِيمِهِ ... وعن لذة الدنيا وأصبح غازيا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَتِ الرُّومُ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ طَرَسُوسَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَبَيَّتُوهُمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى الصَّبَاحِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا وللَّه الحمد. وَقُتِلَ الْمُقَدَّمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ وَهُوَ بِطْرِيقُ الْبَطَارِقَةِ، وَجُرِحَ أَكْثَرُ الْبَاقِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً عَظِيمَةً، مِنْ ذَلِكَ سَبْعُ صُلْبَانٍ مَنْ ذَهَبٍ وفضة، وصليبهم الأعظم وهو من ذهب صامت مكلل بالجواهر، وأربع كراسي من ذهب ومائتي كُرْسِيٍّ مِنْ فِضَّةٍ، وَآنِيَةٌ كَثِيرَةٌ، وَعَشَرَةُ آلَافِ علم من ديباج، وغنموا حريرا كثيرا وأموالا جزيلة، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دَابَّةٍ وَسُرُوجًا وَسِلَاحًا وَسُيُوفًا محلاة وغير ذلك وللَّه الحمد.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ
أَبُو الْعَبَّاسِ أَمِيرُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَبَانِي الْجَامِعِ بِهَا الْمَنْسُوبُ إلى طولون، وإنما بناه أحمد ابنه، وَقَدْ مَلَكَ دِمَشْقَ وَالْعَوَاصِمَ وَالثُّغُورَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ طُولُونَ مِنَ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ أهداهم نوح بن أسد السَّامَانِيُّ عَامِلُ بُخَارَى إِلَى الْمَأْمُونِ فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ، وَيُقَالُ إِلَى الرَّشِيدِ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وُلِدَ أَحْمَدُ هَذَا فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عشرة ومائتين، ومات طولون أبوه فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ أباه وَإِنَّمَا تَبَنَّاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ مِنْ جَارِيَةٍ تُرْكِيَّةٍ اسْمُهَا هَاشِمُ. وَنَشَأَ أحمد هذا في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم، مع حسن الصوت به، وَكَانَ يَعِيبُ عَلَى أَوْلَادِ التُّرْكِ مَا يَرْتَكِبُونَهُ من المحرمات والمنكرات، وكانت أمه جارية اسمها هاشم. وحكى ابن عساكر عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ مِصْرَ أَنَّ طُولُونَ لَمْ يكن أباه وإنما كان قد تبناه لديانته وحسن صوته بالقرآن وظهور نجابته وصيانته من صغره، وأن طولون اتفق له معه أن بعثه مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الامارة فذهب فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فَاحِشَةٍ، فَأَخَذَ حَاجَتَهُ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا وَكَرَّ راجعا إليه سريعا، ولم يذكر له شيئا مما رأى من الحظية والخادم، وفتوهمت الْحَظِيَّةُ أَنْ يَكُونَ أَحْمَدُ قَدْ أَخْبَرَ طُولُونَ بِمَا رَأَى، فَجَاءَتْ إِلَى طُولُونَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَحْمَدَ جَاءَنِي الْآنَ إِلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ وَرَاوَدَنِي عَنْ نَفْسِي وَانْصَرَفَتْ إِلَى قَصْرِهَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا فَاسْتَدْعَى أَحْمَدَ(11/45)
وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا وَخَتَمَهُ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية، وكان في الكتاب أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعا إلى. فذهب بالكتاب من عند طولون وهو لا يدرى ما فيه، فاجتاز بطريقة بتلك الْحَظِيَّةِ فَاسْتَدْعَتْهُ إِلَيْهَا فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ بِهَذَا الكتاب لأوصله إلى بعض الأمراء. قالت: هلم فلي إليك حاجة- وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له عنه فحبسته عندها ليكتب لها كتابا، ثم استوهبت من أحمد الكتاب الّذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الأمير، فدفعه إليها فأرسلت به ذلك الخادم الّذي وجده معها على الفاحشة وظنت أن به جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور فذهب بالكتاب إلى ذلك الأمير، فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَلِكِ طُولُونَ. فَتَعَجَّبَ الْمَلِكُ من ذلك وَقَالَ:
أَيْنَ أَحْمَدُ؟ فَطُلَبَ لَهُ فَقَالَ: وَيْحَكَ أخبرنى كيف صنعت منذ خرجت من عندي؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ. وَلَمَّا سَمِعَتْ تِلْكَ الْحَظِيَّةُ بِأَنَّ رَأْسَ الْخَادِمِ قَدْ أُتِيَ به إلى طولون أسقط فِي يَدَيْهَا وَتَوَهَّمَتْ أَنَّ الْمَلِكَ قَدْ تَحَقَّقَ الْحَالَ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ تَعْتَذِرُ وَتَسْتَغْفِرُ مِمَّا وَقَعَ منها مع الخادم، واعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه، فحظي عند الملك طولون وَأَوْصَى لَهُ بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ.
ثُمَّ وَلِيَ نِيَابَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْمُعْتَزِّ فَدَخَلَهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ ومائتين، فأحسن إلى أهلها وأنفق فيهم من بيت المال ومن الصدقات، واستغفل الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ أَرْبَعَةَ آلَافِ ألف دينار، وبنى بها الجامع، غرم عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وفرغ منه في سنة سبع وخمسين، وقيل في سنة ست وستين ومائتين، وَكَانَتْ لَهُ مَائِدَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْضُرُهَا الخاص والعام، وكان يتصدق من خالص ماله في كل شهر بألف دينار. وقد قال لَهُ وَكِيلُهُ يَوْمًا: إِنَّهُ تَأْتِينِي الْمَرْأَةُ وَعَلَيْهَا الازار والبذلة ولها الهيئة الحسنة تسألنى فأعطيها؟
فَقَالَ: مَنْ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْكَ فَأَعْطِهِ، وَكَانَ من أحفظ الناس للقرآن، ومن أطيبهم به صوتا. وقد حكى ابن خلكان عنه إِنَّهُ قَتَلَ صَبْرًا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ألف نفس، فاللَّه أعلم. وبنى المارستان غرم عَلَيْهِ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى الْمَيْدَانِ مِائَةً وخمسين ألفا، وكانت لَهُ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَإِحْسَانٌ زَائِدٌ ثُمَّ ملك دمشق بعد أميرها ماخور في سنة أربع وستين ومائتين، فأحسن إلى أهلها أيضا إحسانا بالغا، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ بِهَا حَرِيقٌ عِنْدَ كَنِيسَةِ مَرْيَمَ فَنَهَضَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِ وَمَعَهُ أَبُو زُرْعَةَ عبد الرحمن بن عمر والحافظ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَاتِبُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ محمد الواسطي، فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ تُصْرَفُ إِلَى أَهْلِ الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي أُحْرِقَتْ. فَصَرَفَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ قِيمَةِ ما ذكره وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُوَزَّعَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَالٍ عَظِيمٍ يُفَرَّقُ عَلَى فُقَرَاءِ دِمَشْقَ وَغُوطَتِهَا، فَأَقَلُّ مَا حَصَلَ لِلْفَقِيرِ دِينَارٌ. رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ(11/46)
فحاصر بها صاحبها سيما حتى قتله وأخذ البلد كما ذكرنا.
توفى بِمِصْرَ فِي أَوَائِلِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ عِلَّةٍ أَصَابَتْهُ مِنْ أَكْلِ لَبَنِ الجواميس كان يحبه فأصابه بسببه درب فكاواه الأطباء وأمروه أن يحتمي منه فلم يقبل منهم، فكان يأكل منه خفية فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، مِنْ ذَلِكَ عشرة آلاف ألف دينار، ومن الفضة شيئا كثيرا، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَلَدًا، مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ خمارويه كما سيأتي مَا كَانَ مَنْ أَمْرِهِ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الغلمان سَبْعَةُ آلَافِ مَوْلًى، وَمِنَ الْبِغَالِ وَالْخَيْلِ وَالْجِمَالِ نحو سبعين ألف دابة، وقيل أكثر من ذلك. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَإِنَّمَا تَغَلَّبَ عَلَى الْبِلَادِ لاشتغال الموفق بن المتوكل بِحَرْبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَقَدْ كَانَ الْمُوَفَّقُ نَائِبَ أخيه المعتمد.
وفيها توفى أحمد بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ سَهْلٍ الْكَاتِبُ صَاحِبُ كِتَابِ الْخَرَاجِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَرْقِيِّ. وَأُسِيدُ بْنُ عَاصِمٍ الْجَمَّالُ. وَبَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْمِصْرِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ العلويّ
صاحب طبرستان في رجب منها، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وستة أيام، وقام من بعده بالأمر أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زيد هذا كريما جوادا يعرف الفقه والعربية، قال له مرة شاعر من الشعراء فِي جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ مَدَحَهُ بِهَا:
اللَّهُ فَرْدٌ وابن زيد فرد.
فقال له: اسكت سد الله فاك، ألا قُلْتَ:
اللَّهُ فَرْدٌ وَابْنُ زَيْدٍ عَبْدُ.
ثُمَّ نزل عن سريره وخر للَّه ساجدا وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ وَلَمْ يُعْطِ ذَلِكَ الشَّاعِرَ شيئا. وامتدحه بعضهم فقال في أول قصيدة:
لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان
فقال له الحسن: لو ابتدأت بالمصراع الثاني كان أَحْسَنَ، وَأَبْعَدَ لَكَ أَنْ تَبْتَدِئَ شِعْرَكَ بِحَرْفِ «لَا» . فَقَالَ لَهُ الشَّاعِرُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَجْلَّ مَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ الْعَامِرِيُّ.
وَدَاودُ بْنُ عَلِيٍّ
الْأَصْبَهَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ إِمَامُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، رَوَى عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ وَمُسَدَّدِ بن سرهد، وغير واحد روى عَنْهُ ابْنُهُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ، وَزَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ. قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ فقيها زاهدا وفي كتبه حديث كثير دال على غزارة علمه، كانت وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ مائتين. وذكر أبو إسحاق السيرامى فِي طَبَقَاتِهِ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَصْبَهَانَ وَوُلِدَ بِالْكُوفَةِ، وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ(11/47)
وَأَنَّهُ انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْعِلْمِ بِهَا، وَكَانَ يحضر مجلسه أربعمائة طَيْلَسَانٍ أَخْضَرَ، وَكَانَ مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلشَّافِعِيِّ، وَصَنَّفَ مناقبه. وقال غيره: كان حسن الصلاة كثير الخشوع فيها والتواضع. قَالَ الْأَزْدِيُّ تُرِكَ حَدِيثُهُ وَلَمْ يُتَابَعِ الْأَزْدِيُّ على ذلك. ولكن رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ بِسَبَبِ كَلَامِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ لَفْظَهُ بِهِ مخلوق كما نسب ذلك إلى الامام البخاري رحمهما الله. قلت: وقد كان من الفقهاء للشهورين ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصَّحِيحَ فَضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعُهُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ، فَلَزِمَهُ الْقَوْلُ بِأَشْيَاءَ قَطْعِيَّةٍ صَارَ إِلَيْهَا بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِ الظَّاهِرَ الْمُجَرَّدَ مِنْ غَيْرِ تَفَهُّمٍ لِمَعْنَى النَّصِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقِيَاسِيُّونَ بعده في الاعتداد بخلافه هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ مَعَ خِلَافِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى أَقْوَالٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا.
وفيها توفى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالْقَاضِي بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْحَاكِمُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وأربعين ومائتين إلى أن توفى مسجونا بحبس أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَخْلَعِ الْمُوَفَّقَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ، وَكَانَ عَالِمًا عَابِدًا زَاهِدًا كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ شَغَرَ مَنْصِبُ القضاء بعده بمصر ثلاث سنين.
وابن قتيبة الدينَوَريّ
وهو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدينَوَريّ قَاضِيهَا، النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْبَدِيعَةِ الْمُفِيدَةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى عُلُومٍ جَمَّةٍ نَافِعَةٍ، اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ وَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَطَبَقَتِهِ، وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وذويه، وصنف وجمع وألف المؤلفات الكثيرة: منها كِتَابُ الْمَعَارِفِ، وَأَدَبُ الْكَاتِبِ الَّذِي شَرَحَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّيِّدِ الْبَطْلَيُوسِيُّ، وَكِتَابُ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَغَرِيبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَعُيُونُ الْأَخْبَارِ، وَإِصْلَاحُ الغلط، وكتاب الخليل، وكتاب الأنوار، وكتاب المسلسل والجوابات، وكتاب الميسر والقداح، وغير ذلك. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي التي بَعْدَهَا. وَمَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَمْ يُجَاوِزِ السِّتِّينَ.
وَرَوَى عَنْهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ جميع مصنفاته. وقد ولى قَضَاءَ مِصْرَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَتُوُفِّيَ بها بعد سنة رحمهما الله.
ومحمد بن إسحاق بن جعفر الصفار. ومحمد بن أسلم بْنِ وَارَةَ. وَمُصَعَبُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو أَحْمَدَ الصوفي كان مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَلِكُ الرُّومِ ابْنُ الصَّقْلَبِيَّةِ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا ابْتَدَأَ إِسْمَاعِيلُ بن موسى ببناء مدينة لارد من بلاد الأندلس.
ثم دخلت سنة مائتين وإحدى وسبعين
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ عَنْ وِلَايَةِ خُرَاسَانَ وَأَمَرَ بِلَعْنِهِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَفَوَّضَ أمر(11/48)
خُرَاسَانَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، وَبَعَثَ جَيْشًا إلى عمر وبن الليث فهزمه عَمْرٌو. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ المعتضد بن الْمُوَفَّقِ أَبِي أَحْمَدَ وَبَيْنَ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ خُمَارَوَيْهِ لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ بِلَادَ مِصْرَ وَالشَّامِ جَاءَهُ جَيْشٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ عَلَيْهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ وَابْنُ أَبِي السَّاجِ فَقَاتَلُوهُ بِأَرْضِ ويترز فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ الشَّامِ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَنْجَدُوا بِأَبِي العباس بن الموفق، فقدم عليهم فكسر خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ وَتَسَلَّمَ دِمَشْقَ وَاحْتَازَهَا ثُمَّ سار خلف خمارويه إلى بلاد الرملة فأدركه عند ماء عليه طواحين فاقتتلوا هنالك، وكانت تسمى وقعة الطواحين، فكانت النصرة أَوَّلًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ عَلَى خُمَارَوَيْهِ فَهَزَمَهُ حَتَّى هَرَبَ خُمَارَوَيْهِ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى دَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَأَقْبَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى نَهْبِ مُعَسْكَرِهِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ كَمِينٌ لِجَيْشِ خُمَارَوَيْهِ وَهُمْ مشغولون بالنهب فوضعت المصريون فيهم السيوف فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وَانْهَزَمَ الْجَيْشُ وَهَرَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدُ فَلَمْ يرجع حتى وصل دمشق، فلم يفتح له أهلها الباب فَانْصَرَفَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى طَرَسُوسَ وَبَقِيَ الْجَيْشَانِ المصري والعراقي يقتتلان وليس لواحد مِنْهُمَا أَمِيرٌ. ثُمَّ كَانَ الظَّفَرُ لِلْمِصْرِيِّينَ لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا أَبَا الْعَشَائِرِ أَخَا خُمَارَوَيْهِ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، فَغَلَبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّتْ أَيْدِيهِمْ عَلَى دِمَشْقَ وسائر الشام، وهذه الوقعة مِنْ أَعْجَبِ الْوَقَعَاتِ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بِأَرْضِ الْأَنْدَلُسِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ. وَفِيهَا دَخَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ ابْنَا الْحُسَيْنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب، فقتلا خلقا مِنْ أَهْلِهَا وَأَخَذَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَتَعَطَّلَتِ الصَّلَوَاتُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَرْبَعَ جُمَعٍ لَمْ يَحْضُرِ الناس فيه جمعة ولا جماعة، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَجَرَتْ بِمَكَّةَ فِتْنَةٌ أُخْرَى وَاقْتَتَلَ النَّاسُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أيضا. وحج بالناس هارون بن موسى المتقدم.
وفيها توفى
عباس بن محمد الدينَوَريّ تِلْمِيذُ ابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْبَصْرِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الطَّهْرَانِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ سنان العوفيّ ويوسف ابن مُسْلِمٍ.
وَبُورَانُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ
زَوْجَةُ الْمَأْمُونِ. وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهَا خَدِيجَةُ وَبُورَانُ لَقَبٌ لَهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. عَقَدَ عَلَيْهَا الْمَأْمُونُ بِفَمِ الصلح سنة ست ومائتين، ولها عشر سنين، ونثر عليها أبوها يومئذ وعلى الناس بَنَادِقَ الْمِسْكِ مَكْتُوبٌ فِي وَرَقَةٍ وَسَطَ كُلِّ بندقة اسم قرية أو ملك جارية أو غلام أو فرس، فمن وصل إليه من ذلك شيء ملكه، ونثر ذلك على عامة الناس، ونثر الدنانير ونوافج المسك وبيض العنبر. وأنفق على المأمون وعسكره مدة إقامته تلك الأيام الخمس أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا تَرَحَّلَ الْمَأْمُونُ عَنْهُ أَطْلَقَ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقْطَعَهُ فَمَ الصِّلْحِ. وَبَنَى بِهَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ. فلما جلس المأمون فرشوا له حصرا من(11/49)
ذَهَبٍ وَنَثَرُوا عَلَى قَدَمَيْهِ أَلْفَ حَبَّةِ جَوْهَرٍ، وَهُنَاكَ تَوْرٌ مَنْ ذَهَبٍ فِيهِ شَمْعَةٌ مِنْ عَنْبَرٍ زِنَةُ أَرْبَعِينَ مَنًّا مِنْ عَنْبَرٍ، فَقَالَ: هَذَا سَرَفٌ، وَنَظَرَ إِلَى ذَلِكَ الْحَبِّ عَلَى الحصر يضيء فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ أَبَا نُوَاسٍ حَيْثُ يَقُولُ فِي صِفَةِ الْخَمْرِ:
كَأَنَّ صُغْرَى وَكُبْرَى مِنْ فقاقعها ... حَصْبَاءُ دُرٍّ عَلَى أَرْضٍ مِنَ الذَّهَبِ
ثُمَّ أمر بالدر فجمع فجعل في حجر العروس وَقَالَ: هَذَا نِحْلَةٌ مِنِّي لَكَ، وَسَلِي حَاجَتَكِ. فَقَالَتْ لَهَا جَدَّتُهَا: سَلِي سَيِّدَكِ فَقَدِ اسْتَنْطَقَكِ. فَقَالَتْ: أَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرْضَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فَرَضِيَ عَنْهُ. ثُمَّ أَرَادَ الِاجْتِمَاعَ بِهَا فَإِذَا هِيَ حَائِضٌ، وَكَانَ ذَلِكَ في شهر رمضان، وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة ولها ثمانون سنة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا سَارَ نَائِبُ قَزْوِينَ وَهُوَ ارلزنكيس فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ طَبَرِسْتَانَ بَعْدَ أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ بِالرِّيِّ، فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ مِنَ الدَّيْلَمِ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَهَزَمَهُ ارلزنكيس وَغَنِمَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ ستة آلاف، ودخل الري فأخذها وصادر أهلها في مائة أَلْفِ دِينَارٍ، وَفَرَّقَ عُمَّالَهُ فِي نُوَاحِي الرَّىِّ. وفيها وقع بين أبى العباس ابن الموفق وبين صاحب ثغر طرسوس وهو يا زمان الْخَادِمُ فَثَارَ أَهْلُ طَرَسُوسَ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ فَأَخْرَجُوهُ عَنْهُمْ فَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ. وَفِيهَا دَخَلَ حَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ وَهَارُونُ الشَّارِي مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ وَصَلَّى بِهِمُ الشَّارِي فِي جَامِعِهَا الْأَعْظَمِ. وَفِيهَا عاثت بنو شيبان في أرض الموصل فَسَادًا. وَفِيهَا تَحَرَّكَتْ بَقِيَّةُ الزَّنْجِ فِي أَرْضِ البصرة ونادوا: يا انكلاى يا منصور. وانكلاى هو ابن صاحب الزنج، وسليمان ابن جَامِعٍ وَأَبَانُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُهَلَّبِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ وجوههم كانوا في جيش الْمُوَفَّقِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَقُتِلُوا وَحُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَيْهِ، وصلبت أبدانهم ببغداد، وسكنت شرورهم. وَفِيهَا صَلُحَ أَمْرُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إليها. وفيها جرت حروب كثيرة ببلاد الأندلس وأخذت الروم من المسلمين بالأندلس بلدين عظيمين ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا قَدِمَ صَاعِدُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْكَاتِبُ مِنْ فَارِسَ إِلَى وَاسِطَ فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ الْقُوَّادَ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ فَدَخَلَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلَكِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تِيهٌ وَعُجْبٌ شَدِيدٌ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ عَمَّا قَرِيبٍ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وعلى أهله وأمواله، وَاسْتَكْتَبَ مَكَانَهُ أَبَا الصَّقْرِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ بُلْبُلٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق المتقدم منذ دهر
وفيها توفى من الأعيان
إبراهيم بن الوليد بن الحسحاس. وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُطَارِدٍ الْعُطَارِدِيُّ التَّمِيمِيُّ رَاوِي السِّيرَةِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَبُو عُتْبَةَ الْحِجَازِيُّ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ الوزير في حبس الموفق. وشعبة بن بكار(11/50)
يَرْوِي عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ صالح بن عبد الرحمن الأنماطي، ويلقب بمكحلة، وَهُوَ مِنْ تَلَامِيذِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ الْمُنَادِي. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ
وَأَبُو مَعْشَرٍ الْمُنَجِّمُ
وَاسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ أُسْتَاذُ عَصْرِهِ فِي صِنَاعَةِ التَّنْجِيمِ، وَلَهُ فِيهِ التَّصَانِيفُ المشهورة، كالمدخل والزيج والألوف وغيرها. وتكلم على ما يتعلق بالتيسير والأحكام قال ابن خلكان: وله إصابات عجيبة، منها أن بعض الملوك تطلب رجلا وأراد قتله فَذَهَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَاخْتَفَى وَخَافَ مِنْ أَبِي معشر أن يدل عليه بصنعة التنجيم، فعمد إلى طست فملأه دما وَوَضَعَ أَسْفَلَهُ هَاوَنًا وَجَلَسَ عَلَى ذَلِكَ الْهَاوَنِ، فاستدعى الملك أبا معشر وأمره أن يظهر هذا الرجل، فضرب رمله وحرره ثم قال:
هذا عجيب جدا، هذا الرجل جالس عَلَى جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ فِي وَسَطِ بَحْرٍ من دم، وليس هَذَا فِي الدُّنْيَا.
ثُمَّ أَعَادَ الضَّرْبَ فَوَجَدَهُ كذلك، فتعجب الملك من ذلك ونادى في البلد في أمان ذلك الرجل الْمَذْكُورِ فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ سَأَلَهُ أَيْنَ اخْتَفَى؟ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذلك. والظاهر أن الّذي نسب إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ مِنْ عِلْمِ الرجز، والطرف واختلاج الأعضاء إنما هو منسوب إلى جعفر ابن أبى معشر هذا، وليس بالصادق وإنما يغلطون والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين
فيها وَقَعَ بَيْنَ إِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ نَائِبِ قِنَّسْرِينَ وغيرها بعد ما كَانَا مُتَّفِقَيْنِ، وَكَاتَبَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ خُمَارَوَيْهِ صَاحِبَ مِصْرَ، وَخَطَبَ لَهُ بِبِلَادِهِ وَقَدِمَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الشَّامِ فَاجْتَمَعَ بِهِ ابْنُ أَبِي السَّاجِ ثُمَّ سَارَ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ فَتَوَاقَعَا فانهزم كنداج وهرب إلى قلعة ماردين، فجاء فَحَاصَرَهُ بِهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي الساج واستحوذ على الموصل والجزيرة وغيرها، وَخَطَبَ بِهَا لِخُمَارَوَيْهِ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا. وَفِيهَا قَبَضَ الْمُوَفَّقُ عَلَى لُؤْلُؤٍ غُلَامِ ابْنِ طُولُونَ وَصَادَرَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَجَنَهُ فَكَانَ يَقُولُ لَيْسَ لِي ذَنْبٌ إِلَّا كَثْرَةُ مَالِي، ثُمَّ أُخْرِجَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ السِّجْنِ وَهُوَ فَقِيرٌ ذليل، فعاد إلى مصر فِي أَيَّامِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ، وَمَعَهُ غُلَامٌ واحد فدخلها على برذون. وهذا جزاء من كفر نعمة سيده. وَفِيهَا عَدَا أَوْلَادُ مَلِكِ الرُّومِ عَلَى أَبِيهِمْ فقتلوه وملكوا أحد أولاده،
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ
صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ رَبْعَةً أَوْقَصَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَكَانَ عَاقِلًا لبيبا يُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ الْمُشْتَبِهَةَ، وَخَلَّفَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ذَكَرًا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْمُنْذِرُ فَأَحْسَنَ إِلَى الناس(11/51)
وأحبوه.
وفيها كانت وفاة: خلف بن أحمد بن خالد
الَّذِي كَانَ أَمِيرَ خُرَاسَانَ فِي حَبْسِ الْمُعْتَمِدِ، وهذا الرجل هو الّذي أخرج البخاري محمد بن إسماعيل من بخارى وطرده عنها، فدعا عليه البخاري فَلَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْإِمْرَةِ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ حَتَّى احْتِيطَ عَلَيْهِ وعلى أمواله وَأُرْكِبَ حِمَارًا وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ ثُمَّ سجن من ذلك الحين فمكث فِي السِّجْنِ حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ تَعَرَّضَ لأهل الحديث والسنة.
وممن توفى فيها أيضا إسحاق من يسار. وحنبل بن إسحاق عم الامام أحمد بن حنبل، وهو أحد الرُّوَاةِ الْمَشْهُورِينَ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدِ اتُّهِمَ في بعض ما يرويه ويحكيه. وأبو أمية الطرسوسي. وأبو الفتح بن شخرف أحد مشايخ الصوفية، وذوى الأحوال والكرامات والكلمات النافعات. وقد وهم ابْنُ الْأَثِيرِ فِي قَوْلِهِ فِي كَامِلِهِ: إِنَّ أَبَا دَاوُدَ صَاحِبَ السُّنَنِ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السنة، وإنما توفى سنة خمس وسبعين كما سيأتي.
وفيها توفى. ابْنُ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ
صَاحِبُ السُّنَنِ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ ماجة صَاحِبُ كِتَابِ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى عمله وعلمه وتبحره واطلاعه واتباعه للسنة في الأصول والفروع، ويشتمل على اثنتين وثلاثين كتابا، وألف وخمسمائة باب، وعلى أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ أَنَّهُ انْتَقَدَ مِنْهَا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا. رُبَّمَا يُقَالُ إنها موضوعة أو منكرة جدا، ولابن ماجة تَفْسِيرٌ حَافِلٌ وَتَارِيخٌ كَامِلٌ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ إلى عصره، وقال أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلِيلِيُّ القزويني: أبو عبد الله بن محمد بن يزيد بن ماجة، ويعرف يزيد بماجه مولى ربيعة، كان عالما بهذا الشأن صاحب تصانيف، منها التَّارِيخِ وَالسُّنَنِ، ارْتَحَلَ إِلَى الْعِرَاقَيْنِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ، ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ مَشَايِخِهِ، وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. قَالَ: وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْكِبَارُ الْقُدَمَاءُ: ابْنُ سِيبَوَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الصَّفَّارُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ الْقَطَّانُ، وَجَدِّي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَزِيدَ. وَقَالَ غيره: كانت وفاة ابن ماجة يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ وَتَوَلَّى دَفْنَهُ مَعَ أَخِيهِ الْآخَرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بن يزيد رحمه الله.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ بِفَارِسَ فَقَصَدَهُ أَبُو أَحْمَدَ فَهَرَبَ مِنْهُ عَمْرٌو مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وتتبعه ولم يَقَعْ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ وَلَا مُوَاجَهَةٌ، وَقَدْ تَحَيَّزَ إلى الْمُوَفَّقِ مُقَدَّمُ جَيْشِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ شَرْكَبٌ الْجَمَّالُ، ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ فقبض عليه الْمُوَفَّقُ وَأَبَاحَ مَالَهُ لِوَلَدِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ، وذلك بالقرب من شيراز. وفيها غزايا زمان الْخَادِمُ نَائِبُ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ(11/52)
فَأَوْغَلَ فِيهَا فَقَتَلَ وَغَنِمَ وَسَلِمَ. وَفِيهَا دَخَلَ صديق الفرغاني سامرا فنهب دور النجار بِهَا وَكَرَّ رَاجِعًا، وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ ممن يحرس الطرقات فترك ذلك وأقبل يقطع الطرقات، وضعف الجند بسامراء عن مقاومته.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظِمِ:
كَانَ حَافِظًا فَاضِلًا، رَوَى عَنْ حَرْمَلَةَ وَغَيْرِهِ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زِيَادٍ أَبُو يَعْقُوبَ المقري تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الصُّغْدِيُّ يَرْوِي عَنْ آدَمَ بن إياس، وعن ابْنُ صَاعِدٍ وَابْنُ السَّمَاكِ، وَكَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمِ بْنِ حسان بن على البزار، يروى عن عفان وأبى النَّضْرِ وَيَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الْمَحَامِلِيُّ وابن مخلد والبخاري، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عيسى أبو الحسين الواسطي الملقب بكردوس، يروى عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ الْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ مَخْلَدٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: صَدُوقٌ، وقال الدار قطنى ثِقَةٌ. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَقَدْ نيف عن الثمانين. عبد الله بن روح بن عبيد الله بن أبى محمد المدائني المعروف بعيد روى، يروى عَنْ شَبَابَةَ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَعَنْهُ الْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ السَّمَّاكِ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مِنَ الثقات. توفى في جمادى الآخرة منها. عبد الله بن أبى سعيد أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ أَصْلُهُ مِنْ بِلْخَ وَسَكَنَ بغداد، وروى الحديث عن شريح بْنِ يُونُسَ وَعَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَغَوِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَكَانَ ثِقَةً صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَآدَابٍ وَمُلَحٍ، تُوُفِّيَ بِوَاسِطَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ الدُّولَابِيُّ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ وَأَبَا الْيَمَانِ وَأَبَا مُسْهِرٍ، وَعَنْهُ أبو الحسين الْمُنَادِي وَمُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ وَابْنُ السَّمَّاكِ وَكَانَ ثقة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي المحرم منها وقع الخلاف بين أَبِي السَّاجِ وَبَيْنَ خُمَارَوَيْهِ فَاقْتَتَلَا عِنْدَ ثَنِيَّةِ العقاب شرقى دمشق فقهر خمارويه لابن أبى الساج وانهزم، وكانت له حواصل بِحِمْصَ فَبَعَثَ خُمَارَوَيْهِ مَنْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا فَأَخَذَهَا وَمَنَعَ مِنْهُ حِمْصَ فَذَهَبَ إِلَى حَلَبٍ فَمَنَعَهُ خُمَارَوَيْهِ فَسَارَ إِلَى الرَّقَّةِ فَاتَّبَعَهُ، فَذَهَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ ثُمَّ انْهَزَمَ مِنْهَا خَوْفًا مِنْ خُمَارَوَيْهِ ووصل خمارويه إليها واتخذ بها سريرا طويل القوائم، فكان يَجْلِسُ عَلَيْهِ فِي الْفُرَاتِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِعَ فيه ابن كنداج فسار وراءه ليظفر بِشَيْءٍ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَقَدِ الْتَقَيَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فَصَبَرَ لَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ صَبْرًا عظيما، فسلم وانصرف إلى الْمُوَفَّقِ بِبَغْدَادَ فَأَكْرَمَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ، وَرَجَعَ إِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ إِلَى ديار بكر من الجزيرة.
وفيها فِي شَوَّالٍ مِنْهَا سَجَنَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ ولده أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدَ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَسِيرَ إِلَّا إِلَى الشَّامِ التي ولاه إياها عمه المعتضد،(11/53)
وأمر بسجنه فثارت الأمراء واختبطت بغداد فركب الْمُوَفَّقُ إِلَى بَغْدَادَ وَقَالَ لِلنَّاسِ: أَتَظُنُّونَ أَنَّكُمْ على ولدى أشفق منى؟ فسكن الناس عند ذلك ثم أفرج عنه. وفيها سار رافع إلى محمد بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ فَأَخَذَ مِنْهُ مَدِينَةَ جُرْجَانَ فهرب إلى أستراباذ فحضره بها سنين فَغَلَا بِهَا السِّعْرُ حَتَّى بِيعَ الْمِلْحُ بِهَا وزن درهم بدرهمين، فهرب منها ليلا إلى سارية فأخذ مِنْهُ رَافِعٌ بِلَادًا كَثِيرَةً بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا أَوْ فِي صِفْرٍ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الرحمن الأموي صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ ولايته سنة وأحد عشر يوما، وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا بِوَجْهِهِ أَثَرُ جُدَرِيٍّ، جَوَادًا ممدحا يحب الشعراء ويصلهم بمال كثير، ثم قام بالأمر من بعده أخوه مُحَمَّدٍ فَامْتَلَأَتْ بِلَادُ الْأَنْدَلُسِ فِي أَيَّامِهِ فِتَنًا وشرا حتى هلك كما سيأتي.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن الحجاج
المروزي صاحب الامام أحمد، كان من الأذكياء، كان أَحْمَدُ يُقَدِّمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَيَأْنَسُ بِهِ ويبعثه في الحاجة ويقول له: قُلْ مَا شِئْتَ.
وَهُوَ الَّذِي أَغْمَضَ الْإِمَامَ أحمد وكان فيمن غسله، وَقَدْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً وَحَصَلَتْ له رفعة عظيمة مع أحمد حين طلب إلى سامرا ووصل بخمسين ألفا فلم يقبلها. أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيُّ الْبَصْرِيُّ المعروف بغلام خليل، سكن بغداد، روى عن سليمان ابن دَاوُدَ الشَّاذَكُونِيِّ وَشَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ وَقُرَّةَ بْنِ حَبِيبٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ السَّمَّاكِ وَابْنُ مَخْلَدٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ أَحَادِيثَ رَوَاهَا مُنْكَرَةً عَنْ شُيُوخٍ مَجْهُولِينَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَفْتَعِلُ الْحَدِيثَ، كَانَ رَجُلًا صَالِحًا. وَكَذَّبَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بوضع الحديث ليرفق بِهِ قُلُوبَ النَّاسِ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا يَقْتَاتُ الْبَاقِلَاءَ الصِّرْفَ، وَحِينَ مَاتَ أُغْلِقَتْ أَسْوَاقُ بَغْدَادَ وحضر الناس جنازته والصلاة عليه ثم جعل في زورق وشيع إلى البصرة فدفن بها فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَأَحْمَدُ بْنُ مُلَاعِبٍ، رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا عَالِمًا فَاضِلًا، انْتَشَرَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْحَدِيثِ.
وَأَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ الحسين بن عبد الله بن السُّكَّرِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ.
وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ أَبُو يَعْقُوبَ النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعِنْدَهُ اخْتَفَى أحمد فِي زَمَنِ الْمِحْنَةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ الْعَطَّارُ الْمَوْصِلِيُّ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ:
كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ مُعَدَّلًا عِنْدَ الْحُكَّامِ. وَيَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ
صاحب السنن، اسمه سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرِ بن شداد بن يحيى بن عمران أبو داود السجستاني أحد أئمة الحديث الرحالين إلى الآفاق في طلبه، جَمَعَ وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ وَأَلَّفَ(11/54)
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ عَنْ مَشَايِخِ الْبُلْدَانِ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ السُّنَنُ الْمَشْهُورَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، الَّتِي قَالَ فِيهَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: يَكْفِي الْمُجْتَهِدَ مَعْرِفَتُهَا من الأحاديث النبويّة. حدث عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ سليمان النجار، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ فِي الدُّنْيَا. سَكَنَ أَبُو دَاوُدَ الْبَصْرَةَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ غَيْرَ مرة وحدث بكتاب السُّنَنِ بِهَا، وَيُقَالُ إِنَّهُ صَنَّفَهُ بِهَا وَعَرَضَهُ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَاسْتَجَادَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ الْخَطِيبُ:
حدثني أبو بكر محمد بن على ابن إبراهيم القاري الدينَوَريّ من لفظه، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الله بن الحسن القرصي قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاسَهْ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُولُ: كَتَبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبه وَيُقَارِبُهُ، وَيَكْفِي الْإِنْسَانَ لِدِينِهِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أحاديث، قوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات» . الثاني قَوْلُهُ «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يعنيه» . الثالث قَوْلُهُ «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَرْضَى لأخيه ما يرضاه لنفسه» الرابع قَوْلُهُ:
«الْحَلَّالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» . وَحُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْخَلَّالَ قَالَ: أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ الْإِمَامُ الْمُقَدَّمُ فِي زَمَانِهِ رَجُلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى معرفة تخريج العلوم وبصره بمواضعها أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، رَجُلٌ وَرِعٌ مُقَدَّمٌ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثًا واحدا كان أبو داود يذكره، وكان أبو بكر الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة يرفعان من قدره ويذكر انه بما لا يذكران أحدا في زمانه بمثله.
قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي كَتَبَهُ عَنْهُ وَسَمِعَهُ مِنْهُ الامام أحمد بن حنبل هو ما رواه أبو داود مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي معشر الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْعَتِيرَةِ فَحَسَّنَهَا» . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَغَيْرُهُ: أُلِينَ لِأَبِي دَاوُدَ الْحَدِيثُ كَمَا أُلِينَ لِدَاودَ الْحَدِيدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَحَدَ حُفَّاظِ الْإِسْلَامِ لِلْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ وَسَنَدِهِ. وكان في أعلا دَرَجَةِ النُّسُكِ وَالْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ وَالْوَرَعِ مِنْ فُرْسَانِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يُشْبِهُهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يُشْبِهُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ مَنْصُورٌ يُشْبِهُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ سفيان يشبه منصور، وَكَانَ وَكِيعٌ يُشْبِهُ سُفْيَانَ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُشْبِهُ وَكِيعًا، وَكَانَ أَبُو دَاوُدَ يُشْبِهُ أَحْمَدَ بْنَ حنبل. وقال محمد ابن بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: كَانَ لِأَبِي دَاوُدَ كُمٌّ وَاسِعٌ وَكُمٌّ ضَيَّقٌ فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ:
هَذَا الْوَاسِعُ لِلْكُتُبِ وَالْآخَرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُ أَبِي دَاوُدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ سُفْيَانَ الثوري.(11/55)
وقد ذكرنا ترجمته في التكميل وذكرنا ثناء الأئمة عليه.
وفيها توفى
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن العنبس الضميري الشاعر،
كان دينا كَثِيرَ الْمُلَحِ، وَكَانَ هَجَّاءً، وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قوله:
كم عليل عَاشَ مِنْ بَعْدِ يَأْسٍ ... بَعْدَ مَوْتِ الطَّبِيبِ والعواد
قد تصاد القطا فتنجو سريعا ... ويحل البلاء بالصياد
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا أُعِيدَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ إِلَى شُرْطَةِ بَغْدَادَ وَكُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الْفُرُشِ وَالْمَقَاعِدِ والستور ثم أسقط اسمه عن ذلك وعزل وَوَلِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ. وَفِيهَا وَلَّى الموفق لابن أبى الساج نيابة أذربيجان وفيها قصد هاون الشاري الخارجي مدينة الموصل فنزل شرقيها فحاصرها فخرج إليه أهلها فاستأمنوه فأمنهم ورجع عنهم. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ، وَلَمَّا رَجَعَ حُجَّاجُ الْيَمَنِ تزلوا في بعض الأماكن فجاءهم سيل لم يشعروا به فغرقهم كلهم لم يفلت منهم أحد ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ أَنَّ في هذه السنة انفرج تل بنهر الصلة فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ يُعْرَفُ بِتَلِّ بَنِيَ شَقِيقٍ عن سبعة أقبر في مثل الحوض، وفيها سبعة أبدان صحيحة أجسادهم وَأَكْفَانُهُمْ يَفُوحُ مِنْهُمْ رِيحُ الْمِسْكِ، أَحَدُهُمْ شَابٌّ وله جمة وعلى شفته بلل كأنه قد شرب ماء الآن، وَكَأَنَّ عَيْنَيْهِ مُكَحَّلَتَانِ وَبِهِ ضَرْبَةٌ فِي خَاصِرَتِهِ، وأراد أحدهم أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا فَإِذَا هُوَ قوى الشعر كأنه حي فتركوا على حالهم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَحْمَدُ بْنُ حازم بن أبى عزرة الْحَافِظُ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ الْمَشْهُورِ لَهُ حَدِيثٌ كَثِيرٌ وروايته عالية.
وفيها توفى. بقي بْنُ مَخْلَدٍ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ الكبير، له الْمُسْنَدِ الْمُبَوَّبِ عَلَى الْفِقْهِ، رَوَى فِيهِ عَنْ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ صَحَابِيٍّ، وَقَدْ فَضَّلَهُ ابْنُ حَزْمٍ على مسند الامام أحمد بن حنبل، وَعِنْدِي فِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْنَدَ أحمد أجود منه وأجمع. وَقَدْ رَحَلَ بَقِيٌّ إِلَى الْعِرَاقِ فَسَمِعَ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِالْعِرَاقِ وغيرها يزيدون على المائتين بأربعة وثلاثين شَيْخًا، وَلَهُ تَصَانِيفُ أُخَرُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ رجلا صالحا عابدا زاهدا مجاب الدعوة، جاءته امرأة فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي قَدْ أَسَرَتْهُ الْإِفْرِنْجُ، وَإِنِّي لَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ شَوْقِي إِلَيْهِ، وَلِي دُوَيْرَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَهَا لِأَسْتَفِكَّهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أن تشير على أحد يأخذها لأسعى في فكاكه بثمنها، فليس يقر لي ليل ولا نهار، ولا أجد نوما ولا صبرا ولا قرارا ولا راحة. فقال: نعم انصرفي حتى انظر فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَطْرَقَ الشَّيْخُ وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ يَدْعُو(11/56)
الله عز وجل لولدها بالخلاص من أيدي الفرنج، فذهبت المرأة فما كان إلا قليلا حتى جاءت الشيخ وَابْنُهَا مَعَهَا فَقَالَتِ: اسْمَعْ خَبَرَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ أَمْرُكَ؟ فَقَالَ. إِنِّي كُنْتُ فيمن نخدم الْمَلِكَ وَنَحْنُ فِي الْقُيُودِ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ أَمْشِي إِذْ سَقَطَ الْقَيْدُ مِنْ رِجْلِي، فأقبل على الموكل بى فشتمني وقال لم أزلت القيد من رجليك؟ فقلت: لا والله ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشعر به، فجاءوا بالحداد فأعادوه وأجادوه وشدوا مسماره وأبدوه، ثُمَّ قُمْتُ فَسَقَطَ أَيْضًا فَأَعَادُوهُ وَأَكَّدُوهُ فَسَقَطَ أيضا، فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك فقالوا: له والدة؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها قد دعت لك وقد اسْتُجِيبَ دُعَاؤُهَا أَطْلِقُوهُ، فَأَطْلَقُونِي وَخَفَرُونِي حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. فَسَأَلَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا الْقَيْدُ مِنْ رِجْلَيْهِ فَإِذَا هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي دَعَا فِيهَا الله له ففرج عنه.
صَاعِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْكَاتِبُ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الجوزي وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تِيهٌ وَحُمْقٌ، وَقَدْ يُمْكِنُ الجمع بين القولين والصفتين. ابن قتيبة وهو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدينَوَريّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ الْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ وَالْحُفَّاظِ الْأَذْكِيَاءِ وقد تقدمت ترجمته، وكان ثقة نبيلا، وَكَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَتَّهِمُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِهِ شَيْءٌ مِنْ تَصَانِيفِهِ، وَكَانَ سَبَبَ وَفَاتِهِ أَنَّهُ أَكَلَ لُقْمَةً مِنْ هَرِيسَةٍ فَإِذَا هِيَ حَارَّةٌ فَصَاحَ صَيْحَةً شَدِيدَةً ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ ثُمَّ أَفَاقَ ثُمَّ لم يزل يشهد أن لا إله إلا الله إِلَى أَنْ مَاتَ وَقْتَ السَّحَرِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أبو قلابة الرياشي، أحد الحفاظ، كان يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ لَقَبُ أَبُو قِلَابَةَ، سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَرَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ وَأَبَا دَاوُدَ الطَّيَالِسِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ صَدُوقًا عَابِدًا يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، وَرَوَى مِنْ حِفْظِهِ سِتِّينَ ألف حديث غلط في بعضها على سبيل العمد، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن أبى العوام. ومحمد بن إسماعيل الصايغ. وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ. وَأَبُو الرَّدَّادِ الْمُؤَذِّنُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عبيد الرَّدَّادِ الْمُؤَذِّنُ صَاحِبُ الْمِقْيَاسِ بِمِصْرَ، الَّذِي هُوَ مُسَلَّمٌ إِلَيْهِ وَإِلَى ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. قاله ابن خلكان والله أعلم.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خطب يا زمان نَائِبُ طَرَسُوسَ لِخُمَارَوَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ هَادَاهُ بِذَهَبٍ كثير وتحف هائلة. وفيها قدم جماعة مِنْ أَصْحَابِ خُمَارَوَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ. وَفِيهَا وَلِيَ الْمَظَالِمَ بِبَغْدَادَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ وَلَوْ عِنْدَ الأمير الناصر لدين الله الْمُوَفَّقِ، أَوْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَلْيَحْضُرْ.(11/57)
وَسَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً، وَأَظْهَرَ صَرَامَةً لم ير مثلها. وحج بالناس الأمير المتقدم ذكره قبل ذلك.
وفيها توفى من الأعيان
إبراهيم بن صرا إسحاق بن أبى العينين وأبو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ قَاضِي بَغْدَادَ بَعْدَ ابْنِ سَمَاعَةَ، سمع معلى بْنَ عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وكان ثقة فاضلا دينا صالحا.
وأحمد بْنُ عِيسَى
أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الصُّوفِيَّةِ بِالْعِبَادَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَالْوَرَعِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي ذَلِكَ وَلَهُ كَرَامَاتٌ وَأَحْوَالٌ وَصَبْرٌ عَلَى الشدائد، وَرَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ صَاحِبِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَغَيْرِهِ وَعَنْهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ المصري وجماعة. ومن جيد كلامه إِذَا بَكَتْ أَعْيُنُ الْخَائِفِينَ فَقَدْ كَاتَبُوا اللَّهَ بدموعهم.
وقال: العافية تستر البر والفاجر، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال. وقال: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل. وقال: الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت حاضر. وقال ذُنُوبُ الْمُقَرَّبِينَ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ.
وَقَالَ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ تَفْوِيضٌ، وَالرِّضَا مَعَ الْقَضَاءِ تَسْلِيمٌ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا» فَقَالَ يَا عَجَبًا لِمَنْ لَمْ يَرَ مُحْسِنًا غَيْرَ اللَّهِ كَيْفَ لَا يَمِيلُ إِلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ؟ قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنَّ كَلَامَهُ عَلَيْهِ من أحسن ما يكون. وَقَالَ ابْنُهُ سَعِيدٌ: طَلَبْتُ مِنْ أَبِي دَانِقَ فِضَّةٍ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ اصْبِرْ فَلَوْ أَحَبَّ أَبُوكَ أَنْ يَرْكَبَ الْمُلُوكُ إِلَى بَابِهِ مَا تأبوا عليه. وروى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: أَصَابَنِي مَرَّةً جُوعٌ شَدِيدٌ فَهَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ طَعَامًا فَقُلْتُ: هَذَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ فَهَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ صَبْرًا فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ يَقُولُ:
وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مِنَّا قَرِيبٌ ... وَأَنَّا لَا نُضَيِّعُ مَنْ أَتَانَا
وَيَسْأَلُنَا الْقِرَى جَهْدًا وَصَبْرًا ... كَأَنَّا لَا نَرَاهُ وَلَا يَرَانَا
قَالَ فَقُمْتُ وَمَشَيْتُ فَرَاسِخَ بِلَا زَادٍ. وقال: الْمُحِبُّ يَتَعَلَّلُ إِلَى مَحْبُوبِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَتَسَلَّى عَنْهُ بِشَيْءٍ يَتَّبِعُ آثَارَهُ وَلَا يَدَعُ اسْتِخْبَارَهُ ثُمَّ أَنْشَدَ:
أُسَائِلُكُمْ عَنْهَا فَهَلْ مِنْ مخبر ... فما لى بنعمى بعد مكة لي عِلْمُ
فَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي أَيْنَ خَيَّمَ أَهْلُهَا ... وأي بلاد الله إذ ظعنوا أموا
إذا لَسَلَكْنَا مَسْلَكَ الرِّيحِ خَلْفَهَا ... وَلَوْ أَصْبَحَتْ نُعْمَى وَمِنْ دُونِهَا النَّجْمُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ في سنة ست وثمانين، والأول أصح.
وفيها توفى عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانِ بْنِ ذكويه بن موسى الطيالسي الحافظ، تلقب رعاب، سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا نُعَيْمٍ، وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الشافعيّ وغيره، ووثقه الدار قطنى. كانت وفاته في شوال منها عن أربع وثمانين سنة.
وفيها توفى. أَبُو حَاتِمِ الرَّازِيُّ(11/58)
مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِهْرَانَ أَبُو حَاتِمٍ الّحَنْظَلِيُّ الرَّازِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ الْعَارِفِينَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْجَرْحِ والتعديل، وهو قرين أبى زرعة رحمهما الله، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَطَافَ الْأَقْطَارَ وَالْأَمْصَارَ، وَرَوَى عَنْ خلق من الكبار، وعنه خلق منهم الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى وهما أكبر منه، وقدم بغداد وحدث بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ مِنْ أَهْلِهَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَا بُنَيَّ مَشِيتُ عَلَى قَدَمَيَّ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ فَرْسَخٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَأَنَّهُ مَكَثَ ثَلَاثًا لَا يَأْكُلُ شَيْئًا حَتَّى اسْتَقْرَضَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ نِصْفَ دِينَارٍ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ، وَكَانَ يَتَحَدَّى مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَقُولُ: مَنْ أَغْرَبَ عَلَيَّ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ صَحِيحٍ فَلَهُ عَلَيَّ درهم أتصدق به. قال: ومرادى أَسْمَعَ مَا لَيْسَ عِنْدِي، فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ. كَانَتْ وَفَاةُ ابن أَبِي حَاتِمٍ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
محمد بن الحسن بْنِ مُوسَى بْنِ الْحَسَنِ أَبُو جَعْفَرٍ الْكُوفِيُّ الخراز المعروف بالجندى، لَهُ مُسْنَدٌ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَالْقَعْنَبِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابن صاعد والمحاملي وابن السماك، كان ثِقَةً صَدُوقًا. مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الرازيّ، سَمِعَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةِ شَيْخٍ، وَلَكِنْ لم يحدث إلا باليسير، توفى في شعبان منها. قال ابن الجوزي: وهم محمد بن سعدان البزار عن العقنبى وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ مشهور. توفى في سنة إحدى ومائتين. قال ابن الأثير في كامله: وفيها توفى يعقوب بن سفيان بن حران الْإِمَامُ الْفَسَوِيُّ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ. وَيَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ ابن مَعْقِلٍ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ، وَالِدُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بن الأصم. وفيها ماتت عُرَيْبُ الْمُغَنِّيَةُ الْمَأْمُونِيَّةُ، قِيلَ إِنَّهَا ابْنَةُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ.
فَأَمَّا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بن حران
فَهُوَ أَبُو يُوسُفَ بْنُ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْفَارِسِيُّ الْفَسَوِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُمْ هِشَامُ بن عمار، ودحيم، وأبو المجاهر، وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّونَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو عَاصِمٍ، وَمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بن موسى والقعنبي. روى عَنْهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ خِرَاشٍ وابن خزيمة وأبو عوانة الأسفراييني وغيرهم، وَصَنَّفَ كِتَابَ التَّارِيخِ وَالْمَعْرِفَةِ وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ المفيدة، وَقَدْ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْبُلْدَانِ النائية، وتغرب عن وطنه نحو ثلاثين سنة(11/59)
وروى ابن عساكر عنه قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ فِي اللَّيْلِ عَلَى ضَوْءِ السِّرَاجِ فِي زَمَنِ الرِّحْلَةِ فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ وَقَعَ شَيْءٌ عَلَى بَصَرِي فَلَمْ أُبْصِرْ مَعَهُ السِّرَاجَ، فَجَعَلْتُ أَبْكِي عَلَى مَا فاننى مِنْ ذَهَابِ بَصَرِي، وَمَا يَفُوتُنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ من كتابة الحديث، وَمَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْغُرْبَةِ، ثُمَّ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مالك؟ فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْغُرْبَةِ، وَمَا فَاتَنِي مِنْ كِتَابَةِ السُّنَّةِ.
فَقَالَ: «ادْنُ منى، فدنوت منه فجعل يَدَهُ عَلَى عَيْنِي وَجَعَلَ كَأَنَّهُ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ» . ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَأَبْصَرْتُ وَجَلَسْتُ أُسَبِّحُ اللَّهَ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَقَالَ: هُوَ إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِفَارِسَ، وَقَدِمَ نَيْسَابُورَ وَسَمِعَ مِنْهُ مَشَايِخُنَا وَقَدْ نَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّشَيُّعِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ اللَّيْثِ صَاحِبَ فَارِسَ بَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ فَقَالَ لَهُ وَزِيرُهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فِي شَيْخِنَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ السِّجْزِيِّ، إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الصَّحَابِيِّ، فَقَالَ: دَعُوهُ ما لي وللصحابى، إِنِّي إِنَّمَا حَسِبْتُهُ يَتَكَلَّمُ فِي شَيْخِنَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ السِّجْزِيِّ.
قُلْتُ: وَمَا أَظُنُّ هَذَا صَحِيحًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ فَإِنَّهُ إِمَامٌ مُحَدِّثٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ أبى حاتم بشهر في رجب منها بِالْبَصْرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَأَمَرَنِي أَنَّ أُمْلِيَ الْحَدِيثَ فِي السَّمَاءِ كَمَا كُنْتُ أُمْلِيهِ فِي الْأَرْضِ، فَجَلَسْتُ لِلْإِمْلَاءِ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَجَلَسَ حَوْلِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ يَكْتُبُونَ مَا أُمْلِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ بِأَقْلَامِ الذَّهَبِ.
وَأَمَّا عُرَيْبُ الْمَأْمُونِيَّةُ
فقد ترجمها ابن عساكر في تاريخه وحكى عن بعضهم أنها ابنة جعفر الْبَرْمَكِيِّ، سُرِقَتْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ عِنْدَ ذَهَابِ دَوْلَةِ البرامكة، وبيعت فاشتراها المأمون بن الرَّشِيدِ، ثُمَّ رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ عن أبيه أنه قال: ما رأيت قط امرأة أحسن وجها منها، ولا أكثر أدبا ولا أحسن غناء وَضَرْبًا وَشِعْرًا وَلَعِبًا بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ مِنْهَا، وَمَا تشاء أن تجد خصلة ظريفة بَارِعَةً فِي امْرَأَةٍ إِلَّا وَجَدْتَهَا فِيهَا. وَقَدْ كانت شاعرة مطيقة بليغة فصيحة، وَكَانَ الْمَأْمُونُ يَتَعَشَّقُهَا ثُمَّ أَحَبَّهَا بَعْدَهُ الْمُعْتَصِمُ، وكانت هي تعشق رجلا يقال له محمد بن حماد، وَرُبَّمَا أَدْخَلَتْهُ إِلَيْهَا فِي دَارِ الْخِلَافَةِ قَبَّحَهَا اللَّهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهَا، ثم عشقت صَالِحًا الْمُنْذِرِيَّ وَتَزَوَّجَتْهُ سِرًّا، وَكَانَتْ تَقُولُ فِيهِ الشعر، وربما ذكرته في شعرها بَيْنَ يَدِيِ الْمُتَوَكِّلِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَيَمَنْ هو، فتضحك جواريه من ذلك فيقول: يَا سَحَّاقَاتُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِكُنَّ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ شِعْرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى الْمُتَوَكِّلِ تَعُودُهُ مِنْ حُمَّى أَصَابَتْهُ فَقَالَتْ: -
أَتَوْنِي فَقَالُوا بِالْخَلِيفَةِ عِلَّةٌ ... فَقُلْتُ وَنَارُ الشَّوْقِ تُوقَدُ فِي صدري(11/60)
أَلَا لَيْتَ بِي حُمَّى الْخَلِيفَةِ جَعْفَرٍ ... فَكَانَتْ بى الحمى وكان له أجرى
كفى بى حزن إِنْ قِيلَ حُمَّ فَلَمْ أَمُتْ ... مِنَ الْحُزْنِ إني بعد هذا لذو صبري
جعلت فدى للخليفة جعفر ... وذاك قليل للخليفة من شكري
وَلَمَّا عُوفِيَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَغَنَّتْهُ مِنْ قِيلِهَا:
شكرا لا نعم مَنْ عَافَاكَ مِنْ سَقَمِ ... دُمْتَ الْمُعَافَى مِنَ الآلام والسقم
عادت ببرئك لِلْأَيَّامِ بَهْجَتُهَا ... وَاهْتَزَّ نَبْتُ رِيَاضِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ
ما قام للدين بعد اليوم من ملك ... أعف منك ولا أرعى إلى الذِّمَمِ
فَعَمَّرَ اللَّهُ فِينَا جَعْفَرًا وَنَفَى ... بِنُورِ وجنته عَنَّا دُجَى الظُّلَمِ
وَلَهَا فِي عَافِيَتِهِ أَيْضًا
حَمِدْنَا الَّذِي عَافَى الْخَلِيفَةَ جَعْفَرًا ... عَلَى رُغْمِ أَشْيَاخِ الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ
وَمَا كَانَ إِلَّا مِثْلَ بَدْرٍ أَصَابَهُ ... كُسُوفٌ قَلِيلٌ ثُمَّ أَجْلَى عَنِ الْبَدْرِ
سَلَامَتُهُ لِلدِّينِ عِزٌّ وَقُوَّةٌ ... وَعِلَّتُهُ لِلدِّينِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ
مَرِضْتَ فَأَمْرَضْتَ الْبَرِيَّةَ كُلَّهَا ... وَأَظْلَمَتِ الأمصار من شدة الزعر
فَلَمَّا اسْتَبَانَ النَّاسُ مِنْكَ إِفَاقَةً ... أَفَاقُوا وَكَانُوا كالنيام على الخمر
سلامة دنيانا سلامة جعفر ... فدام معافا سالما آخر الدهر
إمام أعم الناس بالفضل والندا ... قَرِيبًا مِنَ التَّقْوَى بَعِيدًا مِنَ الْوِزْرِ
وَلَهَا أشعار كثيرة رائعة ومولدها في سنة إحدى وثمانين ومائة وماتت في سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، ولها ست وتسعون سنة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
قَالَ ابن الجوزي: في المحرم منها طَلَعَ نَجْمٌ ذُو جُمَّةٍ ثُمَّ صَارَتِ الْجُمَّةُ ذُؤَابَةً. قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَارَ مَاءُ النِّيلِ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ وَلَا بلغنا في الأخبار السالفة. فغلت الأسعار بسبب ذلك جدا. وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بالوزارة. وفي المحرم منها قدم الموفق مِنَ الْغَزْوِ فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى النَّهْرَوَانِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَهُوَ مَرِيضٌ بِالنِّقْرِسِ فَاسْتَمَرَّ فِي دَارِهِ في أوائل صفر، ومات بعد أيام. قال:
وفيها تحركت القرامطة وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الْمَلَاحِدَةِ أَتْبَاعِ الْفَلَاسِفَةِ من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومردك، وَكَانَا يُبِيحَانِ الْمُحَرَّمَاتِ. ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ إِلَى بَاطِلٍ، وَأَكْثَرُ مَا يفسدون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من جهتهم، لأنهم أقل الناس عُقُولًا، وَيُقَالُ لَهُمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، لِانْتِسَابِهِمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ الْأَعْرَجِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. وَيُقَالُ لَهُمُ الْقَرَامِطَةُ، قيل نسبة(11/61)
إِلَى قِرْمِطِ بْنِ الْأَشْعَثِ الْبَقَّارِ، وَقِيلَ إِنَّ رَئِيسَهُمْ كَانَ فِي أَوَّلِ دَعْوَتِهِ يَأْمُرُ مَنِ اتَّبَعَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِيَشْغَلَهُمْ بِذَلِكَ عَمَّا يُرِيدُ تَدْبِيرَهُ مِنَ الْمَكِيدَةِ. ثُمَّ اتَّخَذَ نُقَبَاءَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَأَسَّسَ لِأَتْبَاعِهِ دعوة ومسلكا يسلكونه ودعا إلى إمام أَهْلِ الْبَيْتِ، وَيُقَالُ لَهُمُ الْبَاطِنِيَّةُ لِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الرفض ويبطنون الكفر المحض، والجرمية والبابكية نسبة إلى بابك الجرمي الّذي ظهر في أيام المعتصم وقتل كما تقدم. وَيُقَالُ لَهُمُ الْمُحَمِّرَةُ نِسْبَةً إِلَى صَبْغِ الْحُمْرَةِ شعارا مضاهاة لبني العباس ومخالفة لهم، لأن بنى العباس يلبسون السواد. وَيُقَالُ لَهُمُ التَّعْلِيمِيَّةُ نِسْبَةً إِلَى التَّعَلُّمِ مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ. وَتَرْكِ الرَّأْيِ وَمُقْتَضَى الْعَقْلِ. وَيُقَالُ لَهُمُ السَّبْعِيَّةُ نِسْبَةً إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ السبعة المتحيزة السائرة مُدَبِّرَةٌ لِهَذَا الْعَالَمِ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَهِيَ الْقَمَرُ فِي الْأُولَى، وَعُطَارِدُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمِرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرَى فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْبَابَكِيَّةِ جَمَاعَةٌ يُقَالُ إِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَيْلَةً هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ ثُمَّ يُطْفِئُونَ الْمِصْبَاحَ وينتهبون النساء فمن وقعت يده في امْرَأَةٌ حَلَّتْ لَهُ. وَيَقُولُونَ هَذَا اصْطِيَادٌ مُبَاحٌ لعنهم الله.
وقد ذكر ابن الجوزي تفصيل قولهم وبسطه، وقد سبقه إلى ذلك أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمُتَكَلِّمُ الْمَشْهُورُ فِي كِتَابِهِ «هَتْكُ الْأَسْتَارِ وَكَشْفُ الْأَسْرَارِ» فِي الرَّدِّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ، وَرَدَّ عَلَى كِتَابِهِمُ الَّذِي جَمَعَهُ بَعْضُ قضاتهم بديار مصرفى أَيَّامِ الْفَاطِمِيِّينَ الَّذِي سَمَّاهُ «الْبَلَاغَ الْأَعْظَمَ وَالنَّامُوسَ الأكبر» وجعله سِتَّ عَشْرَةَ دَرَجَةً أَوَّلُ دَرَجَةٍ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ أَوَّلًا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى عثمان بن عفان، ثم ينتقل به إِذَا وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ثُمَّ يَتَرَقَّى به إِلَى سَبِّهِمَا لِأَنَّهُمَا ظَلَمَا عَلِيًّا وَأَهْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى بِهِ إِلَى تَجْهِيلِ الْأُمَّةِ وَتَخْطِئَتِهَا فِي مُوَافَقَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْقَدْحِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ. وَقَدْ ذَكَرَ لِمُخَاطَبَتِهِ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِذَلِكَ شُبَهًا وَضَلَالَاتٍ لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى كُلِّ غَبِيٍّ جَاهِلٍ شَقِيٍّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ من أُفِكَ) 51: 7- 9 أي يضل به من هو ضال. وقال (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا من هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) 37: 161- 163 وقال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) 6: 112- 113 إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن أن الباطل والجهل والضلال والمعاصي لَا يَنْقَادُ لَهَا إِلَّا شِرَارُ النَّاسِ كَمَا قال بعض الشعراء:
إن هو مستحوذ عَلَى أَحَدٍ ... إِلَّا عَلَى أَضْعَفِ الْمَجَانِينِ
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَهُمْ مَقَامَاتٌ فِي الْكُفْرِ والزندقة والسخافة مما ينبغي لضعيف العقل والدين أن ينزه(11/62)
نفسه عنه إذا تصوره، وهو مما فتحه إبليس عليهم من أنواع الكفر وأنواع الجهالات، وربما أفاد إبليس بعضهم أشياء لم يكن يعرفها كما قال بعض الشعراء:
وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ بُرْهَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تَحَرَّكَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم كما سنذكره، حتى آل بهم الْحَالُ إِلَى أَنْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَسَفَكُوا دم الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة وَكَسَرُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَاقْتَلَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُمْ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَمَكَثَ غَائِبًا عَنْ مَوْضِعِهِ من البيت ثنتين وعشرين سنة ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وكل ذلك من ضعف الخليفة وتلاعب الترك بمنصب الخلافة واستيلائهم على البلاد وتشتت الأمر.
وقد اتفق فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا ظُهُورُ هَؤُلَاءِ، والثاني موت حسام الإسلام وناصر دين الله أبو أحمد الموفق رحمه الله، لكن الله أبقى للمسلمين بعده ولده أبا العباس أحمد الملقب بالمعتضد، وكان شهما شجاعا
وهذه ترجمة أبى أحمد الموفق
هو الأمير الناصر لدين الله، ويقال له الموفق، ويقال له طَلْحَةُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، كَانَ مُوَلِدُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ أَخُوهُ المعتمد حين صارت الخلافة إليه قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ أَخِيهِ جَعْفَرٍ، وَلَقَّبَهُ الْمُوَفَّقَ باللَّه، ثُمَّ لَمَّا قَتَلَ صَاحِبَ الزَّنْجِ وَكَسَرَ جَيْشَهُ تَلَقَّبَ بِنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ، وَصَارَ إِلَيْهِ الْعَقْدُ وَالْحَلُّ وَالْوِلَايَةُ وَالْعَزْلُ، وَإِلَيْهِ يُجْبَى الْخَرَاجُ، وَكَانَ يُخْطَبُ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَيُقَالُ: اللَّهمّ أَصْلِحِ الْأَمِيرَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوَفَّقَ باللَّه وَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ أَخَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ قَبْلَ أخيه المعتمد بستة أشهر، وكان غزير العقل حسن التدبير يَجْلِسُ لِلْمَظَالِمِ وَعِنْدَهُ الْقُضَاةُ فَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَالنَّسَبِ وَالْفِقْهِ وَسِيَاسَةِ الْمُلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ مَحَاسِنُ وَمَآثِرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ مَرَضُ النقرس في السفر فقدم إلى بغداد وهو عليل منه فَاسْتَقَرَّ فِي دَارِهِ فِي أَوَائِلِ صَفَرٍ وَقَدْ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ وَتَوَرَّمَتْ رِجْلُهُ حَتَّى عَظُمَتْ جدا، وكان يوضع له الأشياء المبردة كالثلج ونحوه، وكان يحمل على سريره، يحمله أربعون رجلا بالنوبة، كل نوبة عِشْرُونَ. فَقَالَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا أَظُنُّكُمْ إِلَّا قَدْ مَلِلْتُمْ مِنِّي فَيَا لَيْتَنِي كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ آكُلُ كَمَا تَأْكُلُونَ، وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ، وَأَرْقُدُ كَمَا تَرْقُدُونَ فِي عَافِيَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: فِي دِيوَانِي مِائَةُ أَلْفِ مُرْتَزِقٍ لَيْسَ فِيهِمْ أحد أَسْوَأُ حَالًا مِنِّي.
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَصْرِ الْحُسَيْنِيِّ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَهُ سَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ سنة تنقص شهرا وأياما.(11/63)
ولما توفى اجتمع الأمراء على أخذ البيعة من بعده إلى ولده أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، فَبَايَعَ لَهُ الْمُعْتَمِدُ بِوِلَايَةِ العهد من بعد أبيه، وخطب له على المنابر. وجعل إليه ما كان لأبيه من الولاية والعزل والقطع والوصل، ولقب المعتضد باللَّه.
وفيها توفى إِدْرِيسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْفَقْعَسِيُّ الْمَوْصِلِيُّ. قَالَ ابْنُ الأثير: كان كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَالصَّلَاحِ.
وَإِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ نَائِبُ الجزيرة، كان من ذوى الرأى، وقام بما كان إليه ولده محمد. ويا زمان نَائِبُ طَرَسُوسَ جَاءَهُ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ مِنْ بَلْدَةٍ كان محاصرها ببلاد الروم فمات منه فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِطَرَسُوسَ، فولى نيابة الثغر بعده أحمد الجعيفى بِأَمْرِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ قَرِيبٍ بِابْنِ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ طولون. وفيها توفى عبده بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَبَّحَهُ اللَّهُ. ذَكَرَ ابْنُ الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيرا في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصرو بلدة مِنْ بِلَادِ الرُّومِ إِذْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ من نساء الروم في ذلك الحصن فهويها فراسلها ما السبيل إلى الوصول إِلَيْكِ؟ فَقَالَتْ أَنْ تَتَنَصَّرَ وَتَصْعَدَ إِلَيَّ، فَأَجَابَهَا إلى ذلك، فَمَا رَاعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهَا، فَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ مَرُّوا عَلَيْهِ وَهُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الحصن فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟
ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنِّي أُنْسِيتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَّا قَوْلَهُ (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) 15: 2- 3 وقد صار لي فيهم مال وولد
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خُلِعَ جَعْفَرٌ الْمُفَوَّضُ مِنَ المعهد وَاسْتَقَلَّ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمُعْتَمِدُ أَبُو العباس المعتضد بن الموفق، وخطب له بذلك على رءوس الأشهاد، وفي ذلك يقول يحيى بن على يهنى المعتضد.
ليهنيك عَقْدٌ أَنْتَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ ... حَبَاكَ بِهِ رَبٌّ بِفَضْلِكَ أَعْلَمُ
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَصْبَحَتْ وَالِيَ عَهْدِنَا ... فَأَنْتَ غَدًا فِينَا الْإِمَامُ الْمُعَظَّمُ
وَلَا زال من والاك فيه مبلغا ... مناه ومن عاداك يخزي ويندم
وكان عمود الدين فيه تعوج ... فَعَادَ بِهَذَا الْعَهْدِ وَهْوَ مُقَوَّمُ
وَأَصْبَحَ وَجْهُ الْمُلْكِ جَذْلَانَ ضَاحِكًا ... يُضِيءُ لَنَا مِنْهُ الَّذِي كان مظلم
فدونك شدد عَقْدَ مَا قَدْ حَوَيْتَهُ ... فَإِنَّكَ دُونَ النَّاسِ فِيهِ الْمُحَكَّمُ
وَفِيهَا نُودِيَ بِبَغْدَادَ أَنْ لَا يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ الْقُصَّاصِ وَالطُّرُقِيَّةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الطُّرُقَاتِ، وَأَنْ لَا تُبَاعَ كُتُبُ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْجَدَلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ بِهِمَّةِ(11/64)
أبى العباس المعتضد سلطان الإسلام. وفيها وَقَعَتْ حُرُوبٌ بَيْنَ هَارُونَ الشَّارِي وَبَيْنَ بَنِي شَيْبَانَ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ لَيْلَةَ الْإِثْنَيْنِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ
هو أمير المؤمنين المعتمد بن المتوكل بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ جعفر بن محمد بن هارون الرشيد مكث فِي الْخِلَافَةِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وكان عمره يوم مات خمسين سنة وأشهرا، وكان أسن من أخيه الْمُوَفَّقِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَتَأَخَّرَ بَعْدَهُ أَقَلَّ مِنْ سنة، ولم يكن إليه مع أخيه شيء من الأمر حتى أَنَّ الْمُعْتَمِدَ طَلَبَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ثَلَاثَمِائَةِ دينار فلم يصل إليها فقال الشاعر في ذلك:
ومن العجائب في الخلافة أن ... ترى ما قل ممتنعا عليه
وتؤخذ الدنيا باسمه جميعا ... وما ذَاكَ شَيْءٌ فِي يَدَيْهِ
إِلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَمْوَالُ طرا ... ويمنع بعض ما يجبى إليه
كان المعتمد أَوَّلَ خَلِيفَةٍ انْتَقَلَ مِنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ، بل جعلوا إِقَامَتِهِمْ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ سَبَبَ هَلَاكِهِ فِي مَا ذكره ابن الأثير أنه شرب في تِلْكَ اللَّيْلَةَ شَرَابًا كَثِيرًا وَتَعَشَّى عَشَاءً كَثِيرًا، وكان وقت وفاته في القصر الحسيني مِنْ بَغْدَادَ، وَحِينَ مَاتَ أَحْضَرَ الْمُعْتَضِدُ الْقُضَاةَ وَالْأَعْيَانَ وَأَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، ثُمَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ حُمِلَ فَدُفِنَ بسامراء. وفي صبيحة العزاء بويع للمعتضد
وفيها توفى. البلاذري المؤرخ أحد المشاهير
واسمه أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ جَابِرِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو الْحَسَنِ وَيُقَالُ أَبُو جَعْفَرٍ وَيُقَالُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْبَلَاذُرِيُّ صَاحِبُ التَّارِيخِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ، سمع هشام بن عمار وأبا عبيد الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَأَبَا الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيَّ وَجَمَاعَةً، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ النَّدِيمِ وَأَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ قَرْقَارَةَ الأزدي. قال ابن عساكر: كان أديبا ظهرت لَهُ كُتُبٌ جِيَادٌ، وَمَدَحَ الْمَأْمُونَ بِمَدَائِحَ، وَجَالَسَ المتوكل، وتوفى أيام المعتمد، وحصل له هوس ووسواس في آخر عمره، وروى عنه ابن عساكر قَالَ قَالَ لِي مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: قُلْ مِنَ الشِّعْرِ مَا يَبْقَى لَكَ ذِكْرُهُ، وَيَزُولُ عَنْكَ إثمه فقلت عند ذلك:
اسْتَعْدِّي يَا نَفْسُ لِلْمَوْتِ وَاسْعَيْ ... لِنَجَاةٍ فَالْحَازِمُ المستعد
إنما أنت مستعيرة وسوف ... تَرُدِّينَ وَالْعَوَارِي تُرَدُّ
أَنْتِ تَسْهَيْنَ وَالْحَوَادِثُ لَا ... تسهو وتلهين والمنايا تعد
أي ملك في الأرض وأي حَظٍّ ... لِامْرِئٍ حَظُّهُ مِنَ الْأَرْضِ لَحْدُ(11/65)
لا ترجى البقاء في معدن الموت ... وَدَارٍ حُتُوفُهَا لَكِ وِرْدُ
كَيْفَ يَهْوَى امْرُؤٌ لذاذة أيام ... أنفاسها عليه فيها تعد
خلافة المعتضد
أمير المؤمنين أبى العباس أحمد بن أحمد الموفق بن جعفر المتوكل، كان من خيار خلفاء بنى العباس ورجالهم. بويع له بالخلافة صبيحة موت المعتمد لعشر بقين من رجب منها وقد كان أمر الخلافة دائرا فأحياه الله على يديه بعد له وشهامته وجرأته، وَاسْتَوْزَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَوَلَّى مَوْلَاهُ بَدْرًا الشُّرْطَةَ فِي بَغْدَادَ، وَجَاءَتْهُ هدايا عمر وبن اللَّيْثِ وَسَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَاللِّوَاءِ فنصبه عمرو فِي دَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَحًا وَسُرُورًا بِذَلِكَ، وَعَزَلَ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَدَخَلَهَا عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَّبِعُ رَافِعًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى قَتَلَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ كَمَا سَيَأْتِي، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَصَفَتْ إِمْرَةُ خُرَاسَانَ لِعَمْرِو. وفيها قدم الحسين بن عبد الله المعروف بالجصاص مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِهَدَايَا عَظِيمَةٍ مِنْ خُمَارَوَيْهِ إلى المعتضد فَتَزَوَّجَ الْمُعْتَضِدُ بِابْنَةِ خُمَارَوَيْهِ فَجَهَّزَهَا أَبُوهَا بِجِهَازٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ في جهازها مائة هاون من ذهب، فَحُمِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى دار الخلافة ببغداد صحبة العروس، وكان وقتا مشهودا. وفيها تَمَلَّكَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ قَلْعَةَ مَارْدِينَ وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لِإِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ وهي آخر حجة حجها بالناس، وقد كان يَحُجُّ بِالنَّاسِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ إلى هذه السنة.
وفيها توفى من الأعيان أحمد أمير المؤمنين المعتمد. وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ. وَأَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ خَيْثَمَةَ صَاحِبُ التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ. سَمِعَ أَبَا نُعَيْمٍ. وَعَفَّانَ وَأَخَذَ عِلْمَ الْحَدِيثِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعِلْمَ النَّسَبِ عَنْ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ، وَأَيَّامَ النَّاسِ عَنْ أبى الحسن على بن محمد المدائني. وعلم الْأَدَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ الْجُمَحِيِّ. وَكَانَ ثقة حافظا ضابطا مشهورا، وفي تاريخه فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ وَفَرَائِدُ غَزِيرَةٌ. رَوَى عَنْهُ الْبَغَوِيُّ وابن صاعد وابن أبى داود بن المنادي. توفى في جمادى الأولى منها عن أربع وتسعين سنة. وَخَاقَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ، كَانَتْ لَهُ أحوال وكرامات.
التِّرْمِذِيُّ
وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ بْنِ سَوْرَةَ بْنِ السَّكَنِ، وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ شداد بن عيسى السلمي الترمذي الضرير، يقال إِنَّهُ وُلِدَ أَكْمَهَ، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ، مِنْهَا الجامع، والشمائل، وأسماء الصَّحَابَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَكِتَابُ الْجَامِعِ أَحَدُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِي(11/66)
سَائِرِ الْآفَاقِ، وَجَهَالَةُ ابْنِ حَزْمٍ لِأَبِي عيسى الترمذي لا تضره حَيْثُ قَالَ فِي مُحَلَّاهُ: وَمَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عيسى ابن سورة؟ فان جهالته لا تَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ وضعت مَنْزِلَةِ ابْنِ حَزْمٍ عِنْدَ الْحُفَّاظِ:
وَكَيْفَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دليل
وقد ذكرنا مشايخ الترمذي في التَّكْمِيلِ. وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ منهم محمد بن إسماعيل البخاري في الصَّحِيحِ، وَالْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ، ومحمد بْنِ مَحْبُوبٍ الْمَحْبُوبِيُّ، رَاوِي الْجَامِعِ عَنْهُ. وَمُحَمَّدُ بن المنذر بن شكر. قَالَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي كِتَابِهِ عُلُومِ الْحَدِيثِ: مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ شَدَّادٍ الْحَافِظُ متفق عليه، له كتاب في السنن وكتاب في الجرح والتعديل، روى عنه أبو محبوب والأجلاء، وهو مشهور بالأمانة والإمامة وَالْعِلْمِ. مَاتَ بَعْدَ الثَّمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. كَذَا قَالَ فِي تَارِيخِ وَفَاتِهِ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْغُنْجَارُ فِي تَارِيخِ بُخَارَى: مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيُّ التِّرْمِذِيُّ الْحَافِظُ، دَخَلَ بُخَارَى وَحَدَّثَ بِهَا، وَهُوَ صاحب الجامع والتاريخ، تُوُفِّيَ بِالتِّرْمِذِ لَيْلَةَ الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. ذكره الحافظ أبو حاتم بن حيان فِي الثِّقَاتِ، فَقَالَ: كَانَ مِمَّنْ جَمَعَ وَصَنَّفَ وَحَفِظَ وَذَاكَرَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَتَبَ عَنِّي الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غيري وغيرك» . وروى ابن يقظة فِي تَقْيِيدِهِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَنَّفْتُ هذا المسند الصحيح وعرضته عَلَى عُلَمَاءِ الْحِجَازِ فَرَضُوا بِهِ، وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ فَرَضُوا بِهِ، وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ، وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي ينطق. وفي رواية يَتَكَلَّمُ. قَالُوا وَجُمْلَةُ الْجَامِعِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَخَمْسُونَ كِتَابًا، وَكِتَابُ الْعِلَلِ صَنَّفَهُ بِسَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ فَرَاغُهُ منه في يوم عيد الأضحى سنة سبعين ومائتين. قال ابن عطية: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيَّ سَمِعْتُ أَبَا إِسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: كتاب الترمذي عندي أنور مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْفَائِدَةِ مِنْهُمَا إِلَّا من هو من أهل المعرفة التامة بهذا الفن، وكتاب الترمذي قَدْ شَرَحَ أَحَادِيثَهُ وَبَيَّنَهَا، فَيَصِلُ إِلَيْهَا كُلُّ أحد من الناس من الفقهاء والمحدثين وغيرهم. قلت: والّذي يظهر من حال الترمذي أَنَّهُ إِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْعَمَى بَعْدَ أَنْ رَحَلَ وَسَمِعَ وَكَتَبَ وَذَاكَرَ وَنَاظَرَ وَصَنَّفَ، ثُمَّ اتفق موته في بلده في رجب منها على الصحيح المشهور والله أعلم.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النبويّة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَتَلَ الْمُعْتَضِدُ رَجُلًا مِنْ أُمَرَاءِ الزَّنْجِ كَانَ قَدْ لَجَأَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ ويعرف بسلمة، ذكر له أنه يَدْعُو إِلَى رَجُلٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ، وَقَدْ أَفْسَدَ جَمَاعَةً، فَاسْتَدْعَى بِهِ فَقَرَّرَهُ فَلَمْ يُقِرَّ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ(11/67)
تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فشد على عمود ثُمَّ لَوَّحَهُ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ جِلْدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَصَلْبِهِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ رَكِبَ الْمُعْتَضِدُ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا عِنْدَ جَبَلٍ يقال له نوباذ. وَكَانَ مَعَ الْمُعْتَضِدِ حَادٍ جَيِّدُ الْحُدَاءِ، فَقَالَ في تلك الليالي يحدو للمعتضد.
فأجهشت للنوباذ حِينَ رَأَيْتُهُ ... وَهَلَّلْتُ لِلّرَّحْمَنِ حِينَ رَآنِي
وَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ الَّذِينَ عَهِدْتَهُمْ ... بِظِلِّكَ فِي أَمْنٍ وَلِينِ زَمَانِي
فَقَالَ مَضَوْا وَاسْتَخْلَفُونِي مَكَانَهُمْ ... وَمَنْ ذا الّذي يبقى على الحدثان
وفيها أَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِتَسْهِيلِ عَقَبَةِ حُلْوَانَ فَغَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَلْقَوْنَ مِنْهَا شدة عظيمة. وفيها أمر بتوسيع جَامِعَ الْمَنْصُورِ بِإِضَافَةِ دَارِ الْمَنْصُورِ إِلَيْهِ، وَغَرِمَ عليه عشرين ألف دينار، وكانت الدار قبلته فَبَنَاهَا مَسْجِدًا عَلَى حِدَةٍ وَفَتَحَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ عَشَرَ بَابًا وَحَوَّلَ الْمِنْبَرَ وَالْمِحْرَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِيَكُونَ فِي قِبْلَةِ الْجَامِعِ عَلَى عَادَتِهِ. قَالَ الخطيب: وزاد بدر مولى المعتضد السقفان من قصر المنصور المعروفة بالبدرية.
ذكر بناء دار الخلافة من بغداد في هذا الوقت
أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا الْمُعْتَضِدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وهو أَوَّلَ مَنْ سَكَنَهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى آخَرِ دَوْلَتِهِمْ، وَكَانَتْ أَوَّلًا دَارًا لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ تُعْرَفُ بِالْقَصْرِ الْحَسَنِيِّ، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لابنته بوران زوجة المأمون، فعمرتها حَتَّى اسْتَنْزَلَهَا الْمُعْتَضِدُ عَنْهَا فَأَجَابَتْهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَصْلَحَتْ مَا وَهَى مِنْهَا وَرَمَّمَتْ مَا كان قد تشعث فيها، وفرشتها بأنواع الفرش فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ من المفارش، وأسكنته مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْخَدَمِ، وَأَعَدَّتْ بِهَا الْمَآكِلَ الشَّهِيَّةَ وَمَا يَحْسُنُ ادِّخَارُهُ فِي ذلك الزمان، ثم أرسلت مفاتيحها إلى المعتضد، فلما دخلها هاله ما رأى مِنَ الْخَيْرَاتِ، ثُمَّ وَسَّعَهَا وَزَادَ فِيهَا وَجَعَلَ لَهَا سُورًا حَوْلَهَا، وَكَانَتْ قَدْرَ مَدِينَةِ شِيرَازَ، وبنى الميدان ثم بنى فيها قصرا مشرفا على دجلة، ثم بنى فيها المكتفي التاج، فلما كان أيام المقتدر زاد فيها زيادات أخر كبارا كثيرة جدا، ثم بعد هذا كله خربت حتى كأن لم يكن موضعها عمارة، وتأخرت آثارها إلى أيام التتار الذين خربوها وخربوا بَغْدَادَ وَسَبَوْا مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْحَرَائِرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِي يُشْبِهُ أن بوران وهبت دارها للمعتمد لا للمعتضد، فإنها لم تعش إلى أيامه، وقد تقدمت وفاتها.
وَفِيهَا زُلْزِلَتْ أَرْدَبِيلُ سِتَّ مَرَّاتٍ فَتَهَدَّمَتْ دُورُهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا مِائَةُ دَارٍ، وَمَاتَ تَحْتَ الردم مائة ألف وخمسون ألفا [ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا غَارَتِ الْمِيَاهُ بِبِلَادِ الرَّيِّ وَطَبَرِسْتَانَ حَتَّى بِيعَ(11/68)
الْمَاءُ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ هُنَالِكَ جَدَّا] [1] وَفِيهَا غَزَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الساماني ببلاد الترك ففتح مدينة ملكهم وأسر امرأته الخالون وَأَبَاهُ وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، أَصَابَ الفارس ألف درهم. وفيها حج بالناس أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ العباسي.
وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن سيار بن أيوب الفقيه الشافعيّ المشهور بالعبادة والزهادة.
وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ مُوسَى بْنِ عِيسَى أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْحَنَفِيَّةِ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ وَهُوَ أُسْتَاذُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وَكَانَ ضَرِيرًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَغَيْرِهِ، وَقَدِمَ مِصْرَ فَحَدَّثَ بِهَا مِنْ حَفِظِهِ، وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ يونس في تاريخ مصر.
وأحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر
الْقَاضِي بِوَاسِطَ، صَاحِبُ الْمُسْنَدِ، رَوَى عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ وَخَلْقٍ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبَتًا تَفَقَّهَ بِأَبِي سُلَيْمَانَ الْجَوْزَجَانِيِّ صَاحِبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَدْ حَكَمَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَزِّ، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْمُوَفَّقِ طَلَبَ مِنْهُ وَمِنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي أَنْ يُعْطِيَاهُ مَا بِأَيْدِيِهِمَا مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى الْمَوْقُوفَةِ فَبَادَرَ إِلَى ذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَاسْتَنْظَرَهُ إِلَى ذَلِكَ أَبُو العباس البرقي هَذَا، ثُمَّ بَادَرَ إِلَى كُلِّ مَنْ أَنِسَ مِنْهُ رُشْدًا مِنَ الْيَتَامَى فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ، فَلَمَّا طُولِبَ بِهِ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ، دَفَعْتُهُ إِلَى أَهْلِهِ، فَعُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَتَعَبَّدَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ وَصَافَحَهُ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ عَمِلَ بِسُنَّتِي وأثرى.
وفيها توفى جعفر بن المعتضد، وَكَانَ يُسَامِرُ أَبَاهُ. وَرَاشِدٌ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِمَدِينَةِ الدِّينَوَرِ فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ. وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ مُصَنِّفُ الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَا ابْتَدَعَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ. وَمَسْرُورٌ الْخَادِمُ وَكَانَ مِنْ أكابر الأمراء. ومحمد بن إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْحَسَنَةِ فِي رَمَضَانَ منها، قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ، وَشَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ. وَهِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمُحَدِّثُ الْمَشْهُورُ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ حديثه طرف.
وسيبويه أستاذ النحاة
وقيل إنه توفى في سنة سبع وسبعين، وقيل ثمان وثمانين، وقيل إحدى وستين، وقيل أربع وسبعين ومائة فاللَّه أعلم.
[وهو أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر مَوْلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَقِيلَ: مَوْلَى الربيع بن زياد
__________
[1] زيادة من المصرية ومن نسخة أخرى بالأستانة.(11/69)
الحارثي البصري. ولقب سيبويه لجماله وحمرة وجنتيه حتى كانتا كالتفاحتين. وسيبويه في لغة فارس رائحة التفاح. وهو الامام العلامة العلم، شيخ النحاة من لدن زمانه إلى زماننا هذا، والناس عيال على كتابه المشهور في هذا الفن. وقد شرح بشروح كثيرة وقل من يحيط علما به.
أخذ سيبويه العلم عن الخليل بن أحمد ولازمه، وكان إذا قدم يقول الخليل: مرحبا بزائر لا يمل.
وأخذ أيضا عن عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب وأبى زيد الأنصاري، وأبى الخطاب الأخفش الكبير وغيرهم، وقدم من البصرة إلى بغداد أيام كان الكسائي يؤدب الأمين بن الرشيد، فجمع بينهما فتناظرا في شيء من مسائل النحو فانتهى الكلام إلى أن قال الكسائي: تقول العرب: كنت أظن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو إياها. فقال سيبويه: بيني وبين أعرابى لم يشبه شيء من الناس المولد، وكان الأمين يحب نصرة أستاذه فسأل رجلا من الأعراب فنطق بما قال سيبويه.
فكره الأمين ذلك وقال له: إن الكسائي يقول خلافك. فقال. إن لساني لا يطاوعني على ما يقول فقال: أحب أن تحضر وأن تصوب كلام الكسائي، فطاوعه على ذلك وانفصل المجلس عن قول الأعرابي إذا الكسائي أصاب. فحمل سيبويه على نفسه وعرف أنهم تعصبوا عليه ورحل عن بغداد فمات ببلاد شيراز في قرية يقال لها البيضاء، وقيل إنه ولد بهذه وتوفى بمدينة سارة في هذه السنة، وقيل سنة سبع وسبعين، وقيل ثمان وثمانين، وقيل إحدى وتسعين وقيل أربع وتسعين ومائة فاللَّه أعلم، وقد ينف على الأربعين، وقيل بل إنما عمر ثنتين وثلاثين سنة فاللَّه أعلم. قرأ بعضهم على قبره هذا الأبيات:
ذهب الأحبة بعد طول تزاور ... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضى القضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا
] [1]
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دخل المسلمون بلاد الروم فغنموا وسلموا. وَفِيهَا تَكَامَلَ غَوْرُ الْمِيَاهِ بِبِلَادِ الرَّيِّ وَطَبَرِسْتَانَ.
وفيها غلت الأسعار جدا وجهد الناس حَتَّى أَكَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ ابنه وابنته ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا حَاصَرَ الْمُعْتَضِدُ قَلْعَةَ مَارْدِينَ وَكَانَتْ بِيَدِ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ فَفَتَحَهَا قَسْرًا وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِتَخْرِيبِهَا فَهُدِّمَتْ. وَفِيهَا وَصَلَتْ قَطْرُ النَّدَى بنت خمارويه سلطان الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ ومعها من الجهاز شيء كثير حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي الْجِهَازِ مِائَةُ هَاوُنٍ مِنْ ذَهَبٍ غَيْرَ الْفِضَّةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْقُمَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يحصى. ثم بعد كل حساب أرسل معها
__________
[1] زيادة من المصرية.(11/70)
أبوها ألف دينار وخمسين أَلْفِ دِينَارٍ لِتَشْتَرِيَ بِهَا مِنَ الْعِرَاقِ مَا قد تحتاج إليه مما ليس بمصر مثله. وَفِيهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ وَوَلَّى ولده عليا المكتفي نيابة الري وقزوين وأذربيجان وهمدان وَالدِّينَوَرِ، وَجَعَلَ عَلَى كِتَابَتِهِ أَحْمَدَ بْنَ الْأَصْبَغِ، وَوَلَّى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ نِيَابَةَ أَصْبَهَانَ وَنَهَاوَنْدَ وَالْكَرْخِ، ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَصَابَ الْحُجَّاجَ فِي الْأَجْفُرِ مَطَرٌ عَظِيمٌ فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، كَانَ الرَّجُلُ يَغْرَقُ فِي الرَّمْلِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى خلاصه منه.
وفيها توفى من الأعيان
إبراهيم بن الحسن بْنِ دِيزِيلَ الْحَافِظُ صَاحِبُ كِتَابِ الْمُصَنَّفَاتِ، مِنْهَا في وقعة صِفِّينَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ. وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّائِيُّ بِالْكُوفَةِ فِي جُمَادَى مِنْهَا
وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
المعروف بابن الجيلي سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَ يوصف بالفهم والحفظ.
وفيها توفى أبو بكر عبد الله بن أَبِي الدُّنْيَا الْقُرَشِيُّ
مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ سفيان بن قيس أبو بكر بن أبى الدنيا الحافظ المصنف في كل فن، المشهور بالتصانيف الكثيرة النافعة الشائعة الذائعة في الرقاق وغيرها، وهي تزيد على مائة مصنف، وقيل إنها نحو الثلاثمائة مصنف، وقيل أكثر وقيل أقل، سمع ابن أبى الدنيا إبراهيم ابن المنذر الخزامي، وَخَالِدَ بْنَ خِرَاشٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ وَخَلْقًا، وكان مؤدب المعتضد وعلى بن المعتضد الملقب بالمكتفى باللَّه، وكان له عليه كل يوم خمسة عشر دينارا، وكان صدوقا حافظا ذا مروءة، لكن قال فيه صالح بن محمد حزرة: إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَرْوِي عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ وَكَانَ هَذَا الرجل كذابا يضع للأعلام إسنادا، وللكلام إِسْنَادًا، وَيَرْوِي أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً. وَمِنْ شِعْرِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ جَلَسَ أَصْحَابٌ لَهُ يَنْتَظِرُونَهُ ليخرج إليهم، فجاء المطر فحال بينه. فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رُقْعَةً فِيهَا:
أَنَا مُشْتَاقٌ إِلَى رؤيتكم ... يا أخلاى وَسَمْعِي وَالْبَصَرْ
كَيْفَ أَنْسَاكُمْ وَقَلْبِي عِنْدَكُمْ ... حَالَ فِيمَا بَيْنَنَا هَذَا الْمَطَرْ
تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ يوسف بن يعقوب القاضي وَدُفِنَ بِالشُّونِيزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عمرو أبو زرعة البصري الدمشقيّ الحافظ الكبير المشهور بابن الْمَوَّازِ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، لَهُ اخْتِيَارَاتٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي خَامِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ دَخَلَ المعتضد بزوجته قطر الندى ابنة خمارويه، قدمت(11/71)
بَغْدَادَ صُحْبَةَ عَمِّهَا وَصُحْبَةَ ابْنِ الْجَصَّاصِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ غَائِبًا وَكَانَ دُخُولُهَا إِلَيْهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، امتنع الناس من المرور في الطرقات من كثرة الخلق. وَفِيهَا نَهَى الْمُعْتَضِدُ النَّاسَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي يَوْمِ النَّيرُوزِ مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ إِيقَادِ النِّيرَانِ وَصَبِّ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشَابِهَةِ لِأَفْعَالِ الْمَجُوسِ، وَمَنَعَ مِنْ حَمْلِ هَدَايَا الفلاحين إلى المنقطعين فِي هَذَا الْيَوْمِ وَأَمَرَ بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ إِلَى الْحَادِي عَشَرَ مِنْ حَزِيرَانَ وَسُمِّيَ النَّيرُوزَ الْمُعْتَضِدِيَّ، وكتب بذلك إلى الآفاق. وفيها في ذي الحجة قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَاذَرَائِيُّ مِنْ دِمَشْقَ على البريد فأخبر الخليفة بأن خمارويه وثبت عليه خدامه فذبحته على فراشه وولوا بعده ولده حنش ثُمَّ قَتَلُوهُ وَنَهَبُوا دَارَهُ ثُمَّ وَلَّوْا هَارُونَ بْنَ خُمَارَوَيْهِ، وَقَدِ الْتَزَمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ أن يحمل إلى الخليفة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، فَأَقَرَّهُ الْمُعْتَضِدُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْمُكْتَفِي عَزَلَهُ وَوَلَّى مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْوَاثِقِيَّ فاصطفى أموال الطولونيين، وكان ذلك آخر العهد منهم. وفيها أطلق لؤلؤ غلام أحمد بن طولون من الحبس فعاد إلى مصر في أذل حال بعد أن كان من أكثر الناس مالا وعزا وجاها. وفيها حج بالناس الأمير المتقدم ذكره.
وفيها تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو حنيفة الدينَوَريّ اللغوي صاحب كتاب النبات.
وإسماعيل بن إسحاق
ابن إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْأَزْدِيُّ الْقَاضِي، أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ وَسَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَالْقَعْنَبِيَّ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ، وَكَانَ حَافِظًا فَقِيهًا مَالِكِيًّا جَمَعَ وَصَنَّفَ وَشَرَحَ فِي الْمَذْهَبِ عِدَّةَ مُصَنَّفَاتٍ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وغير ذلك، وَلِيَ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ بَعْدَ سَوَّارِ بن عبد الله، ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ وَلِيَ وَصَارَ مُقَدَّمَ الْقُضَاةِ. كانت وفاته فجأة لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ منها، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ. الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ الْمَشْهُورِ.
خُمَارَوَيْهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ
صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ أَبِيهِ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وقد تقاتل هو والمعتضد بن الموفق في حياة أبيه الموفق فِي أَرْضِ الرَّمْلَةِ، وَقِيلَ فِي أَرْضِ الصَّعِيدِ. وقد تقدم ذلك في موضعه، ثم بعد ذلك لما آلت الخلافة إلى المعتضد تزوج بابنة خمارويه وتصافيا، فَلَمَّا كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السنة عدا أحد الخدام من الخصيان على خمارويه فذبحه وهو على فراشه، وذلك أن خمارويه اتهمه بجارية له. مات عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هَارُونُ بْنُ خُمَارَوَيْهِ، وَهُوَ آخِرُ الطولونية.
وذكر ابن الأثير أن عثمان بن سعيد بن خالد أبو سعيد الدارميّ توفى في هذه السنة، وكان شافعيا(11/72)
أخذ الفقه عن البويطي صاحب الشافعيّ فاللَّه أعلم. وقد قدمنا وفاة الفضل بن يحيى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ مُوسَى بْنِ زهير بن يزيد بن كيسان بن بادام ملك اليمن، أسلم بادام فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ
الْأَدِيبُ الْفَقِيهُ الْعَابِدُ الْحَافِظُ الرحال تلميذ يحيى بْنِ مَعِينٍ، رَوَى عَنْهُ الْفَوَائِدَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَقَرَأَ عَلَى خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْبَزَّارِ وَتَعَلَّمَ اللُّغَةَ مِنِ ابن الأعرابي، وكان ثقة كبيرا.
مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ خَلِّادٍ أَبُو الْعَيْنَاءِ الْبَصْرِيُّ الضَّرِيرُ الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ الْبَلِيغُ اللُّغَوِيُّ تِلْمِيذُ الأصمعي، كنيته أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِأَبِي الْعَيْنَاءِ لأنه سئل عن تصغير عيناء فقال عييناه، له معرفة تامة بالأدب والحكايات والملح. أما الحديث فليس منه إلا القليل
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بِلَادَ الْمَوْصِلِ لِقِتَالِ هَارُونَ الشَّارِي الْخَارِجِيِّ فَظَفِرَ بِهِ وَهُزِمَ أَصْحَابُهُ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ أَمَرَ بِصَلْبِ هارون الشاري وَكَانَ صُفْرِيًّا. فَلَمَّا صُلِبَ قَالَ: لَا حُكْمَ إلا للَّه ولو كره المشركون. وقد قاتل الحسن بن حمدان الْخَوَارِجَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قِتَالًا شَدِيدًا مَعَ الْخَلِيفَةِ، فَأَطْلَقَ الْخَلِيفَةُ أَبَاهُ حَمْدَانَ بْنَ حَمْدُونَ من القيود بعد ما كان قد سجنه حينا من وقت أخذ قلعة ماردين، فَأَطْلَقَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَفِيهَا كَتَبَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى الْآفَاقِ بِرَدِّ مَا فَضُلَ عَنْ سِهَامِ ذَوِي الْفَرْضِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ إلى ذوى الأرحام وذلك بفتيا أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي. وَقَدْ قَالَ فِي فُتْيَاهُ، إِنَّ هَذَا اتِّفَاقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بَرَدِّ مَا فَضُلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَوَافَقَ عَلِيُّ ذلك على بن محمد بن أبى الشوارب أبى حازم، وخالفهما القاضي يوسف بن يعقوب، وذهب إلى قول زيد فلم يلتفت إليه المعتضد ولا عدّ قوله شيئا، وَأَمْضَى فُتْيَا أَبِي حَازِمٍ، وَمَعَ هَذَا وَلَّى القضاء يوسف بن يعقوب في الجانب الشرقي، وخلع عليه خلعة سنية، وقلد أبا حازم قضاء أماكن كثيرة وذلك لموافقته ابن أَبِي الشَّوَارِبِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعًا سَنِيَّةً أَيْضًا. وَفِيهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فَاسْتُنْقِذَ من أيديهم ألفا أسير وخمسمائة وأربعة أنفس. وَفِيهَا حَاصَرَتِ الصَّقَالِبَةُ الرُّومَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَاسْتَعَانَ مَلِكُ الرُّومِ بِمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَأَعْطَاهُمْ سِلَاحًا كَثِيرًا فَخَرَجُوا مَعَهُمْ فَهَزَمُوا الصَّقَالِبَةَ، ثم خاف ملك الروم من غائلة أولئك الْمُسْلِمِينَ فَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ. وَفِيهَا خَرَجَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ مِنْ نَيْسَابُورَ لِبَعْضِ أَشْغَالِهِ فَخَلَفَهُ فِيهَا رَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ وَدَعَا عَلَى مَنَابِرِهَا لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْمُطَّلِبِيِّ وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَمْرٌو وَحَاصَرَهُ فِيهَا، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا وَقَتَلَهُ عَلَى بَابِهَا. وفيها بعث الخليفة وَزِيرَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ(11/73)
لِقِتَالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُ عُمَرُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَتَلَقَّاهُ الأمراء وخلع عليه الخليفة وأحسن إليه.
وفيها توفى من الأعيان إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ السَّرَّاجُ النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْخُلُ إِلَى مَنْزِلِهِ- وكان بقطيعة الربيع في الجانب الغربي- وَيَنْبَسِطُ فِيهِ وَيُفْطِرُ عِنْدَهُ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ العباد العلماء، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا. إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن محمد بن حازم أبو القاسم الجيلي، وَلَيْسَ هُوَ بِالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي السِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ. سَمِعَ دَاوُدَ بْنَ عَمْرٍو وَعَلِيَّ بْنَ الجعد وخلقا كثيرا. وقد ليّنه الدار قطنى فقال ليس بالقوى. توفى عن نحو من ثَمَانِينَ سَنَةً. سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ التُّسْتَرِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، لقي ذا النون المصري. ومن كلامه الْحَسَنِ قَوْلُهُ: أَمْسِ قَدْ مَاتَ وَالْيَوْمُ فِي النَّزْعِ وَغَدٌ لَمْ يُولَدْ. وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
مَا مَضَى فَاتَ وَالْمُؤَمَّلُ غَيْبٌ ... وَلَكَ السَّاعَةُ التي أنت فيها
وقد تخرج سهل شيخا له محمد بن سوار، وقيل إن سهلا قد توفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين فاللَّه أعلم.
وفيها توفى
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ خراش وأبو مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ الْمَرْوَزِيُّ أَحَدُ الْجَوَّالِينَ الرَّحَّالِينَ حُفَّاظِ الحديث والمتكلمين في الجرح والتعديل، وقد كان ينبذ بِشَيْءٍ مِنَ التَّشَيُّعِ فاللَّه أَعْلَمُ.
رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: شَرِبْتُ بَوْلِي فِي هَذَا الشَّأْنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ- يَعْنِي أَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى ذلك في أسفاره في الحديث من العطش- عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ. عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ الْبَصْرِيُّ قَاضِي سَامَرَّا. وَقَدْ وَلِيَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَكَانَ مِنَ الثقات، سمع أبا الوليد وأبا عمرو الْحَوْضِيَّ وَعَنْهُ النَّجَّادُ وَابْنُ صَاعِدٍ وَابْنُ قَانِعٍ، وَحَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا.
ابْنُ الرُّومِيِّ الشَّاعِرُ
صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِي الشِّعْرِ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ جُرَيْجٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرُّومِيِّ وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وكان شاعرا مشهورا مطيقا فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا مَدَحْتَ الْبَاخِلِينَ فَإِنَّمَا ... تُذَكِّرُهُمْ مَا فِي سِوَاهُمْ مِنَ الْفَضْلِ
وَتُهْدِي لَهُمْ غَمًّا طَوِيلًا وَحَسْرَةً ... فَإِنْ مَنَعُوا منك النوال فبالعدل
وقال
إِذَا مَا كَسَاكَ الدَّهْرُ سِرْبَالَ صِحَّةٍ ... وَلَمْ تَخْلُ مِنْ قُوتٍ يَلَذُّ وَيَعْذُبُ
فَلَا تَغْبِطَنَّ الْمُتْرَفِينَ فَإِنَّهُ ... عَلَى قَدْرِ مَا يَكْسُوهُمُ الدَّهْرُ يَسْلُبُ
وَقَالَ أَيْضًا
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ ... فَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحَابِ
فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ ... يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
إِذَا انْقَلَبَ الصَّدِيقُ غَدًا عَدُوًّا ... مُبِينًا وَالْأُمُورُ إلى انقلاب(11/74)
وَلَوْ كَانَ الْكَثِيرُ يَطِيبُ كَانَتْ ... مُصَاحَبَةُ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّوَابِ
وَلَكِنْ قَلَّ مَا اسْتَكْثَرْتَ إِلَّا ... وَقَعْتَ عَلَى ذِئَابٍ فِي ثِيَابِ
فَدَعْ عَنْكَ الْكَثِيرَ فَكَمْ كَثِيرٍ ... يُعَافُ وَكَمْ قَلِيلٍ مُسْتَطَابِ
وما اللجج العظام بمزريات ... وَيَكْفِي الرِّيُّ فِي النُّطَفِ الْعِذَابِ
وَقَالَ أَيْضًا
وما لحسب الموروث إلا دردره ... بِمُحْتَسَبٍ إِلَّا بِآخَرَ مُكَتَسَبْ
فَلَا تَتَّكِلْ إِلَّا عَلَى مَا فَعَلْتَهُ ... وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ يُورَثُ كالنسب
فليس يسود المرء إلا بفعله ... وَإِنَّ عَدَّ آبَاءً كِرَامًا ذَوِي حَسَبْ
إِذَا العود لم يثمر وان كان أصله ... مِنَ الْمُثْمِرَاتِ اعْتَدَّهُ النَّاسُ فِي الْحَطَبْ
وَلِلْمَجْدِ قوم شيّدوه بأنفس ... كرام ولم يعنوا بأمّ ولا أب
وقال أيضا وهو من لَطِيفِ شِعْرِهِ:
قَلْبِي مِنَ الطَّرْفِ السَّقِيمِ سَقِيمُ ... لَوْ أَنَّ مَنْ أَشْكُو إِلَيْهِ رَحِيمُ
فِي وجهها أبدا نهار واضح ... من شعرها عليه ليل بَهِيمُ
إِنْ أَقْبَلَتْ فَالْبَدْرُ لَاحَ وَإِنْ ... مَشَتْ فَالْغُصْنُ رَاحَ وَإِنْ رَنَتْ فَالرِّيمُ
نَعِمَتْ بِهَا عَيْنِي فَطَالَ عَذَابُهَا ... وَلَكَمْ عَذَابٌ قَدْ جَنَاهُ نَعِيمُ
نَظَرَتْ فَأَقَصَدَتِ الْفُؤَادَ بِسَهْمِهَا ... ثُمَّ انْثَنَتْ نَحْوِي فَكِدْتُ أَهِيمُ
وَيْلَاهُ إِنْ نَظَرَتْ وَإِنْ هي أعرضت ... وقع السهام ووقعهن أَلِيمُ
يَا مُسْتَحِلَّ دَمِي مُحَرِّمَ رَحْمَتِي ... مَا أنصف التحليل والتحريم
وله أيضا وكان يزعم أنه ما سبق إِلَيْهِ:
آرَاؤُكُمْ وَوَجُوهُكُمْ وَسُيُوفُكُمْ ... فِي الْحَادِثَاتِ إِذَا زجرن نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلوا الدُّجَى وَالْأُخْرَيَاتُ رُجُومُ
وَذَكَرَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ إحدى وعشرين وَمِائَتَيْنِ. وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَقِيلَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ ومائتين، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ وَفَاتِهِ أَنَّ وَزِيرَ الْمُعْتَضِدِ القاسم بن عبد اللَّهِ كَانَ يَخَافُ مَنْ هَجْوِهِ وَلِسَانِهِ فَدَسَّ عليه من أطعمه وهو بحضرته خشتنانكة مسمومة، فلما أحس السم قَامَ فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَعَثْتَنِي إِلَيْهِ. قَالَ: سَلِّمْ عَلَى وَالِدِي. فَقَالَ: لَسْتُ أَجْتَازُ عَلَى النَّارِ.
ومحمد بن سليمان بن الحرب أَبُو بَكْرٍ الْبَاغَنْدِيُّ الْوَاسِطِيُّ، كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ، وكان أبو داود يَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ، وَمَعَ هَذَا تَكَلَّمُوا فِيهِ وَضَعَّفُوهُ. مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ أَبُو جعفر الضبيّ المعروف بتنهام(11/75)
سمع سفيان وَقَبِيصَةَ وَالْقَعْنَبِيَّ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرُبَّمَا أَخْطَأَ. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً
الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ
صَاحِبُ الدِّيوَانِ الْمَشْهُورِ، اسْمُهُ الوليد بن عبادة، ويقال ابن عبيد بن يحيى أبو عباد الطَّائِيُّ الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ، أَصْلُهُ مِنَ مَنْبِجَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَمَدَحَ الْمُتَوَكِّلَ وَالرُّؤَسَاءَ، وَكَانَ شِعْرُهُ فِي الْمَدْحِ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْمَرَاثِي فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْمَدِيحُ لِلرَّجَاءِ وَالْمَرَاثِي لِلْوَفَاءِ وَبَيْنَهُمَا بُعْدٌ. وَقَدْ رَوَى شِعْرَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ وَابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّكَ أَشْعَرُ مِنْ أَبِي تَمَّامٍ. فَقَالَ: لَوْلَا أَبُو تَمَّامٍ مَا أَكَلْتُ الْخُبْزَ، كَانَ أَبُو تمام أستاذنا. وقد كان البحتري شاعرا مطيقا فَصِيحًا بَلِيغًا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا عن ثمانين سنة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ رَأَسُ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِنَصْبِهِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى اللَّيْلِ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا خَلَعَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بِالْقَضَاءِ بِمَدِينَةِ أبى جعفر الْمَنْصُورِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ بَعْدَ موته بخمسة أشهر وأيام، وقد كانت شاغرة تلك المدة. وفي ربيع الآخر منها ظَهَرَتْ بِمِصْرَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ وَحُمْرَةٌ فِي الْأُفُقِ حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ صَاحِبِهِ فَيَرَاهُ أَحْمَرَ اللَّوْنِ جَدًّا، وَكَذَلِكَ الْجُدْرَانُ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُونَ حَتَّى كَشَفَ عنهم. وفيها عَزَمَ الْمُعْتَضِدُ عَلَى لَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سفيان على المنابر فحذّره ذلك وزيره عبد الله بن وهب، وقال له: إن العامة تنكر قلوبهم ذلك وهم يترحمون عليه ويترضون عنه في أسواقهم وجوامعهم، فلم يلتفت إليه بل أمر بذلك وأمضاه وكتب به نسخا إلى الخطباء بِلَعْنِ مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ فِيهَا ذَمَّهُ وَذَمَّ ابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وأورد فيها أحاديث باطلة في زم مُعَاوِيَةَ وَقُرِئَتْ فِي الْجَانِبَيْنِ مِنْ بَغْدَادَ، وَنُهِيَتِ الْعَامَّةُ عَنِ التَّرَحُّمِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَالتَّرَضِّي عَنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْوَزِيرُ حَتَّى قَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَذَا الصنيع لم يسبقك أحد من الخلفاء إليه، وهو مِمَّا يُرَغِّبُ الْعَامَّةَ فِي الطَّالِبِيِّينَ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ إليهم، فوجم المعتضد عند ذلك لذلك تخوفا عَلَى الْمُلْكِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الوزير كان ناصبيا يكفر عليا فكان هذا من هفوات المعتضد.
وفيها نودي في البلاد لا يجتمع العامة على قاص وَلَا مُنَجِّمٍ وَلَا جَدَلِيٍّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وأمرهم أن لَا يَهْتَمُّوا لِأَمْرِ النَّوْرُوزِ، ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ النوروز فكانوا يصبون المياه على المراة وتوسعوا فِي ذَلِكَ وَغَلَوْا فِيهِ حَتَّى جَعَلُوا يَصُبُّونَ الماء على الجند والشرط وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ هَفَوَاتِهِ. قَالَ ابْنُ الجوزي: وفيها وَعَدَ الْمُنَجِّمُونَ النَّاسَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَقَالِيمِ سَتَغْرَقُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ(11/76)
والسيول وزيادة الأنهار، وأجمعوا على هذا الأمر فأخذ الناس كهوفا في الجبال خوفا من ذلك، فأكذب الله تعالى المنجمين في قولهم فلم يكن عام أقل مطرا منه، وقلّت العيون جدا وقحط النَّاسُ فِي كُلِّ بُقْعَةٍ حَتَّى اسْتَسْقَى النَّاسُ ببغداد وغيرها من البلاد مرارا كثيرة. قال: وفيها كان يتبدى في دار الخلافة شخص بيده سيف مسلول في الليل فإذا أرادوا أخذه انهزم فَدَخَلَ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ وَالْعَطَفَاتِ الَّتِي بِدَارِ الْخِلَافَةِ فَلَا يُطَّلَعُ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، فَقَلِقَ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْتَضِدُ قَلَقًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ سُورِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَالِاحْتِفَاظِ بِهِ، وَأَمَرَ الْحَرَسَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِشِدَّةِ الِاحْتِرَاسِ فلم يفد ذلك شيئا، ثم استدعى بالمغرمين ومن يعاني علم السحر وأمر المنجمين فَعَزَّمُوا وَاجْتَهَدُوا فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَعْيَاهُمْ أمره، فلما كان بعد مدة اطلع على جلية الأمر وحقيقة الخبر فوجده خَادِمًا خَصِيًّا مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ يَتَعَشَّقُ بَعْضَ الجواري من حظايا المعتضد التي لا يصل إليها مثله ولا النظر إليها من بعيد، فاتخذ لحا مختلفة الألوان يلبس كل ليلة واحدة، واتخذ لباسا مزعجا فكان يلبس ذلك ويتبدى في الليل في شكل مزعج فيفزع الجواري وينزعجن وكذلك الخدم فيثورون إليه من كل جانب فإذا قصدوه دخل في بعض العطفات ثم يلقى ما عليه أو يجعله في كمه أو في مكان قد أعده لذلك. ثُمَّ يُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَدَمِ الْمُتَطَلِّبِينَ لِكَشْفِ هَذَا الْأَمْرِ، وَيَسْأَلُ هَذَا وَهَذَا مَا الخبر؟ والسيف في يده صفة من يرى أنه قد رهب من هذا الأمر، وإذا اجتمع الحظايا تمكن من النظر إلى تلك المعشوقة ولاحظها وأشار إليها بما يريده منها وأشارت إليه، فلم يزل هذا دأبه إلى زمن المقتدر فبعثه فِي سَرِيَّةٍ إِلَى طَرَسُوسَ فَنَمَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الجارية وانكشف أمره وحاله وأهلكه الله.
وفيها اضطرب الجيش المصري على هارون بن خمارويه فأقاموا له بعض أمراء أبيه يدير الْأُمُورَ وَيُصْلِحُ الْأَحْوَالَ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أبان، فبعث إلى دمشق- وكانت قد منعت البيعة تِسْعَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ أَبِيهِ، وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهَا- فَبَعَثَ إليهم جيشا كثيفا مع بدر الحمامي والحسن بْنِ أَحْمَدَ الْمَاذَرَائِيِّ فَأَصْلَحَا أَمْرَهَا وَاسْتَعْمَلَا عَلَى نيابتها طفح بن خف وَرَجَعَا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْأُمُورُ مُخْتَلِفَةٌ جِدًّا.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَمْرٍو المستملي
الزاهد النيسابورىّ يلقب بحكمويه الْعَابِدِ، سَمِعَ قُتَيْبَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرَهُمْ، وَاسْتَمْلَى عَلَى الْمَشَايِخِ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ فَقِيرًا رَثَّ الْهَيْئَةِ زَاهِدًا، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ التَّذْكِيرَ، فَبَكَى أَبُو عُثْمَانَ وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنَّمَا أَبْكَانِي رَثَاثَةُ ثِيَابِ رَجُلٍ كَبِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَا أُجِلُّهُ عَنْ أَنْ أُسَمِّيَهُ فِي هذا المجلس، فجعل الناس يلقون الخواتم وَالثِّيَابَ وَالدَّرَاهِمَ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ أَبِي عُثْمَانَ، فَنَهَضَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الْمُسْتَمْلِي فَقَالَ:(11/77)
أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا الَّذِي قَصَدَنِي الشَّيْخُ بِكَلَامِهِ، وَلَوْلَا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ يُتَّهَمَ بِإِثْمٍ لَسَتَرْتُ مَا سَتَرَهُ. فَتَعَجَّبَ الشَّيْخُ مِنْ إِخْلَاصِهِ ثُمَّ أَخَذَ أَبُو عَمْرٍو ذَلِكَ الْمُجْتَمِعَ مِنَ الْمَالِ فَمَا خَرَجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَصَدَّقَ بجميعه على الفقراء والمحاويج. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ
ابْنِ مَيْمُونِ بْنِ سَعْدٍ أَبُو يَعْقُوبَ الْحَرْبِيُّ، سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَغَيْرَهُمَا. وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ نُودِيَ لَهُ بِالْبَلَدِ فَقَصَدَ النَّاسُ دَارَهُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَاعْتَقَدَ بَعْضُ الْعَامَّةِ أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فَجَعَلُوا يَقْصِدُونَ داره فيقول إبراهيم: ليس إلى هذا الموضع قصدكم، وعن قريب تأتونه، فما عمر بعده إلا دون السنة.
إسحاق بن محمد بن يعقوب الزهري عُمِّرَ تِسْعِينَ سَنَةً وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا. إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الْفَقِيهُ أَبُو يَعْقُوبَ الأسفراييني الشافعيّ. عبد اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيُّ، كَانَتْ إِلَيْهِ الْحِسْبَةُ بِبَغْدَادَ وَإِمَامَةُ جَامِعِ الرُّصَافَةِ. عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُعَاوِيَةَ العتابى من ولد عتاب ابن أَسِيدٍ بِصْرِيٌ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ عَنْ أَزْهَرَ السَّمَّانِ وَأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ. يَزِيدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بن طهمان أبو خالد الدقاق ويعرف بالباد. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْبَادِي لِأَنَّهُ وُلِدَ تَوْأَمًا وَكَانَ هُوَ الْأَوَّلَ فِي الْمِيلَادِ. رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ وكان ثقة صالحا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وثب صالح بن مدرك الطائي على الحجاج بالأجفر فأخذ أموالهم ونساءهم، يقال: إنه أخذ منهم ما قيمته ألف أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا يَوْمَ الْأَحَدِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْهُ ارْتَفَعَتْ بِنَوَاحِي الْكُوفَةِ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا ثُمَّ سَقَطَتْ أَمْطَارٌ بِرُعُودٍ وَبُرُوقٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَسَقَطَ فِي بَعْضِ الْقُرَى مَعَ الْمَطَرِ حِجَارَةٌ بِيضٌ، وَسُودٌ، وَسَقَطَ بَرَدٌ كِبَارٌ وَزْنُ الْبَرَدَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَاقْتَلَعَتِ الرِّيَاحُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ مما حول دجلة، وزادت دجلة زيادة كثيرة حَتَّى خِيفَ عَلَى بَغْدَادَ مِنَ الْغَرَقِ. وَفِيهَا غَزَا رَاغِبٌ الْخَادِمُ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً وَأَسَرَ ذَرَارِيَّ كَثِيرَةً جِدًّا، وقتل من أسارى الرجال الذين معه ثلاثة آلاف أسير، ثُمَّ عَادَ سَالِمًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا [وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الهاشمي] [1] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ صَاحِبُ آمِدَ فَقَامَ بِأَمْرِهَا مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ، فَقَصَدَهُ الْمُعْتَضِدُ وَمَعَهُ ابْنُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُكْتَفِي باللَّه فَحَاصَرَهُ بِهَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ سَامِعًا مطيعا فتسلمها منه وخلع عليه وأكرم أهلها، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ الْمُكْتَفِي، ثُمَّ سَارَ إِلَى قنسرين والعواصم فتسلمها عن كتاب هارون
__________
[1] زيادة من نسخة أخرى بالأستانة.(11/78)
ابن خُمَارَوَيْهِ، وَإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَمُصَالَحَتِهِ لَهُ فيها. وَفِيهَا غَزَا ابْنُ الْإِخْشِيدِ بِأَهْلِ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ حُصُونًا كَثِيرَةً وللَّه الحمد
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ
ابن بشير بن عبد الله بن رستم أَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا تَخَرَّجَ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَرَوَى عَنْهُ كَثِيرًا. قَالَ الدار قطنى: إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إِمَامٌ مُصَنِّفٌ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ بَارِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ، صَدُوقٌ، كَانَ يُقَاسُ بأحمد بن حنبل في زهده وورعه وعلمه، ومن كلامه أَجْمَعَ عُقَلَاءُ كُلِّ أُمَّةٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْرِ مَعَ الْقَدَرِ لَمْ يَتَهَنَّ بِعَيْشِهِ. وَكَانَ يقول: الرجل كل الرَّجُلُ الَّذِي يُدْخِلُ غَمَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُدْخِلُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَقَدْ كَانَتْ بِي شَقِيقَةٌ منذ أربعين سَنَةً مَا أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا قَطُّ، وَلِيَ عشرون سنة أُبْصِرُ بِفَرْدِ عَيْنٍ مَا أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا قَطُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَكَثَ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ مَا يَسْأَلُ أَهْلَهُ غَدَاءً وَلَا عشاء، بل إن جاءه شيء أَكْلَهُ وَإِلَّا طَوَى إِلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْفَقَ فِي بَعْضِ الرَّمَضَانَاتِ عَلَى نَفْسِهِ وعياله درهما واحدا وأربعة دوانيق ونصف، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ مِنْ هَذِهِ الْطَّبَائِخِ شَيْئًا إِنَّمَا هُوَ بَاذِنْجَانٌ مَشْوِيٌّ أَوْ بَاقَةُ فِجْلٍ أَوْ نَحْوُ هَذَا، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَضِدُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَرَدَّهَا، فَرَجَعَ الرَّسُولُ وَقَالَ يَقُولُ لَكَ الْخَلِيفَةُ: فِرِّقْهَا عَلَى مَنْ تَعْرِفُ مِنْ فُقَرَاءَ جِيرَانِكَ. فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ نَجْمَعْهُ وَلَا نُسْأَلُ عَنْ جَمْعِهِ، فَلَا نُسْأَلُ عَنْ تَفْرِيقِهِ، قُلْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا يتركنا وإما نَتَحَوَّلُ مِنْ بَلَدِهِ. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَعُودُهُ فَقَامَتِ ابْنَتُهُ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَأَنَّهُ لَا طَعَامَ لَهُمْ إِلَّا الْخَبْزَ الْيَابِسَ بِالْمِلْحِ، وَرُبَّمَا عُدِمُوا الْمِلْحَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. فَقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيمُ: يَا بُنَيَّةُ تَخَافِينَ الْفَقْرَ؟ انْظُرِي الى تلك الزاوية فيها اثنى عشر ألف جزء قد كتبتها، ففي كل يوم تبيعي منها جزء بدرهم فمن عنده اثنى عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ بِفَقِيرٍ. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي عِنْدَ بَابِ الْأَنْبَارِ، وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا.
الْمُبَرِّدُ النَّحْوِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْأَكْبَرِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَزْدِيُّ الثُّمَالِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمِبْرِّدِ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ إِمَامٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتَا فِيمَا يَنْقُلُهُ وَكَانَ مُنَاوِئًا لِثَعْلَبٍ وَلَهُ كِتَابُ الْكَامِلِ فِي الْأَدَبِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِالْمِبْرِّدِ لِأَنَّهُ اخْتَبَأَ مِنَ الْوَالِي عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ تَحْتَ المزبلة. قال المبرد: دخلنا يوما على المجانين تزورهم أَنَا وَأَصْحَابٌ مَعِي بِالرَّقَّةِ فَإِذَا فِيهِمْ شَابٌّ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْمَكَانِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ نَاعِمَةٌ فَلَمَّا بصر بِنَا قَالَ حَيَّاكُمُ اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتُمْ؟ قُلْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَقَالَ:
بِأَبِي الْعِرَاقُ وَأَهْلُهَا أنشدونى أو أنشدكم؟ قال: المبرد: بل أنشدنا أنت فأنشأ يقول:(11/79)
الله يعلم أننى كمد ... لا أستطيع بث مَا أَجِدُ
رُوحَانِ لِي رُوحٌ تَضَمَّنَهَا ... بَلَدٌ وأخزى حَازَهَا بَلَدُ
وَأَرَى الْمُقِيمَةَ لَيْسَ يَنْفَعُهَا ... صَبْرٌ ولا يقوى لها جلد
وأظن غائبتى كحاضرتى ... بِمَكَانِهَا تَجِدُ الَّذِي أَجِدُ
قَالَ الْمُبَرِّدُ فَقُلْتُ: والله إن هذا طريف فَزِدْنَا مِنْهُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَمَّا أَنَاخُوا قُبَيْلَ الصبح غيرهم ... وحملوها فَثَارَتْ بِالْهَوَى الْإِبِلُ
وَأَبْرَزَتْ مِنْ خِلَالِ السِّجْفِ نَاظِرَهَا ... تَرْنُو إِلَيَّ وَدَمْعُ الْعَيْنِ يَنْهَمِلُ
وَوَدَّعَتْ ببنان عقدها عنم ... ناديت لا حملت رجلاك بأجمل
وَيْلِي مِنَ الْبَيِنِ مَاذَا حَلَّ بِي وَبِهِمْ ... مِنْ نَازِلِ الْبَيْنِ حَانَ الْبَيْنُ وَارْتَحَلُوا
يَا راحل العيش عَجِّلْ كَيْ أُوَدِّعَهُمْ ... يَا رَاحِلَ الْعِيسِ فِي تَرْحَالِكَ الْأَجَلُ
إِنِّي عَلَى الْعَهْدِ لَمْ أَنْقُضْ مَوَدَّتَهُمْ ... فَلَيْتَ شِعْرِي لِطُولِ الْعَهْدِ مَا فَعَلُوا
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْبُغَضَاءِ الَّذِينَ مَعِي: مَاتُوا. فَقَالَ الشَّابُّ: إِذًا أَمُوتُ، فَقَالَ إِنْ شِئْتَ. فَتَمَطَّى وَاسْتَنَدَ إِلَى سَارِيَةٍ عِنْدَهُ وَمَاتَ وَمَا بَرِحْنَا حَتَّى دَفَنَّاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمَاتَ الْمُبَرِّدُ وقد جاوز السبعين.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَقَعَ تَسَلُّمُ آمِدَ مِنِ ابْنِ الشَّيْخِ فِي ربيع الآخر ووصل كتاب هارون بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِآمِدَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ قنسرين والعواصم على أن يقره على إمارة الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَحَّلَ عن آمد قاصد الْعِرَاقَ وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِ آمِدَ فَهَدَمَ الْبَعْضَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ يُهَنِّئُهُ بِفَتْحِ آمِدَ
اسْلَمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُمْ ... فِي غِبْطَةٍ وَلْيَهْنِكَ النَّصْرُ
فَلَرُبَّ حَادِثَةٍ نَهَضْتَ لَهَا ... مُتَقَدِّمًا فَتَأَخَّرَ الدَّهْرُ
لَيْثٌ فَرَائِسُهُ اللُّيُوثُ ... فما بيض مِنْ دَمِهَا لَهُ ظُفْرُ
وَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ جَاءَتْهُ هَدِيَّةُ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ مِنْ نَيْسَابُورَ فَكَانَ وُصُولُهَا بَغْدَادَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ مَبْلَغُهَا مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ خَارِجًا عن الدواب وسروج وسلاح وغير ذلك. وفيها نحارب إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ وَعَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ لَمَّا قَتَلَ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ سَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ خُرَاسَانَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ نَائِبُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ وُلِّيتَ دُنْيَا عَرِيضَةً فَاقْتَنِعْ بِهَا عَنْ مَا فِي يَدِي مِنْ هَذِهِ(11/80)
البلاد. فلم يقبل فأقبل إليه إسماعيل فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ، جِدًّا فَالْتَقَيَا عِنْدَ بَلْخَ فهزم أصحاب عمرو، وأسر عمرو، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ قَامَ إِلَيْهِ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَمَّنَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي أَمْرِهِ، وَيَذْكُرُ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ قَدْ ملوا وَضَجِرُوا مِنْ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ كِتَابُ الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يَتَسَلَّمَ حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ فَسَلَبَهُ إِيَّاهَا، فَآلَ بِهِ الْحَالُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَطْبَخُهُ يُحْمَلُ عَلَى سِتِّمِائَةِ جَمَلٍ إِلَى الْقَيْدِ وَالسِّجْنِ. [وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ عَمْرًا كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ لَمْ يُصَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا أُسِرَ سواه وحده، وهذا جزاء من غلب عليه الطمع، وقاده الحرص حتى أوقعه في ذل الفقر، وهذه سنة الله في كل طامع فيما ليس له، وفي كل طالب للزيادة في الدنيا] [1]
ظُهُورُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ رَأْسِ الْقَرَامِطَةِ قَبَّحَهُمُ الله ولعنهم
«وهذا أَخْبَثُ مِنَ الزَّنْجِ وَأَشَدُّ فَسَادًا» كَانَ ظُهُورُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِنَوَاحِي الْبَصْرَةِ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ بِشَرٌ كَثِيرٌ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ جِدًّا، وَقَتَلَ مَنْ حَوْلَهُ مَنْ أَهْلِ الْقُرَى، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْقَطِيفِ قَرِيبًا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَرَامَ دُخُولَهَا فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَضِدُ إِلَى نَائِبِهَا يَأْمُرُهُ بِتَحْصِينِ سُورِهَا، فَعَمَّرُوهُ وجدوا مَعَالِمَهُ بِنَحْوٍ مَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَتِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَتَغَلَّبَ أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ عَلَى هَجَرَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ. وَكَانَ أَصْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ هَذَا أَنَّهُ كَانَ سِمْسَارًا فِي الطَّعَامِ يَبِيعُهُ وَيَحْسِبُ لِلنَّاسِ الْأَثْمَانَ، فَقَدِمَ رَجُلٌ بِهِ يُقَالُ لَهُ يَحْيَى بْنُ الْمَهْدِيِّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فَدَعَا أَهْلَ الْقَطِيفِ إِلَى بَيْعَةِ الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ حَمْدَانَ الزِّيَادِيُّ، وَسَاعَدَهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَجَمَعَ الشِّيعَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْقَطِيفِ فاستجابوا له، وكان في جُمْلَةِ مَنِ اسْتَجَابَ أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ هَذَا قَبَّحَهُ اللَّهُ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَى أَمْرِهِمْ وَأَظْهَرَ فِيهِمُ الْقَرْمَطَةَ فَاسْتَجَابُوا لَهُ وَالْتَفُّوا عَلَيْهِ، فَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ وَصَارَ هُوَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِيهِمْ. وَأَصْلُهُ مِنْ بَلْدَةٍ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا جَنَّابَةُ، وَسَيَأْتِي مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَصْحَابِهِ. قَالَ فِي الْمُنْتَظَمِ: وَمِنْ عَجَائِبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ أَنَّ امْرَأَةً تَقَدَّمَتْ إِلَى قَاضِي الرَّيِّ فَادَّعَتْ على زوجها بصداقها خمسمائة دينار فأنكره فَجَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِهِ، فَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تُسْفِرَ لَنَا عَنْ وَجْهِهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهَا الزَّوْجَةُ أَمْ لَا، فَلَمَّا صَمَّمُوا عَلَى ذَلِكَ قَالَ الزَّوْجُ: لَا تَفْعَلُوا هِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا تَدَّعِيهِ، فَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَتْ لِيَصُونَ زَوْجَتَهُ عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو فِي حِلٍّ مِنْ صَدَاقِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْمَشَاهِيرِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ فِيمَا ذَكَرَهُ شيخنا الذهبي.
__________
[1] زيادة من نسخة أخرى من الأستانة.(11/81)
وَقَدْ أَرَّخَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ فاللَّه أَعْلَمُ.
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ
أَبُو يَعْقُوبَ النَّخَعِيُّ الْأَحْمَرُ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الطَّائِفَةُ الْإِسْحَاقِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ النُّوبَخْتِيِّ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ يَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى الْحَسَنِ ثُمَّ الْحُسَيْنِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ خَلْقٌ من الحمر قبحهم الله وقبحه. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْأَحْمَرُ لِأَنَّهُ كَانَ أَبْرَصَ، وَكَانَ يَطْلِي بِرَصَهُ بِمَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ النُّوبَخْتِيُّ أَقْوَالًا عَظِيمَةً فِي الْكُفْرِ. لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى شَيْئًا مِنَ الْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَطَبَقَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا أَقَلُّ وأذل من أن يروى عنه أو يذكر إلا بذمة بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ أَحَدُ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ، لَهُ التفسير والمسند والسنن وَالْآثَارُ الَّتِي فَضَّلَهَا ابْنُ حَزْمٍ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَفِيمَا زَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ نَظَرٌ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فَأَثْنَى عليه خيرا، ووصفه بالحفظ والإتقان، وأنه كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بهذه السنة عن خمس وسبعين سنة.
الحسن بن بشار
أَبُو عَلِيٍّ الْخَيَّاطُ رَوَى عَنْ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ ثِقَةً، رَأَى فِي مَنَامِهِ- وَقَدْ كَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ- قائلا يقول له: كل لا، وادهن بلا. فَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) 24: 35 فَأَكَلَ زَيْتُونًا وَشَرِبَ زَيْتًا فَبَرَأَ مِنْ عِلَّتِهِ تِلْكَ. مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَنْمَاطِيُّ الْمَعْرُوفُ بِمُرَبَّعٍ تِلْمِيذُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، كَانَ ثقة حافظا. عبد الرحيم الرقى. وَمُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ الْمُصَنِّفُ. وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ العزيز البغوي صاحب المسند
ومحمد بن يونس
ابن مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ كُدَيْمٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ الْبَصْرِيُّ الْكُدَيْمِيُّ، وهو ابن امرأة نوح بْنِ عُبَادَةَ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيَّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَأَبَا دَاوُدَ الطَّيَالِسِيَّ، وَالْأَصْمَعِيَّ وَخَلْقًا. وَعَنْهُ ابْنُ السَّمَّاكِ وَالنَّجَّادُ. وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ القطيفي، وقد كان حافظا مكثرا مغربا، وقد تكلم فيه الناس لأجل غرائبه في الروايات. وقد ذكرنا ترجمته في التكميل. توفى يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخرة منها، وقد جاوز المائة، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي.
يعقوب بن إسحاق بن نخبة أَبُو يُوسُفَ الْوَاسِطِيُّ، سَمِعَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ هارون وقدم بغداد وحدث بها أربعة أَحَادِيثَ، وَوَعَدَ النَّاسَ أَنْ يُحَدِّثَهُمْ مِنَ الْغَدِ فمات من ليلته عن مائة واثنى(11/82)
عشر سنة. الوليد أبو عبادة البحتري فيما ذكر الذَّهَبِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فاللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ صُحْبَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَأَفْسَدُوا فِي بِلَادِ هَجَرَ، فَجَهَّزَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيفًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَمْرٍو الْغَنَوِيَّ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ لِيُحَارِبَ أَبَا سَعِيدٍ هَذَا، فالتقوا هنالك وكان العباس فِي عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَأَسَرَهُمْ أَبُو سَعِيدٍ كلهم ولم ينج منهم إلا الْأَمِيرُ وَحْدَهُ، وَقُتِلَ الْبَاقُونَ عَنْ آخِرِهِمْ صَبْرًا بين يديه قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَهَذَا عَجِيبٌ جِدًّا، وَهُوَ عَكْسُ وَاقِعَةِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ فَإِنَّهُ أُسِرَ مِنْ بين أصحابه وحده ونجوا كلهم وَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا. وَيُقَالُ إِنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا قَتَلَ أَبُو سَعِيدٍ أَصْحَابَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ وهو ينظر، وكان في جملة من أسر أَقَامَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ أَيَّامًا ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى رَوَاحِلَ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكِ وأخبره بِمَا رَأَيْتَ.
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي أواخر شعبان منها، فلما وقع هذا الأمر الفظيع انْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ انْزِعَاجًا عَظِيمًا جِدًّا، وَهَمَّ أهل البصرة بالخروج مِنْهَا فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ نَائِبُهَا أَحْمَدُ الْوَاثِقِيُّ. وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بِلَادِ طَرَسُوسَ وَكَانَ نَائِبُهَا ابْنُ الْإِخْشِيدِ قَدْ تُوُفِّيَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الثَّغْرِ أَبَا ثَابِتٍ، فَطَمِعَتِ الروم في تلك الناحية وحشدوا عساكرهم، فالتقى بهم أَبُو ثَابِتٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً وَأَسَرُوهُ فِيمَنْ أَسَرُوا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الثَّغْرِ عَلَى ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ. وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ.
وَفِيهَا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ
أَمِيرُ طَبَرِسْتَانَ وَالدَّيْلَمِ. وَكَانَ سبب ذلك أن إسماعيل الساماني لما ظفر بعمرو بن الليث ظَنَّ مُحَمَّدٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ لَا يُجَاوِزُ عَمَلَهُ، وَأَنَّ خُرَاسَانَ قَدْ خَلَتْ لَهُ، فَارْتَحَلَ مِنْ بلده يريد خراسان، وسبقه إسماعيل إليها، وكتب إليه أن الزم عملك ولا تتجاوزه إِلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الَّذِي كَانَ يَنُوبُ عَنْ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ، فَلَمَّا الْتَقَيَا هَرَبَ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ خَدِيعَةً، فَسَارَ الْجَيْشُ وَرَاءَهُ فِي الطَّلَبِ فَكَرَّ عَلَيْهِمْ رَاجِعًا فَانْهَزَمُوا منه فأخذ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ وَجُرِحَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ جِرَاحَاتٍ شَدِيدَةً فَمَاتَ بِسَبَبِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ، وَأُسِرَ وَلَدُهُ زَيْدٌ فَبُعِثَ بِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أحمد فأكرمه وأمر له بجائزة.
وَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ هَذَا فَاضِلًا دَيِّنًا حَسَنَ السِّيرَةِ فِيمَا وَلِيَهُ مِنْ تِلْكَ البلاد، وكان فيه تشيع. تقدم إِلَيْهِ يَوْمًا خَصْمَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا مُعَاوِيَةُ وَاسْمُ الْآخَرِ عَلِيٌّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ. إِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَكُمَا ظَاهِرٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ لَا تَغْتَرَّنَّ بِنَا، فَإِنَّ أَبِي كَانَ مِنْ كِبَارِ الشِّيعَةِ، وَإِنَّمَا سَمَّانِي مُعَاوِيَةَ مُدَارَاةً لِمَنْ(11/83)
ببلدنا من أهل السُّنَّةِ. وَهَذَا كَانَ أَبُوهُ مِنْ كِبَارِ النَّوَاصِبِ فَسَمَّاهُ عَلِيًّا تُقَاةً لَكُمْ، فَتَبَسَّمَ مُحَمَّدُ بْنُ زيد وأحسن إليهما.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فيها إسحاق بن يعقوب بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ- عَدِيُّ رَبِيعَةَ. وكان أميرا على ديار ربيعة بالجزيرة، فَوُلِّيَ مَكَانَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ. وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سلام. ومهدي بن أحمد بن مهدي الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ- وَكَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ- وَذَكَرَ هُوَ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ قَطْرَ النَّدَى بنت خمارويه ابن أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ امْرَأَةَ الْمُعْتَضِدِ تُوُفِّيَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لِسَبْعٍ خَلَوْنَ من رجب منها، ودفنت داخل القصر بالرصافة. يعقوب بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ أَبُو بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، سَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ، وعنه النجاد والخلدى، وكان وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قِرَاءَةَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ 112: 1 إِحْدَى وَثَلَاثِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ، أَوْ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ ألف مرة.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ صَاحِبُ السُّنَّةِ وَالْمُصَنَّفَاتِ وَهُوَ:
أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ
ابْنِ النَّبِيلِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا كتاب السنة في أحاديث الصفات على طريق السلف، وكان حافظا، قد ولى قضاء أصبهان بعد صالح بن أحمد، وقد طاف البلاد قبل ذلك فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَصَحِبَ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ مَرَّةً كَرَامَةٌ هَائِلَةٌ كَانَ هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ كبار الصالحين في سفر فنزلوا عَلَى رَمْلٍ أَبْيَضَ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا يقبله بيده ويقول: اللَّهمّ ارزقنا خبيصا يكون غداء على لون هذا الرمل. فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ وَبِيَدِهِ قَصْعَةٌ فِيهَا خَبِيصٌ بِلَوْنِ ذَلِكَ الرَّمْلِ وفي بياضه، فأكلوا منه. وَكَانَ يَقُولُ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسِي مبتدع ولا مدع وَلَا طَعَّانٌ وَلَا لَعَّانٌ وَلَا فَاحِشٌ وَلَا بَذِيءٌ، وَلَا مُنْحَرِفٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ. توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَصْبَهَانَ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:
ما فعل بك؟ فقال: يؤنسني ربى عز وجل
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
اتَّفَقَ في هذه السنة آفات ومصائب عَدِيدَةٌ مِنْهَا أَنَّ الرُّومَ قَصَدُوا بِلَادَ الرَّقَّةِ في جحافل عظيمة وعساكر مِنَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ، فَقَتَلُوا خَلْقًا وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ. وَمِنْهَا أَنَّ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ أَصَابَ أَهْلَهَا وَبَاءٌ شَدِيدٌ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى دَفْنِ الموتى، فتركوا في الطرق لا يوارون.
ومنها أن بلاد أردبيل أصابها رِيحٌ شَدِيدَةٌ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ ثُمَّ زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ عليهم أياما فتهدمت الدور والمساكن، وَخُسِفَ بِآخَرِينَ مِنْهُمْ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَاتَ تحت الهدم مائة ألف وخمسين ألفا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا اقْتَرَبَ الْقَرَامِطَةُ من البصرة(11/84)
فخاف أهلها منهم خوفا شديدا، وهموا بالرحيل منها فمنعهم نائبها.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحٍ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ مِنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ حَدِيثًا وَاحِدًا، وسمع الكثير من هودة بْنِ خَلِيفَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْأَشْيَبِ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَالْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ الْمُنَادِي وَابْنُ مَخْلَدٍ وَابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وأبو عمرو الزاهد والخلدى والسلمي وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الصَّوَّافِ وَغَيْرُهُمْ. وَكَانَ ثقة أمينا حافظا، وكان من البيوتات وكان الامام أَحْمَدُ يُكْرِمُهُ. وَمِنْ شِعْرِهِ
ضَعُفْتُ وَمَنْ جَازَ الثَّمَانِينَ يَضْعُفُ ... وَيُنْكَرُ مِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ يُعْرَفُ
وَيَمْشِي رُوَيْدًا كَالْأَسِيرِ مُقَيَّدًا ... يُدَانِي خُطَاهُ فِي الْحَدِيدِ وَيَرْسُفُ
ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ هارون ويقال ابن زهرون بن ثابت بن كدام بْنِ إِبْرَاهِيمَ الصَّابِئِيُّ الْفَيْلَسُوفُ الْحَرَّانَيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ حَرَّرَ كِتَابَ إِقْلِيدِسَ الَّذِي عَرَّبَهُ حُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّادِيُّ.
وَكَانَ أَصْلُهُ صوفيا فَتَرَكَ ذَلِكَ وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ، فَنَالَ مِنْهُ رُتْبَةً سَامِيَةً عِنْدَ أَهْلِهِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى بغداد فمعظم شَأْنُهُ بِهَا، وَكَانَ يَدْخُلُ مَعَ الْمُنَجِّمِينَ عَلَى الخليفة وهو باقي عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ، وَحَفِيدُهُ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ لَهُ تَارِيخٌ أَجَادَ فِيهِ وَأَحْسَنَ، وَكَانَ بَلِيغًا مَاهِرًا حَاذِقًا بَالِغًا. وَعَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ كَانَ طَبِيبًا عَارِفًا أَيْضًا. وَقَدْ سَرَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ. الْحَسَنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَهْمِ أَبُو الْحَسَنِ الشِّيعِيُّ- مِنْ شِيعَةِ الْمَنْصُورِ لَا مِنَ الرَّوَافِضِ- حَدَّثَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَحَكَى عَنْ بِشَرٍ الْحَافِي. وَعَنْهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ. عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَزِيرُ الْمُعْتَضِدِ، كَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ، وَقَدْ عَزَّ عليه موته وتألم لفقده وأهمه من يجعله في مكانه بَعْدِهِ، فَعَقَدَ لِوَلَدِهِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ على الْوِزَارَةَ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ جَبْرًا لِمُصَابِهِ بِهِ. وَأَبُو الْقَاسِمِ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بَشَّارٍ الْمَعْرُوفُ بِالْأَنْمَاطِيِّ أَحَدُ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي طَبَقَاتِهِمْ. وَهَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى أَبُو مُوسَى الْهَاشِمِيُّ إمام الناس في الحج عدة سنين متوالية، وقد سَمِعَ وَحَدَّثَ وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَاثَتِ الْقَرَامِطَةُ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ فَظِفَرَ بَعْضُ الْعُمَّالِ بطائفة منهم فبعث برئيسهم إلى المعتضد وهو أَبُو الْفَوَارِسِ، فَنَالَ مِنَ الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَتْ أَضْرَاسُهُ وَخُلِعَتْ يَدَاهُ ثُمَّ قُطِعَتَا مَعَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قُتِلَ وَصُلِبَ ببغداد. وَفِيهَا قَصَدَتِ الْقَرَامِطَةُ دِمَشْقَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ فَقَاتَلَهُمْ نَائِبُهَا طُغْجُ بْنُ جُفٍّ مِنْ جِهَةِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ، فَهَزَمُوهُ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَتَفَاقَمَ الحال بهم، وَكَانَ ذَلِكَ بِسِفَارَةِ يَحْيَى بْنِ زَكْرَوَيْهِ بْنِ بهرويه الَّذِي ادَّعَى عِنْدَ الْقَرَامِطَةِ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن إسماعيل ابن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ، وَزَعَمَ لَهُمْ أَنَّهُ(11/85)
قَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَنَّ نَاقَتَهُ مَأْمُورَةٌ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ نُصِرَ على أهل تلك الجهة.
فَرَاجَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَلَقَّبُوهُ الشَّيْخَ، وَاتَّبَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي الْأَصْبَغِ، وَسُمُّوا بِالْفَاطِمِيِّينَ. وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا فَهَزَمُوهُ، ثُمَّ اجْتَازُوا بِالرُّصَافَةِ فَأَحْرَقُوا جَامِعَهَا، وَلَمْ يَجْتَازُوا بِقَرْيَةٍ إِلَّا نهبوها وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمْ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى دِمَشْقَ فَقَاتَلَهُمْ نَائِبُهَا فَهَزَمُوهُ مَرَّاتٍ وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَانْتَهَبُوا مِنْ أَمْوَالِهَا شَيْئًا كثيرا. ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 وفي هذه الحالة الشَّدِيدَةِ اتَّفَقَ مَوْتُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ باللَّه فِي ربيع الأول منها
وهذه ترجمة المعتضد
هو أَحْمَدُ بْنُ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ الْمُلَقَّبِ بِنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ، وَاسْمُ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدٌ، وقيل طلحة بن جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن هارون الرشيد، أبو العباس الْمُعْتَضِدُ باللَّه. وُلِدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ. وَكَانَ أَسْمَرَ نَحِيفَ الْجِسْمِ مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ، قَدْ وَخَطَهُ الشيب، في مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ طُولٌ، وَفِي رَأْسِهِ شَامَةٌ بَيْضَاءُ. بويع له بالخلافة صبيحة يوم الاثنين إحدى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ ومائتين، واستوزر عبد الله بن وهب بن سليمان، وَوَلَّى الْقَضَاءَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَيُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ، وَابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ. وَكَانَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ قد ضعف في أيام عمه المعتمد، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُعْتَضِدُ أَقَامَ شِعَارَهَا وَرَفَعَ مَنَارَهَا. وَكَانَ شُجَاعًا فَاضِلًا مِنْ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ حَزْمًا وجرأة وإقداما وحزمة. وكذلك كان أبوه، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ اجْتَازَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِقَرْيَةٍ فِيهَا مَقْثَأَةٌ فَوَقَفَ صَاحِبُهَا صَائِحًا مُسْتَصْرِخًا بِالْخَلِيفَةِ، فَاسْتَدْعَى بِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الْجَيْشِ أَخَذُوا لِي شَيْئًا مِنَ الْقِثَّاءِ وَهُمْ مِنْ غِلْمَانِكَ. فَقَالَ: أَتَعْرِفُهُمْ؟ فَقَالَ نَعَمْ: فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ فَعَرَفَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَقْيِيدِهِمْ وَحَبْسِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ نَظَرَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ مَصْلُوبِينَ عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ، فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ واستنكروه وَعَابُوا ذَلِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَقَالُوا: قَتَلَ ثَلَاثَةً بِسَبَبِ قِثَّاءٍ أَخَذُوهُ؟ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ قَلِيلٍ أمر الخواص- وهو مسامره- أن ينكر عليه ذلك ويتلطف في مخاطبته في ذلك والأمراء حضور، فدخل عليه لَيْلَةٍ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَفَهِمَ الْخَلِيفَةُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ كَلَامٍ يُرِيدُ أَنْ يُبْدِيَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَعْرِفُ أَنَّ فِي نَفْسِكَ كَلَامًا فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا آمِنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ عَلَيْكَ تَسَرَّعَكَ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ.
فَقَالَ. وَاللَّهِ مَا سَفَكْتُ دَمًا حَرَامًا مُنْذُ وُلِّيتُ الْخِلَافَةَ إِلَّا بِحَقِّهِ. فَقُلْتُ لَهُ: فَعَلَامَ قَتَلْتَ أَحْمَدَ بْنَ الطَّيِّبِ وَقَدْ كَانَ خادمك ولم يظهر له خيانة؟ فقال: ويحك إنه دعاني إلى الآحاد والكفر باللَّه فيما بيني وبينه، فلما دعاني إلى ذلك قلت لَهُ: يَا هَذَا أَنَا ابْنُ عَمِّ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَا مُنْتَصِبٌ فِي مَنْصِبِهِ فَأَكْفُرُ حَتَّى أَكُونَ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ. فَقَتَلْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ. فَقُلْتُ لَهُ: فَمَا بَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ(11/86)
قتلتهم على القثاء؟ فقال: والله ما كان هؤلاء الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِثَّاءَ، وَإِنَّمَا كَانُوا لُصُوصًا قَدْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَوَجَبَ قَتْلُهُمْ، فَبَعَثْتُ فَجِئْتُ بِهِمْ مِنَ السِّجْنِ فَقَتَلْتُهُمْ وَأَرَيْتُ النَّاسَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِثَّاءَ، وَأَرْدَتُ بِذَلِكَ أَنْ أُرْهِبَ الْجَيْشَ لِئَلَّا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَتَعَدَّوْا عَلَى النَّاسِ وَيَكُفُّوا عَنِ الْأَذَى.
ثُمَّ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ أولئك الذين أخذوا القثاء فأطلقهم بعد ما استتابهم وخلع عليهم وردهم إلى أرزاقهم.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَخَرَجَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا فَعَسْكَرَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ وَنَهَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ مِنْ بُسْتَانِ أَحَدٍ شَيْئًا، فَأُتِيَ بِأَسْوَدَ قَدْ أَخَذَ عِذْقًا مَنْ بُسْرٍ فَتَأَمَّلَهُ طَوِيلًا ثُمَّ أَمَرَ بضرب عنقه، ثم التفت إلى الأمراء فقال: الْعَامَّةَ يُنْكِرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . وَلَمْ يَكْفِهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَإِنِّي لَمْ أَقْتُلْ هذا على سرقته، وإنما هذا الأسود رَجُلٌ مِنَ الزَّنْجِ كَانَ قَدِ اسْتَأْمَنَ فِي حَيَاةِ أَبِي، وَإِنَّهُ تَقَاوَلَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَضَرَبَ الْمُسْلِمَ فَقَطَعَ يَدَهُ فَمَاتَ الْمُسْلِمُ، فَأَهْدَرَ أَبِي دَمَ الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ تَأْلِيفًا لِلزَّنْجِ، فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي لَئِنْ أَنَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ لأقتلنه، فما قدرت عَلَيْهِ إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ فَقَتَلْتُهُ بِذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الضَّبِّيُّ سَمِعْتُ أَبَا الْوَلِيدِ حَسَّانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ يَقُولُ سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ وَعَلَى رَأْسِهِ أَحْدَاثٌ رُومٌ صِبَاحُ الْوُجُوهِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِمْ فَرَآنِي الْمُعْتَضِدُ وَأَنَا أتأملهم، فلما أردت القيام أشار إلى فجلست سَاعَةً فَلَمَّا خَلَا قَالَ لِي: أَيُّهَا الْقَاضِي وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى حَرَامٍ قَطُّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ محمد عن ابن سريج الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فيه الرخص من زلل العلماء قد جمعها له بعض الناس- فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا جَمَعَ هَذَا زِنْدِيقٌ. فَقَالَ:
كَيْفَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ مَنْ أَبَاحَ المتعة لم يبيح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ. فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ. وَرَوَى الخطيب بسنده عن صافى الجرمي الْخَادِمِ قَالَ: انْتَهَى الْمُعْتَضِدُ وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ إلى منزل شعث وَابْنُهُ الْمُقْتَدِرُ جَعْفَرٌ جَالِسٌ فِيهِ وَحَوْلَهُ نَحْوٌ من عشرة مِنَ الْوَصَائِفِ، وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي سِنِّهِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ طَبَقٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ عُنْقُودُ عِنَبٍ، وَكَانَ الْعِنَبُ إِذْ ذَاكَ عَزِيزًا، وَهُوَ يَأْكُلُ عِنَبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُفَرِّقُ عَلَى أصحابه من الصبيان كل واحد عِنَبَةً، فَتَرَكَهُ الْمُعْتَضِدُ وَجَلَسَ نَاحِيَةً فِي بَيْتٍ مهموما. فقلت له: مالك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
فَقَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ لَوْلَا النَّارُ وَالْعَارُ لَأَقْتُلَنَّ هَذَا الْغُلَامَ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ. فَقُلْتُ: أُعِيذُكَ باللَّه يَا أمير المؤمنين من ذلك. فقال: ويحك يا صافى هَذَا الْغُلَامَ فِي غَايَةِ السَّخَاءِ لِمَا أَرَاهُ يَفْعَلُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَإِنَّ طِبَاعَ الصِّبْيَانِ تَأْبَى الْكَرَمَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْكَرَمِ، وَإِنَّ النَّاسَ مِنْ بَعْدِي لَا يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ(11/87)
هُوَ مِنْ وَلَدِي، فَسَيَلِي عَلَيْهِمُ الْمُكْتَفِي ثُمَّ لَا تَطُولُ أَيَّامُهُ لِعِلَّتِهِ الَّتِي بِهِ- وَهِيَ داء الخنازير- ثم يموت فيلي الناس جعفر هذا الغلام، فيذهب جَمِيعَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى الْحَظَايَا لِشَغَفِهِ بهن، وقرب عهده من تشببه بِهِنَّ، فَتَضِيعُ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَتُعَطَّلُ الثُّغُورُ وَتَكْثُرُ الْفِتَنُ وَالْهَرْجُ وَالْخَوَارِجُ وَالشُّرُورُ. قَالَ صَافِي: وَاللَّهِ لَقَدْ شَاهَدْتُ مَا قَالَهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ بَعْضِ خَدَمِ الْمُعْتَضِدِ قَالَ: كَانَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا نَائِمًا وَقْتَ الْقَائِلَةِ وَنَحْنُ حول سريره فاستيقظ مذعورا ثم صرح بِنَا فَجِئْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: وَيَحْكُمُ اذْهَبُوا إِلَى دجلة فأول سفينة تجدوها فَارِغَةً مُنْحَدِرَةً فَأْتُونِي بِمَلَّاحِهَا وَاحْتَفِظُوا بِالسَّفِينَةِ. فَذَهَبْنَا سِرَاعًا فَوَجَدْنَا مَلَّاحًا فِي سُمَيْرِيَّةٍ فَارِغَةٍ مُنْحَدِرًا فَأَتَيْنَا بِهِ الْخَلِيفَةَ فَلَمَّا رَأَى الْمَلَّاحُ الْخَلِيفَةَ كاد أن يَتْلَفُ، فَصَاحَ بِهِ الْخَلِيفَةُ صَيْحَةً عَظِيمَةً فَكَادَتْ رُوحُ الْمَلَّاحِ تَخْرُجُ فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكَ يَا مَلْعُونُ، اصْدُقْنِي عَنْ قِصَّتِكَ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلْتَهَا الْيَوْمَ وَإِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَكَ قَالَ فَتَلَعْثَمَ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كُنْتُ الْيَوْمَ سَحَرًا فِي مَشْرَعَتِيِ الْفُلَانِيَّةِ، فَنَزَلَتِ امْرَأَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ فَاخِرَةٌ وَحُلِيٌّ كَثِيرٌ وَجَوْهَرٌ، فَطَمِعْتُ فِيهَا وَاحْتَلْتُ عَلَيْهَا فشددت فَاهَا وَغَرَّقْتُهَا وَأَخَذْتُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهَا من الحلي والقماش، وَخَشِيتُ أَنْ أَرْجِعَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِي فَيَشْتَهِرُ خبرها، فأردت الذهاب به إِلَى وَاسِطَ فَلَقِيَنِي هَؤُلَاءِ الْخَدَمُ فَأَخَذُونِي. فَقَالَ:
وَأَيْنَ حُلِيُّهَا؟ فَقَالَ: فِي صَدْرِ السَّفِينَةِ تَحْتَ الْبَوَارِي. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بِإِحْضَارِ الْحُلِيِّ فَجِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ حُلِيٌّ كَثِيرٌ يُسَاوِي أَمْوَالًا كَثِيرَةً، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَغْرِيقِ الْمَلَّاحِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي غَرَّقَ فِيهِ الْمَرْأَةَ، وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى عَلَى أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِيَحْضُرُوا حَتَّى يَتَسَلَّمُوا مال المرأة. فَنَادَى بِذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَسْوَاقِ بَغْدَادَ وأزقتها فحضروا بعد ثلاثة أيام فدفع إليهم ما كان من الحلي وغيره مما كان للمرأة، ولم يذهب منه شيء. فَقَالَ لَهُ خَدَمُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْتُ فِي نَوْمِي تِلْكَ السَّاعَةَ شَيْخًا أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالثِّيَابِ وَهُوَ يُنَادِي: يَا أَحْمَدُ يَا أَحْمَدُ، خُذْ أَوَّلَ مَلَّاحٍ يَنْحَدِرُ السَّاعَةَ فَاقْبِضْ عَلَيْهِ وَقَرِّرْهُ عَنْ خَبَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَوْمَ وَسَلَبَهَا، فأقم عليه الحد. وكان ما شاهدتم.
وقال جعيف السمرقندي الحاجب: كُنْتُ مَعَ مَوْلَايَ الْمُعْتَضِدِ فِي بَعْضِ مُتَصَيَّدَاتِهِ وقد انْقَطَعَ عَنِ الْعَسْكَرِ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرِي، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا أَسَدٌ فَقَصَدَ قَصْدَنَا فَقَالَ لِيَ المعتضد: يا جعيف أفيك خير اليوم؟ قلت: لا والله. قَالَ: وَلَا أَنْ تُمْسِكَ فَرَسِي وَأَنْزِلُ أَنَا؟ فقلت: بلى. قال: فنزل عن فرسه وَغَرَزَ أَطْرَافَ ثِيَابِهِ فِي مِنْطَقَتِهِ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَرَمَى بِقِرَابِهِ إِلَيَّ ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى الْأَسَدِ فوثب الأسد عليه فضربه بِالسَّيْفِ فَأَطَارَ يَدَهُ فَاشْتَغَلَ الْأَسَدُ بِيَدِهِ فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً عَلَى هَامَتِهِ فَفَلَقَهَا، فَخَرَّ الْأَسَدُ صَرِيعًا فَدَنَا مِنْهُ فَمَسَحَ سَيْفَهُ فِي صُوفِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيَّ فَأَغْمَدَ سَيْفَهُ فِي قِرَابِهِ، ثُمَّ ركب فرسه فذهبنا إِلَى الْعَسْكَرِ. قَالَ وَصَحِبْتُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فما سَمِعْتُهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ، فَمَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَعْجَبُ؟ مِنْ(11/88)
شَجَاعَتِهِ أَمْ مِنْ عَدَمِ احْتِفَالِهِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ؟ أَمْ مِنْ عَدَمِ عَتْبِهِ عَلَيَّ حَيْثُ ضَنِنْتُ بِنَفْسِي عَنْهُ؟ وَاللَّهِ مَا عاتبني في ذلك قط.
وروى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ أَنَّهُ اجْتَازَ بِزَوْرَقٍ فِيهِ خَمْرٌ مَعَ مَلَّاحٍ، فَقَالَ: ما هذا؟ وَلِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ خَمْرٌ لِلْمُعْتَضِدِ. فَصَعِدَ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَيْهَا فَجَعَلَ يَضْرِبُ الدِّنَانَ بِعَمُودٍ فِي يَدِهِ حَتَّى كَسَرَهَا كُلَّهَا إِلَّا دَنًّا وَاحِدًا تَرَكَهُ، وَاسْتَغَاثَ الْمَلَّاحُ فَجَاءَتِ الشُّرْطَةُ فَأَخَذُوا أَبَا الْحُسَيْنِ فَأَوْقَفُوهُ بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَضِدِ فقال له: ما أنت؟ فقال أنا المحتسب. فَقَالَ: وَمَنْ وَلَّاكَ الْحِسْبَةَ؟ فَقَالَ: الَّذِي وَلَّاكَ الْخِلَافَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهَا فَقَالَ: مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: شَفَقَةً عَلَيْكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْكَ. فأطرق رأسه ثم رفعه فقال: ولأى شيء تركت منها دنا واحدا لم تكسره؟
فقال: لأني إنما أقدمت عليها فكسرتها إجلالا للَّه تعالى، فلم أبال أحدا حتى انتهيت إلى هذا الدن دخل نفسي إعجاب من قبيل أَنِّي قَدْ أَقْدَمْتُ عَلَى مِثْلِكَ فَتَرَكْتُهُ، فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَضِدُ: اذْهَبْ فَقَدْ أَطْلَقْتُ يَدَكَ فَغَيِّرْ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ تُغَيِّرَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ. فَقَالَ له النوري: الآن انتقض عَزْمِي عَنِ التَّغْيِيرِ، فَقَالَ:
وَلِمَ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي كُنْتُ أُغَيِّرُ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَا الْآنَ أُغَيِّرُ عَنْ شُرْطِيٍّ. فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ:
أُحِبُّ أَنْ تُخْرِجَنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ سَالِمًا. فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَصَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا مُخْتَفِيًا خَشْيَةَ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي حَاجَةٍ عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ عَنْ شَيْخٍ مِنَ التُّجَّارِ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ مَالٌ كَثِيرٌ فَمَاطَلَنِي وَمَنَعَنِي حَقِّي، وَجَعَلَ كُلَّمَا جِئْتُ أُطَالِبُهُ حَجَبَنِي عَنْهُ وَيَأْمُرُ غِلْمَانَهُ يُؤْذُونَنِي، فَاشْتَكَيْتُ عَلَيْهِ إِلَى الْوَزِيرِ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَإِلَى أَوْلِيَاءِ الْأَمْرِ مِنَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْعًا وَجُحُودًا، فَأَيِسْتُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَدَخَلَنِي هَمٌّ مِنْ جِهَتِهِ، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ وَأَنَا حَائِرٌ إِلَى مَنْ أَشْتَكِي، إِذْ قَالَ لِي رَجُلٌ: أَلَا تَأْتِي فَلَانًا الْخَيَّاطَ- إِمَامَ مَسْجِدٍ هُنَاكَ-[فَقُلْتُ وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعَ خَيَّاطٌ مَعَ هَذَا الظَّالِمِ. وَأَعْيَانُ الدَّوْلَةِ لَمْ يَقْطَعُوا فِيهِ؟ فَقَالَ لِي: هُوَ أَقْطَعُ وَأَخْوَفُ عِنْدَهُ مِنْ جَمِيعِ مَنِ اشْتَكَيْتَ إِلَيْهِ، فَاذْهَبْ إِلَيْهِ لَعَلَّكَ أَنْ تَجِدَ عِنْدَهُ فَرَجًا. قَالَ فَقَصَدْتُهُ غَيْرَ مُحْتَفِلٍ فِي أَمْرِهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ حاجتي ومالي وَمَا لَقِيتُ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ، فَقَامَ مَعِي فَحِينَ عَايَنَهُ الْأَمِيرُ قَامَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَبَادَرَ إِلَى قَضَاءِ حَقِّي الَّذِي عَلَيْهِ فَأَعْطَانِيهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ إِلَى الْأَمِيرِ كَبِيرُ أَمْرٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: ادْفَعْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَقَّهُ وَإِلَّا أَذَّنْتُ. فَتَغَيَّرَ لَوْنُ الْأَمِيرِ وَدَفَعَ إِلِيَّ حَقِّي] [1] .
قَالَ التَّاجِرُ: فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ الْخَيَّاطِ مَعَ رَثَاثَةِ حَالِهِ وَضِعْفِ بِنْيَتِهِ كَيْفَ انْطَاعَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ لَهُ، ثُمَّ إِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنِّي شَيْئًا، وَقَالَ: لَوْ أردت هذا لكان لي من الأموال مالا
__________
[1] زيادة من نسخة الأستانة(11/89)
يُحْصَى. فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَبَرِهِ وَذَكَرْتُ لَهُ تَعَجُّبِي مِنْهُ وَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالى الدولة، وهو شاب حسن، فمر به ذات يوم امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْحَمَّامِ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ مُرْتَفِعَةٌ ذَاتُ قِيمَةٍ، فَقَامَ إِلَيْهَا وَهُوَ سَكْرَانٌ فَتَعَلَّقَ بِهَا يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا لِيُدْخِلَهَا منزله، وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها: يا مسلمين أنا امرأة ذات زوج، وهذا رجل يريدني على نفسي ويدخلني مَنْزِلَهُ، وَقَدْ حَلَفَ زَوْجِي بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا أَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ، وَمَتَى بَتُّ هَاهُنَا طُلِّقْتُ مِنْهُ وَلَحِقَنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ عَارٌ لَا تَدْحَضُهُ الْأَيَّامُ وَلَا تَغْسِلُهُ الْمَدَامِعُ. قَالَ الْخَيَّاطُ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَأَنْكَرْتُ عَلَيْهِ وَأَرَدْتُ خَلَاصَ الْمَرْأَةِ مِنْ يَدَيْهِ فَضَرَبَنِي بِدَبُّوسٍ فِي يَدِهِ فَشَجَّ رَأْسِي، وَغَلَبَ الْمَرْأَةَ عَلَى نَفْسِهَا وَأَدْخَلَهَا مَنْزِلَهُ قَهْرًا، فَرَجَعْتُ أَنَا فَغَسَلْتُ الدَّمَ عَنَى وَعَصَبْتُ رَأْسِي وَصَلَّيْتُ بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ ثُمَّ قُلْتُ لِلْجَمَاعَةِ: إِنَّ هَذَا قَدْ فَعَلَ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ فقوموا معى إليه لننكر عليه وتخلص الْمَرْأَةَ مِنْهُ، فَقَامَ النَّاسُ مَعِي فَهَجَمْنَا عَلَيْهِ دَارَهُ فَثَارَ إِلَيْنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ بِأَيْدِيهِمُ الْعِصِيُّ وَالدَّبَابِيسُ يَضْرِبُونَ النَّاسَ، وَقَصَدَنِي هُوَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَضَرَبَنِي ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا حَتَّى أَدْمَانِي، وَأَخْرَجَنَا مِنْ مَنْزِلِهِ وَنَحْنُ فِي غَايَةِ الْإِهَانَةِ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَأَنَا لَا أَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ وَكَثْرَةِ الدِّمَاءِ، فَنِمْتُ عَلَى فِرَاشِي فَلَمْ يَأْخُذْنِي نَوْمٌ، وَتَحَيَّرْتُ مَاذَا أَصْنَعُ حَتَّى أُنْقِذَ الْمَرْأَةَ مِنْ يَدِهِ في الليل لِتَرْجِعَ فَتَبِيتَ فِي مَنْزِلِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ على زوجها الطلاق، فألهمت أن أؤذن الصبح فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ لِكَيْ يَظُنَّ أَنَّ الصُّبْحَ قَدْ طَلَعَ فَيُخْرِجَهَا مِنْ مَنْزِلِهِ فَتَذْهَبَ إِلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا، فَصَعِدْتُ الْمَنَارَةَ وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى بَابِ دَارِهِ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ عَلَى عَادَتِي قَبْلَ الْأَذَانِ هَلْ أَرَى الْمَرْأَةَ قَدْ خَرَجَتْ ثُمَّ أذنت فلم تخرج، ثم صممت على أنه إِنْ لَمْ تَخْرُجْ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الصَّبَاحَ، فَبَيْنَا أَنَا أَنْظُرُ هَلْ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ أَمْ لَا، إِذِ امْتَلَأَتِ الطَّرِيقُ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً وَهُمْ يَقُولُونَ: أَيْنَ الَّذِي أَذَّنَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فقلت: ها أنا ذا، وأنا أريد أن يعينوني عليه، فقالوا: انْزِلْ، فَنَزَلَتُ فَقَالُوا: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخَذُونِي وَذَهَبُوا بِي لَا أَمْلِكُ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا، حتى أدخلونى عليه، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ جَالِسًا فِي مَقَامِ الْخِلَافَةِ ارْتَعَدْتُ مِنَ الْخَوْفِ وَفَزِعْتُ فَزَعًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْنُ، فَدَنَوْتُ فَقَالَ لِي: لِيَسْكُنْ رَوْعُكَ وَلِيَهْدَأْ قَلْبُكَ. وَمَا زَالَ يُلَاطِفُنِي حَتَّى اطْمَأْنَنْتُ وَذَهَبَ خَوْفِي، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَذَّنْتَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَذَّنْتَ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ أَكْثَرُ مِمَّا مَضَى مِنْهُ؟ فَتَغُرُّ بِذَلِكَ الصَّائِمَ وَالْمُسَافِرَ وَالْمُصَلِّيَ وَغَيْرَهُمْ. فَقُلْتُ: يُؤَمِّنُنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَقُصَّ عَلَيْهِ خَبَرِي؟ فَقَالَ: أَنْتَ آمِنٌ. فَذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ. قَالَ: فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ سَاعَتِهِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَا فَأُحْضِرَا سَرِيعًا فَبَعَثَ بِالْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ جِهَتِهِ ثِقَاتٍ وَمَعَهُنَّ ثِقَةٌ مِنْ جِهَتِهِ أَيْضًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ زَوْجَهَا بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا مُكْرَهَةٌ وَمَعْذُورَةٌ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ الشَّابِّ(11/90)
الْأَمِيرِ فَقَالَ لَهُ: كَمْ لَكَ مِنَ الرِّزْقِ؟ وَكَمْ عِنْدَكَ مِنَ الْمَالِ؟ وَكَمْ عِنْدَكَ مِنَ الجوار وَالزَّوْجَاتِ؟ فَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ أَمَا كَفَاكَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ حَتَّى انْتَهَكْتَ حُرْمَةَ اللَّهِ وَتَعَدَّيْتَ حُدُودَهُ وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك أيضا حَتَّى عَمِدْتَ إِلَى رَجُلٍ أَمَرَكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاكَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَضَرَبْتَهُ وَأَهَنْتَهُ وَأَدْمَيْتَهُ؟ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ. فَأَمَرَ بِهِ فَجُعِلَ فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ وَفِي عُنُقِهِ غُلٌّ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ فِي جُوَالِقَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بالدبابيس ضربا شديدا حتى خفت، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي فِي دِجْلَةَ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ. ثُمَّ أَمَرَ بَدْرًا صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ يَحْتَاطَ عَلَى مَا فِي دَارِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَ يَتَنَاوَلُهَا من بيت المال، ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الْخَيَّاطِ: كُلَّمَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا وَلَوْ عَلَى هَذَا- وَأَشَارَ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ- فَأَعْلِمْنِي، فان اتفق اجتماعك بى وإلا فعلى ما بيني وبينك الأذان، فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا. قال: فلهذا لَا آمُرُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّوْلَةِ بِشَيْءٍ إلا امتثلوه، ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خَوْفًا مِنَ الْمُعْتَضِدِ.
وَمَا احْتَجْتُ أَنْ أُؤَذِّنَ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى الْآنِ.
وَذَكَرَ الْوَزِيرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ وَخَادِمٌ وَاقِفٌ على رأسه يذب عنه بِمِذَبَّةٍ فِي يَدِهِ إِذْ حَرَّكَهَا فَجَاءَتْ فِي قَلَنْسُوَةِ الْخَلِيفَةِ فَسَقَطَتْ عَنْ رَأْسِهِ، فَأَعْظَمْتُ أَنَا ذَلِكَ جِدًّا وَخِفْتُ مِنْ هَوْلِ مَا وَقَعَ، وَلَمْ يَكْتَرِثِ الْخَلِيفَةُ لِذَلِكَ، بَلْ أَخَذَ قَلَنْسُوَتَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ لِبَعْضِ الْخَدَمِ: مر هذا البائس ليذهب لِرَاحَتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ نَعَسَ، وَزِيدُوا فِي عِدَّةِ من يذب بالنوبة قال الوزير: فأخذنا فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَى حِلْمِهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَائِسَ لَمْ يَتَعَمَّدْ مَا وَقَعَ مِنْهُ وَإِنَّمَا نَعَسَ، وَلَيْسَ الْعِتَابُ وَالْمُعَاتَبَةُ إِلَّا عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لَا عَلَى الْمُخْطِئِ والساهي. وقال جعيف السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَاجِبُ: لَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ بموت وزيره عبيد الله بن سليمان خَرَّ سَاجِدًا طَوِيلًا، فَقِيلَ لَهُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَخْدِمُكَ وَيَنْصَحُ لَكَ. فَقَالَ: إِنَّمَا سَجَدْتُ شُكْرًا للَّه أَنِّي لم أعز له ولم أوذه. وقد كان ابن سليمان حازم الرأى قويا، وأراد أن يولى مكانه أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ فَعَدَلَ بِهِ بدر صاحب الشرطة عنه وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَسَفَّهَ رَأْيَهُ فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَوَلَّاهُ وَبَعَثَ إِلَيْهِ يُعَزِّيهِ فِي أَبِيهِ وَيُهَنِّيهِ بِالْوِزَارَةِ، فَمَا لَبِثَ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى وَلِيَ الْمُكْتَفِي الْخِلَافَةَ من بعد أبيه المعتضد وحتى قَتَلَ بَدْرًا. وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ يَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ، وهذه فراسة عظيمة وتوسم قوى. ورفع يوما إلى المعتضد قَوْمًا يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسْتَشَارَ وَزِيرَهُ فِي أَمْرِهِمْ فَقَالَ:
يَنْبَغِي أَنْ يُصْلَبَ بَعْضُهُمْ وَيُحْرَقَ بَعْضُهُمْ. فَقَالَ: وَيْحَكَ لَقَدْ بَرَّدْتَ لَهَبَ غَضَبِي عليهم بقسوتك، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّعِيَّةَ وَدِيعَةُ اللَّهِ عِنْدَ سُلْطَانِهَا، وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْهَا؟ وَلَمْ يُقَابِلْهُمْ بِمَا قال الوزير. وَلِهَذِهِ النِّيَّةِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ صِفْرًا مِنَ الْمَالِ وَكَانَتِ الْأَحْوَالُ فَاسِدَةً، والعرب تَعِيثُ فِي الْأَرْضِ(11/91)
فَسَادًا فِي كُلِّ جِهَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ بِرَأْيِهِ وتسديده حتى كثرت الأموال وصلحت الأحوال في سائر الأقاليم والآفاق. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي جَارِيَةٍ لَهُ تُوُفِّيَتْ فَوَجَدَ عليها:
يا حبيبا لم يكن يعد ... له عِنْدِي حَبِيبُ
أَنْتَ عَنْ عَيْنِي بَعِيدٌ ... وَمِنَ القلب قريب
ليس لي بعدك في شيء ... مِنَ اللَّهْوِ نَصِيبُ
لَكَ مِنْ قَلْبِي عَلَى قلبي ... وإن غبت رقيب
وحياتي منك مذ غبت ... حياة لا تطيب
لو تراني كيف لي ... بعدك عَوْلٌ وَنَحِيبُ
وَفُؤَادِي حَشْوُهُ مِنْ ... حَرْقِ الْحُزْنِ لهيب
ما أرى نفسي وإن ... طييتها عنك تطيب
ليس دمع لي يعصيني ... وصبري ما بجيب
وقال فيها:
لَمْ أَبْكِ لِلدَّارِ وَلَكِنْ لِمَنْ ... قَدْ كَانَ فِيهَا مَرَّةً سَاكِنَا
فَخَانَنِي الدَّهْرُ بِفُقْدَانِهِ ... وَكُنْتُ من قبل له آمنا
ودعت صبري عنه تَوْدِيعِهِ ... وَبَانَ قَلْبِي مَعَهُ ظَاعِنَا
وَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُعْتَزِّ يُعَزِّيهِ وَيُسَلِّيهِ عَنْ مُصِيبَتِهِ فِيهَا:
يا إمام الهدى حياتك طالت [1] ... وعشت أنت سليما
أنت علمتنا على النعم الشكر ... وعند المصائب التسليما
فتسلى عن ما مضى وكان التي ... كانت سُرُورًا صَارَتْ ثَوَابًا عَظِيمَا
قَدْ رَضِينَا بَأَنْ نَمُوتَ وَتَحْيَى ... إِنَّ عِنْدِي فِي ذَاكَ حَظًّا جسيما
من يمت طائعا لمولاه فقد ... أعطى فوزا ومات موتا كريما
[2] وَقَدْ رَثَى أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المعتز العباسي بن عمر الْمُعْتَضِدَ بِمَرْثَاةٍ حَسَنَةٍ يَقُولُ فِيهَا:
يَا دَهْرُ وَيْحَكَ مَا أَبْقَيْتَ لِي أَحَدًا ... وَأْنَتَ وَالِدُ سُوءٍ تَأْكُلُ الْوَلَدَا
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بَلْ ذَا كُلُّهُ قَدَرٌ ... رَضِيتُ باللَّه رَبًّا وَاحِدًا صَمَدًا
يا ساكن القبر في غبراء مظلمة ... بِالظَّاهِرِيَّةِ مُقْصَى الدَّارِ مُنْفَرِدَا
أَيْنَ الْجُيُوشُ الَّتِي قد كنت تشحنها ... أين الكنوز التي لم تحصها عددا
__________
[1] في المصرية: يا إمام الهدى بنا لا بك الغم إلخ.
[2] كذا بالأصول ولم نجد هذه القصيدة في ديوان المذكور.(11/92)
أَيْنَ السَّرِيرُ الَّذِي قَدْ كُنْتَ تَمْلَؤُهُ ... مَهَابَةً من رأته عينه ارتعدا
أَيْنَ الْقُصُورُ الَّتِي شَيَّدْتَهَا فَعَلَتْ ... وَلَاحَ فِيهَا سنا الإبريز فانقدا
قد أتعبوا كل مر قال مذكرة ... وجناء تنثر من أشداقها الزبدا
أَيْنَ الْأَعَادِي الْأُلَى ذَلَّلْتَ صَعْبَهُمُ ... أَيْنَ اللُّيُوثُ الَّتِي صَيَّرْتَهَا نَقَدًا
أَيْنَ الْوُفُودُ عَلَى الْأَبْوَابِ عاكفة ... ورد القطا صفر ما جَالَ وَاطَّرَدَا
أَيْنَ الرِّجَالُ قِيَامًا فِي مَرَاتِبِهِمْ ... مَنْ رَاحَ مِنْهُمْ وَلَمْ يُطْمَرْ فَقَدْ سَعِدَا
أَيْنَ الْجِيَادُ الَّتِي حَجَّلْتَهَا بِدَمٍ ... وَكُنَّ يَحْمِلْنَ مِنْكَ الضَّيْغَمَ الْأَسَدَا
أَيْنَ الرِّمَاحُ الَّتِي غَذَّيْتَهَا مُهَجًا ... مُذْ مِتَّ مَا وَرَدَتْ قَلْبًا وَلَا كَبِدًا
أَيْنَ السُّيُوفُ وَأَيْنَ النَّبْلُ مُرْسَلَةً ... يُصِبْنَ من شئت من قرب وإن بعدا
أين المجانيق أمثال السيول إِذَا ... رَمَيْنَ حَائِطَ حِصْنٍ قَائِمٍ قَعَدَا
أَيْنَ الفعال التي قد كنت تبدعها ... ولا ترى أن عفوا نافعا أبدا
أين الجنان التي تجرى جداولها ... ويستجيب إِلَيْهَا الطَّائِرَ الْغَرِدَا
أَيْنَ الْوَصَائِفُ كَالْغِزْلَانِ رَائِحَةً ... يَسْحَبْنَ مَنْ حُلَلٍ مَوْشِيَّةٍ جُدُدًا
أَيْنَ الْمَلَاهِي وَأَيْنَ الرَّاحُ تَحْسَبُهَا ... يَاقُوتَةً كُسِيَتْ مِنْ فِضَّةٍ زَرَدًا
أَيْنَ الْوُثُوبُ إِلَى الْأَعْدَاءِ مُبْتَغِيًا ... صَلَاحَ مُلْكِ بَنِي الْعَبَّاسِ إِذْ فَسَدَا
مَا زِلْتَ تَقْسِرُ مْنِهُمْ كُلَّ قَسْوَرَةٍ ... وَتَحْطِمُ الْعَاتِيَ الْجَبَّارَ مُعْتَمِدَا
ثُمَّ انْقَضَيْتَ فَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... حَتَّى كَأَنَّكَ يَوْمًا لَمْ تكُنْ أَحَدَا
لَا شَيْءَ يَبْقَى سُوَى خَيْرٍ تُقَدِّمُهُ ... مَا دَامَ مُلْكٌ لِإِنْسَانٍ وَلَا خَلَدَا
ذَكَرَهَا ابْنُ عَسَاكِرَ في تاريخه. واجتمع ليلة عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ نُدَمَاؤُهُ فَلَمَّا انْقَضَى السَّمَرُ وَصَارَ إِلَى حَظَايَاهُ وَنَامَ الْقَوْمُ السُّمَّارُ نَبَّهَهُمْ مِنْ نومهم خادم وَقَالَ: يَقُولُ لَكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ أَصَابَهُ أرق بَعْدِكُمْ، وَقَدْ عَمِلَ بَيْتًا أَعْيَاهُ ثَانِيهِ فَمَنْ عَمِلَ ثَانِيَهُ فَلَهُ جَائِزَةٌ وَهُوَ هَذَا الْبَيْتُ:
وَلَمَّا انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى ... إِذَا الدَّارُ قفر وَالْمَزَارُ بَعِيدُ
قَالَ فَجَلَسَ الْقَوْمُ مِنْ فُرُشِهِمْ يُفَكِّرُونَ فِي ثَانِيهِ فَبَدَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَالَ:
فَقُلْتُ لِعَيْنِي عَاوِدِي النَّوْمَ وَاهْجَعِي ... لَعَلَّ خَيَالًا طارقا سيعود
قال فلما رجع الخادم به إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَقَعَ مِنْهُ مَوْقِعًا جَيِّدًا وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ، وَاسْتَعْظَمَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا مِنْ بعض الشعراء قول الحسن بن منير الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيِّ:
لَهْفِي عَلَى مَنْ أَطَارَ النَّوْمَ فَامْتَنَعَا ... وَزَادَ قَلْبِي عَلَى أَوْجَاعِهِ وَجَعَا(11/93)
كَأَنَّمَا الشَّمْسُ مِنْ أَعْطَافِهِ طَلَعَتْ ... حُسْنًا أَوِ البدر من أردانه لمعا
فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إِسَاءَتَهُ ... مِنَ الْقُلُوبِ وجيها أين ما شَفَعَا
وَلَمَّا كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هذه السنة اشتد وجع المعتضد فاجتمع رءوس الأمراء مثل يُونُسُ الْخَادِمُ وَغَيْرُهُ إِلَى الْوَزِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَشَارُوا بِأَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ لِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ لِلْمُكْتَفِي باللَّه عَلِيِّ بْنِ الْمُعْتَضِدِ باللَّه، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَتَأَكَّدَتِ الْبَيْعَةُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ. وَحِينَ حَضَرَتِ الْمُعْتَضِدَ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ لَا تَبْقَى ... وَخُذْ صَفْوَهَا مَا إِنْ صَفَتْ وَدَعِ الرَّنْقَا
ولا تأمنن الدهر إني ائتمنته ... فَلَمْ يُبْقِ لِي حَالًا وَلَمْ يَرْعَ لِي حَقًّا
قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ ... عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى خُلُقٍ خَلْقَا
وَأَخْلَيْتُ دَارَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِعٍ ... فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا وَمَزَّقْتُهُمْ شَرْقَا
فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً ... وَصَارَتْ رقاب الخلق لي أجمع رِقَّا
رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي ... فَهَا أنا ذا فِي حُفْرَتِي عَاجِلًا أُلْقَى
وَلَمْ يُغْنِ عَنِّي ما جمعت ولم أجد ... لدى ملك إلا حباني حبها رِفْقَا
وَأَفْسَدْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً ... فَمَنْ ذَا الّذي مثلي بمصرعه أشقا
فيا ليت شعرى بعد موتى هل أصر ... إلى رحمة الله أم في ناره ألقى
وكانت وفاته لَيْلَةَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ من هذه السنة. ولم يبلغ الخمسين. وكانت خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَخَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ. عَلِيًّا الْمُكْتَفِيَ، وجعفر الْمُقْتَدِرَ، وَهَارُونَ. وَمِنَ الْبَنَاتِ إِحْدَى عَشْرَةَ بِنْتًا. وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ بِنْتًا. وَتَرَكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ يُمْسِكُ عَنْ صَرْفِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، فَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُبَخِّلُهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الحديث، حديث جابر بن سمرة فاللَّه أعلم.
خلافة الْمُكْتَفِي باللَّه أَبِي مُحَمَّدٍ
عَلِيِّ بْنُ الْمُعْتَضِدِ باللَّه أمير المؤمنين، بويع له بالخلافة عند مَوْتِ أَبِيهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَيْسَ فِي الْخُلَفَاءِ مَنِ اسْمُهُ عَلِيٌّ سِوَى هَذَا وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَلَيْسَ فيهم من يكنى بأبي محمد إلا هو وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْهَادِي، والمستضيء باللَّه. وَحِينَ وَلِيَ الْمُكْتَفِي كَثُرَتِ الْفِتَنُ وَانْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ. وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زلزلة عظيمة جدا، وفي رمضان منها تَسَاقَطَ وَقْتَ السَّحَرِ مِنَ السَّمَاءِ نُجُومٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَلَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ كَانَ بِالرَّقَّةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ فَرَكِبَ فَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ(11/94)
الاثنين لثمان خلون من جمادى منها. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ أَمَرَ بِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ- وَكَانَ مُعْتَقَلًا فِي سِجْنِ أَبِيهِ- وَأَمَرَ بِتَخْرِيبَ الْمَطَامِيرَ الَّتِي كَانَ اتَّخَذَهَا أَبُوهُ للمسجونين وَأَمَرَ بِبِنَاءِ جَامِعٍ مَكَانَهَا وَخَلَعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْوَزِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بن سليمان سِتَّ خِلَعٍ وَقَلَّدَهُ سَيْفًا، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ ولى الخلافة خمسا وعشرين سنة وبعض أشهر.
وفيها انتشرت القرامطة فِي الْآفَاقِ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْحَجِيجِ، وَتَسَمَّى بعضهم بأمير المؤمنين.
فبعث المكتفي إليهم جيشا كثيرا وأنفق فيهم أموالا جزيلة، فأطفأ الله بعض شرهم. وفيها خرج محمد ابن هَارُونَ عَنْ طَاعَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ، وكاتب أَهْلُ الرَّىِّ بَعْدَ قَتْلِهِ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ الطالبي، فصار إليهم فسلموا البلد إليه فاستحوذ عليها، فقصده إسماعيل بن أحمد الساماني بِالْجُيُوشِ فَقَهَرَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: وَفِي يَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصَّيْفِ، فَهَبَّتْ ريح باردة جدا حتى احتاج الناس إلى الاصطلاء بالنار، ولبسوا الفرا والْمَحْشُوَّاتِ وَجَمَدَ الْمَاءُ كَفَصْلِ الشِّتَاءِ. قَالَ ابْنُ الأثير: ووقع بمدينة حمص مثل ذلك، وهب رِيحٌ عَاصِفٌ بِالْبَصْرَةِ فَاقْتَلَعَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ نخيلها، وخسف بموضع فيها فمات تحته سبعة آلاف نسمة. قال ابن الجوزى. وابن الأثير: وزلزلت بغداد في رجب منها مرات متعددة ثم سكنت. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَحَدُ الصُّوفِيَّةِ الْكِبَارِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ:
وَهُوَ من أقران السري السقطي. قال: لأن ترد إلى الله ذرة من همك خير لك مما طلعت عليه الشمس. أحمد بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَضِدُ باللَّه غَلَبَ عَلَيْهِ سُوءُ المزاج والجفاف من كثرة الْجِمَاعِ، وَكَانَ الْأَطِبَّاءُ يَصِفُونَ لَهُ مَا يُرَطِّبُ بدنه به فيستعمل ضد ذلك حتى سقطت قوته.
بدر غلام المعتضد رأس الجيش
كان القاسم الوزير قد عزم عَلَى أَنْ يَصْرِفَ الْخِلَافَةَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُعْتَضِدِ وَفَاوَضَ بِذَلِكَ بَدْرًا هَذَا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَأَبَى، فلما ولى المكتفي بن المعتضد خلف الوزير غائلة ذلك فحسن الوزير للمكتفى قبل بدر هذا، فبعث المكتفي فاحتاط على حواصله وأمواله وهو بواسط، وبعث الوزير إليه بالأمان، فلما قدم بدر بعث إليه من قتله يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ قَطَعَ رَأْسَهُ وَبَقِيَتْ جُثَّتُهُ أخذها أهله فبعثوا بها إلى مكة في تابوت فدفن بها، لأنه أَوْصَى بِذَلِكَ وَكَانَ قَدْ أَعْتَقَ كُلَّ مَمْلُوكٍ له قبل وفاته. وحين أرادوا قتله صلى ركعتين رحمه الله.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الفهم بن محرز ابن إبراهيم الحافظ البغدادي، سمع خلف ابن هِشَامٍ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ وغيرهم، وعنه الحنطبى والطُّومَارِيُّ، وَكَانَ عَسِرًا فِي(11/95)
التَّحْدِيثِ إِلَّا لِمَنْ لَازَمَهُ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَخْبَارِ وَالنَّسَبِ وَالشِّعْرِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ، يَمِيلُ إلى مذهب العراقيين في الفقه، قال عنه الدار قطنى: ليس بالقوى. عمارة ابن وَثِيمَةَ بْنِ مُوسَى أَبُو رِفَاعَةَ الْفَارِسِيُّ صَاحِبُ التاريخ على السنن، وُلِدَ بِمِصْرَ وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ الليث وغيره.
هارون بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، قُتِلَ فِي السِّجْنِ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمُكْتَفِي بَغْدَادَ.
سنة تسعين ومائتين
فِيهَا أَقْبَلَ يَحْيَى بْنُ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ أبو قاسم القرمطى المعروف بالشيخ في جحافله فَعَاثَ بِنَاحِيَةِ الرَّقَّةِ فَسَادًا فَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ جيشا نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ. وَفِيهَا رَكِبَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى سَامَرَّا يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِهَا فثنى رأيه عن ذلك الوزير فرجع إِلَى بَغْدَادَ. وَفِيهَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكْرَوَيْهِ على باب دمشق زرقه رجل من المغاربة بمزراق نار فقتله، ففرح الناس بقتله، وتمكن منه المزراق فأحرقه، وكان هذا المغربي من جملة جيش المصريين، فَقَامَ بِأَمْرِ الْقَرَامِطَةِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ الْحُسَيْنُ وَتَسَمَّى بِأَحْمَدَ وَتَكَنَّى بِأَبِي الْعَبَّاسِ وَتَلَقَّبَ بِأَمِيرِ المؤمنين، وأطاعه القرامطة، فَحَاصَرَ دِمَشْقَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ فَافْتَتَحَهَا وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَمَاةَ وَمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ فَقَهَرَ أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ، وَكَانَ يَقْتُلُ الدَّوَابَّ وَالصِّبْيَانَ فِي الْمَكَاتِبِ، وَيُبِيحُ لِمَنْ مَعَهُ وَطْءَ النِّسَاءِ، فَرُبَّمَا وَطِئَ الْوَاحِدَةَ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الرِّجَالِ، فَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا هَنَأَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْآخَرَ، فَكَتَبَ أهل الشام إلى الخليفة ما يلقون من هذا اللعين، فجهز إليهم جيوشا كثيفة، وأنفق فيهم أموالا جزيلة وَرَكِبَ فِي رَمَضَانَ فَنَزَلَ الرَّقَّةَ وَبَثَّ الْجُيُوشَ في كل جانب لقتال القرامطة وكان القرمطى هذا يكتب إلى أصحابه: «من عبد الله المهدي أحمد بن عبد الله المهدي المنصور النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْحَاكِمِ بِحُكْمِ اللَّهِ، الدَّاعِي إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، الذَّابِّ عَنْ حَرِيمِ اللَّهِ، الْمُخْتَارِ مِنْ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ» وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ فَاطِمَةَ، وَهُوَ كَاذِبٌ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِقُرَيْشٍ، ثُمَّ لِبَنِيِّ هَاشِمٍ، دَخَلَ سُلَمْيَةَ فَلَمْ يَدَعْ بِهَا أَحَدًا مِنْ بنى هاشم حتى قتلهم وقتل أولادهم واستباح حريمهم.
وفيها تولى ثغر طرسوس أبو عامر أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ عِوَضًا عَنْ مُظَفَّرِ بْنِ جناح لِشَكْوَى أَهْلِ الثَّغْرِ مِنْهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بن محمد العباسي.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّيْبَانِيُّ. كَانَ إِمَامًا ثِقَةً حَافِظًا ثَبْتًا مُكْثِرًا عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: لَمْ يكن أحد أروى عن أبيه منه. روى عنه المسند ثلاثين ألفا، والتفسير مائة ألف حديث وعشرون ألفا، من ذلك سماع ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسخ والمنسوخ، والمقدم(11/96)
والمؤخر، في كتاب الله والتاريخ، وحديث سبعة وكرامات القراء، والمناسك الكبير، والصغير.
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ، وَحَدِيثُ الشُّيُوخِ. قَالَ: وَمَا زِلْنَا نَرَى أَكَابِرَ شُيُوخِنَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ وَعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ فِي الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا، وَيَذْكُرُونَ عَنْ أَسْلَافِهِمُ الْإِقْرَارَ لَهُ بِذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَسْرَفَ فِي تَقْرِيظِهِ لَهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَزِيَادَةِ السَّمَاعِ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَبِيهِ. وَلَمَّا مَرِضَ قِيلَ لَهُ أَيْنَ تُدْفَنُ؟ فَقَالَ: صَحَّ عِنْدِي أَنَّ بالقطيعة نبيا مدفونا، ولأن أكون بجوار نَبِيٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ فِي جوار أبى. مات فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سنة، كما مات لها أبوه، واجتماع في جنازته خلق كثير من الناس، وَصَلَّى عَلَيْهِ زُهَيْرٌ ابْنُ أَخِيهِ، وَدُفِنَ فِي مقابر باب التين رحمه الله تعالى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو بحر الرِّبَاطِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، صَحِبَ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ، وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ. عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْآذَانِ، كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا. مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ أبو ميسرة الهمدانيّ، صاحب المسند، كان أحد الثقات المشهورين والمصنفين.
محمد بن عبد الله أبو بكر الدقاق
أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ وَعُبَّادِهِمْ، رَوَى عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ إِبْلِيسَ فِي الْمَنَامِ وَكَأَنَّهُ عُرْيَانٌ فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: - وهو لا يظنهم ناسا- لو كانوا ناسا ما كنت ألعب بِهِمْ كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ، إِنَّمَا النَّاسُ جماعة غير هؤلاء. فقلت: أين هم؟ فقال: في مسجد الشونيزى قد أضنوا قلبي وأتعبوا جَسَدِي، كُلَّمَا هَمَمْتُ بِهِمْ أَشَارُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل فأكاد أحترق. قال: فلما انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الّذي ذكر فَإِذَا فِيهِ ثَلَاثَةٌ جُلُوسٌ وَرُءُوسُهُمْ فِي مُرَقَّعَاتِهِمْ، فرفع أحدهم رأسه إلى وقال: يا أبا القاسم لا تغتر بحديث الخبيث، وأنت كُلَّمَا قِيلَ لَكَ شَيْءٌ تُقْبِلُ؟
فَإِذَا هُمْ أبو بكر الدقاق وَأَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ وَأَبُو حَمْزَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُلْوِيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ تِلْمِيذُ الْمُزَنِيِّ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين
فيها جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة فهزموا القرامطة وأسروا رئيسهم الحسن بن زكرويه، ذا الشامة، فَلَمَّا أُسِرَ حُمِلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي جَمَاعَةٍ كثيرة من أصحابه من رءوسهم، وأدخل بغداد على فيل مشهور، وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة فأجلس عليها وَجِيءَ بِأَصْحَابِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَنْظُرُ، وَقَدْ جَعَلَ فِي فَمِهِ خَشَبَةً مُعْتَرِضَةً مَشْدُودَةً إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ أُنْزِلَ فَضُرِبَ مِائَتَيْ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرَجْلَاهُ، وَكُوِيَ، ثُمَّ أُحْرِقَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ عَلَى خَشَبَةٍ وَطِيفَ به في أرجاء بغداد، وذلك في ربيع الأول منها.(11/97)
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْأَتْرَاكُ بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ، فَبَيَّتَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خلقا كثيرا وسبوا منهم ما لا يحصون (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) 33: 25. وَفِيهَا بَعَثَ مِلْكُ الرُّومِ عَشَرَةَ صُلْبَانٍ مَعَ كل صليب عشرة آلاف، فغاروا على أطراف البلاد وقتلوا خلقا وسبوا نساء وذرية. وَفِيهَا دَخَلَ نَائِبُ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ- وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى سَاحِلِ البحر تعادل عندهم القسطنطينية- وخلص من أسارى المسلمين خمسة آلاف أسير، وأخذ للروم ستين مركبا وغنم شيئا كثيرا، فبلغ نصيب كل واحد من الغزاة ألف دينار. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الهاشمي.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ سَيَّارٍ
أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ مَوْلَاهُمُ، الْمُلَقَّبُ بِثَعْلَبٍ إِمَامُ الْكُوفِيِّينَ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، مَوْلِدُهُ في سنة مائتين، سمع محمد بن زياد الْأَعْرَابِيِّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ وَالْقَوَارِيرِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابن الأنباري وابن عرفة وأبو عمر والزاهد، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً دَيِّنًا صَالِحًا مَشْهُورًا بِالصِّدْقِ وَالْحِفْظِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْقَوَارِيرِيِّ مِائَةَ ألف حديث. توفى يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الأولى منها، عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَامِعِ وَفِي يَدِهِ كِتَابٌ يَنْظُرُ فِيهِ وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ صَمَمٌ شَدِيدٌ فَصَدَمَتْهُ فَرَسٌ فَأَلْقَتْهُ فِي هُوَّةٍ فَاضْطَرَبَ دِمَاغُهُ فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي رحمه الله وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ الْفَصِيحِ، وَهُوَ صَغِيرُ الْحَجْمِ كثير الفائدة، وله كتاب المصون، واختلاف النحويين ومعاني القرآن وكتاب القراءات ومعاني الشعر وما يلحن فيه العامة وغير ذلك. وقد نسب إليه من الشعر قوله.
إِذَا كُنْتَ قُوتَ النَّفْسِ ثُمَّ هَجَرْتَهَا ... فَكَمْ تلبث النفس التي أنت قوتها
سيبقى بقاء النبت في الماء أو كما ... أقام لدى ديمومة الماء صوتها
أغرك أنى قد تَصَبَّرْتُ جَاهِدًا ... وفي النَّفْسِ مِنِّي مِنْكَ مَا سَيُمِيتُهَا
فَلَوْ كَانَ مَا بِي بِالصُّخُورِ لَهَدَّهَا ... وبالريح ما هبت وطال حفوفها
فَصَبْرًا لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ... فَأَشْكُو هُمُومًا منك فيك لقيتها
وفيها توفى القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وَهْبٍ الْوَزِيرُ، تَوَلَّى بَعْدَ أَبِيهِ الْوِزَارَةَ فِي آخر أيام المعتضد، ثم تولى لولده المكتفي، فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ فَبَعَثَ إِلَى السُّجُونِ فَأَطْلَقَ مَنْ فِيهَا مِنَ المطلبيين، ثم توفى فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَقَدْ قَارَبَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وخلف من الأموال مَا يَعْدِلُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ شَدَّادٍ أَبُو عَبْدِ الله البصري القاضي بواسط، المعروف بالجبروعى،(11/98)
حدث عن مسدد وعن على بْنِ الْمَدِينِيِّ وَابْنِ نُمَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الثقات والقضاة الأجواد العدول الأمناء. ومحمد بن إبراهيم البوشنجي. ومحمد بن على الصايغ. وقنبل أحد مشاهير القراء. وأئمة العلماء.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
[فِيهَا دخل محمد بن سليمان في نحو عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِقِتَالِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ هَارُونُ فَاقْتَتَلَا فَقَهَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَجَمَعَ آلَ طُولُونَ وَكَانُوا سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقَتَلَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، وَانْقَضَتْ دولة الطولونية على الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى الْمُكْتَفِي. وَحَجَّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي القائم بأمر الحجاج في السنين المتقدمة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ
أَحَدُ الْمَشَايِخِ الْمُعَمَّرِينَ، كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَمْسُونَ أَلْفًا مِمَّنْ مَعَهُ مِحْبَرَةٌ، سِوَى النَّظَّارَةِ، وَيَسْتَمْلِي عَلَيْهِ سَبْعَةُ مُسْتَمْلِينَ كَلٌّ يُبَلِّغُ صَاحِبَهُ، وَيَكْتُبُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُمْ قِيَامٌ وَكَانَ كُلَّمَا حَدَّثَ بِعَشَرَةِ آلَافِ حَدِيثٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ. وَلَمَّا فُرِغَ مِنْ قِرَاءَةِ السُّنَنِ عَلَيْهِ عَمِلَ مَأْدُبَةً غَرِمَ عَلَيْهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالَ: شَهِدْتُ الْيَوْمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُبِلَتْ شَهَادَتِي وَحْدِي، أَفَلَا أَعْمَلُ شُكْرًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ؟. وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ قال: خرجت ذات ليلة من المنزل فَمَرَرْتُ بِحَمَّامٍ وَعَلَيَّ جَنَابَةٌ فَدَخَلْتُهُ فَقُلْتُ لِلْحَمَّامِيِّ: أَدَخَلَ حَمَّامَكَ أَحَدٌ بَعْدُ؟ فَقَالَ: لَا، فَدَخَلْتُ فَلَمَّا فَتَحْتُ بَابَ الْحَمَّامِ الدَّاخِلَ إِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: أَبَا مُسْلِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَكَ الْحَمْدُ إِمَّا عَلَى نِعْمَةٍ ... وَإِمَّا عَلَى نِقْمَةٍ تَدْفَعُ
تَشَاءُ فَتَفْعَلُ مَا شِئْتَهُ ... وتسمع من حيث لا يسمع
قَالَ: فَبَادَرْتُ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لِلْحَمَّامِيِّ: أَنْتَ زَعَمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ حَمَّامَكَ أَحَدٌ. فَقَالَ: نَعَمْ! وَمَا ذَاكَ؟ فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ كذا وكذا. قال: وسمعته؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: يَا سَيِّدِي هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْجَانِّ يَتَبَدَّى لَنَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَيُنْشِدُ الْأَشْعَارَ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ مَوَاعِظُ.
فَقُلْتُ: هَلْ حَفِظْتَ مِنْ شِعْرِهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: نعم. ثم أنشدنى من شعره فقال هذه الأبيات:
أيها المذنب المفرط مهلا ... كم تمادى تكسب الذَّنْبَ جَهْلًا
كَمْ وَكَمْ تُسْخِطُ الْجَلِيلَ بِفِعْلٍ ... سَمِجٍ وَهْوَ يُحْسِنُ الصُّنْعَ فِعْلًا
كَيْفَ تَهْدَا جُفُونُ مَنْ لَيْسَ يَدْرِي ... أَرَضِيَ عَنْهُ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ أَمْ لَا
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عبد العزيز أبو حاتم الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَرِعًا نَزِهَا كَثِيرَ الصِّيَانَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ(11/99)
آثارا حسنة وأفعالا جميلة، رحمه الله.] [1]
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا التفت عَلَى أَخِي الْحُسَيْنِ الْقِرْمِطِيِّ الْمَعْرُوفِ بِذِي الشَّامَةِ الّذي قتل في التي قبلها خلائق من القرامطة بِطَرِيقِ الْفُرَاتِ، فَعَاثَ بِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، ثم قصد طبرية فامتنعوا منه فدخلها قهرا فقتل بها خلقا كثيرا مِنَ الرِّجَالِ، وَأَخَذَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْبَادِيَةِ، وَدَخَلَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ إِلَى هِيتَ فَقَتَلُوا أَهْلَهَا إِلَّا الْقَلِيلَ، وَأَخَذُوا مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً حَمَلُوهَا عَلَى ثلاثة آلاف بعير، فبعث إليهم الْمُكْتَفِي جَيْشًا فَقَاتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا رَئِيسَهُمْ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَنَبَغَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ يُقَالُ لَهُ الدَّاعِيَةُ بِالْيَمَنِ فَحَاصَرَ صَنْعَاءَ فَدَخَلَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَقِيَّةِ مُدُنِ اليمن فأكثر الْفَسَادَ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ الْعُبَّادِ، ثُمَّ قَاتَلَهُ أهل صنعاء فظفروا به وهزموه، فأغار على بعض مدنها، وبعث الخليفة إليها مظفر بن حجاج نائبا، فَسَارَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ. وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى دَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ القرامطة إلى الكوفة فنادوا: يا ثارات الحسين- يعنون المصلوب في التي قبلها بِبَغْدَادَ- وَشِعَارُهُمْ: يَا أَحْمَدُ يَا مُحَمَّدُ- يَعْنُونَ الذين قتلوا معه- فبادر الناس الدخول من المصلى إلى الكوفة فدخلوا خلفهم فرمتهم العامة بالحجارة فقتلوا منهم نحو العشرين رجلا، ورجع الباقون خاسئين. وفيها ظهر رجل بمصر يقال له الخليجي فَخَلَعَ الطَّاعَةَ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ فأمر الخليفة أحمد بن كنغلغ نَائِبَ دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا فَرَكِبَ إِلَيْهِ فَاقْتَتَلَا بِظَاهِرِ مصر فهزمه الخليجي هزيمة منكرة، فبعث إليه الخليفة جيشا آخر فهزموا الخليجي وأخذوه فسلم إلى الأمير الخليفة وانطفأ خبره واشتغل الجيش بأمر الديار المصرية، فبعث القرامطة جيشا إلى بصرى صحبة رجل يقال له عبد الله بن سعيد كان يعلم الصبيان، فَقَصَدَ بُصْرَى وَأَذْرِعَاتَ وَالْبَثْنِيَّةَ فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا ثُمَّ أَمَّنَهُمْ فَلَمَّا أَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ قَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وسبى الذرية، ورام الدخول إلى دمشق فحاربه نائب دمشق أحمد بن كنغلغ، وَهُوَ صَالِحُ بْنُ الْفَضْلِ، فَهَزَمَهُ الْقِرْمِطِيُّ وَقُتِلَ صَالِحٌ فِيمَنْ قُتِلَ وَحَاصَرَ دِمَشْقَ فِلْمْ يُمْكِنْهُ فَتْحُهَا، فَانْصَرَفَ إِلَى طَبَرِيَّةَ فَقَتَلُوا أَكْثَرَ أَهْلِهَا ونهبوا منها شيئا كثيرا كما ذكرنا، ثم ساروا إلى هيت ففعلوا بها ذلك كما تقدم، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْكُوفَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الأضحى كما ذكرنا. كل ذَلِكَ بِإِشَارَةِ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرُوَيْهِ وَهُوَ مُخْتَفٍ في بلده بين ظهراني قوم من القرامطة، فإذا جاءه الطلب نزل بئرا قد اتخذها ليختفى فيها وعلى بابه تنور فتقوم امرأة فتسجره وتخبز فيه فلا يشعر به أصلا، ولا يدرى أحد أين هو، فبعث الخليفة إليه جيشا فَقَاتَلَهُمْ زَكْرَوَيْهِ بِنَفْسِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ فَهَزَمَ جَيْشَ الْخَلِيفَةِ وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا فَتَقَوَّى بِهِ وَاشْتَدَّ أَمْرُهُ، فَنَدَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جيشا آخر كثيفا فكان من أمره
__________
[1] زيادة من المصرية.(11/100)
وأمرهم ما سنذكره. وفيها خرب إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنْ بِلَادِ الْأَتْرَاكِ. وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِ حَلَبَ فقتلوا ونهبوا وسبوا. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الهاشمي.
وفيها توفى من الأعيان
أبو العباس الناشي الشاعر
واسمه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُعْتَزِلِيُّ، أَصْلُهُ مِنَ الْأَنْبَارِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ مُدَّةً، ثُمَّ انتقل إلى مصر فمات بها، وكان جيد الذهن يعاكس الشعراء ويرد على المنطقيين والفروضيين، وكان شاعرا مطيقا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ هَوَسٌ وَلَهُ قَصِيدَةٌ حَسَنَةٌ فِي نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي السِّيرَةِ. قَالَ ابن خلكان: كان عالما فِي عِدَّةِ عُلُومٍ مِنْ جُمْلَتِهَا عِلْمُ الْمَنْطِقِ، وله قصيدة في فنون من العلم عَلَى رَوِيٍّ وَاحِدٍ تَبْلُغُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَيْتٍ، وله عدة تصانيف وأشعار كثيرة.
عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَزَّارُ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي ثَوْرٍ، وكان عِنْدَهُ فِقْهُ أَبِي ثَوْرٍ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ النُّبَلَاءِ. نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيُّ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِنَصْرَكَ، كَانَ أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ نَائِبُ بخُاَرَى قَدْ ضَمَّهُ إليه وصنف له المسند. توفى ببخارى فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي المحرم من هذه السنة اعترض زكرويه في أصحابه إلى الْحُجَّاجَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَهَمْ قَافِلُونَ مِنْ مَكَّةَ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ فَكَانَ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعِدَّةُ مَنْ قُتِلَ عِشْرِينَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَكَانَتْ نِسَاءُ الْقَرَامِطَةِ يَطُفْنَ بَيْنَ الْقَتْلَى من الحجاج وفي أيديهم الآنية من الماء يزعمن أنهن يسقين الجريح العطشان، فَمَنْ كَلَّمَهُنَّ مِنَ الْجَرْحَى قَتَلْنَهُ وَأَجْهَزْنَ عَلَيْهِ، لعنهن الله ولعن أَزْوَاجَهُنَّ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ زَكْرَوَيْهِ لَعَنَهُ اللَّهُ
لَمَّا بَلَغَ الْخَلِيفَةَ خَبَرُ الْحَجِيجِ وَمَا أَوْقَعَ بِهِمُ الخبيث جَهَّزَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا فَالْتَقَوْا مَعَهُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، قُتِلَ مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَلْقٌ كثير ولم يبق منهم إِلَّا الْقَلِيلُ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ منها. وضرب رجل زكرويه بِالسَّيْفِ فِي رَأْسِهِ فَوَصَلَتِ الضَّرْبَةُ إِلَى دِمَاغِهِ، وأخذ أسيرا فمات بعد خمسة أيام، فشقوا بَطْنِهِ وَصَبَّرُوهُ وَحَمَلُوهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ أصحابه إلى بغداد، واحتوى عسكر الخليفة عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ والحواصل، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِقَتْلِ أَصْحَابِ الْقِرْمِطِيِّ، وَأَنْ يُطَافَ برأسه فِي سَائِرِ بِلَادِ خُرَاسَانَ، لِئَلَّا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عن الحج. وَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ.
وَفِيهَا غَزَا أَحْمَدُ بْنُ كنغلغ نَائِبُ دِمَشْقَ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ(11/101)
آلَافٍ وَأَسَرَ مِنْ ذَرَارِيهِمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ ألفا، وأسلم بعض البطارقة وصحبته نحو من مائتي أسير كانوا في حبسه من المسلمين، فأرسل ملك الروم جيشا في طلب ذلك البطريق، فركب في جماعة من المسلمين فكبس جيش الرُّومَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَغَنِمَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً كَثِيرَةً جِدًّا، وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ أكرمه وأحسن إليه وأعطاه ما تمناه عليه. وَفِيهَا ظَهَرَ بِالشَّامِ رَجُلٌ فَادَّعَى أَنَّهُ السُّفْيَانِيُّ فَأُخِذَ وَبُعِثَ بِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَادَّعَى أَنَّهُ موسوس فترك. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَرْوَانَ أَبُو على المعروف بعبيد العجليّ، كان حافظا مكثرا متقنا مُقَدَّمًا فِي حِفْظِ الْمُسْنَدَاتِ، تُوُفِّيَ فِي صِفْرٍ مِنْهَا.
صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ- أَسَدُ خُزَيْمَةَ- الْمَعْرُوفُ بحرزة لأنه قرأ على بعض المشايخ كانت له خرزة يرقأ بها المريض فقرأها هو حرزة تصحيفا منه فغلب عليه ذلك فلقب به، وَقَدْ كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا جَوَّالًا رَحَّالًا، طَافَ الشام ومصر وخراسان، وسكن بغداد ثم انتقل منها إلى بخارى فسكنها، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا أَمِينًا، وَلَهُ رِوَايَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَسُؤَالَاتٌ كَثِيرَةٌ كَانَ مولده بالرقة سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْمَعْرُوفُ بِالْبَيَاضِيِّ لِأَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ الْخَلِيفَةِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْبَيَاضِ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: مَنْ ذَاكَ الْبَيَاضِيُّ؟ فَعُرِفَ بِهِ. وَكَانَ ثِقَةً، رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ. قَتَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ فِي هَذِهِ السنة.
محمد بن الْإِمَامِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، سَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُمَا، وَكَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، جميل الطريقة حميد السيرة قتلته القرامطة فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْحَجِيجِ.
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ أَبُو عَبْدِ الله المروزي أحد أئمة الفقهاء
وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بِنَيْسَابُورَ وَاسْتَوْطَنَ سَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بعدهم من أئمة الإسلام، وكان عالما بالأحكام، وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَمِعَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْكَثِيرَ النَّافِعَ وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْمُفِيدَةَ الْحَافِلَةَ النَّافِعَةَ، وكان من أحسن الناس صلاة وأكثرهم خشوعا فيها، وقد صنف كتابا عظيما في الصلاة. وقد روى الخطيب عنه أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا مَكَّةَ فَرَكِبْتُ الْبَحْرَ وَمَعِي جَارِيَةٌ فَغَرِقَتِ السَّفِينَةُ فَذَهَبَ لِي فِي الْمَاءِ أَلْفَا جُزْءٍ وَسَلِمْتُ أَنَا وَالْجَارِيَةُ فَلَجَأْنَا إِلَى جَزِيرَةٍ فَطَلَبْنَا بِهَا مَاءً فَلَمْ نَجِدْ، فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى فَخِذِ الْجَارِيَةِ وَيَئِسْتُ مِنَ الْحَيَاةِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا رَجُلٌ قَدْ أَقْبَلَ وَفِي يَدِهِ كُوزٌ فَقَالَ: هَاهَ، فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُ مِنْهُ وَسَقَيْتُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ وَلَا إلى أين ذهب. ثم إن الله سبحانه أغاثنا فنجانا من ذلك الغم. وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ نَفْسًا. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يَصِلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَيَصِلُهُ أَخُوهُ إِسْحَاقُ بْنُ(11/102)
أحمد بأربعة آلاف، وَيَصِلُهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَيُنْفِقُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ ادَّخَرْتَ شَيْئًا لِنَائِبَةٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَنَا كُنْتُ بِمِصْرَ أُنْفِقُ فيها فِي كُلِّ سَنَةٍ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَرَأَيْتُ إِذَا لم يحصل لي شيء من هذا المال لَا يَتَهَيَّأُ لِي فِي السَّنَةِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ إِذَا دَخَلَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ يَنْهَضُ لَهُ وَيُكْرِمُهُ، فَعَاتَبَهُ يَوْمًا أَخُوهُ إِسْحَاقُ، فَقَالَ لَهُ: تَقُومُ لِرَجُلٍ فِي مَجْلِسِ حُكْمِكَ وَأَنْتَ مَلِكُ خُرَاسَانَ؟ قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأَنَا مشتت القلب من قول أخى- وكانوا هم ملوك خراسان وما وراء النهر- قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ:
«يَا إِسْمَاعِيلُ ثَبِّتْ مُلْكَكَ وَمُلْكَ بَنِيكَ بِتَعْظِيمِكَ مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ، وذهب ملك أخيك باستخفافه بمحمد ابن نصر» . وقد اجْتَمَعَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ. وَمُحَمَّدُ بن جرير الطبري. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، فَجَلَسُوا فِي بَيْتٍ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شيء يقتاتونه، فاقترعوا فيما بينهم أيهم يخرج يسعى لهم في شيء يأكلونه، فوقعت القرعة على محمد بن نصر هذا فقام إِلَى الصَّلَاةِ فَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وجل، وذلك وقت القائلة، فرأى نائب مصر- وهو طولون وقيل أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ- فِي مَنَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يقول له: «أدرك المحدثين فإنهم ليس عندهم ما يقتاتونه» .
فانتبه من ساعته فَسَأَلَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ؟ فَذُكِرَ لَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ بألف دينار، فدخل الرسول بها عليهم وأزال الله ضررهم ويسر أمرهم. واشترى طولون تلك الدار وبناها مسجدا وجعلها على أهل الحديث وأوقف عليها أوقافا جزيلة.
وَقَدْ بَلَغَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ سِنًّا عَالِيَةً وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ وَلَدًا فَأَتَاهُ يَوْمًا إِنْسَانٌ فبشّره بولد ذكر، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسماعيل، فاستفاد الحاضرون من ذلك عدة فَوَائِدَ: مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَهُ عَلَى الكبر ولد ذكر بعد ما كان يسأل الله عز وجل، ومنها أنه سمى يَوْمَ مَوْلِدِهِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ولده إبراهيم يوم مولده قبل السابع، ومنها اقتداؤه بالخليل أول ولد له بإسماعيل.
مُوسَى بْنُ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عِمْرَانَ الْمَعْرُوفُ وَالِدُهُ بِالْحَمَّالِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَسَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بن معين وغيرهما، وكان إمام عصره في حفظ الحديث ومعرفة الرجال، وكان ثقة متقنا شَدِيدَ الْوَرَعِ عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ الْمِصْرِيُّ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ كلاما على الحديث، أثنى عليه عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ثُمَّ مُوسَى بْنُ هَارُونَ ثم الدار قطنى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتِ الْمُفَادَاةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتُنْقِذَ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ مِنْ نساء ورجال نحوا من ثلاثة آلاف نسمة، وَفِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ صِفْرٍ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ إسماعيل بن أحمد(11/103)
الساماني أمير خراسان وما وراء النهر، وَقَدْ كَانَ عَاقِلًا عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رعيته حليما كريما، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُحْسِنُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرً الْمَرْوَزِيِّ وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ وَيَقُومُ لَهُ في مجلس ملكه، فلما مات تولى بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ الساماني وبعث إليه الخليفة تشريفة. وقد ذكر الناس يوما عند إسماعيل بن أحمد هذا الفخر بالأنساب فقال: إنما الفخر بالأعمال وينبغي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عِصَامِيًّا لَا عِظَامِيًّا- أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْتَخِرَ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ وَبَلَدِهِ وجده- كما قال بعضهم: ويجدي سموت لا يجدوى وَقَالَ آخَرُ:
حَسْبِي فَخَارًا وَشِيمَتِي أَدَبِي ... وَلَسْتُ مِنْ هَاشِمٍ وَلَا الْعَرَبِ
إِنَّ الْفَتَى مَنْ يقول ها أنا ذا ... وليس الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَانَتْ.
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي باللَّه
(أبو محمد بن المعتضد وهذه ترجمته وذكر وفاته) وهو أمير المؤمنين المكتفي باللَّه بْنِ الْمُعْتَضِدِ بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الموفق بن المتوكل على اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْخُلَفَاءِ مَنِ اسْمُهُ عَلِيٌّ سِوَاهُ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أبى طالب، وليس مِنَ الْخُلَفَاءِ مَنْ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ سِوَى الحسن بن على بن أبى طالب وهو، وكان مولده في رجب سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بعد أبيه وفي حياته يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بَقِيَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ ومائتين، وعمره نحوا مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرجال جميلا رقيق الوجه حَسَنَ الشِّعْرِ، وَافِرَ اللِّحْيَةِ عَرِيضَهَا. وَلَمَّا مَاتَ أبوه المعتضد وولى هو الْخِلَافَةِ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَأَنْشَدَهُ:
أَجَلُّ الرَّزَايَا أَنْ يَمُوتَ إِمَامٌ ... وَأَسْنَى الْعَطَايَا أَنْ يقوم إمام
فأسقى الّذي مات الغمام وجوده ... وَدَامَتْ تَحِيَّاتٌ لَهُ وَسَلَامُ
وَأَبْقَى الَّذِي قَامَ الْإِلَهُ وَزَادَهُ ... مَوَاهِبَ لَا يَفْنَى لَهُنَّ دَوَامُ
وَتَمَّتْ لَهُ الْآمَالُ وَاتَّصَلَتْ بِهَا ... فَوَائِدُ مَوْصُولٌ بِهِنَّ تَمَامُ
هُوَ الْمُكْتَفِي باللَّه يَكْفِيهِ كُلَّمَا ... عَنَاهُ بِرُكْنٍ مِنْهُ لَيْسَ يُرَامُ
فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ [وَقَدْ كَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَمِنْ ذلك قوله:
من لي بأن أعلم ما ألقى ... فتعرف منى الصبابة وَالْعِشْقَا
مَا زَالَ لِي عَبْدًا وَحُبِّي لَهُ ... صَيَّرَنِي عَبْدًا لَهُ رِقَّا
الْعِتْقُ مِنْ شَأْنِي ولكنني ... من حبه لا أملك العتقا
] [1]
__________
[1] زيادة من المصرية.(11/104)
وكان نقش خاتمه: على المتوكل عَلَى رَبِّهِ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ مُحَمَّدٌ وَجَعْفَرٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ وَمُوسَى وَعَبْدُ اللَّهِ وَهَارُونُ وَالْفَضْلُ وَعِيسَى وَالْعَبَّاسُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ. وَفِي أَيَّامِهِ فتحت انطاكية وَكَانَ فِيهَا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بَشَرٌ كَثِيرٌ وجم غفير، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ سَأَلَ عَنْ أَخِيهِ أَبِي الفضل جعفر بن المعتضد وقد صح عِنْدَهُ أَنَّهُ بَالِغٌ، فَأَحْضَرَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ منها وَأَحْضَرَ الْقُضَاةَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ فوض أمر الْخِلَافَةَ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبَهُ بِالْمُقْتَدِرِ باللَّه. وتوفى بعد ثلاثة أيام وقيل في آخر يوم السبت بعد المغرب، وقيل بين الظهر والعصر، لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ فِي دَارِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، عَنْ ثنتين وقيل ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ وستة أشهر وتسعة عشر يوما. وأوصى بِصَدَقَةٍ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وكان قَدْ جَمَعَهَا وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِدَاءِ الْخَنَازِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَدِرِ باللَّه أَمِيرِ المؤمنين أَبِي الْفَضْلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ
جُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ وَقْتَ السَّحَرِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ- وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرٌ واحد وإحدى وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَحَدٌ قَبْلَهُ أصغر منه، ولما جلس فِي مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ، ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ، وَكُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الرُّقُومِ وَغَيْرِهَا: الْمُقْتَدِرُ باللَّه، وَكَانَ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَاصَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي بَيْتِ مَالِ الْعَامَّةِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَنَيِّفٌ، وَكَانَتِ الْجَوَاهِرُ الثَّمِينَةُ فِي الْحَوَاصِلِ مِنْ لَدُنْ بَنَى أُمَيَّةَ وَأَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ، قَدْ تَنَاهَى جَمْعُهَا، فَمَا زَالَ يُفَرِّقُهَا فِي حَظَايَاهُ وَأَصْحَابِهِ حتى أنفدها، وهذا حال الصبيان وسفهاء الولاة، وَقَدِ اسْتَوْزَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْكُتَّابِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَلَّاهُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ ثم عزله ثم قتله، وقد استقصى ذكرهم ابن الجوزي. وكان له من الخدم والحشمة التامة والحجاب شيء كثير جدا، وكان كريما وفيه عبادة مع هذا كله كان كثير الصلاة كثير الصيام تطوعا، وفي يوم عرفة في أَوَّلَ وِلَايَتِهِ فَرَّقَ مِنَ الْأَغْنَامِ وَالْأَبْقَارِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ رَأْسٍ، وَمِنَ الْإِبِلِ أَلْفَيْ بَعِيرٍ، وَرَدَّ الرسوم والأرزاق والكلف إلى ما كانت عليه في زمن الأوائل من بنى العباس، وأطلق أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم، فوكل أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بن يوسف، وكان قد بنيت له أبنية في الرحبة صرف عليها فِي كُلِّ شَهْرٍ أَلْفُ دِينَارٍ، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا لِيُوسِّعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الطُّرُقَاتِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ شَيْءٍ من أيامه في ترجمته.
وفيها توفى من الأعيان
أبو إسحاق المزكي
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَخْتَوَيْهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي الْحَافِظُ الزَّاهِدُ، إِمَامُ أَهْلِ(11/105)
عَصْرِهِ بِنَيْسَابُورَ، فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالْعِلَلِ، وَقَدْ سَمِعَ خَلْقًا مِنَ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ وَدَخَلَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَاكَرَهُ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ مَهِيبًا، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ لَا يملك إلا داره التي يَسْكُنُهَا وَحَانُوتًا يَسْتَغِلُّهُ كُلَّ شَهْرٍ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَكَانَ يُطْبَخُ لَهُ الجزر بالخل فيأتدم به طول الشتاء، وقد قال أبو على الحسين بن على الحافظ: لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ.
أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ أحد أئمة الصوفية
اسمه أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ والأول أصح ويعرف بِابْنِ الْبَغَوِيِّ، أَصْلُهُ مِنْ خُرَاسَانَ وَحَدَّثَ عَنْ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ ثُمَّ صَارَ هُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ، قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْمَغَازِلِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ، قِيلَ لَهُ: وَلَا الْجُنَيْدُ؟ قَالَ: وَلَا الجنيد ولا غيره. وَقَالَ غَيْرُهُ: صَامَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ لَا مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِنْ غيره. وَتُوُفِّيَ فِي مَسْجِدٍ وَهُوَ مُقَنَّعٌ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
إِسْمَاعِيلُ بن أحمد بن سامان
أحد ملوك خراسان وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ الصَّفَّارَ الخارجي، وكتب بذلك إلى الْمُعْتَضِدِ فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ ثُمَّ وَلَّاهُ الْمُكْتَفِي الرَّىَّ وما وراء النهر وبلاد الترك، وقد غزا بلادهم وأوقع بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَبَنَى الرُّبُطَ فِي الطُّرُقَاتِ يَسَعُ الرِّبَاطُ مِنْهَا أَلْفَ فَارِسٍ، وَأَوْقَفَ عَلَيْهِمْ أَوْقَافًا جَزِيلَةً، وَقَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ طَاهِرُ بْنُ محمد بن عمرو بن الليث هدايا جزيلة مِنْهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ جَوْهَرَةً زِنَةُ كُلِّ جَوْهَرَةٍ منها ما بين السبع مَثَاقِيلَ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَبَعْضُهَا أَحْمَرُ وَبَعْضُهَا أَزْرَقُ قِيمَتُهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ وَشَفَعَ فِي طَاهِرٍ فَشَفَّعَهُ فِيهِ. وَلَمَّا مَاتَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَبَلَغَ الْمُكْتَفِيَ مَوْتُهُ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
لَنْ يَخْلُفَ الدهر مثلهم أبدا ... هيهات هيهات شأنه عَجَبُ
الْمَعْمَرِيُّ الْحَافِظُ
صَاحِبُ عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ الْحَافِظُ، رَحَلَ وَسَمِعَ مِنَ الشُّيُوخِ وَأَدْرَكَ خَلْقًا مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بن معين، وعنه ابن صاعد والنجاد والجلدى، وكان من بحور العلم وحفاظ الحديث، وصدوقا ثَبْتًا، وَقَدْ كَانَ يُشَبِّكُ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ مِنَ الْكِبَرِ، لِأَنَّهُ جَاوَزَ [الثَّمَانِينَ، وَكَانَ يُكَنَّى أَوَّلًا بِأَبِي الْقَاسِمِ، ثُمَّ بِأَبِي عَلِيٍّ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ لِلْبَرْتِيِّ عَلَى الْقَصْرِ وَأَعْمَالِهَا] [1] وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمَعْمَرِيُّ بِأُمِّهِ أُمِّ الْحَسَنِ بِنْتِ أَبِي سفيان صاحب معمر بن راشد. وقد صنف المعمري كتابا جيدا في عمل يوم وليلة، واسمه الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ المعمري، توفى ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم.
__________
[1] زيادة من المصرية.(11/106)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ وَاسْمُ أَبِي شُعَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو شُعَيْبٍ الْأُمَوِيُّ الْحَرَّانِيُّ الْمُؤَدِّبُ الْمُحَدِّثُ ابْنُ الْمُحَدِّثِ. وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ ومائتين، سمع أَبَاهُ وَجَدَّهُ وَعَفَّانَ بْنَ مُسْلِمٍ وَأَبَا خَيْثَمَةَ، كَانَ صَدُوقًا ثِقَةً مَأْمُونًا. تُوُفِّيَ فِي ذِي الحجة منها على بن أحمد المكتفي باللَّه تقدم ذكره. أبو جعفر الترمذي محمد بن محمد بْنِ نَصْرٍ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، كان من أهل العلم والزهد، ووثقه الدار قطنى، كان مأمونا ناسكا، وقال القاضي أحمد ابن كَامِلٍ: لَمْ يَكُنْ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ أَرْأَسُ منه، ولا أورع: كان متقللا فِي الْمَطْعَمِ عَلَى حَالَةٍ عَظِيمَةٍ فَقْرًا وَوَرَعًا وَصَبْرًا، وَكَانَ يُنْفِقُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وَكَانَ قد اختلط في آخر عمره. توفى المحرم منها.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ والجند والأمراء على خلع المقتدر وتولية عبد الله ابن المعتز الخلافة، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْفَكُ بِسَبَبِهِ دَمٌ، وكان المقتدر قد خرج يلعب بالصولجان فقصد إليه الحسن بْنُ حَمْدَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْتِكَ بِهِ، فَلَمَّا سمع المقتدر الصيحة بَادَرَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فَأَغْلَقَهَا دُونَ الْجَيْشِ، واجتمع الأمراء والأعيان والقضاة في دار المخرمي فَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَزِّ وَخُوطِبَ بِالْخِلَافَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُرْتَضِي باللَّه. وَقَالَ الصُّولِيُّ: إِنَّمَا لَقَّبُوهُ المنتصف باللَّه، واستوزر أبا عبيد اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ وَبَعَثَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَأْمُرُهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ ابن طاهر لينتقل إليها، فأجابه بالسمع والطاعة، فركب الحسن بْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْغَدِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ لِيَتَسَلَّمَهَا فَقَاتَلَهُ الْخَدَمُ وَمَنْ فِيهَا، وَلَمْ يُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ، وَهَزَمُوهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَخْلِيصِ أَهْلِهِ وماله إلا بالجهد. ثم ارتحل من فوره إلى الموصل وتفرق نِظَامُ ابْنِ الْمُعْتَزِّ وَجَمَاعَتِهِ، فَأَرَادَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى سَامَرَّا لِيَنْزِلَهَا فَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَدَخَلَ دَارَ ابْنِ الْجَصَّاصِ فاستجار به فأجاره، وَوَقَعَ النَّهْبُ فِي الْبَلَدِ وَاخْتَبَطَ النَّاسُ وَبَعَثَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى أَصْحَابِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَأَعَادَ ابْنَ الْفُرَاتِ إِلَى الْوِزَارَةِ فجدد البيعة إلى المقتدر وأرسل إلى دار ابن الجصاص فتسلمها وَأَحْضَرَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ وَابْنَ الْجَصَّاصِ فَصَادَرَ ابْنَ الجصاص بمال جزيل جدا، نحو سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَاعْتَقَلَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ لَيْلَتَانِ ظَهَرَ لِلنَّاسِ مَوْتُهُ وَأُخْرِجَتْ جُثَّتُهُ فَسُلِّمَتْ إِلَى أَهْلِهِ فَدُفِنَ، وَصَفَحَ الْمُقْتَدِرُ عَنْ بقية من سعى فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ حَتَّى لَا تَفْسَدَ نِيَّاتُ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يُعْرَفُ خَلِيفَةٌ خلع ثم أعيد إلا الْأَمِينِ وَالْمُقْتَدِرِ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَقَطَ بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى الْأَسْطِحَةِ مِنْهُ نَحْوٌ مِنْ أربعة أصابع وهذا غريب فِي بَغْدَادَ جِدًّا، وَلَمْ تَخْرُجِ السَّنَةُ، حَتَّى خرج الناس يستسقون لأجل تأخر المطر عن إبانه.(11/107)
وفي شعبان منها خلع على يونس الخادم وأمر بالمسير الى طرسوس لأجل غزو الروم. وفيها أَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِأَنْ لَا يُسْتَخْدَمَ أَحَدٌ مِنَ اليهود والنصارى في الدواوين، وألزموا بلزومهم بيوتهم، وأن يلبسوا المساحي ويضعوا بين أكتافهم رقاعا لِيُعْرَفُوا بِهَا، وَأَلْزِمُوا بِالذُّلِّ حَيْثُ كَانُوا. وَحَجَّ بالناس فيها الفضل ابن عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ، وَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ من قلة الماء بالطريق وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي عَتَّابٍ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْحَافِظُ، وَيُعَرَفُ بِأَخِي مَيْمُونٍ. رَوَى عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَكَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ أَنْ يُحَدِّثَ وَإِنَّمَا يُسْمَعُ مِنْهُ في المذاكرة.
تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ
أحمد بن محمد بن هاني الطَّائِيُّ الْأَثْرَمُ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا الْوَلِيدِ وَالْقَعْنَبِيَّ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا، وكان حافظا صَادِقًا قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، كَانَ ابْنُ مَعِينٍ يَقُولُ عَنْهُ: كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ جِنِّيًّا لِسُرْعَةِ فَهْمِهِ وحفظه، وَلَهُ كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ فِي الْعِلَلِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَكَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ
خَلَفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى
أَبُو مُحَمَّدٍ العكبريّ، سمع الحديث وكان ظريفا وكان لَهُ ثَلَاثُونَ خَاتَمًا وَثَلَاثُونَ عُكَّازًا، يَلْبَسُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ خَاتَمًا وَيَأْخُذُ فِي يَدِهِ عُكَّازًا، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَكَانَ لَهُ سَوْطٌ مُعَلَّقٌ فِي مَنْزِلِهِ، فإذا سئل عن ذلك قال: لِيَرْهَبَ الْعِيَالُ مِنْهُ
ابْنُ الْمُعْتَزِّ الشَّاعِرُ الَّذِي بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ باللَّه مُحَمَّدِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ باللَّه محمد بن الرشيد يكنى أبو العباس الهاشمي العباسي، كان شاعرا مطيقا فصيحا بليغا مطبقا، وَقُرَيْشٌ قَادَةُ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ. وَقَدْ سَمِعَ الْمُبَرِّدَ وَثَعْلَبًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحَكَمِ وَالْآدَابِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قوله: أنفاس الحي خطايا. أَهْلُ الدُّنْيَا رَكْبٌ يُسَارُ بِهِمْ وَهُمْ نِيَامٌ، رُبَّمَا أَوْرَدَ الطَّمَعُ وَلَمْ يُصْدِرْ، رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ الْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ، مَنْ تَجَاوَزَ الْكَفَافَ لم يغنه الإكثار، كلما عظم قدر المتنافس فِيهِ عَظُمَتِ الْفَجِيعَةُ بِهِ، مَنِ ارْتَحَلَهُ الْحِرْصُ أضناه الطلب. وروى انضاه الطلب أي أضعفه، والأول معناه أمرضه. الحرص نقص مِنْ قَدْرِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَزِيدُ فِي حَظِّهِ شيئا، أَشْقَى النَّاسِ أَقْرَبُهُمْ مِنَ السُّلْطَانِ، كَمَا أَنَّ أقرب الأشياء إلى النار أقربها حريفا. مَنْ شَارَكَ السُّلْطَانَ فِي عِزِّ الدُّنْيَا شَارَكَهُ فِي ذُلِّ الْآخِرَةِ، يَكْفِيكَ مِنَ الْحَاسِدِ أَنَّهُ يَغْتَمُّ وَقْتَ سُرُورِكَ. الْفُرْصَةُ سَرِيعَةُ الْفَوْتِ بَعِيدَةُ العود، الأسرار إذا كثرت خزانها ازدادت ضياعا، العزل نصحك من تيه الولاة. الْجَزَعُ أَتَعَبُ مِنَ الصَّبْرِ، لَا تَشِنْ وَجْهَ العفو بالتقريع، تركة الميت عز للورثة وذل له. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ وَحِكَمِهِ. وَمِنْ شعره مما يناسب المعنى قوله: -(11/108)
بادر إلى مالك ورّثه ... ما المرء في الدنيا بلباث
كم جامع يخنق أكياسه ... قد صار فِي مِيزَانِ مِيرَاثِ
وَلَهُ أَيْضًا
يا ذَا الْغِنَى وَالسَّطْوَةِ الْقَاهِرَهْ ... وَالدَّوْلَةِ النَّاهِيَةِ الْآمِرَهْ
وَيَا شَيَاطِينَ بَنِي آدَمَ ... وَيَا عَبِيدَ الشَّهْوَةِ الْفَاجِرَهْ
انتظروا الدنيا وقد أدبرت ... وَعَنْ قَلِيلٍ تَلِدُ الْآخِرَهْ
وَلَهُ أَيْضًا
ابْكِ يا نَفْسُ وَهَاتِي ... تَوْبَةً قَبْلَ الْمَمَاتِ
قَبْلَ أن يفجعنا الدهر ... ببين وشتات
لا تخونينى إذا مت ... وقامت بى نعاتى
إنما الوفي بِعَهْدِي ... مَنْ وَفَى بَعْدَ وَفَاتِي
قَالَ الصُّولِيُّ: نَظَرَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْخَلِيفَةِ إِلَى جَارِيَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَمَرِضَ مِنْ حُبِّهَا، فَدَخَلَ أَبُوهُ عَلَيْهِ عَائِدًا فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَيُّهَا الْعَاذِلُونَ لَا تَعْذِلُونِي ... وَانْظُرُوا حُسْنَ وَجْهِهَا تَعْذُرُونِي
وَانْظُرُوا هَلْ تَرَوُنَ أَحْسَنَ مِنْهَا ... إِنْ رَأَيْتُمْ شَبِيهَهَا فَاعْذِلُونِي
قَالَ: فَفَحَصَ الخليفة عن القصة وَاسْتَعْلَمَ خَبَرَ الْجَارِيَةِ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى سَيِّدِهَا فاشتراها منه بسبعة آلاف دينار، وبعث بها إلى ولده. وقد تقدم أَنَّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اجتمع الأمراء وَالْقُضَاةُ عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ هَذَا وَلُقِّبَ بِالْمُرْتَضِي وَالْمُنْتَصِفِ باللَّه، فما مكث بالخلافة إلا يوما أو بعض يوم، ثم انتصر المقتدر وقتل غالب من خرج عليه واعتقل ابن المعتز عنده في الدار، وو كل بِهِ يُونُسَ الْخَادِمَ فَقُتِلَ فِي أَوَائِلِ رَبِيعٍ الْآخَرِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَنْشَدَ في آخر يوم من حياته وهو معتل:
يَا نَفْسُ صَبْرًا لَعَلَّ الْخَيْرَ عُقْبَاكِ ... خَانَتْكَ مِنْ بَعْدِ طُولِ الْأَمْنِ دُنْيَاكِ
مَرَّتْ بِنَا سَحَرًا طَيْرٌ فَقُلْتُ لَهَا ... طُوبَاكِ يَا لَيْتَنِي إِيَّاكِ طُوبَاكِ
إِنْ كَانَ قَصْدُكِ شَرْقًا فَالسَّلَامُ على ... شاطئ الصراة بلغى إِنْ كَانَ مَسْرَاكِ
مِنْ مُوثَقٍ بِالْمَنَايَا لَا فِكَاكَ لَهُ ... يَبْكِي الدِّمَاءَ عَلَى إِلْفٍ لَهُ بَاكِي
فَرُبَّ آمِنَةٍ جَاءَتْ مَنِيَّتُهَا ... وَرُبَّ مُفْلِتَةٍ مِنْ بَيْنِ أَشْرَاكِ
أَظُنُّهُ آخِرَ الْأَيَّامِ مِنْ عُمُرِي ... وَأَوْشَكَ الْيَوْمَ أَنْ يَبْكِي لِيَ الْبَاكِي
وَلَمَّا قُدِّمَ لِيُقْتَلَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَقُلْ لْلشَّامِتِينَ بِنَا رُوَيْدًا ... أَمَامَكُمُ الْمَصَائِبُ وَالْخُطُوبُ(11/109)
هو الدهر لَا بُدَّ مِنْ أَنْ ... يَكُونَ إِلَيْكُمُ مِنْهُ ذُنُوبُ
ثُمَّ كَانَ ظُهُورُ قَتْلِهِ لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ ربيع الآخر منها. وقد ذكر له ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً، مِنْهَا طَبَقَاتُ الشُّعَرَاءِ وَكِتَابُ أَشْعَارِ الْمُلُوكِ، وَكِتَابُ الْآدَابِ وَكِتَابُ الْبَدِيعِ، وَكِتَابٌ فِي الْغِنَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَنَّ طائفة من الأمراء خلعوا المقتدر وبايعوه بالخلافة يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ تَمَزَّقَ شَمْلُهُ وَاخْتَفَى فِي بَيْتِ ابْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِىِّ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ فقتل وصودر ابن الجصاص بألفي دينار، وبقي معه ستمائة ألف دينار.
وكان ابن المعتز أسمر اللون مدور الْوَجْهِ يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ، عَاشَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ وَأَشْعَارِهِ رَحِمَهُ اللِّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَبِيبٍ
أَبُو حُصَيْنٍ الْوَادِعِيُّ القاضي، صاحب المسند، من أهالي الْكُوفَةِ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَجَنْدَلِ بْنِ وَالِقٍ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ والمحاملي، قال الدار قطنى: كان ثقة، توفى بالكوفة. مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَاتِبُ عَمُّ الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي ذَلِكَ رَوَى عَنْ عُمَرَ بن شيبة وَغَيْرِهِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عن ثلاث وخمسين سنة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا غزا القاسم بن سيما الصائفة، وفادى يونس الْخَادِمٌ الْأُسَارَى الَّذِينَ بِأَيْدِي الرُّومِ، وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ رَأَى فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ بِبَغْدَادَ امْرَأَةً بِلَا ذِرَاعَيْنِ ولا عضدين، وإنما كفّاها ملصقان بكتفيها، لا تستطيع أن تَعْمَلُ بِهِمَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِرِجْلَيْهَا ما تعمله النساء بأيديهن: الغزل والفتل ومشط الرأس وغير ذلك. وفيها تأخرت الأمطار عن بغداد وَارْتَفَعَتِ الْأَسْعَارُ بِهَا، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مَكَّةَ جاءها سيل عظيم غرق أركان البيت، وفاضت زمزم، وَلَمْ يُرَ ذَلِكَ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ. وَحَجَّ بالناس الفضل الهاشمي.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ
أبو بكر الفقيه ابن الفقيه الظَّاهِرِيِّ، كَانَ عَالِمًا بَارِعًا أَدِيبًا شَاعِرًا فَقِيهًا ماهرا، له كِتَابِ الزُّهَرَةِ اشْتَغَلَ عَلَى أَبِيهِ وَتَبِعَهُ فِي مذهبه ومسلكه وما اختاره من الطرائق وارتضاه، وكان أبوه يحبه ويقر به وَيُدْنِيهِ. قَالَ رُوَيْمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كُنَّا يَوْمًا عند داود إذ جاء ابنه هذا باكيا فقال: مالك؟ فَقَالَ: إِنَّ الصِّبْيَانَ يُلَقِّبُونَنِي عُصْفُورَ الشَّوْكِ. فَضَحِكَ أبوه فاشتد غضب الصبى وقال لأبيه: أَنْتَ أَضَرُّ عَلَيَّ مِنْهُمْ، فَضَمَّهُ أَبَوْهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا الْأَلْقَابُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ مَا أَنْتَ يَا بُنَيَّ إِلَّا عُصْفُورُ الشَّوْكِ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ أُجْلِسَ فِي مَكَانِهِ فِي الْحَلْقَةِ فَاسْتَصْغَرَهُ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَهُ سَائِلٌ يَوْمًا عَنْ حَدِّ السُّكْرِ(11/110)
فقال: إذا غربت عنه الفهوم وباح بسره المكتوم. فاستحسن الحاضرون منه ذلك وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: وَقَدِ ابْتُلِيَ بِحُبِّ صَبِيٍّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَامِعٍ وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ زُخْرُفٍ فَاسْتَعْمَلَ الْعَفَافَ وَالدِّينَ فِي حُبِّهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ فِيهِ حَتَّى كَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: فَدَخَلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا عَنْهُ: «مَنْ عَشِقَ فَكَتَمَ فَعَفَّ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا» . وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ كَانَ يُبِيحُ الْعِشْقَ بِشَرْطِ الْعَفَافِ. وَحَكَى هُوَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَعَشَّقُ مُنْذُ كَانَ فِي الْكُتَّابِ وَأَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابَ الزُّهَرَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ صغره، ورد ما وَقَفَ أَبُوهُ دَاوُدُ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَكَانَ يتناظر هو وأبو العباس بن شريح كَثِيرًا بِحَضْرَةِ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَيَعْجَبُ النَّاسُ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمَا وَحُسْنِهَا، وَقَدْ قال له ابن شريح يَوْمًا فِي مُنَاظَرَتِهِ: أَنْتَ بِكِتَابِ الزُّهَرَةِ أَشْهَرُ مِنْكَ بِهَذَا. فَقَالَ لَهُ: تُعَيِّرُنِي بِكِتَابِ الزُّهَرَةِ وأنت لا تحسن تشتم قِرَاءَتَهُ، وَهُوَ كِتَابٌ جَمَعْنَاهُ هَزْلًا فَاجْمَعْ أَنْتَ مثله جدا. وقال القاضي أبو عمر: كُنْتُ يَوْمًا أَنَا وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ رَاكِبَيْنَ فَإِذَا جَارِيَةٌ تُغَنِّي بِشَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ:
أشكو إليك فؤادا أَنْتَ مُتْلِفَهُ ... شَكْوَى عَلِيلٍ إِلَى إِلْفٍ يُعَلِّلُهُ
سُقْمِي تَزِيدُ عَلَى الْأَيَّامِ كَثْرَتُهُ ... وَأَنْتَ فِي عُظْمِ مَا أَلْقَى تُقَلِّلُهُ
اللَّهُ حَرَّمَ قَتْلِي فِي الْهَوَى أَسَفًا ... وَأَنْتَ يَا قَاتِلِي ظُلْمًا تحلله
فقال أبو بكر: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى اسْتِرْجَاعِ هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَيْهَاتَ سار بِهِ الرُّكْبَانُ. كَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رحمه الله فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَلَسَ ابْنُ شريح لعزاه وقال: ما أثنى إِلَّا عَلَى التُّرَابِ الَّذِي أَكَلَ لِسَانَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَخَلْقٍ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْخُلْدِيُّ وَالْبَاغَنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَّبَهُ عبد الله بن الامام أحمد وقال: هُوَ كَذَّابٌ بَيِّنُ الْأَمْرِ، وَتَعَجَّبَ مِمَّنْ يَرْوِي عنه. توفى في ربيع الأول منها.
مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحسن بْنِ مُصْعَبٍ مِنْ بَيْتِ الْإِمَارَةِ وَالْحِشْمَةِ، بَاشَرَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ مُدَّةً ثُمَّ خُرَاسَانَ ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وخمسين فأسره وبقي معه يطوف به الآفاق أربع سنين، ثم تخلص منه في بعض الوقعات ونجا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِبَغْدَادَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ
ابن مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْصَارِىُّ الْخَطْمِىُّ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ أَبَاهُ وأحمد ابن حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ وَغَيْرَهُمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ شَابٌّ وَقَرَءُوا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ ينتحل(11/111)
مذهب الشافعيّ، وولى قضاء الأهواز، وكان ثقة فاضلا عَفِيفًا فَصِيحًا كَثِيرَ الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ منها.
يوسف بن يعقوب
ابن إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالِدُ الْقَاضِي أبى عمر، وهو الّذي قتل الحلاج، كان يوسف هذا من أكابر العلماء وأعيانهم، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ حرب وعمرو بن مرزوق وهدبة ومسددا، وكان ثقة، وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ وَالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بغداد، وكان عفيفا شديد الحرمة نزها، جاءه يوما بعض خدم الخليفة المعتضد فترفع في المجلس على خصمه فَأَمَرَهُ حَاجِبُ الْقَاضِي أَنْ يُسَاوِيَ خَصْمَهُ فَامْتَنَعَ إدلالا بجاهه عند الخليفة، فزبره الْقَاضِي وَقَالَ: ائْتُونِي بِدَلَّالِ النَّخْسِ حَتَّى أَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ وَأَبْعَثَ بِثَمَنِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ حَاجِبُ الْقَاضِي فَأَخْذَهُ بِيَدِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَ خَصْمِهِ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْحُكُومَةُ رَجَعَ الْخَادِمُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ فبكى بين يديه فقال له: مالك؟ فأخبره بالخبر، وما أراد القاضي من بيعه، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ بَاعَكَ لَأَجَزْتُ بَيْعَهُ وَلَمَا اسْتَرْجَعْتُكَ أَبَدًا، فَلَيْسَ خُصُوصِيَّتُكَ عِنْدِي تُزِيلُ مَرْتَبَةَ الشرع فَإِنَّهُ عَمُودُ السُّلْطَانِ وَقِوَامُ الْأَدْيَانِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ في رمضان منها.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَدِمَ الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَمَعَهُ الْأُسَارَى وَالْعُلُوجُ بِأَيْدِيهِمْ أَعْلَامٌ عليها صلبان من الذهب، وخلق من الأسارى. وفيها قدمت هدايا نائب خراسان أحمد بن إسماعيل ابن أَحْمَدَ السَّامَانِىِّ، مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ غُلَامًا بحرابهم وأسلحتهم وما يحتاجون إليه، وخمسون بازا وَخَمْسُونَ جَمَلًا تَحْمِلُ مِنْ مُرْتَفِعِ الثِّيَابَ، وَخَمْسُونَ رِطْلًا مِنْ مِسْكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِيهَا فُلِجَ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، فَقُلِّدَ مَكَانَهُ عَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَالْكَرْخِ ابْنَهُ مُحَمَّدٌ. وفيها في شعبان أخذ رجلان يقال لأحدهما: أبو كبيرة والآخر يعرف بالسمري. فذكروا أَنَّهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَنَّهُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ. وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الرُّومَ قَصَدَتِ اللَّاذِقِيَّةَ. وَفِيهَا وَرَدَتِ الأخبار بأن ريحا صفراء هبت بمدينة الْمَوْصِلِ فَمَاتَ مِنْ حَرِّهَا بِشَرٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا حج بالناس الفضل الهاشمي.
وفيها توفى من الأعيان.
ابن الراونديّ
أحد مشاهير الزنادقة، كان أبوه يهوديا فأظهر الإسلام، ويقال إنه حرّف التَّوْرَاةِ كَمَا عَادَى ابْنُهُ الْقُرْآنَ بِالْقُرْآنِ وَأَلْحَدَ فِيهِ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الْقُرْآنِ سَمَّاهُ الدَّامِغَ. وَكِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ والاعتراض عليها سماه الزمردة. وكتابا يقال له التَّاجِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَلَهُ كِتَابُ الْفَرِيدِ وكتاب إمامة المفضول الفاضل. وَقَدِ انْتَصَبَ لِلرَّدِّ عَلَى كُتُبِهِ هَذِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيُّ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَمَانِهِ، وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ أَبُو هَاشِمٍ عبد السلام(11/112)
ابن أبى على، قال الشيخ أبو على: قرأت كتاب هذا الْمُلْحِدِ الْجَاهِلِ السَّفِيهِ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ فِلْمْ أَجِدْ فِيهِ إِلَّا السَّفَهَ وَالْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ، قَالَ: وَقَدْ وَضَعَ كِتَابًا فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ وَتَصْحِيحِ مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَوَضَعَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعَةَ عشر موضعا، ونسبه إلى الكذب- يعنى النبي صلى الله عليه وسلم- وَطَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَوَضَعَ كِتَابًا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وفضل دينهم على المسلمين والإسلام، ويحتج لَهُمْ فِيهَا عَلَى إِبْطَالِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الكتب التي تبين خروجه عن الإسلام. نقل ذلك ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ طَرَفًا مِنْ كَلَامِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَطَعْنِهِ عَلَى الْآيَاتِ وَالشَّرِيعَةِ. وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَقَلُّ وَأَخَسُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يُلْتَفَتَ إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه. وَقَدْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ حِكَايَاتٍ مِنَ الْمَسْخَرَةِ وَالِاسْتِهْتَارِ وَالْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ، مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُفْتَعَلٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، وَعَلَى طَرِيقِهِ وَمَسْلَكِهِ فِي الْكُفْرِ وَالتَّسَتُّرِ في المسخرة، يخرجونها في قوالب مسخرة وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثير موجود فيمن يدعى الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه، وهؤلاء ممن قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) 9: 65- 66 الآية.
وَقَدْ كَانَ أَبُو عِيسَى الْوَرَّاقُ مُصَاحِبًا لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ قَبَّحَهُمَا اللَّهُ، فَلَمَّا عَلِمَ النَّاسُ بِأَمْرِهِمَا طلب السلطان أبا عيسى فأودع السجن حتى مات. وأما ابن الراونديّ فهرب فلجأ إِلَى ابْنِ لَاوِي الْيَهُودِيِّ، وَصَنَّفَ لَهُ فِي مدة مقامه عنده كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ «الدَّامِغَ لِلْقُرْآنِ» فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَهُ إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً حَتَّى مَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُخِذَ وَصُلِبَ. قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: وَرَأَيْتُ فِي كِتَابٍ مُحَقَّقٍ أَنَّهُ عَاشَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً مَعَ مَا انتهى إليه من التوغل في المخازي في هذا العمر القصير لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ وَلَا رَحِمَ عِظَامَهُ.
وَقَدْ ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يخرجه بِشَيْءٍ، وَلَا كَأَنَّ الْكَلْبَ أَكَلَ لَهُ عَجِينًا، عَلَى عَادَتِهِ فِي الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، فَالشُّعَرَاءُ يُطِيلُ تَرَاجِمَهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ يَذْكُرُ لَهُمْ تَرْجَمَةً يَسِيرَةً، وَالزَّنَادِقَةُ يترك ذكر زندقتهم. وأرخ ابن خلكان تاريخ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا فَاحِشًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَوَفَّى فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا أَرَّخَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ.
وفيها توفى.
الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ
أَبُو الْقَاسِمِ الخزاز، ويقال له الْقَوَارِيرِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ نَهَاوَنْدَ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بها. وسمع الحديث من الحسين بْنِ عَرَفَةَ. وَتَفَقَّهَ بِأَبَى ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ الْكَلْبِيٍّ، وَكَانَ يُفْتِي بِحَضْرَتِهِ وَعُمُرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاشْتُهِرَ بصحبة الحارث المحاسبي، وخاله سرى السقطي،(11/113)
ولازم التعبد، ففتح الله عليه بسبب ذلك علوما كثيرة، وتكلم على طريقة الصوفية. وَكَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةِ رَكْعَةٍ، وَثَلَاثِينَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ. وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يأوى إلى فراش، ففتح عليه من العلم النافع والعمل الصالح بأمور لم تحصل لغيره في زمانه، وكان يعرف سائر فنون العلم، وإذا أخذ فيها لم يكن له فيها وقفة ولا كبوة، حتى كان يقول في المسألة الواحدة وجوها كثيرة لم تخطر للعلماء ببال، وكذلك في التصوف وغيره. ولما حضرته الوفاة جعل يصلى ويتلو القرآن، فقيل له: لو رفقت بنفسك في مثل هذا الحال؟ فقال: لا أَحَدٌ أَحْوَجَ إِلَى ذَلِكَ مِنِّي الْآنَ، وَهَذَا أوان طى صحيفتي. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَيُقَالُ: كَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وكان ابن سريح يصحبه ويلازمه، [وربما استفاد منه أشياء في الفقه لم تخطر له ببال، ويقال: إنه سأله مرة عن مسألة، فأجابه فيها بجوابات كثيرة، فقال: يا أبا القاسم ألم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت، فأعدها على. فأعادها بجوابات أخرى كثيرة. فقال: والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده. فأعاده بجوابات أخرى غير ذلك، فقال له: لم أسمع بمثل هذا فأمله عليّ حتى أكتبه. فقال الجنيد: لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي إن الله هو الّذي يجرى ذلك على قلبي وينطق به لساني، وليس هذا مستفاد من كتب ولا من تعلم، وإنما هذا من فضل الله عز وجل يلهمنيه ويجريه على لساني. فقال: فمن أين استفدت هذا العلم؟ قال: من جلوسي بين يدي الله أربعين سنة. والصحيح أنه كان على مذهب سفيان الثوري وطريقه والله أعلم [1]] .
وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْعَارِفِ؟ فَقَالَ: مِنْ نَطَقَ عن سرك وأنت ساكت. وقال: مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ في مذهبنا وطريقتنا.
ورأى بعضهم معه مسبحة فقال له: أنت مع شرفك تتخذ مسبحة؟ فَقَالَ: طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى اللَّهِ لَا أفارقه. وقال له خاله السري: تكلم على الناس. فلم ير نفسه مَوْضِعًا. فَرَأَى فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ. فَغَدَا عَلَى خَالِهِ، فقال له: لم تسمع منى حتى قال لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى النَّاسِ، فَجَاءَهُ يَوْمًا شَابٌّ نَصْرَانِيٌّ فِي صُورَةِ مُسْلِمٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» ؟ فأطرق الجنيد، ثم رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم: قَالَ فَأَسْلَمَ الْغُلَامُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: مَا انْتَفَعْتُ بِشَيْءٍ انْتِفَاعِي بِأَبْيَاتٍ سَمِعْتُهَا مِنْ جَارِيَةٍ تُغَنِّي بِهَا فِي غُرْفَةٍ وَهِيَ تَقُولُ:
إِذَا قُلْتُ: أهدى الهجرلى حُلَلَ الْبِلَى ... تَقُولِينَ: لَوْلَا الْهَجْرُ لَمْ يَطِبِ الْحُبُّ
وَإِنْ قُلْتُ: هَذَا الْقَلْبُ أَحْرَقَهُ الْجَوَى ... تقولين لي: إن الجوى شرف القلب
__________
[1] زيادة من نسخة الأستانة.(11/114)
وَإِنْ قُلْتُ: مَا أَذْنَبْتُ، قَالَتْ مُجِيبَةً: ... حَيَاتُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
قَالَ: فَصُعِقْتُ وَصِحْتُ، فَخَرَجَ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي مالك؟ قلت: مما سمعت. قال:
هِيَ هِبَةٌ مِنِّي إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: قَدْ قَبِلْتُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ. ثُمَّ زَوَّجْتُهَا لِرَجُلٍ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا صَالِحًا حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ ثَلَاثِينَ حجة.
وفيها توفى: سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو عُثْمَانَ الْوَاعِظُ
وُلِدَ بِالرَّيِّ، وَنَشَأَ بِهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مات بها، وقد دخل بغداد. وكان يقال إنه مُجَابَ الدَّعْوَةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْكَرِيمَ بن هوازن قال سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يَقُولُ:
مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ما أقامنى الله في حالة فكرهتها، ولا نقلني إلى غيرها فسخطتها. وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ يُنْشِدُ:
أَسَأْتُ وَلَمْ أُحْسِنْ، وَجِئْتُكَ هَارِبًا ... وَأَيْنَ لِعَبْدٍ عَنْ مَوَالِيهِ مَهْرَبُ؟
يُؤَمِّلُ غُفْرَانًا، فَإِنْ خَابَ ظَنُّهُ ... فَمَا أَحَدٌ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ أَخْيَبُ
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ أَعْمَالِكَ أَرْجَى عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَمَّا تَرَعْرَعْتُ وَأَنَا بِالرَّيِّ وَكَانُوا يُرِيدُونَنِي عَلَى التَّزْوِيجِ فَأَمْتَنِعُ، فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عُثْمَانَ قَدْ أَحْبَبْتُكَ حُبًّا أَذْهَبَ نَوْمِي وَقَرَارِي، وَأَنَا أَسْأَلُكَ بِمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَأَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْكَ لَمَا تَزَوَّجْتَنِي. فَقُلْتُ: أَلِكِ وَالِدٌ؟ فَقَالَتْ:
نَعَمْ. فَأَحْضَرَتْهُ فَاسْتَدْعَى بِالشُّهُودِ فَتَزَوَّجْتُهَا، فَلَمَّا خَلَوْتُ بِهَا إذا هي عوراء عرجاء شوهاء مُشَوَّهَةُ الْخَلْقِ، فَقُلْتُ: اللَّهمّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَدَّرْتَهُ لِي، وَكَانَ أَهْلُ بَيْتِي يَلُومُونَنِي على تزويجي بها، فكنت أريدها بِرًّا وَإِكْرَامًا، وَرُبَّمَا احْتَبَسَتْنِي عِنْدَهَا وَمَنَعَتْنِي مِنَ الحضور إلى بعض المجالس، وكأنى كنت فِي بَعْضِ أَوْقَاتِي عَلَى الْجَمْرِ وَأَنَا لَا أُبْدِي لَهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. فَمَكَثْتُ كَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَمَا شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ حِفْظِي عَلَيْهَا مَا كَانَ فِي قَلْبِهَا من جهتي.
وفيها توفى:
سَمْنُونُ بْنُ حَمْزَةَ
وَيُقَالُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، كَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَمِائَةِ رَكْعَةٍ، وَسَمَّى نَفْسَهُ سُمْنُونًا الكذاب لقوله:
فَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ ... فَكَيْفَمَا شِئْتَ فامتحنى
فابتلى بعسر الْبَوْلِ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى الْمَكَاتِبِ وَيَقُولُ لِلصِّبْيَانِ: ادْعُوا لِعَمِّكُمُ الْكَذَّابِ، وَلَهُ كَلَامٌ مَتِينٌ فِي الْمَحَبَّةِ، وَوُسْوِسَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَلَهُ كَلَامٌ في المحبة مستقيم.
وفيها توفى:
صافى الحربي
كان من أكابر أمراء الدولة العباسية. أَوْصَى فِي مَرَضِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ غلامه القاسم شيء، فلما مات حَمَلَ غُلَامُهُ الْقَاسِمُ إِلَى الْوَزِيرِ مِائَةَ أَلْفِ دينار وسبعمائة وعشرين منطقة من الذهب مكللة، فاستمروا به عَلَى إِمْرَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ.(11/115)
إِسْحَاقُ بْنُ حُنَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ
أَبُو يَعْقُوبَ العبادي- نسبة إلى قبائل الجزيرة- الطبيب بن الطَّبِيبِ، لَهُ وَلِأَبِيهِ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الفن، وكان أبوه يعرب كلام إرسططاليس وَغَيْرِهِ مِنْ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ، الَّذِي أَقَامَ الدعوة للمهدي، وهو عبد اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ وَقَدْ زَعَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا بِسَلَمْيَةَ، وَالْمَقْصُودُ الْآنَ: أن أبا عبد الله الشيعي دخل بلاد إفريقية وحده فقيرا لا مال له وَلَا رِجَالَ، فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ حَتَّى انتزع الملك من يد أبى نصر زِيَادَةِ اللَّهِ، آخَرِ مُلُوكِ بَنِي الْأَغْلَبِ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَدْعَى حِينَئِذٍ مَخْدُومَهُ الْمَهْدِيَّ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ، فَقَدِمَ فَلَمْ يَخْلُصْ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ شَدَائِدَ طِوَالٍ، وَحُبِسَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فاستنقذه هذا الشيعي وسلمه من الهلكة، فَنَدَّمَهُ أَخُوهُ أَحْمَدُ وَقَالَ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ وَهَلَّا كُنْتَ اسْتَبْدَدْتَ بِالْأَمْرِ دُونَ هَذَا؟ فَنَدِمَ وَشَرَعَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَشْعَرَ الْمَهْدِيُّ بِذَلِكَ فَدَسَّ إِلَيْهِمَا مَنْ قَتَلَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِمَدِينَةِ رَقَّادَةَ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ، مِنْ إِقْلِيمِ إِفْرِيقِيَّةَ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ خلكان.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
قَالَ ابن الجوزي: وفيها ظهرت ثلاث كَوَاكِبَ مُذَنَّبَةٍ. أَحَدُهَا فِي رَمَضَانَ، وَاثْنَانِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ تَبْقَى أَيَّامًا ثُمَّ تَضْمَحِلُّ. وَفِيهَا وقع طاعون بأرض فارس مات فيه سَبْعَةُ آلَافِ إِنْسَانٍ. وَفِيهَا غَضِبَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْوِزَارَةِ وَأَمَرَ بِنَهْبِ دَارِهِ فَنُهِبَتْ أَقْبَحَ نَهْبٍ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، وَكَانَ قَدِ الْتَزَمَ لِأُمِّ وَلَدِ الْمُعْتَضِدِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، حَتَّى سَعَتْ فِي وِلَايَتِهِ. وَفِيهَا وَرَدَتْ هَدَايَا كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ مصر اسْتُخْرِجَتْ مَنْ كَنْزٍ وُجِدَ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ موانع كما يدعيه كثير من جهلة العوام وغيرهم من ضعيفى الأحلام، مكرا وخديعة ليأكلوا أموال الطغام والعوام أهل الطمع والآثام، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذَا الْكَنْزِ ضِلْعُ إِنْسَانٍ طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَشْبَارِ [1] وَعَرْضُهُ شِبْرٌ، وَذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ عَادٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ هَدِيَّةِ مِصْرَ تَيْسٌ لَهُ ضَرْعٌ يَحْلُبُ لَبَنًا. وَمِنْ ذَلِكَ بِسَاطٌ أَرْسَلَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ فِي جُمْلَةِ هَدَايَاهُ، طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، عُمِلَ فِي عَشْرِ سِنِينَ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَهَدَايَا فَاخِرَةٌ أَرْسَلَهَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَبَّاسِيُّ أَمِيرُ الْحَجِيجِ مِنْ مدة طويلة.
وفيها توفى من الأعيان:
__________
[1] في المصرية: طوله أربعة عشر شبرا.(11/116)
أحمد بن نصر بن إبراهيم أبو عمر والخفاف
الْحَافِظُ. كَانَ يُذَاكِرُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، سَمِعَ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ وَطَبَقَتَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ سَرَدَهُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، سَأَلَهُ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِرْهَمَيْنِ فَحَمِدَ اللَّهَ فَجَعَلَهَا خَمْسَةً، فَحَمِدَ اللَّهَ فَجَعَلَهَا عَشْرَةً، ثُمَّ مَا زَالَ يَزِيدُهُ وَيَحْمَدُ السَّائِلُ اللَّهَ حَتَّى جَعَلَهَا مِائَةً. فَقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَاقِيَةً بَاقِيَةً فَقَالَ لِلسَّائِلِ: وَاللَّهِ لَوْ لَزِمْتَ الْحَمْدَ لَأَزِيدَنَّكَ وَلَوْ إِلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
الْبُهْلُولُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ
ابْنِ حَسَّانَ بْنِ سِنَانٍ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّنُوخِيُّ، سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ وَسَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ وَمُصْعَبًا الزُّبَيْرِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ آخِرُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْجُرْجَانِيُّ الْحَافِظُ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا بَلِيغًا فَصِيحًا فِي خُطَبِهِ. تُوُفِّيَ فِيهَا عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سنة.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عَلِيٍّ الْخِرَقِيُّ
صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. كَانَ خَلِيفَةً لِلْمَرُّوذِيِّ. تُوُفِّيَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ
حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ سَبْعًا وَتِسْعِينَ حَجَّةً، وَكَانَ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ حَافِيًا كَمَا يَمْشِي الرَّجُلُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ، وَكَانَ الْمُشَاةُ يَأْتَمُّونَ بِهِ فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ، وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ ظُلْمَةً مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَكَانَتْ قَدَمَاهُ مَعَ كَثْرَةِ مَشْيِهِ كَأَنَّهُمَا قَدَمَا عَرُوسٍ مُتْرَفَةٍ، وَلَهُ كَلَامٌ مَلِيحٌ نَافِعٌ. وَلَمَّا مَاتَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَانِبِ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ رَزِينٍ، فَهُمَا عَلَى جبل الطور.
[قال أبو نعيم: كان أبو عبد الله المغربي من المعمرين، توفى عن مائة وعشرين سنة، وقبره يجبل طور سينا عند قبر أستاذه على بن رزين. قال أبو عبد الله: أفضل الأعمال عمارة الأوقاف.
وقال: الفقير هو الّذي لا يرجع إلى مستند في الكون غير الالتجاء إلى من إليه فقره ليعينه بالاستعانة كما عزره بالافتقار إليه. وقال: أعظم الناس ذلا فقير داهن غنيا وتواضع له، وأعظم الناس عزا غنى تذلل لفقير أو حفظ حرمته.] [1]
محمد بن أبى بكر بن أبى خثيمة
أبو عبد الله الحافظ بن الْحَافِظِ كَانَ أَبُوهُ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي جَمْعِ التَّارِيخِ، وَكَانَ فَهِمًا حَاذِقًا حَافِظًا، تُوُفِّيَ فِي ذي العقدة مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَيْسَانَ النَّحْوِيُّ
أَحَدُ حُفِّاظِهِ وَالْمُكْثِرِينَ مِنْهُ، كَانَ يَحْفَظُ طَرِيقَةَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ مَعًا. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ:
كَانَ ابْنُ كَيْسَانَ أَنْحَى مِنَ الشَّيْخَيْنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ.
__________
[1] زيادة من المصرية.(11/117)
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
أَبُو سَعِيدٍ، سَكَنَ دِمَشْقَ، رَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الْجَوْهَرِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ، رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هَذَا يُدْعَى بِحَامِلِ كَفَنِهِ، وَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَ نَبَّاشٌ لِيَسْرِقَ كَفَنَهُ فَفَتَحَ عَلَيْهِ قَبْرَهُ. فَلَمَّا حَلَّ عَنْهُ كَفَنُهُ اسْتَوَى جَالِسًا وَفَرَّ النَّبَّاشُ هَارِبًا مِنَ الْفَزَعِ، وَنَهَضَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هَذَا فَأَخَذَ كَفَنَهُ مَعَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْقَبْرِ وَقَصَدَ مَنْزِلَهُ فَوَجَدَ أَهْلَهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَدَقَّ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَنَا فُلَانٌ. فَقَالُوا: يَا هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَزِيدَنَا حُزْنًا إِلَى حُزْنِنَا. فَقَالَ: افْتَحُوا وَاللَّهِ أَنَا فُلَانٌ، فَعَرَفُوا صَوْتَهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ فَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا وَأَبْدَلَ اللَّهُ حُزْنَهُمْ سُرُورًا. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ النَّبَّاشِ. وَكَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ سَكْتَةٌ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ مَاتَ حَقِيقَةً فَقَدَّرَ اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ بَعَثَ لَهُ هَذَا النَّبَّاشَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ قَبْرَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ حَيَاتِهِ، فَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ عِدَّةَ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
فَاطِمَةُ القهرمانة
غَضَبَ عَلَيْهَا الْمُقْتَدِرُ مَرَّةً فَصَادَرَهَا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أَخَذَ مِنْهَا مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ غَرِقَتْ فِي طَيَّارَةٍ لَهَا فِي هَذِهِ السنة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَثُرَ مَاءُ دِجْلَةَ وَتَرَاكَمَتِ الْأَمْطَارُ بِبَغْدَادَ، وَتَنَاثَرَتْ نُجُومٌ كَثِيرَةٌ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ ببغداد والأسقام وَكَلِبَتِ الْكِلَابُ حَتَّى الذِّئَابُ بِالْبَادِيَةِ. وَكَانَتْ تَقْصِدُ الناس بالنهار فمن عضته أكلبته. وَفِيهَا انْحَسَرَ جَبَلٌ بِالدِّينَوَرِ يُعْرَفُ بِالتَّلِّ فَخَرَجَ مِنْ تَحْتِهِ مَاءٌ عَظِيمٌ غَرَّقَ عِدَّةً مِنَ القرى. وفيها سقطت شرذمة- أي قطعة- مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ. وَفِيهَا حَمَلَتْ بلغة وَوَضَعَتْ مُهْرَةً، وَفِيهَا صُلِبَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجُ وَهُوَ حَيٌّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، يَوْمَيْنِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَيَوْمَيْنِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْحَجِيجِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فِي السِّنِينَ قَبْلَهَا وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ أَثَابَهُ الله وتقبل منه.
وفيها توفى من الأعيان.
الأحوص بن الفضل
ابن معاوية بن خالد بن غسان أَبُو أُمَيَّةَ الْغَلَّابِيُّ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، رَوَى عن أبيه التاريخ، استتر مرة عنده ابْنُ الْفُرَاتِ فَلَمَّا أُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ وَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ وَوَاسِطَ.
وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا، فَلَمَّا نُكِبَ ابْنُ الْفُرَاتِ قَبَضَ عَلَيْهِ نَائِبُ الْبَصْرَةِ فَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مات فيه فيها. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا نَعْلَمُ قَاضِيًا مَاتَ فِي السِّجْنِ سِوَاهُ.(11/118)
عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ أَبُو أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، وَلِيَ إِمْرَةَ بَغْدَادَ. وَحَدَّثَ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَعَنْهُ الصُّولِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
حَقُّ التَّنَائِي بِيَنَ أَهْلِ الْهَوَى ... تَكَاتَبٌ يُسْخِنُ عَيْنَ النَّوَى
وَفِي التَّدَانِي لَا انْقَضَى عُمْرُهُ ... تَزَاوُرٌ يَشْفِي غَلِيلَ الْجَوَى
وَاتَّفَقَ لَهُ مَرَّةً أَنَّ جَارِيَةً لَهُ مَرِضَتْ فَاشْتَهَتْ ثلجا، وكانت حظية عنده، فلم يوجد الثلج إلا عند رجل، فساومه وكيله عَلَى رِطْلٍ مِنْهُ فَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إِلَّا كُلُّ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ- وَذَلِكَ لِعِلْمِ صَاحِبِ الثَّلْجِ بِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ- فَرَجَعَ الْوَكِيلُ ليشاوره فقال: ويحك! اشتره ولو بما عساه أن يكون، فرجع إلى صاحب الثلج فقال: لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِعَشَرَةِ آلَافٍ. فَاشْتَرَاهُ. بِعَشَرَةِ آلَافٍ ثُمَّ اشْتَهَتِ الْجَارِيَةُ ثَلْجًا أَيْضًا- وَذَلِكَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا- فَرَجَعَ فَاشْتَرِي مِنْهُ رِطْلًا آخَرَ بعشرة آلاف. ثم آخر بعشرة آلاف وَبَقِيَ عِنْدَ صَاحِبِ الثَّلْجِ رِطْلَانِ فَنَطَفَتْ نَفْسُهُ إِلَى أَكْلِ رِطْلٍ مِنْهُ لِيَقُولَ: أَكَلْتُ رِطْلًا مِنَ الثَّلْجِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَكَلَهُ وَبَقِيَ عِنْدَهُ رِطْلٌ فَجَاءَهُ الْوَكِيلُ فَامْتَنَعَ أَنْ يَبِيعَهُ الرِّطْلَ إِلَّا بِثَلَاثِينَ أَلْفًا فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ فَشُفِيَتِ الْجَارِيَةُ وَتَصَدَّقَتْ بِمَالٍ جَزِيلٍ فَاسْتَدْعَى سَيِّدُهَا صَاحِبَ الثَّلْجِ فأعطاه من تلك الصدقة مالا جزيلا فصار من أكثر الناس مالا بعد ذلك، وَاسْتَخْدَمَهُ ابْنُ طَاهِرٍ عِنْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ] [1] .
[وَمِمَّنْ توفى في حدود الثلاثمائة من الهجرة.]
الصنوبري الشاعر
وهو محمد بن أحمد بن محمد بن مراد أَبُو بَكْرٍ الضَّبِّيُّ الصَّنَوْبَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ:
كَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا. وَقَدْ حَكَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ، ثُمَّ ذَكَرَ أشياء من لطائف شعره فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَا النَّوْمُ أَدْرِي بِهِ وَلَا الْأَرَقُ ... يَدْرِي بِهَذَيْنِ مَنْ بِهِ رَمَقُ
إِنَّ دُمُوعِي مِنْ طُولِ مَا اسْتَبَقَتْ ... كَلَّتْ فما تسطيع تستبق
ولي ملك لَمْ تَبْدُ صُورَتُهُ ... مُذْ كَانَ إِلَّا صَلَّتْ لَهُ الْحَدَقُ
نَوَيْتُ تَقْبِيلَ نَارِ وَجْنَتِهِ ... وَخِفْتُ أَدْنُو مِنْهَا فَأَحْتَرِقُ
وَلَهُ أَيْضًا:
شَمْسٌ غَدَا يشبه شمسا غدت ... وخدها في النور من خده
تَغِيبُ فِي فِيهِ وَلَكِنَّهَا ... مِنْ بَعْدِ ذَا تطلع في خده
__________
[1] سقط من المصرية.(11/119)
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي الْفَضْلِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّنَوْبَرِيُّ فَقَالَ:
هَدَمَ الشيب ما بناه الشباب ... والغواني ما عصين خضاب
قلب الآبنوس عاجا ... فللأعين منه والقلوب انقلاب
وضلال في الرأى أن يشنأ ... البازي عَلَى حُسْنِهِ وَيُهْوَى الْغُرَابُ
وَلَهُ أَيْضًا وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي ابْنٍ لَهُ فُطِمَ فَجَعَلَ يَبْكِي عَلَى ثَدْيِهِ:
مَنَعُوهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ ... مِنْ جَمِيعِ الْوَرَى وَمِنْ وَالِدَيْهِ
مَنَعُوهُ غذاه ولقد كان ... مباحا له وبين يديه
عجبا له على صغر السن ... هَوَى فَاهْتَدَى الْفِرَاقُ إِلَيْهِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بن محمد
ابن الْمُوَلَّدِ، أَبُو إِسْحَاقَ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ الرَّقِّيُّ أَحَدُ مَشَايِخِهَا، رَوَى الْحَدِيثَ وَصَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ابن الْجَلَّاءِ الدِّمَشْقِيَّ، وَالْجُنَيْدَ وَغَيْرَ وَاحِدٍ. وَرَوَى عَنْهُ تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
لَكَ مِنِّي عَلَى الْبِعَادِ نَصِيبُ ... لَمْ يَنَلْهُ عَلَى الدُّنُوِّ حَبِيبُ
وَعَلَى الطَّرْفِ مِنْ سِوَاكَ حِجَابٌ ... وَعَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَوَاكَ رَقِيبُ
زِينَ في ناظري هواك وقلبي ... والهوى فيه رائع وَمَشُوبُ
كَيْفَ يُغْنِي قُرْبُ الطَّبِيبِ عَلِيلًا ... أَنْتَ أَسْقَمْتَهُ وَأَنْتَ الطَّبِيبُ
وَقَوْلَهُ:
الصَّمْتُ أَمْنٌ مِنْ كل نازلة ... من ناله نال أفضل الغنم
مَا نَزَلَتْ بِالرِّجَالِ نَازِلَةٌ ... أَعْظَمُ ضُرًّا مِنْ لفظة نعم
عَثْرَةُ هَذَا اللِّسَانِ مُهْلِكَةٌ ... لَيْسَتْ لَدَيْنَا كَعَثْرَةِ الْقَدَمِ
احْفَظْ لِسَانًا يُلْقِيكَ فِي تَلَفٍ ... فَرُبَّ قول أذل ذا كرم
] [1]
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثمائة
فِيهَا غَزَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ الصَّائِفَةَ فَفَتَحَ حصونا كثيرة من بلاد الروم وقتل منها أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً. وَفِيهَا عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ محمد بن عبد الله عن وزارته وقلدها عيسى بن على وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ وَأَقْصَدِهِمْ لِلْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ الدَّمَوِيَّةُ بِبَغْدَادَ فِي تَمُّوزَ وَآبَ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ خَلْقٌ كثير مِنْ أَهْلِهَا. وَفِيهَا وَصَلَتْ هَدَايَا صَاحِبِ عُمَانَ ومن جملتها بغلة بيضاء
__________
[1] زيادة من المصرية.(11/120)
وَغَزَالٌ أَسْوَدُ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا رَكِبَ الْمُقْتَدِرُ إلى باب الشماسية على الخليل ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى دَارِهِ فِي دِجْلَةَ- وَكَانَتْ أَوَّلَ رَكْبَةٍ رَكِبَهَا جَهْرَةً لِلْعَامَّةِ- وَفِيهَا اسْتَأْذَنَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ فِي مُكَاتَبَةِ رَأْسِ الْقَرَامِطَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بهرام الجنابي فأذن له، فكتب كِتَابًا طَوِيلًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، ويوبخه على ما يتعاطاه من ترك الصلاة والزكاة وَارْتِكَابِ الْمُنْكِرَاتِ، وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيُسَبِّحُهُ وَيَحْمَدُهُ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالدِّينِ وَاسْتِرْقَاقِهِمُ الْحَرَائِرَ، ثُمَّ تُوعَّدَهُ بِالْحَرْبِ وَتَهَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا سَارَ بِالْكِتَابِ نَحْوَهُ قُتِلَ أَبُو سَعِيدٍ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ، قَتَلَهُ بَعْضُ خَدَمِهِ، وَعَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ سَعِيدٍ، فَغَلَبَهُ عَلَى ذَلِكَ أَخُوهُ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبَى سَعِيدٍ، فَلَمَّا قَرَأَ كتاب الوزير أَجَابَهُ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَنْسِبُ إِلَيْنَا مِمَّا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَكُمْ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ مَنْ يُشَنِّعُ عَلَيْنَا، وَإِذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ يَنْسِبُنَا إِلَى الْكُفْرِ باللَّه فَكَيْفَ يَدْعُونَا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ؟ وَفِيهَا جِيءَ بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ إِلَى بَغْدَادَ وَهُوَ مَشْهُورٌ عَلَى جَمَلٍ وَغُلَامٌ لَهُ رَاكِبٌ جَمَلًا آخَرَ، ينادى عليه: أَحَدُ دُعَاةِ الْقَرَامِطَةِ فَاعْرِفُوهُ، ثُمَّ حُبِسَ ثُمَّ جيء به إِلَى مَجْلِسِ الْوَزِيرِ فَنَاظَرَهُ فَإِذَا هُوَ لَا يقرأ القرآن ولا يعرف في الحديث ولا الفقه شيئا، ولا في اللغة ولا في الأخبار ولا في الشِّعْرِ شَيْئًا، وَكَانَ الَّذِي نُقِمَ عَلَيْهِ:
أَنَّهُ وُجِدَتْ لَهُ رِقَاعٌ يَدْعُو فِيهَا النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرُّمُوزِ، يَقُولُ فِي مُكَاتَبَاتِهِ كَثِيرًا: تَبَارَكَ ذُو النُّورِ الشَّعْشَعَانِيِّ. فَقَالَ له الوزير: تَعَلُّمُكَ الطُّهُورَ وَالْفُرُوضَ أَجْدَى عَلَيْكَ مِنْ رَسَائِلَ لَا تَدْرِي مَا تَقُولُ فِيهَا، وَمَا أَحْوَجَكَ إِلَى الْأَدَبِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ حَيًّا صَلْبَ الِاشْتِهَارِ لَا الْقَتْلِ، ثُمَّ أُنْزِلَ فَأُجْلِسَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَجَعَلَ يُظْهِرُ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ زَاهِدٌ، حَتَّى اغْتَرَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْخُدَّامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الخلافة من الجهلة، حَتَّى صَارُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَيَتَمَسَّحُونَ بِثِيَابِهِ. وَسَيَأْتِي ما صار إليه أمره حين قتل بإجماع الفقهاء وأكثر الصوفية. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي آخِرِهَا بِبَغْدَادَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ جِدًّا مَاتَ بِسَبَبِهِ بِشْرٌ كَثِيرٌ، وَلَا سِيَّمَا بِالْحَرْبِيَّةِ غُلِّقَتْ عَامَّةُ دُورِهَا. وَحَجَّ بالناس فيها الأمير المتقدم ذكره.
وفيها توفى من الأعيان.
إبراهيم بن خالد الشافعيّ
جمع العلم والزهد، وهو من تلاميذ أبى بكر الإسماعيلي.
جعفر بن محمد
ابن الحسين بْنِ الْمُسْتَفَاضِ أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيَابِيُّ قَاضِي الدِّينَوَرِ، طَافَ الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْكَثِيرِينَ، مِثْلِ قُتَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَعَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي وَالنَّجَّادُ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَخَلْقٌ، وَاسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا حُجَّةً، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، والمستملون عليه منهم فَوْقَ الثَّلَاثِمِائَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَحَابِرِ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلاف. توفى في المحرم منها عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْرًا قَبْلَ وَفَاتِهِ(11/121)
بِخَمْسِ سِنِينَ، وَكَانَ يَأْتِيهِ فَيَقِفُ عِنْدَهُ. ثُمَّ لَمْ يُقَضَ لَهُ الدَّفْنُ فِيهِ بَلْ دُفِنَ بمكان آخَرَ. رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ كَانَ.
أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِىُّ الْقِرْمِطَيُّ
وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ بَهْرَامَ قَبَّحَهُ الله رَأْسُ الْقَرَامِطَةِ، وَالَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا وَالَاهَا
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّاسِبِيُّ
كان يلي بلاد واسط إلى شهرزور وغير ذلك، وَقَدْ خَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ والفضة نحو مائة ألف دينار، ومن البقر ألف ثور، وَمِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ أَلْفُ رَأْسٍ.
مُحَمَّدُ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ
يُعْرَفُ بِالْأَحْنَفِ. كَانَ قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ حين فلج، مات في جمادى الأولى منها. وَتُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةٌ وسبعون يوما، ودفنا في موضع واحد.
وأبو بكر محمد بن هارون البردعي الحافظ بن ناجية وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ بِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ بِالرُّومِ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَدْ أَسَرَ مِنْهُمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ بطريقا- أي أميرا- ففرح المسلمون بذلك. وفيها ختن المقتدر خمسة من أولاده فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار، وَقَدْ خَتَنَ قَبْلَهُمْ وَمَعَهُمْ خَلْقًا مِنَ الْيَتَامَى وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بِالْمَالِ وَالْكَسَاوِي، وَهَذَا صَنِيعٌ حَسَنٌ إن شاء الله. وفيها صادر المقتدر أبا على بن الْجَصَّاصِ بِسِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ غَيْرَ الآنية والثياب الثمينة. وفيها أدخل الخليفة أَوْلَادَهُ إِلَى الْمَكْتَبِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِيهَا بَنَى الْوَزِيرُ الْمَارَسْتَانَ بِالْحَرْبِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ، وَأَنْفَقَ عليه أموالا جزيلة، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ الهاشمي. وقطعت الأعراب وطائفة من القرامطة الطريقين عَلَى الرَّاجِعِينَ مِنَ الْحَجِيجِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا أَكْثَرَ مِنْ مائتي امرأة حرة، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
بِشْرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو الْقَاسِمِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُعْرَفُ بِغُلَامِ عِرْقٍ، وَعِرْقٌ خَادِمٌ مِنْ خُدَّامِ السُّلْطَانِ كَانَ يَلِي الْبَرِيدَ، فَقَدِمَ مَعَهُ بِهَذَا الرجل مصر فأقام بها حتى مات بها.
بدعة جارية غريب الْمُغَنِّيَةِ، بُذِلَ لِسَيِّدَتِهَا فِيهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنْ بَعْضِ مَنْ رَغِبَ فيها من الخلفاء فعرض ذَلِكَ عَلَيْهَا فَكَرِهَتْ مُفَارَقَةَ سَيِّدَتِهَا، فَأَعْتَقَتْهَا سَيِّدَتُهَا في موتها، وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهَا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ تَرَكَتْ من المال الْعَيْنِ وَالْأَمْلَاكِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ رَجُلٌ.
الْقَاضِي أَبُو زُرْعَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الشَّافِعِيُّ
قَاضِي مِصْرَ ثُمَّ دِمَشْقَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِالشَّامِ وَأَشَاعَهُ بِهَا، وَقَدْ كَانَ أهل(11/122)
الشَّامِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ مِنْ حِينِ مَاتَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ. وَثَبَتَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ بَقَايَا كَثِيرُونَ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا مِنْ سَادَاتِ الْقُضَاةِ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ أَهْلِ الكتاب من الْيَهُودِ، ثُمَّ أَسَلَمَ وَصَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَفَ الْمُقْتَدِرُ باللَّه أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَضِيَاعًا عَلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَاسْتَدْعَى بِالْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا وَقَفَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهَا قُدِمَ إِلَيْهِ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُسَارَى مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا قد اعتدوا على الحجيج، فلم يتمالك العامة أن اعتدوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَأُخِذَ بَعْضُهُمْ فَعُوقِبَ لِكَوْنِهِ افْتَاتَ عَلَى السُّلْطَانِ. وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ شَدِيدٌ فِي سُوقِ النَّجَّارِينَ بِبَغْدَادَ فَأَحْرَقَ السُّوقَ بِكَمَالِهِ، وَفِي ذي الحجة منها مرض المقتدر ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَمْرَضْ فِي خِلَافَتِهِ مَعَ طُولِهَا إِلَّا هَذِهِ الْمَرْضَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فيها الفضل الهاشمي، ولما خاف الوزير على الحجاج القرامطة كتب إليهم رسالة ليشغلهم بها، فَاتَّهَمَهُ بَعْضُ الْكُتَّابِ بِمُرَاسِلَتِهِ الْقَرَامِطَةَ، فَلَمَّا انْكَشَفَ أمره وما قصده حظي بذلك عند الناس جدا.
وممن توفى من الأعيان.
النسائي أحمد بن على
ابن شُعَيْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سِنَانِ بْنِ بَحْرِ بْنِ دِينَارٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ صَاحِبُ السُّنَنِ، الْإِمَامُ فِي عَصْرِهِ وَالْمُقَدَّمُ عَلَى أَضْرَابِهِ وَأَشْكَالِهِ وَفُضَلَاءِ دَهْرِهِ، رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ، وَاشْتَغَلَ بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالِاجْتِمَاعِ بِالْأَئِمَّةِ الْحُذَّاقِ، وَمَشَايِخُهُ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ مُشَافَهَةً. قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا التكميل وَتَرْجَمْنَاهُ أَيْضًا هُنَالِكَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ جَمَعَ السُّنَنَ الْكَبِيرَ، وَانْتَخَبَ مِنْهُ مَا هُوَ أَقَلُّ حَجْمًا مِنْهُ بِمَرَّاتٍ. وَقَدْ وَقَعَ لي سماعهما. وَقَدْ أَبَانَ فِي تَصْنِيفِهِ عَنْ حِفْظٍ وَإِتْقَانٍ وصدق وإيمان وعلم وعرفان. قال الحاكم عن الدار قطنى: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُذْكَرُ بِهَذَا الْعِلْمِ مَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَكَانَ يُسَمِّي كِتَابَهُ الصَّحِيحَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الحافظ: للنسائى شرط فِي الرِّجَالِ أَشَدَّ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ الْإِمَامُ فِي الْحَدِيثِ بِلَا مُدَافَعَةٍ. وَقَالَ أبو الحسين محمد بن مظفر الْحَافِظُ. سَمِعْتُ مَشَايِخَنَا بِمِصْرَ يَعْتَرِفُونَ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ وَالْإِمَامَةِ، وَيَصِفُونَ مِنَ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ بِاللَّيْلِ والنهار ومواظبته على الحج والجهاد. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وكان لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَسُرِّيَّتَانِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْجِمَاعِ، حَسَنَ الْوَجْهِ مُشْرِقَ اللَّوْنِ. قَالُوا: وَكَانَ يَقْسِمُ للإماء كما يقسم للحرائر. وقال الدار قطنى: كَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ كَثِيرَ الْحَدِيثِ ولم يرو عَنْ أَحَدٍ سِوَى النَّسَائِيِّ وَقَالَ: رَضِيتُ بِهِ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: كَانَ النَّسَائِيُّ إِمَامًا فِي الحديث ثقة ثبتا حافظا، كان خُرُوجُهُ مِنْ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا الْفَقِيهَ وَأَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الطَّحَاوِيَّ يَقُولَانِ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وكذلك(11/123)
أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَشَهِدُوا له بالفضل والتقدم في هذا الشأن. وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ. سَمِعْتُهُ مِنْ شيخنا المزي عَنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ الْحَاكِمُ بِحِمْصَ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِنْدِيلٌ، وَكَانَ يَأْكُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِيكًا وَيَشْرَبُ عَلَيْهِ نَقِيعَ الزَّبِيبِ الْحَلَالَ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: إِنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّشَيُّعِ. قَالُوا: وَدَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا أَنْ يُحَدِّثَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: أَمَا يَكْفِي مُعَاوِيَةَ أَنْ يَذْهَبَ رَأْسًا بِرَأْسٍ حَتَّى يُرْوَى لَهُ فَضَائِلُ؟ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَجَعَلُوا يطعنون في خصيتيه حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَسَارَ مِنْ عندهم إلى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَبْرُهُ بِهَا هَكَذَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق الأصبهاني عن مشايخه. وقال الدار قطنى: كَانَ أَفْقَهَ مَشَايِخِ مِصْرَ فِي عَصْرِهِ، وَأَعْرَفَهُمْ بالصحيح من السقيم مِنَ الْآثَارِ، وَأَعْرَفَهُمْ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ حَسَدُوهُ فَخَرَجَ إِلَى الرَّمْلَةِ، فَسُئِلَ عَنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ فَأَمْسَكَ عَنْهُ فَضَرَبُوهُ فِي الْجَامِعِ، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إِلَى مَكَّةَ، فَأَخْرَجُوهُ وَهُوَ عَلِيلٌ، فتوفى بمكة مقتولا شهيدا، مع ما رزق مِنَ الْفَضَائِلِ رُزِقَ الشَّهَادَةَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ نقطة في تقييده ومن خطه نقلت ومن خَطِّ أَبِي عَامِرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدُونَ الْعَبْدَرِيِّ الْحَافِظِ: مَاتَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ بِالرَّمْلَةِ مَدِينَةِ فِلَسْطِينَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدُفِنَ ببيت المقدس. وحكى ابن خلكان أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا صَنَّفَ الْخَصَائِصَ فِي فَضْلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ، لِأَنَّهُ رَأَى أَهْلَ دِمَشْقَ حِينَ قَدِمَهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ عِنْدَهُمْ نُفْرَةٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَسَأَلُوهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مَا قال، فدققوه في خصيتيه فَمَاتَ. وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِفِلَسْطِينَ فِي صِفْرٍ مِنْ هذه السنة، وكان مولده فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ومائتين تقريبا عن قوله، فَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ سفيان
ابن عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَطَاءٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ النِّسْوِيُّ، مُحَدِّثُ خُرَاسَانَ، وقد كان يضرب إليه آباط الإبل فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ، وَكَانَ يُفْتِي بِمَذْهَبِهِ، وَأَخَذَ الْأَدَبَ عَنْ أَصْحَابِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَكَانَتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَةُ بِخُرَاسَانَ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا اتَّفَقَ لَهُ: أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أصحابه بمصر في رحلتهم إلى الْحَدِيثِ، فَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ حَتَّى مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُونَ فِيهَا شَيْئًا، وَلَا يَجِدُونَ مَا يَبِيعُونَهُ لِلْقُوتِ، وَاضْطَرَّهُمُ الْحَالُ إِلَى تَجَشُّمِ السُّؤَالِ، وَأَنِفَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَّتْ عَلَيْهِمْ وَامْتَنَعَتْ كُلَّ الِامْتِنَاعِ، وَالْحَاجَةُ تَضْطَرُّهُمْ إِلَى تَعَاطِي ذَلِكَ، فَاقْتَرَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيَهُمْ يَقُومُ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، فَوَقَعَتِ الْقَرْعَةُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سفيان هذا،(11/124)
فَقَامَ عَنْهُمْ فَاخْتَلَى فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُمْ فِيهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا وَاسْتَغَاثَ باللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَسَأَلَهُ بِأَسْمَائِهِ الْعِظَامِ، فَمَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ شَابٌّ حَسَنُ الْهَيْئَةِ مَلِيحُ الْوَجْهِ فَقَالَ: أَيْنَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: الْأَمِيرُ طُولُونَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ فِي تَقْصِيرِهِ عَنْكُمْ، وَهَذِهِ مِائَةُ دِينَارٍ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. فَقُلْنَا لَهُ: مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ؟
فَقَالَ: إِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَخْتَلِيَ الْيَوْمَ بِنَفْسِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ الْآنَ نَائِمٌ إِذْ جَاءَهُ فَارِسٌ فِي الْهَوَاءِ بِيَدِهِ رُمْحٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ منزله وَوَضَعَ عَقِبَ الرُّمْحِ فِي خَاصِرَتِهِ فَوَكَزَهُ وَقَالَ: قُمْ فَأَدْرِكِ الْحَسَنَ بْنَ سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، قُمْ فأدركهم، قم فأدركهم، فإنهم منذ ثلاث جماع فِي الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ. فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ أَنَا رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ. فَاسْتَيْقَظَ الْأَمِيرُ وَخَاصِرَتُهُ تُؤْلِمُهُ أَلَمًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْحَالِ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ جَاءَ لِزِيَارَتِهِمْ وَاشْتَرَى مَا حول ذلك المجلس وَوَقَفَهُ عَلَى الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ وَفُرْسَانِهِ وَحُفَّاظِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الحفاظ منهم ابن جرير الطبري وَغَيْرُهُ، فَقَرَءُوا عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ وَجَعَلُوا يَقْلِبُونَ الْأَسَانِيدَ لِيَسْتَعْلِمُوا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ فما قلبوا شيئا من الاسناد إِلَّا رَدَّهُمْ فِيهِ إِلَى الصَّوَابِ، وَعُمُرُهُ إِذْ ذاك سبعون سَنَةً، وَهُوَ فِي هَذَا السِّنِّ حَافِظٌ ضَابِطٌ لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ: الْعَبْسِيُّ كُوفِيٌّ، وَالْعَيْشِيُّ بَصْرِيٌّ، وَالْعَنْسِيُّ مِصْرِيٌّ.
رُوَيْمُ بْنُ أَحْمَدَ
وَيُقَالُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رُوَيْمِ بْنِ يَزِيدَ، أَبُو الْحَسَنِ، وَيُقَالُ أَبُو مُحَمَّدٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، كَانَ عَالِمًا بِالْقُرَآنِ ومعانيه، وكان يتفقه عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ رُوَيْمٌ يَكْتُمُ حُبَّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَصَوَّفَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي بَابِهِ، فَتَرَكَ التَّصَوُّفَ وَلَبِسَ الخز والقصب والديبقى وَرَكِبَ الْخَيْلَ وَأَكَلَ الطَّيِّبَاتِ وَبَنَى الدُّورَ.
زُهَيْرُ بن صالح بن الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ، كان ثقة، مات وهو شاب، قاله الدار قطنى.
أبو على الجبائي
شيخ المعتزلة، واسمه محمد بن عبد الوهاب أبو على الجبائي شيخ طائفة الاعتزال فِي زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ اشْتَغَلَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَلِلْجُبَّائِيِّ تَفْسِيرٌ حَافِلٌ مُطَوَّلٌ، لَهُ فِيهِ اخْتِيَارَاتٌ غَرِيبَةٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ رد عليه الأشعري فيه وقال: وكأن القرآن نزل في لغة أهل جبّاء. كان مولده فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَاتَ فِي هذه السنة.
أبو الحسن بن بسام الشاعر
واسمه عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ نَصْرِ بْنِ بَسَّامٍ الْبَسَّامِيُّ الشَّاعِرُ الْمُطْبِقُ لِلْهِجَاءِ، فَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا حَتَّى هَجَاهُ، حَتَّى أَبَاهُ وَأُمَّهُ أُمَامَةَ بِنْتَ حَمْدُونَ النَّدِيمِ. وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ(11/125)
شِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَخْرِيبِ الْمُتَوَكِّلِ قبر الحسن بْنِ عَلِيٍّ وَأَمْرِهِ بِأَنْ يُزْرَعَ وَيُمْحَى رَسْمُهُ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّحَامُلِ عَلَى عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ. فَلَمَّا وقع ما ذكرناه في سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ بَسَّامٍ هَذَا فِي ذَلِكَ: -
تاللَّه إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ ... قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا مَظْلُومًا
فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثْلِهِ ... هَذَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومًا
أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة
فيها عزل المقتدر وَزِيرَهُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ الْجَرَّاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ نُفْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَأَلَ الْوَزِيرُ أَنْ يعفى من الوزارة فعزل ولم يتعرضوا لشيء من أملاكه. وطلب أبو الحسن بْنِ الْفُرَاتِ فَأُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ بَعْدَ عَزْلِهِ عَنْهَا خَمْسَ سِنِينَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سَبْعَ خِلَعٍ، وَأَطْلَقَ إِلَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَشْرَةَ تُخُوتِ ثِيَابٍ، وَمِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ والجمال شيء كثير، وأقطع الدار التي بالحريم فسكنها، وعمل فِيهَا ضِيَافَةً تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَسَقَى فِيهَا أَرْبَعِينَ ألف رطل من الثلج، وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيوانا يقال له الزرنب يَطُوفُ بِاللَّيْلِ يَأْكُلُ الْأَطْفَالَ مِنَ الْأَسِرَّةِ وَيَعْدُو على النيام فَرُبَّمَا قَطَعَ يَدَ الرَّجُلِ وَثَدْيَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ نائم.
فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين وغيرها ينفرونه عنهم، حتى كانت بغداد بالليل تَرْتَجُّ مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا، وَاصْطَنَعَ النَّاسُ لِأَوْلَادِهِمْ مكبات من السعف وغيرها، واغتنمت اللصوص هذه الشوشة فكثرت النقوب وأخذت الْأَمْوَالِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِأَنْ يُؤْخَذَ حَيَوَانٌ مِنْ كِلَابِ الْمَاءِ فَيُصْلَبَ عَلَى الْجِسْرِ لِيَسْكُنَ النَّاسُ عن ذلك، ففعلوا فَسَكَنَ النَّاسُ وَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ من ذلك. وفيها قلد ثابت بن سنان الطبيب أمر المارستان ببغداد في هذه السنة، وكانت خمسا، وكان هذا الطبيب مؤرخا. وفيها وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ خُرَاسَانَ بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا قُبُورَ شهداء قد قُتِلُوا فِي سَنَةِ سَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ مَكْتُوبَةٌ أسماؤهم في رقاع مربوطة في آذانهم، وأجسادهم طرية كما هي، رضى الله عنهم.
وفيها توفى من الأعيان
لبيد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ صالح
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ نعيم بن عطارد بن حاجب، أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ الْمُلَقَّبُ فَرُّوْجَةَ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا.
يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو يَعْقُوبَ الرَّازِيُّ، سَمِعَ أحمد بن حنبل وصحب ذا النون، وكان قد بَلَغَهُ أَنَّ ذَا النُّونِ يَحْفَظُ(11/126)
اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فَقَصَدَهُ لِيُعَلِّمَهُ إِيَّاهُ، قَالَ: فلما وردت عليه استهان بى وكانت لِي لِحْيَةٌ طَوِيلَةٌ وَمَعِي رِكْوَةٌ طَوِيلَةٌ. فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا فَنَاظَرَ ذَا النُّونِ فَأَسْكَتَ ذَا النون، فقلت له: دع الشيخ وأقبل على.
فأقبل فناظرته فَأَسْكَتُّهُ، فَقَامَ ذُو النُّونِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ وهو شيخ وأنا شاب، ثم اعتذر إِلَيَّ. فَخَدَمْتُهُ سَنَةً ثُمَّ سَأَلْتُهُ أَنْ يُعَلِّمَنِي الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنِّي وَوَعَدَنِي، فَمَكَثْتُ عنده بَعْدَ ذَلِكَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيَّ طبقا عليه مكبة مستورا بمنديل، فقال لي: اذهب بهذا الطبق إِلَى صَاحِبِنَا فَلَانٍ.
قَالَ: فَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ فِي الطَّرِيقِ مَا هَذَا الَّذِي أَرْسَلَنِي بِهِ، فَلَمَّا وصلت الجسر فتحته فإذا فأرة ففرت وَذَهَبَتْ، فَاغْتَظْتُ غَيْظًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: ذُو النُّونِ سخر بِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا حَنِقٌ فَقَالَ لِي:
وَيْحَكَ إِنَّمَا اخْتَبَرْتُكَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَمِينًا عَلَى فَأْرَةٍ فَأَنْ لَا تَكُونُ أَمِينًا عَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، اذْهَبْ عَنِّي فَلَا أَرَاكَ بَعْدَهَا. وَقَدْ رُئِيَ أَبُو الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ هَذَا فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ:
مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بقولي عند الموت: اللَّهمّ إني نصحت الناس قولا وخنت نفسي فعلا، فهب خِيَانَةَ فِعْلِي لِنُصْحِ قَوْلِي.
يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ بْنِ يَمُوتَ
أَبُو بَكْرٍ الْعَبْدِيُّ مِنْ عَبْدِ القيس، وهو ثوري، وهو ابْنَ أُخْتِ الْجَاحِظِ. قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَازِنِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ، وَأَبِي الْفَضْلِ الرِّيَاشِيِّ، وَكَانَ صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَآدَابٍ وملح وقد غَيَّرَ اسْمَهُ بِمُحَمَّدٍ فِلْمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَوَّلُ، وَكَانَ إِذَا ذَهَبَ يَعُودُ مَرِيضًا فَدَقَّ الباب فقالوا: مَنْ؟ فَيَقُولُ ابْنُ الْمُزَرَّعِ وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهُ لئلا يتفاءلوا به.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ فِي طَلَبِ الْمُفَادَاةِ وَالْهُدْنَةِ، وَهُوَ شَابٌّ حَدَثُ السِّنِّ، وَمَعَهُ شَيْخٌ مِنْهُمْ وعشرون غلاما، فلما قدم بَغْدَادَ شَاهَدَ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، وَذَلِكَ أَنَّ الخليفة أمر الجيش والناس بِالِاحْتِفَالِ بِذَلِكَ لِيُشَاهَدَ مَا فِيهِ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ، فركب الجيش بكماله وَكَانَ مِائَةَ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا، مَا بَيْنَ فارس وراجل، غير العساكر الخارجة في سائر البلاد مع نوابها، فركبوا في الأسلحة والعدد التامة، وغلمان الخليفة سبعة آلاف، وأربعة آلَافٍ بِيضٌ، وَثَلَاثَةُ آلَافٍ سُودٌ، وَهُمْ فِي غاية الملابس والعدد والحلي، وَالْحَجَبَةُ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةِ حَاجِبٍ، وَأَمَّا الطَّيَّارَاتُ الَّتِي بدجلة والزيارب والسمريات فَشَيْءٌ كَثِيرٌ مُزَيَّنَةٌ، فَحِينَ دَخَلَ الرَّسُولُ دَارَ الخلافة انبهر وشاهد أَمْرًا أَدْهَشَهُ، وَرَأَى مِنَ الْحِشْمَةِ وَالزِّينَةِ وَالْحُرْمَةِ مَا يُبْهِرُ الْأَبْصَارَ، وَحِينَ اجْتَازَ بِالْحَاجِبِ ظَنَّ أنه الخليفة فقيل له: هذا الحاجب، فَمَرَّ بِالْوَزِيرِ فِي أُبَّهَتِهِ فَظَنَّهُ الْخَلِيفَةُ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا الْوَزِيرُ. وَقَدْ زُيِّنَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ بِزِينَةٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، كَانَ فِيهَا مِنَ السُّتُورِ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ سِتْرٍ، مِنْهَا عشرة آلاف وخمسمائة ستر مذهبة، وقد بسط فيها اثنان وعشرون ألف بساط لم ير مثلها، وفيها من الوحوش قطعان متآنسة بالناس، تَأْكُلُ مِنْ أَيْدِيهِمْ(11/127)
وَمِائَةُ سَبُعٍ مَعَ السَّبَّاعَةِ، ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى دَارِ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بِرْكَةٍ فِيهَا مَاءٌ صَافٍ وَفِي وَسَطِ ذَلِكَ الْمَاءِ شَجَرَةٌ مَنْ ذَهَبَ وَفِضَّةٍ لَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ غُصْنًا أكثرها من ذهب، وفي الأغصان الشماريخ والأوراق الملونة من الذهب والفضة واللآلي واليواقيت، وَهِيَ تُصَوِّتُ بِأَنْوَاعِ الْأَصْوَاتِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسَلَّطِ عَلَيْهَا، وَالشَّجَرَةُ بِكَمَالِهَا تَتَمَايَلُ كَمَا تَتَمَايَلُ الْأَشْجَارُ بِحَرَكَاتٍ عَجِيبَةٍ تُدْهِشُ مَنْ يَرَاهَا، ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى مَكَانٍ يُسَمُّونَهُ الْفِرْدَوْسَ، فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ وَالْآلَاتِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَحُسْنًا.
وَفِي دَهَالِيزِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ جَوْشَنٍ مُذَهَّبَةٍ. فَمَا زَالَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى مَكَانٍ أَدْهَشَهُ وَأَخَذَ بِبَصَرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى المكان الّذي فيه الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ باللَّه، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ آبِنُوسَ، قَدْ فُرِشَ بالدَّيْبَقِيِّ الْمُطَرَّزِ بِالذَّهَبِ، وعن يمين السرير سبعة عشر عنقود معلقة، وعن يساره مثلها وهي جوهر من أفخر الجواهر، كل جوهرة يعلو ضوؤها على ضوء النهار، ليس لواحدة منها قيمة ولا يستطاع ثمنها، فأوقف الرسول والذين مَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ عَلَى نَحْوٍ مَنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ، وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَالتُّرْجُمَانُ دُونَ الوزير، والوزير يخاطب الترجمان والترجمان يخاطبهما، فلما فرغ منهما خَلَعَ عَلَيْهِمَا وَأَطْلَقَ لَهُمَا خَمْسِينَ سَقْرَقًا فِي كُلِّ سَقْرَقٍ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأُخْرِجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَطِيفَ بِهِمَا فِي بَقِيَّةِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَعَلَى حَافَّاتِ دِجْلَةَ الْفِيَلَةُ وَالزَّرَافَاتُ وَالسِّبَاعُ والفهود وغير ذلك، ودجلة داخله في دار الخلافة، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ الهاشمي.
وفيها توفى من الأعيان
مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُوسَى
النَّحْوِيُّ الْكُوفِيُّ المعروف بالجاحظ، صَحِبَ ثَعْلَبًا أَرْبَعِينَ سَنَةً وَخَلَفَهُ فِي حَلْقَتِهِ، وصنف غريب الحديث، وخلق الإنسان، والوحوش والنبات، وَكَانَ دَيِّنًا صَالِحًا، رَوَى عَنْهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ. تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، ودفن بباب التين.
وعبد الله بشرويه الْحَافِظُ، وَعِمْرَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ، وَأَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بن الحباب. وقاسم بن زكريا ابن يحيى المطرز المقري أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، سَمِعَ أَبَا كُرَيْبٍ، وَسُوَيْدَ بن سعيد، وعنه الخلدى وأبو الجعانى توفى ببغداد.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي أَوَّلِ يوم من المحرم فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي بَنَتْهُ السَّيِّدَةُ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ وجلس فيه سنان بن ثابت وَرُتِّبَتْ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ وَالْخَدَمُ وَالْقَوْمَةُ، وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّمِائَةَ دِينَارٍ، وَأَشَارَ سِنَانُ على الخليفة ببناء مارستان، فقبل منه وبناه وسماه الْمُقْتَدِرِيَّ. وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أُمَرَاءِ الصَّوَائِفِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُصُونِ فِي بلاد الروم. وفيها رجفت العامة وشنعوا بِمَوْتِ الْمُقْتَدِرِ، فَرَكِبَ فِي الْجَحَافِلِ حَتَّى بَلَغَ الثريا ورجع من باب العامة ووقف كثيرا لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الشَّمَّاسِيَّةِ وَانْحَدَرَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فِي دِجْلَةَ فَسَكَنَتِ الْفِتَنُ. وَفِيهَا قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ الْوِزَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ(11/128)
عنده وخلفه أربعمائة غلام لنفسه، فمكث أياما ثم تبين عجزه عن القيام بالأمور فأضيف إليه على بن عيسى لِيُنْفِذَ الْأُمُورَ وَيَنْظُرَ مَعَهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ مِمَّنْ يَكْتُبُ أَيْضًا بحضرة حامد ابن الْعَبَّاسِ الْوَزِيرِ، ثُمَّ صَارَتِ الْمُنْزِلَةُ كُلُّهَا لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَاسْتَقَلَّ بِالْوِزَارَةِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ. وَفِيهَا أَمَرَتِ السَّيِّدَةُ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ قَهْرَمَانَةً لَهَا تعرف بتملى أن تجلس بالتربة الَّتِي بَنَتْهَا بِالرُّصَافَةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمْعَةٍ وَأَنْ تَنْظُرَ فِي الْمَظَالِمِ الَّتِي تُرْفَعُ إِلَيْهَا في القصص، ويحضر فِي مَجْلِسِهَا الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الفضل الهاشمي.
وفيها توفى.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ
أَبُو الْقَاسِمِ الْكِلَابِيُّ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ مِسْكِينٍ وَغَيْرَهُ، وكان رجلا صالحا، تفقه عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ يُحِبُّ الْخَلْوَةَ وَالِانْقِبَاضَ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا. أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الْمُكْثِرِينَ الْمُعَمَّرِينَ.
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سُرَيْجٍ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَاضِي بِشِيرَازَ، صَنَّفَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَكَانَ أَحَدَ أئمة الشافعية، ويلقب بالباز الأشهب، أخذ الفقه عن أبى قاسم الْأَنْمَاطِيِّ وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، كَالْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ انْتَشَرَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْآفَاقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ترجمته في الطبقات. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وخمسين سنة وستة أشهر. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَعُمُرُهُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سنة وثلاثة أَشْهُرٍ، وَقَبْرُهُ يُزَارُ.
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى
أَبُو عبد الله الجلاد بغدادي، سكن الشام وصحب أبا تراب النَّخْشَبِيَّ، وَذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبَوَيَّ وَأَنَا شَابٌّ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَهِبَانِي للَّه عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَا: قَدْ وَهَبْنَاكَ للَّه. فَغِبْتُ عَنْهُمَا مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى بَلَدِنَا عِشَاءً فِي ليلة مطيرة، فانتهيت إلى الباب فدفعته فقالا: من هذا؟ فقلت: أنا ولد كما فُلَانٌ، فَقَالَا: إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَنَا وَلَدٌ وَوَهَبْنَاهُ للَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَنَحْنُ مِنَ الْعَرَبِ لَا نَرْجِعُ فِيمَا وَهَبْنَا. وَلَمْ يَفْتَحَا لِيَ الباب.
الحسن بن يوسف بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَهُوَ أَخُو الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، كَانَ إِلَيْهِ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ بِالْأُرْدُنِّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ زِيَادٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوَالِيقِيُّ الْقَاضِي، الْمَعْرُوفُ بِعَبْدَانَ، الْأَهْوَازِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، كَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ، يَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حديث، جمع المشايخ والأبواب، روى عنه هُدْبَةَ وَكَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ صاعد والمحاملي وغيرهم.
مُحَمَّدُ بْنُ بَابْشَاذَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ
سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ وَبِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي حَدِيثِهِ غَرَائِبُ وَمَنَاكِيرُ. تُوُفِّيَ فِي شوال منها.(11/129)
مُحْمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَهْرَيَارَ
أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ الْبَلْخِيُّ الْأَصْلِ، رَوَى عَنِ الْفَلَّاسِ وَبِشْرِ بن معاذ. وعنه أبو بكر الشافعيّ ومحمد بن عمر بن الجعابيّ. كذبه ابن ناجية. وقال الدار قطنى: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ صَدَقَةَ بْنِ زِيَادٍ
أَبُو بَكْرٍ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِوَكِيعٍ، كَانَ عَالِمًا فَاضِلًا عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ، فَقِيهًا قَارِئًا نَحْوِيًّا، لَهُ مصنفات منها كتاب عدد آي القرآن وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْأَهْوَازِ. وَحَدَّثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الصَّوَّافُ وَغَيْرُهُمَا. وَمِنْ شعره الجيد:
إِذَا مَا غَدَتْ طَلَّابَةُ الْعِلْمِ تَبْتَغِي ... مِنَ الْعِلْمِ يَوْمًا مَا يُخَلَّدُ فِي الْكُتْبِ
غَدَوْتُ بِتَشْمِيرٍ وَجِدٍّ عَلَيْهِمْ ... وَمِحْبَرَتِي أُذْنِي وَدَفْتَرُهَا قَلْبِي
مَنْصُورُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ
أَبُو الْحَسَنِ الفقير، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَهُ الشِّعْرُ الْحَسَنُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيَظْهَرُ في شعره التشيع، وكان جنديا ثم كُفَّ بَصَرُهُ وَسَكَنَ الرَّمْلَةَ، ثُمَّ قَدِمَ مِصْرَ ومات بِهَا.
أَبُو نَصْرٍ الْمُحِبُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، كَانَ لَهُ كَرَمٌ وَسَخَاءٌ وَمُرُوءَةٌ، وَمَرَّ بِسَائِلٍ سَأَلَ وَهُوَ يَقُولُ: شَفِيعِي إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَقَّ أَبُو نَصْرٍ إِزَارَهُ وَأَعْطَاهُ نِصْفَهُ، ثُمَّ مَشَى خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَأَعْطَاهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَقَالَ: هَذَا نذالة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ منها وقع حريق بالكرخ في الباقلانتين، هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا دُخِلَ بِأُسَارَى مِنَ الْكَرْخِ نحو مائة وخمسين أسيرا أنقذهم الأمير بدر الحماني. وفي ذي القعدة منها انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ غَالِبُ الضَّوْءِ وَتَقَطَّعَ ثَلَاثَ قِطَعٍ، وَسُمِعَ بَعْدَ انْقِضَاضِهِ صَوْتُ رَعْدٍ شَدِيدٍ هَائِلٍ مِنْ غَيْرِ غَيْمٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَفِيهَا دَخَلَتِ الْقَرَامِطَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ. وَفِيهَا عُزِلَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَنِ الْوِزَارَةِ وَأُعِيدَ إِلَيْهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ.
وَفِيهَا كَسَرَتِ الْعَامَّةُ أَبْوَابَ السُّجُونِ فأخرجوا من كان بها وأدركت الشرطة من أُخْرِجُوا مِنَ السِّجْنِ فَلَمْ يَفُتْهُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بل ردوا إلى السجون. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَخُو أم موسى القهرمانة
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى
أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ الْمَشْهُورِ، سَمِعَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَطَبَقَتَهُ، وَكَانَ حَافِظًا خَيِّرًا حَسَنَ التَّصْنِيفِ عَدْلًا فِيمَا يَرْوِيهِ، ضَابِطًا لِمَا يُحَدِّثُ بِهِ.
إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ
أبو يعقوب البزار الْكُوفِيُّ، رَحَلَ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ الْمُسْنَدَ، وَاسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ روى عنه(11/130)
ابن المظفر الْحَافِظُ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَوَى عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْأَزْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا عَارِفًا. تُوُفِّيَ بِحَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ
الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ شَيْخُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ.
عَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَزْهَرِ
أَبُو الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيُّ، كَانَ أَوَّلًا مترفا ثم صار زَاهِدًا عَابِدًا يَبْقَى الْأَيَّامَ لَا يَأْكُلُ فِيهَا شيئا، وكان يقول: ألهانى الشوق إلى الله عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَكَانَ يَقُولُ:
أَنَا لَا أموت كما يَمُوتُونَ بِالْأَعْلَالِ وَالْأَسْقَامِ، إِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَإِجَابَةٌ، أدعى فأجيب. فكان كما قال، بينهما هُوَ جَالِسٌ فِي جَمَاعَةٍ إِذْ قَالَ: لَبَّيْكَ ووقع ميتا.
محمد بن هارون الروياني صاحب المسند. وابن دريج العكبريّ. والهيثم بن خلف.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة
فيها غَلَتِ الْأَسْعَارُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ فَاضْطَرَبَتِ الْعَامَّةُ وَقَصَدُوا دَارَ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الَّذِي ضمن يرائى مِنَ الْخَلِيفَةِ فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَعَدَوْا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ- وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ- عَلَى الخطيب، فمنعوه الخطبة وكسروا المنابر وقتلوا الشرط وحرقوا جسورا كثيرة، فأمر الْخَلِيفَةُ بِقِتَالِ الْعَامَّةِ ثُمَّ نَقَضَ الضَّمَانَ الَّذِي كَانَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ ضَمِنَهُ فَانْحَطَّتِ الْأَسْعَارُ، وَبِيعَ الْكُرُّ بِنَاقِصِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ، فَطَابَتْ أَنْفُسُ الناس بذلك وسكنوا. وفي تموز منها وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا حَتَّى نَزَلَ النَّاسُ عَنِ الْأَسْطِحَةِ وَتَدَثَّرُوا بِاللُّحُفِ وَالْأَكْسِيَةِ، وَوَقَعَ فِي شتاء هذه السنة بلغم عَظِيمٌ، وَكَانَ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا بِحَيْثُ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَعْضِ النَّخِيلِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أحمد بن العباس أخو القهرمانة.
وفيها توفى من الأعيان
إبراهيم بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ
رَاوِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ.
أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ
بْنِ الْمُغَلِّسِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحِمَّانِيُّ أَحَدُ الْوَضَّاعِينَ لِلْأَحَادِيثِ، رَوَى عَنْ خَالِهِ جُبَارَةَ بْنِ الْمُغَلِّسِ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَمُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِمْ: أَحَادِيثَ كُلُّهَا وَضَعَهَا هُوَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَحَكَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ ابن الْمَدِينِيِّ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَارًا كُلُّهَا كَذِبٌ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ. وَالْمُفَضَّلُ الْجَنَدِيُّ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ وَهْبٍ الدينَوَريّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ يعقوب
أبو عبد الله المقري النحويّ التوزي، سكن بغداد، وروى عن عمرو بْنِ شَبَّةَ، وَعَنْهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ. ومن شعره الجيد:
إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا ... فَعِلْمُكَ فِي الْبَيْتِ لَا يَنْفَعُ
وَتَحْضُرُ بِالْجَهْلِ فِي مَجْلِسٍ ... وَعِلْمُكَ فِي الْكُتْبِ مُسْتَوْدَعُ(11/131)
وَمَنْ يَكُ فِي دَهْرِهِ هَكَذَا ... يَكُنْ دَهْرَهُ القهقرى يرجع
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ كَثِيرٌ فِي نُوَاحِي بَغْدَادَ بِسَبَبِ زِنْدِيقٍ قُتِلَ فَأَلْقَى مَنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ الْحَرِيقَ في أما كن كَثِيرَةٍ، فَهَلَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ مؤنس الخادم بلاد مصر والشام ولقبه المظفر. وأمر بكتب ذلك فِي الْمُرَاسَلَاتِ إِلَى الْآفَاقِ. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا أُحْضِرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري إلى دار الوزير عيسى بن على المناظرة الْحَنَابِلَةِ فِي أَشْيَاءَ نَقَمُوهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَحْضُرُوا ولا واحد منهم. وفيها قدم الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنِ الْعَبَّاسِ لِلْخَلِيفَةِ بُسْتَانًا بَنَاهُ وَسَمَّاهُ النَّاعُورَةَ قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفَرَشَ مَسَاكِنَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ الْمُفْتَخِرَةِ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ، وَلِنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ وَسِيرَتِهِ، وَكَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وبيان المقصود بطريق الإنصاف والعدل، من غير تحمل ولا هوى ولا جور.
وَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ سِيرَتِهِ وَأَحْوَالِهِ وَكَشْفِ سَرِيرَتِهِ وأقواله
ونحن نعوذ باللَّه أن نقول عليه ما لم يكن قاله، أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله، فنقول: هو الحسين ابن مَنْصُورِ بْنِ مَحْمِيٍّ الْحَلَّاجُ أَبُو مُغِيثٍ، وَيُقَالُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، كَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا اسْمُهُ محمى من أهل فارس من بلدة يقال لها البيضاء، ونشأ بِوَاسِطَ، وَيُقَالُ بِتُسْتَرَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَتَرَدَّدَ إِلَى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر، مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، ولا يَجْلِسُ إِلَّا تَحْتَ السَّمَاءِ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ الحرام، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا بَعْضَ قُرْصٍ وَيَشْرَبُ قَلِيلًا من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة، وكان يجلس على صخرة في شدة الحر فِي جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَدْ صَحِبَ جَمَاعَةً من سادات المشايخ الصُّوفِيَّةِ، كَالْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ. قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ. وَالصُّوفِيَّةُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَأَكْثَرَهُمْ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْحَلَّاجُ مِنْهُمْ، وَأَبَى أَنْ يَعُدَّهُ فِيهِمْ، وَقَبِلَهُ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ الْبَغْدَادِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، وَصَحَّحُوا لَهُ حَالَهُ، وَدَوَّنُوا كَلَامَهُ، حَتَّى قَالَ ابْنُ خَفِيفٍ:
الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ- واسمه محمد بن الحسين- سمعت إبراهيم ابن مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيَّ وَعُوتِبَ فِي شَيْءٍ حُكِيَ عَنِ الحلاج في الروح فقال للذي عَاتَبَهُ: إِنْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ مُوَحِّدٌ فَهُوَ الْحَلَّاجُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَسَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَالْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ شَيْئًا وَاحِدًا، إِلَّا أَنَّهُ أَظْهَرَ وَكَتَمْتُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشِّبْلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ، وقد رأى الحلاج مصلوبا. ألم أنهك عَنِ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ الْخَطِيبُ:
وَالَّذِينَ نَفَوْهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ نَسَبُوهُ إِلَى الشَّعْبَذَةِ فِي فِعْلِهِ، وَإِلَى الزندقة في عقيدته وعقده. قَالَ: وَلَهُ إِلَى(11/132)
الآن أصحاب ينسبون إليه ويغالون فيه ويغلون. وقد كان الحلاج في عبارته حلو المنطق، وله شعر على طريقة الصوفية. قُلْتُ: لَمْ يَزَلِ النَّاسُ مُنْذُ قُتِلَ الْحَلَّاجُ مُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِ، فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَحُكِيَ عَنْ غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافرا، وكان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَجْمَلُوا الْقَوْلَ فِيهِ، وغرّهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله، فإنه كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ فِيهِ تَعْبُدٌ وَتَأَلُّهٌ وسلوك، ولكن لم يمكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان. فلهذا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. وقال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ:
مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مَنَ الْيَهُودِ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى، وَلِهَذَا دَخَلَ عَلَى الحلاج الحلول والاتحاد، فصار من أهل الانحلال والانحراف. وقد روى من وَجْهٍ أَنَّهُ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ وَتَرَدَّدَ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وصح أنه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث- أي أنه من رجال الغيث- ويكاتبه أهل سركسان بِالْمُقِيتِ. وَيُكَاتِبُهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ بِالْمُمَيِّزِ، وَأَهْلُ فَارِسَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ. وَأَهْلُ خُوزَسْتَانَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ حَلَّاجِ الْأَسْرَارِ. وَكَانَ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ يَقُولُونَ لَهُ: الْمُصْطَلِمُ. وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ لَهُ: الْمُحَيِّرُ، وَيُقَالُ إِنَّمَا سَمَّاهُ الْحَلَّاجَ أَهْلُ الْأَهْوَازِ لِأَنَّهُ كَانَ يُكَاشِفُهُمْ عن ما في ضمائرهم، وقيل لأنه مرة قَالَ لِحَلَّاجٍ: اذْهَبْ لِي فِي حَاجَةِ كَذَا وكذا، فقال: إني مشغول بالحلج، فقال: اذهب فأنا أحلج عَنْكَ، فَذَهَبَ وَرَجَعَ سَرِيعًا فَإِذَا جَمِيعُ مَا فِي ذَلِكَ الْمَخْزَنِ قَدْ حَلَجَهُ، يُقَالُ إِنَّهُ أَشَارَ بِالْمِرْوَدِ فَامْتَازَ الْحَبُّ عَنِ الْقُطْنِ، وَفِي صحة هذا ونسبته إليه نظر، وإن كان قد جرى مثل هذا، فالشياطين تعين أصحابها ويستخدمونهم. وَقِيلَ لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ حَلَّاجًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَا حُلُولٍ فِي بَدْءِ أمره أشياء كثيرة، منها شعره في ذلك فمن ذلك قوله:
جبلت وحك في روحي كما ... يجبل العنبر بالمسك الفنق
فإذا مسّك شيء مسنى ... وإذا أنت أنا لا نفترق
وقوله
مُزِجَتْ رُوحُكَ فِي رُوحِي كَمَا ... تُمْزَجُ الْخَمْرَةُ بِالْمَاءِ الزُّلَالْ
فَإِذَا مَسَّكَ شَيْءٌ مَسَّنِي ... فَإِذَا أنت أنا في كل حال
وقوله أيضا
قد تحققتك في سرى ... فَخَاطَبَكَ لِسَانِي
فَاجْتَمَعْنَا لِمَعَانٍ ... وَافْتَرَقْنَا لِمَعَانِ
إِنْ يكن غيبك التعظيم ... عن لحظ العيان
فلقد صيرك الوجد ... مِنَ الْأَحْشَاءِ دَانِ(11/133)
وَقَدْ أُنْشِدَ لِابْنِ عَطَاءٍ قَوْلُ الْحَلَّاجِ.
أُرِيدُكَ لَا أُرِيدُكَ لِلثَّوَابِ ... وَلَكِنِّي أُرِيدُكَ لِلْعِقَابِ
وَكُلُّ مَآرِبِي قَدْ نِلْتُ مِنْهَا ... سِوَى مَلْذُوذِ وَجْدِي بالعذاب
فقال ابن عطاء: قال هذا ما تزايد بِهِ عَذَابُ الشَّغَفِ وَهُيَامُ الْكَلَفِ، وَاحْتِرَاقُ الْأَسَفِ، فإذا صفا ووفى علا إلى مشرب عذب وهاطل مِنَ الْحَقِّ دَائِمٍ سَكِبٍ. وَقَدْ أُنْشِدَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ قَوْلُ الْحَلَّاجِ:
سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ نَاسُوتُهُ ... سِرَّ سَنَا لَاهُوتِهِ الثَّاقِبِ
ثُمَّ بَدَا فِي خَلْقِهِ ظَاهِرًا ... فِي صُورَةِ الآكل والشارب
حتى قد عَايَنَهُ خَلْقُهُ ... كَلَحْظَةِ الْحَاجِبِ بِالْحَاجِبِ
فَقَالَ ابْنُ خفيف: علا مَنْ يَقُولُ هَذَا لَعْنَةُ اللَّهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: إن هذا من شعر الحلاج، فقال: قد يكون مقولا عليه. وينسب إليه أيضا:
أو شكت تَسْأَلُ عَنِّي كَيْفَ كُنْتُ ... وَمَا لَاقَيْتُ بَعْدَكَ من هم وحزن
لَا كُنْتُ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي كَيْفَ كُنْتُ ... ولا لا كُنْتُ أَدْرِي كَيْفَ لَمْ أَكُنِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَيُرْوَى لِسَمْنُونٍ لَا لِلْحَلَّاجِ. وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
مَتَى سَهِرَتْ عَيْنِي لِغَيْرِكَ أَوْ بَكَتْ ... فَلَا أُعْطِيَتْ مَا أَمَّلَتْ وَتَمَنَّتِ
وَإِنْ أضمرت نفسي سواك فلا زكت ... رِيَاضَ الْمُنَى مِنْ وَجْنَتَيْكَ وَجُنَّتِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أيضا:
دنيا تغالطنى كأنني ... لَسْتُ أَعْرِفُ حَالَهَا
حَظَرَ الْمَلِيكُ حَرَامَهَا ... وَأَنَا احْتَمَيْتُ حَلَالَهَا
فَوَجَدْتُهَا مُحْتَاجَةً ... فَوَهَبْتُ لَذَّتَهَا لَهَا
وَقَدْ كَانَ الْحَلَّاجُ يَتَلَوَّنُ فِي مَلَابِسِهِ، فَتَارَةً يلبس لباس الصوفية وتارة بتجرد فِي مَلَابِسَ زَرِيَّةٍ، وَتَارَةً يَلْبَسُ لِبَاسَ الْأَجْنَادِ ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك والأجناد. وقد رآه بعض أصحابه في ثياب رثة وبيده ركوة وعكازة وَهُوَ سَائِحٌ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ الْحَالَةُ يَا حَلَّاجُ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَئِنْ أَمْسَيْتُ فِي ثَوْبَيْ عَدِيمٍ ... لَقَدْ بَلِيَا عَلَى حُرٍّ كَرِيمِ
فَلَا يَغْرُرْكَ أَنْ أَبْصَرْتَ حَالًا ... مُغَيَّرَةً عَنِ الْحَالِ الْقَدِيمِ
فَلِي نَفْسٌ سَتَتْلَفُ أَوْ سَتَرْقَى ... لَعَمْرُكَ بِي إِلَى أَمْرٍ جَسِيمِ
وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُوصِيَهُ بِشَيْءٍ ينفعه الله به. فقال: عليك نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شَغَلَتْكَ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِظْنِي. فَقَالَ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِحُكْمِ مَا أَوْجَبَ.(11/134)
وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ مَرْجِعُهُ إِلَى أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: حُبُّ الْجَلِيلِ وَبُغْضُ الْقَلِيلِ، وَاتِّبَاعُ التَّنْزِيلِ، وَخَوْفُ التَّحْوِيلِ.
قلت: وقد أخطأ الْحَلَّاجُ فِي الْمَقَامَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، فَلَمْ يَتَّبِعِ التَّنْزِيلَ ولم يبق على الاستقامة بل تحول عنها إلى الاعوجاج والبدعة والضلالة، نسأل الله العافية.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ: أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُمَاشِي الْحَلَّاجَ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ مَكَّةَ وَكُنْتُ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَسَمِعَ قِرَاءَتِي فَقَالَ: يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ مِثْلَ هَذَا، فَفَارَقَتْهُ. قَالَ الْخَطِيبُ:
وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشِّيرَازِيُّ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ الطَّبَرِيَّ يَقُولُ: النَّاسُ فيه- يعنى حسين بن منصور الحلاج- بَيْنَ قَبُولٍ وَرَدٍّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الرَّازِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ يَلْعَنُهُ وَيَقُولُ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَقَتَلْتُهُ بِيَدِي. فقلت له: أَيْشِ الَّذِي وَجَدَ الشَّيْخُ عَلَيْهِ؟
قَالَ قَرَأْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: يُمْكِنُنِي أَنْ أُؤَلِّفَ مِثْلَهُ وَأَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الطَّبَرِيُّ:
وَسَمِعْتُ أَبَا يَعْقُوبَ الْأَقْطَعَ يَقُولُ: زَوَّجْتُ ابنتي من الحسين الحلاج لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حُسْنِ طَرِيقَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَبَانَ لي منه بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ أَنَّهُ سَاحِرٌ مُحْتَالٌ، خَبِيثٌ كافر. قلت: كان تزويجه إياها بِمَكَّةَ، وَهِيَ أُمُّ الْحُسَيْنِ بِنْتُ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَقْطَعِ فَأَوْلَدَهَا وَلَدَهُ أَحْمَدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَقَدْ ذَكَرَ سِيرَةَ أَبِيهِ كَمَا سَاقَهَا من طريق الخطيب. وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته فِي بَابِ حِفْظِ قُلُوبِ الْمَشَايِخِ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ دَخَلَ عَلَى الْحَلَّاجِ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْتُبُ شَيْئًا فِي أَوْرَاقٍ فَقَالَ لَهُ:
مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هُوَ ذَا أُعَارِضُ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهَا، وَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي يَعْقُوبَ الْأَقْطَعِ تَزْوِيجَهُ إِيَّاهُ ابْنَتَهُ. وكتب عمرو بن عثمان إِلَى الْآفَاقِ كُتُبًا كَثِيرَةً يَلْعَنُهُ فِيهَا وَيُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْهُ، فَشَرَدَ الْحَلَّاجُ فِي الْبِلَادِ فَعَاثَ يمينا وشمالا، وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله وَيَسْتَعِينُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَشَأْنَهُ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، فَقَتَلَهُ بِسَيْفِ الشَّرْعِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا بَيْنَ كتفي زنديق، والله أعدل مِنْ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى صِدِّيقٍ، كَيْفَ وَقَدْ تهجم على القرآن العظيم، وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل، وقد قال تَعَالَى (وَمن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ من عَذابٍ أَلِيمٍ) 22: 25 وَلَا إِلْحَادَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَقَدْ أَشْبَهَ الحلاج كفار قريش في معاندتهم، كما قال تعالى عنهم (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) 8: 31
ذِكْرُ أَشْيَاءَ مِنْ حِيَلِ الْحَلَّاجِ
رَوَى الْخَطِيبُ البغدادي أن الحلاج بعث رجلا من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب بين يديه إلى بلد من بلاد الجبل، وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد، فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمى، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح، فإذا سعوا في مداواته، قال لهم: يا جماعة(11/135)
الخير، إنه لا ينفنى شيء مما تفعلون، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام وهو يقول له: إن شفاءك لا يكون إلا على يدي القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وصفته كذا وكذا. وقال له الحلاج: إني سأقدم عليك في ذلك الوقت. فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد فأقام بها يتعبد ويظهر الصلاح والتنسك ويقرأ القرآن. فأقام مدة على ذلك فاعتقدوه وأحبوه، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ قَدْ عَمِيَ فَمَكَثَ حينا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ قَدْ زمن، فسعوا بمداواته بكل ممكن فلم ينتج فيه شيء، فقال: لهم: يا جماعة الخير هذا الّذي تفعلونه معى لا ينتج شيئا وأنا قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام وهو يقول لي: إن عافيتك وشفاءك إنما هو على يدي القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وكانوا أو لا يقودونه إلى المسجد ثم صاروا يحملونه ويكرمونه كان في الوقت الّذي ذكر لهم، واتفق هو والحلاج عليه، أقبل الحلاج حتى دخل البلد مختفيا وعليه ثياب صوف بيض، فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد فيه لا يلتفت إلى أحد، فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل، فابتدروا إليه يسلمون عليه ويتمسحون به، ثم جاءوا إلى ذلك الزمن المتعافى فأخبره بخبره، فقال: صفوه لي، فوصفوه له فقال: هذا الّذي أخبرنى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، وأن شفائى على يديه، اذهبوا بى إِلَيْهِ. فَحَمَلُوهُ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَكَلَّمَهُ فعرفه فقال: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ. ثم ذكر له رؤياه، فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر، ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته فمشى كأنه لم يكن به شيء والناس حضور، وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده، فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه وعظموا الحلاج تعظيما زائدا على ما أظهر لهم من الباطل والزور. ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه ويودون لو طلب منهم ما عساه أن يطلب من أموالهم. فلما أراد الخروج عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالا كثيرا فقال: أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا، وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا، ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الأبدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس، ويحجون ويتصدقون، محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك. فقال ذلك الرجل المتزامن المتعافى: صدق الشيخ، قد رد الله على بصرى ومن الله على بالعافية، لأجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله، والحج إلى بيت الله مع إخواننا الأبدال والصالحين الذين نعرفهم، ثم حثهم على إعطائه من المال ما طابت به أنفسهم. ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالا كثيرا ألوفا من الذهب والفضة، فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فَذَهَبَ إِلَى الْحَلَّاجِ فَاقْتَسَمَا ذَلِكَ الْمَالَ.(11/136)
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الحلاج له أحوال وكرامات فأحببت أن أختبر ذلك فجئته فسلمت عليه فقال لي: تشتهي عَلَيَّ السَّاعَةَ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: أَشْتَهِي سَمَكًا طَرِيًّا. فدخل منزله فغاب ساعة ثم خرج على وَمَعَهُ سَمَكَةٌ تَضْطَرِبُ وَرِجْلَاهُ عَلَيْهِمَا الطِّينُ. فَقَالَ: دعوت الله فأمرنى أن آتى البطائح لآتيك بهذه السمكة، فخضت الْأَهْوَازَ وَهَذَا الطِّينُ مِنْهَا. فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أدخلتنى منزلك حتى انظر ليقوى يقيني بذلك، فَإِنْ ظَهَرْتُ عَلَى شَيْءٍ وَإِلَّا آمَنْتُ بِكَ. فقال: أدخل، فدخلت فأغلق على الباب وجلس يراني. قدرت البيت فلم أجد فيه مَنْفَذًا إِلَى غَيْرِهِ، فَتَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِهِ ثُمَّ نظرت فإذا أنا بتأزيرة- وكان مؤزرا بإزار ساج- فحركتها فانفلقت فإذا هي باب منفذ فدخلته فأفضى بى إلى بستان هائل، فيه من سائر التمار الجديدة والعتيقة، قد أحسن إبقاءها. وإذا أشياء كثيرة معدودة لِلْأَكْلِ، وَإِذَا هُنَاكَ بِرْكَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سَمَكٌ كثير صغار وكبار، فَدَخَلْتُهَا فَأَخْرَجْتُ مِنْهَا وَاحِدَةً فَنَالَ رِجْلِي مِنَ الطين مثل الّذي نال رجليه، فجئت إلى الباب فقلت: افتح قد آمنت بك. فلما رآني على مثل حاله أسرع خلفي جريا يريد أن يقتلني. فَضَرَبْتُهُ بِالسَّمَكَةِ فِي وَجْهِهِ وَقُلْتُ:
يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَتْعَبْتَنِي فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَلَمَّا خَلَصْتُ منه لقيني بعد أيام فضاحكنى وقال: لا تفش ما رأيت لأحد وإلا بعثت إليك من يقتلك على فراشك. قال: فعرفت أنه يفعل إن أفشيت عليه فلم أحدث به أحدا حتى صلب.
وقال الحلاج يَوْمًا لِرَجُلٍ: آمِنْ بِي حَتَّى أَبْعَثَ لَكَ بِعُصْفُورَةٍ تَأْخُذُ مِنْ ذَرْقِهَا وَزْنَ حَبَّةٍ فَتَضَعُهُ على كذا منا مِنْ نُحَاسٍ فَيَصِيرُ ذَهَبًا. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: آمن أنت بى حَتَّى أَبْعَثَ إِلَيْكَ بِفِيلٍ إِذَا اسْتَلْقَى عَلَى قفاه بلغت قوائمه إلى السَّمَاءَ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُخْفِيَهُ وَضَعْتَهُ فِي إِحْدَى عَيْنَيْكَ. قَالَ: فَبُهِتَ وَسَكَتَ.
وَلَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ جَعَلَ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ وَيُظْهِرُ أَشْيَاءَ من المخاريق والشعوذة وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُرَوِّجُ عَلَى الرَّافِضَةِ لِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَضِعْفِ تَمْيِيزِهِمْ بين الحق والباطل. وقد استدعى يَوْمًا بِرَئِيسٍ مِنَ الرَّافِضَةِ فَدَعَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ به فقال له الرافضيّ: إِنِّي رِجْلٌ أُحِبُّ النِّسَاءَ وَإِنِّي أَصْلَعُ الرَّأْسِ، وَقَدْ شِبْتُ، فَإِنْ أَنْتَ أَذْهَبْتَ عَنِّي هَذَا وهذا آمنت بك وأنك الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ. قَالَ: فَبُهِتَ الْحَلَّاجُ وَلَمْ يُحِرْ إِلَيْهِ جَوَابًا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ الْحَلَّاجُ متلونا تَارَةً يَلْبَسُ الْمُسُوحَ، وَتَارَةً يَلْبَسُ الدُّرَّاعَةَ، وَتَارَةً يَلْبَسُ الْقَبَاءَ، وَهُوَ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى مَذْهَبِهِمْ: إِنْ كَانُوا أَهْلَ سُنَّةٍ أَوْ رَافِضَةً أو معتزلة أو صوفية أو فساقا أو غيرهم، وَلَمَّا أَقَامَ بِالْأَهْوَازِ جَعَلَ يُنْفِقُ مِنْ دَرَاهِمَ يُخْرِجُهَا يُسَمِّيهَا دَرَاهِمَ الْقُدْرَةِ، فَسُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا كله مما يناله البشر بِالْحِيلَةِ، وَلَكِنْ أَدْخِلُوهُ بَيْتًا لَا مَنْفَذَ لَهُ ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك. فلما بلغ ذلك الحلاج تحول من الأهواز. قال(11/137)
الخطيب: أنبأ إبراهيم بن مخلد أبنأنا إسماعيل بن على الخطيب في تاريخه قال: وظهر أمر رجل يقال له الحلاج الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكَانَ فِي حَبْسِ السُّلْطَانِ بِسِعَايَةٍ وَقَعَتْ بِهِ، وَذَلِكَ فِي وِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْأُولَى، وَذُكِرَ عَنْهُ ضُرُوبٌ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَوَضْعِ الْحِيَلِ عَلَى تَضْلِيلِ النَّاسِ، مِنْ جِهَاتٍ تُشْبِهُ الشَّعْوَذَةَ وَالسِّحْرَ، وَادِّعَاءَ النُّبُوَّةِ، فَكَشَفَهُ على بن عيسى عند قبضه عليه وأنهى خبره إلى السلطان- يعنى الخليفة الْمُقْتَدِرَ باللَّه- فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا رُمِيَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَعَاقَبَهُ وَصَلَبَهُ حَيًّا أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً فِي رَحْبَةِ الْجِسْرِ، فِي كُلِّ يَوْمٍ غُدْوَةً، وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ عَنْهُ، ثُمَّ يُنْزَلُ بِهِ ثُمَّ يُحْبَسُ، فَأَقَامَ فِي الْحَبْسِ سِنِينَ كثيرة ينقل من حبس إلى حبس، خوفا من إضلاله أهل كل حبس إذا طالت مدته عندهم، إلى أن حبس آخر حبسة فِي دَارِ السُّلْطَانِ، فَاسْتَغْوَى جَمَاعَةً مِنْ غِلْمَانِ السلطان وموّه عليهم واستمالهم بضروب من الجيل، حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه بالمآكل المطيبة، ثُمَّ رَاسَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ بِبَغْدَادَ وغيرها، فاستجابوا له وترقى به الأمر إلى أن ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَسُعِيَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَقُبِضَ عَلَيْهِمْ وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كُتُبٌ تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ، وَأَقَرَّ بعضهم بذلك بلسانه، وَانْتَشَرَ خَبَرُهُ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَتْلِهِ، فَأَمَرَ الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أَنْ يَكْشِفَهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَجَرَى فِي ذَلِكَ خُطُوبٌ طِوَالٌ، ثُمَّ اسْتَيْقَنَ السُّلْطَانُ أَمْرَهُ وَوَقَفَ عَلَى مَا ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَإِحْرَاقِهِ بِالنَّارِ، فَأُحْضِرَ مَجْلِسَ الشُّرْطَةِ بالجانب الغربي في يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ نَحْوًا مِنْ ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عُنُقُهُ، وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ بِالنَّارِ، وَنُصِبَ رَأْسُهُ لِلنَّاسِ عَلَى سُورِ الْجِسْرِ الْجَدِيدِ وَعُلِّقَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ.
وقال أبو عبد الرحمن بن الحسن السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْوَاعِظَ يَقُولُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّازِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُمْشَاذٍ: حَضَرَ عِنْدَنَا بِالدِّينَوَرِ رَجُلٌ وَمَعَهُ مخلاة فما كان يفارقها ليلا ولا نهارا، فأنكروا ذلك من حاله ففتشوا مخلاته فَوَجَدُوا فِيهَا كِتَابًا لِلْحَلَّاجِ عُنْوَانُهُ: مِنَ الرَّحْمَنِ الرحيم إلى فلان بن فلان.
- يدعوه إلى الضلالة والايمان به- فبعث بالكتاب إِلَى بَغْدَادَ فَسُئِلَ الْحَلَّاجُ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ كَتَبَهُ فَقَالُوا لَهُ: كُنْتَ تَدَّعِي النُّبُوَّةَ فَصِرْتَ تَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّ هَذَا عَيْنُ الْجَمْعِ عِنْدَنَا. هَلِ الْكَاتِبُ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَا وَالْيَدُ آلَةٌ؟ فَقِيلَ لَهُ: مَعَكَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ ابْنُ عَطَاءٍ وأبو محمد الحريري وأبو بكر الشبلي. فسئل الحريري عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَنْ يَقُولُ بِهَذَا كَافِرٌ. وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يُمْنَعُ. وَسُئِلَ ابْنُ عَطَاءٍ عَنْ ذَلِكَ فقال: القول ما يقول الْحَلَّاجِ فِي ذَلِكَ. فَعُوقِبَ حَتَّى كَانَ سَبَبَ هَلَاكِهِ. ثُمَّ رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عن محمد بن عبد الرحمن الرَّازِيِّ أنَّ الْوَزِيرَ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ لَمَّا أحضر الْحَلَّاجُ سَأَلَهُ عَنِ اعْتِقَادِهِ فَأَقَرَّ بِهِ فَكَتَبَهُ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ(11/138)
فقهاء بغداد فأنكروا ذلك وكفروا من أعتقده، فكتبه. فقال الوزير: إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ عَطَاءٍ يَقُولُ بِهَذَا. فقالوا: من قال بهذا فهو كافر. ثم طلب الوزير ابن عطاء إلى منزله فجاء فجلس في صدر المجلس فسأله عن قول الحلاج فقال: من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد. فقال الوزير لابن عطاء: ويحك تصوب مثل هذا القول وهذا الاعتقاد؟ فقال ابن عطاء: مالك وَلِهَذَا، عَلَيْكَ بِمَا نُصِّبْتَ لَهُ مَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ فَمَا لَكَ وَلِكَلَامِ هؤلاء السادة من الأولياء. فأمر الوزير عند ذلك بِضَرْبِ شِدْقَيْهِ وَنَزْعِ خُفَّيْهِ وَأَنْ يُضْرَبَ بِهِمَا على رأسه، فما زال يفعل به ذلك حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ، وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ. فقالوا له: إن العامة تستوحش من هذا ولا يعجبها. فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ:
اللَّهمّ اقتله وَاقْطَعْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. ثُمَّ مَاتَ ابْنُ عَطَاءٍ بعد سبعة أيام، ثم بعد مدة قتل الوزير شَرَّ قِتْلَةٍ، وَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأَحْرِقَتْ دَارُهُ. [وكان العوام يرون ذلك بدعوة ابن عطاء على عادتهم في مرائيهم فيمن أوذى ممن لهم معه هوى. بل قد قال ذلك جماعة ممن ينسب إلى العلم فيمن يؤذى ابن عربي أو يحط على حسين الحلاج أو غيره. هذا بخطيئة فلان] [1] وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ بَغْدَادَ عَلَى كُفْرِ الْحَلَّاجِ وزندقته، وأجمعوا على قتله وصلبه، وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ حِينَ أُحْضِرَ الْحَلَّاجُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَبْلَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا وَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا وَمَا جَاءَ بِهِ حَقًّا فَمَا يَقُولُهُ الْحَلَّاجُ بَاطِلٌ. وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ: قَدْ رَأَيْتُ الْحَلَّاجَ وَخَاطَبْتُهُ فَرَأَيْتُهُ جَاهِلًا يَتَعَاقَلُ، وَغَبِيًّا يتبالغ، وخبيثا مدعيا، وراغبا يتزهد، وَفَاجِرًا يَتَعَبَّدُ. وَلَمَّا صُلِبَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدْ جِيءَ بِهِ لِيُصْلَبَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ يَقُولُ: مَا أَنَا بِالْحَلَّاجِ، وَلَكِنْ أُلْقِيَ عَلَيَّ شبهه وغاب عنكم فَلَمَّا أُدْنِيَ إِلَى الْخَشَبَةِ لِيُصْلَبَ عَلَيْهَا سَمِعْتُهُ وهو مصلوب يقول: يا معين الفنا على أعنى على الفنا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مَصْلُوبٌ يَقُولُ: إِلَهِي أَصْبَحْتُ فِي دَارِ الرَّغَائِبِ، أَنْظُرُ إِلَى الْعَجَائِبِ، إِلَهِي إِنَّكَ تَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤْذِيكَ فَكَيْفَ بمن يؤذى فيك.
ذِكْرُ صِفَةِ مَقْتَلِ الْحَلَّاجِ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْحَلَّاجُ قَدْ قَدِمَ آخِرَ قَدْمَةٍ إِلَى بَغْدَادَ فَصَحِبَ الصُّوفِيَّةَ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ الْوَزِيرَ إِذْ ذَاكَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحَلَّاجَ قَدْ أَضَلَّ خَلْقًا مِنَ الْحَشَمِ وَالْحُجَّابِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَمِنْ غِلْمَانِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْحَاجِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا ادَّعَاهُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّ الْجِنَّ يَخْدِمُونَهُ ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه. وقال: إنه أَحْيَا عِدَّةً مِنَ الطَّيْرِ.
وَذُكِرَ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُنَّائِيُّ الْكَاتِبُ يَعْبُدُ الْحَلَّاجَ وَيَدْعُو النَّاسَ إلى
__________
[1] سقط من المصرية.(11/139)
طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ، وَوَجَدَ فِي منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بِمَاءِ الذَّهَبِ فِي وَرَقِ الْحَرِيرِ مُجَلَّدَةً بِأَفْخَرِ الْجُلُودِ. وَوَجَدَ عِنْدَهُ سَفَطًا فِيهِ مِنْ رَجِيعِ الحلاج وعذرته وَبَوْلِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ آثَارِهِ، وَبَقِيَّةِ خُبْزٍ مِنْ زَادِهِ. فَطَلَبَ الْوَزِيرُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الْحَلَّاجِ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ فَتَهَدَّدَهُمْ فَاعْتَرَفُوا لَهُ أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيى الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فَجَحَدَ ذَلِكَ وَكَذَّبَهُمْ وَقَالَ: أَعُوذُ باللَّه أَنْ أَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَجَعَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَالتَّوْحِيدِ، وَيُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:
سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي رِجْلَيْهِ ثلاثة عشر قيدا، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَكَانَ قَبْلَ احْتِيَاطِ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ فِي حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ نَصْرٍ الْقُشُورَيِّ الْحَاجِبِ، مَأْذُونًا لِمَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ تَارَةً بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَتَارَةً مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ، وَكَانَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ هَذَا قَدِ افْتُتِنَ بِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَهُ عَلَى المقتدر باللَّه فرقاه من وجع حصل له فاتفق زواله عنه، وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها، فَنَفَقَ سُوقُهُ وَحَظِيَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ. فَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهِ سُلِّمَ إِلَى الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَحَبَسَهُ فِي قُيُودٍ كَثِيرَةٍ فِي رِجْلَيْهِ، وَجَمَعَ لَهُ الْفُقَهَاءَ فَأَجْمَعُوا عَلَى كُفْرِهِ وَزَنْدَقَتِهِ، وَأَنَّهُ سَاحِرٌ مُمَخْرِقٌ. وَرَجَعَ عَنْهُ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِمَّنْ كَانَ اتَّبَعَهُ أَحَدُهُمَا أَبُو عَلِيٍّ هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له الدباس، فذكروا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَالْمَخْرَقَةِ وَالسِّحْرِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ أُحْضِرَتْ زَوْجَةُ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَذَكَرَتْ عَنْهُ فَضَائِحَ كَثِيرَةً. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْشَاهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَانْتَبَهَتْ فَقَالَ: قُومِي إِلَى الصلاة، وإنما كان يريد أن يطأها. وأمر ابنتها بالسجود له فقالت: أو يسجد بِشَرٌ لِبَشَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فَوَجَدَتْ تَحْتَهَا دَنَانِيرَ كَثِيرَةً مَبْدُورَةً. وَلَمَّا كَانَ معتقلا في دار حامد بن العباس الوزير دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْغِلْمَانِ وَمَعَهُ طَبَقُ فِيهِ طَعَامٌ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ مَلَأَ الْبَيْتَ مِنْ سَقْفِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَذُعِرَ ذَلِكَ الْغُلَامُ وفزع فزعا شديدا، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّبَقِ وَالطَّعَامِ، وَرَجَعَ مَحْمُومًا فَمَرِضَ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
ولما كان آخر مجلس من مجالسه أُحْضِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَجِيءَ بِالْحَلَّاجِ وَقَدْ أُحْضِرَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ دُورِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَلْيَبْنِ فِي دَارِهِ بَيْتًا لَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ(11/140)
النَّجَاسَةِ وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ دُخُولِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلْيَطُفْ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي دَارِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ، ثُمَّ يَسْتَدْعِي بِثَلَاثِينَ يَتِيمًا فَيُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِهِ، وَيَتَوَلَّى خِدْمَتَهُمْ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَكْسُوهُمْ قَمِيصًا قَمِيصًا، وَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ- أَوْ قَالَ ثَلَاثَةَ، دَرَاهِمَ- فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَامَ لَهُ مَقَامَ الْحَجِّ. وَإِنَّ مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ عَلَى وَرَقَاتِ هِنْدَبَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ. وَمَنْ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَنَّ مَنْ جَاوَرَ بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ وبمقابر قُرَيْشٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَصُومُ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ الْجَرِيشِ أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي بَقِيَّةِ عُمُرِهِ. فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: مِنْ كِتَابِ الْإِخْلَاصِ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ يا حلال الدم، وقد سَمِعْنَا كِتَابَ الْإِخْلَاصِ لِلْحَسَنِ بِمَكَّةَ لَيْسَ فِيهِ شيء من هذا. فأقبل الوزير على القاضي فَقَالَ لَهُ: قَدْ قُلْتَ يَا حَلَالَ الدَّمِ فَاكْتُبْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَ لَهُ الدَّوَاةَ فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ، وَكَتَبَ مَنْ حَضَرَ خُطُوطَهُمْ فِيهَا وَأَنْفَذَهَا الْوَزِيرُ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَجَعَلَ الْحَلَّاجُ يَقُولُ لَهُمْ: ظَهْرِي حِمًى وَدَمِي حَرَامٌ، وَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أن تتأولوا على ما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٍ وسعيد وعبد الرحمن ابن عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَلِي كُتُبٌ في السنة موجودة في الوارقين فاللَّه الله في دمي. فلا يلتفتون إليه ولا إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ. وَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْتُبُونَ خُطُوطَهُمْ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَرُدَّ الْحَلَّاجُ [إِلَى مَحْبِسِهِ وَتَأَخَّرَ جَوَابُ الْمُقْتَدِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى سَاءَ ظَنُّ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَمْرَ الْحَلَّاجِ] [1] قَدِ اشْتَهَرَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ اثْنَانِ وَقَدِ افْتَتَنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ. فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى مُحَمَّدِ بن عبد الصمد صاحب الشرطة. وليضر به أَلْفَ سَوْطٍ، فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا ضُرِبَتُ عُنُقُهُ. فَفَرِحَ الْوَزِيرُ بِذَلِكَ وَطَلَبَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ فَسَلَّمَهُ إليه وبعث معه طائفة من غلمانه يصلونه مَعَهُ إِلَى مَحَلِّ الشُّرْطَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَذَلِكَ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغْلٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِ السِّيَاسَةِ. عَلَى مِثْلِ شَكْلِهِ، فَاسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُ بِدَارِ الشُّرْطَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فذكر أنه بات يصلى تلك اللَّيْلَةِ وَيَدْعُو دُعَاءً كَثِيرًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يَقُولُ قَالَ أَبُو الْحَدِيدِ- يَعْنِي الْمِصْرِيَّ-: لَمَّا كَانَتِ الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلى مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَلَمَّا كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ قَامَ قَائِمًا فَتَغَطَّى بِكِسَائِهِ وَمَدَّ يَدَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ جَائِزِ الحفظ، فكان مما حفظت منه قوله: نَحْنُ شَوَاهِدُكَ فَلَوْ دَلَّتْنَا عِزَّتُكَ لَتَبَدَّى مَا شئت من شأنك
__________
[1] سقط من المصرية.(11/141)
وَمَشِيئَتِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، تَتَجَلَّى لِمَا تَشَاءُ مِثْلَ تَجَلِّيكَ فِي مَشِيئَتِكَ كَأَحْسَنِ الصُّورَةِ، وَالصُّورَةُ فِيهَا الرُّوحُ الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثم إني أو عزت إِلَيَّ شَاهِدَكَ لِأَنِّي فِي ذَاتِكَ الْهُوِيُّ كَيْفَ أنت إذا مثلت بذاتى عند حلول لذاتي، وَدَعَوْتَ إِلَى ذَاتِي بِذَاتِي، وَأَبْدَيْتَ حَقَائِقَ عُلُومِي وَمُعْجِزَاتِي، صَاعِدًا فِي مَعَارِجِي إِلَى عُرُوشِ أَزَلِيَّاتِي عند التولي عن بِرِيَّاتِي، إِنِّي احْتُضِرْتُ وَقُتِلْتُ وَصُلِبْتُ وَأُحْرِقْتُ وَاحْتُمِلْتُ سافيات الذَّارِيَاتِ. وَلَجَجْتُ فِي الْجَارِيَاتِ، وَإِنَّ ذَرَّةً مِنْ يَنْجُوجٍ مَكَانَ هَالُوكِ مُتَجَلَّيَاتِي، لَأَعْظَمُ مِنَ الرَّاسِيَاتِ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْعَى إِلَيْكَ نُفُوسًا طَاحَ شاهدها ... فيما ورا الحيث بل فِي شَاهِدِ الْقِدَمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ قُلُوبًا طَالَمَا هَطَلَتْ ... سَحَائِبُ الْوَحْيِ فِيهَا أَبْحُرُ الْحِكَمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ لِسَانَ الْحَقِّ مِنْكَ وَمَنْ ... أَوْدَى وَتَذْكَارُهُ في الوهم كالعدم
أنعى إليك بيانا يستكين لَهُ ... أَقْوَالُ كُلِّ فَصِيحٍ مِقْوَلٍ فَهِمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ إِشَارَاتِ الْعُقُولِ مَعًا ... لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ إِلَّا دَارِسُ الْعِلْمِ
أَنْعَى وَحُبِّكَ أَخْلَاقًا لِطَائِفَةٍ ... كَانَتْ مَطَايَاهُمْ مِنْ مَكْمَدِ الْكِظَمِ
مَضَى الْجَمِيعُ فَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... مُضِيَّ عَادٍ وَفِقْدَانَ الأولى إِرَمِ
وَخَلَّفُوا مَعْشَرًا يَحْذُونَ لِبْسَتَهُمْ ... أَعْمَى مِنَ الْبُهْمِ بَلْ أَعْمَى مِنَ النَّعَمِ
قَالُوا: وَلَمَّا أُخْرِجَ الْحَلَّاجُ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي بَاتَ فِيهِ لِيُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْقَتْلِ أَنْشَدَ:
طَلَبْتُ الْمُسْتَقَرَّ بِكُلِّ أَرْضٍ ... فَلَمْ أَرَ لِي بِأَرْضٍ مُسْتَقَرَّا
وذقت من الزمان وذاق منى ... وجدت مذاقه حلوا ومرا
أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي ... وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَعِشْتُ حُرَّا
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَهَا حِينَ قَدِمَ إِلَى الجذع ليصلب، والمشهور الأول. فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَفِي رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَتَمَايَلُ:
نَدِيمِي غَيْرُ مَنْسُوبٍ ... إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيْفِ
سَقَانِي مِثْلَ مَا يَشْرَ ... بُ فِعْلَ الضَّيْفِ بِالضَّيْفِ
فَلَمَّا دَارَتِ الْكَأْسُ ... دَعَا بِالنِّطْعِ وَالسَّيْفِ
كَذَا مَنْ يَشْرَبُ الرَّاحَ ... مَعَ التِّنِّينِ فِي الصَّيْفِ
ثُمَّ قَالَ: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) 42: 18 ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ. قَالُوا: ثُمَّ قُدِّمَ فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَاكِتٌ مَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ مَعَ كُلِّ سَوْطٍ أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ سَمِعْتُ عِيسَى الْقَصَّارَ يَقُولُ: آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا الْحَلَّاجُ حِينَ قُتِلَ أَنْ قَالَ: حَسْبُ الْوَاحِدِ إِفْرَادُ الْوَاحِدِ لَهُ. فَمَا سَمِعَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَحَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ إِلَّا(11/142)
رَقَّ لَهُ، وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ. وَقَالَ السلمي: سمعت أبا بكر المحاملي يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْفَاتِكِ الْبَغْدَادِيَّ- وَكَانَ صَاحِبَ الْحَلَّاجِ- قَالَ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ قَتْلِ الْحَلَّاجِ كَأَنِّي وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَا أَقُولُ: يَا رَبِّ مَا فَعَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ؟ فَقَالَ: كَاشَفْتُهُ بِمَعْنًى فَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى نَفْسِهِ فَأَنْزَلْتُ بِهِ مَا رَأَيْتَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَزِعَ عند القتل جَزَعًا شَدِيدًا وَبَكَى بُكَاءً كَثِيرًا فاللَّه أَعْلَمُ.
وقال الخطيب: ثنا عبد الله بن أحمد بن عثمان الصير في قَالَ قَالَ لَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَّوَيْهِ: لما أخرج الحسين بن منصور الْحَلَّاجُ لِيُقْتَلَ مَضَيْتُ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ، وَلَمْ أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فَقَالَ: لِأَصْحَابِهِ: لَا يَهُولَنَّكُمْ هَذَا الْأَمْرُ، فَإِنِّي عَائِدٌ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. ثُمَّ قُتِلَ فما عاد. وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُضْرَبُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ وَالِي الشُّرْطَةِ: ادْعُ بِي إِلَيْكَ فَإِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً تَعْدِلُ فَتْحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ قِيلَ لِي إِنَّكَ سَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا، وَلَيْسَ إِلَى رَفْعِ الضَّرْبِ عَنْكَ سَبِيلٌ. ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَحُزَّ رَأْسُهُ وأحرقت جثته وألقى رمادها فِي دِجْلَةَ، وَنُصِبَ الرَّأْسُ يَوْمَيْنِ بِبَغْدَادَ عَلَى الْجِسْرِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى خُرَاسَانَ وَطِيفَ بِهِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَعِدُونَ أَنْفُسَهُمْ برجوعه إليهم بعد ثلاثين يَوْمًا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الْحَلَّاجَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ فِي طَرِيقِ النَّهْرَوَانِ فَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ هَؤُلَاءِ النفر الَّذِينَ ظَنُّوا أَنِّي أَنَا هُوَ الْمَضْرُوبُ الْمَقْتُولُ، إِنِّي لَسْتُ بِهِ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ شَبَهِي عَلَى رَجُلٍ فَفُعِلَ بِهِ مَا رَأَيْتُمْ. وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّمَا قُتِلَ عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَلَّاجِ. فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال: إن كان هذا الرأى صادقا فقد تبدي له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به. كَمَا ضَلَّتْ فِرْقَةُ النَّصَارَى بِالْمَصْلُوبِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: واتفق له أَنَّ دِجْلَةَ زَادَتْ فِي هَذَا الْعَامِ زِيَادَةً كثيرة. فقال: إنما زادت لأن رماد جثة الحلاج خالطها. وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديما وحديثا. ونودي ببغداد أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع. وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي العقدة من سنة تسع وثلاثمائة ببغداد. وقد ذكره ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ وَحَكَى اخْتِلَافَ النَّاسِ فيه، ونقل عن الغزالي أنه ذكره في مشكاة الأنوار وتأول كلامه وحمله على ما يليق. ثم نقل ابن خلكان عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَذُمُّهُ وَيَقُولُ إِنَّهُ اتَّفَقَ هُوَ وَالْجَنَّابِيُّ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ عَلَى إِفْسَادِ عَقَائِدِ النَّاسِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَكَانَ الْجَنَّابِيُّ فِي هَجَرَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَابْنُ الْمُقَفَّعِ بِبِلَادِ التُّرْكِ، وَدَخَلَ الْحَلَّاجُ الْعِرَاقَ، فَحَكَمَ صَاحِبَاهُ عَلَيْهِ بِالْهَلَكَةِ لِعَدَمِ انْخِدَاعِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَهَذَا لَا يَنْتَظِمُ فَإِنَّ ابْنَ المقفع كان قبل الحلاج بدهر فِي أَيَّامِ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وأربعين ومائتين أَوْ قَبْلَهَا.
وَلَعَلَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ أَرَادَ ابْنَ المقفع الخراساني الّذي ادعى الربوبية وأوتى العمر وَاسْمُهُ عَطَاءٌ، وَقَدْ قَتَلَ(11/143)
نَفْسَهُ بِالسُّمِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، ولا يمكن اجتماعه مع الحلاج أيضا، وإن أردنا تصحيح كلام إمام الحرمين فنذكر ثلاثة قد اجتمعوا في وقت واحد على إضلال الناس وإفساد العقائد كما ذكر، فيكون المراد بذلك الحلاج وهو الحسين بن منصور الّذي ذكره، وابن السمعاني- يعنى أبا جعفر محمد ابن على- وأبو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بهرام الجنابي القرمطى الّذي قتل الحجاج وأخذ الحجر الأسود وطم زمزم ونهب أستار الكعبة، فهولاء يمكن اجتماعهم في وقت واحد كما ذكرنا ذلك مبسوطا، وذكره ابن خلكان ملخصا.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ
وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ الْأَدَمِيُّ. حَدَّثَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى القطان، والمفضل بن زياد وغيرهما، وقد كان موافقا للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله، وكان أبو العباس هذا يقرأ في كل يوم ختمة، فإذا كان شهر رمضان قرأ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ، وَكَانَ له ختمة يتدبرها ويتدبر معاني القرآن فيها. فمكث فيها سبعة عَشْرَةَ سَنَةً وَمَاتَ وَلَمْ يَخْتِمْهَا، وَهَذَا الرَّجُلُ ممن كان اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَلَّاجِ وَأَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُ فَعَاقَبَهُ الوزير حامد بن العباس بالضرب البليغ عَلَى شِدْقَيْهِ، وَأَمَرَ بِنَزْعِ خُفَّيْهِ وَضَرْبِهِ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ، وَمَاتَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ قد دعا على الوزير بأن تقطع يداه ورجلاه ويقتل شر قتلة. فمات الوزير بعد مدة كذلك.
وفيها توفى أبو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ الطَّبِيبُ الْحَرَّانِيُّ. وَأَبُو محمد عبد الله بن حمدون النديم.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا أُطْلِقَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مِنَ الضِّيقِ، وَكَانَ مُعْتَقَلًا، وَرُدَّتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ وَأُعِيدَ إِلَى عَمَلِهِ وَأُضِيفَ إِلَيْهِ بُلْدَانٌ أُخْرَى، وَوُظِّفَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ يَحْمِلُهَا إِلَى الْحَضْرَةِ فَبَعَثَ حِينَئِذٍ إِلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْأَدَمِيِّ الْقَارِئَ، وَكَانَ قد قرأ بين يديه حين اعتقل في سنة إحدى وستين وَمِائَتَيْنِ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) 11: 102 فخاف القارئ من سَطْوَتَهُ وَاسْتَعْفَى مِنْ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ فَقَالَ لَهُ مُؤْنِسٌ: اذْهَبْ وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي الْجَائِزَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ (وَقال الْمَلِكُ ائْتُونِي به أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) 12: 54 فَقَالَ: بَلْ أُحِبُّ أَنْ تَقْرَأَ ذَلِكَ الْعُشْرَ الّذي قرأته عند سجني وإشهاري (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) 11: 102 فان ذلك كان سبب توبتي ورجوعي إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْكَ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَفِيهَا مَرِضَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ فجاءه هارون بن المقتدر ليعوده ويبلغه سلام أبيه عليه، فَبَسَطَ لَهُ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ دَارِهِ تَحَامَلَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ فَبَلَّغَهُ سَلَامَ الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ عَزَمَ عَلَى عِيَادَتِهِ فَاسْتَعْفَى مِنْ مؤنس الخادم، ثم ركب عَلَى جُهْدٍ عَظِيمٍ حَتَّى سَلَّمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ(11/144)
لئلا يكلفه الركوب إليه. وفيها قبض على القهرمانة أم موسى ومن ينسب إليها، وكان حَاصِلُ مَا حُمِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ جِهَتِهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ منها لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَّى الْمُقْتَدِرُ مَنْصِبَ الْقَضَاءِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيَّ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْأُشْنَانِيِّ- وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَاءِ النَّاسِ- وَلَكِنَّهُ عُزِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْتَسِبًا بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا عُزِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ عنْ شُرْطَةِ بَغْدَادَ وَوَلِيَهَا نَازُوكُ وَخُلِعَ عَلَيْهِ. وفيها في جمادى الآخرة منها ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان في برج السنبلة. وفي شَعْبَانَ مِنْهَا وَصَلَتْ هَدَايَا نَائِبِ مِصْرَ وَهُوَ الحسين بن المارداني، وفي جملتها بَغْلَةٌ مَعَهَا فُلُوُّهَا، وَغُلَامٌ يَصِلُ لِسَانُهُ إِلَى طرف أنفه. وفيها قُرِئَتِ الْكُتُبُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِمَا كَانَ مِنَ الفتوح على المسلمين ببلاد الروم. وفيها وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ انْشَقَّ بِأَرْضِ وَاسِطَ فُلُوعٌ في الأرض في سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا أَكْبَرُهَا طُولُهُ أَلْفُ ذِرَاعٍ، وَأَقَلُّهَا مِائَتَا ذِرَاعٍ، وَأَنَّهُ غَرِقَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْقُرَى أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ قَرْيَةٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بن عبد الملك الهاشمي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو بِشْرٍ الدولابي
محمد بن أحمد بن حماد أبو سَعِيدٍ أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ، مَوْلَى الْأَنْصَارِ، وَيُعْرَفُ بالوراق، أحد الأئمة من حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ.
قَالَ ابن يونس: كان يصعق، توفى وهو قاصد الْحَجِّ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بِالْعَرْجِ فِي ذِي القعدة. وفيها توفى
أبو جعفر بن جرير الطبري
مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كَثِيرِ بن غالب الامام أبو جعفر الطبري، كان مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ أسمر أعين مليح الوجه مَدِيدَ الْقَامَةِ فَصِيحَ اللِّسَانِ، رَوَى الْكَثِيرَ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الحديث، وصنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الّذي لا يوجد له نظير، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ النَّافِعَةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. ومن أحسن ذلك تهذيب الآثار ولو كمل لما احتيج معه إلى شيء، ولكان فيه الكفاية لكنه لَمْ يُتِمَّهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَكْتُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ ورقة. قال الخطيب البغدادي: اسْتَوْطَنَ ابْنُ جَرِيرٍ بَغْدَادَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى حين وفاته، وكان من أكابر أئمة العلماء، ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وَفَضْلِهِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات كلها، بَصِيرًا بِالْمَعَانِي، فَقِيهًا فِي الْأَحْكَامِ، عَالِمًا بِالسُّنَنِ وَطُرُقِهَا، وَصَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا، وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، عَارِفًا بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ وَأَخْبَارِهِمْ. وَلَهُ الْكِتَابُ الْمَشْهُورُ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ وَالْمُلُوكِ، وَكِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ لَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِثْلَهُ. وَكِتَابٌ سَمَّاهُ تَهْذِيبَ الْآثَارِ لَمْ أَرَ سِوَاهُ فِي مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ. وَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ واختيارات،(11/145)
وَتَفَرَّدَ بِمَسَائِلَ حُفِظَتْ عَنْهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَبَلَغَنِي عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَاهِرٍ الْفَقِيهِ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ سَافَرَ رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، أَوْ كما قال. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جَرِيرٍ فِي سِنِينَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَعْلَمُ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ أَعْلَمَ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَلَقَدْ ظَلَمَتْهُ الْحَنَابِلَةُ. وقال محمد لِرَجُلٍ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَشَايِخِ- وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ سَمَاعٌ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ كَانُوا يَمْنَعُونَ أَنْ يَجْتَمِعَ به أحد- فقال ابن خزيمة: لَوْ كَتَبْتَ عَنْهُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَتَبْتَ عَنْهُ. قُلْتُ: وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْقِيَامِ فِي الْحَقِّ لَا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات عَلَى أَحْسَنِ الصِّفَاتِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ، وهو أحد المحدثين الّذي اجتمعوا في مصر في أيام ابن طُولُونَ، وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ إمام الأئمة، ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الروياني، ومحمد بن جرير الطبري هذا. وقد ذكرناهم فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَكَانَ الّذي قام فصلى هو مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بن نصر، فرزقهم الله. وقد أراد الخليفة المقتدر في بعض الأيام أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ وَقْفٍ تَكُونُ شُرُوطُهُ مُتَّفَقًا عليها بين العلماء، فَقِيلَ لَهُ: لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ إلا محمد بن جرير الطبري، فطلب منه ذلك فكتب له، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده. وَقَالَ لَهُ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لي. فقال لا بد أن تسألنى حاجة أو شَيْئًا. فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَمْرُهُ إِلَى الشُّرْطَةِ حَتَّى يَمْنَعُوا السُّؤَّالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى مَقْصُورَةِ الْجَامِعِ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ. وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مَنْ مَغَلِّ قَرْيَةٍ تَرَكَهَا لَهُ أَبُوهُ بِطَبَرِسْتَانَ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا أَعْسَرْتُ لَمْ يَعْلَمْ رَفِيقِي ... وَأَسْتَغْنِي فَيَسْتَغِنِي صَدِيقِي
حَيَائِي حَافِظٌ لِي مَاءَ وجهي ... ورفقي في مطالبتى رفيقي
ولو أتى سَمَحْتُ بِبَذْلِ وَجْهِي ... لَكُنْتُ إِلَى الْغِنَى سَهْل الطريق
ومن شعره أيضا
خلقان لا أرى طَرِيقَهُمَا ... بَطَرُ الْغِنَى وَمَذَلَّةُ الْفَقْرِ
فَإِذَا غَنِيتَ فَلَا تَكُنْ بَطِرًا ... وَإِذَا افْتَقَرْتَ فَتِهْ عَلَى الدهر
وقد كانت وفاته وقت المغرب عَشِيَّةِ يَوْمِ الْأَحَدِ لِيَوْمَيْنِ بَقِيَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بخمس سنين أَوْ سِتِّ سِنِينَ، وَفِي شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ سَوَادٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ لِأَنَّ بَعْضَ عوام الحنابلة ورعاعهم مَنَعُوا مِنْ دَفَنِهِ نَهَارًا وَنَسَبُوهُ إِلَى الرَّفْضِ، وَمِنَ الْجَهَلَةِ مَنْ رَمَاهُ بِالْإِلْحَادِ، وَحَاشَاهُ مِنْ ذلك كله. بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا تَقَلَّدُوا ذَلِكَ عن أبى بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم(11/146)
وبالرفض. ولما توفى اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وَصَلَّوْا عَلَيْهِ بِدَارِهِ وَدُفِنَ بِهَا، وَمَكَثَ النَّاسُ يترددون إلى قبره شهورا يصلون عليه، وَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا جَمَعَ فِيهِ أَحَادِيثَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي مُجَلَّدَيْنِ ضَخْمَيْنِ، وَكِتَابًا جَمَعَ فيه طريق حديث الطير. ونسب إليه أنه كان يَقُولُ بِجَوَازِ مَسْحِ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَأَنَّهُ لا يوجب غسلهما، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنْهُ هَذَا. فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا شِيعِيٌّ وإليه ينسب ذلك، وينزهون أبا جعفر هذا عن هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَالَّذِي عُوِّلَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ يُوجِبُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ وَيُوجِبُ مَعَ الْغَسْلِ دَلْكَهُمَا، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ، فلم يفهم كثير من الناس مراده، ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ يَقُولُ:
حَدَثٌ مُفْظِعٌ وَخَطْبٌ جَلِيلٌ ... دَقَّ عَنِ مِثْلِهِ اصْطِبَارُ الصَّبُورِ
قَامَ نَاعِي الْعُلُومِ أَجْمَعِ لَمَّا ... قَامَ نَاعِي مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرِ
فَهَوَتْ أَنْجُمٌ لَهَا زاهرات ... مؤذنات رسومها بالدثور
وتغشى ضياها النير الإشراق ... ثَوْبُ الدُّجُنَّةِ الدَّيْجُورِ
وَغَدَا رَوْضُهَا الْأَنِيقُ هَشِيمًا ... ثُمَّ عَادَتْ سُهُولُهَا كَالْوُعُورِ
يَا أَبَا جَعْفَرٍ مَضَيْتَ حَمِيدًا ... غَيْرَ وَانٍ فِي الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ
بين أجر على اجتهادك موفور ... وَسَعْيٍ إِلَى التُّقَى مَشْكُورِ
مُسْتَحِقًّا بِهِ الْخُلُودَ لدى جنة ... عَدْنٍ فِي غِبْطَةٍ وَسُرُورِ
وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ دريد رحمه الله فيه مرثاة طويلة، وقد أَوْرَدَهَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِتَمَامِهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة
فِيهَا دَخَلَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ أَمِيرُ الْقَرَامِطَةِ فِي أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ لَيْلًا، نَصَبَ السَّلَالِمَ الشَّعْرَ في سورها فدخلها قهرا وَفَتَحُوا أَبْوَابَهَا وَقَتَلُوا مَنْ لَقُوهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَرَبَ أَكْثَرُ النَّاسِ فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَمَكَثَ بِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يوما يقتل ويأسر من نسائها وذراريها، ويأخذ ما يختار من أموالها. ثم عاد إلى بلده هجر، كلما بَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ جُنْدًا مِنْ قِبَلِهِ فَرَّ هاربا وترك البلد خاويا، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وفيها عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ عَنِ الْوِزَارَةِ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ وعلى بن عيسى وردها إلى أبى الحسن بن الفرات مرة ثالثة، وسلم إليه حامدا وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى، فَأَمَّا حَامِدٌ فَإِنَّ الْمُحَسِّنَ بْنَ الْوَزِيرِ ضَمِنَهُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ ألف دينار، فتسلمه فَعَاقَبَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً لا تحصى ولا تعد كثرة، ثم أرسله مَعَ مُوَكَّلِينَ عَلَيْهِ إِلَى وَاسِطٍ لِيَحْتَاطُوا عَلَى أمواله وحواصله هناك، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْقُوهُ سُمًّا فِي الطَّرِيقِ فَسَقَوْهُ ذَلِكَ فِي بَيْضٍ مَشْوِيٍّ(11/147)
كَانَ قَدْ طَلَبَهُ مِنْهُمْ، فَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فَإِنَّهُ صُودِرَ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَصُودِرَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ كُتَّابِهِ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَا أُخِذَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَعَ مَا كَانَ صُودِرَتْ بِهِ الْقَهْرَمَانَةُ مِنَ الذَّهَبِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا آلَافَ ألف من الدنانير، وغير ذلك من الأثاث والأملاك والدواب والآنية من الذهب والفضة. وَأَشَارَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ باللَّه أن يبعد عنه مؤنس الخادم إِلَى الشَّامِ- وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مِنْ بِلَادِ الروم من الجهاد، وقد فتح شيئا كثيرا من حصون الروم وبلدانهم، وغنم مغانم كثيرة جدا- فأجابه إلى ذلك، فسأل مؤنس الخليفة أن ينظره إلى سلخ شهر رمضان، وكان مؤنس قد أعلم الخليفة بما يَعْتَمِدُهُ ابْنُ الْوَزِيرِ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ وَمُصَادَرَتِهِمُ بالأموال، فأمر الخليفة مؤنسا بالخروج إِلَى الشَّامِ. وَفِيهَا كَثُرَ الْجَرَادُ وَأَفْسَدَ كَثِيرًا من الغلات. وفي رمضان منها أمر الخليفة برد ما فضل من المواريث على ذوى الأرحام. وفي رمضان أحرق بالنار على باب العامة مائتين وأربعة أعدال من كتب الزنادقة، منها ما كان صنفه الحلاج وغيره، فَسَقَطَ مِنْهَا ذَهَبٌ كَثِيرٌ كَانَتْ مُحَلَّاةً بِهِ. وفيها اتخذ أبو الحسن ابن الفرات الوزير مرستانا في درب الفضل وكان يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مائتي دينار
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْخَلَّالُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هاون
أبو بكر الخلال، صاحب الكتاب الْجَامِعِ لِعُلُومِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَمْ يُصَنَّفْ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَثْلُ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ سمع الخلال الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَسَعْدَانَ بْنِ نصر وغيرهما. توفى يوم الجمعة قبل الصلاة ليومين مضتا من هذه السنة.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ أَحَدُ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ، وَكَانَ الْجُنَيْدُ يُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ. وَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُنَيْدَ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجَالَسَ الْجَرِيرِيُّ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى الْجَرِيرِيِّ هَذَا شَأْنُ الْحَلَّاجِ فَكَانَ مِمَّنْ أَجْمَلَ الْقَوْلَ فِيهِ، عَلَى أَنَّ الْجَرِيرِيَّ هَذَا مَذْكُورٌ بالصلاح والديانة وحسن الأدب.
الزَّجَّاجُ صَاحِبُ مَعَانِي الْقُرْآنِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ، كَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْحَسَنَةُ، مِنْهَا كِتَابُ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْعَدِيدَةِ المفيدة، وقد كان أَوَّلِ أَمْرِهِ يَخْرُطُ الزُّجَاجَ فَأَحَبَّ عِلْمَ النَّحْوِ فذهب إلى المبرد، وكان يُعْطِي الْمُبَرِّدَ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، ثُمَّ اسْتَغْنَى الزَّجَّاجُ وَكَثُرَ مَالُهُ وَلَمْ يَقْطَعْ عَنِ الْمُبَرِّدِ ذلك الدرهم حتى مات، وَقَدْ كَانَ الزَّجَّاجُ مُؤَدِّبًا لِلْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. فَلَمَّا وَلِيَ الْوِزَارَةَ كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ بِالرِّقَاعِ لِيُقَدِّمَهَا إِلَى الْوَزِيرِ، فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ(11/148)
ألف دينار. توفى في جمادى الأولى منها. وعنه أخذ أبو على الفارسي النحويّ، وابن القاسم عبد الرحمن ابن إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِيُّ، نُسِبَ إِلَيْهِ لِأَخْذِهِ عَنْهُ، وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابِ الْجُمَلِ فِي النَّحْوِ.
بَدْرٌ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ
وَهُوَ بَدْرٌ الْحَمَامِيُّ وَيُقَالُ لَهُ بَدْرٌ الْكَبِيرُ، كَانَ فِي آخِرِ وَقْتٍ عَلَى نِيَابَةِ فارس، ثم وليها مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ.
حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ
الوزير اسْتَوْزَرَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَالْغِلْمَانِ، كَثِيرَ النَّفَقَاتِ كَرِيمًا سَخِيًّا، كثير المروءة. له حِكَايَاتٌ تَدُلُّ عَلَى بَذْلِهِ وَإِعْطَائِهِ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، ومع هذا كان قد جمع شَيْئًا كَثِيرًا، وُجِدَ لَهُ فِي مَطْمُورَةٍ أُلُوفٌ من الذهب، كان كل يوم إذا دخلها أَلْقَى فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا امْتَلَأَتْ طَمَّهَا، فلما صودر دل عليها فاستخرجوا منها مالا كثيرا جِدًّا، وَمَنْ أَكْبَرِ مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ السعاة في قتل الحسين الحلاج كما ذكرنا ذلك. توفى الوزير حامد بن العباس في رمضان منها مسموما.
وفيها توفى عمر بن محمد بحتر البحتري صَاحِبُ الصَّحِيحِ.
ابْنُ خُزَيْمَةَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ صَالِحِ بْنِ بكر السلمي، مولى محسن بْنِ مُزَاحِمٍ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ الملقب بإمام الأئمة، كان بحرا من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآفاق في الحديث وطلب العلم، فكتب الكثير وصنف وجمع، وكتابه الصَّحِيحِ مِنْ أَنْفَعِ الْكُتُبِ وَأَجَلِّهَا، وَهُوَ مِنَ المجتهدين في دين الإسلام، حكى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا قَلَّدْتُ أَحَدًا مُنْذُ بلغت ستة عشر سنة، وقد ذكرنا له ترجمة مطولة في كتابنا طبقات الشافعية.
وهو أحد المحمدين الذين أرملوا بمصر ثم رزقهم الله ببركة صلاته. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْوَ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الطَّبِيبُ صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ الْكَبِيرِ فِي الطِّبِّ.
ثُمَّ دخلت سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا اعْتَرَضَ الْقِرْمِطِيُّ أَبُو طَاهِرٍ الحسين بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَلَعَنَ أَبَاهُ.
لِلْحَجِيجِ وَهُمْ رَاجِعُونَ مِنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، قَدْ أَدَّوْا فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَطَعَ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ فَقَاتَلُوهُ دَفْعًا عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يَعْلَمُهُمْ إلا الله، وَأَسَرَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مَا اخْتَارَهُ، وَاصْطَفَى مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَرَادَ، فَكَانَ مَبْلَغُ مَا أخذه مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُقَاوِمُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْمَتَاجِرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَتَرَكَ بَقِيَّةَ الناس بعد ما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم على بعد الديار في تلك الفيافي والبرية بلا ماء ولا زاد ولا محمل. وقد جاحف عَنِ النَّاسِ نَائِبُ الْكُوفَةِ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ الله بن حمدان فهزمه وأسره. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مع(11/149)
الْقِرْمِطِيِّ ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً قَصَمَهُ اللَّهُ. وَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُهُمْ إِلَى بَغْدَادَ قَامَ نِسَاؤُهُمْ وَأَهَالِيهِمْ فِي النِّيَاحَةِ ونشرن شعورهن ولطمن خدودهن، وانضاف إليهن نساء الذين نكبوا على يد الوزير وابنه، وكان بِبَغْدَادَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي غَايَةِ البشاعة والشناعة، فسأل الخليفة عن الخبر فذكروا له أنهم نِسْوَةُ الْحَجِيجِ وَمَعَهُنَّ نِسَاءُ الَّذِينَ صَادَرَهُمُ ابْنُ الفرات، وجاءت على يد الحاجب نصر بن القشوري على الوزير فقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا اسْتَوْلَى هَذَا الْقِرْمِطِيُّ على ما استولى عليه بسبب إبعادك مؤنس الخادم المظفر، فَطَمِعَ هَؤُلَاءِ فِي الْأَطْرَافِ، وَمَا أَشَارَ عَلَيْكَ بابعاده إلا ابن الفرات، فبعث الخليفة إلى ابْنِ الْفُرَاتِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيكَ لِنُصْحِكَ إِيَّايَ، وَأَرْسَلَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، فَرَكِبَ هُوَ وَوَلَدُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَأَكْرَمَهُمَا وطيب قلوبهما، فخرجا من عنده فنالهما أَذًى كَثِيرٌ مِنْ نَصْرٍ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ فِي دَسْتِهِ فَحَكَمَ بين الناس كعادته، وَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، وَأَصْبَحَ كَذَلِكَ وَهُوَ يَنْشُدُ:
فَأَصْبَحَ لَا يَدْرِي وَإِنْ كان حازما ... أقدامه خير له أم داره؟
ثُمَّ جَاءَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمِيرَانِ مِنْ جهة الخليفة فدخلا عليه داره إلى بين حريمه وأخرجوه مكشوفا رأسه وهو في غاية الذل والصغار، والإهانة والعار، فَأَرْكَبُوهُ فِي حَرَّاقَةٍ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَفَهِمَ النَّاسُ ذَلِكَ فَرَجَمُوا ابْنَ الْفُرَاتِ بِالْآجُرِّ، وَتَعَطَّلَتِ الجوامع وخربت الْعَامَّةُ الْمَحَارِيبَ، وَلَمْ يُصَلِّ النَّاسُ الْجُمُعَةَ فِيهَا، وأخذ خط الوزير بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأُخِذَ خَطُّ ابْنِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسُلِّمَا إِلَى نَازُوكَ أَمِيرِ الشرطة، فاعتقلا حينا حتى خلصت منهما الأموال، ثم أرسل الخليفة خلف مؤنس الخادم، فلما قدم سلمهما إليه فأهانهما غاية الإهانة بالضرب والتقريع له ولولده الْمُجْرِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَسِّنٍ، ثُمَّ قُتِلَا بَعْدَ ذلك. واستوزر عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بن خاقان أبو القاسم، وذلك في تاسع ربيع الأول منها. ولما دخل مؤنس بغداد دخل في تجمل عظيم وشفع عند ابن خاقان فِي أَنْ يُرْسِلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى- وكان قد صار إلى صنعاء الْيَمَنِ مَطْرُودًا- فَعَادَ إِلَى مَكَّةَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وأمر الخليفة مؤنس الخادم بأن يسير إلى الكوفة لقتال القرامطة، وأنفق على خروجه أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَطْلَقَ الْقِرْمِطِيُّ مَنْ كَانَ أَسَرَهُ مِنَ الْحَجِيجِ، وَكَانُوا أَلْفَيْ رَجُلٍ وَخَمْسَمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَأَطْلَقَ أَبَا الْهَيْجَاءِ نَائِبَ الْكُوفَةِ مَعَهُمْ أَيْضًا، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ مِنْهُ الْبَصْرَةَ وَالْأَهْوَازَ فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، وَرَكِبَ الْمُظَفَّرُ مؤنس فِي جَحَافِلَ إِلَى بِلَادِ الْكُوفَةِ فَسَكَنَ أَمْرُهَا، ثم انحدر منها إلى واسط واستناب على الكوفة يا قوت الْخَادِمَ، فَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ وَانْصَلَحَتْ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ فَادَّعَى أَنَّهُ محمد بن إسماعيل بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالطَّغَامِ، والتفوا عليه(11/150)
وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ فِي شَوَّالٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ جَيْشًا فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَفَرَّقَ بَقِيَّتُهُمْ. وَهَذَا الْمُدَّعِي الْمَذْكُورُ هُوَ رَئِيسُ الإسماعيلية وهو أولهم. وظفر نازوك صاحب الشُّرْطَةِ بِثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ: وَهُمْ حَيْدَرَةُ، والشعراني، وابن منصور، فطالبهم بالرجوع عن اعتقادهم فيه فلم يرجعوا، فضرب رقابهم وَصَلَبَهُمْ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِكَثْرَةِ خوف الناس من القرامطة.
وفيها توفى من الأعيان
إبراهيم بن خميس
أبو إسحاق الواعظ الزاهد. كان يعظ الناس، فمن جُمْلَةِ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: يَضْحَكُ الْقَضَاءُ مِنَ الْحَذَرِ، وَيَضْحَكُ الْأَجَلُ مِنَ الْأَمَلِ، وَيَضْحَكُ التَّقْدِيرُ مِنَ التَّدْبِيرِ، وَتَضْحَكُ الْقِسْمَةُ مِنَ الْجَهْدِ وَالْعَنَاءِ.
على بن محمد بن الفرات الْوَزِيرُ
وَلَّاهُ الْمُقْتَدِرُ الْوِزَارَةَ ثُمَّ عَزَلَهُ ثُمَّ وَلَّاهُ ثُمَّ عَزَلَهُ ثُمَّ وَلَّاهُ ثُمَّ عَزَلَهُ ثُمَّ وَلَّاهُ ثُمَّ عَزَلَهُ ثُمَّ وَلَّاهُ ثُمَّ قتله في هذه السنة، وقتل ولده، وكان ذا مال جزيل: ملك عشرة آلاف ألف دينار، وكان يدخل له من ضياعه كل سنة ألف أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ من العباد والعلماء، تجرى عليهم نفقات في كل شهر ما فيه كفايتهم، وكان له معرفة بِالْوِزَارَةِ وَالْحِسَابِ، يُقَالُ إِنَّهُ نَظَرَ يَوْمًا فِي أَلْفِ كِتَابٍ، وَوَقَّعَ عَلَى أَلْفِ رُقْعَةٍ، فَتَعَجَّبَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَتْ فِيهِ مُرُوءَةٌ وكرم وحسن سيرة في ولاياته، غير هذه المرة فإنه ظلم وغشم وصادر الناس وأخذ أموالهم، فأخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، أخذ عزيز مقتدر. وقد كان ذا كرم وسعة في النفقة، ذاكر عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةُ وَأَهْلُ الأدب فَأَطْلَقَ مِنْ مَالِهِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَكَتَبَ رَجُلٌ عَلَى لِسَانِهِ إِلَى نَائِبِ مِصْرَ كتابا فيه وصية به منه إليه، فلما دفع المكتوب إلى نائب مصر استراب منه وقال: ما هذا خط الوزير، وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى الْوَزِيرِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ عرف أنه كذب وزور، فاستشار الحاضرين عنده فيما يفعل بالذي زور عليه، فقال بعضهم: تقطع يديه. وقال آخر تقطع إبهاميه، وقال آخر يضرب ضربا مبرحا. فقال الوزير: أو خير من ذلك كله؟ ثم أخذ الْكِتَابَ وَكَتَبَ عَلَيْهِ: نَعَمْ هَذَا خَطِّي وَهُوَ من أخص أصحابى، فلا تتركن من الخير شيئا مما تقدر عليه إلا أوصلته إليه. فَلَمَّا عَادَ الْكِتَابُ أَحْسَنَ نَائِبُ مِصْرَ إِلَى ذلك الرجل إحسانا بالغا، وَوَصَلَهُ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَاسْتَدْعَى ابْنُ الْفُرَاتِ يَوْمًا بِبَعْضِ الْكُتَّابِ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّ نِيَّتِي فِيكَ سَيِّئَةٌ، وَإِنِّي فِي كُلِّ وَقْتٍ أُرِيدُ أَنْ أَقْبِضَ عَلَيْكَ وَأُصَادِرَكَ، فأراك في المنام تمنعني برغيف، وقد رأيتك في المنام من ليال، وإني أريد القبض عَلَيْكَ، فَجَعَلْتَ تَمْتَنِعُ مِنِّي، فَأَمَرْتُ جُنْدِي أَنْ يقاتلوك، فجعلوا كلما ضربوك بشيء من سهام وغيرها تَتَّقِي الضَّرْبَ بِرَغِيفٍ فِي يَدِكَ، فَلَا يَصِلُ إليك شَيْءٌ، فَأَعْلِمْنِي مَا قِصَّةُ هَذَا الرَّغِيفِ.(11/151)
فَقَالَ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ إِنَّ أُمِّي مُنْذُ كُنْتُ صغيرا كل ليلة تضع تحت وسادتي رغيفا، فإذا أصبحت تصدقت به عنى، فلم يزل كذلك دأبها حتى ماتت. فلما ماتت فعلت أنا ذلك مع نفسي، فكل ليلة أضع تَحْتَ وِسَادَتِي رَغِيفًا ثُمَّ أُصْبِحُ فَأَتَصَدَّقُ بِهِ. فَعَجِبَ الْوَزِيرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا ينالك منى بعد اليوم سوء أبدا، ولقد حسنت نيتي فيك، وقد أحببتك. وقد أطال ابن خلكان ترجمته فذكر بعض ما أوردناه في ترجمته.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَبُو بَكْرٍ الْأَزْدِيُّ الْوَاسِطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بَالْبَاغَنْدِيِّ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَابْنَ أَبِي شَيْبَةَ وَشَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ، وَخَلْقًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، وَرَحَلَ إِلَى الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ، وَعُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَاشْتَغَلَ فِيهِ فأفرط، حتى قيل إنه رُبَّمَا سَرَدَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ بِأَسَانِيدِهَا فِي الصَّلَاةِ والنوم وهو لا يشعر، فكانوا يسبحون بِهِ حَتَّى يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أُجِيبُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ من الحديث لا أتجاوزه إلى غيره. وَقَدْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَا أَثْبَتُ في الأحاديث منصور أو الأعمش؟ فقال له: مَنْصُورٌ.
وَقَدْ كَانَ يُعَابُ بِالتَّدْلِيسِ حَتَّى قَالَ الدار قطنى: هُوَ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ، يُحَدِّثُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ، وربما سرق بعض الأحاديث وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وثلاثمائة
قال ابن الجوزي: في ليلة بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ انْقَضَّ كَوْكَبٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا مِنْهُ وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الرَّعْدِ الشديد. وفي صفر منها بلغ الخليفة أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الرَّافِضَةِ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدِ براثى فَيَنَالُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ، وَيُكَاتِبُونَ القرامطة ويدعون إلى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي ظَهَرَ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَيَتَبَرَّءُونَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ وممن تبعه. فأمر بالاحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فأفتوا بأنه مسجد ضرار، فَضَرَبَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمُ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ، ونودي عليهم. وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم، هدمه نَازُوكُ، وَأَمَرَ الْوَزِيرَ الْخَاقَانِيَّ فَجَعَلَ مَكَانَهُ مَقْبَرَةً فدفن فيها جماعة من الموالي. وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَاعْتَرَضَهُمْ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ القرمطى، فرجع أكثر الناس إلى بلدانهم، وَيُقَالُ إِنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلَ مِنْهُ الْأَمَانَ لِيَذْهَبُوا فَأَمَّنَهُمْ. وَقَدْ قَاتَلَهُ جُنْدُ الْخَلِيفَةِ فَلَمْ يُفِدْ ذلك شيئا لتمرده وشدة بأسه، فانزعج أَهْلُ بَغْدَادَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَرَحَّلَ أَهْلُ الْجَانِبِ الغربي إلى الجانب الشرقي خوفا منهم، ودخل القرمطى إلى الكوفة فأقام بها شهرا يأخذ من أموالها ونسائها ما يختار. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَثُرَ الرُّطَبُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ حَتَّى بِيعَ كُلُّ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ بحبة، وعمل(11/152)
مِنْهُ تَمْرٌ وَحُمِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ. وَعَزَلَ الْمُقْتَدِرُ وزيره الخاقانيّ بعد أن ولاه سنة وستة أشهر ويومين، وولى مكانه أبا القاسم أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الخطيب الْخَصِيبِيُّ، لِأَجْلِ مَالٍ بَذَلَهُ مِنْ جِهَةِ زَوْجَةِ للحسن بْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَالُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دينار فأمر الخصيبى على بن عيسى على أن يكون مشرفا عَلَى دِيَارِ مِصْرَ وَبِلَادِ الشَّامِ، وَهُوَ مُقِيمٌ بمكة يسير إلى تلك البلاد في بعض الأوقات فيعمل ما ينبغي ثم يرجع إلى مكة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ
أَبُو الْحَسَنِ الْغَضَائِرِيُّ، سَمِعَ الْقَوَارِيرِيَّ وَعَبَّاسًا الْعَنْبَرِيَّ، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الثِّقَاتِ. قَالَ: جِئْتُ يَوْمًا إِلَى السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ فَدَقَقْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ فَخَرَجَ إِلَيَّ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ وَهُوَ يَقُولُ:
اللَّهمّ اشْغَلْ مَنْ شَغَلَنِي عَنْكَ بِكَ. قَالَ: فَنَالَتْنِي بَرَكَةُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَحَجَجْتُ عَلَى قَدَمِي مِنْ حَلَبَ إلى مكة أربعين حجة ذاهبا وآئبا.
أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ الْحَافِظُ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الثقات الحفاظ، مولده سنة ثمان عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ قُتَيْبَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَهُمَا أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَقْدَمُ مِيلَادًا وَوَفَاةً، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ نَافِعَةٌ جِدًّا، وَكَانَ يُعَدُّ مِنْ مُجَابِي الدَّعْوَةِ. وَقَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ يَرْقَى فِي سُلَّمٍ فَصَعِدَ فِيهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ دَرَجَةً، فَمَا أَوَّلَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا قَالَ لَهُ: تَعِيشُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، فَكَانَ كَذَلِكَ. وقد ولد له ابنه أبو عمر وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. قَالَ الْحَاكِمُ:
فَسَمِعْتُ أبا عمر ويقول: كنت إِذَا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ عَلَى أَبِي وَالنَّاسُ عِنْدَهُ يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا عَمِلْتُهُ فِي لَيْلَةٍ وَلِي مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة أربع عشرة وثلاثمائة
فيها كتب ملك الروم، وهو الدمشق لَعَنَهُ اللَّهُ، إِلَى أَهْلِ السَّوَاحِلِ أَنَّ يَحْمِلُوا إليه الخراج، فأبوا عليه فركب إليهم في جنوده فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَاثَ فِي الْأَرْضِ فسادا، ودخل ملطية فقتل من أهلها خلقا وَأَسَرَ وَأَقَامَ بِهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَجَاءَ أَهْلُهَا إِلَى بَغْدَادَ يَسْتَنْجِدُونَ الْخَلِيفَةَ عَلَيْهِ. وَوَقَعَ في بغداد حريق في مكانين، مات فيهما خلق كثير، وأحرق في أحدهما أَلْفُ دَارٍ وَدُكَّانٍ، وَجَاءَتِ الْكُتُبُ بِمَوْتِ الدُّمُسْتُقِ ملك النصارى فقرئت الكتب على المنابر. وجاءت الكتب من مكة أنهم في غاية الانزعاج بسبب اقتراب القرامطة إليهم وقصدهم إِيَّاهُمْ، فَرَحَلُوا مِنْهَا إِلَى الطَّائِفِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي. وفيها هبت ريح عظيمة بنصيبين اقتلعت أشجارا كثيرة وَهَدَمَتِ الْبُيُوتَ. قَالَ ابْنُ(11/153)
الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا- وَهُوَ سَابِعُ كَانُونَ الْأَوَّلِ- سَقَطَ ببغداد ثلج عظيم جدا حصل بِسَبَبِهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ، بِحَيْثُ أَتْلَفَ كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَمَدَتِ الْأَدْهَانُ حَتَّى الْأَشْرِبَةُ، وَمَاءُ الْوَرْدِ وَالْخَلُّ وَالْخِلْجَانُ الْكِبَارُ، وَدِجْلَةُ. وَعَقَدَ بَعْضُ مشايخ الحديث مجلسا للتحديث عَلَى مَتْنِ دِجْلَةَ مِنْ فَوْقِ الْجَمْدِ، وَكُتِبَ هُنَالِكَ، ثُمَّ انْكَسَرَ الْبَرْدُ بِمَطَرٍ وَقَعَ فَأَزَالَ ذلك كله وللَّه الحمد. وفيها قدم الْحُجَّاجُ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى بَغْدَادَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ بِأَنَّ الْقَرَامِطَةَ قَدْ قَصَدُوا مَكَّةَ، فَرَجَعُوا وَلَمْ يَتَهَيَّأِ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْخَصِيبِيَّ بَعْدَ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَحَبْسِهِ، وَذَلِكَ لاهماله أمر الوزارة والنظر في المصالح، وذلك لِاشْتِغَالِهِ بِالْخَمْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيُصْبِحُ مَخْمُورًا لا تمييز لَهُ، وَقَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نُوَّابِهِ فَخَانُوا وعملوا مصالحهم، وولى أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني نِيَابَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، حَتَّى يَقْدَمَ، ثُمَّ أَرْسَلَ فِي طَلَبِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى وهو بدمشق، فَقَدِمَ بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، فَنَظَرَ فِي المصالح الخاصة والعامة، ورد الأمور إلى السداد، وتمهدت الأمور.
وَاسْتَدْعَى بِالْخَصِيبِيِّ فَتَهَدَّدَهُ وَلَامَهُ وَنَاقَشَهُ عَلَى مَا كان يعتمده ويفعله في خاصة نفسه من معاصي الله عز وجل، وَفِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ. ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ. وَفِيهَا أَخَذَ نَصْرُ ابن أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالسَّعِيدِ بِلَادَ الرَّيِّ وَسَكَنَهَا إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة. وفيها غزت الصائفة من طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمُوا وَسَلِمُوا. وَلَمْ يَحُجَّ ركب العراق خوفا من القرامطة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ سَعْدٌ النُّوبِيُّ صَاحِبُ بَابِ النُّوبِيِّ من دار الخلافة ببغداد في صفر، وَأُقِيمَ أَخُوهُ مَكَانَهُ فِي حِفْظِ هَذَا الْبَابِ الّذي صار ينسب بعد إِلَيْهِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عمر ابن لبابة القرمطى. وَنَصْرُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَرَائِضِيُّ الْحَنَفِيُّ أَبُو اللَّيْثِ، سَمِعَ الْقَوَارِيرِيَّ وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا بِالْفَرَائِضِ عَلَى مذهب أبى حنيفة، مقربا جَلِيلًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا كَانَ قُدُومُ عَلِيِّ بْنِ عيسى الوزير من دمشق، وَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَقِيَهُ إِلَى الْأَنْبَارِ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ. وحين دخل إلى الخليفة خَاطَبَهُ الْخَلِيفَةُ فَأَحْسَنَ مُخَاطَبَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى منزله، فبعث الخليفة وَرَاءَهُ بِالْفَرْشِ وَالْقُمَاشِ وَعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَدْعَاهُ مِنَ الْغَدِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ فَأَنْشَدَ وَهُوَ فِي الْخِلْعَةِ:
مَا النَّاسُ إِلَّا مَعَ الدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا ... فكيف ما انقلبت بِهِ انْقَلَبُوا
يُعَظِّمُونَ أَخَا الدُّنْيَا فَإِنْ وَثَبَتْ ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
وفيها جاءت الكتب بأن الروم دخلوا شميساط وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا، وَنَصَبُوا فِيهَا خَيْمَةَ الملك(11/154)
وَضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي الْجَامِعِ بِهَا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ مؤنس الخادم بالتجهيز إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً.
ثُمَّ جَاءَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَثَبُوا عَلَى الرُّومِ فَقَتَلُوا منهم خلقا كثيرا جدا فلله الحمد والمنة. وَلَمَّا تَجَهَّزَ مُؤْنِسٌ لِلْمَسِيرِ جَاءَهُ بَعْضُ الْخَدَمِ فأعلمه أن الْخَلِيفَةَ يُرِيدُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهِ إِذَا دَخَلَ لوداعه، وقد حضرت له ريبة في دار الخلافة مغطاة ليقع فِيهَا، فَأَحْجَمَ عَنِ الذَّهَابِ. وَجَاءَتِ الْأُمَرَاءُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِيَكُونُوا مَعَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فبعث إليه الخليفة رقعة فيها خطه يحلف له أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي بَلَغَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَكِبَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فِي غلمانه، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ خَاطَبَهُ مُخَاطَبَةً عَظِيمَةً. وحلف أَنَّهُ طَيِّبُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَلَهُ عِنْدَهُ الصَّفَاءُ الّذي يعرفه. ثم خرج من بين يديه معظما مكرما وركب العباس بن الخليفة والوزير ونصر الحاجب في خدمته لتوديعه، وكبر الْأُمَرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ الْحَجَبَةِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ يَوْمًا مَشْهُودًا، قَاصِدًا بِلَادَ الثُّغُورِ لِقِتَالِ الرُّومِ. وفي جمادى الأولى منها قُبِضَ عَلَى رَجُلٍ خَنَّاقٍ قَدْ قَتَلَ خَلْقًا من النساء، وكان يدعى لهن أَنَّهُ يَعْرِفُ الْعَطْفَ وَالتَّنْجِيمَ، فَقَصَدَهُ النِّسَاءُ لِذَلِكَ فإذا انفرد بالمرأة قام إليها ففعل معها الفاحشة وخنقها بوتو وأعانته امرأته وحفر لَهَا فِي دَارِهِ فَدَفَنَهَا، فَإِذَا امْتَلَأَتْ تِلْكَ الدار من القتلى انتقل إلى دار أخرى. ولما ظهر عليه وجد في داره التي هو فيها أخيرا سَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً قَدْ خَنَقَهُنَّ، ثُمَّ تُتُبِّعَتِ الدور التي سكنها فوجدوه قد قتل شيئا كثيرا من النساء، فضرب ألف سوط ثم خنق حتى مات. وفيها كان ظهور الديلم قبحهم الله ببلاد الري، وكان فِيهِمْ مَلِكٌ غَلَبَ عَلَى أَمْرِهِمْ يُقَالُ لَهُ مرداويح، يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيرٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَقُولُ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ. وَقَدْ سَارَ فِي أَهْلِ الرَّيِّ وَقَزْوِينَ وَأَصْبَهَانَ سِيرَةً قَبِيحَةً جِدًّا، فَكَانَ يَقْتُلُ النِّسَاءَ والصبيان في المهد، وَيَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَبَرُوتِ وَالشِّدَّةِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فقتلته الأتراك وأراح الله المسلمين من شره.
وفيها كانت بَيْنَ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ وَبَيْنَ أَبِي طاهر القرمطى عند الكوفة موقعة فسبقه إِلَيْهَا أَبُو طَاهِرٍ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَكَتَبَ إليه يوسف بن أبى الساج: اسمع وأطمع وَإِلَّا فَاسْتَعِدَّ لِلْقِتَالِ يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ شَوَّالٍ منها، فكتب إليه: هلم. فسار إليه، فلما تراءى الجمعان استقل يوسف جيش القرمطى، وكان مع يوسف بن أبى الساج عشرون ألفا، ومع القرمطى ألف فارس وخمسمائة رجل. فقال يوسف: وَمَا قِيمَةُ هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ؟ وَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ يكتب بالفتح إلى الخليفة قبل اللقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتا عظيما، ونزل القرمطى فَحَرَّضَ أَصْحَابَهُ وَحَمَلَ بِهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَهَزَمُوا جند الخليفة، وأسروا يوسف ابن أبى الساج أمير الجيش، وقتلوا خلقا كثيرا من جند الخليفة، واستحوذوا عَلَى الْكُوفَةِ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ، وشاع بين الناس أن القرامطة يريدون أخذ بغداد، فانزعج الناس لذلك وظنوا صدقه، فاجتمع الوزير بالخليفة وقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْأَمْوَالَ إِنَّمَا تُدَّخَرُ لِتَكَوُّنَ عَوْنًا عَلَى(11/155)
قِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يقع أمر بَعْدَ زَمَنِ الصَّحَابَةِ أَفْظَعُ مِنْهُ، قَدْ قَطَعَ هَذَا الْكَافِرُ طَرِيقَ الْحَجِّ عَلَى النَّاسِ، وَفَتَكَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أمير المؤمنين وخاطب السيدة- يعنى أمه- لعل أن يكون عندها شيء ادَّخَرَتْهُ لِشِدَّةٍ، فَهَذَا وَقْتُهُ. فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَكَانَتْ هِيَ الَّتِي ابْتَدَأَتْهُ بِذَلِكَ، وَبَذَلَتْ لَهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِثْلُهَا، فَسَلَّمَهَا الْخَلِيفَةُ إِلَى الْوَزِيرِ لِيَصْرِفَهَا فِي تجهيز الجيوش لقتال القرامطة، فجهز جيشا أربعين ألف مقاتل مع أمير يقال له بلبق، فسار نحوهم، فلما سمعوا به أخذوا عليه الطرقات، فأراد دخول بغداد فلم يمكنه، ثم التقوا معه فلم يلبث بلبق وجيشه أن انهزم، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مَعَهُمْ مُقَيَّدًا فِي خَيْمَةٍ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى مَحَلِّ الْوَقْعَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ قال: أردت أن تهرب؟ فأمر بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَرَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ مِنْ نَاحِيَةِ بَغْدَادَ إِلَى الْأَنْبَارِ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى هِيتَ فَأَكْثَرَ أَهْلُ بَغْدَادَ الصَّدَقَةَ، وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ وَأُمُّهُ والوزير شكرا للَّه على صرفه عنهم. وفيها بعث المهدي المدعى أنه فاطمي بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ وَلَدَهُ أَبَا الْقَاسِمِ فِي جَيْشٍ إلى بلاد منها، فَانْهَزَمَ جَيْشُهُ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خُلْقٌ كَثِيرٌ. وفيها اختط المهدي المذكور مدينته الْمُحَمَّدِيَّةُ. وَفِيهَا حَاصَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الدَّاخِلِ إلى بلاد المغرب الْأُمَوِيُّ مَدِينَةَ طُلَيْطُلَةَ، وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا عهده ففتحها قهرا وقتل خلقا من أهلها.
وفيها توفى من الأعيان:
ابن الجصاص الجوهري
واسمه الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ ذَا مَالٍ عظيم وثروة واسعة، وَكَانَ أَصْلُ نِعْمَتِهِ مِنْ بَيْتِ أَحْمَدَ بْنِ طولون، كان قد جعله جوهر يا له يسوق لَهُ مَا يَقَعُ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ بِمِصْرَ، فَاكْتَسَبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا. قَالَ ابْنُ الْجَصَّاصِ: كُنْتُ يَوْمًا بِبَابِ ابْنِ طُولُونَ إِذْ خَرَجَتِ الْقَهْرَمَانَةُ وَبِيَدِهَا عِقْدٌ فِيهِ مِائَةُ حبة من الجوهر، تساوى كل واحدة ألفى دينار. قالت: أُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ هَذَا فَتَخْرُطَهُ حَتَّى يَكُونَ أَصْغَرَ مِنْ هَذَا الْحَجْمِ. فَإِنَّ هَذَا نَافِرٌ عما يريدونه.
فأخذته منها وذهبت به إلى منزلي وجعلت جواهر أصغر منه تساوى أقل من عشر قيمة تلك بِكَثِيرٍ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا وَفُزْتُ أَنَا بِذَلِكَ الَّذِي جاءت به، وأرادت خرطه وإتلافه. فكانت قيمته مائتي ألف دينار. واتفق أنه صودر في أيام المقتدر مصادرة عظيمة، أخذ منه فيها مَا يُقَاوِمُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَبَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا. قال بعض التجار: دخلت عليه فوجدته يَتَرَدَّدُ فِي مَنْزِلِهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَقُلْتُ لَهُ: مالك هكذا؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ، أُخِذَ مِنِّي كَذَا وَكَذَا فَأَنَا أحسن أَنَّ رُوحِي سَتَخْرُجُ، فَعَذَرْتُهُ ثُمَّ أَخَذْتُ فِي تسليته فقلت له: إن دورك وبساتينك وضياعك الباقية تُسَاوِي سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاصْدُقْنِي كَمْ بَقِيَ عندك من الجواهر والمتاع؟ فإذا شيء يساوى ثلاثمائة ألف دينار(11/156)
غير ما بقي عنده من الذهب والفضة المصكوكة. فقلت له: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُشَارِكُكَ فِيهِ أَحَدٌ من النجار ببغداد، مع مالك مِنَ الْوَجَاهَةِ عِنْدَ الدَّوْلَةِ وَالنَّاسِ. قَالَ: فَسُرِّيَ عنه وتسلى عما فات وَأَكَلَ- وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَمْ يَأْكُلْ شيئا- ولما خلص في مُصَادَرَةِ الْمُقْتَدِرِ بِشَفَاعَةِ أُمِّهِ السَّيِّدَةِ فِيهِ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ قَالَ:
نَظَرْتُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى مِائَةِ خَيْشَةٍ، فِيهَا مَتَاعٌ رَثٌّ مِمَّا حمل إلى من مصر، وهو عندهم في دار مضيعة وكان لي في حمل منها ألف دينار موضوعة في مِصْرَ لَا يَشْعُرُ بِهَا أَحَدٌ، فَاسْتَوْهَبْتُ ذَلِكَ مِنْ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ فَكَلَّمَتْ فِي ذَلِكَ وَلَدَهَا فأطلقه إلى فَتَسَلَّمْتُهُ فَإِذَا الذَّهَبُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وقد كان ابن الجصاص مَعَ ذَلِكَ مُغَفَّلًا شَدِيدَ التَّغَفُّلِ فِي كَلَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى ذلك، وقيل إنه إنما كان يظهر ذلك قصدا ليقال أَنَّهُ مُغَفَّلٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ على سبيل البسط والدعابة والله سبحانه أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ القزويني.
وعلى بن سليمان بن المفضل
أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ، رَوَى عَنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ واليزيدي وغيرهم، وعنه الروياني وَالْمُعَافَى وَغَيْرُهُمَا.
وَكَانَ ثِقَةً فِي نَقْلِهِ، فَقِيرًا فِي ذَاتِ يَدِهِ، تَوَصَّلَ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ حَتَّى كَلَّمَ فِيهِ الْوَزِيرَ عَلِيَّ بن عيسى في أن يرتب له شيئا فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَضَاقَ بِهِ الْحَالُ حتى كان يأكل اللفت النيء فمات فجأة من كثرة أكله في شعبان منها. وهذا هو الأخفش الصغير، والأوسط وهو سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه. وأما الكبير فَهُوَ أَبُو الْخَطَّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، مِنْ أَهْلِ هَجَرَ، وَهُوَ شَيْخُ سِيبَوَيْهِ وأبى عبيد وغيرهما. وقيل إن أبا بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ السَّرَّاجُ النَّحْوِيُّ صَاحِبُ الأصول في النحو فيها مات. قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيُّ.
ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة
فيها عاث أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ القرمطى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، حَاصَرَ الرَّحْبَةَ فَدَخَلَهَا قَهْرًا وقتل من أهلها خلقا، وَطَلَبَ مِنْهُ أَهْلُ قِرْقِيسِيَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَبَعَثَ سراياه إِلَى مَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خلقا، حَتَّى صَارَ النَّاسُ إِذَا سَمِعُوا بِذِكْرِهِ يَهْرُبُونَ من سماع اسمه، وقدر على الاعراب إمارة يَحْمِلُونَهَا إِلَى هَجَرَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، عَنْ كُلِّ رَأْسٍ دِينَارَانِ. وَعَاثَ فِي نُوَاحِي الْمَوْصِلِ فسادا، وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الدِّيَارِ وَقَتَلَ وَسَلَبَ وَنَهَبَ. فَقَصَدَهُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ فلم يتواجها بل رجع إلى بلده هجر فَابْتَنَى بِهَا دَارًا سَمَّاهَا دَارَ الْهِجْرَةِ، وَدَعَا إلى المهدي الّذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية. وتفاهم أمره وكثرت أتباعه فصاروا يَكْبِسُونَ الْقَرْيَةَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ فَيَقْتُلُونَ أَهْلَهَا وَيَنْهَبُونَ أَمْوَالَهَا، وَرَامَ فِي نَفْسِهِ دُخُولَ الْكُوفَةِ وأخذها فلم يطق ذلك. ولما رأى الوزير على(11/157)
ابن عيسى ما يفعله هذا القرمطى في بلاد الإسلام، وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه عنه، وعزل نفسه منها، فسعى فيها عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، فَوَلِيَهَا بِسِفَارَةِ نصر الحاجب والى عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ- بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- مِنَ الْبَرِيدِ، وَيُقَالُ الْيَزِيدِيُّ لِخِدْمَةِ جَدِّهِ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الجهيرى. ثُمَّ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَرَامِطَةِ فَقَتَلُوا مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْ أشرافهم، ودخل بهم مؤنس الخادم بغداد ومعه أعلام من أعلامهم مُنَكَّسَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) 28: 5 الآية. ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، وطابت أنفس البغاددة، وانكسر القرامطة الذين كانوا قد نشئوا وفشوا بأرض العراق، وفوّض القرامطة أَمْرَهُمْ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ حُرَيْثُ بْنُ مسعود، وَدَعَوْا إِلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي ظَهَرَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ جد الفاطميين، وهم أدعياء كذبة، كما قد ذكر ذلك غير واحد من الْعُلَمَاءِ.
كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَفِيهَا وَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَالْمُقْتَدِرِ، وسبب ذلك أن نازوكا أَمِيرَ الشُّرْطَةِ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَارُونَ بْنِ عريب- وَهُوَ ابْنُ خَالِ الْمُقْتَدِرِ- فَانْتَصَرَ هَارُونُ عَلَى نَازُوكَ وَشَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَنَّ هَارُونَ سَيَصِيرُ أمير الأمراء. فبلغ ذلك مؤنس الْخَادِمَ وَهُوَ بِالرَّقَّةِ فَأَسْرَعَ الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ، وَاجْتَمَعَ بِالْخَلِيفَةِ فَتَصَالَحَا، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ نَقَلَ هَارُونَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فَقَوِيَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا، وَانْضَمَّ إِلَى مُؤْنِسٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، وَانْقَضَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ضَعْفِ الْأُمُورِ وَاضْطِرَابِهَا وَكَثْرَةِ الفتن وانتشارها.
وفيها كان مقتل الحسين بْنِ الْقَاسِمِ الدَّاعِي الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ الرَّيِّ عَلَى يد صاحب الديلم وسلطانهم مرداويح المجرم قبحه الله.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
بُنَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ سَعِيدٍ
أَبُو الْحَسَنِ الزَّاهِدِ، وَيُعْرَفُ بِالْحَمَّالِ، وكانت له كرامات كثيرة، وله منزلة كَبِيرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنَ السُّلْطَانِ شَيْئًا، وَقَدْ أَنْكَرَ يَوْمًا عَلَى ابْنِ طُولُونَ شَيْئًا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي بَيْنَ يَدَيِ الْأَسَدِ، فَكَانَ الْأَسَدُ يشمه ويحجم عنه، فأمر برفعه من بين يديه وعظمه الناس جدا، وسأله بعض الناس عن حاله حين كان بين يدي الأسد فقال له: لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ بَأْسٌ. قَدْ كُنْتُ أُفَكِّرُ في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه هل هو طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ. قَالُوا: وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ:
إِنَّ لِي عَلَى رَجُلٍ مِائَةَ دِينَارٍ، وَقَدْ ذَهَبَتِ الْوَثِيقَةُ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ يُنْكِرَ الرجل، فأسألك أن تدعو لي بأن يرد الله على الوثيقة. فقال بنان: إني رجل قد كبرت سنى ورق عظمي، وَأَنَا أُحِبُّ الْحَلْوَاءَ، فَاذْهَبْ فَاشْتَرِ لِي مِنْهَا رَطْلًا وَأْتِنِي بِهِ حَتَّى أَدْعُوَ لَكَ. فَذَهَبَ الرجل فاشترى الرطل ثم جاء به إليه فَفَتَحَ الْوَرَقَةَ الَّتِي فِيهَا الْحَلْوَاءَ فَإِذَا هِيَ حجته بالمائة دينار. فقال له: أهذه حجتك؟ قال: نعم. قال: خذ(11/158)
حجتك وَخُذِ الْحَلْوَاءَ فَأَطْعِمْهَا صِبْيَانَكَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ خَرَجَ أهل مصر في جنازته تعظيما له وإكراما لشأنه.
وفيها توفى محمد بْنُ عَقِيلٍ الْبَلْخِيُّ. وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي داود السجستاني الحافظ بن الحافظ. وَأَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الأسفراييني، صاحب الصحيح المستخرج على مُسْلِمٍ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ، وَالْأَئِمَّةِ المشهورين. ونصر الحاجب، كان من خيار الأمراء، دينار عَاقِلًا، أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ فِي حَرْبِ الْقَرَامِطَةِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ مُحْتَسِبًا فَمَاتَ في أثناء الطريق في هذه السنة. وكان حاجبا للخليفة المقتدر.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة
فِيهَا كَانَ خَلْعُ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةُ الْقَاهِرِ مُحَمَّدِ بن المعتضد باللَّه: في المحرم منها اشتدت الوحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر باللَّه، وتفاهم الْحَالُ وَآلَ إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا عَلَى خَلْعِ المقتدر وتولية القاهر محمد ابن الْمُعْتَضِدِ، فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِهَا، وَلَقَّبُوهُ القاهر باللَّه. وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقلد عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ وِزَارَتَهُ، وَنُهِبَتْ دَارُ الْمُقْتَدِرِ، وأخذوا منها شيئا كثيرا جدا، وأخذوا لأم المقتدر خمسمائة ألف دينار- وكانت قد دفنتها في قبر في تربتها- فَحُمِلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأُخْرِجَ الْمُقْتَدِرُ وَأُمُّهُ وخالته وخواصه وجواريه من دار الخلافة، ذلك بَعْدَ مُحَاصَرَةِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَهَرَبِ مَنْ كَانَ بها من الحجبة والخدم، وَوَلِيَ نَازُوكُ الْحُجُوبَةَ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الشُّرْطَةِ، وَأُلْزِمَ الْمُقْتَدِرَ بِأَنْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كِتَابًا بِالْخَلْعِ مِنَ الْخِلَافَةِ وَأَشْهَدَ عَلَى نفسه بذلك جماعة من الأمراء والأعيان، وَسَلَّمَ الْكِتَابَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بن يوسف، فقال لولده الْحُسَيْنِ: احْتَفِظْ بِهَذَا الْكِتَابِ فَلَا يَرَيَنَّهُ أَحَدٌ من خلق الله. ولما أُعِيدَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْخِلَافَةِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ جِدًّا وَوَلَّاهُ قَضَاءَ القضاة. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ جَلَسَ الْقَاهِرُ باللَّه فِي مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى الْعُمَّالِ بِالْآفَاقِ يُخْبِرُهُمْ بِوِلَايَةِ الْقَاهِرِ بِالْخِلَافَةِ عِوَضًا عَنِ الْمُقْتَدِرِ، وَأَطْلَقَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى مِنَ السِّجْنِ، وَزَادَ فِي أَقْطَاعِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ قَامُوا بِنَصْرِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ جاء الجند وطلبوا أرزاقهم وشغبوا، وبادروا إِلَى نَازُوكَ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ مَخْمُورًا، ثُمَّ صَلَبُوهُ. وهرب الوزير ابن مقلة، وهرب الحجاب وَنَادَوْا يَا مُقْتَدِرُ يَا مَنْصُورُ، وَلَمْ يَكُنْ مؤنس يومئذ حاضرا، وجاء الجند إلى باب مؤنس يطالبونه بالمقتدر، فأغلق بابه دونهم وجاحف دُونَهُ خَدَمُهُ. فَلَمَّا رَأَى مُؤْنِسٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ الْمُقْتَدِرِ إِلَيْهِمْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ، فخاف المقتدر أَنْ يَكُونَ حِيلَةً عَلَيْهِ، ثُمَّ تَجَاسَرَ فَخَرَجَ فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَسَأَلَ عَنْ أَخِيهِ الْقَاهِرِ وَأَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ لِيَكْتُبَ لَهُمَا أَمَانًا، فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى جَاءَهُ خَادِمٌ وَمَعَهُ رَأْسُ أبى الهيجاء قد احترز رأسه وأخرجه من بين كتفيه، ثم(11/159)
استدعى بأخيه القاهر فأجلسه بين يديه واستدعاء إِلَيْهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَخِي أَنْتَ لَا ذَنْبَ لَكَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مكره مقهور. والقاهر يقول: الله الله! نَفْسِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَحَقِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا جَرَى عَلَيْكَ مِنِّي سُوءٌ أَبَدًا. وَعَادَ ابْنُ مُقْلَةَ فكتب إلى الآفاق يعلمهم بعود المقتدر إلى الخلافة، وتراجعت الأمور إلى حالها الأول، وحمل رأس نازوك وأبى الهيجاء ونودي عليهما: هذا رأس مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ. وَهَرَبَ أَبُو السَّرَايَا بْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانَ ابْنُ نَفِيسٍ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الْخِلَافَةِ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ مُتَنَكِّرًا فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ، ثم صار إلى أرمينية، ثم لحق بالقسطنطينية فتنصر بها مع أهلها وَأَمَّا مُؤْنِسٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، وَإِنَّمَا وَافَقَ جَمَاعَةَ الْأُمَرَاءِ مُكْرَهًا، ولهذا لما كان المقتدر في داره لم ينله منه ضيم، بَلْ كَانَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَقَتَلَهُ لَمَّا طُلِبَ مِنْ دَارِهِ. فَلِهَذَا لَمَّا عَادَ المقتدر إِلَى الْخِلَافَةِ رَجَعَ إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ فَبَاتَ بِهَا عِنْدَهُ، لِثِقَتِهِ بِهِ. وَقَرَّرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ عَلَى الْوِزَارَةِ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ يوسف قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَجَعَلَ مُحَمَّدًا أَخَاهُ- وَهُوَ الْقَاهِرُ- عند والدته بصفة محبوس عِنْدَهَا، فَكَانَتْ تُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَتَشْتَرِي لَهُ السَّرَارِي وَتُكْرِمُهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ.
ذِكْرُ أَخْذِ الْقَرَامِطَةِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَمَا كَانَ منهم إلى الحجيج
فِيهَا خَرَجَ رَكْبُ الْعِرَاقِ وَأَمِيرُهُمْ مَنْصُورٌ الدَّيْلَمِيُّ فَوَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ سَالِمِينَ، وَتَوَافَتِ الرُّكُوبُ هُنَاكَ من كل مكان وجانب وفج، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا بِالْقِرْمِطِيِّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي جَمَاعَتِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَاسْتَبَاحَ قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا، وجلس أميرهم أبو طاهر لَعَنَهُ اللَّهُ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، وَالرِّجَالُ تُصْرَعُ حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَفِ الأيام، وهو يقول: أنا الله وباللَّه، أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا. فكان الناس يفرون منهم فَيَتَعَلَّقُونَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَا يُجْدِي ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا. بَلْ يُقْتَلُونَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَطُوفُونَ فَيُقْتَلُونَ فِي الطَّوَافِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَوْمَئِذٍ يَطُوفُ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ أَخَذَتْهُ السُّيُوفُ، فَلَمَّا وَجَبَ أَنْشَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ.
تَرَى الْمُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ ... كَفِتْيَةِ الْكَهْفِ لَا يَدْرُونَ كم لبثوا
فلما قضى القرمطى لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيرا منهم في أماكنهم من الحرم، وفي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَيَا حَبَّذَا تِلْكَ الْقِتْلَةُ وَتِلْكَ الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُكَفَّنُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ محرمون شهداء في نفس الأمر. وَهَدَمَ قُبَّةَ زَمْزَمَ وَأَمَرَ بِقَلْعِ بَابِ الْكَعْبَةِ وَنَزَعَ كُسْوَتَهَا عَنْهَا، وَشَقَّقَهَا بَيْنَ(11/160)
أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ إِلَى مِيزَابِ الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار فعند ذلك انكف الخبيث عَنِ الْمِيزَابِ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُقْلَعَ الْحَجَرُ الأسود، فجاءه رجل فضربه بِمُثْقَلٍ فِي يَدِهِ وَقَالَ: أَيْنَ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ، أَيْنَ الْحِجَارَةُ مِنْ سِجِّيلٍ؟ ثُمَّ قَلَعَ الْحَجَرَ الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عِنْدَهُمْ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى رَدُّوهُ، كَمَا سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وَلَمَّا رَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أَمِيرُ مَكَّةَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَجُنْدُهُ وَسَأَلَهُ وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود لِيُوضَعَ فِي مَكَانِهِ، وَبَذَلَ لَهُ جَمِيعَ مَا عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فَقَاتَلَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ فَقَتَلَهُ الْقِرْمِطِيُّ وَقَتَلَ أَكْثَرَ أهل بيته، وأهل مكة وَجُنْدِهِ، وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ الْحَجَرُ وأموال الحجيج. وقد ألحد هذا للعين فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلْحَادًا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَوْثِقُ وِثَاقَهُ أَحَدٌ. وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الصنيع أنهم كفار زَنَادِقَةً، وَقَدْ كَانُوا مُمَالِئِينِ لِلْفَاطِمِيِّينَ الَّذِينَ نَبَغُوا في هذه السنة بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ أَرْضِ الْمَغْرِبِ، وَيُلَقَّبُ أَمِيرُهُمْ بِالْمَهْدِيِّ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبِيدُ اللَّهِ بْنِ ميمون القداح. وقد كان صباغا بسلمية، وكان يهوديا فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ فَاطِمِيٌّ، فَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْجَهَلَةِ، وَصَارَتْ لَهُ دَوْلَةٌ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ سِجِلْمَاسَةَ، ثُمَّ ابْتَنَى مَدِينَةً وَسَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ، وَكَانَ قَرَارُ مُلْكِهِ بِهَا، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ يُرَاسِلُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَرَامَوْنَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِيَاسَةً وَدَوْلَةً لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمَهْدِيَّ هَذَا كتب إلى أبى طاهر يلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وَانْكَشَفَتْ أَسْرَارُهُمُ الَّتِي كَانُوا يُبْطِنُونَهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْ صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحَ، وَأَمَرَهُ بِرَدِّ مَا أَخَذَهُ مِنْهَا، وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ قَبِلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ أُسِرَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي أَيْدِي الْقَرَامِطَةِ، فَمَكَثَ فِي أَيْدِيهِمْ مُدَّةً، ثم فرج الله عنه، وكان يحكى عنهم عجائب من قلة عقولهم وعدم دينهم، وأن الَّذِي أَسَرَهُ كَانَ يَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْخِدْمَةِ وَأَشَدِّهَا وَكَانَ يُعَرْبِدُ عَلَيْهِ إِذَا سَكِرَ. فَقَالَ لِي ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ سَكْرَانُ: مَا تَقَولُ فِي مُحَمَّدِكُمْ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي.
فَقَالَ: كَانَ سَائِسًا. ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَولُ فِي أَبِي بَكْرٍ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: كَانَ ضَعِيفًا مَهِينًا. وَكَانَ عُمَرُ فَظًّا غَلِيظًا. وَكَانَ عُثْمَانُ جاهلا أحمق. وكان على ممخرقا ليس كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ يُعَلِّمُهُ مَا ادَّعَى أَنَّهُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْعِلْمِ، أَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلِّمَ هَذَا كَلِمَةً وَهَذَا كَلِمَةً؟. ثُمَّ قال: هذا كله مخرقة. فلما كان من الغد قال: لا تخبر بهذا الّذي قلت لك أحدا. ذكره ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ.
وَرَوَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَوْمَ التروية في مكان الطواف، فحمل على(11/161)
رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطى، ثم قال: يا حمير، - ورفع صوته بذلك- أَلَيْسَ قُلْتُمْ فِي بَيْتِكُمْ هَذَا (وَمن دَخَلَهُ كانَ آمِناً) 3: 97 فأين الأمن؟ قال: فقلت له: اسمع جوابك. قَالَ نَعَمْ قُلْتُ إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ:
فَأَمِّنُوهُ. قَالَ فَثَنَى رَأْسَ فَرَسِهِ وَانْصَرَفَ. وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُهُمْ هَاهُنَا سُؤَالًا. فَقَالَ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ سبحانه بأصحاب الفيل- وكانوا نصارى- ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئا مما فعله هؤلاء، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلا عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كَمَا عُوجِلَ أَصْحَابُ الْفِيلِ؟ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ إِنَّمَا عُوقِبُوا إِظْهَارًا لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الّذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعا عاجلا، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله. وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بَعْدَ تَقْرِيرِ الشَّرَائِعِ وَتَمْهِيدِ الْقَوَاعِدِ، وَالْعِلْمِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ اللَّهِ بِشَرَفِ مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ، وَكُلُّ مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحادا بالغا عظيما، وأنهم من أعظم الْمُلْحِدِينَ الْكَافِرِينَ، بِمَا تَبَيَّنَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وسنة رسوله، فَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجِ الْحَالُ إِلَى مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يُمْهِلُ وَيُمْلِي وَيَسْتَدْرِجُ ثُمَّ يَأْخُذُ أَخْذَ عَزِيزٍ مقتدر، كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثم قرأ قوله تَعَالَى (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) 14: 42 وقال (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) 3: 196- 197 وقال: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) 31: 24 وَقَالَ: (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) 10: 70.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَصْحَابِ أَبِي بكر المروذي الْحَنْبَلِيِّ، وَبَيْنَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ، اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) 17: 79 فَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى، فَاقْتَتَلُوا بِسَبَبِ ذلك وقتل بينهم قتلى، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء بين العباد، وَهُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إبراهيم، وَيَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَوْصِلِ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَانْتَشَرَتْ وَكَثُرَ أَهْلُ الشَّرِّ فِيهَا وَاسْتَظْهَرُوا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ شُرُورٌ ثُمَّ سَكَنَتْ. وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ ببلاد خراسان بين بنى ساسان وأميرهم نصر بن أحمد الملقب بسعيد، وَخَرَجَ فِي شَعْبَانَ خَارِجِيٌّ بِالْمَوْصِلِ. وَخَرَجَ آخَرُ بالبواريج، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ حَتَّى سَكَنَ شَرُّهُمْ وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمْ. وَفِيهَا الْتَقَى مُفْلِحٌ(11/162)
السَّاجِيُّ وَمَلِكُ الرُّومِ الدُّمُسْتُقُ، فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَطَرَدَ وَرَاءَهُ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كثيرا.
وفيها هبت ريح شديدة ببغداد تحمل رمادا أَحْمَرَ يُشْبِهُ رَمْلَ أَرْضِ الْحِجَازِ. فَامْتَلَأَتْ مِنْهُ البيوت.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْفَرَجِ بن سفيان أَبُو بَكْرٍ النَّحْوِيُّ، كَانَ عَالِمًا بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَلَهُ فِيهِ تَصَانِيفُ.
أَحْمَدُ بْنُ مَهْدِيِّ بْنِ رميم
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ أَنْفَقَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَتْ له: إني قد امتحنت بمحنة وأكرهت على الزنا وَأَنَا حُبْلَى مِنْهُ، وَقَدْ تَسَتَّرْتُ بِكَ وَزَعَمْتُ أَنَّكَ زَوْجِي، وَأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْكَ، فَاسْتُرْنِي سَتَرَكَ اللَّهُ وَلَا تَفْضَحْنِي. فَسَكَتَ عَنْهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَنِي أَهْلُ الْمَحَلَّةِ وَإِمَامُ مَسْجِدِهِمْ يُهَنِّئُونَنِي بِالْوَلَدِ، فَأَظْهَرْتُ الْبِشْرَ وَبَعَثْتُ فَاشْتَرَيْتُ بِدِينَارَيْنِ شَيْئًا حلوا وأطعمتهم، وكنت أوجه إليها مع إمام المسجد في كل شهر دينارين صفة نفقة للمولود، وَأَقُولُ: أَقْرِئْهَا مِنِّي السَّلَامَ فَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي مَا فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا.
فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ سنتين، ثم مات الولد فجاءوني يعزونني فيه، فأظهرت الحزن عليه، ثم جاءتني أمه بالدنانير التي كنت أرسل بها إليها نفقة الولد، قد جمعتها في صرة عِنْدَهَا، فَقَالَتْ لِي: سَتَرَكَ اللَّهُ وَجَزَاكَ خَيْرًا، وَهَذِهِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي كُنْتَ تُرْسِلُ بِهَا. فَقُلْتُ: إني كنت أرسل بها صلة للولد وقد مات وأنت ترثينه فهي لك، فافعلي بها ما شئت فدعت وانصرفت.
بدر بن الهيثم
ابن خَلَفِ بْنِ خَالِدِ بْنِ رَاشِدِ بْنِ الضَّحَّاكِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُحَرِّقِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ المنذر، أبو القاسم البلخي الْقَاضِي الْكُوفِيُّ. نَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ سَمَاعُهُ لِلْحَدِيثِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا، عاش مائة سنة وسبع عشرة سنة. توفى في شوال منها بِالْكُوفَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العزيز
ابن الْمَرْزُبَانِ بْنِ سَابُورَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ أَبُو الْقَاسِمِ البغوي، ويعرف بابن بنت منيع، ولد سنة ثلاث عشرة، وقيل أربعة عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَرَأَى أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَسَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، وَخَلَفِ بْنِ هِشَامٍ البزار، وخلق كثير، وَكَانَ مَعَهُ جُزْءٌ فِيهِ سَمَاعُهُ مِنَ ابْنِ معين فأخذه مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَافِظُ فَرَمَاهُ فِي دِجْلَةَ، وقال: يريد أن يجمع بَيْنَ الثَّلَاثَةِ؟ وَقَدْ تَفَرَّدَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ شَيْخًا، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا، رَوَى عَنِ الحفاظ وله مصنفات. وقال موسى بن هارون الحافظ: كان ابن بنت مَنِيعٍ ثِقَةً صَدُوقًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَاهُنَا ناسا يتكلمون فيه. فقال: يحسدونه، ابن بنت مَنِيعٍ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ. وَقَالَ ابْنُ أبى(11/163)
حاتم وغيره: أحاديثه تدخل في الصحيح. وقال الدار قطنى: كان البغوي قل ما يَتَكَلَّمُ عَلَى الْحَدِيثِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ كَالْمِسْمَارِ فِي السَّاجِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ فَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَقَالَ:
حَدَّثَ بِأَشْيَاءَ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَعَهُ طَرَفٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَانِيفِ، وَقَدِ انْتُدِبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِلرَّدِّ عَلَى ابْنِ عَدِيٍّ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ مِائَةَ سَنَةٍ وَثَلَاثَ سِنِينَ وَشُهُورًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَسْنَانِ، يَطَأُ الإماء. توفى بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ التِّبْنِ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ محمد بن عثمان
الشَّهِيدُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ الْهَرَوِيُّ، يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي سَعْدٍ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ. وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ الحفاظ المتقنين، له مناقشات على بضعة عشر حَدِيثًا مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَتَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمْلَةِ من قتلوا، رحمه الله وأكرم مثواه.
الْكَعْبِيُّ الْمُتَكَلِّمُ
هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي المتكلم، نِسْبَةً إِلَى بَنِي كَعْبٍ، وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَتُنْسَبُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ الْكَعْبِيَّةُ مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَهُ اخْتِيَارَاتٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كان يزعم أن أفعال الله تقع بلا اختيار منه ولا مشيئة. قلت: وَقَدْ خَالَفَ الْكَعْبِيُّ نَصَّ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ ما موضع. قال تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) 28: 68 وقال (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) 6: 112 (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) 32: 13 (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) 17: 16 الآية. وغيرها مما هو معلوم بالضرورة وصريح العقل والنقل.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثلاثمائة
فيها عزل الخليفة المقتدر وزيره أبا على بن مقلة، وكانت مُدَّةُ وِزَارَتِهِ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى نَاظِرًا مَعَهُ. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا أُحْرِقَتْ دَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَكَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَانْتَهَبَ النَّاسُ أَخْشَابَهَا وَمَا وَجَدُوا فيها من حديد ورصاص وغيره، وَصَادَرَهُ الْخَلِيفَةُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. وَفِيهَا طَرَدَ الْخَلِيفَةُ الرَّجَّالَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِدَارِ الْخِلَافَةِ عَنْ بغداد، وذلك أنه لما ردّ الْمُقْتَدِرَ إِلَى الْخِلَافَةِ شَرَعُوا يُنَفِّسُونَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ عليه، ويقولون: من أعان ظالما سلطه الله عليه. ومن أصعد الحمار على السطح لم يقدر أن ينزله. فأمر بإخراجهم ونفيهم عَنْ بَغْدَادَ، وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عُوقِبَ. فَأُحْرِقَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ، وَاحْتَرَقَ بَعْضُ نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنْهَا فِي غَايَةِ الْإِهَانَةِ، فَنَزَلُوا واسط وَتَغَلَّبُوا عَلَيْهَا وَأَخْرَجُوا(11/164)
عَامِلَهَا مِنْهَا، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ، مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقَا كَثِيرًا، فلم يقم لهم بعد ذلك قائمة. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ بْنَ حَمْدَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عميه سعيدا ونصرا ابنا حَمْدَانَ. وَوَلَّاهُ دِيَارَ رَبِيعَةَ: نَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ وَالْخَابُورَ ورأس العين، ومعها ميافارقين وازرن، ضمن ذلك من الخليفة بمال يحمله إليه في كل سنة. وفي جمادى الأولى منها خرج رجل ببلاد البواريج يُقَالُ لَهُ صَالِحُ بْنُ مَحْمُودٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي مَالِكٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى سِنْجَارَ فَحَاصَرَهَا فَدَخَلَهَا وَأَخَذَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهَا، وَخَطَبَ بِهَا خُطْبَةً وَوَعَظَ فِيهَا وَذَكَّرَ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: نَتَوَلَّى الشَّيْخَيْنِ، ونتبرأ من الحسين، وَلَا نَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. ثُمَّ سَارَ فَعَاثَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا فَانْتُدِبَ لَهُ نَصْرُ بن حمدان فقاتله فأسره وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ. فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا وَقَدِ اشْتُهِرَ شُهْرَةً فَظِيعَةً. وَخَرَجَ آخَرُ بِبِلَادِ الْمَوْصِلِ فَاتَّبَعَهُ أَلْفُ رَجُلٍ، فَحَاصَرَ أَهْلَ نَصِيبِينَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَةً وَأَسَرَ أَلْفًا، ثُمَّ بَاعَهُمْ نُفُوسَهُمْ وَصَادَرَ أَهْلَهَا بأربعمائة ألف درهم، فانتدب إليه ناصر الدولة فقاتله فظفر به وأسره وأرسله إلى بغداد أيضا. وَفِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى ابْنِهِ هَارُونَ وَرَكِبَ مَعَهُ الْوَزِيرُ وَالْجَيْشُ، وَأَعْطَاهُ نِيَابَةَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وسجستان ومكرمات، وَخَلَعَ عَلَى ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الرَّاضِي وَجَعَلَهُ نائب بلاد المغرب ومصر والشام، وجعل مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ يَسُدُّ عَنْهُ أُمُورَهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فيها عَبْدُ السَّمِيعِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الهاشمي. وخرج الحجيج بغفارة بدرقة حتى يسلموا في الدرب في الذهاب والإياب من القرامطة.
وفيها توفى من الأعيان
أحمد بن إسحاق
ابن الْبُهْلُولِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ أَبُو جَعْفَرَ التَّنُوخِيُّ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ، الْعَدْلُ الثِّقَةُ، الرَّضِيُّ.
وكان فقيها نَبِيلًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَكَانَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، جَيِّدَ الشِّعْرِ، مَحْمُودًا فِي الْأَحْكَامِ. اتَّفَقَ أَنَّ السَّيِّدَةَ أُمَّ الْمُقْتَدِرِ وَقَفَتْ وَقْفًا وَجَعَلَ هَذَا عِنْدَهُ نُسْخَةً بِهِ فِي سَلَّةِ الْحُكْمِ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَنْقُضَ ذَلِكَ الْوَقْفَ فَطَلَبَتِ هذا الْحَاكِمَ وَأَنْ يُحْضِرَ مَعَهُ كِتَابَ الْوَقْفِ لِتَأْخُذَهُ مِنْهُ فَتَعْدِمَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ مِنْ وَرَاءِ السِّتَارَةِ فَهِمَ الْمَقْصُودَ فَقَالَ لَهَا: لَا يُمْكِنُ هَذَا، لِأَنِّي خَازِنُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْزِلُونِي عَنِ القضاء وتولوا هَذَا غَيْرِي، وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوا هَذَا الَّذِي تريدون أن تفعلوه، فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَأَنَا حَاكِمٌ. فَشَكَتْهُ إِلَى ولدها المقتدر فشفع عنده المقتدر بذلك، فَذَكَرَ لَهُ صُورَةَ الْحَالِ. فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِمَّنْ يُرْغَبُ فيه ولا يزهد فِيهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى عَزْلِهِ وَلَا التَّلَاعُبِ بِهِ. فَرَضِيَتْ عَنْهُ وَبَعَثَتْ تَشْكُرُهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ:
مَنْ قَدَّمَ أَمْرَ اللَّهِ عَلَى أَمْرِ الْعِبَادِ كَفَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمْ، ورزقه خيرهم. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.(11/165)
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَتَبَ وَسَمِعَ وَحَفِظَ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْحِفَّاظِ، وَشُيُوخِ الرِّوَايَةِ، وَكَتَبَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ تَدُلُّ عَلَى حِفْظِهِ وَفِقْهِهِ وفهمه.
توفى بالكوفة وله سبعون سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَشَّارِ بْنِ زِيَادٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَلَّافِ الضَّرِيرُ النهرواني، الشاعر المشهور، وكان أحد سمار المعتضد. وَلَهُ مَرْثَاةٌ طَنَّانَةٌ فِي هِرٍّ لَهُ، قَتَلَهُ جيرانه لأنه أكل أفراخ حمامهم مِنْ أَبْرَاجِهِمْ. وَفِيهَا آدَابٌ وَرِقَّةٌ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أراد بها ابْنِ الْمُعْتَزِّ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَجَاسَرْ أَنْ يَنْسِبَهَا إليه من الخليفة المقتدر، لأنه هو الّذي قَتَلَهُ. وَأَوَّلُهَا:
يَا هِرُّ فَارَقْتَنَا وَلَمْ تَعُدِ ... وكنت عندي بمنزلة الولد
وهي خمس وَسِتُّونَ بَيْتًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وثلاثمائة
في المحرم منها دَخَلَ الْحَجِيجُ بَغْدَادَ، وَقَدْ خَرَجَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ إلى الحج فيها فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، خَوْفًا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ يَوْمَئِذٍ وَضُرِبَتِ الْخِيَامُ وَالْقِبَابُ لِمُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَقَدْ بَلَغَ مُؤْنِسًا فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ أَمَامَهُ، فَعَدَلَ بِالنَّاسِ عن الجادة، وأخذ بهم في شعاب وأودية أياما فشاهد الناس في تلك الأماكن عجائب، ورأوا غرائب وعظاما فِي غَايَةِ الضَّخَامَةِ، وَشَاهَدُوا نَاسًا قَدْ مُسِخُوا حِجَارَةً. وَرَأَى بَعْضُهُمُ امْرَأَةً وَاقِفَةً عَلَى تَنُّورٍ تخبز فيه قَدْ مُسِخَتْ حَجَرًا، وَالتَّنُّورَ قَدْ صَارَ حَجَرًا. وَحَمَلَ مُؤْنِسٌ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا إِلَى الخليفة ليصدق ما يخبر به من ذلك.
ذكر ذلك ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ مِنْ قوم عاد أو من قوم شعيب أَوْ مِنْ ثَمُودَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَفِيهَا عَزَلَ المقتدر وزيره سليمان بن الحسن بَعْدَ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثُمَّ عَزَلَهُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ ثُمَّ عَزَلَهُ أَيْضًا. وَفِيهَا وقعت وحشة بين الخليفة ومؤنس، بِسَبَبِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ وَلَّى الْحِسْبَةَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الشُّرْطَةِ، فَقَالَ مُؤْنِسٌ: إِنَّ الْحِسْبَةَ لَا يَتَوَلَّاهَا إِلَّا الْقُضَاةُ وَالْعُدُولُ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لَهَا. وَلَمْ يَزَلْ بِالْخَلِيفَةِ حَتَّى عَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتَ عَنِ الْحِسْبَةِ وَالشُّرْطَةِ أَيْضًا، وَانْصَلَحَ، الْحَالُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ تَجَدَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَا زَالَتْ تَتَزَايَدُ حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى قَتْلِ الْمُقْتَدِرِ باللَّه كَمَا سنذكره. وفيها أَوْقَعَ ثَمِلٌ مُتَوَلِّي طَرَسُوسَ بِالرُّومِ وَقْعَةً عَظِيمَةً، قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَغَنِمَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالدِّيبَاجِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، ثُمَّ أَوْقَعَ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً كَذَلِكَ. وَكَتَبَ ابْنُ الدَّيْرَانِيِّ الْأَرْمَنِيُّ إِلَى الروم يحثهم على الدخول إلى بلاد(11/166)
الإسلام ووعدهم النصر منه والاعانة، فدخلوا في جحافل عظيمة كثيرة جدا، وانضاف إليهم الأرمني فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ مُفْلِحٌ غُلَامُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ نَائِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كثير من المتطوعة، فَقَصَدَ أَوَّلًا بِلَادَ ابْنِ الدَّيْرَانِيِّ فَقَتَلَ مِنَ الْأَرْمَنِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَأَسَرَ خَلْقًا كثيرا، وغنم أموالا جزيلة، وتحصن ابن الديراني في قلعة له هناك، وكاتب الروم فوصلوا إلى شميشاط فحاصروها، فبعث أهلها يستصرخون سعيد بْنِ حَمْدَانَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُسْرِعًا، فَوَجَدَ الرُّومَ قَدْ كَادُوا يَفْتَحُونَهَا، فَلَمَّا عَلِمُوا بقدومه رحلوا عَنْهَا وَاجْتَازُوا بِمَلَطْيَةَ فَنَهَبُوهَا، وَرَجَعُوا خَاسِئِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ وَمَعَهُمُ ابْنُ نَفِيسٍ الْمُتَنَصِّرُ، وَقَدْ كَانَ من أهل بغداد. وركب ابن حمدان في آثار القوم فدخل بلادهم فقتل خلقا كثيرا منهم وأسر وغنم أشياء كثيرة. قال ابن الأثير: وفي شوال من هذه السنة جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ إِلَى تَكْرِيتَ ارْتَفَعَ فِي أَسْوَاقِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ شِبْرًا، وَغَرِقَ بِسَبَبِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دَارٍ، وَخَلْقٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى يُدْفَنُونَ جَمِيعًا، لَا يُعْرَفُ هَذَا مِنْ هَذَا. قَالَ: وَفِيهَا هَاجَتْ بِالْمَوْصِلِ ريح محمرة ثُمَّ اسْوَدَّتْ حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يُبْصِرُ صاحبه نهارا، وظن الناس أنها القيامة ثُمَّ انْجَلَى ذَلِكَ بِمَطَرٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وفيها توفى من الأعيان
الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْطَاكِيُّ قَاضِي ثُغُورِ الشَّامِ، يُعْرَفُ بِابْنِ الصَّابُونِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَرْبِ بْنِ عِيسَى أبو عبيد بن حربويه
تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِمِصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً جِدًّا، وَكَانَ ثقة عالما من خيار القضاة وأعدلهم، تفقه عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي طبقات الشافعية، وَقَدِ اسْتَعْفَى عَنِ الْقَضَاءِ فَعُزِلَ عَنْهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السنة، في صفر منها، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ. قال الدار قطنى: حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ فِي الصَّحِيحِ، وَلَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَهُ بِعِشْرِينَ سَنَةً. وَذَكَرَ مِنْ جَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ الزَّاهِدُ. حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لم يخط فيها خطوة في هوى نفسه، وَلَا نَظَرَ فِي شَيْءٍ فَاسْتَحْسَنَهُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَكَثَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَمْ يُمْلِ عَلَى مَلَكَيْهِ قَبِيحًا.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقُ
صَاحِبُ أَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَكَانَ فَقِيهًا يَتَكَلَّمُ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ. وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْتَدِي بِهَا سَامِعُوهُ، وَمَنْ غَضَّ نَفْسَهُ عَنْ شُبْهَةٍ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ إلى طرق مرضاة الله.(11/167)
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى أَبُو زَكَرِيَّا الْفَارِسِيُّ، كَتَبَ بِمِصْرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سليمان، وكان ثقة عدلا صدوقا عِنْدَ الْحُكَّامِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ من الهجرة
فيها كان مقتل المقتدر باللَّه الخليفة، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ خَرَجَ من بغداد في المحرم منها مغاضبا الخليفة فِي مَمَالِيكِهِ وَحَشَمِهِ، مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْمَوْصِلِ، وَرَدَّ من أثناء الطريق مولاه يسرى إلى المقتدر ليستعلم له أمره، وَبَعَثَ مَعَهُ رِسَالَةً يُخَاطِبُ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ويعاتبه في أشياء. فلما وصل أمر الوزير- وهو الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ مؤنس- بأن يؤديها فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا إِلَّا إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَحْضَرَهُ بين يديه وأمره بأن يقولها للوزير فامتنع، وقال: ما أمرنى بهذا صاحبي.
فشتمه الوزير وشتم صاحبه مؤنسا، وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ وَمُصَادَرَتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخَذَ خطبه بِهَا، وَأَمَرَ بِنَهْبِ دَارِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْوَزِيرُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَقْطَاعِ مُؤْنِسٍ وَأَمْلَاكِهِ وَأَمْلَاكِ مَنْ مَعَهُ. فَحُصِّلَ مِنْ ذَلِكَ مَالٌ عَظِيمٌ، وَارْتَفَعَ أَمْرُ الْوَزِيرِ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، وَلَقَّبَهُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ، وَضَرَبَ اسْمَهُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الأمور جدا، فعزل وولى، وقطع ووصل أياما يسيره، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ حِينًا قَلِيلًا. وَأَرْسَلَ إِلَى هَارُونَ بن عريب فِي الْحَالِ، وَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ يَسْتَحْضِرُهُمَا إِلَى الْحَضْرَةِ عِوَضًا عَنْ مُؤْنِسٍ، فَصَمَّمَ الْمُظَفَّرُ مؤنس في سيره فدخل الْمَوْصِلِ، وَجَعَلَ يَقُولُ لِأُمَرَاءَ الْأَعْرَابِ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ وَلَّانِي الْمَوْصِلَ وَدِيَارَ رَبِيعَةَ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِ منهم خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَعَلَ يُنْفِقُ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ وله إليهم قبل ذلك أيادي سَابِغَةٌ. وَقَدْ كَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى آلِ حَمْدَانَ- وهم ولاة الموصل وتلك النواحي- يأمرهم بمحاربته، فَرَكِبُوا إِلَيْهِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَوَاجَهَهُمْ مُؤْنِسٌ في ثمانمائة من ممالكيه وَخَدَمِهِ فَهَزَمَهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ واحد، يقال له داود، وكان مِنْ أَشْجَعِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مُؤْنِسٌ رَبَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ. وَدَخَلَ مُؤْنِسٌ الْمَوْصِلَ فَقَصَدَتْهُ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَدْخُلُونَ فِي طَاعَتِهِ، لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ قبل ذلك. من بغداد والشام ومصر والأعراب، حتى صار في حجافل من الجنود. وأما الوزير المذكور فَإِنَّهُ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ وَعَجْزُهُ فَعَزَلَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي ربيع الآخر منها، وَوَلَّى مَكَانَهُ الْفَضْلَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بن الفرات، وكان آخِرَ وُزَرَاءِ الْمُقْتَدِرِ. وَأَقَامَ مُؤْنِسٌ بِالْمَوْصِلِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَكِبَ فِي الْجُيُوشِ فِي شَوَّالٍ قَاصِدًا بَغْدَادَ لِيُطَالِبَ الْمُقْتَدِرَ بِأَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ وَإِنْصَافِهِمْ، فَسَارَ- وَقَدْ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ الطَّلَائِعَ- حَتَّى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد، وقابله عنده ابن ياقوت وهارون بن عريب عن كره منه. وأشير على الخليفة أن يستدين من والدته مالا ينفقه فِي الْأَجْنَادِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ عِنْدَهَا شَيْءٌ، وَعَزَمَ، الْخَلِيفَةُ عَلَى الْهَرَبِ إِلَى وَاسِطٍ، وَأَنْ يترك بغداد إلى مؤنس حَتَّى يَتَرَاجَعَ أَمْرُ النَّاسِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهَا. فرده عن ذلك ابن ياقوت وأشار بمواجهته لمؤنس وأصحابه، فإنهم متى رأوا الخليفة هربوا كُلُّهُمْ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا(11/168)
مُؤْنِسًا. فَرَكِبَ وَهُوَ كَارِهٌ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْفُقَهَاءُ ومعهم المصاحف المنشورة، وعليه البردة وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَوَقَفَ عَلَى تَلٍّ عَالٍ بَعِيدٍ من المعركة ونودي في الناس: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ أُمَرَاؤُهُ يَعْزِمُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فَامْتَنَعَ من التقدم إلى محل الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ أَلَحُّوا عَلَيْهِ فَجَاءَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ، فَمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى انْهَزَمُوا وَفَرُّوا رَاجِعِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَا عَطَفُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أُمَرَاءِ مُؤْنِسٍ على بن بليق، فَلَمَّا رَآهُ تَرَجَّلَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِالْخُرُوجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ. ثُمَّ وَكَّلَ بِهِ قَوْمًا من المغاربة البرير، فَلَمَّا تَرَكَهُمْ وَإِيَّاهُ شَهَرُوا عَلَيْهِ السِّلَاحَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ أَنَا الْخَلِيفَةُ. فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَاكَ يَا سَفِلَةُ، إِنَّمَا أَنْتَ خَلِيفَةُ إِبْلِيسَ، تُنَادِي فِي جَيْشِكَ مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ؟ وَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَيْفِهِ عَلَى عَاتِقِهِ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَذَبَحَهُ آخَرُ وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، وَقَدْ سَلَبُوهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى سَرَاوِيلَهُ، وبقي مكشوف العورة مجندلا عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ فَغَطَّى عَوْرَتَهُ بِحَشِيشٍ ثُمَّ دَفَنَهُ فِي مَوْضِعِهِ وَعَفَّا أَثَرَهُ، وَأَخَذَتِ الْمَغَارِبَةُ رَأْسَ الْمُقْتَدِرِ عَلَى خَشَبَةٍ قَدْ رَفَعُوهَا وَهُمْ يَلْعَنُونَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى مُؤْنِسٍ- وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا الْوَقْعَةَ- فَحِينَ نَظَرَ إليه لطم رأس نفسه ووجهه وقال: ويلكم، والله لم آمركم بهذا، لعنكم الله، وَاللَّهِ لَنُقْتَلَنَّ كُلَّنَا. ثُمَّ رَكِبَ وَوَقَفَ عِنْدَ دَارِ الْخِلَافَةِ حَتَّى لَا تُنْهَبَ، وَهَرَبَ عَبْدُ الواحد بن المقتدر وهارون بن عريب، وأبناء رائق، إلى المدائن، وكان فعل مؤنس هذا سببا لطمع ملوك الْأَطْرَافِ فِي الْخُلَفَاءِ، وَضَعْفِ أَمْرِ الْخِلَافَةِ جِدًّا، مع ما كان المقتدر يعتمده في التَّبْذِيرِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَمْوَالِ، وَطَاعَةِ النِّسَاءِ، وَعَزْلِ الْوُزَرَاءِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّ جُمْلَةَ مَا صَرَفَهُ في الوجوه الفاسدة مَا يُقَارِبُ ثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَهَذِهِ ترجمة المقتدر باللَّه
هو جعفر بن أحمد الْمُعْتَضِدِ باللَّه أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بن جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بن هارون الرشيد، يكنى أبا الفضل، أمير المؤمنين الْعَبَّاسِيَّ، مَوْلِدُهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا شَغَبُ، وَلُقِّبَتْ فِي خِلَافَةِ وَلَدِهَا بِالسَّيِّدَةِ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ الْمُكْتَفِي يَوْمَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَشَهْرٍ وَأَيَّامٍ. وَلِهَذَا أَرَادَ الْجُنْدُ خَلْعَهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ مُحْتَجِّينَ بِصِغَرِهِ وَعَدَمِ بُلُوغِهِ، وَتَوْلِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ، فَلَمْ يتم ذلك، وانتقض الأمر في ثانى يوم كما ذكرنا. ثم خلعوه في المحرم من سنة سبع عشرة وثلاثمائة وولوا أخاه محمدا القاهر كما تقدم، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ سِوَى يَوْمَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخِلَافَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِرُ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ حَسَنَ الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، حَسَنَ الشَّعْرِ، مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، حَسَنَ الْخُلُقِ، قَدْ شَابَ رَأْسُهُ وعارضاه، وقد كان معطاء جوادا، وله عَقْلٌ جَيِّدٌ، وَفَهْمٌ وَافِرٌ، وَذِهْنٌ صَحِيحٌ،(11/169)
وَقَدْ كَانَ كَثِيرَ التَّحَجُّبِ وَالتَّوَسُّعِ فِي النَّفَقَاتِ، وزاد في رسوم الخلافة وأمور الرئاسة، وَمَا زَادَ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ. كَانَ فِي داره إحدى عشر ألف خادم خصى، غير الصقالبة وأبناء فارس وَالرُّومِ وَالسُّودَانِ، وَكَانَ لَهُ دَارٌ يُقَالُ لَهَا دار الشجرة، بها من الإناث وَالْأَمْتِعَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ في سنة خمس حِينَ قَدِمَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ. وَقَدْ رَكِبَ الْمُقْتَدِرُ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ وَجَعَلَ يَسْتَعْجِلُ الطَّعَامَ فأبطئوا به فقال للملاح: ويحك هل عندك شيء آكل؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الْجَدْيِ وخبز حسن وملوحا وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَأَعْجَبَهُ ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَقَالَ: هَلْ عندك شيء من الحلواء، فانى لا أحسن بِالشِّبَعِ حَتَّى آكُلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلْوَاءِ. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إن حلواءنا التَّمْرُ وَالْكَسْبُ. فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ لَا أُطِيقُهُ. ثم جيء بطعام فأكل منه وأوتى بالحلواءات فأكل وأطعم الملاحين، وأمر أن يعمل كل يوم في الحراقة بمائتي درهم، حتى إذا اتفق ركوبه فيها أكل منها، وإن لم يتفق ركوبه كانت للملاح. وكان الملاح يأخذ ذلك في كل يوم عدة سنين متعددة، ولم يتفق ركوبه مرة أخرى أبدا.
وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُ خَوَاصِّهِ أَنْ يُطَهِّرَ وَلَدَهُ فَعَمِلَ أَشْيَاءَ هَائِلَةً ثُمَّ طَلَبَ مِنْ أُمِّ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُعَارَ الْقَرْيَةَ الَّتِي عُمِلَتْ فِي طُهُورِ الْمُقْتَدِرِ مِنْ فِضَّةٍ لِيَرَاهَا النَّاسُ فِي هذا المهم، فتلطفت أم المقتدر عند ولدها حَتَّى أَطْلَقَهَا لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَتْ صِفَةَ قَرْيَةٍ من القرى كلها من فضة، بيوتها وأعاليقها وأبقارها وجمالها، ودوابها وطيورها، وخيولها، وزروعها وثمارها وأشجارها، وَأَنْهَارُهَا وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُرَى، الْجَمِيعُ مِنْ فِضَّةٍ مُصَوَّرٌ، وَأَمَرَ بِنَقْلِ سِمَاطِهِ إِلَى دَارِ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَنْ لَا يكلف شيء مِنَ الْمَطَاعِمِ سِوَى سَمَكٍ طَرِيٍّ، فَاشْتَرَى الرَّجُلُ بثلاثمائة دينار سمكا طريا، وَكَانَ جُمْلَةُ مَا أُنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى سِمَاطِ المقتدر ألفا وخمسمائة دينار، والجميع من عند المقتدر، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ والعبادة، ولكنه كان موثرا لشهواته، مطيعا لخصاياه كثير العزل والولاية والتلون. وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى كَانَ هَلَاكُهُ على يدي [غلمان] مؤنس الخادم، فَقُتِلَ عِنْدَ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أعنى سنة ثلاثمائة وعشرين- وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا وأربعة عشر يوما، كان أَكْثَرَ مُدَّةً مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ.
خِلَافَةُ القاهر
لما قتل المقتدر باللَّه عزم مؤنس عَلَى تَوْلِيَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بَعْدَ أَبِيهِ لِيُطَيِّبَ قَلْبَ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ جُمْهُورُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ:
بَعْدَ التعب والنكد نبايع لخليفة صبي له أم وخالات يطيعهن ويشاورهن؟ ثم أحضروا مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ- وَهُوَ أَخُو الْمُقْتَدِرِ- فَبَايَعَهُ القضاة والأمراء والوزراء، ولقبوه بالقاهر باللَّه، وَذَلِكَ فِي سَحَرِ(11/170)
يوم الخميس لليلتين بقينا من شوال منها، واستوزر أبا على بن مقلة، ثم أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله، ثم أبا العباس، ثم الخصيبى. وَشَرَعَ الْقَاهِرُ فِي مُصَادَرَةِ أَصْحَابِ الْمُقْتَدِرِ وَتَتَبُّعِ أَوْلَادِهِ، وَاسْتَدْعَى بِأُمِّ الْمُقْتَدِرِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَقَدْ تَزَايَدَ بِهَا الْوَجَعُ مِنْ شِدَّةِ جَزَعِهَا عَلَى وَلَدِهَا حِينَ بَلَغَهَا قَتْلُهُ، وَكَيْفَ بَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ. فَبَقِيَتْ أَيَّامًا لَا تَأْكُلُ شَيْئًا، ثُمَّ وَعَظَهَا النِّسَاءُ حَتَّى أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْخُبْزِ وَالْمِلْحِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَدْعَى بِهَا الْقَاهِرُ فَقَرَّرَهَا عَلَى أَمْوَالِهَا فَذَكَرَتْ لَهُ مَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْمَصَاغِ وَالثِّيَابِ، وَلَمْ تُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ، وَقَالَتْ لَهُ: لَوْ كَانَ عِنْدِي مِنْ هَذَا شَيْءٌ مَا سَلَّمْتُ وَلَدِي. فَأَمَرَ بِضَرْبِهَا وَعُلِّقَتْ بِرِجْلَيْهَا ومسها بعذاب شديد من العقوبة، فأشهدت عَلَى نَفْسِهَا بِبَيْعِ أَمْلَاكِهَا، فَأَخَذَهُ الْجُنْدُ مِمَّا يُحَاسِبُونَ بِهِ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ. وَأَرَادَهَا عَلَى بَيْعِ أَوْقَافِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَتْ أَشَدَّ الْإِبَاءِ. ثم استدعى الْقَاهِرُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَوْلَادِ الْمُقْتَدِرِ مِنْهُمْ أَبُو العباس وَهَارُونُ وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَالْفَضْلُ وَإِبْرَاهِيمُ، فَأَمَرَ بِمُصَادَرَتِهِمْ وحبسهم، وسلمهم إلى حاجبه على بن بليق، وتمكن الوزير عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ فَعَزَلَ وَوَلَّى، وَأَخَذَ وَأَعْطَى أياما، ومنع البريدي من عمالتهم.
وفيها توفى من الأعيان.
أحمد بن عمير بن جوصا
أَبُو الْحَسَنِ الدِّمَشْقِيُّ أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ، وَالرُّوَاةِ الأيقاظ. وإبراهيم بن محمد بن على بن بطحاء ابن عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ أَبُو إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ الْمُحْتَسِبُ بِبَغْدَادَ، رَوَى عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا. مَرَّ يَوْمًا عَلَى بَابِ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَالْخُصُومُ عُكُوفٌ عَلَى بَابِهِ وَالشَّمْسُ قَدِ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ حَاجِبَهُ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: إما أن تخرج فتفصل بين الخصوم، وَإِمَّا أَنْ تَبْعَثَ فَتَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ لَكَ عُذْرٌ حَتَّى يَعُودُوا إِلَيْكَ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ.
أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أحد أئمة المذهب، واسمه الحسين بن صالح بن خيران الفقيه الكبير الورع.
عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْصِبُ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَخَتَمَ عليه الوزير على بن عيسى على بابه ستة عشر يوما، حتى لم يَجِدْ أَهْلُهُ مَاءً إِلَّا مِنْ بُيُوتِ الْجِيرَانِ، وهو مع ذلك يمتنع عليهم، وَلَمْ يَلِ لَهُمْ شَيْئًا. فَقَالَ الْوَزِيرُ:
إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّ بِبَلَدِنَا وَفِي مملكتنا من عرض عليه قضاء قضاة الدنيا في المشارق والمغارب فَلَمْ يَقْبَلْ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الحجة منها، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ بِمَا فيه كفاية.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ الْفَقِيهُ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ.
الْقَاضِي أَبُو عمر المالكي محمد بن يوسف
ابن إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي بِبَغْدَادَ وَمُعَامَلَاتِهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، كَانَ من أئمة(11/171)
الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، وَفَصَاحَةً وَبَلَاغَةً، وَعَقْلًا وَرِيَاسَةً، بحيث كان يضرب بعقله الْمَثَلُ. وَقَدْ رَوَى الْكَثِيرَ عَنِ الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ عنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَحَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ عِلْمًا كثيرا من الفقه والحديث، وقد جمع قَضَاءُ الْقُضَاةِ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَجَمَعَ مُسْنَدًا حَافِلًا، وَكَانَ إِذَا جَلَسَ لِلْحَدِيثِ جَلَسَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ سِنِّ أَبِيهِ، وجلس عن يساره أيضا ابْنُ صَاعِدٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَسَائِرُ الْحُفَّاظِ حَوْلَ سَرِيرِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. قَالُوا: وَلَمْ يُنْتَقَدْ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهِ أخطأ فيه قط. قلت: وكان من أكبر صواب أحكامه وأصوبها قتله الحسين بن منصور الحلاج في سنة تسع وثلاثمائة كما تقدم. وكان القاضي أبو عمر هذا جميل الأخلاق، حسن المعاشرة، اجتمع عنده يوما أَصْحَابِهِ فَجِيءَ بِثَوْبٍ فَاخِرٍ لِيَشْتَرِيَهُ بِنَحْوٍ مَنْ خمسين دينارا، فاستحسنه الحاضرون، فدعا بِالْقَلَانِسِيِّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ الثَّوْبَ قَلَانِسَ بعدد الحاضرين. وله مناقب ومحاسن جمة رحمه الله تعالى. توفى في رمضان منها عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ إبراهيم الحربي.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة
في صفر منها أحضر القاهر رجلا كان يقطع الطريق فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَلْفَ سَوْطٍ، ثُمَّ ضُرِبَتْ عنقه وقطع أيدي أصحابه وأرجلهم. وفيها أمر القاهر بِإِبْطَالِ الْخَمْرِ وَالْمَغَانِي وَالْقِيَانِ، وَأَمَرَ بِبَيْعِ الْجَوَارِي المغنيات بسوق النَّخْسِ، عَلَى أَنَّهُنَّ سَوَاذِجُ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وإنما فعل ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُحِبًّا لِلْغِنَاءِ فَأَرَادَ أَنْ يشتريهن برخص الْأَثْمَانِ. نُعَوذُ باللَّه مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ. وَفِيهَا أَشَاعَتِ الْعَامَّةُ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ الْحَاجِبَ عَلِيَّ بْنِ بليق يُرِيدُ أَنْ يَلْعَنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمَنَابِرِ. فَلَمَّا بلغ الحاجب ذلك بعث إلى رئيس الحنابلة البربهاري أبى محمد الْوَاعِظِ لِيُقَابِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَرَبَ وَاخْتَفَى، فَأَمَرَ بجماعة من أصحابه فنفوا إلى البصرة. وفيها عظم الخليفة وزيره عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ وَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ. ثُمَّ إن الوزير ومؤنسا الخادم وعلى بن بليق وَجَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ اشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى خلع القاهر وتولية أبى أحمد المكتفي، وبايعوه سرا فيما بينهم، وضيقوا على القاهر باللَّه في رزقه، وعلى من يَجْتَمِعُ بِهِ. وَأَرَادُوا الْقَبْضَ عَلَيْهِ سَرِيعًا. فَبَلَغَ ذلك القاهر- بلغه طريف اليشكري- فسعى في القبض عليهم، فوقع في مخالبه الأمير المظفر مؤنس الخادم، فأمر بِحَبْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ وَالِاحْتِيَاطِ عَلَى دُورِهِ وأملاكه- وكانت فيه عجلة وجرأة وطيش وهوج وخرق شديد- وجعل في منزلته- أمير الأمراء ورياسة الجيش- طريفا اليشكري، وقد كان أحد الأعداء لمؤنس الخادم قبل ذلك. وقبض على بليق، واختفى ولده على بن بليق، وهرب الوزير بن مقلة فاستوزر مكانه أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فِي مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ بتحريق دار ابن مُقْلَةَ، وَوَقَعَ النَّهْبُ بِبَغْدَادَ، وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَمَرَ(11/172)
القاهر بأن يجعل أبو أحمد الْمُكْتَفِي بَيْنَ حَائِطَيْنِ وَيُسَدَّ عَلَيْهِ بِالْآجُرِّ وَالْكِلْسِ، وهو حي، فمات.
وأرسل منادى على المختفين: إن من أخفاهم قتل وخربت داره. فوقع بعلي بن بليق فذبح بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، فَأُخِذَ رَأْسُهُ في طست ودخل به القاهر على أبيه بليق بنفسه، فوضع رأس ابنه بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى وَأَخَذَ يُقَبِّلُهُ وَيَتَرَشَّفُهُ، فَأَمَرَ بِذَبْحِهِ أَيْضًا فَذُبِحَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّأْسَيْنِ فِي طَسْتَيْنِ فَدَخَلَ بِهِمَا عَلَى مُؤْنِسٍ الخام، فَلَمَّا رَآهُمَا تَشَهَّدَ وَلَعَنَ قَاتِلَهُمَا، فَقَالَ الْقَاهِرُ: جُرُّوا بِرِجْلِ الْكَلْبِ، فَأُخِذَ فَذُبِحَ أَيْضًا وَأُخِذَ رَأْسُهُ فَوُضِعَ فِي طَسْتٍ وَطِيفَ بِالرُّءُوسِ فِي بَغْدَادَ، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَخُونُ الْإِمَامَ وَيَسْعَى فِي الدَّوْلَةِ فَسَادًا. ثُمَّ أُعِيدَتِ الرُّءُوسُ إِلَى خَزَائِنِ السِّلَاحِ. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ منها قَبَضَ الْقَاهِرُ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بن القاسم وَسَجَنَهُ، وَكَانَ مَرِيضًا بِالْقُولَنْجِ، فَبَقِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يوما ومات وكانت وِزَارَتُهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا. وَاسْتَوْزَرَ مكانه أبا العباس أحمد بن عبد اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخَصِيبِيَّ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَى طريف اليشكري الّذي تعاون على مؤنس وابن بليق وسجنه، ولهذا قيل:
من أعان ظالما سلطه الله عليه. فلم يزل اليشكري في الحبس حَتَّى خُلِعَ الْقَاهِرُ. وَفِيهَا جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ العامل بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأَنَّ ابْنَهُ مُحَمَّدًا قَدْ قَامَ مقامه فيها، وسارت الخلع إليه من القاهر بتنفيذ الولاية واستقراره.
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ بَنِي بُوَيْهِ وَظُهُورِ دَوْلَتِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَهُمْ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ: عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ، وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو على الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد أولاد أبى شجاع بويه بن قباخسرو بْنِ تَمَّامِ بْنِ كُوهَى بْنِ شِيرِزِيلَ الْأَصْغَرِ بن شيركيده ابن شيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروز بن شيرزيل بن سيسان بن بهرام جور الملك بن يزد جرد الملك بن سابور الملك بن سابورذى الْأَكْتَافِ الْفَارِسِيِّ.
كَذَا نَسَبَهُمُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا فِي كِتَابِهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمُ الدَّيَالِمَةُ لِأَنَّهُمْ جَاوَرُوا الدَّيْلَمَ، وَكَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مُدَّةً، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُمْ أَبُو شُجَاعٍ بُوَيْهِ فَقِيرًا مُدْقِعًا، يَصْطَادُ السَّمَكَ وَيَحْتَطِبُ بَنُوهُ الْحَطَبَ على رءوسهم، وقد ماتت امْرَأَتُهُ وَخَلَّفَتْ لَهُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادَ الثَّلَاثَةَ، فَحَزِنَ عليها وعليهم، فبينما هو يوما عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ شَهْرِيَارُ بْنُ رُسْتُمَ الدَّيْلَمِيُّ، إِذْ مَرَّ مُنَجِّمٌ فَاسْتَدْعَاهُ فَقَالَ لَهُ: إني رأيت مناما غريبا أحب أن تفسره لي: رَأَيْتُ كَأَنِّي أَبُولُ فَخَرَجَ مِنْ ذَكَرِي نَارٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى كَادَتْ تَبْلُغُ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ انْفَرَقَتْ ثَلَاثَ شُعَبٍ ثُمَّ انْتَشَرَتْ كُلُّ شُعْبَةٍ حتى صارت شعبا كَثِيرَةٍ، فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِتِلْكَ النَّارِ، وَرَأَيْتُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ قَدْ خَضَعَتْ لِهَذِهِ النَّارِ. فَقَالَ لَهُ الْمُنَجِّمُ: هَذَا مَنَامٌ عَظِيمٌ لَا أُفَسِّرُهُ لَكَ إِلَّا بِمَالٍ جَزِيلٍ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا شَيْءَ عندي أعطيك، ولا أملك إلا فَرَسِي هَذِهِ. فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ صُلْبِكَ ثَلَاثَةُ مُلُوكٍ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ سُلَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُلُوكٌ عِدَّةٌ. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ أَتَسْخَرُ بِي؟ وَأَمَرَ بَنِيهِ فَصَفَعُوهُ ثُمَّ أَعْطَاهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. فَقَالَ لَهُمُ الْمُنَجِّمُ: اذْكُرُوا هَذَا إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ(11/173)
وَأَنْتُمْ مُلُوكٌ، وَخَرَجَ وَتَرَكَهُمْ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةَ الثَّلَاثَةَ كَانُوا عند ملك يقال له «ماكان بن كاني» في بلاد طبرستان، فتسلط عليه مرداويح فضعف ما كان، فتشاوروا في مفارقته حتى يكون من أمره ما يكون، فَخَرَجُوا عَنْهُ وَمَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَصَارُوا إلى مرادويح فَأَكْرَمَهُمْ وَاسْتَعْمَلَهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْبُلْدَانِ، فَأَعْطَى عماد الدولة على بويه نيابة الكرخ، فَأَحْسَنَ فِيهَا السِّيرَةَ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَحَبُّوهُ، فحسده مرداويح وبعث إليه بعزله عَنْهَا، وَيَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ فَامْتَنَعَ مِنَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وصار إلى أصبهان فحاربه نائبها فهزمه عماد الدولة هزيمة منكرة، واستولى على أصبهان. وإنما كان معه سبعمائة فارس، فقهر بها عشرة آلاف فارس، وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مرداويح قلق منه، فأرسل إليه جيشا فأخرجوه من أصبهان، فقصد أذربيجان فَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا وَحُصِّلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، ثُمَّ أَخَذَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً، واشتهر أمره وبعد صيته وحسنت سيرته. فقصده الناس محبة وتعظيما، فاجتمع إِلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، فلم يزل يترقى في مراقى الدنيا حتى آل به وبأخويه الْحَالُ إِلَى أَنْ مَلَكُوا بَغْدَادَ مِنْ أَيْدِي الخلفاء العباسيين، وصار لهم فيها الْقَطْعُ وَالْوَصْلُ، وَالْوِلَايَةُ وَالْعَزْلُ، وَإِلَيْهِمْ تُجْبَى الْأَمْوَالُ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ وَالْأَحْوَالِ، عَلَى ما سنذكر ذلك مبسوطا والله المستعان:
وفيها توفى من الأعيان
أحمد بن محمد بن سلامة
ابن سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ، نسبة إلى قَرْيَةٌ بِصَعِيدِ مِصْرَ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ المفيدة، والفوائد الغزيرة: وهو أحد الثقات الأثبات، والحفاظ الجهابذة، وطحا بلدة بدريا مصر. وهو ابن أخت المزني. توفى في مستهل ذي القعدة منها عن ثنتين وثمانين سنة وذكر أبو سعيد السَّمْعَانِيُّ أَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ أَنَّ سَبَبَ انْتِقَالِهِ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُجُوعِهِ عَنْ مَذْهَبِ خَالِهِ الْمُزَنِيِّ، أَنَّ خَالَهُ قَالَ لَهُ يَوْمًا: وَاللَّهِ لَا يَجِيءُ مِنْكَ شيء. فغضب وتركه وَاشْتَغَلَ عَلَى أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ الحنفي، حتى يرع وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً. مِنْهَا أحكام القرآن، واختلاف العلماء. ومعاني الآثار، والتاريخ الْكَبِيرُ. وَلَهُ فِي الشُّرُوطِ كِتَابٌ، وَكَانَ بَارِعًا فيها. وقد كتب للقاضي أبى عبد الله محمد بن عبد الله وَعَدَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُزَنِيَّ، لَوْ كَانَ حَيًّا لكفر عن يمينه. توفى في مستهل ذي القعدة كما تقدم. وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِهَا رَحِمَهُ اللَّهُ. وقد ترجمه ابن عساكر وذكر أنه قد قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَخَذَ الفقه عن قاضيها أبى حازم.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ النَّضْرِ
ابن حَكِيمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زَرْبِيٍّ أَبُو بَكْرِ المعروف بابن أَبِي حَامِدٍ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ. سَمِعَ عَبَّاسًا الدوري(11/174)
وخلقا، وعنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ. وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا، جَوَادًا مُمَدَّحًا، اتَّفَقَ فِي أَيَّامِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَرَكِبَتْهُ ديون اقتضت بيع تلك الجارية في الدين، فلما أن قبض ثمنها ندم ندامة شديدة على فراقها، وبقي متحيرا في أمره، ثم باعها الّذي اشتراها فوصلت إلى ابن أبى حامد هذا، وهو صاحب بيت المال، فتشفع صاحبها الأول- الّذي باعها في الدين- ببعض أصحاب ابن أبى حامد في أن يردها إليه بثمنها، وذكر له أنه يحبها، وأنه من أهل العلم، وإنما باعها في دين ركبه لم يجد له وفاء. فلما قال له ذلك لم يكن عند ابن أبى حامد شعور بما ذكر له من أمر الجارية، وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتِ اشْتَرَتْهَا لَهُ وَلَمْ تُعْلِمْهُ بَعْدُ بِأَمْرِهَا حَتَّى تَحِلَّ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، وكان ذلك اليوم آخر الاستبراء، فألبستها الحلي والمصاغ وصنعتها له وهيأتها، حتى صارت كأنها فلقة قمر، وكانت حسناء، فحين شفع صاحبه فيها وذكر أَمْرِهَا بُهِتَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا. ثُمَّ دَخَلَ على أهله يستكشف خبرها من امرأته، فإذا بها قد هيئت له، فلما رآها على تلك الصفة فرح فرحا شديدا إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الأول، الّذي تشفع فيه صاحبه. فأخرجها معه وهو يظهر السرور، وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها، فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها، فقال له: هذه جاريتك؟
فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر اضْطَرَبَ كَلَامُهُ وَاخْتَلَطَ فِي عَقْلِهِ مِمَّا رَأَى من حسن منظرها وهيئتها. فقال: نعم. فقال: خُذْهَا بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. فَفَرِحَ الْفَتَى بها فرحا شديدا. وقال سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك؟ فقال: لا حاجة لنا بثمنها، وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها، فانى أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك. فقال: يا سيدي وهذا الْحُلِيُّ وَالْمَصَاغُ الَّذِي عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ وهبناه لها لا نرجع فيه ولا يعود إلينا أبدا، فدعا له واشتد فرحه بها جدا وأخذها وذهب. فلما أراد أن يودع ابن أبى حامد قال ابن أبى حامد للجارية:
أيما أَحَبَّ إِلَيْكِ نَحْنُ أَوْ سَيِّدُكِ هَذَا؟ فَقَالَتْ: أما أنتم فقد أحسنتم إلى وأعنتمونى فَجَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَّا سَيِّدِي هَذَا فَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ مِنْهُ مَا مَلَكَ مِنِّي لَمْ أبعه بالأموال الجزيلة ولا فرطت فيه أبدا. فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا، مَعَ صِغَرِ سِنِّهَا.
شَغَبُ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِرِ باللَّه الْمُلَقَّبَةُ بِالسَّيِّدَةِ
كان دخلها من أَمْلَاكِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، فكانت تَتَصَدَّقُ بِأَكْثَرِ ذَلِكَ عَلَى الْحَجِيجِ فِي أَشْرِبَةٍ وأزواد وأطباء يكونون معهم، وفي تسهيل الطرقات والموارد. وكانت في غاية الحشمة والرئاسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها، فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مَرَضًا إِلَى مَرَضِهَا، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْقَاهِرِ فِي الْخِلَافَةِ وَهُوَ ابْنُ زَوْجِهَا الْمُعْتَضِدِ وَأَخُو ابنها المقتدر، وَقَدْ كَانَتْ حَضَنَتْهُ حِينَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَخَلَّصَتْهُ من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له ثم رجع ابنها إلى الخلافة، فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها،(11/175)
فكانت تكرمه وتشترى له الجواري، فلما قتل ابنها وتولى مكانه طلبها وهي مريضة فعاقبها عقوبة عظيمة جدا، حتى كان يعلقها برجليها ورأسها منكوس، فربما بالت فيسيل البول على وجهها، ليقررها على الأموال فَلَمْ يَجِدْ لَهَا شَيْئًا سِوَى ثِيَابِهَا وَمَصَاغِهَا وحليها في صناديقها. قيمة ذلك مائة ألف دينار، وثلاثون ألف دينار، وكان لها غير ذلك أَمَلَاكٌ أَمَرَ بِبَيْعِهَا وَأَتَى بِالشُّهُودِ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهَا بالتوكيل في بيعها، فامتنع الشهود من الشهادة حتى ينظروا إليها ويحلوها، فَرُفِعَ السِّتْرُ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ.
فَقَالُوا لَهَا: أَنْتِ شَغَبُ جَارِيَةُ الْمُعْتَضِدِ أُمُّ جَعْفَرٍ الْمُقْتَدِرِ؟ فَبَكَتْ بكاء طويلا ثم قالت: نعم، فكتبوا حِلْيَتَهَا عَجُوزٌ سَمْرَاءُ اللَّوْنِ دَقِيقَةُ الْجَبِينِ. وَبَكَى الشهود وتفكروا كيف يتقلب الزمان بأهله، وتنقل الحدثان وأن الدنيا دار بلاء لا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، من ركن إليها أحرقته بنارها. ولم يذكر القاهر شيئا من إحسانها إليه رحمها الله وعفا عنها. توفيت فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَتْ بالرصافة.
عبد السلام بن محمد
ابن عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ سَلَامِ بْنِ خَالِدِ بْنِ حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ، مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وهو أبو هاشم ابن أَبِي عَلِيٍّ الْجَبَائِيُّ الْمُتَكَلِّمُ ابْنُ الْمُتَكَلِّمِ، الْمُعْتَزِلِيُّ بن المعتزلي، وإليه تنسب الطائفة الهاشمية مِنَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الِاعْتِزَالِ كَمَا لأبيه من قبله، مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، توفى في شعبان منها. قال ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَلِيٍّ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الصَّاحِبِ بْنِ عباد فأكرمه واحترمه وسأله عن شيء من المسائل فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ نِصْفُ الْعِلْمِ. فَقَالَ: صَدَقْتَ وسبقك أبوك إلى الجهل بالنصف الآخر.
أحمد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدِ بْنِ عَتَاهِيَةَ
أَبُو بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ الْأَزْدِيُّ اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الشَّاعِرُ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، وُلِدَ بِالْبَصْرَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَقَدْ أَسَنَّ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. روى عن عبد الرحمن بن أَخِي الْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي حَاتِمٍ وَالرِّيَاشِيِّ. وَعَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ شَاذَانَ، وَأَبُو عبيد الله بن المرزبان وغيرهم. ويقال كان أعلم من شعر من العلماء. وقد كان متهتكا في الشراب منهمكا فيه. قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ:
دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ سكران فلم أعد إليه. وسئل عنه الدار قطنى فَقَالَ: تَكَلَّمُوا فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ شَاهِينَ: كُنَّا ندخل عليه فنستحى مما نراه من العيدان المعلقة وآلات اللهو وَالشَّرَابِ الْمُصَفَّى وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ وَقَارَبَ الْمِائَةَ. توفى يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ. وفي هذا اليوم توفى أبو هاشم ابن أبى على الجبائي المعتزلي، فصلى عليهما معا، ودفنا في مقبرة الخيزران. فقال الناس: مات(11/176)
اليوم عالم اللغة، وعالم الْكَلَامِ. وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَطِيرًا. وَمِنْ مُصَنَّفَاتِ ابن دريد الجمهرة في اللغة نَحْوِ عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ. وَكِتَابُ الْمَطَرِ، وَالْمَقْصُورَةُ، وَالْقَصِيدَةُ الْأُخْرَى فِي الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
سَامِحَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ مَلَطْيَةَ فِي خَمْسِينَ ألفا فحاصرهم ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، فَقَتَلَ منهم خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرَ مَا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ أن مَرْدَاوِيجَ قَدْ تَسَلَّمَ أَصْبَهَانَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ بُوَيْهِ تَوَجَّهَ إِلَى أَرَّجَانَ فَأَخَذَهَا، وَقَدْ أَرْسَلَ ابْنُ بُوَيْهِ إلى الخليفة بِالطَّاعَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَبِّلَ الْعَتَبَةَ الشَّرِيفَةَ وَيَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ إِنْ رَسَمَ، ويذهب إلى شيراز فيكون مع ابن يَاقُوتَ. ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صار إلى شيراز وأخذها من نائبها ابن يَاقُوتَ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ، ظَفِرَ فِيهِ ابْنُ بويه بابن ياقوت وَأَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرَ جَمَاعَةً، فَلَمَّا تَمَكَّنَ أَطْلَقَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلَ فِي النَّاسِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ قَدِ استفادها من أصبهان والكرخ وهمذان وغيرها. وكان كريما جوادا معطيا لِلْجُيُوشِ الَّذِينَ قَدِ الْتَفُّوا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمْلَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَهُوَ بِشِيرَازَ، وَطَالَبَهُ الْجُنْدُ بِأَرْزَاقِهِمْ وَخَافَ أَنْ يَنْحَلَّ نِظَامُ أَمْرِهِ وملكه، فاستلقى على قفاه يوما مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، وَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ خَرَجَتْ من شق في سَقْفِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَدَخَلَتْ فِي آخَرَ، فَأَمَرَ بِنَزْعِ تِلْكَ السُّقُوفِ فَوَجَدَ هُنَاكَ مكانا فيه شيء كثير من الذهب، نَحْوٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. فَأَنْفَقَ فِي جَيْشِهِ مَا أَرَادَ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وركب ذات يوم يتفرج في جوانب البلد وينظر إلى ما بنته الأوائل، ويتعظ بمن كان فيه قبله، فانخسفت الأرض من تحت قوائم فرسه، فَأَمَرَ فَحُفِرَ هُنَالِكَ فَوَجَدَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا أَيْضًا.
وَاسْتَعْمَلَ عِنْدَ رَجُلٍ خَيَّاطٍ قُمَاشًا لِيَلْبَسَهُ فَاسْتَبْطَأَهُ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يديه تهدده- وكان الخياط أصم لا يسمع جيدا فقال: والله أيها الملك ما لابن ياقوت عندي سوى اثنا عَشَرَ صُنْدُوقًا لَا أَدْرِي مَا فِيهَا. فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا فَإِذَا فِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ تُقَارِبُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاطَّلَعَ عَلَى وَدَائِعَ كَانَتْ لِيَعْقُوبَ بن اللَّيْثِ، فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً، فَقَوِيَ أَمْرُهُ وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ جِدًّا. وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُقَدَّرَةِ لِمَا يريد الله بهم من السعادة الدنيوية، بعد الجوع والقلة (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) 28: 68 وكتب إلى الراضي وزيره ابن مقلة أَنْ يُقَاطَعَ عَلَى مَا قِبَلَهُ مِنَ الْبِلَادِ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ الرَّاضِي إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَاللِّوَاءِ وأبهة الملك. وفيها قتل القاهر أَمِيرَيْنِ كَبِيرَيْنِ، وَهَمَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَشَارَ عَلَى الْأُمَرَاءِ بخلافة القاهر. وأبا السَّرَايَا بْنُ حَمْدَانَ أَصْغَرُ وَلَدِ أَبِيهِ، وَكَانَ فِي نَفْسِ الْقَاهِرِ مِنْهُمَا بِسَبَبِ أَنَّهُمَا زَايَدَاهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ فِي جَارِيَتَيْنِ مُغَنِّيَتَيْنِ. فَاسْتَدْعَاهُمَا إِلَى الْمُسَامَرَةِ فَتَطَيَّبَا وَحَضَرَا، فَأَمَرَ بإلقائهما في(11/177)
جب هُنَالِكَ فَتَضَرَّعَا إِلَيْهِ فَلَمْ يَرْحَمْهُمَا، بَلْ أُلْقِيَا فيها وطم عليهما.
ذكر خلع القاهر وسمل عينيه وعذابه
وكان سبب ذلك أن الوزير على بن مقلة كان قد هرب حين قبض على مؤنس كما تقدم، فاختفى فِي دَارِهِ، وَكَانَ يُرَاسِلُ الْجُنْدَ وَيُكَاتِبُهُمْ وَيُغْرِيهِمْ بالقاهر، ويخوفهم سطوته وإقدامه وسرعة بطشه، ويخبرهم بأن القاهر قد أعد لأكابر الأمراء أماكن في دار الخلافة يسجنهم فيها، ومهالك يلقيهم فيها، كما فعل بفلان وفلان. فهيجهم ذلك عَلَى الْقَبْضِ عَلَى الْقَاهِرِ، فَاجْتَمَعُوا وَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ على مناجزته في هذه الساعة، فركبوا مَعَ الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ بِسِيمَا، وَقَصَدُوا دَارَ الْخِلَافَةِ فأحاطوا بها، ثم هجموا عليه من سائر أبوابها وَهُوَ مَخْمُورٌ، فَاخْتَفَى فِي سَطْحِ حَمَّامٍ فَظَهَرُوا عليه فقبضوا عليه وحبسوه في مكان طريف اليشكري، وأخرجوا طريفا من السجن، وخرج الوزير الخصيبى مستترا في زي امرأة، فذهب.
وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ وَنُهِبَتْ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خلون من جمادى الأولى فيها، في الشهر الّذي ماتت فيه شغب. فلم يكن بين موتها والقبض عليه وسمل عينيه وعذابه بأنواع العقوبات إلا مقدار سنة واحدة، وانتقم الله منه. ثم أمروا بإحضاره، فلما حضر سملوا عَيْنَيْهِ حَتَّى سَالَتَا عَلَى خَدَّيْهِ، وَارْتُكِبَ مِنْهُ أمر عظيم لم يسمع مثله في الإسلام، ثم أرسلوه. وكان تَارَةً يُحْبَسُ وَتَارَةً يُخَلَّى سَبِيلُهُ.
وَقَدْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَافْتَقَرَ حتى قام يوما بجامع المنصور فسأل الناس فأعطاه رجل خمسمائة دينار. ويقال إنما أراد بسؤاله التشنيع عليهم. وسنذكر تَرْجَمَتُهُ إِذَا ذَكَرْنَا وَفَاتَهُ
خِلَافَةُ الرَّاضِي باللَّه أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ باللَّه
لَمَّا خلعت الجند القاهر وسملوا عينيه أَحْضَرُوا أَبَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ باللَّه فبايعوه بالخلافة ولقبوه الراضي باللَّه. وقد أشار أبو بكر الصولي بأن يلقب بالمرضى باللَّه فلم يقبلوا. وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الأولى منها. وَجَاءُوا بِالْقَاهِرِ وَهُوَ أَعْمَى قَدْ سُمِلَتْ عَيْنَاهُ فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَقَامَ الرَّاضِي بِأَعْبَائِهَا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ فَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ، وَجَعَلَ عَلِيَّ بن عيسى ناظرا معه، وَأَطْلَقَ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي حَبْسِ الْقَاهِرِ، وَاسْتَدْعَى عِيسَى طَبِيبَ الْقَاهِرِ فَصَادَرَهُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَسَلَّمَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ الَّتِي كَانَ الْقَاهِرُ أودعه إياها، وكانت جملة مستكثرة من الذهب والفضة والجواهر النفيسة. وفيها عَظُمَ أَمْرُ مَرْدَاوِيجَ بِأَصْبَهَانَ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهُ يريد أخذ بغداد، وأنه ممالئ لصاحب البحرين أمير القرامطة، وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى رَدِّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى الْعَجَمِ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي رَعِيَّتِهِ، لَا سيما في خواصه. فتمالئوا عليه فقتلوه، وكان القائم بأعباء قتله أخص مماليكه وهو يحكم بيض الله وجهه، ويحكم هذا هُوَ الَّذِي اسْتَنْقَذَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ أَيْدِي القرامطة حتى ردوه، اشتراه منهم بخمسين ألف دينار. ولما قتل الأمير يحكم مرداويج(11/178)
عَظُمَ أَمْرُ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ بين الناس، وَسَيَأْتِي مَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُ. وَلَمَّا خُلِعَ القاهر، وولى الراضي، طمع هارون بن عريب فِي الْخِلَافَةِ، لِكَوْنِهِ ابْنَ خَالِ الْمُقْتَدِرِ، وَكَانَ نائبا على ماه والكوفة والدينور وماسبذان، فدعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير مِنَ الْجُنْدِ وَالْأُمَرَاءِ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَقَصَدَ بَغْدَادَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بن ياقوت رأس الحجبة بجميع جند بغداد، فاقتتلوا فخرج في بعض الأيام هارون بن عريب يَتَقَصَّدُ لَعَلَّهُ يَعْمَلُ حِيلَةً فِي أَسْرِ مُحَمَّدِ بن ياقوت فتقنطر به فرسه فألقاه في نهر، فضربه غلامه حتى قتله وأخذ رأسه حتى جاء به إلى محمد بن ياقوت، وانهزم أصحابه ورجع ابن ياقوت فدخل بغداد ورأس هارون بن عريب يحمل عَلَى رُمْحٍ فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مشهودا.
وفيها ظهر ببغداد رجل يُعَرَفُ بِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّلْمَغَانِيِّ، ويقال له ابن العرافة، فذكروا عَنْهُ أَنَّهُ يَدَّعِي مَا كَانَ يَدَّعِيهِ الْحَلَّاجُ من الآلهية، وكانوا قد قبضوا عليه فِي دَوْلَةِ الْمُقْتَدِرِ عِنْدَ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَرَّةُ أَحْضَرَهُ الرَّاضِي وَادَّعَى عَلَيْهِ بما كان ذُكِرَ عَنْهُ فَأَنْكَرَ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَشْيَاءَ، فَأَفْتَى قَوْمٌ أَنَّ دَمَهُ حَلَالٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ من هذه المقالة، فأبى أن يتوب، فضرب ثمانين سوطا، ثم ضربت عنقه وألحق بالحلاج، وَقُتِلَ مَعَهُ صَاحِبُهُ ابْنُ أَبِي عَوْنٍ لَعَنَهُ الله. وكان هذا اللعين من جملة من اتبعه وصدقه فيما يزعمه من الكفر. وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ مَذْهَبَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ بَسْطًا جَيِّدًا، وَشَبَّهَ مَذْهَبَهُمْ بِمَذْهَبِ النصيرية. وادعى رجل آخر ببلاد الشاش النبوة وأظهر المخاريق وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنَ الْحِيَلِ، فَجَاءَتْهُ الْجُيُوشُ فَقَاتَلُوهُ، وانطفأ أمره.
وفاة المهدي صاحب إفريقية
وفيها كان موت المهدي صاحب إفريقية أول خلفاء الفاطميين الأدعياء الكذبة، وهو أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَلَوِيٌّ، وتلقب بالمهديّ، وبنى المهدية ومات بها عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ- مُنْذُ دخل رفادة وَادَّعَى الْإِمَامَةَ- أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَعِشْرِينَ يوما. وَقَدْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، ظَفِرَ بِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ خالفه وناوأه وقاتله وعاداه فلما مات قَامَ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُلَقَّبُ بِالْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَحِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ كَتَمَ مَوْتَهُ سَنَةً حَتَّى دَبَّرَ مَا أَرَادَهُ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَظْهَرَ ذَلِكَ وعزاه الناس فيه. وقد كان كأبيه شهما شجاعا: فَتَحَ الْبِلَادَ وَأَرْسَلَ السَّرَايَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَرَامَ أَخْذَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذلك، وإنما أخذ الديار المصرية ابن ابنه المعز الفاطمي باني الْقَاهِرَةَ الْمُعِزِّيَةَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قال ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِ الْمَهْدِيِّ هَذَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا جِدًّا، فَقَالَ صاحب تاريخ القيروان: وهو عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدِ بن علي(11/179)
ابْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ التَّقِيِّ وَهُوَ الحسين بن الوفي بن أحمد بن الرضى، وهو عبد الله هذا، وهو ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَالْمُحَقِّقُونَ يُنْكِرُونَ دَعْوَاهُ فِي النَّسَبِ. قُلْتُ: قَدْ كَتَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقُدُورِيُّ، أَنَّ هَؤُلَاءِ أَدْعِيَاءُ لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ، وَأَنَّ وَالِدَ عُبَيْدِ اللَّهِ المهدي هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا بِسَلَمْيَةَ، وَقِيلَ كَانَ اسمه سعد، وإنما لقب بعبيد الله زَوْجُ أُمِّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحَ، وَسُمِّي الْقَدَّاحَ لِأَنَّهُ كَانَ كَحَّالًا يَقْدَحُ الْعُيُونَ. وَكَانَ الَّذِي وَطَّأَ لَهُ الْأَمْرَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ استدعاه فلما قدم عليه مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِ سجلماسة فسجنه، فلم يزل الشيعي يحتال له حتى استنقذه من يده وسلم إليه الأمر، ثم ندم الشيعي على تسليمه الأمر وأراد قتله، ففطن عبيد الله لما أراد به، فأرسل إلى الشيعي من قتله وقتل أخاه معه. ويقال إن الشيعي لما دخل السجن الّذي قد حبس فيه عبيد الله هذا وَجَدَ صَاحِبَ سِجِلْمَاسَةَ قَدْ قَتَلَهُ، وَوَجَدَ فِي السجن رجلا مجهولا محبوسا فأخرجه إلى الناس، لأنه كان قد أخبر الناس أن المهدي كان محبوسا في سجلماسة وأنه إنما يقاتل عليه، فقال للناس: هذا هو المهدي- وكان قد أوصاه أن لا يتكلم إلا بما يأمره به وإلا قتله- فراج أمره. فهذه قصته. وهؤلاء من سلالته والله أعلم. وَكَانَ مَوْلِدُ الْمُهْدِيِّ هَذَا فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ قَبْلَهَا، وَقِيلَ بَعْدَهَا، بِسَلَمْيَةَ، وَقِيلَ بالكوفة والله أعلم. وأول ما دعى له على منابر رفادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ سِجِلْمَاسَةَ، وَكَانَ ظُهُورُهُ بِهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ الماضية- سنة ست وتسعين ومائتين- فلما ظهر زالت دولة بنى العباس عن تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنْ هَذَا الْحِينِ إِلَى أَنْ ملك القاصد في سنة سبع وستين وخمسمائة. توفى بالمدينة المهدية التي بناها في أيامه للنصف من ربيع الأول منها، وقد جاوز الستين على المشهور، وسيفصل الله بين الآمر والمأمور يوم البعث والنشور.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدينَوَريّ قَاضِي مِصْرَ. حَدَّثَ عن أبيه بكتبه المشهورة، وتوفى وهو قاض بالديار المصرية فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ
وَقِيلَ اسْمُهُ أحمد بن محمد، ويقال الحسين بن الهمام، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَسَكَنَ مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْكَتَبَةِ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَحَفِظَ مِنْهُ كَثِيرًا، وَتَفَقَّهَ بِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ. وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَانَ إِذَا أَعْطَى الفقير شيئا جعله في كفه تحت يد الفقير، ثُمَّ يَتَنَاوَلُهُ الْفَقِيرُ، يُرِيدُ أَنْ لَا تَكُونَ يد الفقير تحت يده.(11/180)
[قال أبو نعيم: سئل أبو على الروذبارى عمن يسمع الملاهي ويقول إنه وصل إلى منزلة لا يؤثر فيه اختلاف الأحوال. فقال: نعم وصل، ولكن إلى سقر. وقال: الإشارة الابانة، لما تضمنه الوجد من المشار إليه لا غير، وفي الحقيقة أن الإشارة تصححها العلل، والعلل بعيدة من غير الحقائق. وقال:
من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك، فتترك الانابة والتوبة توهما أنك تسامح في الهفوات، وترى أن ذلك من بسط الحق لك. وقال تشوقت القلوب إلى مشاهدة ذات الحق فألقيت إليها الأسامي، فركنت إليها مشغوفة بها عن الذات إلى أوان التجلي، فذلك قوله (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) 7: 180 فوقفوا معها عن إدراك الحقائق، فأظهر الأسامي وأبداها للخلق، لتسكين شوق المحبين إليه، وتأنيس قلوب العارفين به. وقال: لا رضى لمن لا يصبر، ولا كمال لمن لا يشكر. وباللَّه وصل العارفون إلى محبته وشكروه على نعمته. وقال: إن المشتاقين إلى الله يجدون حلاوة الشوق عند ورود المكاشف لهم عن روح الوصال إلى قربه أحلى من الشهد. وقال: من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات: بطن جائع معه قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه قناعة دائمة. وقال: في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها، فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى] [1] ومن شعره
لو مَضَى الْكُلُّ مِنِّي لَمْ يَكُنْ عَجَبًا ... وَإِنَّمَا عَجَبِي فِي الْبَعْضِ كَيْفَ بَقِي
أَدْرِكْ بَقِيَّةَ رُوحٍ مَنْكَ قَدْ تَلِفَتْ ... قَبْلَ الْفِرَاقِ فَهَذَا آخِرُ الرَّمَقِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْمَعْرُوفُ بِخَيْرٍ النَّسَّاجِ أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، مِنْ كِبَارِ الْمَشَايِخِ ذَوِي الْأَحْوَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْكَرَامَاتِ الْمَشْهُورَةِ. أَدْرَكَ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشَايِخِ الْقَوْمِ، وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ نَظَرَ إِلَى زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَقَالَ: قِفْ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ عَبْدٌ مَأْمُورٌ وَأَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَمَا أُمِرْتَ بِهِ لَا يَفُوتُ وَمَا أُمِرْتُ بِهِ يَفُوتُ. ثم قام وتوضأ وصلى وتمدد ومات رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ:
مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ استرحنا من دنيا كم الوخيمة.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة
فيها أحضر ابن شنبوذ المقري فأنكر عليه جماعة من الفقهاء والقراء حُرُوفًا انْفَرَدَ بِهَا فَاعْتَرَفَ بِبَعْضِهَا وَأَنْكَرَ بَعْضَهَا، فاستتيب من ذلك واستكتب خطه بِالرُّجُوعِ عَمَّا نُقِمَ عَلَيْهِ، وَضُرِبَ سَبْعَ دُرَرٍ بِإِشَارَةِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَنُفِيَ إلى البصرة. فَدَعَا عَلَى الْوَزِيرِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ وَيُشَتَّتَ شمله، فكان ذلك عما قريب. وفي جمادى الآخرة نادى ابن الحرسي صاحب الشرطة في الجانبين من بغداد
__________
[1] سقط من المصرية.(11/181)
أَنْ لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي محمد البربهاري الواعظ الحنبلي. وحبس من أصحابه جماعة، واستتر ابن الْبَرْبَهَارِيُّ فَلَمْ يَظْهَرْ مُدَّةً. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: وَفِي شَهْرِ أَيَّارَ تَكَاثَفَتِ الْغُيُومُ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ جِدًّا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ منه- وهو الخامس والعشرين من جمادى الآخرة منها- هاجت ريح شديدة جدا وأظلمت الأرض وَاسْوَدَّتْ إِلَى بَعْدِ الْعَصْرِ، ثُمَّ خَفَّتْ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى بَعْدِ عَشَاءِ الْآخِرَةِ.
وَفِيهَا اسْتَبْطَأَ الْأَجْنَادُ أَرْزَاقَهُمْ فَقَصَدُوا دَارَ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ فَنَقَبُوهَا وَأَخَذُوا مَا فِيهَا وَوَقَعَ حريق عظيم في طريق الموازين، فاحترق للناس شيء كثير، فعوض عليهم الراضي بَعْضَ مَا كَانَ ذَهَبَ لَهُمْ. وَفِي رَمَضَانَ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى بَيْعَةِ جَعْفَرِ بن المكتفي، فظهر الْوَزِيرُ عَلَى أَمْرِهِمْ فَحَبَسَ جَعْفَرًا وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَحَبَسَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانَ بَايَعَهُ، وَانْطَفَأَتْ نَارُهُ. وخرج الحجاج في غفارة الأمير لؤلؤ فاعترضهم أبو طاهر القرمطى فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَرَجَعَ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ إِلَى بَغْدَادَ، وَبَطَلَ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ طريق العراق. قال ابن الجوزي: وفيها تساقطت كواكب كثيرة ببغداد والكوفة على صورة لم ير مثلها، ولا ما يقاربها، وَغَلَا السِّعْرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا. وَفِيهَا على الصحيح كان مقتل مرداويج بن زياد الديلميّ، وكان قبحه الله سيء السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، يَزْعُمُ أَنَّ رُوحَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ حَلَّتْ فِيهِ، وَلَهُ سَرِيرٌ مِنْ ذَهَبٍ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَالْأَتْرَاكُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ سُخِّرُوا لِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ يسيء المعاملة لجنده وَيَحْتَقِرُهُمْ غَايَةَ الِاحْتِقَارِ، فَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبُهُ حتى أمكنهم الله منه فقتلوه شر قتلة فِي حَمَّامٍ، وَكَانَ الَّذِي مَالَأَ عَلَى قَتْلِهِ غلامه بحكم التركي، وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ رَهِينَةً عِنْدَهُ فأطلق لما قتل، فَذَهَبَ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ مَعَهُ إِلَى أَخِيهِ، وَالْتَفَّتْ طَائِفَةٌ منهم عَلَى بَجْكَمَ فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صُرِفُوا إِلَى الْبَصْرَةِ فَكَانُوا بِهَا. وَأَمَّا الدَّيْلَمُ فَإِنَّهُمْ بَعَثُوا إِلَى أَخِي مَرْدَاوِيجَ وَهُوَ وُشْمَكِيرُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ تَلَقَّوْهُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ حُفَاةً مُشَاةً فملكوه عليهم لئلا يذهب ملكهم، فانتدب إلى محاربته الملك السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ وما وراء النهر، وَمَا وَالَاهَا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ، فَانْتَزَعَ مِنْهُ بُلْدَانًا هَائِلَةً. وَفِيهَا بَعَثَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْفَاطِمِيُّ جَيْشًا مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ فِي الْبَحْرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْفِرِنْجِ فَافْتَتَحُوا مَدِينَةَ جَنَوَةَ وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَثَرْوَةً. وَرَجَعُوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ. وَفِيهَا بعث عماد الدَّوْلَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى بِلَادِ الجبل واتسعت مملكته جدا. وفيها كان غلاء شديد بخراسان، ووقع بها فناء كثير، بحيث كان بهمهم أَمْرُ دَفْنِ الْمَوْتَى. وَفِيهَا قَتَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أبو الحسن بْنِ حَمْدَانَ نَائِبُ الْمَوْصِلِ عَمَّهُ أَبَا الْعَلَاءِ سَعِيدَ بْنَ حَمْدَانَ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ فِي جُيُوشٍ، فَهَرَبَ مِنْهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُ ابْنِ مُقْلَةَ بِالْمَوْصِلِ ولم يقدر على ناصر الدولة رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ، فَاسْتَقَرَّتْ(11/182)
يد ناصر الدولة على الموصل. وبعث به إلى الخليفة أن يضمنه تِلْكَ النَّاحِيَةَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى مَا كَانَ. وَخَرَجَ الْحَجِيجُ فَلَقِيَهُمُ الْقُرْمُطَيْ فقاتلهم وظفر بِهِمْ فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا بغداد فرجعوا، وتعطل الحج عامهم ذلك أيضا.
وفيها توفى من الأعيان
نفطويه النحويّ
واسمه إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ الْأَزْدِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَتَكِيُّ الْمَعْرُوفُ بِنِفْطَوَيْهِ النَّحْوِيِّ. لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى عَنِ الْمَشَايِخِ وَحَدَّثَ عَنْهُ الثقات، وَكَانَ صَدُوقًا، وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عن نفطويه أنه مر عَلَى بَقَّالٍ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ كَيْفَ الطريق إلى درب الرآسين- يَعْنِي دَرْبَ الرَّوَّاسِينَ- فَالْتَفَتَ الْبَقَّالُ إِلَى جَارِهِ فَقَالَ لَهُ: قَبَّحَ اللَّهُ غُلَامِي أَبْطَأَ عَلَيَّ بالسلق، ولو كان عندي لصفعت هذا بحزمة مِنْهُ.
فَانْصَرَفَ عَنْهُ نِفْطَوَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. توفى نفطويه في شهر صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَصَلَّى عَلَيْهِ الْبَرْبَهَارِيُّ رَئِيسُ الْحَنَابِلَةِ، وَدُفِنَ بمقابر دار الكوفة. ومما أنشده أبو على القالي في الأمالي له:
قلبي أرق عليه من خديكا ... وفؤادي أوهى من قوى جفنيكا
لم تَرِقُّ لِمَنْ يُعَذِّبُ نَفْسَهُ ... ظُلْمًا وَيَعْطِفُهُ هَوَاهُ عَلَيْكَا
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وُفِي نِفْطَوَيْهِ يَقُولُ أبو محمد عبد الله بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْوَاسِطِيُّ المتكلم المشهور صاحب الإمامة وإعجاز القرآن وغير ذلك من الكتب مَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى فَاسِقًا فَلْيَجْتَهِدْ أَنْ لَا يَرَى نِفْطَوَيْهْ أَحْرَقَهُ اللَّهُ بِنِصْفِ اسْمِهِ، وَصَيَّرَ الْبَاقِي صُرَاخًا عَلَيْهْ قَالَ الثَّعَالِبِيُّ: إنما سمى نفطويه لدمامته. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لَا يُعْرَفُ مَنِ اسْمُهُ إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سواه.
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي باللَّه الهاشمي العباسي
حدث عن بشار بن نصر الحلبي وغيره. وعنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا فَقِيهًا شَافِعِيًّا.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ أَبُو نُعَيْمٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْحَسَنِ الْبَلْخِيُّ، كَانَ مِنَ الْجَوَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وكان ثقة حافظا، سمع أبا هاشم الرازيّ وغيره. وعنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْبُسْتُنْبَانِ، سَمِعَ الزُّبَيْرَ بن بكار وغيره، وعنه الدار قطنى وغيره. جاوز الثمانين.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة
فِيهَا جَاءَتِ الْجُنْدُ فَأَحْدَقُوا بِدَارِ الْخِلَافَةِ وَقَالُوا: ليخرج إلينا الخليفة الراضي بنفسه فيصلي بالناس.(11/183)
فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ. وَقَبَضَ الْغِلْمَانُ عَلَى الوزير ابن مُقْلَةَ وَسَأَلُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَوْزِرَ غَيْرَهُ فَرَدَّ الْخِيَرَةَ إِلَيْهِمْ، فَاخْتَارُوا عَلِيَّ بْنَ عِيسَى فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَشَارَ بِأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى فَاسْتَوْزَرَهُ، وَأُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ، وَسُلِّمَ هُوَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى فَضُرِبَ ضربا عنيفا، وأخذ خطبه بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ عَجَزَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عِيسَى فَعُزِلَ بَعْدَ خَمْسِينَ يَوْمًا وَقُلِّدَ الوزارة أبو جعفر بْنُ الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ، فَصَادَرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَصَادَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عِيسَى بِسَبْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ عُزِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَقُلِّدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ عُزِلَ بِأَبِي الْفَتْحِ الْفَضْلِ بْنِ جعفر بن الفرات، وذلك فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ. وَأُحْرِقَتْ دَارُهُ كَمَا أُحْرِقَتْ دار ابن مقلة في يوم أحرقت تلك فيه، وسنة بينهما وَاحِدَةٌ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَخْبِيطِ الْأَتْرَاكِ وَالْغِلْمَانِ. وَلَمَّا أُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى بَعْضِ جُدْرَانِهَا:
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ ... وَلَمْ تَخَفْ يوما يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وفيها ضعف أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا، وَبَعَثَ الرَّاضِي إِلَى مُحَمَّدِ بن رائق- وكان بواسط- يدعوه إِلَيْهِ لِيُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ، وَأَمْرَ الْخَرَاجِ والمغل فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَالدَّوَاوِينِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَابِرِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ. فَقَدِمَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ غُلَامُ مَرْدَاوِيجَ، وهو الّذي ساعد على قتل مرداويج. واستحوذ ابن رائق على أموال الْعِرَاقِ بِكَمَالِهِ، وَنَقَلَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى دَارِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْوَزِيرِ تَصَرُّفٌ فِي شَيْءٍ بالكلية، وهي أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا، وَاسْتَقَلَّ نُوَّابُ الْأَطْرَافِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ حَكْمٌ فِي غَيْرِ بَغْدَادَ وَمُعَامَلَاتِهَا. وَمَعَ هَذَا لَيْسَ لَهُ مَعَ ابن رائق نفوذ في شيء، ولا تفرد بشيء، وَلَا كَلِمَةٌ تُطَاعُ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ وَغَيْرِهَا. وَهَكَذَا صَارَ أَمْرُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ من أمراء الأكابر، كانوا لا يرفعون رأسا بالخليفة، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَطْرَافِ فَالْبَصْرَةُ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ هذا، يولى فيها من شاء. وخوزستان إلى أبى عبد الله البريدي، وقد غلب ابن ياقوت على ما كان بيده في هذه السنة من مملكة تستر وغيرها واستحوذ على حواصلها وأموالها. وأمر فارس إلى عماد الدولة بن بويه ينازعه فِي ذَلِكَ وُشْمَكِيرُ أَخُو مَرْدَاوِيجَ وَكَرْمَانُ بِيَدِ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ الْيَسَعَ. وَبِلَادُ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةُ وَدِيَارُ بَكْرٍ وَمُضَرُ وَرَبِيعَةُ مَعَ بَنِي حَمْدَانَ. وَمِصْرُ وَالشَّامُ فِي يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ. وَبِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْمَغْرِبُ فِي يد القائم بأمر الله ابن المهدي الفاطمي، وَقَدْ تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْأَنْدَلُسُ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، الْمُلَقَّبِ بِالنَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ. وَخُرَاسَانُ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي يَدِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ. وَطَبَرِسْتَانُ وَجُرْجَانُ فِي يَدِ الدَّيْلَمِ. وَالْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةُ وَهَجَرُ فِي يَدِ أَبِي طَاهِرٍ سُلَيْمَانِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ القرمطى. وفيها وقع(11/184)
بِبَغْدَادَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ وَفَنَاءٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ عُدِمَ الخبز منها خمسة أيام، ومات من أهلها خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ كَانَ فِي الضُّعَفَاءِ، وكان الموتى يلقون في الطريق ليس لهم من يقوم بهم، ويحمل على الجنازة الواحدة الرجلان مِنَ الْمَوْتَى، وَرُبَّمَا يُوضَعُ بَيْنَهُمْ صَبِيٌّ، وَرُبَّمَا حُفِرَتِ الْحُفْرَةُ الْوَاحِدَةُ فَتُوَسَّعُ حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا جماعة. ومات من أهل أصبهان نحو من مائتي ألف إنسان. وفيها وقع حريق بعمان أحرق فِيهِ مِنَ السُّودَانِ أَلْفٌ، وَمِنَ الْبِيضَانِ خَلْقٌ كثير، وكان جملة ما أحرق فِيهِ أَرْبَعُمِائَةِ حِمْلِ كَافُورٍ. وَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَحْمَدَ بْنَ كَيْغَلَغَ عَنْ نِيَابَةِ الشَّامِ. وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ طُغْجٍ نَائِبِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَفِيهَا ولد عضد الدولة أبو شجاع فنا خسرو بن ركن الدولة بن بويه بأصبهان.
وفيها توفى من الأعيان.
ابن مجاهد المقري
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْعَبَّاسِ بن مجاهد المقري، أحد أئمة هَذَا الشَّأْنِ. حَدَّثَ عَنْ خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَرَوَى عنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، سَكَنَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مَنْ بَغْدَادَ، وَكَانَ ثَعْلَبٌ يَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي عَصْرِنَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْهُ. توفى يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَأُخْرِجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقْرَأُ فَقَالَ لَهُ: أَمَا مُتَّ؟ فَقَالَ: بَلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ عَقِبَ كُلِّ خَتْمَةٍ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ يَقْرَأُ فِي قَبْرِهِ، فَأَنَا مِمَّنْ يَقْرَأُ فِي قَبْرِهِ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَحْظَةُ الشَّاعِرُ الْبَرْمَكِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ الْبَرْمَكِيُّ، أَبُو الْحَسَنِ النَّدِيمُ الْمَعْرُوفُ بِجَحْظَةَ الشَّاعِرُ الْمَاهِرُ الْأَدِيبُ الْأَخْبَارِيُّ، ذُو الْفُنُونِ فِي الْعُلُومِ وَالنَّوَادِرِ الْحَاضِرَةِ، وَكَانَ جَيِّدَ الْغِنَاءِ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نفسها ... ولو كان في العالم من يسمع
كم آمل خيبت آماله ... وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ
وَكَتَبَ لَهُ بَعْضُ الملوك رقعة على صير في بمال أطلقه له فلم يحصل له، فكتب إلى الملك يذكر له ذلك.
إِذَا كَانَتْ صِلَاتُكُمْ رِقَاعًا ... تُخَطَّطُ بِالْأَنَامِلِ وَالْأَكُفِّ
فلا تجد الرقاع على نفعا ... فذا خطى فخذه بِأَلْفِ أَلْفِ
وَمِنْ شَعْرِهِ يَهْجُو صَدِيقًا لَهُ ويذمه على شدة شحه وبخلة وحرصه فقال:
لَنَا صَاحِبٌ مِنْ أَبْرَعِ النَّاسِ فِي الْبُخْلِ ... يسمى بفضل، وهو ليس بِذِي فَضْلِ
دَعَانِي كَمَا يَدْعُو الصَّدِيقُ صَدِيقَهُ ... فَجِئْتُ كَمَا يَأْتِي إِلَى مِثْلِهِ مِثْلِي
فَلَمَّا جَلَسْنَا لِلْغَدَاءِ رَأَيْتُهُ ... يَرَى أَنَّمَا مِنْ بَعْضِ أعضائه أكلى
فيغتاظ أحيانا ويشتم عبده ... فأعلم أَنَّ الْغَيْظَ وَالشَّتْمَ مِنْ أَجْلِي
أَمُدُّ يَدِي سِرًّا لِآكُلَ لُقْمَةً ... فَيَلْحَظُنِي شَزْرًا فَأَعْبَثُ بِالْبَقْلِ(11/185)
إلى أن جنت كفى على جناية ... وذلك أن الجوع أعد منى عَقْلِي
فَأَهْوَتْ يَمِينِي نَحْوَ رِجْلِ دَجَاجَةٍ ... فَجُرَّتْ رجلها كما جرت يدي رجلي
ومن قوى شعره قَوْلُهُ
رَحَلْتُمْ فَكَمْ مِنْ أَنَّةٍ بَعْدَ حَنَّةٍ ... مُبَيِّنَةٍ لِلنَّاسِ حُزْنِي عَلَيْكُمُ
وَقَدْ كُنْتُ أَعْتَقْتُ الْجُفُونَ مِنَ الْبُكَا ... فَقَدْ رَدَّهَا فِي الرِّقِّ شوقي إليكم
وقد أورد له ابن خلكان من شعره الرَّائِقِ قَوْلُهُ:
فَقُلْتُ لَهَا: بَخِلْتِ عَلَيَّ يَقْظَى ... فَجُودِي فِي الْمَنَامِ لِمُسْتَهَامِ
فَقَالَتْ لِي: وَصِرْتَ تَنَامُ أَيْضًا ... وَتَطْمَعُ أَنْ أَزُورَكَ فِي الْمَنَامِ؟
قَالَ: وَإِنَّمَا لَقَّبَهُ بِجَحْظَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المعتز، وذلك لسوء منظره بمآقيه. قال بعض من هجاء:
ببيت جحظه تسعين جُحُوظَهُ ... مِنْ فِيلِ شِطْرَنْجَ وَمِنْ سَرَطَانِ
وَارَحْمَتَا لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذة الآذان
توفى سنة ست وعشرين وقيل أربع وعشرين وثلاثمائة بواسط.
ابن المغلس الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ
الْمَشْهُورُ. لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمُفِيدَةُ فِي مَذْهَبِهِ. أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ داود. وروى عن عبد الله ابن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ دَاوُدَ الْقَنْطَرِيِّ، وأبى قلابة الرياشي، وآخرين. وكان ثقة فقيها فَاضِلًا وَهُوَ الَّذِي نَشَرَ عِلْمَ دَاوُدَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ. تُوفِّيَ بِالسَّكْتَةِ.
أَبُو بَكْرِ بْنُ زِيَادٍ
النَّيْسَابُورِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ وَاصِلِ بْنِ مَيْمُونٍ، أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ مَوْلَى أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ. حدث عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَعَبَّاسٍ الدُّورِيِّ، وخلق. وعنه الدار قطنى وغير واحد من الحفاظ. قال الدار قطنى: لم ير فِي مَشَايِخِنَا أَحْفَظَ مِنْهُ لِلْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ. وَكَانَ أفقه المشايخ، جالس المزني والربيع. وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: كُنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ ابن زياد وكان يحرز مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَحَابِرِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وقال الخطيب: أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: أَعْرِفُ مَنْ قَامَ اللَّيْلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنَمْ إِلَّا جائيا، وَيَتَقَوَّتْ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ حَبَّاتٍ، وَيُصَلِّي صَلَاةَ الغد بطهارة العشاء، ثم يقول: أنا هو كنت أفعل هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ أُمَّ عَبْدِ الرحمن- يعنى أم ولده- أَيْشِ أَقُولُ لِمَنْ زَوَّجَنِي. ثُمَّ قَالَ فِي إِثْرِ هَذَا: مَا أَرَادَ إِلَّا الْخَيْرَ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.(11/186)
عفان بن سليمان
ابن أَيُّوبَ أَبُو الْحَسَنِ التَّاجِرُ، أَقَامَ بِمِصْرَ وَأَوْقَفَ بِهَا أَوْقَافًا دَارَّةً عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى سُلَالَةِ الْعَشَرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَكَانَ تَاجِرًا موسعا عليه في الدنيا، مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحُكَّامِ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ منها
أبو الحسن الْأَشْعَرِيِّ
قِدَمَ بَغْدَادَ وَأَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ وَتَفَقَّهَ بِابْنِ سُرَيْجٍ. وَقَدْ ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية. وذكر ابن خلكان أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةِ الشَّيْخِ أَبِي إسحاق المروزي، وقد كان الأشعري معتزليا فَتَابَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ أَظْهَرَ فضائح المعتزلة وقبائحهم، وله من الكتب: الْمُوجَزُ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى عَنِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ قال: للأشعري خمسة وخمسون تصنيفا. وذكر أن مغله كان في كل سنة سبعة عشر ألف درهم، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ دُعَابَةً، وَأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فاللَّه أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو ذَرٍّ التَّمِيمِيُّ، كَانَ رَئِيسَ جُرْجَانَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعَ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُ إِفْضَالٌ كَثِيرٌ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ. هَارُونُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ أَخُو الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَحَزِنَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الرَّاضِي وَأَمَرَ بنفي بختيشوع ابن يَحْيَى الْمُتَطَبِّبَ إِلَى الْأَنْبَارِ، لِأَنَّهُ اتُّهِمَ فِي عِلَاجِهِ، ثُمَّ شَفَعَتْ فِيهِ أُمُّ الرَّاضِي فَرَدَّهُ.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي وَأَمِيرُ الْأُمَرَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدِينَ واسط لِقِتَالِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ نَائِبِ الْأَهْوَازِ، الَّذِي قَدْ تَجَبَّرَ بِهَا وَمَنَعَ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا سار ابن رائق إلى واسط خرج الحجون فقاتلوه فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بَجْكَمَ فَطَحَنَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُمْ لُؤْلُؤُ أَمِيرُ الشُّرْطَةِ فَاحْتَاطَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ وَنُهِبَتْ دَوْرُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ رَأْسٌ يَرْتَفِعُ، وَقُطِعَتْ أَرْزَاقُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ وَابْنُ رَائِقٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ يَتَهَدَّدَانِهِ فَأَجَابَ إِلَى حَمْلِ كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ يَقُومُ بها، تحمل كل سنة على حدته، وأنه يُجَهِّزَ جَيْشًا إِلَى قِتَالِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ. فَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا وَلَمْ يَبْعَثْ أَحَدًا. ثُمَّ بَعَثَ ابن رائق بجكم وبدرا الحسيني لِقِتَالِ الْبَرِيدِيِّ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ، وَأُمُورٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. ثُمَّ لَجَأَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ وَاسْتَجَارَ بِهِ، وَاسْتَحْوَذَ بَجْكَمُ عَلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ خَرَاجَهَا، وَكَانَ بَجْكَمُ هَذَا شُجَاعًا فَاتِكًا. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى بَجْكَمَ وَعَقَدَ لَهُ الْإِمَارَةَ بِبَغْدَادَ، وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ الْمَشْرِقِ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ.(11/187)
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
أَبُو حَامِدِ الشَّرْقِيِّ، مُوَلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ حَافِظًا كَبِيرَ الْقَدْرِ كَثِيرَ الْحِفْظِ، كَثِيرَ الْحَجِّ. رَحَلَ إِلَى الْأَمْصَارِ وَجَابَ الْأَقْطَارَ، وَسَمِعَ مِنَ الْكِبَارِ، نَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ يَوْمًا فَقَالَ: حَيَاةُ أبى حامد تحول بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْخَزَّازُ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ، وَكَانَ ثِقَةً. لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ غَزِيرَةُ الْفَوَائِدِ. مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى أَبُو الطِّيبِ النَّحْوِيُّ، قال أبو ألوفا له مصفات مَلِيحَةٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنِ الْحَارِثِ بن أبى المبرد وأسامة وثعلب وغيرهم- محمد ابن هَارُونَ أَبُو بَكْرٍ الْعَسْكَرِيُّ الْفَقِيهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ، رَوَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وعباس الدوري وعن الدار قطنى والآجري وغيرهما. والله أعلم
ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الراضي مكتوب بالرومية والتفسير بالعربية، فالرومى بالذهب وَالْعَرَبِيُّ بِالْفِضَّةِ، وَحَاصِلُهُ طَلَبُ الْهُدْنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَوَجَّهَ مَعَ الْكِتَابِ بِهَدَايَا وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ فَاخِرَةٍ، فَأَجَابَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَفُودِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةُ آلَافِ أَسِيرٍ، مَا بَيْنَ ذِكَرٍ وَأُنْثَى عَلَى نَهْرِ الْبَدَنْدُونِ.
وَفِيهَا ارْتَحَلَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْفُرَاتِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الشَّامِ، وَتَرَكَ الْوِزَارَةَ فَوَلِيَهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ضَعِيفَةً جِدًّا، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ، وَطَلَبَ مِنَ ابْنِ رَائِقٍ أَنْ يَفْرُغَ لَهُ عَنْ أَمْلَاكِهِ فَجَعَلَ يُمَاطِلُهُ، فَكَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ يُطْمِعُهُ فِي بَغْدَادَ، وَأَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ رَائِقٍ. وَكَتَبَ ابْنُ مُقْلَةَ أَيْضًا إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ ابْنَ رَائِقٍ وَابْنَ مقاتل، ويضمنهم بألفي دِينَارٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ رَائِقٍ فَأَخَذَهُ فَقَطَعَ يَدَهُ، وَقَالَ: هَذَا أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ جعل يحسّن للراضى أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ وَأَنَّ قَطْعَ يَدِهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَأَنَّهُ يَشُدُّ الْقَلَمَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى الْمَقْطُوعَةِ فَيَكْتُبُ بِهَا، ثُمَّ بَلَغَ ابْنَ رَائِقٍ أَنَّهُ قَدْ كَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِ. فَأَخَذَهُ فَقَطَعَ لِسَانَهُ وَسَجَنَهُ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يخدمه، فكان يستقى الماء بنفسه يتناول الدلو بيده اليسرى ثم يمسكه بفيه ثم يجذب باليسرى ثم يمسك بفيه إلى أن يستقى، وَلَقِيَ شِدَّةً وَعَنَاءً، وَمَاتَ فِي مَحْبِسِهِ هَذَا وحيدا فدفن فيه. ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَهُ نَقْلَهُ فَدُفِنَ فِي دَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَاتَّفَقَ لَهُ أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ: مِنْهَا أَنَّهُ وَزَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَوَلِيَ لِثَلَاثَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ، ودفن ثلاث مرات، وسافر ثلاث سفرات، ومرتين منفيا ومرة إِلَى الْمَوْصِلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهَا دَخَلَ بَجْكَمُ بَغْدَادَ فَقَلَّدَهُ الرَّاضِي إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ مَكَانَ ابْنِ رَائِقٍ، وَقَدْ كَانَ بَجْكَمُ هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي عَلِيٍّ الْعَارِضِ وَزِيرِ مَاكَانَ بْنِ كَالِي الدَّيْلَمِيِّ. فَاسْتَوْهَبَهُ مَا كَانُ مِنَ الْوَزِيرِ فَوَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ فَارَقَ مَا كَانَ وَلَحِقَ بِمَرْدَاوِيجَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَهُ(11/188)
في الحمام كما تقدم. فلما ولاه الخليفة إمرة الأمراء أسكن في دار مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَعَظُمَ أَمَرُهُ جِدًّا وَانْفَصَلَ ابْنُ رَائِقٍ وَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَنَةً وَعَشْرَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَفِيهَا بَعَثَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بويه أخاه معز الدولة فأخذ الْأَهْوَازِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ بَجْكَمَ وَأَعَادَهَا إِلَيْهِ. وَفِيهَا اسْتَوْلَى لَشْكَرَى أَحَدُ أُمَرَاءِ وُشْمَكِيرَ الدَّيْلَمَيِّ عَلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ رُسْتُمَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكُرْدِيِّ، أَحَدِ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ. وَفِيهَا اضْطَرَبَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ جِدًّا وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بعضا، وانكفوا بسبب ذلك عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَزِمُوا بَلَدَهُمْ هَجَرَ لَا يَرُومُونَ مِنْهُ انْتِقَالًا إِلَى غَيْرِهِ، وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ فِقْهَ مَالِكٍ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِهَا فَلَمْ يَقْبَلْ.
ثُمَّ دخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة
في المحرم منها خرج الراضي أمير المؤمنين إِلَى الْمَوْصِلِ لِمُحَارَبَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبِهَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَجْكَمُ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ وَلَدَهُ الْقَاضِي أَبَا نَصْرٍ يُوسُفَ بن عمر، في منصب القضاء، عن امر الخليفة بذلك. وكان فاضلا عالما، ولما انتهى بجكم إلى الموصل وَاقَعَ الْحَسَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ فهزم بجكم ابن حمدان، وقرر الخليفة الموصل والجزيرة، وولى فيها. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ فَإِنَّهُ اغْتَنَمَ غَيْبَةَ الْخَلِيفَةِ عَنْ بَغْدَادَ وَاسْتَجَاشَ بِأَلْفٍ مِنَ الْقَرَامِطَةِ وجاء بهم فدخل بَغْدَادَ فَأَكْثَرَ فِيهَا الْفَسَادَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ وَالْعَفْوَ عَمَّا جَنَى، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبَا الحسين عمر بْنِ يُوسُفَ، وَتَرَحَّلَ ابْنُ رَائِقٍ عَنْ بَغْدَادَ ودخلها الخليفة في جمادى الأولى، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ. وَنَزَلَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أول ليلة من شهر أذار فِي جُمَادَى الْأُولَى مَطَرٌ عَظِيمٌ، وَبَرَدٌ كِبَارٌ، كل واحدة نحو أوقيتين، وَاسْتَمَرَّ فَسَقَطَ بِسَبَبِهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ.
وَظَهَرَ جَرَادٌ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ الْحَجُّ مِنْ جِهَةِ دَرْبِ الْعِرَاقِ قَدْ تَعَطَّلَ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى هَذِهِ السنة، فشفع في الناس الشريف أبو على محمد بْنُ يَحْيَى الْعَلَوِيُّ عِنْدَ الْقَرَامِطَةِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَهُ لشجاعته وكرمه، في أن يمكنهم مِنَ الْحَجِّ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَلَى كُلِّ جَمَلٍ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى الْمَحْمَلِ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ، فاتفقوا معه على ذلك، فخرج الناس في هذه السنة إلى الحج على هذا الشرط، وكان في جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِمْ طَالَبُوهُ بِالْخُفَارَةِ فَثَنَى رَأْسَ رَاحِلَتِهِ وَرَجَعَ وَقَالَ: مَا رَجَعْتُ شُحًّا وَلَكِنْ سَقَطَ عَنِّي الوجوب بطلب هذه الخفارة. وفيها وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيَّ صَاحِبَ الْأَنْدَلُسِ الْمُلَقَّبَ(11/189)
بِالنَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، قَتَلَ وَزِيرَهُ أَحْمَدَ فَغَضِبَ لَهُ أَخُوهُ أُمَيَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ- وَكَانَ نَائِبًا عَلَى مَدِينَةِ شَنْتَرِينَ- فَارْتَدَّ وَدَخَلَ بِلَادِ النَّصَارَى واجتمع بملكهم ردمير ودلهم عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي جَيْشٍ كثيف من الجلالقة فخرج إليهم عبد الرحمن فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنَ الْجَلَالِقَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ كَرَّ الْفِرِنْجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا قَرِيبًا مِمَّنْ قُتِلُوا مِنْهُمْ، ثُمَّ وَالَى الْمُسْلِمُونَ الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، ثُمَّ نَدِمَ أُمَيَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَى مَا صَنَعَ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَبَّلَهُ وَاحْتَرَمَهُ.
وفيها توفى من الأعيان
الحسن بن القاسم بن جعفر بن رحيم
أبو على الدمشقيّ، من أبناء المحدثين كان أَخْبَارِيًّا لَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عن العباس بن الوليد البيروتي وغيره. توفى بِمِصْرَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ أَنَافَ عَلَى الثَّمَانِينَ سَنَةً.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ بِشْرٍ أَبُو عَلِيٍّ الْكَوْكَبِيُّ الْكَاتِبُ، صَاحِبُ الْأَخْبَارِ وَالْآدَابِ، رَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ وَأَبِي العيناء وابن أبى الدنيا. روى عنه الدار قطنى وغيره.
عثمان بن الخطاب
ابن عبد الله أبو عمر والبلوى، الْمَغْرِبِيُّ الْأَشَجُّ، وَيُعْرَفُ بِأَبِي الدُّنْيَا. قَدِمَ هَذَا الرَّجُلُ بَغْدَادَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وُلِدَ أَوَّلَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَأَنَّهُ وَفَدَ هُوَ وَأَبَوْهُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأصابهم في الطريق عطش فَذَهَبَ يَرْتَادُ لِأَبِيهِ مَاءً فَرَأَى عَيْنًا فَشَرِبَ منها واغتسل، ثم جاء لأبيه ليسقيه فوجده قد مات، وَقَدِمَ هُوَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَ رُكْبَتَهُ فَصَدَمَهُ الرِّكَابُ فَشَجَّ رأسه، فكان يعرف بالأشج. وقد زعم صدقه في هذا الّذي زعمه طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَرَوَوْا عَنْهُ نُسْخَةً فِيهَا أحاديث من روايته عن على، وممن صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفِيدِ، وَرَوَاهَا عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ الْمُفِيدُ متهما بالتشيع، فسمح له بذلك لِانْتِسَابِهِ إِلَى عَلِيٍّ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَكَذَّبُوهُ فِي ذَلِكَ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ كَذِبَهُ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ النُّسْخَةَ الَّتِي رَوَاهَا مَوْضُوعَةٌ. ومنهم أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّلَفِيُّ، وَأَشْيَاخُنَا الذين أدركناهم: جهبذ الوقت شيخ الإسلام أبو العباس ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَالْجَهْبَذُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ، وَالْحَافِظُ مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ، وَقَدْ حَرَّرْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي التَّكْمِيلِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْمُفِيدُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْأَشَجَّ هَذَا مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلى بلده والله أعلم.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ
أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ، أَصَّلُهُ مِنْ أهل سرمن رَأَى، وَسَكَنَ الشَّامَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِهِ.(11/190)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا الْحَافِظُ الْكَبِيرُ ابْنُ الْحَافِظِ الكبير أبو محمد
عبد الرحمن
ابن أبى حاتم محمد ابن إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَلَهُ التَّفْسِيرُ الْحَافِلُ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى النَّقْلِ الكامل، الّذي يربو فيه على تفسير ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين، إلى زماننا، وَلَهُ كِتَابُ الْعِلَلِ الْمُصَنَّفَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ النَّافِعَةِ، وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْحِفْظِ وَالْكَرَامَاتِ الْكَثِيرَةِ المشهورة على جانب كبير، رحمه الله. وَقَدْ صَلَّى مَرَّةً فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ: لَقَدْ أطلت بنا، ولقد سَبَّحْتُ فِي سُجُودِي سَبْعِينَ مَرَّةً. فَقَالَ عَبْدُ الرحمن: لكنى والله ما سبحت إلا ثلاثا، وقد انهدم سور بلد في بعض بلاد الثغور فقال عبد الرحمن بن أبى حاتم للناس: أما تبنوه؟ وقد حثهم على عمارته. فرأى عندهم تأخرا. فقال: من يبنيه وَأَضْمَنُ لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ؟ فَقَامَ رَجُلٌ من التجار فقال: اكتب لي خطك بهذا الضَّمَانَ وَهَذِهِ أَلْفُ دِينَارٍ لِعِمَارَتِهِ. فَكَتَبَ لَهُ رقعة بذلك، فعمر ذَلِكَ السُّورَ ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُ ذَلِكَ الرَّجُلِ التاجر عَمَّا قَرِيبٍ، فَلَمَّا حَضَرَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ طَارَتْ من كفنه رقعة فإذا هي التي كان كتبها له ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَإِذَا فِي ظَهْرِهَا مَكْتُوبٌ: قَدْ أَمْضَيْنَا لَكَ هَذَا الضَّمَانَ وَلَا تَعُدْ إلى ذلك. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وعشرين وثلاثمائة
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ: فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظَهَرَتْ فِي الْجَوِّ حُمْرَةٌ شَدِيدَةٌ في نَاحِيَةِ الشَّمَالِ وَالْمَغْرِبِ، وَفِيهَا أَعْمِدَةٌ بِيضٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ. وَفِيهَا وَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ رُكْنَ الدولة أبا على الحسن ابن بويه وصل إلى واسط فركب الخليفة وبجكم إلى حربه فخاف فانصرف راجعا إلى الأهواز ورجعا إلى بغداد. وفيها مَلَكَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ مَدِينَةَ أَصْبَهَانَ، أَخَذَهَا مِنْ وُشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوِيجَ، لِقِلَّةِ جَيْشِهِ في هذا الحين. وفي شعبان منها زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً وَانْتَشَرَتْ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَسَقَطَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ، وَانْبَثَقَ بَثْقٌ مِنْ نَوَاحِي الْأَنْبَارِ فَغَرَّقَ قُرًى كَثِيرَةً، وَهَلَكَ بِسَبَبِهِ حيوان وَسِبَاعٌ كَثِيرَةٌ فِي الْبَرِّيَّةِ. وَفِيهَا تَزَوَّجَ بَجْكَمُ بسارة بنت عبد الله البريدي. ومحمد بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْوَزِيرُ يَوْمَئِذٍ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ صُرِفَ عَنِ الْوِزَارَةِ بِسُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ، وَضَمِنَ الْبَرِيدِيُّ بِلَادَ وَاسِطٍ وَأَعْمَالَهَا بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دينار.
وفيها توفى قاضى القضاة أبو الحسن عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ ولده أبو نصر يوسف ابن عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ الخليفة الرَّاضِي يَوْمَ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا. وَلَمَّا خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ إِلَى وَاسِطٍ كَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ يَحُثُّهُ عَلَى الخروج إلى الْجَبَلِ لِيَفْتَحَهَا وَيُسَاعِدُهُ هُوَ عَلَى أَخْذِ الْأَهْوَازِ مِنْ يَدِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَإِنَّمَا كان مقصوده أن يبعده عن بغداد ليأخذها(11/191)
منه. فلما انفصل بجكم بالجنود بلغه ما يريده البريدي من المكيدة به، فَرَجَعَ سَرِيعًا إِلَى بَغْدَادَ، وَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كثيف إليه وأخذ الطرق عليه مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِئَلَّا يَشْعُرَ بِهِ إِلَّا وهو عليه. فاتفق أن بجكما كَانَ رَاكِبًا فِي زَوْرَقٍ وَعِنْدَهُ كَاتِبٌ لَهُ إذ سقطت حمامة فِي ذَنَبِهَا كِتَابٌ فَأَخَذَهُ بَجْكَمُ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فيه كتاب من هذا الكاتب إلى أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ يُعْلِمُهُمْ بِخَبَرِ بَجْكَمَ، فَقَالَ لَهُ بجكم: ويحك هذا خطك؟
قال: نعم! ولم يقدر أن ينكر، فأمر بقتله فقتل وألقى في دجلة. ولما شعر الْبَرِيدِيُّ بِقُدُومِ بَجْكَمَ هَرَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَلَمْ يقم بها أيضا بل هرب منها إلى غيرها. واستولى بَجْكَمُ عَلَى بِلَادِ وَاسِطٍ، وَتَسَلَّطَ الدَّيْلَمُ عَلَى جَيْشِهِ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ بِالْجَبَلِ فَفَرُّوا سِرَاعًا إِلَى بغداد. وفيها اسْتَوْلَى مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ فَدَخَلَ حِمْصَ أَوَّلًا فَأَخَذَهَا، ثُمَّ جَاءَ إِلَى دمشق وعليها بدر بن عبد الله الإخشيد المعروف ببدر الإخشيد وهو محمد بن طغج، فأخرجه ابن رائق من دمشق قهرا واستولى عليها. ثم ركب ابن رائق في جيش إلى الرملة فأخذها، ثم إلى عريش مصر فأراد دخولها فلقيه محمد بن طغج الإخشيد فَاقْتَتَلَا هُنَاكَ فَهَزَمَهُ ابْنُ رَائِقٍ وَاشْتَغَلَ أَصْحَابُهُ بالنهب ونزلوا بخيام الْمِصْرِيِّينَ، فَكَرَّ عَلَيْهِمُ الْمِصْرِيُّونَ فَقَتَلُوهُمْ قَتْلًا عَظِيمًا، وهرب ابن رَائِقٍ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ دمشق في أسوإ حال وشرها، وأرسل له ابن طُغْجٍ أَخَاهُ نَصْرَ بْنَ طُغْجٍ فِي جَيْشٍ فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ اللَّجُّونِ فِي رَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ، فهزم ابن رائق المصريين وقتل أخو الإخشيد فيمن قتل، فغسله ابن رَائِقٍ وَكَفَّنَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ بِمِصْرَ وأرسل معه ولده وكتب إليه يحلف أنه ما أراد قتله، ولقد شق عليه، وَهَذَا وَلَدِي فَاقْتَدْ مِنْهُ. فَأَكْرَمَ الْإِخْشِيدُ وَلَدَ مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، وَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الرَّمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لِلْإِخْشِيدِ، وَيَحْمِلَ إِلَيْهِ الْإِخْشِيدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا بَعْدَ الرملة إلى جهة دمشق تكون لابن رائق.
وفيها توفى من الأعيان.
أبو محمد جعفر المرتعش
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ مِنْ ذوى الأموال فتخلى منها وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ وَأَبَا حَفْصٍ وَأَبَا عُثْمَانَ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ حَتَّى صَارَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ، فَكَانَ يُقَالُ عجائب بغداد إِشَارَاتُ الشِّبْلِيِّ، وَنُكَتُ الْمُرْتَعِشِ، وَحِكَايَاتُ جَعْفَرٍ الْخَوَّاصِ. سمعت أبا جعفر الصَّائِغِ يَقُولُ قَالَ الْمُرْتَعِشُ: مَنْ ظَنَّ أَنَّ أَفْعَالَهُ تُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ أَوْ تُبَلِّغُهُ الرِّضْوَانَ فقد جعل لنفسه وفعله خَطَرًا، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ بَلَّغَهُ اللَّهُ أَقْصَى مَنَازِلِ الرِّضْوَانِ. وَقِيلَ لِلْمُرْتَعِشِ: إِنْ فُلَانًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ إِنَّ مُخَالَفَةَ الهوى أعظم من المشي على الماء، والطيران في الهواء. ولما حضرته الوفاة بِمَسْجِدِ الشُّونِيزِيَّةِ حَسِبُوا مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَإِذَا عَلَيْهِ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ: بِيعُوا خريقاتى هذه واقضوا بها ديني، وأرجو من الله تعالى أن يرزقني(11/192)
كفنا. وقد سألت الله ثلاثا: أن يميتني فقيرا، وَأَنْ يَجْعَلَ وَفَاتِي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَإِنِّي صَحِبْتُ فِيهِ أَقْوَامًا، وَأَنْ يَجْعَلَ عِنْدِي مَنْ آنس به وأحبه. ثم أغمض عَيْنَيْهِ وَمَاتَ.
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ الْحَسَنُ بْنُ أحمد
ابن يزيد بن عيسى بن الفضل بن يسار، أبو سعيد الاصطخرى أحد أئمة الشافعية، كان زاهدا نَاسِكًا عَابِدًا، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِقُمَّ، ثُمَّ حِسْبَةَ بَغْدَادَ، فَكَانَ يَدُورُ بِهَا وَيُصَلِّي عَلَى بَغْلَتِهِ، وهو دائر بَيْنَ الْأَزِقَّةِ، وَكَانَ مُتَقَلِّلًا جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ترجمته في طبقات الشافعية، وَلَهُ كِتَابُ الْقَضَاءِ لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ فِي بَابِهِ، تُوُفِّيَ وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمُزَيِّنُ الصَّغِيرُ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ وَسَهْلًا التُّسْتَرِيَّ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى تُوفِّيَ في هذه السنة، وكان يحكى عن نفسه قال: وَرَدْتُ بِئْرًا فِي أَرْضِ تَبُوكَ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهَا زَلِقْتُ فَسَقَطْتُ فِي الْبِئْرِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يراني. فلما كنت في أسفله إذا فيه مصطبة فتعلقت بها وقلت: إن مت لم أُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ الْمَاءَ وَسَكَنَتْ نَفْسِي وَطَابَتْ لِلْمَوْتِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَفْعَى قَدْ تَدَلَّتْ عَلَيَّ فَلَفَّتْ عَلَيَّ ذَنَبَهَا ثُمَّ رَفَعَتْنِي حَتَّى أَخْرَجَتْنِي إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَانْسَابَتْ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَتْ، وَلَا مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ. وَفِي مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ آخَرُ يُقَالُ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُزَيِّنُ الْكَبِيرُ، جَاوَرَ بِمَكَّةَ وَمَاتَ بِهَا أَيْضًا، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ. رَوَى الْخَطِيبُ عَنْ على بن أبى على إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيَّ عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ قَالَ:
وَدَّعْتُ فِي بَعْضِ حَجَّاتِي الْمُزَيِّنَ الْكَبِيرَ فَقُلْتُ لَهُ: زَوِّدْنِي. فَقَالَ لِي: إِذَا فَقَدْتَ شَيْئًا فَقُلْ يَا جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، اجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ كَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بينك وبين ذلك الشيء. قال: وجئت إِلَى الْكَتَّانِيِّ فَوَدَّعْتُهُ وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُزَوِّدَنِي، فَأَعْطَانِي خَاتَمًا عَلَى فَصِّهِ نَقْشٌ فَقَالَ: إِذَا اغْتَمَمْتَ فانظر إلى فص هذا الخاتم يزول غَمُّكَ. قَالَ: فَكُنْتُ لَا أَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ إلا استجيب لي، ولا انظر في ذلك الفص إلا زال غمي، فبينا أنا ذات يوم في سمرية إِذْ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَأَخْرَجْتُ الْخَاتَمَ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ ذَهَبَ، فَجَعَلْتُ أَدْعُو بذلك الدعاء يومى أجمع أن يجمع على الخاتم، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَتَّشْتُ الْمَتَاعَ الَّذِي فِي الْمَنْزِلِ فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي بَعْضِ ثِيَابِي الَّتِي كَانَتْ بِالْمَنْزِلِ.
صَاحِبُ كِتَابِ الْعِقْدِ الْفَرِيدِ. أحمد بن عبد ربه
ابن حبيب بن جرير بْنِ سَالِمٍ أَبُو عُمَرُ الْقُرْطُبِيُّ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ ابن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ. كَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ الْمُكْثِرِينَ، وَالْعُلَمَاءِ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَكِتَابُهُ الْعِقْدُ يَدُلُّ عَلَى فَضَائِلَ جَمَّةٍ، وعلوم كثيرة مهمة، ويدل كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِ(11/193)
عَلَى تَشَيُّعٍ فِيهِ، وَمَيْلٍ إِلَى الْحَطِّ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ. وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَحَدُ مَوَالِيهِمْ وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يواليهم لا ممن يعاديهم. قال ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ حَسَنٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْهُ أَشْعَارًا فِي التَّغَزُّلِ فِي الْمُرْدَانِ والنسوان أيضا. ولد فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ بِقُرْطُبَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَامِنَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ محمد بن يوسف بن يعقوب
ابن حَمَّادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ الأزدي الفقيه المالكي الْقَاضِي، نَابَ عَنْ أَبِيهِ وَعُمْرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالْفَرَائِضِ. وَالْحِسَابِ وَاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالشِّعْرِ. وَصَنَّفَ مسندا فرزق قُوَّةَ الْفَهْمِ وَجَوْدَةَ الْقَرِيحَةِ، وَشَرَفَ الْأَخْلَاقِ، وَلَهُ الشِّعْرُ الرَّائِقُ الْحَسَنُ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ فِي الْقَضَاءِ، عَدْلًا ثِقَةً إِمَامًا. قَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرْنَا أبو الطيب الطبرسي سَمِعْتُ الْمُعَافَى بْنَ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَجْلِسُ فِي حَضْرَةِ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ فَجِئْنَا يَوْمًا نَنْتَظِرُهُ عَلَى الْعَادَةِ فَجَلَسْنَا عِنْدَ بَابِهِ، وَإِذَا أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ كَأَنَّ لَهُ حَاجَةً، إِذْ وَقَعَ غُرَابٌ عَلَى نَخْلَةٍ فِي الدَّارِ، فَصَرَخَ ثم طار. فقال الأعرابي: إن هذا الغراب يخبر إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّارِ يَمُوتُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ. قَالَ فَزَبَرْنَاهُ فَقَامَ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ خَرَجَ الاذن من القاضي أن هلموا، فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتما، فقلنا له: مَا الْخَبَرُ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ شَخْصًا يَقُولُ:
مَنَازِلَ آلِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ... عَلَى أَهْلِيكِ وَالنِّعَمِ السَّلَامُ
وَقَدْ ضَاقَ لِذَلِكَ صَدْرِي. قَالَ: فَدَعَوْنَا لَهُ وَانْصَرَفْنَا. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ دُفِنَ لِيَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو نَصْرٍ وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ. قَالَ الصُّولِيُّ: بَلَغَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ مَبْلَغًا عَظِيمًا مَعَ حداثة سنه، وحين توفى كان الخليفة الراضي يبكى عليه ويحرضنا وَيَقُولُ: كُنْتُ أَضِيقُ بِالشَّيْءِ ذَرْعًا فَيُوَسِّعُهُ عَلَيَّ، ثم يقول: والله لا بقيت بعده. فتوفى الراضي بعده في نصف ربيع الأول من هذه السنة الآتية رحمهما الله. وكان الراضي أيضا حدث السن.
ابن شنبوذ المقري
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ الصَّلْتِ أبو الحسن المقري الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَنَبُوذَ. رَوَى عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الكجي، وبشر بن موسى وخلق، واختار حروفا في القراءات أنكرت عليه، وصنف أبو بكر الْأَنْبَارِيِّ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ كَيْفَ أَنَّهُ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ في دار الوزير ابن مُقْلَةَ، وَأَنَّهُ ضُرِبَ حَتَّى رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ منها، وكانت قراءات شاذة أنكرها عليه قراء أهل عصره. توفى في صفر منها، وقد دعا على الوزير ابْنِ مُقْلَةَ حِينَ أَمَرَ بِضَرْبِهِ فَلَمْ يُفْلِحِ ابن مقلة بعدها، بل عوقب بأنواع من العقوبات،(11/194)
وقطعت يده ولسانه، وحبس حتى مات في هذه السنة التي مات فيها ابن شنبوذ. وهذه ترجمة ابن مقلة الوزير أحد الكتاب المشاهير وهو.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُقْلَةَ الْوَزِيرِ. وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ ضَعِيفَ الْحَالِ، قليل المال، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ وَلِيَ الوزارة لثلاثة من الخلفاء: الْمُقْتَدِرُ، وَالْقَاهِرُ، وَالرَّاضِي. وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقُطِعَتْ يده ولسانه في آخر عمره، وَحُبِسَ فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَسْنَانِهِ، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَقَدْ كَانَ خَطُّهُ مِنْ أَقْوَى الْخُطُوطِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ. وَقَدْ بَنَى له دارا في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقا من المنجمين، فاتفقوا على وضع أساسها فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، فَأَسَّسَ جُدْرَانَهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ كما أشار به المنجمون. فَمَا لَبِثَ بَعْدَ اسْتِتْمَامِهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خُرِّبَتْ وَصَارَتْ كَوْمًا، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا مَا كَتَبُوا عَلَى جُدْرَانِهَا.
وَقَدْ كَانَ لَهُ بستان كبير جدا، عدة اجربة- أي فدادين- وكان على جميعه شبكة من إبريسم، وفيه أنواع الطيور من القماري والهزار والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِي أَرْضِهِ مِنَ الْغِزْلَانِ وَبَقَرِ الوحش والنعام وغير ذلك شَيْءٌ كَثِيرٌ أَيْضًا. ثُمَّ صَارَ هَذَا كُلُّهُ عما قريب بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء والزوال. وهذه سنة الله في المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء والغرور. وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ حِينَ بَنَى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا:
قل لابن مقلة: لَا تَكُنْ عَجِلًا ... وَاصْبِرْ، فَإِنَّكَ فِي أَضْغَاثِ أحلام
تبنى بأحجر دور الناس مجتهدا ... دارا ستهدم قنصا بَعْدَ أَيَّامِ
مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدَ الْمُشْتَرِيِّ لها ... فكم نحوس بِهِ مِنْ نَحْسِ بَهْرَامِ
إِنَّ الْقُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا ... فِي حَالِ نَقْضٍ وَلَا فِي حال إبرام
فعزل ابن مقلة عن وزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقى الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلى الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ. وَقَاسَى جَهْدًا جهيدا بعد ما ذاق عيشا رغيدا. ومن شعره في يده:
ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة ... بِأَيْمَانِهِمْ، فَبَانَتْ يَمِينِي
بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حتى ... حرموني دنياهم بعد ديني
ولقد حفظت مَا اسْتَطَعْتُ بِجَهْدِي ... حِفْظَ أَرْوَاحِهِمْ، فَمَا حَفَظُونِي(11/195)
لَيْسَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَذَّةُ عَيْشٍ ... يَا حَيَاتِي بَانَتْ يَمِينِي فَبِينِي
وَكَانَ يَبْكِي عَلَى يَدِهِ كثيرا ويقول: كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تُقْطَعُ كَمَا تُقْطَعُ أَيْدِيَ اللُّصُوصِ ثُمَّ يُنْشِدُ:
إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا ... فَإِنَّ البعض من بعض قريب
وقد مات عفا الله عنه فِي مَحْبِسِهِ هَذَا وَدُفِنَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ سَأَلَ وَلَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنْ يُحَوَّلَ إلى عنده فَأُجِيبَ فَنَبَشُوهُ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ. ثُمَّ سَأَلَتْ زَوْجَتُهُ الْمَعْرُوفَةُ بِالدِّينَارِيَّةِ أَنْ يُدْفَنَ في دارها فأجيبت إلى ذلك فنبش ودفن عندها. فهذه ثلاث مرات. توفى وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
أَبُو بكر ابن الْأَنْبَارِيِّ
مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بَيَانِ بْنِ سَمَاعَةَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ قَطَنِ بْنِ دِعَامَةَ أَبُو بكر الأنباري، صاحب كتاب الوقف والابتداء، وغيره من الكتب النافعة، والمصنفات الكثيرة. كان من بحور العلم في اللغة والعربية والتفسير والحديث، وَغَيْرِ ذَلِكَ. سَمِعَ الْكَدِيمِيَّ وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي وَثَعْلَبًا وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا أَدِيبًا، دَيِّنًا فَاضِلًا من أهل السنة. كان مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ، وَأَكْثَرِهِمْ حِفْظًا له، وكان له من المحافيظ مجلدات كثيرة، أحمال جمال وكان لا يأكل إلا النقالى ولا يشرب ماء إلا قريب العصر، مراعاة لذهنه وحفظه، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ مِائَةً وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا، وَحَفِظَ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا فِي لَيْلَةٍ، وَكَانَ يَحْفَظُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ وَرَقَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ النَّحْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أُمُّ عِيسَى بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، كَانَتْ عَالِمَةً فَاضِلَةً، تُفْتِي فِي الْفِقْهِ. تُوُفِّيَتْ فِي رَجَبٍ ودفنت إلى جانب أبيها رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وعشرين وثلاثمائة
في المنتصف من ربيع الأول كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي باللَّه أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ باللَّه جَعْفَرِ بن المعتضد باللَّه أحمد بن الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ الْعَبَّاسِيِّ، اسْتُخْلِفَ بَعْدَ عَمِّهِ الْقَاهِرِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ تُسَمَّى ظَلُومَ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وكانت خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وعمره يوم مات إحدى وثلاثين سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَ أَسْمَرَ رَقِيقَ السُّمْرَةِ ذرى اللَّوْنِ أَسْوَدَ الشَّعْرِ سَبْطَهُ، قَصِيرَ الْقَامَةِ، نَحِيفَ الْجِسْمِ، فِي وَجْهِهِ طُولٌ، وَفِي مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ تَمَامٌ، وَفِي شَعْرِهَا رِقَّةٌ. هَكَذَا وَصَفَهُ مَنْ شَاهَدَهُ. قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ لِلرَّاضِي فَضَائِلُ كثيرة، وختم الخلفاء في أمور عدة: منها أنه كان آخر خليفة له شعر، وآخرهم انْفَرَدَ بِتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَالْأَمْوَالِ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ(11/196)
خطب على المنبر يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ جَالَسَ الْجُلَسَاءَ وَوَصَلَ إِلَيْهِ النُّدَمَاءُ. وَآخِرَ خَلِيفَةٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَجَوَائِزُهُ وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وأصحابه وأموره كلها تجرى عَلَى تَرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَمِنْ جِيدِ كَلَامِهِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ: للَّه أَقْوَامٌ هُمْ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ، وأقوام هم مَفَاتِيحُ الشَّرِّ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا قصده أَهْلَ الْخَيْرِ وَجَعَلَهُ الْوَسِيلَةَ إِلَيْنَا فَنَقْضِي حَاجَتَهُ وهو الشريك في الثواب والأجر وَالشُّكْرِ.
وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ شَرًّا عَدَلَ به إلى غيرنا وهو الشَّرِيكُ فِي الْوِزْرِ وَالْإِثْمِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَمِنْ أَلْطَفِ الِاعْتِذَارَاتِ مَا كَتَبَ بِهِ الرَّاضِي إِلَى أَخِيهِ الْمُتَّقِي وَهُمَا فِي الْمَكْتَبِ- وَكَانَ الْمُتَّقِي قَدِ اعْتَدَى عَلَى الرَّاضِي والراضي هو الكبير منهما- فكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَنَا مُعْتَرِفٌ لَكَ بِالْعُبُودِيَّةِ فَرْضًا، وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ لِي بِالْأُخُوَّةِ فَضْلًا، وَالْعَبْدُ يُذْنِبُ وَالْمَوْلَى يَعْفُو. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرَ:
يَا ذَا الَّذِي يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ شَيْ ... اعْتِبْ فَعُتْبَاكَ حَبِيبٌ إِلَيْ
أَنْتَ عَلَى أَنَّكَ لِي ظَالِمٌ ... أَعَزُّ خَلْقِ اللَّهِ طُرًّا عَلَيْ
قَالَ فَجَاءَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُتَّقِي فَأَكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُ يَدَيْهِ وَتَعَانَقَا وَاصْطَلَحَا. وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قوله فيما ذكره ابن الأثير في كامله:
يَصْفَرُّ وَجْهِي إِذَا تَأَمَّلَهُ ... طَرْفِي وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ خَجَلَا
حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي بِوَجْنَتِهِ ... مِنْ دَمِ جِسْمِي إِلَيْهِ قَدْ نُقِلَا
قَالَ: وَمِمَّا رَثَى بِهِ أَبَاهُ الْمُقْتَدِرَ:
وَلَوْ أَنَّ حَيًّا كَانَ قَبْرًا لِمَيِّتٍ ... لَصَيَّرْتُ أَحْشَائِي لِأَعْظُمِهِ قَبْرَا
وَلَوْ أَنَّ عُمْرِي كَانَ طَوْعَ مَشِيئَتِي ... وَسَاعَدَنِي الْمَقْدُورُ قَاسَمْتُهُ الْعُمْرَا
بِنَفْسِي ثَرًى ضَاجَعْتُ فِي تُرْبِهِ الْبِلَى ... لَقَدْ ضَمَّ مِنْكَ الْغَيْثَ وَاللَّيْثَ وَالْبَدْرَا
ومما أنشده له ابن الجوزي في منتظمه:
لا تكثرن لومى على الاسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف
أحوى لما يأتي المكارم سَابِقًا ... وَأَشِيدُ مَا قَدْ أَسَّسَتْ أَسْلَافِي
إِنِّي من القوم الذين أكفهم ... معتادة الاملاق والإتلاف
ومن شعره الّذي رواه الخطيب عنه مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصولي النديم قَوْلُهُ:
كُلُّ صَفْوٍ إِلَى كَدَرْ ... كُلُّ أَمْنٍ إلى حذر
ومصير الشباب للموت ... فِيهِ أَوِ الْكِبَرْ
دَرَّ دَرُّ الْمَشِيبِ مِنْ ... وَاعِظٍ يُنْذِرُ الْبَشَرْ(11/197)
أَيُّهَا الْآمِلُ الَّذِي ... تَاهَ فِي لُجَّةِ الْغَرَرْ
أَيْنَ مَنُ كَانَ قَبْلَنَا ... دَرَسَ الْعَيْنُ وَالْأَثَرْ
سيرد المعاد من ... عمره كله خطر
رب إني ادخرت ... عندك أرجوك مدخر
رب إني مُؤْمِنُّ بِمَا ... بَيَّنَ الْوَحْيِ فِي السُّوَرْ
وَاعْتِرَافِي بترك نفعي ... وإيثاري الضرر
رب فاغفر لى الخطيئة ... ، يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرْ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِعِلَّةِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي لَيْلَةِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ ربيع الأول منها. وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ أن يعهد إِلَى وَلَدِهِ الْأَصْغَرِ أَبِي الْفَضْلِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ، وَبَايَعَ النَّاسُ أَخَاهُ الْمُتَّقِي للَّه إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مقدورا.
ذكر خلافة المتقى باللَّه أبى إسحاق إبراهيم بن المقتدر
لَمَّا مَاتَ أَخُوهُ الرَّاضِي اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ بِدَارِ بَجْكَمَ وَاشْتَوَرُوا فِيمَنْ يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ، فَاتَّفَقَ رأيهم كلهم على المتقى، فأحضروه في دَارِ الْخِلَافَةِ وَأَرَادُوا بَيْعَتَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ الاستخارة وهو على الأرض، ثم صعد إلى الكرسي بعد الصلاة، ثم صعد إلى السرير وبايعه الناس يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ منها، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا، وَلَا غَدَرَ بِأَحَدٍ حَتَّى وَلَا عَلَى سُرِّيَّتِهِ لَمْ يُغَيِّرْهَا ولم يتسر عليها. وكان كاسمه المتقى باللَّه كثير الصيام والصلاة والتعبد. وقال: لا أريد جليسا ولا مسامرا، حسبي المصحف نديما، لا أريد نديما غيره. فانقطع عنه الجلساء والسمار والشعراء والوزراء والتفوا على الأمير بجكم، وكان يجالسهم ويحادثونه ويتناشدون وعنده الأشعار، وكان بجكم لَا يَفْهَمُ كَثِيرَ شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُونَ لِعُجْمَتِهِ، وكان في جملتهم سنان بن ثابت الصابي الْمُتَطَبِّبُ، وَكَانَ بَجْكَمُ يَشْكُو إِلَيْهِ قُوَّةَ النَّفْسِ الغضبية فيه، وكان سِنَانٌ يُهَذِّبُ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَيُسَكِّنُ جَأْشَهُ، وَيُرَوِّضُ نَفْسَهُ حَتَّى يَسْكُنَ عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ يتعاطاه من سفك الدماء، وكان المتقى باللَّه حَسَنَ الْوَجْهِ مُعْتَدِلَ الْخُلُقِ قَصِيرَ الْأَنْفِ أَبْيَضَ مُشْرَبًا حُمْرَةً، وَفِي شِعْرِهِ شُقْرَةٌ، وَجُعُودَةٌ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، أَشْهَلُ الْعَيْنَيْنِ، أَبِيُّ النَّفْسِ. لَمْ يَشْرَبِ خمرا ولا نبيذا قَطُّ، فَالْتَقَى فِيهِ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وللَّه الْحَمْدُ. ولما استقر المتقى في الخلافة أنفذ الرسول وَالْخِلَعَ إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ، وَنَفَذَتِ الْمُكَاتَبَاتُ إلى الآفاق بولايته.
وفيها تَحَارَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وبَجْكَمُ بِنَاحِيَةِ الْأَهْوَازِ، فَقُتِلَ بَجْكَمُ فِي الْحَرْبِ وَاسْتَظْهَرَ الْبَرِيدِيُّ عَلَيْهِ وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَاحْتَاطَ الْخَلِيفَةُ عَلَى حَوَاصِلِ بجكم، وكان فِي جُمْلَةِ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِ أَلْفُ ألف دينار، ومائة أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَتْ أَيَّامُ بَجْكَمَ عَلَى بَغْدَادَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ إِنَّ(11/198)
البريدي حدثته نفسه ببغداد، فأنفق المتقى أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي الْجُنْدِ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ، فركب بنفسه، فخرج لأثناء الطريق ليمنعه من دخول بغداد، فَخَالَفَهُ الْبَرِيدِيُّ وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي ثَانِي رَمَضَانَ، ونزل بالشفيع، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمُتَّقِي ذَلِكَ بَعْثَ إِلَيْهِ يُهَنِّئُهُ وأرسل إليه بالأطعمة، وخوطب بالوزير ولم يخاطبه بإمرة الأمراء. فأرسل البريدي يطلب من المتقى خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ فبعث إليه يتهدده ويتوعده ويذكره ما حل بالمعز والمستعين والمهتدي والقاهر. واختلفت الرسل بينهم، ثم كان آخر ذلك أن بعث الخليفة إليه بِذَلِكَ قَهْرًا، وَلَمْ يَتَّفِقِ اجْتِمَاعُ الْخَلِيفَةِ وَالْبَرِيدِيِّ ببغداد حتى خرج منها البريدي إِلَى وَاسِطٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَارَتْ عَلَيْهِ الدَّيَالِمَةُ وَالْتَفُّوا عَلَى كَبِيرِهِمْ كُورْتَكِينَ، وَرَامُوا حَرِيقَ دَارِ البريدي، ونفرت عن البريدي طائفة من جيشه، يقال لهم البجكمية، لأنه لما قبض المال من الخليفة لم يعطهم منه شيئا، وكانت من الْبَجْكَمِيَّةُ طَائِفَةً أُخْرَى قَدِ اخْتَلَفَتْ مَعَهُ أَيْضًا وهم والديالمة قد صاروا حزبين. والتفوا مع الديالمة فَانْهَزَمَ الْبَرِيدِيُّ مِنْ بَغْدَادَ يَوْمَ سَلْخِ رَمَضَانَ، واستولى كُورْتَكِينُ عَلَى الْأُمُورِ بِبَغْدَادَ، وَدَخَلَ إِلَى الْمُتَّقِي فَقَلَّدَهُ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى الْمُتَّقِي عَلِيَّ بْنَ عِيسَى وَأَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَفَوَّضَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ، ثُمَّ قَبَضَ كُورْتَكِينُ عَلَى رَئِيسِ الأتراك بكبك غُلَامِ بَجْكَمَ وَغَرَّقَهُ. ثُمَّ تَظَلَّمَتِ الْعَامَّةُ مِنَ الديلم، لأنهم كانوا يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ دُورَهُمْ، فَشَكَوَا ذَلِكَ إِلَى كُورْتَكِينَ فَلَمْ يُشْكِهِمْ، فَمَنَعَتِ الْعَامَّةُ الْخُطَبَاءَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْجَوَامِعِ، وَاقْتَتَلَ الدَّيْلَمُ وَالْعَامَّةُ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ. وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ صَاحِبِ الشَّامِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الديلم ومن البريدي، فَرَكِبَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْبَجْكَمِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحِينَ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ حَادَ عَنْ طَرِيقِهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَتَرَاسَلَا ثُمَّ اصْطَلَحَا، وَحَمَلَ ابْنُ حَمْدَانَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ ابْنُ رَائِقٍ مِنْ بَغْدَادَ خَرَجَ كُورْتَكِينُ فِي جَيْشِهِ لِيُقَاتِلَهُ، فَدَخَلَ ابْنُ رَائِقٍ بَغْدَادَ مِنْ غَرْبِيِّهَا وَرَجَعَ كورتكين بجيشه فدخل من شرقيها، ثم تصافوا ببغداد للقتال وساعدت الْعَامَّةُ ابْنَ رَائِقٍ عَلَى كُورْتَكِينَ فَانْهَزَمَ الدَّيْلَمُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ كُورْتَكِينُ فَاخْتَفَى، واستقر أمر ابن رائق وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَرَكِبَ هُوَ وَإِيَّاهُ فِي دجلة فظفر ابْنُ رَائِقٍ بِكُورْتَكِينَ فَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ الَّذِي فِي دَارِ الْخِلَافَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي عشر جمادى الأولى حضر الناس لصلاة الجمعة يجامع براثى، وقد كان المقتدر أحرق هذا الجامع لأنه كبسه فَوُجِدَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلسَّبِّ وَالشَّتْمِ، فَلَمْ يَزَلْ خَرَابًا حَتَّى عَمَّرَهُ بَجْكَمُ فِي أَيَّامِ الرَّاضِي، ثُمَّ أَمَرَ الْمُتَّقِي بِوَضْعِ مِنْبَرٍ فِيهِ كَانَ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّشِيدِ وصلى فيه الناس الْجُمُعَةَ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ تُقَامُ فِيهِ إِلَى ما بعد سنة خمسين وأربعمائة. قال: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ(11/199)
فِي لَيْلَةِ سَابِعِهِ كَانَتْ لَيْلَةُ بَرْدٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، فَسَقَطَتِ الْقُبَّةُ الْخَضْرَاءُ مِنْ قَصْرِ الْمَنْصُورِ، وقد كانت هذه القبة تاج بغداد وَمَأْثُرَةً مِنْ مَآثِرِ بَنِي الْعَبَّاسِ عَظِيمَةً، بُنِيَتْ أول ملكهم، وكان بين بنيانها وسقوطها مائة وسبعة وثمانون سنة. قال: وخرج عن الناس التشرينان والكانونان منها ولم يمطروا فيها بشيء سوى مطرة واحدة لم ينبل منها التراب، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ دِينَارًا.
وَوَقَعَ الْفَنَاءُ فِي النَّاسِ حَتَّى كَانَ الْجَمَاعَةُ يُدْفَنُونَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، مِنْ غير غسل ولا صلاة، وبيع العقار والإناث بأرخص الأسعار، حتى كان يشترى بالدرهم ما يساوى الدينار في غير تلك الأيام وَرَأَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهَا وَهُوَ يَأْمُرُهَا بِخُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِامْتِثَالِ ذَلِكَ فَصَلَّى النَّاسُ وَاسْتَسْقَوْا فَجَاءَتِ الْأَمْطَارُ فَزَادَتِ الْفُرَاتَ شَيْئًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَغَرِقَتِ الْعَبَّاسِيَّةُ، ودخل الماء الشوارع بِبَغْدَادَ، فَسَقَطَتِ الْقَنْطَرَةُ الْعَتِيقَةُ وَالْجَدِيدَةُ، وَقَطَعَتِ الْأَكْرَادُ الطريق على قافلة من خراسان، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ بَجْكَمَ التُّرْكِيِّ. وخرج الناس للحج ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بِسَبَبِ رَجُلٍ من العلويين قد خرج بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَخَرَجَ عَنِ الطاعة.
وفيها توفى من الأعيان
أحمد بن إبراهيم
ابن تزمرد الْفَقِيهُ أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ سُرَيْجٍ. خَرَجَ مِنَ الحمام إلى خارجة فسقط عليه الحمام فمات من فوره
بجكم التركي
أمير الأمراء ببغداد، قبل بنى بويه. كان عَاقِلًا يَفْهَمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا. يَقُولُ أَخَافُ أَنْ أُخْطِئَ وَالْخَطَأُ مِنَ الرَّئِيسِ قَبِيحٌ. وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَكَانَ كثير الأموال والصدقات، ابتدأ يعمل مَارَسْتَانَ بِبَغْدَادَ فَلَمْ يَتِمَّ، فَجَدَّدَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ابن بويه، وكان بجكم يقول: العدل ربح السلطان فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَكَانَ يَدْفِنُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً في الصحراء، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يُدْرَ أَيْنَ هِيَ، وَكَانَ ندماء الراضي قد التفوا على بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ، وَكَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِثَمَانِمِائَةِ ألف دينار من الخليفة، وكانوا يسامرونه كالخليفة، وكان لَا يَفْهَمُ أَكْثَرَ مَا يَقُولُونَ، وَرَاضَ لَهُ مزاجه الطيب سنان بن ثابت الصابي حَتَّى لَانَ خُلُقُهُ وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُ، وَقَلَّتْ سَطْوَتُهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَمَّرْ إِلَّا قَلِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرَّةً رَجُلٌ فَوَعَظَهُ فَأَبْكَاهُ فَأَمَرَ له بمائة ألف درهم، فلحقه بها الرسول فَقَالَ بَجْكَمُ لِجُلَسَائِهِ: مَا أَظُنُّهُ يَقْبَلُهَا وَلَا يريدها، وما يصنع هذا بالدنيا؟ هذا رجل مشغول بالعبادة، ماذا يصنع بالدراهم؟ فما كان بأسرع من أن رجع الغلام وليس معه شيء، فقال بجكم: قَبِلَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ! فَقَالَ بَجْكَمُ: كُلُّنَا صَيَّادُونَ ولكن الشباك مختلفة. توفى لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَسَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ يَتَصَيَّدُ فَلَقِيَ طَائِفَةً مِنَ الْأَكْرَادِ فَاسْتَهَانَ بِهِمْ فَقَاتَلُوهُ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ. وَكَانَتْ إِمْرَتُهُ عَلَى بَغْدَادَ سَنَتَيْنِ وثمانية(11/200)
أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ. وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، أَخَذَهَا المتقى للَّه كلها.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ
الْعَالَمُ الزَّاهِدُ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الواعظ، صاحب المروزي وَسَهْلًا التُّسْتَرِيَّ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ، - وَكَانَ سَبْعِينَ أَلْفًا- لِأَمَرٍ كَرِهَهُ. وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أهل البدع والمعاصي، وكان كبير القدر تعظمه الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَقَدْ عَطَسَ يَوْمًا وَهُوَ يَعِظُ فشتمه الْحَاضِرُونَ، ثُمَّ شَمَّتَهُ مَنْ سَمِعَهُمْ حَتَّى شَمَّتَهُ أَهْلُ بَغْدَادَ، فَانْتَهَتِ الضَّجَّةُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَغَارَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ وَتَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ من أرباب الدولة، فطلب فاختفى عند أخت بوران شهرا، ثم أخذه القيام- داء- فمات عندها، فأمرت خادمها فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَامْتَلَأَتِ الدَّارُ رِجَالًا عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بياض. ودفنته عندها ثم أوصت إذا ماتت أَنْ تُدْفَنَ عِنْدَهُ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ ستا وتسعين سنة رحمه الله.
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ
أَبُو بَكْرٍ الْأَزْرَقُ- لِأَنَّهُ كَانَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ- التَّنُوخِيُّ الْكَاتِبُ، سَمِعَ جَدَّهُ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ، والحسين بْنَ عَرَفَةَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ كَثِيرَ الصدقة. فيقال إِنَّهُ تَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ أَمَّارًا بالمعروف نهاء عن المنكر، روى عنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا.
تُوُفِّيَ في ذي الحجة منها عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثلاثين وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظهر كوكب بذنب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وَكَانَ عَظِيمًا جِدًّا، وَذَنَبُهُ مُنْتَشِرٌ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِلَى أَنِ اضْمَحَلَّ. قَالَ: وَفِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَلَغَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ مائتي دينار، وَأَكَلَ الضُّعَفَاءُ الْمَيْتَةَ، وَدَامَ الْغَلَاءُ وَكَثُرَ الْمَوْتُ، وتقطعت السبل وشغل الناس بالمرض والفقر، وتركوا دفن الموتى، وشغلوا عَنِ الْمَلَاهِي وَاللَّعِبِ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ مَطَرٌ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ، وَبَلَغَتْ زِيَادَةُ دِجْلَةَ عِشْرِينَ ذِرَاعًا وثلثا. وذكر ابن الأثير في الكامل أن محمد بن رائق وقع بينه وبين البريدي وحشة لأجل أن البريدي منع خراج واسط، فَرَكَّبَ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ لِيَتَسَلَّمَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ، فَوَقَعَتْ مُصَالَحَةٌ وَرَجَعَ ابْنُ رَائِقٍ إلى بغداد، فَطَالَبَهُ الْجُنْدُ بِأَرْزَاقِهِمْ، وَضَاقَ عَلَيْهِ حَالُهُ، وَتَحَيَّزَ جماعة من الأتراك عنه إلى البريدي فضعف جانب ابن رائق وكاتب الْبَرِيدِيَّ بِالْوِزَارَةِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ قَطَعَ اسْمَ الْوِزَارَةِ عنه، فاشتد حنق البريدي عليه، وَعَزَمَ عَلَى أَخْذِ بَغْدَادَ، فَبَعَثَ أَخَاهُ أَبَا الحسين في جيش إلى بغداد، فَتَحَصَّنَ ابْنُ رَائِقٍ مَعَ الْخَلِيفَةِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ ونصبت فيها المجانيق والعرادات- العرادة شيء أصغر من المنجنيق- على دجلة أيضا. فاضطربت أهل بَغْدَادُ وَنَهَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَجَاءَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ بِمَنْ مَعَهُ فَقَاتَلَهُمُ النَّاسُ(11/201)
في البر وفي دجلة، وتفاقم الحال جدا، مع ما الناس فيه من الغلاء والوباء والفناء. ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ وَابْنَ رَائِقٍ انْهَزَمَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ- وَمَعَ الخليفة ابنه مَنْصُورٍ- فِي عِشْرِينَ فَارِسًا، فَقَصَدُوا نَحْوَ الْمَوْصِلِ، واستحوذ أبو الحسين على دار الخلافة وقتل من وجد فيها مِنَ الْحَاشِيَةِ، وَنَهَبُوهَا حَتَّى وَصَلَ النَّهْبُ إِلَى الْحَرِيمِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْقَاهِرِ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أعمى مكفوفا، وَأَخْرَجُوا كُورْتَكِينَ مِنَ الْحَبْسِ، فَبَعَثَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ إلى الْبَرِيدِيِّ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، وَنَهَبُوا بَغْدَادَ جِهَارًا عَلَانِيَةً، وَنَزَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الخادم الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا ابْنُ رَائِقٍ، وَكَانُوا يَكْبِسُونَ الدُّورَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَثُرَ الْجَوْرُ وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا، وَضَرَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَكْسَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَذَاقَ أَهْلُ بَغْدَادَ لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وكان معه طائفة كبيرة مِنَ الْقَرَامِطَةِ فَأَفْسَدُوا فِي الْبَلَدِ فَسَادًا عَظِيمًا، ووقع بينهم وبين الأتراك حروب طويلة شديدة، فغلبهم الترك وأخرجوهم من بغداد، فوقعت الحرب بين العامة والديلم جند أبى الحسين. وفي شعبان منها اشْتَدَّ الْحَالُ أَيْضًا وَنُهِبَتِ الْمَسَاكِنُ وَكُبِسَ أَهْلُهَا ليلا ونهارا، وخرج جند الْبَرِيدِيِّ فَنَهَبُوا الْغَلَّاتِ مِنَ الْقُرَى وَالْحَيَوَانَاتِ، وَجَرَى ظلم لم يسمع بمثله. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِيَعْلَمَ الظلمة أن أخبارهم الشنيعة تنقل وتبقى بعدهم على وجه الأرض وفي الكتب، ليذكروا بها ويذموا ويعابوا، ذلك لهم خزي في الدنيا وأمرهم إلى الله لعلهم أن يتركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه للَّه. وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ أَرْسَلَ وَهُوَ بِبَغْدَادَ إِلَى ناصر الدولة بن حمدان نائب الموصل يستمده ويستحثه عَلَى الْبَرِيدِيِّ، فَأَرْسَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ عَلِيًّا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَمَّا كَانَ بِتَكْرِيتَ إِذَا الْخَلِيفَةُ وَابْنُ رَائِقٍ قَدْ هَرَبَا فرجع معهما سيف الدولة إلى أخيه، وخدم سيف الدولة الخليفة خدمة كثيرة. ولما صلوا إِلَى الْمَوْصِلِ خَرَجَ عَنْهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فَنَزَلَ شرقها، وأرسل التحف والضيافات، ولم يجئ إلى الخليفة خَوْفًا مِنَ الْغَائِلَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ رَائِقٍ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ وَلَدَهُ أَبَا مَنْصُورٍ وَمَعَهُ ابْنُ رائق للسلام على ناصر الدولة، فصارا إليه فأمر ناصر الدولة أَنْ يُنْثَرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عَلَى رَأْسِ وَلَدِ الخليفة، وجلسا عنده ساعة، ثم قاما ورجعا، فَرَكِبَ ابْنُ الْخَلِيفَةِ وَأَرَادَ ابْنُ رَائِقٍ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ: اجْلِسِ الْيَوْمَ عِنْدِي حَتَّى نُفَكِّرَ فِيمَا نَصْنَعُ فِي أَمْرِنَا هَذَا، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِابْنِ الْخَلِيفَةِ وَاسْتَرَابَ بالأمر وخشي، فَقَبَضَ ابْنُ حَمْدَانَ بِكُمِّهِ فَجَبَذَهُ ابْنُ رَائِقٍ مِنْهُ فَانْقَطَعَ كُمُّهُ، وَرَكِبَ سَرِيعًا فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَأَمَرَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، وَذَلِكَ يوم الاثنين لسبع بقين من رجب منها. فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ابْنِ حَمْدَانَ فَاسْتَحْضَرَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ يَوْمَئِذٍ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الأمراء، وخلع على أخيه أبى الحسن ولقبه سيف الدولة يومئذ، ولما قتل ابن رائق وبلغ خبر مقتله إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ رَكِبَ إِلَى دِمَشْقَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ نَائِبِ ابْنِ رَائِقٍ وَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَقْتَلِهِ إِلَى بَغْدَادَ فارق(11/202)
أَكْثَرُ الْأَتْرَاكِ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيَّ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، وقبح سَرِيرَتِهِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَقَصَدُوا الْخَلِيفَةَ وَابْنَ حَمْدَانَ فتقوى بهم، وركب هو والخليفة إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْهَا هَرَبَ عَنْهَا أبو الحسين أخو البريدي فدخلها المتقى وَمَعَهُ بَنُو حَمْدَانَ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَذَلِكَ في شوال منها، ففرح المسلمون فرحا شديدا.
وبعث الخليفة إلى أهله- وقد كان أخرجهم إلى سامرا- فردهم، وتراجع أعيان الناس إلى بغداد بعد ما كانوا قد ترحلوا عنها. ورد الخليفة أبا إسحاق الفزاري إِلَى الْوِزَارَةِ وَوَلَّى تُوزُونَ شُرْطَةَ جَانِبَيْ بَغْدَادَ، وَبَعَثَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ فِي جيش وراء أبى الحسين أخى البريدي، فلحقه عِنْدَ الْمَدَائِنِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، ثُمَّ كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنِ انْهَزَمَ أبو الحسين إلى أخيه البريدي بِوَاسِطٍ، وَقَدْ رَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ فَنَزَلَ الْمَدَائِنَ قُوَّةً لِأَخِيهِ. وَقَدِ انْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مرة من أخى البريدي فرده أخوه وزاده جيشا حَتَّى كَسَرَ الْبَرِيدِيَّ، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أصحابه، وقتل منهم خلقا كثيرا. ثُمَّ أَرْسَلَ أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ لِقِتَالِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَانْهَزَمَ مِنْهُ الْبَرِيدِيُّ وَأَخُوهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَتَسَلَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ واسطا، وسيأتي ما كان من خبره في السنة الآتية مع البريدي.
وَأَمَّا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فَإِنَّهُ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي ثَالِثِ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ وَبَيْنَ يديه الأسارى على الجمال، ففرح المسلمون وَاطْمَأَنُّوا وَنَظَرَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَأَصْلَحَ مِعْيَارَ الدِّينَارِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ قَدْ غُيِّرَ عَمَّا كان عليه، فضرب دنانير سماها الا بريزية، فَكَانَتْ تُبَاعُ كُلُّ دِينَارٍ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وإنما كان يباع ما قَبْلَهَا بِعَشْرَةٍ. وَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ عَنِ الْحِجَابَةِ وَوَلَّاهَا سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ، وَجَعَلَ بَدْرًا عَلَى طَرِيقِ الْفُرَاتِ، فَسَارَ إِلَى الْإِخْشِيدِ فَأَكْرَمَهُ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ فَمَاتَ بِهَا. وَفِيهَا وَصَلَتِ الرُّومُ إِلَى قَرِيبِ حَلَبَ فَقَتَلُوا خَلْقًا وَأَسَرُوا نَحْوًا من خمسة عشر ألفا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وفيها دخل نائب طَرَسُوسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ وسلم وأسر من بطارقتهم المشهورين منهم وغيرهم خلقا كثيرا وللَّه الحمد.
وفيها توفى من الأعيان.
إسحاق بن محمد بن يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ الْجُنَيْدَ بن محمد وغيره، من أئمة الصوفية، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا. وَمِنْ كَلَامِهِ الحسن: مَفَاوِزُ الدُّنْيَا تُقْطَعُ بِالْأَقْدَامِ، وَمَفَاوِزُ الْآخِرَةِ تُقْطَعُ بِالْقُلُوبِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبَانٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَحَامِلِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمُحَدِّثُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَدْرَكَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا. وَرَوَى عَنْ جماعة من الأئمة، وعنه الدار قطنى وَخَلْقٌ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ. وَكَانَ صَدُوقًا دَيِّنًا فَقِيهًا مُحَدِّثًا، وَلِيَ قَضَاءَ الْكُوفَةِ سِتِّينَ سَنَةً،(11/203)
وَأُضِيفَ إِلَيْهِ قَضَاءُ فَارِسَ وَأَعْمَالُهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إسماع الحديث وسماعه. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وتسعين سنة. وَقَدْ تَنَاظَرَ هُوَ وَبَعْضُ الشِّيعَةِ بِحَضْرَةِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ فَجَعَلَ الشِّيعِيُّ يَذْكُرُ مَوَاقِفَ عَلَيٍّ يَوْمَ بِدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَخَيْبَرَ وَحُنَيْنٍ وَشَجَاعَتَهُ. ثُمَّ قَالَ لِلْمَحَامِلِيِّ: أَتَعْرِفُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ أَتَعْرِفُ أنت أَيْنَ كَانَ الصَّدِّيقُ يَوْمَ بِدْرٍ؟
كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العريش بمنزلة الرئيس الّذي يحامى عنه، وعلى رضى الله عنه في الْمُبَارَزَةِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ انْهَزَمَ أَوْ قُتِلَ لم يخزل الجيش بسببه. فأفحم الشيعي. وقال الْمَحَامِلِيُّ وَقَدْ قَدَّمَهُ الَّذِينَ رَوَوْا لَنَا الصَّلَاةَ والزكاة والوضوء بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقدموه عليه حَيْثُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا عَبِيدَ وَلَا عشيرة وقد كان أبو بكر يمنع عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجاحف عنه، وإنما قدموه لعلمهم أنه خيرهم. فأفحمه أَيْضًا.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ
أَبُو الحسن الصائغ، أحد الزهاد العباد أَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ. رُوِيَ عَنْ مُمْشَادَ الدينَوَريّ أَنَّهُ شاهد أبا الحسن هذا يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَنَسْرٌ قد نشر عليه جناحه يُظِلُّهُ مِنَ الْحَرِّ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا توفى أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري المتكلم الْمَشْهُورِ، وَكَانَ مُوَلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من ولد أبى موسى الأشعري. قلت: الصحيح أن الأشعري توفى سنة أربع وعشرين ومائتين كما تقدم ذكره هناك. قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ النَّضْرِ الْهَرَوِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تسع وعشرين ومائتين، أخذ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.
قُلْتُ: وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَبُو حَامِدِ بْنُ بِلَالٍ. وَزَكَرِيَّا بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ. وَعَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ سلامة الحافظ، ومحمد بن رائق الأمير ببغداد. وفيها توفى الشيخ:
أَبُو صَالِحٍ مُفْلِحٌ الْحَنْبَلِيُّ
وَاقِفُ مَسْجِدِ أَبِي صَالِحٍ ظَاهِرَ بَابِ شَرْقِيٍّ مِنْ دِمَشْقَ، وَكَانَتْ له كرامات وأحوال ومقامات، واسمه مُفْلِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو صَالِحٍ الْمُتَعَبِّدُ، الّذي ينسب إليه المسجد خارج باب شرقى من دمشق، صحب الشيخ أبا بكر بن سعيد حمدونة الدِّمَشْقِيَّ، وَتَأَدَّبَ بِهِ، وَرَوَى عَنْهُ الْمُوَحِّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُرِّيِّ، وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ العجة قَيِّمُ الْمَسْجِدِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ الدينَوَريّ الدُّقِّيُّ. رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الدُّقِّيِّ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي صَالِحٍ. قَالَ: كُنْتُ أطوف بجبل لكام أطلب العباد فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق رأسه فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَصْنَعُ هَاهُنَا؟ فَقَالَ: أَنْظُرُ وَأَرْعَى. فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَرَى بَيْنَ يَدَيْكَ شيئا تنظر إليه ولا ترعاه إلا هذه العصاة والحجارة. فقال: بل انظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربى، وبالذي أطلعك على إلا صرفت بصرك عنى. فقلت له: نعم ولكن عظني بشيء أنتفع به حتى أمضى عنك. فقال: مَنْ لَزِمَ الْبَابَ أُثْبِتَ فِي الْخَدَمِ، وَمَنْ أكثر ذكر الموت أكثر الندم(11/204)
وَمَنِ اسْتَغْنَى باللَّه أَمِنَ الْعَدَمَ، ثُمَّ تَرَكَنِي ومضى. وقال أبو صالح: مكثت ستة أيام أو سبعة لَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ، وَلَحِقَنِي عَطَشٌ عَظِيمٌ، فجئت إلى النَّهْرَ الَّذِي وَرَاءَ الْمَسْجِدِ فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ، فَتَذَكَّرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) 11: 7 فَذَهَبَ عَنِّي الْعَطَشُ، فَمَكَثْتُ تَمَامَ الْعَشْرَةِ أَيَّامٍ. وقال: مكثت أربعين يوما لم أشرب، ثم شربت، وأخذ رجل فضلتى ثم ذهب إلى امرأته فقال: اشْرَبِي فَضْلَ رَجُلٍ قَدْ مَكَثَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَشْرَبِ الْمَاءَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: وَلَمْ يكن اطلع على ذلك أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْ كَلَامِ أَبِي صَالِحٍ: الدُّنْيَا حَرَامٌ عَلَى الْقُلُوبِ حَلَالٌ عَلَى النُّفُوسِ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَحِلُّ لَكَ أن تنظر بعين رأسك إليه يحرم عليك أن تنظر بعين قلبك إليه. وَكَانَ يَقُولُ: الْبَدَنُ لِبَاسُ الْقَلْبِ وَالْقَلْبُ لِبَاسُ الْفُؤَادِ، وَالْفُؤَادُ لِبَاسُ الضَّمِيرِ، وَالضَّمِيرُ لِبَاسُ السِّرِّ، والسر لباس المعرفة به. ولأبى صالح مناقب كثيرة رحمه الله. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ والله سبحانه أعلم.
نم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة
فيها دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ وَقَدِ انْهَزَمَ عنها الْبَرِيدِيُّ وَأَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ التُّرْكُ على سيف الدولة، فهرب منها قاصدا بغداد، وبلغ أخاه أمير الأمراء خبره فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَنُهِبَتْ دَارُهُ. وكانت دولته عَلَى بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَجَاءَ أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا فنزل بباب حرب، فطلب من الخليفة أَنْ يَمُدَّهُ بِمَالٍ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ تورون، فبعث إليه بأربعمائة ألف درهم، ففرقها بأصحابه. وحين سمع بقدوم تورون خرج من بغداد ودخلها تورون فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ بِبَغْدَادَ. وعند ذلك رجع الْبَرِيدِيُّ إِلَى وَاسِطٍ وَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ بِهَا من أصحاب تورون وكان في أسر تورون غلام سيف الدَّوْلَةِ، يُقَالُ لَهُ ثِمَالٌ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى مَوْلَاهُ ليخبره حاله ويرفع أمره عِنْدَ آلِ حَمْدَانَ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ نَسَا، سَقَطَ مِنْهَا عِمَارَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَهَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ بِبَغْدَادَ فِي أَيْلُولَ وَتِشْرِينَ حَرٌّ شَدِيدٌ يَأْخُذُ بالأنفاس. وفي صفر منها وَرَدَ الْخَبَرُ بِوُرُودِ الرُّومِ إِلَى أَرْزَنَ وَمَيَّافَارِقِينَ وأنهم سبوا.
وفي ربيع الآخر منها عقد أبو منصور إسحاق بن الخليفة المتقى عقده على علوية بنت ناصر الدولة بْنِ حَمْدَانَ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَلِيَ الْعَقْدَ عَلَى الْجَارِيَةِ المذكورة أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، وَلَمْ يَحْضُرْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَضَرَبَ نَاصِرُ الدولة سكة ضرب فيها ناصر الدولة عبد آل محمد.
قال ابن الجوزي: وفيها غَلَتِ الْأَسْعَارُ حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ الْكِلَابَ وَوَقَعَ البلاء فِي النَّاسِ، وَوَافَى مِنَ الْجَرَادِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، حَتَّى بِيعَ مِنْهُ كُلُّ خَمْسِينَ رِطْلًا بالدرهم، فَارْتَفَقَ النَّاسُ بِهِ فِي(11/205)
الْغَلَاءِ. وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ فِيهِ مِنْدِيلًا بِكَنِيسَةِ الرُّهَا كَانَ المسيح قد مسح بها وجهه فصارت صورة وجهه فيه، وأنه متى وصل هذا المنديل يبعث من الأسارى خَلْقًا كَثِيرًا. فَأَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ الْعُلَمَاءَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ قَائِلٍ نَحْنُ أَحَقُّ بِعِيسَى مِنْهُمْ، وَفِي بَعْثِهِ إِلَيْهِمْ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَوَهْنٌ في الدين. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْقَاذُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ لِلنَّاسِ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ بِتِلْكَ الْكَنِيسَةِ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِرْسَالِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ إليهم وتخليص أسرى المسلمين من أيديهم. قال الصولي: وفيها وصل الْخَبَرُ بِأَنَّ الْقِرْمِطِيَّ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَهْدَى إليه أبو عبد الله البريدي هدايا كثيرة، منها مهد من ذهب مرصع بالجوهر، وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت، وغير ذلك. وفيها كثر الرَّفْضُ بِبَغْدَادَ فَنُودِيَ بِهَا مَنْ ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِسُوءٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ. وبعث الخليفة إلى عماد الدولة ابن بُوَيْهِ خِلَعًا فَقَبِلَهَا وَلَبِسَهَا بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ صَاحِبِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَدْ مَرِضَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِالسِّلِّ سَنَةً وَشَهْرًا، وَاتَّخَذَ فِي دَارِهِ بَيْتًا سَمَّاهُ بَيْتَ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابًا نِظَافًا وَيَمْشِي إِلَيْهِ حَافِيًا وَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَتَضَرَّعُ وَيُكْثِرُ الصَّلَاةَ. وَكَانَ يَجْتَنِبُ الْمُنْكِرَاتِ وَالْآثَامَ إِلَى أَنْ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ نُوحُ بن نصر الساماني، ولقب بالأمير الحميد. وقتل مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ النَّسَفِيَّ، وَكَانَ قَدْ طُعِنَ فيه عنده وصلبه.
وفيها توفى من الأعيان
ثابت بن سنان بن قرة الصابي
أبو سعيد الطبيب، أَسْلَمَ عَلَى يَدِ الْقَاهِرِ باللَّه وَلَمْ يُسْلِمْ وَلَدُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَدْ كان مقدما في الطب وفي علوم أخر كثيرة. توفى في ذي القعدة منها بعلة الذرب ولم تغن عنه صناعته شيئا، حتى جَاءَهُ الْمَوْتُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الشعراء في ذلك:
قُلْ لِلَّذِي صَنَعَ الدَّوَاءَ بِكَفِّهِ ... أَتَرُدُّ مَقْدُورًا [عَلَيْكَ قَدْ] جَرَى
مَاتَ الْمُدَاوَى وَالْمُدَاوِي وَالَّذِي ... صنع الدواء بكفه ومن اشترى
وذكر ابن الجوزي في المنتظم وفاة الأشعري فيها وَتَكَلَّمَ فِيهِ وَحَطَّ عَلَيْهِ كَمَا جَرَتِ عَادَةُ الْحَنَابِلَةِ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَشْعَرِيَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَذَكَرَ أنه ولد سنة ستين ومائتين، وتوفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ صَحِبَ الْجُبَّائِيَّ أَرْبَعِينَ سنة ثم رجع عنه، وتوفى ببغداد ودفن بمشرعة السرواني.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ
ابن الصَّلْتِ السَّدُوسَيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ، سَمِعَ جَدَّهُ وعباسا الدوري وغيرهما، وعنه أبو بكر بن مهدي وكان ثقة. روى الْخَطِيبُ أَنَّ وَالِدَ مُحَمَّدٍ هَذَا حِينَ وُلِدَ أَخَذَ طَالَعَ مَوْلِدِهِ الْمُنَجِّمُونَ فَحَسَبُوا عُمْرَهُ وَقَالُوا:
إنه يعيش كذا وكذا. فأرصد أبوه له جبا فكان يلقى فيه عن كل يوم من عمره الّذي أخبروه به(11/206)
دينارا، فلما امتلأ أرصد له جبا آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فكان يضع فيها في كل يوم ثلاثة دنانير على عدد أيام عمر ولده. ومع هذا ما أفاده ذلك شيئا، بل افتقر هذا الولد حَتَّى صَارَ يَسْتَعْطِي مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ يَحْضُرُ مجلس السماع عليه عباءة بلا إزار، فكان يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَهِلُ الْمَجْلِسِ بِشَيْءٍ يَقُومُ بِأَوَدِهِ. والسعيد من أسعده الله عز وجل.
محمد بن مخلد بن جعفر
أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ الْعَطَّارُ، كَانَ يَسْكُنُ الدُّورَ- وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِطَرَفِ بَغْدَادَ- سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ وَمُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ وغيرهم، وعنه الدار قطنى وجماعة، وَكَانَ ثِقَةً فَهِمًا وَاسِعَ الرِّوَايَةِ مَشْكُورَ الدِّيَانَةِ مشهورا بالعبادة. توفى في جمادى الأولى منها، وقد استكمل سبعا وسبعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وَعِشْرِينَ يَوْمًا. الْمَجْنُونُ الْبَغْدَادِيُّ رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الشَّبْلِيِّ قَالَ:
رَأَيْتُ مَجْنُونًا عِنْدَ جَامِعِ الرُّصَافَةِ وَهُوَ عُرْيَانٌ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ، أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ. فقلت له: مالك أَلَا تَسْتَتِرُ وَتَدْخُلُ الْجَامِعَ وَتُصَلِّي؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَقُولُونَ زُرْنَا وَاقْضِ وَاجِبَ حَقِّنَا ... وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَالِي حُقُوقَهُمْ عَنِّي
إِذَا هُمْ رَأَوْا حَالِي وَلَمْ يَأْنَفُوا لَهَا ... وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْهَا أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
فيها خرج المتقى أمير المؤمنين من بغداد إلى الموصل مغاضبا لتورون، وهو إِذْ ذَاكَ بِوَاسِطٍ، وَقَدْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً على الخليفة. وأرسل ابن شير زاد فِي ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى بَغْدَادَ فَأَفْسَدَ فِيهَا وَقَطَعَ ووصل، واستقل بالأمر من غير مراجعة المتقى. فغضب المتقى وخرج منها مغاضبا له بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَوَزِيرِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، قاصدا الموصل إلى بَنِي حَمْدَانَ، فَتَلَقَّاهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى تَكْرِيتَ، ثُمَّ جَاءَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَهُوَ بِتَكْرِيتَ أَيْضًا، وَحِينَ خَرَجَ الْمُتَّقِي مِنْ بَغْدَادَ أَكْثَرَ ابْنُ شيرزاد فيها الفساد، وظلم أهلها وصادرهم، وأرسل يعلم تورون، فَأَقْبَلَ مُسْرِعًا نَحْوَ تَكْرِيتَ فَتَوَاقَعَ هُوَ وَسَيْفُ الدولة فهزم تورون سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَأَخَذَ مُعَسْكَرَهُ وَمُعَسْكَرَ أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ ثُمَّ كَرَّ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ فَهَزَمَهُ تورون أيضا، وانهزم الْمُتَّقِي وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَوْصِلِ إلى نصيبين وجاء تورون فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ رِضَاهُ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ يَقُولُ: لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تُصَالِحَ بَنِي حَمْدَانَ، فَاصْطَلَحُوا، وَضَمِنَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الْمَوْصِلِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ وستمائة ألف، ورجع تورون إِلَى بَغْدَادَ وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ بَنِي حَمْدَانَ. وفي غيبة تورون هذه عَنْ وَاسِطٍ أَقْبَلَ إِلَيْهَا مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ فِي خَلْقٍ مِنَ الدَّيْلَمِ كَثِيرِينَ، فَانْحَدَرَ تورون مُسْرِعًا إِلَى وَاسِطٍ فَاقْتَتَلَ مَعَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بضعة عشر يوما، وكان آخِرَ الْأَمْرِ أَنِ انْهَزَمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَنُهِبَتْ حواصله، وقتل(11/207)
مِنْ جَيْشِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أشراف أصحابه. ثم عاود تورون مَا كَانَ يَعْتَرِيهِ مِنْ مَرَضِ الصَّرَعِ فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ فَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا قَتَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ أَخَاهُ أَبَا يُوسُفَ، وَكَانَ سبب ذلك أن البريدي قَلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ يَسْتَقْرِضُ مِنْ أَخِيهِ أَبِي يُوسُفَ فَيُقْرِضُهُ الْقَلِيلَ، ثم يشنع عليه ويذم تصرفه بمال الجند، إلى أن مال الجند إلى أبى يوسف وأعرض غالبهم عن البريدي، فخشي أن يبايعوه فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنْ غِلْمَانِهِ فَقَتَلُوهُ غِيلَةً، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دَارِهِ وَأَخَذَ جَمِيعَ حَوَاصِلِهِ وأمواله، فكان قيمة ما أخذ منه من الأموال ما يقارب ثلاثمائة ألف أَلْفِ دِينَارٍ. وَلَمْ يُمَتَّعْ بَعْدَهُ إِلَّا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ مَرِضَ فِيهَا مَرَضًا شَدِيدًا بِالْحُمَّى الْحَادَّةِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فقام مقامه أَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ قَبَّحَهُ اللَّهُ فَأَسَاءَ السِّيرَةَ في أصحابه، فثاروا عليه فلجأ إلى القرامطة قبحهم الله فَاسْتَجَارَ بِهِمْ فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ فِي بلاد واسط والبصرة وتلك النواحي ومن الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي للَّه فَإِنَّهُ لما أقام عند أولاد حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُمْ تَضَجُّرٌ، وَأَنَّهُمْ يرغبون في مفارقته. فكتب إلى تورون في الصلح فاجتمع تورون مع القضاة والأعيان وقرءوا كِتَابَ الْخَلِيفَةِ وَقَابَلَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَحَلَفَ لَهُ وَوَضَعَ خَطَّهُ بِالْإِقْرَارِ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ بِالْإِكْرَامِ والاحترام، فَكَانَ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَدُخُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ مَا سيأتي في السنة الآتية.
وفيها أَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرُّوسِ فِي الْبَحْرِ إِلَى نُوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ فَقَصَدُوا بَرْدَعَةَ فَحَاصَرُوهَا، فَلَمَّا ظَفِرُوا بِأَهْلِهَا قَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ وَسَبَوْا مَنِ اسْتَحْسَنُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى المراغة، فَوَجَدُوا بِهَا ثِمَارًا كَثِيرَةً، فَأَكَلُوا مِنْهَا فَأَصَابَهُمْ وباء شديد فمات أكثرهم، وكان إذا مات أحدهم دفنوا معه ثيابه وسلاحه، فأخذه المسلمون وأقبل إليهم المرزبان بن محمد فقتل منهم. وفي ربيع الأول منها جَاءَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا فَدَخَلَهَا وَنَهَبَ مَا فِيهَا وقتل وَسَبَى مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَصَدَتْهُ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا عَظِيمًا حَتَّى انْجَلَى عَنْهَا. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ ببغداد جدا وكثرت الأمطار حَتَّى تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تحت الهدم، وتعطلت أكثر الْحَمَّامَاتِ وَالْمَسَاجِدِ مِنْ قِلَّةِ النَّاسِ وَنَقَصَتْ قِيمَةُ العقار حتى بيع منه بالدرهم ما كان يساوى الدينار، وخلت الدور. وكان الدلالون يعطون من يسكنها أجرة ليحفظها من الداخلين إليها ليخربوها. وَكَثُرَتِ الْكَبَسَاتُ مِنَ اللُّصُوصِ بِاللَّيْلِ، حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَتَحَارَسُونَ بِالْبُوقَاتِ وَالطُّبُولِ، وَكَثُرَتِ الْفِتَنُ مِنْ كل جهة ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، وَنَعُوذُ باللَّه مِنْ شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
وفي رمضان منها كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَاهِرٍ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ الْجَنَّابِيِّ الْهَجَرِيِّ الْقِرْمِطِيِّ.(11/208)
رئيس القرامطة، قبحه اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحَجِيجَ حَوْلَ الكعبة وفي جوفها، وسلبها كسوتها وأخذ بابها وحليتها، واقتلع الحجر الأسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر، فمكث عنده من سنة تسع عشرة وثلاثمائة ثم مات قبحه الله وهو عندهم لم يردوه إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي.
ولما مات هذا القرمطى قام بالأمر من بعده إِخْوَتُهُ الثَّلَاثَةُ، وَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ سَعِيدٌ، وَأَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بَنُو أَبِي سعيد الجنابي، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ ضَعِيفَ الْبَدَنِ مُقْبِلًا عَلَى قِرَاءَةِ الْكُتُبِ، وَكَانَ أَبُو يَعْقُوبَ مُقْبِلًا عَلَى اللهو واللعب، ومع هذا كانت كَلِمَةُ الثَّلَاثَةِ وَاحِدَةٌ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ لَهُمْ سَبْعَةٌ مِنَ الْوُزَرَاءِ مُتَّفِقُونَ أَيْضًا.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البريدي فاستراح المسلمون من هذا كما استراحوا من الآخر.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ الْحَافِظُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْكُوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُقْدَةَ، لقبوه، بِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَعْقِيدِهِ فِي التَّصْرِيفِ وَالنَّحْوِ، وكان أيضا عقدة في الورع والنسك، وكان مِنَ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ فَسَمِعَ مِنْ خَلَائِقَ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَسَمِعَ مِنْهُ الطبراني والدار قطنى وَابْنُ الْجِعَابِيِّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ الْمُظَفَّرِ وَابْنُ شاهين. قال الدار قطنى: أجمع أهل الكوفة على أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِنْ زَمَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى زَمَانِ ابْنِ عُقْدَةَ أَحْفَظُ مِنْهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، مِنْهَا ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ، بِمَا فِيهَا مِنَ الصِّحَاحِ وَالضِّعَافِ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ سِتَّمِائَةِ حِمْلِ جَمَلٍ، وَكَانَ يُنْسَبُ مَعَ هذا كله إلى التشيع والمغالاة. قال الدار قطنى: كَانَ رَجُلَ سُوءٍ. وَنَسَبَهُ ابْنُ عَدِيٍّ إِلَى أنه كان يعمل النسخ لأشياخ ويأمرهم بروايتها. قال الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ قَالَ سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ يُوسُفَ سَمِعْتُ أَبَا عُمَرَ بْنَ حَيُّوَيْهِ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عُقْدَةَ يجلس في جامع براثى معدن الرفض يُمْلِي مَثَالِبَ الصَّحَابَةِ- أَوْ قَالَ الشَّيْخَيْنِ- فَتَرَكْتُ حَدِيثَهُ لَا أُحَدِّثُ عَنْهُ بِشَيْءٍ. قُلْتُ: وَقَدْ حررت الكلام فيه في كتابنا التكميل بما فيه كفاية، توفى فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
أَحْمَدُ بْنُ عَامِرِ بن بشر بن حامد المروروذي
نسبة إلى مروالروذ، والروذ اسم للنهر، وهو الفقيه الشافعيّ تلميذ أبى إسحاق المروذي- نسبة إلى مروذ الشاهجان، وهي أعظم من تلك البلاد، له شَرَحَ مُخْتَصَرَ الْمُزَنِيِّ، وَلَهُ كِتَابُ الْجَامِعِ فِي الْمَذْهَبِ، وَصَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَانَ إِمَامًا لَا يُشَقُّ غُبَارُهُ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة
فِيهَا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي إِلَى بَغْدَادَ وَخُلِعَ من الخلافة وسملت عيناه، وكان- وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْمَوْصِلِ-(11/209)
قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ صاحب مصر والبلاد الشامية أن يأتيه، فأقبل إليه فِي الْمُنْتَصَفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَخَضَعَ لِلْخَلِيفَةِ غَايَةَ الْخُضُوعِ، وَكَانَ يَقُومُ بَيْنَ يديه كما تقوم الْغِلْمَانُ، وَيَمْشِي وَالْخَلِيفَةُ رَاكِبٌ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ أن يصير معه إلى الديار المصرية أو يقوم ببلاد الشام، وليته فعل، بل أبى عليه، فأشار عليه بالمقام مكانه بالموصل، ولا يذهب إلى تورون، وحذره من مكر تورون وخديعته، فلم يقبل ذلك، وكذلك أشار عليه وزيره أبو حسين بن مقلة فلم يسمع. وأهدى ابْنُ طُغْجٍ لِلْخَلِيفَةِ هَدَايَا كَثِيرَةً فَاخِرَةً، وَكَذَلِكَ أهدى إلى الأمراء والوزير، ثم رجع إلى بلاده، واجتاز بِحَلَبَ فَانْحَازَ عَنْهَا صَاحِبُهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ. وَكَانَ ابْنُ مُقَاتِلٍ بها، فأرسله إلى مصر نَائِبًا عَنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا. وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ فإنه ركب من الرقة في الدجلة إلى بغداد وأرسل إلى تورون فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ مَا كَانَ حَلَفَ لَهُ مِنَ الأيمان فأكدها وقررها، فلما قرب من بغداد خرج إليه تورون وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ، فَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةَ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ وَفَّى له بما كان حلف له عليه وأنزله في منظرته، ثم جاء فاحتاط على من مع الخليفة مِنَ الْكُبَرَاءِ، وَأَمَرَ بِسَمْلِ عَيْنَيِ الْخَلِيفَةِ فَسُمِلَتْ عيناه، فصاح صيحة عظيمة سمعها الحريم فضجت الأصوات بالبكاء، فأمر تورون بضرب الدبادب حتى لا تسمع أصوات الحريم، ثُمَّ انْحَدَرَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَبَايَعَ المستكفي. فكانت خلافة المتقى ثلاثة سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَكْفِي باللَّه أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بن المكتفي بن المعتضد
لما رجع تورون إلى بغداد وقد سمل عيني المتقى استدعى بالمستكفي فبايعه ولقب بالمستكفي باللَّه واسمه عبد الله، وَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هذا السنة، وجلس تورون بين يديه وخلع عليه المستكفي، وَكَانَ الْمُسْتَكْفِي مَلِيحَ الشَّكْلِ رَبْعَةً حَسَنَ الْجِسْمِ والوجه، أبيض اللون مشربا حمرة أَقْنَى الْأَنْفِ خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَحْضَرَ الْمُتَّقِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبَايَعَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الْبُرْدَةَ وَالْقَضِيبَ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْفَرَجِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ السَّامَرِّيَّ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَوَلَّى الْأُمُورَ ابْنُ شِيرَزَادَ، وَحَبَسَ الْمُتَّقِي بالسجن. وَطَلَبَ الْمُسْتَكْفِي أَبَا الْقَاسِمِ الْفَضْلَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ، وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلُقِّبَ الْمُطِيعَ للَّه، فَاخْتَفَى مِنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُسْتَكْفِي، فَأَمَرَ الْمُسْتَكْفِي بِهَدْمِ دَارِهِ الَّتِي عند دجلة.
وفيها مات القائم الفاطمي وتولى ولده الْمَنْصُورِ إِسْمَاعِيلَ فَكَتَمَ مَوْتَ أَبِيهِ مُدَّةً حَتَّى اتفق أمره ثم أظهره، والصحيح أن القائم مات في التي بعدها. وقد حاربهم أبو يزيد الخارجي فيها، وَأَخَذَ مِنْهُمْ مُدُنًا كِبَارًا وَكَسَرُوهُ مِرَارًا، مُتَعَدِّدَةً، ثم يبرز إليهم ويجمع الرجال ويقاتلهم، فانتدب المنصور هذا لقتاله بنفسه وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ بَسَطَهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ. وَقَدِ انْهَزَمَ فِي(11/210)
بعض الأحيان جيش المنصور وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فِي عِشْرِينَ نَفْسًا. فَقَاتَلَ بنفسه قتالا عظيما، فهزم أبا يزيد بعد ما كَادَ يَقْتُلُهُ، وَثَبَتَ الْمَنْصُورُ ثَبَاتًا عَظِيمًا، فَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَزَادَتْ حُرْمَتُهُ وَهَيْبَتُهُ، وَاسْتَنْقَذَ بلاد القيروان منه، وما زال يحاربه حتى ظفر به المنصور وقتله. ولما جيء برأسه سجد شكر الله. وَكَانَ أَبُو يَزِيدَ هَذَا قَبِيحَ الشَّكْلِ أَعْرَجَ قصيرا خارجيا شديدا يكفر أهل الملة.
وفي ذي الحجة منها قُتِلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ وَصُلِبَ ثُمَّ أُحْرِقَ، وذلك أنه قدم بغداد يستنجد بتورون وَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ شِيرَزَادَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، فَوَعَدُوهُ النَّصْرَ، ثُمَّ شَرَعَ يُفْسِدُ مَا بَيْنَ تورون وابن شيرزاد، فعلم بذلك ابن شير زاد فأمر بسجنه وضربه، ثم أفتاه بعض الفقهاء بإباحة دمه، فأمر بقتله وصلبه ثم أحرقه، وانقضت أيام البريدية، وزالت دولتهم. وفيها أمر المستكفي بإخراج القاهر الّذي كان خليفة وأنزله دار ابْنِ طَاهِرٍ، وَقَدِ افْتَقَرَ الْقَاهِرُ حَتَّى لَمْ يبق له شيء من اللباس سوى قطعة عباءة يَلْتَفُّ بِهَا، وَفِي رِجْلِهِ قَبْقَابٌ مِنْ خَشَبٍ. وفيها اشتد البرد والحر. وفيها رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فِي رَجَبٍ مِنْهَا إِلَى واسط فبلغ خبره إلى تورون فركب هو المستكفي، فلما سمع بهما رجع إِلَى بِلَادِهِ وَتَسَلَّمَهَا الْخَلِيفَةُ وَضَمِنَهَا أَبُو الْقَاسِمِ بن أبى عبد الله، ثم رجع تورون والخليفة إلى بغداد في شوال منها. وَفِيهَا رَكِبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ يَأْنَسَ الْمُؤْنِسِيِّ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ لِيَأْخُذَهَا فَجَاءَتْهُ جُيُوشُ الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طغج مع مولاه كافور فاقتتلوا بقنسرين، فلم يظفر أحد منهما بصاحبه، وَرَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ فَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِهَا، فَقَصَدَتْهُ الرُّومُ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ، فَالْتَقَى مَعَهُمْ فَظَفِرَ بِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أربع وثلاثين وثلاثمائة
في المحرم زَادَ الْخَلِيفَةُ فِي لَقَبِهِ إِمَامَ الْحَقِّ، وَكَتَبَ ذلك على السكة المتعامل بها، ودعا له الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ أَيَّامَ الْجُمَعِ. وَفِي الْمُحَرَّمِ منها مات تورون التُّرْكِيُّ فِي دَارِهِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ ابْنُ شِيرَزَادَ كاتبه، وكان غائبا بهيت لتخليص المال، فلما بلغه موته أَرَادَ أَنْ يَعْقِدَ الْبَيْعَةَ لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حمدان فاضطربت الأجناد وعقدوا الرئاسة عليهم لابن شيرزاد فحضر ونزل بباب حرب مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَجْنَادُ كُلُّهُمْ وَحَلَفُوا له وحلف الْخَلِيفَةُ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَخَاطَبَهُ بأمير الأمراء، وزاد في أرزاق الجند وَبَعَثَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ يُطَالِبُهُ بِالْخَرَاجِ، فَبَعَثَ إليه بخمسمائة ألف درهم وبطعام يفرقه في الناس، وأمر ونهى وعزل وولى، وَقَطَعَ وَوَصَلَ. وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ قَدْ أَقْبَلَ فِي الْجُيُوشِ قَاصِدًا بَغْدَادَ، فَاخْتَفَى ابْنُ شِيرَزَادَ وَالْخَلِيفَةُ أَيْضًا، وَخَرَجَ إليه الأتراك قاصدين الْمَوْصِلِ لِيَكُونُوا مَعَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ.(11/211)
ذِكْرُ أَوَّلِ دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهِ وَحُكْمِهِمْ بِبَغْدَادَ
أقبل معز الدولة أحمد بن الحسن بن بويه في جحافل عظيمة من الجيوش قاصدا بغداد، فلما اقترب منها بَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي باللَّه الْهَدَايَا وَالْإِنْزَالَاتِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: أَخْبِرْهُ أَنِّي مَسْرُورٌ بِهِ، وَأَنِّي إِنَّمَا اخْتَفَيْتُ مِنْ شَرِّ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ انْصَرَفُوا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَالتُّحَفِ، وَدَخَلَ معز الدولة بَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، وَدَخَلَ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَبَايَعَهُ، ودخل عَلَيْهِ الْمُسْتَكْفِي وَلَقَّبَهُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَ أَخَاهُ أبا الحسن بِعِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَأَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بِرُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ أَلْقَابَهُمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَنَزَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ من الديلم بدور الناس، فلقى الناس منهم ضائقة شَدِيدَةً، وَأَمَّنَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ ابْنَ شِيرَزَادَ، فَلَمَّا ظَهَرَ اسْتَكْتَبَهُ عَلَى الْخَرَاجِ، وَرَتَّبَ لِلْخَلِيفَةِ بِسَبَبِ نفقاته خمسة آلاف درهم فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى هَذَا النظام والله أعلم.
ذكر القبض على الخليفة المستكفي باللَّه وَخَلْعِهِ
لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَضَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْحَضْرَةِ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الدَّيْلَمِ فَمَدَّا أَيْدِيَهُمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ فأنزلاه عن كرسيه، وسحباه فتحربت عِمَامَتُهُ فِي حَلْقِهِ، وَنَهَضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَاضْطَرَبَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ حَتَّى خُلِصَ إِلَى الْحَرِيمِ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَسِيقَ الْخَلِيفَةُ مَاشِيًا إِلَى دَارِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فَاعْتُقِلَ بِهَا، وَأُحْضِرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْفَضْلُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ وَسُمِلَتْ عَيْنَا الْمُسْتَكْفِي وَأَودِعَ السِّجْنَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَسْجُونًا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كما يأتى ذكر ترجمته هناك.
خِلَافَةُ الْمُطِيعِ للَّه
لَمَّا قَدِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بغداد وقبض على المستكفي وسمل عينيه اسْتَدْعَى بِأَبِي الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ باللَّه، وَقَدْ كَانَ مُخْتَفِيًا مِنَ الْمُسْتَكْفِي وَهُوَ يَحُثُّ على طَلَبِهِ وَيَجْتَهِدُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ اجْتَمَعَ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ سِرًّا فَحَرَّضَهُ عَلَى الْمُسْتَكْفِي حتى كان من أمره ما كان، ثم أحضره وبويع له بِالْخِلَافَةِ وَلُقِّبَ بِالْمُطِيعِ للَّه، وَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ وَالْعَامَّةُ، وَضَعُفَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا وَزِيرٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ كَاتِبٌ عَلَى أَقْطَاعِهِ، وإنما الدولة ومورد المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة، وذلك لِأَنَّ بَنِي بُوَيْهِ وَمِنْ مَعَهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ كان فيهم تعسف شديد، وكانوا يَرَوْنَ أَنَّ بَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ غَصَبُوا الْأَمْرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، حَتَّى عَزَمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى تحويل الخلافة إلى العلويين واستشار أصحابه فكلهم أشار عليه بذلك، إلا رجلا واحدا من أصحابه، كان سديد الرأى فيهم، فقال لا أرى لك ذلك. قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا خَلِيفَةٌ تَرَى أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحِ الْإِمَارَةِ(11/212)
حتى لو أَمَرْتَ بِقَتْلِهِ قَتَلَهُ أَصْحَابُكَ، وَلَوْ وَلَّيْتَ رَجُلًا من العلويين اعتقدت أنت وأصحابك ولايته صحيحة فلو أمرت بقتله لم تطع بذلك، ولو أَمَرَ بِقَتْلِكَ لَقَتَلَكَ أَصْحَابُكَ. فَلَمَّا فَهِمَ ذَلِكَ صرفه عن رأيه الأول وترك ما كان عزم عليه لِلدُّنْيَا لَا للَّه عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَرَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بعد ما خرج معز الدولة والخليفة إِلَى عُكْبَرَا فَدَخَلَ بَغْدَادَ فَأَخَذَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ ثم الغربي، وضعف أمر معز الدولة والديلم الذين كانوا مَعَهُ، ثُمَّ مَكَرَ بِهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَخَدَعَهُ حَتَّى اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ وَانْتَصَرَ أَصْحَابُهُ فَنَهَبُوا بَغْدَادَ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ التُّجَّارُ وَغَيْرِهِمْ. وكان قِيمَةُ مَا أَخَذَ أَصْحَابُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِنَ النَّاسِ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَرَجَعَ ابن حمدان إلى بلده الموصل، واستقر أمر معز الدولة ببغداد، ثم شرع في استعمال السعاة ليبلغ أخاه ركن الدولة أخباره، فغوى الناس في ذلك وعلموا أبناءهم سعاة، حتى أن من الناس من كان يقطع نيفا وثلاثين فرسخا في يوم واحد. وأعجبه المصارعون والملاكمون. وغيرهم مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بها إلا كل قليل العقل فاسد المروءة، وتعلموا السباحة ونحوها، وكانت تضرب الطبول بين يديه ويتصارع الرجال والكوسان تُدَقُّ حَوْلَ سُورِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وكل ذلك رعونة وقلة عقل وسخافة منه.
ثم احتاج إلى صرف أموال في أرزاق الجند فَأَقْطَعَهُمُ الْبِلَادَ عِوَضًا عَنْ أَرْزَاقِهِمْ، فَأَدَّى ذَلِكَ إلى خراب البلاد وَتَرْكِ عِمَارَتِهَا إِلَّا الْأَرَاضِيَ الَّتِي بِأَيْدِي أَصْحَابِ الْجَاهَاتِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ ببغداد حتى أكلوا الميتة والسنانير والكلاب، وَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْرِقُ الْأَوْلَادَ فَيَشْوِيهِمْ ويأكلهم. وكثر الوباء فِي النَّاسِ حَتَّى كَانَ لَا يَدْفِنُ أَحَدٌ أَحَدًا، بَلْ يُتْرَكُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ فَيَأْكُلُ كَثِيرًا مِنْهُمُ الْكِلَابُ، وَبِيعَتِ الدُّورُ وَالْعَقَارُ بِالْخُبْزِ، وَانْتَجَعَ الناس إلى البصرة فكان منهم من مات في الطريق ومنهم من وصل إليها بعد مدة مُدَيْدَةٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أبى القاسم محمد بن عبد اللَّهِ الْمَهْدِيِّ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْمَنْصُورُ إِسْمَاعِيلُ، وَكَانَ حَازِمَ الرَّأْيِ شَدِيدًا شُجَاعًا كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية، كانت وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سنة، وأقيم ولده أبو القاسم أبو جور- وكان صغيرا- وأقيم كافور الإخشيد أتابكه، وكان يُدَبِّرُ الْمَمَالِكَ بِالْبِلَادِ كُلِّهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ كُلِّهَا وَسَارَ إِلَى مِصْرَ فَقَصَدَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ دِمَشْقَ فَأَخَذَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِخْشِيدِ، ففرح بها فرحا شديدا، واجتمع بمحمد ابن مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْفَارَابِيِّ التُّرْكِيِّ الْفَيْلَسُوفِ بِهَا. وركب سيف الدولة يوما مع الشريف العقيلي في(11/213)
بَعْضِ نَوَاحِي دِمَشْقَ، فَنَظَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى الغوطة فأعجبته وقال: ينبغي أن يكون هذا كله لِدِيوَانِ السُّلْطَانِ- كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِأَخْذِهَا مِنْ مُلَّاكِهَا- فأوغر ذلك صدر العقيلي وأوعاه إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ، فَكَتَبُوا إِلَى كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ كَثِيفَةٍ، فَأَجْلَى عَنْهُمْ سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَطَرَدَهُ عَنْ حَلَبَ أيضا واستناب عليها ثم كر راجعا إلى دمشق فاستناب عليها بَدْرًا الْإِخْشِيدِيَّ- وَيُعْرَفُ بِبُدَيْرٍ- فَلَمَّا صَارَ كَافُورٌ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ رَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ فَأَخَذَهَا كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا لَهُ، وَلَمْ يبق له في دمشق شيء يطمع فيه. وكافور هذا الّذي هجاء المتنبي ومدحه أيضا.
وممن توفى فيها من الأعيان.
الخرقى [عمر بن الحسين]
صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أحمد، وَقَدْ شَرَحَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ وَالشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ، وَقَدْ كَانَ الْخِرَقِيُّ هَذَا مِنْ سَادَاتِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُبَّادِ، كثير الفضائل والعبادة، خرج من بغداد مهاجرا لما كثر بها الشر والسب للصحابة، وأودع كتبه في بغداد فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب، وَعُدِمَتْ مُصَنَّفَاتُهُ، وَقَصَدَ دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَبْرُهُ بِبَابِ الصَّغِيرِ يزار قريبا من قبور الشهداء. وذكر في مختصره هذا في الْحَجِّ: وَيَأْتِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيُقَبِّلُهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَصْنِيفَهُ لِهَذَا الكتاب كان والحجر الأسود قد أخذته القرامطة وهو في أيديهم فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذلك، ولم يرد إلى مكانه إلا سنة سبع وثلاثين كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ البغدادي: قال لي القاضي أبو يعلى: كانت للخرقى مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ وَتَخْرِيجَاتٌ عَلَى الْمَذْهَبِ لَمْ تَظْهَرْ لأنه خرج من مدينته لما ظهر بها سَبُّ الصَّحَابَةِ وَأَوْدَعَ كُتُبَهُ فَاحْتَرَقَتِ الدَّارُ الَّتِي هي فيها فاحترقت الكتب وَلَمْ تَكُنْ قَدِ انْتَشَرَتْ لِبُعْدِهِ عَنِ الْبَلَدِ.
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ أَبِي الفضل عبد السميع عن الفتح بن شخرف عن الخرقى قَالَ:
رَأَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ!! قَالَ:
قُلْتُ زِدْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تِيهُ الفقراء على الأغنياء. قال ورفع له كَفَّهُ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
قَدْ كُنْتَ مَيْتًا فصرت حيا ... وعن قريب تعود مَيْتَا
فَابْنِ بِدَارِ الْبَقَاءِ بَيْتًا ... وَدَعْ بِدَارِ الْفَنَاءِ بَيْتَا
قَالَ ابْنُ بَطَّةَ: مَاتَ الْخِرَقِيُّ بِدِمَشْقَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَزُرْتُ قَبْرَهُ رحمه الله.
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ فِي زمانه، وقد ولى القضاء ببغداد(11/214)
لِلْمُتَّقِي ثُمَّ لِلْمُسْتَكْفِي، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا، كَبَسَتِ اللصوص داره يظنون أَنَّهُ ذُو مَالٍ، فَضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ إِلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السنة.
محمد بن محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو الْفَضْلِ السُّلَمِيُّ الْوَزِيرُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ الشَّاعِرُ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَكَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، وَلَا يَدَعُ صَلَاةَ الليل والتصنيف، وكان يسأل الله تعالى الشَّهَادَةَ كَثِيرًا. فَوَلِيَ الْوِزَارَةَ لِلسُّلْطَانِ فَقَصَدَهُ الْأَجْنَادُ فطالبوه بِأَرْزَاقِهِمْ، وَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ بِبَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَاسْتَدْعَى بِحَلَّاقٍ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَتَنَوَّرَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ كَفَنَهُ وَقَامَ يُصَلِّي، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السنة.
الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغْجِ
أَبُو بَكْرٍ الْمُلَقَّبَ بِالْإِخْشِيدِ وَمَعْنَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ، لَقَّبَهُ بِذَلِكَ الرَّاضِي لِأَنَّهُ كَانَ مَلِكَ فَرْغَانَةَ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَهَا كَانَ يُسَمَّى الْإِخْشِيدَ، كَمَا أن من ملك اشروسية يُسَمَّى الْإِفْشِينَ. وَمَنْ مَلَكَ خُوَارِزْمَ يُسَمَّى خَوَارِزْمَ شاه، ومن ملك جرجان يسمى صوك، ومن ملك أذربيجان يسمى أصبهند، ومن ملك طبرستان يسمى أرسلان. قاله ابن الجوزي في منتظمه. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ كَافِرًا قَيْصَرَ، وَمَنْ مَلَكَ فارس كسرى، ومن ملك اليمن تبع، وَمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ النَّجَاشِيَّ، وَمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ بطلميوس، ومن ملك مصر فرعون. ومن ملك الاسكندرية المقوقس.
وذكر غير ذلك. توفى بِدِمَشْقَ وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدُفِنَ هُنَاكَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو بَكْرٍ الشَّبْلِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، اخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ فَقِيلَ دُلَفُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيُقَالُ دُلَفُ بْنُ جَحْدَرٍ، وَقِيلَ جَعْفَرُ بْنُ يُونُسَ، أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ يقال لها شبلة من بلاد اشروسية مِنْ خُرَاسَانَ، وَوُلِدَ بِسَامَرَّاءَ، وَكَانَ أَبُوهُ حَاجِبَ الحجاب للموفق، وكان خاله نائب الاسكندرية، وَكَانَتْ تَوْبَةُ الشِّبْلِيِّ عَلَى يَدَيْ خَيْرٍ النَّسَّاجِ، سمعه يعظ فوقع في قلبه كلامه فَتَابَ مِنْ فَوْرِهِ، ثُمَّ صَحِبَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَشَايِخَ، ثم صار من أئمة القوم. قال الجنيد: الشِّبْلِيُّ تَاجَ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودٍ الزَّوْزَنِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ على بن المثنى التميمي يقول: دخلت يوما عَلَى الشِّبْلِيِّ فِي دَارِهِ وَهُوَ يَهِيجُ وَيَقُولُ:
على بعدك لا يصبر ... من عادته القرب
ولا يقوى على هجرك ... مَنْ تَيَّمَهُ الْحُبُّ
فَإِنْ لَمْ تَرَكَ الْعَيْنُ ... فَقَدْ يُبْصِرُكَ الْقَلْبُ
وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَحْوَالٌ وكرامات، وقد ذكرنا أنه كان ممن اشتبه عليه أمر الحلاج فيما نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ لما فيها، مِمَّا كَانَ الْحَلَّاجُ يُحَاوِلُهُ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ(11/215)
قال لخادمه: قد كان على درهم مَظْلِمَةٍ فَتَصَدَّقْتُ عَنْ صَاحِبِهِ بِأُلُوفٍ، وَمَعَ هَذَا مَا عَلَى قَلْبِي شُغُلٌ أَعْظَمَ مِنْهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَضِّئَهُ فَوَضَّأَهُ وَتَرَكَ تَخْلِيلَ لِحْيَتِهِ، فرفع الشبلي يده- وقد كان اعتقل لسانه- فجعل يخلل لحيته. وذكره ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ، وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْجُنَيْدِ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وصفق بيديه وَأَنْشَدَ:
عَوَّدُونِي الْوِصَالَ وَالْوَصْلُ عَذْبٌ ... وَرَمَوْنِي بِالصَّدِّ والصد صعب
زعموا حين أعتبوا أن جرمي ... فَرْطُ حُبِّي لَهُمْ وَمَا ذَاكَ ذَنْبُ
لَا وحق الخضوع عند التلاقي ... ما جزاء من يحب إلا يحب
وذكر عنه قَالَ: رَأَيْتُ مَجْنُونًا عَلَى بَابِ جَامِعِ الرُّصَافَةِ يوم جمعة عريانا وهو يقول: أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَتِرُ وَتَدْخُلُ إلى الجامع فتصلي الجمعة. فقال:
يَقُولُونَ زُرْنَا وَاقْضِ وَاجِبَ حَقِّنَا ... وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَالِي حُقُوقَهُمْ عَنِّي
إِذَا أَبْصَرُوا حَالِي وَلَمْ يأنفوا لها ... ولم يأنفوا منى أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عنه أنه أنشد لنفسه فقال:
مَضَتِ الشَّبِيبَةُ وَالْحَبِيبَةُ فَانْبَرَى ... دَمْعَانِ فِي الْأَجْفَانِ يَزْدَحِمَانِ
مَا أَنْصَفَتْنِي الْحَادِثَاتُ رَمَيْنَنِي ... بِمُوَدِّعَيْنِ وَلَيْسَ لي قلبان
كانت وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ بِبَغْدَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ للَّه فِي دَارِ الْخِلَافَةِ وَاصْطَلَحَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ حَارَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ تَكِينَ التُّرْكِيَّ فَاقْتَتَلَا مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ ظَفِرَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بتكين فسمل بين يديه، واستقر أمره بالموصل والجزيرة، واستحوذ ركن الدولة على الري وانتزعها من الخراسانية، واتسعت مملكة بنى بويه جدا، فَإِنَّهُ صَارَ بِأَيْدِيهِمْ أَعْمَالُ الرَّيِّ وَالْجَبَلِ وَأَصْبَهَانَ وَفَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَالْعِرَاقِ، وَيُحْمَلُ إِلَيْهِمْ ضَمَانُ الْمَوْصِلِ وديار ربيعة من الجزيرة وغيرها ثُمَّ اقْتَتَلَ جَيْشُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَجَيْشُ أَبِي القاسم الْبَرِيدِيِّ فَهُزِمَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ وَأُسِرَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَفِيهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الرُّومِ والمسلمين على يد نصر المستملي أَمِيرِ الثُّغُورِ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَكَانَ عِدَّةُ الْأَسَارَى نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ مُسْلِمٍ وللَّه الحمد والمنة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْحَسَنُ بْنُ حَمُّوَيْهِ بْنِ الْحُسَيْنِ
الْقَاضِي الْإِسْتِرَابَاذِيُّ. رَوَى الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْإِمْلَاءِ، وَحَكَمَ بِبَلَدِهِ مدة طويلة،(11/216)
وكان من المجتهدين في العبادة المجتهدين بالأسحار، ويضرب به المثل في ظرفه وفكاهته. وَقَدْ مَاتَ فَجْأَةً عَلَى صَدْرِ جَارِيَتِهِ عِنْدَ إنزاله.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخُتُّلِيُّ، سَمِعَ ابْنَ أَبِي الدنيا وغيره، وحدث عنه الدار قطنى وغيره، وكان ثقة نبيلا حَافِظًا، حَدَّثَ مِنْ حَفِظِهِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ حَدِيثٍ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ رَغْبَانَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَغْبَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ تَمِيمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ الْمُلَقَّبُ بِدِيكِ الْجِنِّ الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ الشِّيعِيُّ. وَيُقَالُ: إنه من موالي بنى تميم، لَهُ أَشْعَارٌ قَوِيَّةٌ.
خُمَارِيَّةٌ وَغَيْرُ خُمَارِيَّةٍ، وَقَدِ استجاد أبو نواس شَعْرِهِ فِي الْخُمَارِيَّاتِ.
عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ داود بن الجراح
أبو الحسن الوزير لِلْمُقْتَدِرِ وَالْقَاهِرِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَعَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً نبيلا فاضلا عفيفا، كثير التلاوة والصيام والصلاة، يحب أهل العلم ويكثر مجالستهم، أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْقَائِمِينَ على الحلاج. وروى عنه أنه قال: كسبت سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ أَنْفَقْتُ مِنْهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا، وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ حِينَ نُفِيَ مِنْ بَغْدَادَ طَافَ بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة في حر شديد، ثم جاء إلى منزله فألقى نفسه وقال: أشتهى على الله شربة ثلج. فقال له بعض أصحابه: هذا لا يتهيأ هاهنا. فقال: أعرف ولكن سيأتي به الله إذا شاء، وأصبر إلى المساء. فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فأمطرت وسقط منها برد شديد كثير فجمع له صاحبه من ذلك الْبَرَدِ شَيْئًا كَثِيرًا وَخَبَّأَهُ لَهُ، وَكَانَ الْوَزِيرُ صائما، فلما أمسى جاء به، فلما جاء المسجد أقبل إليه صاحبه بأنواع الأشربة وكلها بثلج، فجعل الوزير يسقيه لمن حواليه من الصوفية والمجاورين، ولم يشرب هو منه شيئا. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَنْزِلِ جِئْتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذلك الشراب كنا خَبَّأْنَاهُ لَهُ وَأَقْسَمْتُ عَلَيْهِ لَيَشْرَبَنَّهُ فَشَرِبَهُ بَعْدَ جهد جهيد، وقال أَشْتَهِي لَوْ كُنْتُ تَمَنَّيْتُ الْمَغْفِرَةَ. رَحِمَهُ اللَّهُ وغفر له. ومن شعره قَوْلُهُ:
فَمَنْ كَانَ عَنِّي سَائِلًا بِشَمَاتَةٍ ... لِمَا نَابَنِي أَوْ شَامِتًا غَيْرَ سَائِلِ
فَقَدْ أَبْرَزَتْ مِنِّي الْخُطُوبُ ابْنَ حُرَّةٍ ... صَبُورًا عَلَى أَهْوَالِ تِلْكَ الزَّلَازِلِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بن الحسن التَّنُوخِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ عَطَّارًا مَنْ أَهْلِ الْكَرْخِ كَانَ مَشْهُورًا بِالسُّنَّةِ، رَكِبَهُ ستمائة دينار دينا فأغلق دُكَّانَهُ وَانْكَسَرَ عَنْ كَسْبِهِ وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالصَّلَاةِ لَيَالِيَ كَثِيرَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ تِلْكَ اللَّيَالِي رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وهو يقول له: اذهب إلى عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الْوَزِيرَ فَقَدْ أَمَرْتُهُ لَكَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ قَصَدَ(11/217)
بَابَ الْوَزِيرِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، فَجَلَسَ لَعَلَّ أحدا يستأذن له على الوزير حَتَّى طَالَ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ وَهَمَّ بِالِانْصِرَافِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الْحَجَبَةِ قُلْ لِلْوَزِيرِ: إِنِّي رَجُلٌ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقُصَّهُ على الوزير. فقال له الحاجب: وأنت صاحب الرؤيا؟ إِنَّ الْوَزِيرَ قَدْ أَنْفَذَ فِي طَلَبِكَ رُسُلًا متعددة. ثم دخل الحجاب فأخبروا الوزير فقال: أدخله على سريعا. فدخل عليه فأقبل عليه الوزير يستعلم عن حاله واسمه وَصِفَتِهِ وَمَنْزِلِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَأْمُرُنِي بِإِعْطَائِكَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فأصبحت لا أدرى من أسأل عنك، ولا أعرفك ولا أعرف أين أنت، وَقَدْ أَرْسَلْتُ فِي طَلَبِكَ إِلَى الْآنِ عِدَّةً رسل فجزاك الله خيرا عن قصدك إياي. ثم أمر الوزير بِإِحْضَارِ أَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ: هَذِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِتُّمِائَةٍ هِبَةٌ مِنْ عِنْدِي.
فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي أَرْجُو الْخَيْرَ وَالْبَرَكَةَ فِيهِ. ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ الْوَزِيرُ: هَذَا هُوَ الصِّدْقُ واليقين. فخرج ومعه الأربعمائة دينار فَعَرَضَ عَلَى أَرْبَابِ الدُّيُونِ أَمْوَالَهُمْ فَقَالُوا: نَحْنُ نَصْبِرُ عَلَيْكَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَافْتَحْ بِهَذَا الذَّهَبِ دُكَّانَكَ وَدُمْ عَلَى كَسْبِكَ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الثُّلُثَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِمْ مِائَتَيْ دينار، وفتح حانوته بالمائتى دينار الباقية، فما حال عليه الحول حتى ربح أَلْفَ دِينَارٍ. وَلِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ أَخْبَارٌ كثيرة صالحة. كانت وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً. وَيُقَالُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بن إسماعيل
ابن إِسْحَاقَ بْنِ بَحْرٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا، سَمِعَ أبا زرعة الدمشقيّ وغيره، وعنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عُمَرَ بن مهدي، توفى فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هَارُونُ بْنُ محمد
ابن هَارُونَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ عَمْرِو بْنِ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرِ بْنِ عامر بن أسيد بن تميم بْنِ صُبْحِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سعيد بن حبنة أَبُو جَعْفَرٍ، وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الحسن بْنِ هَارُونَ.
كَانَ أَسْلَافُهُ مُلُوكَ عُمَانَ فِي قديم الزمان، وجده يزيد بن جابر أدرك الْإِسْلَامُ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ هَارُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنِ انْتَقَلَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ عُمَانَ فنزل بغداد وحدث بها، وروى عن أبيه، وَكَانَ فَاضِلًا مُتَضَلِّعًا مِنْ كُلِّ فَنٍّ، وَكَانَتْ داره مجمع العلماء في سائر الأيام، ونفقاته دارة عليهم، وكان له منزلة عالية، ومهابة ببغداد، وقد أثنى عليه الدار قطنى ثَنَاءً كَثِيرًا، وَقَالَ: كَانَ مُبَرِّزًا فِي النَّحْوِ واللغة والشعر، ومعاني القرآن، وعلم الكلام.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ صُولٍ الصُّولِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِفُنُونِ الْآدَابِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الَّتِي بَعْدَهَا كما سيأتي.(11/218)
أبو العباس بن القاضي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تِلْمِيذُ ابْنِ سُرَيْجٍ، لَهُ كِتَابُ التَّلْخِيصِ وَكِتَابُ الْمِفْتَاحِ، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ شَرَحَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحسين، وأبو عبد الله السِّنْجِيُّ أَيْضًا، وَكَانَ أَبُوهُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ الْأَخْبَارَ وَالْآثَارَ، وَأَمَّا هُوَ فَتَوَلَّى قَضَاءَ طَرَسُوسَ وكان يعظ الناس أيضا، فحصل له مرة خشوع فسقط مغشيا عليه فمات في هذه السنة
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة
فيها خرج معز الدولة والخليفة المطيع للَّه مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَاسْتَنْقَذَاهَا مِنْ يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْبَرِيدِيِّ، وَهَرَبَ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَوْلَى مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ وَبَعَثَ يَتَهَدَّدُ الْقَرَامِطَةَ وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِأَخْذِ بِلَادِهِمْ، وَزَادَ في إقطاع الخليفة ضياعا تعمل في كل سنة مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِتَلَقِّي أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِالْأَهْوَازِ فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بين يدي أخيه وقام بين يديه مقاما طويلا فأمره بالجلوس فلم يفعل. ثم عاد إلى بغداد صحبة الخليفة فتمهدت الأمور جيدا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَحْوَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَلَى بلاد طبرستان وجرجان مِنْ يَدِ وُشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوِيجَ مَلِكِ الدَّيْلَمِ، فذهب وشمكير إلى خراسان يستنجد بصاحبها كما سيأتي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، سَمِعَ جَدَّهُ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيَّ.
وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا حُجَّةً صَادِقًا، صَنَّفَ كَثِيرًا وَجَمَعَ عُلُومًا جَمَّةً، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ مِنْهَا إِلَّا الْيَسِيرَ، وَذَلِكَ لِشَرَاسَةِ أَخْلَاقِهِ. وَآخِرُ مَنْ رَوَى عنه محمد بن فارس اللغوي، ونقل ابن الجوزي عن أبى يوسف القدسي أَنَّهُ قَالَ: صَنَّفَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَمِائَةِ كِتَابٍ، وَنَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ كِتَابًا وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ حَشْوٌ، بَلْ هُوَ نَقِيُّ الْكَلَامِ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مُصَنَّفَاتِهِ عَلِمَ فَضْلَهُ وَاطِّلَاعَهُ وَوَقَفَ عَلَى فَوَائِدَ لَا توجد في غيره كتبه. توفى فِي مُحَرَّمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سنة.
الصولي محمد بن عبد الله بن العباس
ابن مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ، كَانَ أحد العلماء بفنون الأدب وحسن الْمَعْرِفَةِ بِأَخْبَارِ الْمُلُوكِ، وَأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ وَمَآثِرِ الْأَشْرَافِ وَطَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ. رَوَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ وَالْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ وَأَبِي الْعَيْنَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ جَيِّدَ الْحِفْظِ حَاذِقًا بِتَصْنِيفِ الْكُتُبِ. وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ هَائِلَةٌ، وَنَادَمَ جَمَاعَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ جَدُّهُ صُولٌ وَأَهْلُهُ مُلُوكًا بجرجان، ثم كان أولاده من كبار الْكُتَّابِ، وَكَانَ الصُّولِيُّ هَذَا جَيِّدَ الِاعْتِقَادِ حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الدار قطنى وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَحْبَبْتُ مِنْ أَجْلِهِ مَنْ كَانَ يُشْبِهُهُ ... وَكُلُّ شَيْءٍ من المعشوق معشوق(11/219)
حتى حكيت بجسمي ماء مقلته ... كأن سقيم مِنْ عَيْنَيْهِ مَسْرُوقُ
خَرَجَ الصُّولِيُّ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ ابْنَةِ الشَّيْخِ أبى الزَّاهِدِ الْمَكِّيِّ، وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمُقِيمَاتِ بمكة، وكانت تقتات من كسب أبيها من عمل الخوص، في كل سنة ثلاثين درهما يرسلها إليها، فاتفق أنه أَرْسَلَهَا مَرَّةً مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَزَادَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا- يُرِيدُ بِذَلِكَ بِرَّهَا وَزِيَادَةً فِي نَفَقَتِهَا- فَلَمَّا اخْتَبَرَتْهَا قَالَتْ: هَلْ وضعت في هذه الدراهم شيئا من مالك؟ اصْدُقْنِي بِحَقِّ الَّذِي حَجَجْتَ لَهُ.
فَقَالَ: نَعَمْ عشرين درهما. فقالت: ارجع بها لا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ قَصَدْتَ الْخَيْرَ لدعوت الله عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ قَدْ أَجَعْتَنِي عَامِي هَذَا، وَلَمْ يَبْقَ لِي رِزْقٌ إِلَّا مِنَ الْمَزَابِلِ إِلَى قابل. فقال: خذي منها الثلاثين التي أرسل بها أبوك إليك ودعي العشرين. فقالت: لا، إِنَّهَا قَدِ اخْتَلَطَتْ بِمَالِكَ وَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ الرَّجُلُ: فَرَجَعْتُ بِهَا إِلَى أَبِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَقَالَ: شَقَقْتَ يَا هَذَا عَلَيَّ وَضَيَّقْتَ عَلَيْهَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهَا.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة
فِيهَا رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَانْهَزَمَ مِنْهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ، فتملك معز الدولة ابن بويه الموصل في رمضان فَعَسَفَ أَهْلَهَا وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَثُرَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ. ثُمَّ عَزَمَ عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ كُلِّهَا مِنْ ناصر الدولة بن حمدان، فجاء خَبَرٌ مِنْ أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى مَنْ قِبَلَهُ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَاحْتَاجَ إِلَى مُصَالَحَةِ ناصر الدولة على أن يحمل ما تَحْتَ يَدِهِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ وَلِأَخَوَيْهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ وَرُكْنِ الدَّوْلَةِ عَلَى مَنَابِرَ بِلَادِهِ كُلِّهَا فَفَعَلَ.
وَعَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ بِجَيْشٍ هَائِلٍ، وَأَخَذَ لَهُ عَهْدَ الْخَلِيفَةِ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ. وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ صَاحِبُ حَلَبَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَلَقِيَهُ جَمْعٌ كَثِيفٌ مِنَ الرُّومِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَ سَيْفُ الدولة وأخذت الروم ما كان معهم، وأوقعوا بأهل طرسوس بأسا شديدا، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وفي رمضان انتهت زيادة دجلة أحد وعشرين ذراعا وثلثا
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ اللَّهِ بن محمد بن حمدويه
ابن نُعَيْمِ بْنِ الْحَكَمِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَيِّعُ، وَهُوَ وَالِدُ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ، أَذَّنَ ثلاثا وستين سَنَةً وَغَزَا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، وَأَنْفَقَ عَلَى العلماء مائة ألف، وكان يقوم الليل كثيرا، وكان كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، أَدْرَكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بن حنبل وَمُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قُدَامَةُ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ
هُوَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ قُدَامَةَ أَبُو الْفَرَجِ الْكَاتِبُ، لَهُ مُصَنَّفٌ فِي الْخَرَاجِ وَصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ، وَبِهِ(11/220)
يَقْتَدِي عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ سَأَلَ ثَعْلَبًا عَنْ أَشْيَاءَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْمُذَكِّرُ الْوَاعِظُ بِنَيْسَابُورَ، كَانَ كَثِيرَ التَّدْلِيسِ عَنِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ لَمْ يَلْقَهُمْ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ سَامَحَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُطَهِّرِ بْنِ عَبْدِ الله
أبو المنجا الفقيه الفرضيّ الْمَالِكِيُّ، لَهُ كِتَابٌ فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْفَرَائِضِ قَلِيلَةُ النَّظِيرِ، وكان أديبا إماما فَاضِلًا صَادِقًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وثلاثين وثلاثمائة
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَنُهِبَتِ الْكَرْخُ. وَفِي جُمَادَى الآخرة تقلد أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ. وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ كَانَ قَدِ اسْتَوْجَبَ بَعْضَ الْعُقُوبَاتِ فَهَرَبَ مِنَ السُّلْطَانِ إِلَى نَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ، وكان يَقْتَاتُ مِمَّا يَصِيدُهُ مِنَ السَّمَكِ وَالطُّيُورِ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الصَّيَّادِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبَرِيدِيِّ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ جَيْشًا مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي جَعْفَرِ بن بويه الضميري، فهزم ذلك الصياد الوزير، واستحوذ على ما معه من الأموال، فقويت شوكة ذلك الصياد، ودهم الوزير وَفَاةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ وَهُوَ.
أَبُو الحسن على بن بويه
وهو أَكْبَرُ أَوْلَادِ بُوَيْهِ وَأَوَّلُ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْهُمْ، وكان عاقلا حاذقا حَمِيدَ السِّيرَةِ رَئِيسًا فِي نَفْسِهِ. كَانَ أَوَّلُ ظُهُورِهِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا. فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ قَوِيَتْ عليه الأسقام وتواترت عليه الآلام فأحس من نفسه بالهلاك، ولم يفاده ولا دفع عنه أمر الله ما هو فيه من الأموال والملك وكثرة الرجال والأموال، ولا رد عنه جيشه من الديالم والأتراك والأعجام، مع كثرة العدد والعدد، بل تخلوا عنه أحوج ما كان إليهم، فسبحان الله الملك القادر القاهر العلام. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى أخيه ركن الدولة يستدعيه إليه وولده عَضُدَ الدَّوْلَةِ، لِيَجْعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ فَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وخرج بنفسه في جميع جيشه يتلقاه، فلما دخل به إلى دَارَ الْمَمْلَكَةِ أَجْلَسَهُ عَلَى السَّرِيرِ وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَحَدِ الْأُمَرَاءِ، لِيَرْفَعَ مِنْ شَأْنِهِ عِنْدَ أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ. ثُمَّ عَقَدَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَمْوَالِ، وَتَدْبِيرِ المملكة والرجال. وفيهم من بعض رءوس الأمراء كراهة لِذَلِكَ، فَشَرَعَ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَسَجَنَ آخَرِينَ، حَتَّى تَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِشِيرَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وكان من خيار الملوك في زمانه، وكان ممن حاز قصب(11/221)
السبق دون أقرانه، وكان هو أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُكَاتِبُهُ الْخُلَفَاءُ، وَلَكِنْ أخوه معز الدولة كان ينوب عنه في العراق وَالسَّوَادِ. وَلَمَّا مَاتَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ اشْتَغَلَ الْوَزِيرُ أبو جعفر الضميري عن محاربة عمران بن شاهين الصياد- وكان قد كَتَبَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى شيراز ويضبط أمرها- فَقَوِيَ أَمْرُ عِمْرَانَ بَعْدَ ضَعْفِهِ، وَكَانَ مِنْ أمره ما سيأتي في موضعه.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو جَعْفَرٍ النحاس النحويّ.
أحمد بن محمد إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُونُسَ
أَبُو جَعْفَرٍ الْمُرَادِيُّ الْمِصْرِيُّ النَّحْوِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالنَّحَّاسِ، اللُّغَوِيِّ الْمُفَسِّرِ الْأَدِيبِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَلَقِيَ أَصْحَابَ الْمُبَرِّدِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْهَا يَوْمَ السَّبْتِ. وَكَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ جَلَسَ عِنْدَ الْمِقْيَاسِ يُقَطِّعُ شَيْئًا مِنَ الْعَرُوضِ فَظَنَّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ يَسْحَرُ النيل فَرَفَسَهُ بِرِجْلِهِ فَسَقَطَ فَغَرِقَ، وَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ ذهب. وقد كان أخذ النحو عن على بن سليمان الأحوص وأبى بكر الْأَنْبَارِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَنَفْطَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَهُ مصنفات كثيرة مفيدة، منها تفسير القرآن والناسخ والمنسوخ، وشرح أبيات سيبويه، ولم يصنف مثله، وشرح المعلقات والدواوين الْعَشَرَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ النَّسَائِيِّ وكان بخيلا جدا، وانتفع الناس به. وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ.
الْمُسْتَكْفِي باللَّه
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُكْتَفِي باللَّه، وَقَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ، ثُمَّ خُلِعَ وسملت عيناه كما تقدم ذكره. توفى فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ فِي دَارِهِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَشَهْرَانِ.
على بن ممشاد بن سحنون بن نصر
أبو الْمُعَدَّلُ، مُحَدِّثُ عَصْرِهِ بِنَيْسَابُورَ، رَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ وسمع الكثير وحدث وصنف مسندا أَرْبَعِمِائَةِ جُزْءٍ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ الْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ، وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالصِّيَانَةِ وَالْخَشْيَةِ للَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: صَحِبْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً. وَلَهُ تَفْسِيرٌ فِي مِائَتَيْ جُزْءٍ وَنَيِّفٍ، دَخَلَ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ فَتُوُفِّيَ فِيهِ فَجْأَةً، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ
أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ الْبَغْدَادِيُّ، ارْتَحَلَ إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بها حتى عرف بالمصري، سمع الكثير وروى عنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسُ وَعْظٍ يَحْضُرُ فِيهِ الرجال والنساء وكان يتكلم وهو مبرقع لئلا يرى النساء حسن وجهه، وقد حضر مجلسه أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ مُسْتَخْفِيًا فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ قَامَ قَائِمًا وَشَهَرَ نَفْسَهُ وَقَالَ لَهُ: الْقَصَصُ بعدك حرام. قال الخطيب: كان ثِقَةً أَمِينًا عَارِفًا، جَمَعَ حَدِيثَ اللَّيْثِ وَابْنِ لهيعة وله كتب كثيرة في الزهد. توفى فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سنة والله أعلم.(11/222)
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة
فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا رُدَّ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ الْمَكِّيُّ إِلَى مَكَانِهِ في البيت، وقد كان القرامطة أَخَذُوهُ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا تقدم، وكان ملكهم إذا ذَاكَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الحسين الجنابي، ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك، وَقَدْ بَذَلَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ خَمْسِينَ ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه فلم يفعلوا، وقالوا: نحن أخذناه بأمر فلا نَرُدُّهُ إِلَّا بِأَمْرِ مَنْ أَخَذْنَاهُ بِأَمْرِهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ حَمَلُوهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَعَلَّقُوهُ عَلَى الْأُسْطُوَانَةِ السَّابِعَةِ مِنْ جَامِعِهَا لِيَرَاهُ الناس، وكتب أخو أَبِي طَاهِرٍ كِتَابًا فِيهِ: إِنَّا أَخَذْنَا هَذَا الْحَجَرَ بِأَمْرٍ وَقَدْ رَدَدْنَاهُ بِأَمْرِ مَنْ أَمَرَنَا بِأَخْذِهِ لِيَتِمَّ حَجُّ النَّاسِ وَمَنَاسِكُهُمْ. ثُمَّ أَرْسَلُوهُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ شَيْءٍ عَلَى قَعُودٍ، فَوَصَلَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وللَّه الحمد والمنة، وكان مدة مغايبته عنده ثنتين وعشرين سنة، ففرح المسلمون لذلك فَرَحًا شَدِيدًا. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ القرامطة لما أَخَذُوهُ حَمَلُوهُ عَلَى عِدَّةِ جِمَالٍ فَعَطِبَتْ تَحْتَهُ واعترى أسنمتها القرح، ولما ردوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِجَيْشٍ عظيم نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَوَغَلَ فِيهَا وَفَتَحَ حُصُونًا وَقَتَلَ خَلْقًا وَأَسَرَ أُمَمًا وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا ثُمَّ رَجَعَ، فَأَخَذَتِ عليه الروم الدَّرْبَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ فَقَتَلُوا عَامَّةَ مَنْ مَعَهُ وَأَسَرُوا بَقِيَّتَهُمْ وَاسْتَرَدُّوا مَا كَانَ أَخَذَهُ، وَنَجَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أصحابه. وفيها مات الوزير أبو جعفر الضميري فاستوزر معز الدولة مكانه أبا محمد الحسين بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيَّ فِي جُمَادَى الْأُولَى. فَاسْتَفْحَلَ أمر عمران بن شاهين الصياد وتفاقم الأمر به، فبعث إليه معز الدولة جيشا بعد جيش، كل ذلك يَهْزِمُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، ثُمَّ عَدَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى مُصَالَحَتِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ عَلَى بَعْضِ تلك النواحي، ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْحَسَنُ بْنُ داود بن باب شاذ
أبو الحسن المصري قدم بغداد. كان مِنْ أَفَاضِلِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ، بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، مبسوط الذَّكَاءِ قَوِيَّ الْفَهْمِ، كَتَبَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً. مَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الشُّونِيزِيَّةِ وَلَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدٌ الْقَاهِرُ باللَّه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
ابْنُ الْمُعْتَضِدِ باللَّه، وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ بِطَّاشًا سَرِيعَ الِانْتِقَامِ، فَخَافَ مِنْهُ وزيره أبو على بن مقلة فاستتر منه فشرع فِي الْعَمَلِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَتْرَاكِ، فَخَلَعُوهُ وَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ وَأُودِعَ دَارَ الْخِلَافَةِ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ أُخْرِجَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، وَقَدْ نَالَتْهُ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَسَأَلَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى(11/223)
جَانِبِ أَبِيهِ الْمُعْتَضِدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ الْأَصْبَهَانِيُّ مُحَدِّثُ عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ كُتُبِهِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَمَكَثَ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَقُولُ:
اسْمِي مُحَمَّدٌ وَاسْمُ أَبِي عَبْدُ اللَّهِ وَاسْمُ أُمِّي آمِنَةُ، يَفْرَحُ بِهَذِهِ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ واسم الأم، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان اسمه محمد، واسم أبيه عبد الله، وأمه اسمها آمنه.
أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ
التُّرْكِيُّ الْفَيْلَسُوفُ، وَكَانَ مِنْ أعلم الناس بالموسيقى، بحيث كان يتوسل به وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المستمعين إن شاء حرك ما يبكى أو يضحك أو يُنَوِّمُ. وَكَانَ حَاذِقًا فِي الْفَلْسَفَةِ، وَمِنْ كُتُبِهِ تَفَقَّهَ ابْنُ سِينَا، وَكَانَ يَقُولُ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ لَا الْجُثْمَانِيِّ، وَيُخَصِّصُ بِالْمَعَادِ الْأَرْوَاحَ الْعَالِمَةَ لَا الْجَاهِلَةَ، وَلَهُ مَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ يُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةَ مِنْ سَلَفِهِ الْأَقْدَمِينَ، فَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ لَعْنَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. مَاتَ بِدِمَشْقَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ، وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ ذَكَرَهُ فِي تاريخه لنتنه وقباحته فاللَّه أعلم.
ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة
فِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ عُمَانَ الْبَصْرَةَ لِيَأْخُذَهَا فِي مَرَاكِبَ كَثِيرَةٍ، وَجَاءَ لِنَصْرِهِ أَبُو يَعْقُوبَ الْهَجَرِيُّ فمانعه الْوَزِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ وَصَدَّهُ عَنْهَا، وَأَسَرَ جماعة من أصحابه وسبى سبيا كَثِيرًا مِنْ مَرَاكِبِهِ فَسَاقَهَا مَعَهُ فِي دِجْلَةَ، وَدَخَلَ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وللَّه الْحَمْدُ. وَفِيهَا رُفِعَ إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي محمد المهلبي رجل من أصحاب أبى جعفر بن أبى العز الَّذِي كَانَ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ كَمَا قُتِلَ الحلاج، فكان هَذَا الرَّجُلَ يَدَّعِي مَا كَانَ يَدَّعِيهِ ابْنُ أبى العز، وقد اتبعه جماعة من الجهلة من أهل بغداد، وَصَدَّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ والصديقين تنتقل إِلَيْهِمْ. وَوُجِدَ فِي مَنْزِلِهِ كُتُبٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ هَالِكٌ ادَّعَى أَنَّهُ شيعي ليحضر عِنْدَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ. وَقَدْ كَانَ معز الدولة بن بويه يحب الرافضة قبحه الله. فلما اشتهر عنه ذَلِكَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْوَزِيرُ مِنْهُ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَأَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الشيعة، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. ولكنه احْتَاطَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ يُسَمِّيهَا أَمْوَالَ الزَّنَادِقَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ منها وقعت فتنة عظيمة بسبب المذهب.
وممن توفى فيها من الأعيان أشهب بن عبد العزيز بن أبى داود بن إبراهيم أبو عمر العامري- نسبة إلى عامر بن لؤيّ- كان أحد الفقهاء المشهورين.
توفى في شعبان منها.
أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَدَرَسَ فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ(11/224)
وانتهت إليه رئاسة أصحابه في البلاد، وَكَانَ مُتَعَبِّدًا كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ، عَزُوفًا عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ رَأْسًا فِي الِاعْتِزَالِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، وَرَوَى عنه حيوة وَابْنُ شَاهِينَ. وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرهِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَاشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ لِيُسَاعِدَهُ بِشَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي مَرَضِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ رَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهمّ لَا تَجْعَلْ رِزْقِي إِلَّا مِنْ حَيْثُ عَوَّدْتَنِي. فَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَا أَرْسَلَ بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ عشرة آلاف درهم. فتصدقوا بها بعد وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو تَمَّامٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَهُ، وَدُفِنَ فِي درب أبى زيد على نهو الواسطيين.
محمد بن صالح بن يزيد
أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ، وَكَانَ ثِقَةً زَاهِدًا لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ كَسْبِ يَدِهِ وَلَا يَقْطَعُ صَلَاةَ اللَّيْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَحِبْتُهُ سِنِينَ كَثِيرَةً فَمَا رَأَيْتُهُ فَعَلَ إِلَّا مَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَا قَالَ إِلَّا مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَكَانَ يَقُومُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ مَنْصُورِ بن قرابكين صَاحِبِ الْجُيُوشِ الْخُرَاسَانِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ نُوحٍ الساماني من مرض حَصَلَ لَهُ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ أَدْمَنَ شُرْبَ الْخَمْرِ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً فَهَلَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَأُقِيمَ بَعْدَهُ في الجيوش أبو على المحتاج الزَّجَّاجِيُّ، مُصَنِّفُ الْجُمَلِ.
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرحمن بن إسحاق النحويّ اللغوي الْبَغْدَادِيُّ الْأَصْلِ. ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، مُصَنِّفُ الْجُمَلِ فِي النَّحْوِ، وَهُوَ كِتَابٌ نَافِعٌ، كَثِيرُ الْفَائِدَةِ، صَنَّفَهُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَطُوفُ بَعْدَ كُلِّ بَابٍ مِنْهُ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَ بِهِ. أَخَذَ النَّحْوَ أَوَّلًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْيَزِيدِيِّ، وأبى بكر بن دريد، وابن الأنباري. توفى فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ. تُوَفِّيَ فِي دِمَشْقَ وقيل بطبرية. وقد شرح كتابه الْجُمَلُ بِشُرُوحٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْسَنِهَا وَأَجْمَعِهَا مَا وَضَعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وثلاثمائة
فيها ملكت الروم سروج وقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها. قال ابن الأثير: وفيها قصد موسى بن وجيه صَاحِبُ عُمَانَ الْبَصْرَةَ فَمَنَعَهُ مِنْهَا الْمُهَلَّبِيُّ كَمَا تقدم. وَفِيهَا نَقِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ فَضَرَبَهُ مائة وخمسين سوطا وَلَمْ يَعْزِلْهُ بَلْ رَسَمَ عَلَيْهِ. وَفِيهَا اخْتَصَمَ المصريون والعراقيون بمكة فخطبوا لِصَاحِبِ مِصْرَ، ثُمَّ غَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ فَخَطَبُوا لِرُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ
الْمَنْصُورِ الفاطمي
وهو أبو طاهر بن إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ صَاحِبِ الْمَغْرِبِ(11/225)
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عَاقِلًا شُجَاعًا فَاتِكًا قَهَرَ أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ الَّذِي كَانَ لَا يُطَاقُ شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَصَبْرًا، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا، يَرْتَجِلُ الْخُطْبَةَ عَلَى الْبَدِيهَةِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ ضَعْفُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ، وَقَدْ عُهِدَ بِالْأَمْرِ إلى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَهُوَ بَانِي الْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَةِ كَمَا سيأتي بيانه واسمه، وكان عمره إذا ذاك أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ شُجَاعًا عَاقِلًا أَيْضًا حَازِمَ الرَّأْيِ، أَطَاعَهُ مِنَ الْبَرْبَرِ وَأَهْلِ تِلْكَ النواحي خلق كثير، وبعث مولاه جوهر الْقَائِدَ فَبَنَى لَهُ الْقَاهِرَةَ الْمُتَاخِمَةَ لِمِصْرَ، وَاتَّخَذَ لَهُ فِيهَا دَارَ الْمُلْكِ، وَهُمَا الْقَصْرَانِ اللَّذَانِ هناك- اللذان يقال لهما بين القصرين اليوم- وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا سيأتي. وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صَالِحٍ
أَبُو عَلِيٍّ الصفار أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ، لَقِيَ الْمُبَرِّدَ وَاشْتَهَرَ بِصُحْبَتِهِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَرَوَى عنه جماعة منهم الدار قطنى. وَقَالَ صَامَ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ رَمَضَانًا، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زياد
ابن يونس بن درهم أبو سعيد بن الأعرابي، سَكَنَ مَكَّةَ وَصَارَ شَيْخَ الْحَرَمِ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَالنُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ كتبا للصوفية.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ
بْنِ الْمَهْدِيِّ الْمُلَقَّبِ بِالْمَنْصُورِ الْعُبَيْدِيِّ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ. وَهُوَ وَالِدُ الْمُعِزِّ بَانِي الْقَاهِرَةِ، وَهُوَ باني المنصورية ببلاد المغرب. قال أبو جعفر المروزي: خَرَجْتُ مَعَهُ لَمَّا كَسَرَ أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ، فبينما أنا أسير معه إذ سقط رحمه فَنَزَلْتُ فَنَاوَلْتُهُ إِيَّاهُ وَذَهَبْتُ أُفَاكِهُهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بَالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
فَقَالَ: هَلَّا قُلْتَ كَمَا قال الله تَعَالَى (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) 7: 117- 119 قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ ابْنُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت ببعض ما علمت، وأنا قلت بما بلغ به أكثر عِلْمِي. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا كَمَا جَرَى لعبد الملك ابن مَرْوَانَ حِينَ أَمَرَ الْحَجَّاجَ أَنْ يَبْنِيَ بَابًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَكْتُبَ عَلَيْهِ اسْمَهُ، فَبَنَى لَهُ بَابًا وَبَنَى لِنَفْسِهِ بَابًا آخَرَ، فَوَقَعَتْ صَاعِقَةٌ على باب عبد الملك فأحرقته، فكتب إلى الحجاج بالعراق يسأله عما أهمه من ذلك يقول: مَا أَنَا وَأَنْتَ إِلَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) 5: 27 فرضى عنه الخليفة بذلك. توفى المنصور في هذه السنة من برد شديد والله أعلم.(11/226)
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة
فِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ صَاحِبُ حَلَبَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرَ آخَرِينَ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا. وَفِيهَا اخْتَلَفَ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ وَوَقَعَتْ حروب بين أصحاب بن طُغْجٍ وَأَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَغَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ وَخَطَبُوا لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ اخْتَلَفُوا أيضا فغلبهم العراقيون أيضا وجرت حروب كثيرة بين الخراسانية والسامانية اتقصاها ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَهْمِ
أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ جَدُّ الْقَاضِي أَبِي القاسم التنوخي شيخ الخطيب البغدادي، وُلِدَ بِأَنْطَاكِيَّةَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْكَلَامَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَعَرِفُ النُّجُومَ وَيَقُولُ الشِّعْرَ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ فَهِمًا ذَكِيًّا حَفِظَ وَهُوَ ابن خمس عشر سنة قصيدة دعبل الشَّاعِرِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ سِتُّمِائَةِ بَيْتٍ، وَعَرَضَهَا عَلَى أَبِيهِ صَبِيحَتَهَا فَقَامَ إِلَيْهِ وَضَمَّهُ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا لِئَلَّا تُصِيبَكَ الْعَيْنُ. وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ نَدِيمًا لِلْوَزِيرِ الْمُهَلَّبِيِّ، وَوَفَدَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ فَأَكْرَمَهُ وأحسن إليه، وأورد له من شعره القفصي حَسَنَةً فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْخَمْرِ:
وَرَاحٍ مِنَ الشَّمْسِ مَخْلُوقَةٌ ... بَدَتْ لَكَ فِي قَدَحٍ مِنْ نَهَارِ
هَوَاءٌ، وَلَكِنَّهُ جَامِدٌ ... وَمَاءٌ، وَلَكِنَّهُ جَارِ
كَأَنَّ الْمُدِيرَ لَهُ بِالْيَمِينِ ... ، إِذَا مَالَ للفيء أو بالنهار
تدرع ثوبا من الياسمين ... له يردكم من الجلنار
محمد بن إبراهيم
ابن الحسين بن الحسن بن عبد الخلاق أَبُو الْفَرَجِ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ يُعْرَفُ بِابْنِ سُكَّرَةَ سَكَنَ مِصْرَ وَحَدَّثَ بِهَا وَسَمِعَ مِنْهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ مَسْرُورٍ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهِ لِينًا.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ
بْنِ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ هَارُونَ أَبُو بَكْرٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ مَكَّةَ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِدِمَ مِصْرَ فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيِّ بِمُوَطَّأِ مَالِكٍ. وَكَانَ ثِقَةً مأمونا توفى بمصر في ذي الحجة منها.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ الدُّمُسْتُقِ، فَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِ الدمستق وأسر آخرين في جماعة من رؤساء بطارقته، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ الدمستق، وذلك(11/227)
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ جَمَعَ الدُّمُسْتُقُ خَلْقًا كَثِيرًا فَالْتَقَوْا مَعَ سَيْفِ الدولة في شعبان منها، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ وَقِتَالٌ شَدِيدٌ، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ وَخَذَلَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خلق كثير، وأسر جماعة من الرؤساء، وَكَانَ مِنْهُمْ صِهْرُ الدُّمُسْتُقِ وَابْنُ بِنْتِهِ أَيْضًا. وفيها حصل للناس أمراض كثيرة وحمى وَأَوْجَاعٌ فِي الْحَلْقِ. وَفِيهَا مَاتَ الْأَمِيرُ الْحَمِيدُ بن نُوحُ بْنُ نَصْرٍ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عبد الملك.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ
أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ الْمِصْرِيُّ، صَحِبَ أَبَا على الروذبارى، وغيره، وكان عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ يُعَظِّمُ أَمْرَهُ وَيَقُولُ: أَبُو عَلِيٍّ الكاتب من السالكين إلى الله. وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَوْلُهُ: رَوَائِحُ نَسِيمِ الْمَحَبَّةِ تَفُوحُ من المحبين وإن كتموها، ويظهر عَلَيْهِمْ دَلَائِلُهَا وَإِنْ أَخْفَوْهَا، وَتَبْدُو عَلَيْهِمْ وَإِنْ ستروها. وأنشد:
إذا ما استسرت أنفس الناس ذكره ... تبين فيهم وان لم يتكلموا
تطيبهم أنفاسهم فتذيعها ... وَهَلْ سِرُّ مِسْكٍ أُودِعَ الرِّيحَ يُكْتَمُ؟
عَلِيُّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ هَمَّامٍ
أَبُو الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ الْكُوفِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا عن جماعة وروى عنه الدار قطنى. وكان ثقة عدلا كثير التلاوة فقيها، مكث يَشْهَدُ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، مَقْبُولًا عِنْدَهُمْ، وَأَذَّنَ فِي مَسْجِدِ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ أَبَوْهُ مِنْ قَبْلِهِ.
مُحَمَّدُ بن على بن أحمد بن الْعَبَّاسِ
الْكَرْخِيُّ الْأَدِيبُ، كَانَ عَالِمًا زَاهِدًا وَرِعًا، يختم القرآن كل يوم ويديم الصيام، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عَبْدَانَ وَأَقْرَانِهِ.
أَبُو الْخَيْرِ التيناني
العابد الزاهد، أصله من العرب، كان مقيما بقرية يقال لها تينان مِنْ عَمَلِ أَنْطَاكِيَةَ، وَيُعَرَفُ بِالْأَقْطَعِ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ، كَانَ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ عَهْدًا ثم نكثه، فاتفق له أنه مسك مع جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ فِي الصَّحْرَاءِ وَهُوَ هُنَاكَ سائح يتعبد، فَأُخِذَ مَعَهُمْ فَقُطِعَتْ يَدُهُ مَعَهُمْ، وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ، وَكَانَ يَنْسِجُ الْخُوصَ بِيَدِهِ الْوَاحِدَةِ. دخل عليه بعض الناس فشاهد منه ذلك فأخذ منه الْعَهْدَ أَنْ لَا يُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا مَا دام حياء، فَوَفَّى لَهُ بِذَلِكَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وأربعين وثلاثمائة
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِيهَا شَمِلَ النَّاسَ بِبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ وَأَصْبَهَانَ وَالْأَهْوَازِ دَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ دَمٍ وَصَفْرَاءَ وَوَبَاءٍ، مَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ كَانَ يَمُوتُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ نَفْسٍ،(11/228)
وجاء فيها جراد عظيم أكل الخضروات والأشجار والثمار. وفي المحرم منها عَقَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِابْنِهِ أَبِي مَنْصُورٍ بَخْتِيَارَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ بِإِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ. وَفِيهَا خَرَجَ رجل من أذربيجان ادَّعَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَكَانَ يُحَرِّمُ اللَّحْمَ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَضَافَهُ مَرَّةً رَجُلٌ فَجَاءَهُ بِطَعَامٍ كَشْكِيَّةٍ بِشَحْمٍ فَأَكَلَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ: إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّكَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَهَذَا طَعَامٌ فِيهِ شَحْمٌ وَأَنْتَ تحرمه فلم لا علمته؟
فتفرق عنه الناس. وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، استقصاها ابن الأثير.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عُثْمَانُ بْنُ أحمد
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ أَبُو عَمْرٍو الدَّقَّاقُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ، رَوَى عَنْ حَنْبَلِ بْنِ إسحاق وغيره، وعنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا، كَتَبَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةَ بخطه، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ التِّبْنِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَمْسُونَ أَلْفًا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو جَعْفَرٍ الْقَاضِي السَّمَنَانِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ ثِقَةً عالما فاضلا سَخِيًّا حَسَنَ الْكَلَامِ، عِرَاقِيَّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَتْ دَارُهُ مجمع العلماء، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْمَوْصِلِ وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بُطَّةَ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَكَنَ نَيْسَابُورَ ثُمَّ عَادَ إلى أصبهان. وليس هذا بعبد الله بن بطة العكبريّ، هذا متقدم عليه، هذا شيخ الطبراني وابن بطة الثاني يروى عن الطبراني، وهذا بضم الباء من بطة، وابن بطة الثاني وهو الفقيه الْحَنْبَلِيُّ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ كَانَ جَدُّ هَذَا، وَهُوَ ابن بُطَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو سَعِيدٍ، مِنَ الْمُحَدِّثِينَ أَيْضًا. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَجَّاجِ
أَبُو النضر الفقيه الطوسي، كان عَالِمًا ثِقَةً عَابِدًا. يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَاضِلِ مِنْ قُوتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إلى الأقاليم النائية والبلدان المتباعدة، وَكَانَ قَدْ جَزَّأَ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَثُلُثٌ لِلنَّوْمِ، وَثُلُثٌ لِلتَّصْنِيفِ، وَثُلُثٌ لِلْقِرَاءَةِ.
وَقَدْ رَآهُ بعضهم في النوم بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ لَهُ: وَصَلْتَ إِلَى مَا طلبت؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَرَضْتُ مُصَنَّفَاتِي فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ فَقَبِلَهَا.
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، رَوَى عَنِ(11/229)
النَّسَائِيِّ، وَقَالَ: رَضِيتُ بِهِ حُجَّةً بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْحَدَّادِ فَقِيهًا فُرُوعِيًّا، وَمُحَدِّثًا وَنَحْوِيًّا وَفَصِيحًا فِي الْعِبَارَةِ دَقِيقَ النَّظَرِ فِي الْفُرُوعِ، لَهُ كِتَابٌ فِي ذَلِكَ غَرِيبُ الشَّكْلِ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ نيابة عن أبى عبيد بن حربويه. ذكرناه فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ.
أَبُو يَعْقُوبَ الْأَذْرَعِيُّ
إِسْحَاقُ بن إبراهيم بن هاشم بن يعقوب النَّهْدِيُّ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: مِنْ أَهْلِ أَذْرِعَاتٍ- مَدِينَةٍ بِالْبَلْقَاءِ- أَحَدُ الثِّقَاتِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصالحين. رحل وحدث عنه جماعة من أجل أَهْلِ دِمَشْقَ وَعُبَّادِهَا وَعُلَمَائِهَا، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابن عساكر القفصي تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِهِ وَخَرْقِ الْعَادَةِ لَهُ، فَمِنْ ذلك قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَ بَصَرِي فَعَمِيتُ، فَلَمَّا اسْتَضْرَرْتُ بِالطَّهَارَةِ سَأَلْتُ اللَّهَ عَوْدَهُ فَرَدَّهُ عَلَيَّ.
تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- سنة أربع وخمسين- وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى التِّسْعِينَ.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة
وفيها عَصَى الرُّوزْبَهَانُ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَانْحَازَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَلَحِقَ بِهِ عَامَّةُ مَنْ كَانَ مَعَ الْمُهَلَّبِيِّ الَّذِي كَانَ يُحَارِبُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ معز الدولة لم يصدقه لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَرَفَعَ مِنْ قدره بعد الضعة والخمول، ثم تبين له أن ذلك حق، فخرج لقتاله وتبعه الْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ للَّه خَوْفًا مِنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بن حمدان فإنه قد بلغه أنه جهز جيشا مع ولده أبى المرجّى جاير إلى بغداد ليأخذها، فَأَرْسَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ حَاجِبَهُ سُبُكْتِكِينَ إِلَى بَغْدَادَ، وصمد معز الدولة إلى الروزبهان فاقتتلوا قتالا شديدا، وهزمه مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ وَأَخَذَهُ أَسِيرًا إِلَى بغداد فَسَجَنَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ لَيْلًا وَغَرَّقَهُ، لِأَنَّ الدَّيْلَمَ أَرَادُوا إِخْرَاجَهُ مِنَ السَّجْنِ قَهْرًا. وَانْطَوَى ذِكْرُ رُوزْبَهَانَ وَإِخْوَتِهِ، وَكَانَ قَدِ اشْتَعَلَ اشْتِعَالَ النَّارِ. وحظيت الأتراك عند معز الدولة وانحطت رتبة الدَّيْلَمُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي أَمْرِ الرُّوزْبَهَانِ وَإِخْوَتِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَقَتَلَ وَسَبَى وَرَجَعَ إِلَى حَلَبَ، فَحَمِيَتِ الرُّومُ فَجَمَعُوا وَأَقْبَلُوا إِلَى مَيَّافَارِقِينَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَحَرَقُوا وَرَجَعُوا، وَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى طَرَسُوسَ فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةٍ، وَسَبَوْا وَحَرَقُوا قُرًى كَثِيرَةً. وَفِيهَا زُلْزِلَتْ هَمَذَانُ زلزالا شديدا تهدمت الْبُيُوتُ وَانْشَقَّ قَصْرُ شِيرِينَ بِصَاعِقَةٍ، وَمَاتَ تَحْتَ الهدم خلق كثير لا يحصون كثرة، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ أَصْبَهَانَ وَأَهْلِ قُمَّ بِسَبَبِ سَبِّ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ قُمَّ، فثاروا عليهم أهل أصبهان وقتلوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَنَهَبُوا أَمْوَالَ التُّجَّارِ، فَغَضِبَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ لِأَهْلِ قُمَّ، لِأَنَّهُ كَانَ شِيعِيًّا، فصادر أهل أصبهان بأموال كثيرة.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
غُلَامُ ثَعْلَبٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الواحد بن أبى هاشم أبو عمرو الزَّاهِدُ غُلَامُ ثَعْلَبٍ، رَوَى عَنِ الْكُدَيْمِيِّ وَمُوسَى بن(11/230)
سهل الوشاء وغيرهما، روى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ وَكَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ حافظا مطيقا يُمْلِي مِنْ حِفْظِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، ضَابِطًا لِمَا يحفظه. ولكثرة إغرابه اتهمه بعض الرواة وَرَمَاهُ بِالْكَذِبِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ مَعَ الْقَاضِي أبى عمر حكاية- وكان يؤدب ولده- فإنه أَمْلَى مِنْ حِفْظِهِ ثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً بِشَوَاهِدِهَا وَأَدِلَّتِهَا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَاسْتُشْهِدَ عَلَى بَعْضِهَا بِبَيْتَيْنِ غريبين جدا، فعرضهما الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ الأنباري وابن مقسم، فلم يعرفوا منهما شَيْئًا. حَتَّى قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ:
هَذَا مَا وضعه أبو عمرو من عنده، فلما جاء أبو عمرو ذكر له القاضي ما قال ابن دريد عنه، فطلب أبو عمرو أَنْ يُحْضِرَ لَهُ مِنْ كُتُبِهِ دَوَاوِينَ الْعَرَبِ. فلم يزل أبو عمرو يعمد إلى كل مسألة ويأتيه بشاهد بَعْدَ شَاهِدٍ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الثَّلَاثِينَ مَسْأَلَةٍ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْبَيْتَانِ فَإِنَّ ثَعْلَبًا أَنْشَدَنَاهُمَا وأنت حاضر فكتبتهما في دفترك الفلاني، فَطَلَبَ الْقَاضِي دَفْتَرَهُ فَإِذَا هُمَا فِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ دُرَيْدٍ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أبى عمرو الزاهد فلم يذكره حتى مات. توفى أبو عمر وهذا يَوْمَ الْأَحَدِ وَدُفِنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ فِي الصُّفَّةِ الْمُقَابِلَةِ لِقَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ بِبَغْدَادَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رُسْتُمَ
أَبُو بكر المادرائى الكاتب، ولد في سنة خمس وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْعِرَاقِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ هُوَ وَأَخُوهُ أَحْمَدُ مَعَ أَبِيهِمَا، وَكَانَ عَلَى الْخَرَاجِ لِخُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، ثُمَّ صَارَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ وَأَكَابِرِهِمْ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَطَبَقَتِهِ. وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ بِبَابَيْ شَيْخٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكُتَّابِ قَدْ تعطل عَنْ وَظِيفَتِهِ، فَرَأَيْتُ وَالِدِي فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ أَنْتَ مَشْغُولٌ بِلَذَّاتِكَ وَالنَّاسُ بِبَابِكَ يَهْلَكُونَ مِنَ الْعُرْيِ وَالْجُوعِ، هَذَا فُلَانٌ قَدْ تَقَطَّعَ سَرَاوِيلُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْدَالِهِ، فَلَا تُهْمِلْ أَمْرَهُ. فَاسْتَيْقَظْتُ مذعورا وأنا ناوله الإحسان، ثم نمت فأنسيت الْمَنَامَ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ إِلَى دَارِ الْمَلِكِ، فإذا بذلك الرجل الّذي ذكره عَلَى دَابَّةٍ ضَعِيفَةٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَرَادَ أَنْ يترجل لي فَبَدَا لِي فَخِذُهُ وَقَدْ لَبِسَ الْخُفَّ بِلَا سراويل، فلما رأيت ذلك ذكرت المنام فاستدعيت به وأطلقت له ألف دينار وثياب، ورتبت لَهُ عَلَى وَظِيفَتِهِ مِائَتَيْ دِينَارٍ كُلَّ شَهْرٍ، ووعدته بِخَيْرٍ فِي الْآجِلِ أَيْضًا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن إسماعيل
ابن إِبْرَاهِيمَ طَبَاطَبَا بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الشَّرِيفُ الْحَسَنِيُّ الرَّسِّيُّ- قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ- أَبُو الْقَاسِمِ الْمِصْرِيُّ الشَّاعِرُ- كَانَ نَقِيبَ الطَّالِبِيِّينَ بِمِصْرَ وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
قَالَتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى ... باللَّه صِفْهُ، وَلَا تَنْقُصْ وَلَا تزد
فقلت: أبصرته لو مات من ظمأ ... وقال: قف لا ترد الماء لم يرد(11/231)
قَالَتْ: صَدَقْتَ، وَفَاءُ الْحُبِّ عَادَتُهُ ... يَا بَرْدَ ذاك الّذي قالت على كبدي
توفى ليلة الثلاثاء لخمس بقين مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وأربعين وثلاثمائة
فيها وقعت فتنة بين أهل الكرخ وأهل السنة بِسَبَبِ السَّبِّ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وفيها نقص البحر المالح ثمانين ذراعا. ويقال باعا. فبدت به جبال وجزائر وأماكن لم تكن ترى قبل ذلك. وفيها كان بِالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الرَّيِّ وَالْجَبَلِ وَقُمَّ وَنَحْوِهَا زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، تَسْكُنُ ثُمَّ تَعُودُ، فَتَهَدَّمَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَبْنِيَةٌ كَثِيرَةٌ وَغَارَتْ مياه كثيرة، ومات خلق كثير. وَفِيهَا تَجَهَّزَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ لِقِتَالِ ناصر الدولة بن حمدان بِالْمَوْصِلِ، فَرَاسَلَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَالْتَزَمَ لَهُ بِأَمْوَالٍ يحملها إليه كل سنة، فسكت عنه، ثم إنه مع ما اشترط على نفسه لم يرجع عنه معز الدولة، بل قصده في السنة الآتية كما سيأتي بيانه. وفي تشرين منها كثرت في الناس أو رام في حلوقهم ومناخرهم، وكثر فيهم مَوْتُ الْفَجْأَةِ، حَتَّى إِنَّ لِصًّا نَقَبَ دَارًا لِيَدْخُلَهَا فَمَاتَ وَهُوَ فِي النَّقْبِ. وَلَبِسَ الْقَاضِي خلعة القضاء ليخرج للحكم فَلَبِسَ إِحْدَى خُفَّيْهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَ الأخرى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ عبد الله بن الحسين
أبو هريرة العذري، الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْمَشَايِخِ، كَتَبَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الأول مِنْهَا
الْحَسَنُ بْنُ خَلَفِ بْنِ شَاذَانَ
أَبُو عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ رَوَى عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. هَكَذَا رَأَيْتُ ابن الجوزي ذكر هذه الترجمة في هذه السنة في منتظمه وَاللَّهُ أَعْلَمُ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيِّ مَوْلَاهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، رأى الذُّهْلِيَّ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَرَحَلَ بِهِ أَبُوهُ إِلَى أَصْبَهَانَ وَمَكَّةَ وَمِصْرَ وَالشَّامَ وَالْجَزِيرَةِ وَبَغْدَادَ وغيرها من البلاد، فسمع الكثير بها عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ صَارَ مُحَدِّثًا كبيرا، ثم طرأ عليه الصمم فاستحكم حَتَّى كَانَ لَا يَسْمَعُ نَهِيقَ الْحِمَارِ، وَكَانَ مؤذنا في مسجده ثلاثين سَنَةً، وَحَدَّثَ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَأَلْحَقَ الْأَحْفَادَ بِالْأَجْدَادِ وَكَانَ ثِقَةً صَادِقًا ضَابِطًا لِمَا سَمِعَهُ ويسمعه، كُفَّ بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، وَكَانَ يُحَدِّثُ من حفظه بأربع عَشَرَ حَدِيثًا، وَسَبْعِ حِكَايَاتٍ وَمَاتَ وَقَدْ بَقِيَ لَهُ سَنَةٌ مِنَ الْمِائَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سبع وأربعين وثلاثمائة
فِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِبَغْدَادَ فِي شَهْرِ نِيسَانَ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ فَمَاتَ بِسَبَبِهَا خلق كثير،(11/232)
وَخَرِبَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ، وَظَهَرَ فِي آخِرِ نِيسَانَ وَشَهْرِ أَيَّارَ جَرَادٌ كَثِيرٌ أَتْلَفَ الْغَلَّاتِ الصَّيْفِيَّةَ وَالثِّمَارَ. وَدَخَلَتِ الرُّومُ آمِدَ، وَمَيَّافَارِقِينَ، فَقَتَلُوا أَلْفًا وخمسمائة إنسان، وأخذوا مدينة سمساط وأخربوها. وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَهَرَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ، ثُمَّ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ، فلحقه معز الدولة فصار إلى حلب إلى عند أخيه سيف الدولة، ثم أرسل سيف الدولة إلى مُعِزَّ الدَّوْلَةِ فِي الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، فوقع الصلح على أن يحمل ناصر الدولة في كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَرَجَعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ انْعِقَادِ الصُّلْحِ، وقد امتلأت البلاد رفضا وسبا للصحابة من بنى بويه وبنى حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصرا وشاما وعراقا وخراسان وغير ذلك من البلاد، كانوا رفضا، وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، فكثر السب والتكفير منهم للصحابة.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ مَوْلَاهُ أَبَا الْحَسَنِ جوهر القائد في جيوش معه ومعه زيري بن هناد الصنهاجى ففتحوا بلادا كثيرة من أقصى بلاد الْمَغْرِبِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، فَأَمَرَ جَوْهَرُ بِأَنْ يُصْطَادَ لَهُ مِنْهُ سَمَكٌ، فَأَرْسَلَ بِهِ فِي قِلَالِ الْمَاءِ إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وحظي عنده جوهر وعظم شأنه حتى صار بمنزلة الوزير.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الزُّبَيْرُ بْنُ عبد الرحمن
ابن مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. أبو عبد الله الأستراباذيّ، رَحَلَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَطَوَّفَ الْأَقَالِيمَ، سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ سُفْيَانَ وَابْنَ خُزَيْمَةَ وَأَبَا يَعْلَى وَخَلْقًا، وَكَانَ حَافِظًا مُتْقِنًا صَدُوقًا، صَنَّفَ الشُّرُوحَ وَالْأَبْوَابَ.
أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ
صَاحِبُ تَارِيخِ مِصْرَ. هو عبد الرحمن بْنِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ الْمِصْرِيُّ الْمُؤَرِّخُ، كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا خَبِيرًا بِأَيَّامِ النَّاسِ وَتَوَارِيخِهِمْ، لَهُ تَارِيخٌ مُفِيدٌ جِدًّا لِأَهْلِ مِصْرَ وَمَنْ وَرَدَ إِلَيْهَا. وَلَهُ وَلَدٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ، كَانَ مُنَجِّمًا لَهُ زِيجٌ مُفِيدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ أَصْحَابُ هَذَا الْفَنِّ، كَمَا يرجع أصحاب الحديث إِلَى أَقْوَالِ أَبِيهِ وَمَا يُؤَرِّخُهُ وَيَنْقُلُهُ وَيَحْكِيهِ، ولد الصدفي سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الآخرة في القاهرة.
ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دَرَسْتَوَيْهِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ، سَكَنَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ عَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَابْنَ قتيبة والمبرد، وسمع منه الدار قطنى وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، منهم أبو عبد الله بن مندة، توفى في صفر منها، وذكر له ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً مُفِيدَةً، فِيمَا يَتَعَلَّقُ باللغة والنحو وغيره.
محمد بن الحسن
ابن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ قَاضِي(11/233)
بَغْدَادَ، كَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ طَلَّابَةً لِلْحَدِيثِ، وَمَعَ هذا كان ينسب إلى أخذ الرشوة في الأحكام والولايات رحمه الله.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ الْخَاطِبُ الدِّمَشْقِيُّ. وَأَظُنُّهُ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ حَارَةُ الْخَاطِبِ مِنْ نَوَاحِي بَابِ الصَّغِيرِ، كَانَ خَطِيبَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ الْإِخْشِيدِ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنَ الْوَجْهِ مَلِيحَ الشَّكْلِ، كَامِلَ الْخُلُقِ.
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، هَكَذَا أَرَّخَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وأربعين وثلاثمائة
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَوَقَعَ حَرِيقٌ بِبَابِ الطَّاقِ، وَغَرِقَ فِي دِجْلَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ حجاج الموصل، نحو من ستمائة نفس. وفيها دخلت الروم طرسوس والرها وقتلوا وسبوا، وأخذوا الأموال ورجعوا. وَفِيهَا قَلَّتِ الْأَمْطَارُ وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ وَاسْتَسْقَى النَّاسُ فَلَمْ يُسْقَوْا، وَظَهَرَ جَرَادٌ عَظِيمٌ فِي آذَارَ فَأَكَلَ مَا نَبَتَ مِنَ الْخُضْرَاوَاتِ، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ جدا على الخلق فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَفِيهَا عَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ مِنَ الْمَوْصِلِ وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ ابْنِ أَخِيهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَسَيَّرَهَا معه إلى بغداد.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ شيبان الْقِرْمِيسِينِيُّ
شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ بِالْجَبَلِ، صَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيَّ. وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: إِذَا سَكَنَ الْخَوْفُ الْقَلْبَ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهُ، وَطَرَدَ عَنْهُ الرَّغْبَةَ فِي الدُّنْيَا.
أَبُو بَكْرٍ النجاد
أحمد بن سليمان بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ، أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ الْفَقِيهُ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ وَأَبَا دَاوُدَ، وَالْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ أَبِي الدُّنْيَا وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ مَاشِيًا حَافِيًا، وَقَدْ جَمَعَ الْمُسْنَدَ وَصَنَّفَ فِي السُّنَنِ كتابا كبيرا، وكان له يجامع المنصور حلقتان، واحدة للفقه وأخرى لا ملاء الحديث، وحدث عنه الدار قطنى وَابْنُ رِزْقَوَيْهِ وَابْنُ شَاهِينَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ وَيُفْطِرُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى رَغِيفٍ وَيَعْزِلُ مِنْهُ لُقْمَةً، فإذا كانت ليلة الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف صحيحا. توفى ليلة الجمعة لعشرين مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ودفن قريبا من قبر بشر الْحَافِي رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرِ بْنِ الْقَاسِمِ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَوَّاصُ الْمَعْرُوفُ بِالْخُلْدِيِّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ كَثِيرًا، وَحَجَّ سِتِّينَ حِجَّةً، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا دَيِّنًا.(11/234)
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أبو عمر الزجاج النَّيْسَابُورِيُّ، صَحِبَ أَبَا عُثْمَانَ وَالْجُنَيْدَ وَالنُّورِيَّ وَالْخَوَّاصَ وَغَيْرَهُمْ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ وَكَانَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ بِهَا، وَحَجَّ سِتِّينَ حِجَّةً، وَيُقَالُ إِنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَتَغَوَّطْ وَلَمْ يَبُلْ إِلَّا خَارِجَ الحرم بمكة
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ
ابن يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو بَكْرٍ الْأَدَمِيُّ، صاحب الألحان، كان حسن الصوت بتلاوة القرآن وربما سمع صوته من بعد فِي اللَّيْلِ، وَحَجَّ مَرَّةً مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ البغوي، فلما كانوا بالمدينة دخلوا المسجد النبوي فوجدوا شَيْخًا أَعْمَى يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ أَخْبَارًا مَوْضُوعَةً مكذوبة، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ بعض أصحابه: إنك لست ببغداد يعرفك الناس إذا أنكرت عليه، ومن يعرفك هنا قليل والجمع كثير، ولكن نرى أن تأمر أبا بكر الأدمي فيقرأ، فأمره فاستفتح فقرأ فلم يتم الاستعاذة حتى انجفل الناس عن ذلك الأعمى وتركوه وجاءوا إلى أبى بكر ولم يبق عند الضرير أَحَدٌ، فَأَخَذَ الْأَعْمَى بِيَدِ قَائِدِهِ وَقَالَ لَهُ: اذهب بنا فهكذا تزول النعم. توفى يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: ما فعل الله بك؟
قال: وقفني بين يديه وقاسيت شدائد وأهوالا. فقلت له: فتلك القراءة الحسنة وذلك الصوت الحسن وتلك المواقف؟ فقال: ما كان شيء أضر على من ذلك، لأنها كانت للدنيا. فقلت: إلى أي شيء انتهى أمرك؟ فقال: قال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ على
ابن الحسن بن إبراهيم بن طَبَاطَبَا بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الهاشمي المصري، كان من ساداتها وكبرائها، لا تزال الحلوى تُعْقَدُ بِدَارِهِ، وَلَا يَزَالُ رَجُلٌ يَكْسِرُ اللَّوْزَ بسببها، وللناس عليه رواتب من الحلوى، فَمِنْهُمْ مَنْ يُهْدَى إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَمِنْهُمْ في الجمعة، ومنهم في الشهر. وكان لكافور الإخشيد عليه في كل يوم جامان ورغيف من الحلوى، ولما قدم المعز الفاطمي إلى القاهرة وتلقاه سأله: إِلَى مَنْ يَنْتَسِبُ مَوْلَانَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: الْجَوَابُ إِلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَصْرَ جَمَعَ الْأَشْرَافَ وَسَلَّ نِصْفَ سَيْفِهِ وَقَالَ هَذَا نَسَبِي، ثُمَّ نَثَرَ عَلَيْهِمُ الذَّهَبَ وَقَالَ: هَذَا حَسَبِي. فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَائِلَ لِلْمُعِزِّ هَذَا الْكَلَامَ ابْنُ هَذَا [1] أَوْ شريف آخر فاللَّه أَعْلَمُ. فَإِنَّ وَفَاةَ هَذَا كَانَتْ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَالْمُعِزُّ إِنَّمَا قَدِمَ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وثلاثمائة
فِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِأَذْرَبِيجَانَ مِنْ أَوْلَادِ عِيسَى بن المكتفي باللَّه فلقب بالمستجير باللَّه ودعا إلى الرضا
__________
[1] كذا بالأصل. وليحرر.(11/235)
مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ دَوْلَةِ الْمَرْزُبَانِ في ذلك الزمان، فاقتتلوا قتالا شديدا ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُسْتَجِيرِ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَمَاتَ، واضمحل أمره. وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حصونا وأحرق بلدانا كثيرة، وسبى وغنم وكر راجعا، فأخذت الروم عليه فَمَنَعُوهُ مِنَ الرُّجُوعِ وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَصْحَابِهِ فما نجا هو فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وأهل السنة قتل فيها خلق كثير، وفي آخِرِهَا تُوُفِّيَ أَنُوجُورُ بْنُ الْإِخْشِيدِ صَاحِبُ مِصْرَ، فأقام بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ عَلِيٌّ. وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْأَهْوَازِ وَوَاسِطٍ. وَفِيهَا رَجَعَ حَجِيجُ مِصْرَ مِنْ مَكَّةَ فَنَزَلُوا وَادِيًا فجاءهم سيل فأخذهم فَأَلْقَاهُمْ فِي الْبَحْرِ عَنْ آخِرِهِمْ. وَفِيهَا أَسْلَمَ مِنَ التُّرْكِ مِائَتَا أَلْفِ خَرْكَاهْ فَسُمُّوا تُرْكَ إِيمَانٍ، ثُمَّ خُفِّفَ اللَّفْظُ بِذَلِكَ، فَقِيلَ تُرْكُمَانُ:
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ الْكَاتِبُ
كَانَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَثَرْوَةٌ عَظِيمَةٌ تقارب أبهة الوزارة، فَاجْتَازَ يَوْمًا وَهُوَ رَاكِبٌ فِي مَوْكِبٍ لَهُ عَظِيمٍ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ من الْحَقِّ) 57: 16 فَصَاحَ: اللَّهمّ بَلَى، وَكَرَّرَهَا دَفَعَاتٍ ثُمَّ بَكَى ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه وطرحها ودخل دِجْلَةَ فَاسْتَتَرَ بِالْمَاءِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى فرق جميع أمواله فِي الْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَرَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ بالكلية، فاجتاز به رجل فتصدق عليه بئوبين فَلَبِسَهُمَا وَخَرَجَ فَانْقَطَعَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى مات رحمه الله:
أبو على الحافظ
ابن عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ دَاوُدَ أَبُو عَلِيٍّ الحافظ النيسابورىّ، أحد أئمة الحفاظ المتقنين المصنفين. قال الدار قطنى: كَانَ إِمَامًا مُهَذَّبًا، وَكَانَ ابْنُ عُقْدَةَ لَا يتواضع لأحد كتواضعه له. توفى في جمادى الآخرة عن اثنتين وخمسين سنة.
حسان بن محمد بن أحمد بن مروان
أبو الوليد القرشي الشَّافِعِيُّ إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِخُرَاسَانَ فِي زَمَانِهِ، وَأَزْهَدُهُمْ وَأَعْبَدُهُمْ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمُفِيدَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي الشافعيين. كانت وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سنة.
حمد بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ
أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ، سمع الكثير وصنف التصانيف الحسان، مِنْهَا الْمَعَالِمُ شَرَحَ فِيهَا سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ، والأعلام شرح فيه البخاري، وغريب الْحَدِيثِ. وَلَهُ فَهْمٌ مَلِيحٌ وَعِلْمٌ غَزِيرٌ وَمَعْرِفَةٌ باللغة والمعاني والفقه. ومن أشعاره قوله:(11/236)
مَا دُمْتَ حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُ ... فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ الْمُدَارَاةِ
مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى ... عَمَّا قَلِيلٍ نديما للندامات
هكذا ترجمه أبو الفرج ابن الجوزي حَرْفًا بِحَرْفٍ.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عُمَرَ بْنِ محمد
ابن أَبِي هَاشِمٍ. كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحُرُوفِ الْقِرَاءَاتِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ، وَكَانَ مِنَ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ، رَوَى عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَعَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الحماني، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ.
أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ
الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو أحمد العسال الأصبهاني أحد الأئمة الْحُفَّاظِ وَأَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَحَدَّثَ بِهِ، قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: كَتَبْتُ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ لم أر أفهم ولا أَتْقَنَ مِنْ أَبِي أَحْمَدَ الْعَسَّالِ. تُوُفِّيَ فِي رمضان منها رحمه الله. والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا مَرِضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بِانْحِصَارِ الْبَوْلِ فَقَلِقَ مِنْ ذَلِكَ وَجَمَعَ بين صاحبه سُبُكْتِكِينَ وَوَزِيرِهِ الْمُهَلَّبِيِّ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا وَوَصَّاهُمَا بِوَلَدِهِ بَخْتِيَارَ خَيْرًا، ثُمَّ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ فَعَزَمَ على الرحيل إلى الأهواز لاعتقاده أن ما أصابه من هذه العلة بسبب هواء بغداد ومائها، فأشاروا عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ بِهَا، وَأَنْ يَبْنِيَ بِهَا دَارًا فِي أَعْلَاهَا حَيْثُ الْهَوَاءُ أَرَقُّ وَالْمَاءُ أَصْفَى، فبنى له دارا غرم عليه ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاحْتَاجَ لِذَلِكَ أن يصادر بعض أصحابه، ويقال أنفق عليها أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَاتَ وَهُوَ يَبْنِي فِيهَا ولم يسكنها، وقد خرب القفصي كثيرة من معالم الخلفاء ببغداد في بنائها، وكان مما خرب المعشوق من سرمن رَأَى، وَقَلَعَ الْأَبْوَابَ الْحَدِيدَ الَّتِي عَلَى مَدِينَةِ المنصور والرصافة وقصورها، وَحَوَّلَهَا إِلَى دَارِهِ هَذِهِ، لَا تَمَّتْ فَرْحَتُهُ بها، فإنه كان رافضيا خبيثا.
وَفِيهَا مَاتَ الْقَاضِي أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقُبِضَتْ أَمْلَاكُهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ أبو عبد الله الحسين بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَضَمِنَ أَنْ يُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَسَارَ وَمَعَهُ الدبابات وَالْبُوقَاتُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَمِنَ القضاء ورشى عليه والله أعلم. وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ للَّه فِي الحضور عنده ولا في حضور الموكب من أجل ذلك غضبا عليه، ثُمَّ ضَمِنَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الشُّرْطَةَ وَضَمِنَ الْحِسْبَةَ أَيْضًا.
وَفِيهَا سَارَ قَفَلٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ يُرِيدُونَ طَرَسُوسَ، وَفِيهِمْ نَائِبُ أَنْطَاكِيَةَ، فَثَارَ عَلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ فَأَخَذُوهُمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ سِوَى النَّائِبِ جَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ بَدَنِهِ. وَفِيهَا دَخَلَ نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ وَرَجَعَ سَالِمًا.(11/237)
وفيها توفى
الأمير. نوح بن عبد الملك الساماني
صاحب خراسان وغزنة وما وراء النهر، سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَمَاتَ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ.
النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ
صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ يَوْمَ مَاتَ ثَلَاثٌ وسبعون سنة، وترك أحد عشر ولدا، كان أَبْيَضَ حَسَنَ الْوَجْهِ عَظِيمَ الْجِسْمِ طَوِيلَ الظَّهْرِ قَصِيرَ السَّاقَيْنِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَوِيِّينَ الدَّاخِلِينَ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُ ضَعْفُ الْخُلَفَاءِ بِالْعِرَاقِ، وَتَغَلُّبُ الفاطميين، فتلقب قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْحَكَمُ وَتَلَقَّبَ بالمنتصر، وكان الناصر شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ نَاسِكًا شَاعِرًا، وَلَا يُعْرَفُ فِي الخلفاء أطول مدة منه، فإنه أقام خليفة خمسين سنة، إلا الفاطمي الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الْحَاكِمِ الْفَاطِمِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَإِنَّهُ مكث ستين سنة كما سيأتي ذلك. وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ أَبُو سَهْلٍ الْقَطَّانُ. كَانَ ثِقَةً حَافِظًا كَثِيرَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ، حَسَنَ الانتزاع للمعاني من القرآن، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) 3: 156.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَيَانٍ أبو محمد الحطبى
سمع الحديث من ابن أبى أسامة وعبد الله بن أحمد والكوكبي وغيرهم، وعنه الدار قطنى وغيره، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا فَاضِلًا نَبِيلًا عَارِفًا بِأَيَّامِ الناس، وَلَهُ تَارِيخٌ مُرَتَّبٌ عَلَى السِّنِينَ، وَكَانَ أَدِيبًا لبيبا عاقلا صدوقا، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ إحدى وثمانين سنة.
أحمد بن محمد بن سعيد
ابن عبيد الله بن أحمد بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الْوَرَّاقُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ فُطَيْسٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْكِتَابَةِ مَشْهُورًا بِهَا، وَكَانَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ لِابْنِ جَوْصَا، تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِثَانِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدِ بن عباس
ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ، حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَعَنْهُ ابْنُ رِزْقَوَيْهِ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ
أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ الْفَقِيهُ الشافعيّ، أحد الأئمة المحررين في الخلاف، وهو أول من صنف فيه،(11/238)
وله الإيضاح في المذهب، وكتاب في الجدل، وفي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّبَقَاتِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بن إبراهيم
ابن عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ الهاشمي الامام، ويعرف بابن بويه، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، رَوَى عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدْ خطب فيه سنة ثلاثين وثلاثمائة وقبلها تمام سنة، ثم خَطَبَ فِيهِ الْوَاثِقُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُمَا فِي النَّسَبِ إِلَى الْمَنْصُورِ سَوَاءٌ. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ موسى بن عبد الله أبو السائب القاضي الهمذانيّ الشافعيّ، كان فاضلا بارعا، ولى الْقَضَاءَ، وَكَانَ فِيهِ تَخْلِيطٌ فِي الْأُمُورِ، وَقَدْ رآه بعضهم بعد موته فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟
قَالَ: غَفَرَ لِي وَأَمَرَ بِي إِلَى الْجَنَّةِ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي مِنَ التَّخْلِيطِ، وَقَالَ لِي: إِنِّي كتبت عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ. وَهَذَا الرَّجُلُ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ ببغداد من الشافعية والله أعلم.
محمد بن أحمد بن حيان
أَبُو بَكْرٍ الدِّهْقَانُ، بَغْدَادِيٌّ، سَكَنَ بُخَارَى وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ مُكْرَمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَتُوُفِّيَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو عَلِيٍّ الْخَازِنُ
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا فَوُجِدَ فِي دَارِهِ مِنَ الدَّفَائِنِ وَعِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْوَدَائِعِ مَا يُقَارِبُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وثلاثمائة
فيها كان دخول الروم إلى حلب صحبة الدمستق ملك الروم لعنه الله، فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أنه ورد إليها بَغْتَةً فَنَهَضَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بمن حضر عنده من المقاتلة، فَلَمْ يَقْوَ بِهِ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ قَلِيلَ الصَّبْرِ فَفَرَّ مُنْهَزِمًا فِي نَفَرٍ يسير من أصحابه، فأول ما استفتح به الدمستق قبحه الله أن استحوذ على دار سيف الدولة، وكانت ظاهر حلب، فأخذ ما فيها من الأموال العظيمة والحواصل الكثيرة، والعدد وآلات الحرب، أخذ من ذلك ما لا يحصى كثرة، وأخذ ما فيها من النساء والولدان وغيرهم، ثم حاصر سور حلب فَقَاتَلَ أَهْلَ الْبَلَدِ دُونَهُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَقَتَلُوا خلقا كثيرا من الروم، وثلمت الروم بسور حلب ثُلْمَةً عَظِيمَةً، فَوَقَفَ فِيهَا الرُّومُ فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَأَزَاحُوهُمْ عَنْهَا، فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ جَدَّ المسلمون في إعادتها فَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ إِلَّا وَهِيَ كَمَا كَانَتْ، وحفظوا السور حفظا عظيما، ثم بلغ المسلمون أن الشرط والبلاحية قد عاثوا في داخل البلد ينهبون البيوت، فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم قبحهم الله، فإنهم أهل شر وفساد، فلما فعلوا ذلك غلبت الرُّومُ عَلَى السُّورِ فَعَلَوْهُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ يَقْتُلُونَ مَنْ لَقُوهُ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا وانتهبوا الأموال وأخذوا الأولاد وَالنِّسَاءَ. وَخَلَّصُوا مَنْ كَانَ(11/239)
بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُسَارَى الرُّومِ، وَكَانُوا أَلْفًا وأربعمائة، فأخذ الأسارى السيوف وقاتلوا المسلمين، وكانوا أضر على المسلمين من قومهم، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ شَيْئًا كَثِيرًا، ومن الرجال الشباب أَلْفَيْنِ، وَخَرَّبُوا الْمَسَاجِدَ وَأَحْرَقُوهَا، وَصَبُّوا فِي جِبَابِ الزَّيْتِ الْمَاءَ حَتَّى فَاضَ الزَّيْتُ عَلَى وَجْهِ الأرض، وأهلكوا كل شيء قدروا عليه، وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِهِ أَحْرَقُوهُ، وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الأفاعيل الفاسدة العظيمة، كل ذلك بسبب فعل البلاحية والشرط في البلد قاتلهم الله. وكذلك حاكمهم ابن حمدان كان رافضيا يحب الشيعة ويبغض أهل السنة، فاجتمع على أهل حلب عدة مصائب، ثم عزم الدمستق على الرحيل عنهم خوفا من سيف الدولة، فقال له ابن أخيه: أين تذهب وتدع القلعة وأموال الناس غالبها فيها ونساؤهم؟ فقال له الدمستق: إنا قد بلغنا فوق ما كنا نأمل، وإن بها مقاتلة ورجالا غزاة، فقال له لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إليها، فصعد إليها في جيش ليحاصرها فرموه بحجر فقتلوه فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ مِنْ بَيْنِ الْجَيْشِ كُلِّهِ، فغضب عند ذلك الدمستق وأمر بإحضار من في يديه مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، فضربت أعناقهم بين يديه لعنه الله، ثم كر راجعا. وَقَدْ دَخَلُوا عَيْنَ زَرْبَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي المحرم من هذه السنة، فأستأمنه أهلها فأمنهم وأمر بأن يدخلوا كلهم المسجد ومن بقي في منزله قتل، فصاروا إلى المسجد كلهم ثم قال: لا يبقين أحد من أهلها الْيَوْمَ إِلَّا ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ قُتِلَ، فَازْدَحَمُوا فِي خُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَخَرَجُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَذْهَبُونَ، فَمَاتَ فِي الطُّرُقَاتِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ. ثُمَّ هَدَمَ الْجَامِعَ وَكَسَرَ الْمِنْبَرَ وَقَطَعَ مِنْ حَوْلِ الْبَلَدِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ نَخْلَةٍ، وَهَدَمَ سور البلد والمنازل المشار إليها، وَفَتَحَ حَوْلَهَا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ حِصْنًا بَعْضُهَا بِالسَّيْفِ وبعضها بالأمان، وقتل الملعون خلقا كثيرا، وكان في جملة من أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان تائب مَنْبِجَ مِنْ جِهَةِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ شَاعِرًا مطيقا، له ديوان شعر حسن، وكان مدة مقامه بعين زربة إحدى وعشرين يوما، ثم سار إلى قيسرية فَلَقِيَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ مَعَ نَائِبِهَا ابْنِ الزَّيَّاتِ، فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَأَدْرَكَهُ صَوْمُ النَّصَارَى فَاشْتَغَلَ بِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ، ثُمَّ هجم على حلب بغتة، وكان من أمره ما ذكرناه. وفيها كَتَبَتِ الْعَامَّةُ مِنَ الرَّوَافِضِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ لعنة مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكتبوا أيضا: ولعن الله من غصب فاطمة حقها، وكانوا يلعنون أبا بكر وَمَنْ أَخْرَجَ الْعَبَّاسَ مِنَ الشُّورَى، يَعْنُونَ عُمَرَ، وَمَنْ نَفَى أَبَا ذَرٍّ- يَعْنُونَ عُثْمَانَ- رَضِيَ الله عن الصحابة، وعلى من لعنهم لعنة الله، ولعنوا من منع من دَفْنَ الْحَسَنِ عِنْدَ جَدِّهِ يَعْنُونَ مَرْوَانَ بْنَ الحكم، ولما بلغ ذلك جميعه مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ، ثُمَّ بلغه أن أهل السنة محوا ذلك وكتبوا عوضه لَعَنَ اللَّهُ الظَّالِمِينَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنَ الْأَوَّلِينَ والآخرين، والتصريح(11/240)
باسم معاوية في اللعن، فأمر بكتب ذلك، قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا ينصرون، وَكَذَلِكَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِحَلَبَ فِيهِ تشيع وميل إلى الروافض، لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ، بل يديل عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ لِمُتَابَعَتِهِمْ أَهْوَاءَهُمْ، وَتَقْلِيدِهِمْ سَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ وآباءهم وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام، وكان فيهم الرفض وغيره، استحوذ الفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها، حتى بيت المقدس، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى حَلَبَ وَحِمْصَ وحماة ودمشق وبعض أعمالها، وجميع السواحل وغيرها مع الفرنج، والنواقيس النصرانية والطقوص الانجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الايمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع، والناس معهم في حصر عظيم، وضيق من الدين، وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب، وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بسبب السب أيضا، قتل فيها خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ.
وَفِيهَا أَعَادَ سَيْفُ الدولة بن حمدان بِنَاءَ عَيْنِ زَرْبَةَ، وَبَعَثَ مَوْلَاهُ نَجَا فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَى جَمًّا غَفِيرًا، وَغَنِمَ وَسَلِمَ. وَبَعَثَ حَاجِبَهُ مَعَ جَيْشِ طَرَسُوسَ فَدَخَلُوا بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمُوا وَسَبَوْا ورجعوا سالمين. وفيها فتح المعز الفاطمي حصن طبرسين مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ- وَكَانَ مِنْ أَحْصَنِ بِلَادِ الفرنج- فتحه قسرا بعد محاصرة سبعة أشهر ونصف، وقصد الفرنج جزيرة إقريطش فاستنجد أهلها المعز، فأرسل إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَانْتَصَرُوا عَلَى الْفِرِنْجِ وللَّه الْحَمْدُ والمنة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ محمد بن هارون
الْمُهَلَّبِيُّ الْوَزِيرُ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، مَكَثَ وزيرا له ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَكَرَمٌ وأناة، حكى أبو إسحاق الصابي قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَهُ وَقَدْ جِيءَ بِدَوَاةٍ قد صنعت له ومرفع قد حليا له بحلية كثيرة، فقال أبو محمد الفضل بن عبد الله الشِّيرَازِيُّ- سِرًّا بَيْنِي وَبَيْنَهُ-: مَا كَانَ أَحْوَجَنِي إليها لأبيعها وأنتفع بها، قلت: وأي شيء ينتفع الوزير بها؟ فقال: تدخل في خزانتها، فسمعها الوزير- وكان مصغ لنا وَلَا نَشْعُرُ- فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ بِالدَّوَاةِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيِّ وَمِرْفَعِهَا وَعَشْرَةِ ثِيَابٍ وَخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاصْطَنَعَ لَهُ غَيْرَهَا. فَاجْتَمَعْنَا يَوْمًا آخَرَ عِنْدَهُ وَهُوَ يُوَقِّعُ مِنْ تِلْكَ الدَّوَاةِ الجديدة، فنظر إلينا فقال: من يريدها منكما؟ قال: فاستحيينا وعلمنا أنه قد سمع كلامنا ذلك اليوم، وقلنا يمنع الله الوزير بها ويبقيه ليهب لنا مثلها. توفى الْمُهَلَّبِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَعْلَجَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَبُو مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِيُّ الْمُعَدِّلُ، سَمِعَ بِخُرَاسَانَ وَحُلْوَانَ وَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَمَكَّةَ، وَكَانَ من(11/241)
ذَوِي الْيَسَارِ وَالْمَشْهُورِينَ بِالْبِرِّ وَالْإِفْضَالِ، وَلَهُ صَدَقَاتٌ جارية، وأوقاف دارة دائرة على أهل الحديث ببغداد وسجستان، كانت له دار عظيمة ببغداد، وكان يقول: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ بَغْدَادَ، وَلَا فِي بَغْدَادَ مِثْلُ الْقَطِيعَةِ، وَلَا فِي الْقَطِيعَةِ مِثْلُ دار أبى خلف، ولا في دار أبى خلف مثل داري. وصنف الدار قطنى لَهُ مُسْنَدًا. وَكَانَ إِذَا شَكَّ فِي حَدِيثٍ طرحه جملة، وكان الدار قطنى يقول: ليس فِي مَشَايِخِنَا أَثْبَتَ مِنْهُ، وَقَدْ أَنْفَقَ فِي ذوى العلم والحاجات أَمْوَالًا جَزِيلَةً كَثِيرَةً جِدًّا، اقْتَرَضَ مِنْهُ بَعْضُ التجار عشرة آلاف دينار فاتجر بها، فَرَبَحَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَعَزَلَ مِنْهَا عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَجَاءَهُ بِهَا فَأَضَافَهُ دَعْلَجُ ضِيَافَةً حَسَنَةً، فَلَمَّا فَرَغَ من شأنها قال له: ما شأنك؟ قال له: هذه العشرة آلاف دينار التي تفضلت بها، قد أحضرت فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لتردها فصل بها الأهل. فقال إني قد ربحت بها ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَهَذِهِ مِنْهَا. فَقَالَ لَهُ دعلج: اذهب بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ يَتَّسِعُ مَالُكَ لِهَذَا؟ وَمِنْ أَيْنَ أَفَدْتَ هَذَا الْمَالَ؟ قال: إِنِّي كُنْتُ فِي حَدَاثَةِ سِنِّي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ، فَجَاءَنِي رِجُلٌ تَاجِرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرِ فَدَفَعَ إِلَيَّ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: اتَّجِرْ فِي هَذِهِ، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَمَا كَانَ مِنْ خَسَارَةٍ فَعَلَيَّ دُونَكَ، وَعَلَيْكَ عهد الله وميثاقه إن وجدت ذا حاجة أو خلة الا سددتها من مالي هذا دون مالك، ثم جاءني فقال: إني أريد الركوب فِي الْبَحْرِ فَإِنْ هَلَكْتُ فَالْمَالُ فِي يَدِكَ عَلَى مَا شَرَطْتُ عَلَيْكَ. فَهُوَ فِي يَدِي عَلَى مَا قَالَ. ثُمَّ قَالَ لِي: لَا تخبر بها أَحَدًا مُدَّةَ حَيَاتِي. فَلَمْ أُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا حتى مات. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. رَحِمَهُ الله.
عبد الباقي بن قانع
ابن مرزوق أبو الحسن الأموي مولاهم، سمع الحارث بن أسامة، وعنه الدار قطنى وغيره، وكان ثقة أمينا حافظا، ولكنه تغير في آخر عمره. قال الدار قطنى: كَانَ يُخْطِئُ وَيُصِرُّ عَلَى الْخَطَأِ، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا
أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ الْمُفَسِّرُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ هَارُونَ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ الْمُفَسِّرُ الْمُقْرِئُ، مَوْلَى أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، أصله من الموصل، كان عالما بالتفسير وبالقراءات، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَالْخُلْدِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ وَابْنُ رِزْقَوَيْهِ وَخَلْقٌ، وآخر من حدث عنه ابن شاذان، وتفرد بأشياء منكرة، وقد وثقه الدار قطنى على كثير من خطئه ثم رجع عن ذلك، وصرح بعضهم بتكذيبه والله أَعْلَمُ. وَلَهُ كِتَابُ التَّفْسِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ شِفَاءَ الصدور وقال بعضهم: بل هو سقام الصُّدُورِ، وَقَدْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فِي نَفْسِهِ عابدا ناسكا، حكى من حضره وهو يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَدْعُو بِدُعَاءٍ ثُمَّ رَفَعَ صوته يقول (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) 37: 61 يرددها ثلاث(11/242)
مرات ثم خرجت روحه رحمه الله. توفى يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا وَدُفِنَ بداره بِدَارِ الْقُطْنِ.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو بَكْرٍ الْحَرْبِيُّ الزَّاهِدُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الضَّرِيرِ، كَانَ ثِقَةً صالحا عابدا. ومن كلامه:
دَافَعْتُ الشَّهَوَاتِ حَتَّى صَارَتْ شَهْوَتِي الْمُدَافَعَةُ.
ثُمَّ دخلت سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ قَبَّحَهُ اللَّهُ أَنْ تغلق الأسواق وأن يلبس النساء المسوح من الشعر وأن يخرجن في الأسواق حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن يَلْطُمْنَ وُجُوهَهُنَّ يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بن أبى طالب، وَلَمْ يُمْكِنْ أَهْلَ السُّنَّةِ مَنْعُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الشيعة وظهورهم، وكون السلطان معهم. وفي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بن بويه بإظهار الزينة في بغداد وَأَنْ تُفْتَحَ الْأَسْوَاقُ بِاللَّيْلِ كَمَا فِي الْأَعْيَادِ، وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ، وَأَنْ تُشْعَلَ النِّيرَانُ في أبواب الْأُمَرَاءِ وَعِنْدَ الشُّرَطِ، فَرَحًا بَعِيدِ الْغَدِيرِ- غَدِيرِ خم- فكان وقتا عجيبا مشهودا، وبدعة شنيعة ظاهرة منكرة. وفيها أغارت الروم على الرها، فقتلوا وأسروا ورجعوا موقرين، ثم ثارت الرُّومُ بِمَلِكِهِمْ فَقَتَلُوهُ وَوَلَّوْا غَيْرَهُ، وَمَاتَ الدُّمُسْتُقُ أيضا مَلِكُ الْأَرْمَنِ وَاسْمُهُ النِّقْفُورُ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ حلب وعمل فيها ما عمل، وولوا غيره.
تَرْجَمَةُ النِّقْفُورِ مِلْكِ الْأَرْمَنِ وَاسْمُهُ الدُّمُسْتُقُ
الَّذِي توفى في سنة ثنتين- وقيل خمس وَقِيلَ سِتٍّ- وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
كَانَ هَذَا الْمَلْعُونُ مِنْ أَغْلَظِ الْمُلُوكِ قَلْبًا، وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا، وَأَقْوَاهُمْ بَأْسًا، وَأَحَدِّهِمْ شَوْكَةً، وَأَكْثَرِهِمْ قتلا وقتالا لِلْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِهِ، اسْتَحْوَذَ فِي أَيَّامِهِ لَعَنَهُ الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ قَسْرًا، وَاسْتَمَرَّتْ فِي يَدِهِ قَهْرًا، وَأُضِيفَتْ إِلَى مَمْلَكَةِ الرُّومِ قَدَرًا. وَذَلِكَ لِتَقْصِيرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشو البدع فيهم، وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم، فلهذا أديل عليهم أعداء الإسلام، فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد، فلا يبيتون ليلة إلا في خوف من قوارع الأعداء وطوارق الشرور المترادفة، فاللَّه المستعان. وَقَدْ وَرَدَ حَلَبَ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ بَغْتَةً فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَجَالَ فِيهَا جَوْلَةً. فَفَرَّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ صَاحِبُهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ فَفَتَحَهَا اللَّعِينُ عَنْوَةً، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَخَرَّبَ دَارَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الَّتِي كَانَتْ ظَاهِرَ حَلَبَ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهَا وَحَوَاصِلَهَا وَعُدَدَهَا وَبَدَّدَ شملها، وفرق عددها، واستفحل أمر الملعون بها ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَبَالَغَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي قِتَالِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَجَدَّ فِي التَّشْمِيرِ فَالْحُكْمُ للَّه الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. وَقَدْ كَانَ لَعَنَهُ الله لا يدخل في بلد إلا قتل(11/243)
الْمُقَاتِلَةَ وَبَقِيَّةَ الرِّجَالِ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَجَعَلَ جامعها اصطبلا لخيوله، وكسر منبرها، واستنكث مئذنتها بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَطُبُولِهِ. وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ وَدَيْدَنِهِ حَتَّى سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ فقتلته بجواريها في وسط مسكنه. وأرواح الله منه الإسلام وأهله، وأزاح عنهم قيام ذَلِكَ الْغَمَامِ وَمَزَّقَ شَمْلَهُ، فَلِلَّهِ النِّعْمَةُ وَالْإِفْضَالُ، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَاتَّفَقَ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ مَوْتُ صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
فَتَكَامَلَتِ الْمَسَرَّاتُ وحلصت الْأُمْنِيَّةُ، فَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَتَذْهَبُ السَّيِّئَاتُ، وَبِرَحْمَتِهِ تُغْفَرُ الزَّلَّاتُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا اللَّعِينَ- أَعْنِي النِّقْفُورَ الْمُلَقَّبَ بِالدُّمُسْتُقِ مَلِكَ الْأَرْمَنِ- كَانَ قَدْ أَرْسَلَ قَصِيدَةً إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ للَّه، نَظَمَهَا لَهُ بَعْضُ كُتَّابِهِ مِمَّنْ كَانَ قَدْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَأَذَلَّهُ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً وَصَرَفَهُ عن الإسلام وأصله. يفتخر فيها بهذا اللَّعِينِ، وَيَتَعَرَّضُ لِسَبِّ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَتَوَعَّدُ فِيهَا أَهْلَ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ سَيَمْلِكُهَا كُلَّهَا حَتَّى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، عَمَّا قَرِيبٍ مِنَ الْأَعْوَامِ، وَهُوَ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَأَخَسُّ وَأَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ لِدِينِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنِ الْبَتُولِ. وَرُبَّمَا يُعَرِّضُ فِيهَا بِجَنَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ التَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ، وَدَوَامُ الصَّلَاةِ مَدَى الْأَيَّامِ. وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ ذلك العصر أنه رد عليه جوابه، إما لأنها لم تشتهر، وإما لأنه أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا خِطَابَهُ لِأَنَّهُ كَالْمُعَانِدِ الجاحد. ونفس ناظمها تدل عَلَى أَنَّهُ شَيْطَانٌ مَارِدٌ.
وَقَدِ انْتَخَى لِلْجَوَابِ عنها بَعْدَ ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ: فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَجَابَ عَنْ كُلِّ فَصْلٍ بَاطِلٍ بالصواب والسداد، قبّل الله بالرحمة ثراه. وجعل الجنة متقلبه وَمَثْوَاهُ.
وَهَا أَنَا أَذْكُرُ الْقَصِيدَةَ الْأَرْمَنِيَّةَ الْمَخْذُولَةَ الْمَلْعُونَةَ، وَأُتْبِعُهَا بِالْفَرِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَنْصُورَةِ الْمَيْمُونَةِ قَالَ الْمُرْتَدُّ الْكَافِرُ الْأَرْمَنِيُّ عَلَى لِسَانِ مَلِكِهِ لَعَنَهُمَا اللَّهُ وَأَهْلَ مِلَّتِهِمْ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْتَعِينَ أَبْصَعِينَ آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَمِنْ خَطِّ ابْنِ عَسَاكِرَ كَتَبْتُهَا، وَقَدْ نَقَلُوهَا مِنْ كِتَابِ صِلَةِ الصِّلَةِ لِلْفَرْغَانِيِّ:
مِنَ الْمَلِكِ الطُّهْرِ الْمَسِيحِيِّ مَالِكٍ ... إِلَى خَلَفِ الْأَمْلَاكِ مِنْ آلِ هَاشِمِ
إِلَى الْمَلِكِ الْفَضْلِ الْمُطِيعِ أَخِي الْعُلَا ... وَمَنْ يُرْتَجَى لِلْمُعْضِلَاتِ الْعَظَائِمِ
أَمَا سَمِعَتْ أُذْنَاكَ مَا أَنَا صانع ... ولكن دهاك الْوَهْنُ عَنْ فِعْلِ حَازِمِ
فَإِنْ تَكُ عَمَّا قَدْ تَقَلَّدْتَ نَائِمًا ... فَإِنِّيَ عَمَّا هَمَّنِي غَيْرُ نَائِمِ
ثُغُورُكُمُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا- لِوَهْنِكُمْ ... وَضَعْفِكُمُ- إِلَّا رُسُومُ الْمَعَالِمِ
فَتَحْنَا الثُّغُورَ الْأَرْمَنِيَّةَ كُلَّهَا ... بفتيان صدق كالليوث الضراغم
ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها ... وتبلغ مِنْهَا قَضْمُهَا لِلشَّكَائِمِ
إِلَى كُلِّ ثَغْرٍ بِالْجَزِيرَةِ آهِلٍ ... إِلَى جُنْدِ قِنَّسْرِينِكُمْ فَالْعَوَاصِمِ(11/244)
مَلَطْيَهْ مَعَ سْمَيْسَاطَ مِنْ بَعْدِ كَرْكَرٍ ... وَفِي الْبَحْرِ أَضْعَافُ الْفُتُوحِ التَّوَاخِمِ
وَبِالْحَدَثِ الْحَمْرَاءِ جَالَتْ عساكري ... وكيسوم بعد الجعفري للمعالم
وَكَمْ قَدْ ذَلَلْنَا مِنْ أَعِزَّةِ أَهْلِهَا ... فَصَارُوا لَنَا مِنْ بَيْنِ عَبْدٍ وَخَادِمِ
وَسَدِّ سَرُوجٍ إذ خربنا بجمعنا ... لنا رتبة تَعْلُو عَلَى كُلِّ قَائِمِ
وَأَهْلُ الرُّهَا لَاذُوا بنا وتحزبوا ... بمنديل مولى علا عن وصف آدمي
وصبح رأس العين منا بطارق ... ببيض غزوناها بضرب الجماجم
ودارا وميافارقين وأزرنا ... أذقناهم بالخيل طعم العلاقم
واقريطش قد جازت إِلَيْهَا مَرَاكِبِي ... عَلَى ظَهْرِ بِحَرٍ مُزْبِدٍ مُتَلَاطِمِ
فحزمهم أسرى وسيقت نساؤهم ... ذوات الشعور المسبلات النواعم
هُنَاكَ فَتَحْنَا عَيْنَ زَرْبَةَ عَنْوَةً ... نَعَمْ وَأَبَدْنَا كُلَّ طَاغٍ وَظَالِمِ
إِلَى حَلَبٍ حَتَّى اسْتَبَحْنَا حَرِيمَهَا ... وَهَدَّمَ مِنْهَا سُورَهَا كُلُّ هَادِمِ
أَخَذْنَا النِّسَا ثُمَّ الْبَنَاتِ نَسُوقُهُمْ ... وَصِبْيَانَهُمْ مِثْلَ الْمَمَالِيكِ خَادِمِ
وَقَدْ فَرَّ عَنْهَا سَيْفُ دَوْلَةِ دِينِكُمْ ... وناصركم مِنَّا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ
وَمِلْنَا عَلَى طَرَسُوسَ ميلة حازم ... أَذَقْنَا لِمَنْ فِيهَا لِحَزِّ الْحَلَاقِمِ
فَكَمْ ذَاتِ عِزٍّ حُرَّةٍ عَلَوِيَّةٍ ... مُنَعَّمَةِ الْأَطْرَافِ رَيَّا الْمَعَاصِمِ
سَبَيْنَا فَسُقْنَا خَاضِعَاتٍ حَوَاسِرًا ... بِغَيْرِ مُهُورٍ، لَا وَلَا حُكْمِ حَاكِمِ
وَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ قَدْ تركنا مجندلا ... يَصُبُّ دَمًا بَيْنَ اللَّهَا وَاللَّهَازِمِ
وَكَمْ وَقْعَةٍ فِي الدَّرْبِ أَفْنَتْ كُمَاتَكُمْ ... وَسُقْنَاهُمُ قَسْرًا كَسَوْقِ البهائم
وملنا على أرياحكم وَحَرِيمُهَا ... مُدَوَّخَةٌ تَحْتَ الْعَجَاجِ السَّوَاهِمِ
فَأَهْوَتْ أَعَالِيهَا وَبُدِّلَ رَسْمُهَا ... مِنَ الْأُنْسِ وَحْشًا بَعْدَ بِيضٍ نَوَاعِمِ
إِذَا صَاحَ فِيهَا الْبُومُ جَاوَبَهُ الصَّدَى ... وَأَتْبَعَهُ فِي الرَّبْعِ نَوْحُ الْحَمَائِمِ
وَأَنْطَاكُ لَمْ تَبْعُدْ عَلَيَّ وَإِنَّنِي ... سَأَفْتَحُهَا يَوْمًا بِهَتْكِ الْمَحَارِمِ
وَمَسْكَنُ آبَائِي دِمَشْقُ فَإِنَّنِي ... سَأُرْجِعُ فِيهَا مُلْكَنَا تَحْتَ خَاتَمِي
وَمِصْرُ سَأَفْتَحْهَا بِسَيْفِيَ عَنْوَةً ... وَآخُذُ أموالا بها وبهائمى
وأجزى كافورا بما يستحقه ... بمشط ومقراض وقص محاجم
ألا شمروا يا أهل حمدان شَمِّرُوا ... أَتَتْكُمْ جُيُوشُ الرُّومِ مَثْلَ الْغَمَائِمِ
فَإِنْ تهربوا تنجوا كراما وتسلموا ... من الملك الصادي بقتل المسالم(11/245)
كذاك نَصِيبِينٌ وَمَوْصِلُهَا إِلَى ... جَزِيرَةِ آبَائِي وَمُلْكِ الْأَقَادِمِ
سأفتح سامرا وكوثا وَعُكْبَرَا ... وَتَكْرِيتَهَا مَعْ مَارِدِينَ الْعَوَاصِمِ
وَأَقْتُلُ أَهْلِيهَا الرجال بأسرها ... وأغنم أموالا بها وحرائم
أَلَا شَمِّرُوا يَا أَهْلَ بَغْدَادَ وَيْلَكُمْ ... فَكُلُّكُمُ مستضعف غير رائم
رضيتم بحكم الديلميّ ورفضه ... فَصِرْتُمْ عَبِيدًا لِلْعَبِيدِ الدَّيَالِمِ
وَيَا قَاطِنِي الرَّمْلَاتِ ويلكم ارجعوا ... إلى أرض صنعا راعيين البهائم
وَعُودُوا إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ أَذِلَّةً ... وَخَلُّوا بِلَادَ الروم أهل المكارم
سألقى جيوشا نَحْوَ بَغْدَادَ سَائِرًا ... إِلَى بَابِ طَاقٍ حَيْثُ دَارُ الْقَمَاقِمِ
وَأَحْرِقُ أَعْلَاهَا وَأَهْدِمُ سُورَهَا ... وَأَسْبِي ذَرَارِيهَا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ
وَأُحْرِزُ أَمْوَالًا بِهَا وَأَسِرَّةً ... وَأَقْتُلُ مَنْ فِيهَا بِسَيْفِ النَّقَائِمِ
وَأَسْرِي بِجَيْشِي نَحْوَ الَاهْوَازِ مُسْرِعًا ... لِإِحْرَازِ دِيبَاجٍ وَخَزِّ السواسم
وأشعلها نهبا وأهدم قُصُورَهَا ... وَأَسْبِي ذَرَارِيهَا كَفِعْلِ الْأَقَادِمِ
وَمِنْهَا إِلَى شيراز والري فاعلموا ... خراسان قصرى والجيوش بحارم
إِلَى شَاسِ بَلْخٍ بَعْدَهَا وَخَوَاتِهَا ... وَفَرْغَانَةٍ مَعْ مروها والمخازم
وسابور أهدمها وأهدم حصونها ... وأوردها يوما كيوم السمائم
وكرمان لا أنسى سجستان كلها ... وكابلها النائى وملك الأعاجم
أَسِيرُ بِجُنْدِي نَحْوَ بَصْرَتِهَا الَّتِي ... لَهَا بَحُرُ عجاج رَائِعٍ مُتَلَازِمِ
إِلَى وَاسِطٍ وَسْطَ الْعِرَاقِ وَكُوفَةٍ ... كما كان يوما جندنا ذو العزائم
وأخرج منها نحو مكة مسرعا ... أَجُرُّ جُيُوشًا كَاللَّيَالِي السَّوَاجِمِ
فَأَمْلِكُهَا دَهْرًا عَزِيزًا مُسَلَّمًا ... أُقِيمُ بِهَا لِلْحَقِّ كُرْسِيَّ عَالِمِ
وَأَحْوِيَ نجدا كلها وتهامها ... وسرا واتهام مَذْحِجٍ وَقَحَاطِمِ
وَأَغْزُو يَمَانًا كُلَّهَا وَزَبِيدَهَا ... وَصَنْعَاءَهَا مع صعدة والتهائم
فأتركها أيضا خرابا بلاقعا ... خلاء من الأهلين أهل نَعَائِمِ
وَأَحْوِيَ أَمْوَالَ الْيَمَانِينَ كُلَّهَا ... وَمَا جَمَعَ الْقِرْمَاطُ يَوْمَ مَحَارِمِ
أَعُودُ إِلَى الْقُدْسِ الَّتِي شرفت بنا ... بعزمكين ثابت الأصل قائم
وأعلو سريري للسجود معظما ... وتبقى ملوك الأرض مثل الخوادم
هُنَالِكَ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ ... لِكُلِّ نقى الدين أغلف زاعم(11/246)
نصرنا عليكم حين جارت ولاتكم ... وأعلنتموا بِالْمُنْكَرَاتِ الْعَظَائِمِ
قُضَاتُكُمُ بَاعُوا الْقَضَاءَ بِدِينِهِمْ ... كَبَيْعِ ابن يعقوب ببخس الدراهم
عدو لكم بالزور يشهد ظاهرا ... وبالإفك وَالْبِرْطِيلِ مَعْ كُلِّ قَائِمِ
سَأَفْتَحُ أَرْضَ اللَّهِ شرقا ومغربا ... وأنشر دينا للصليب بصارمى
فعيسى علا فوق السموات عرشه ... يفوز الّذي والاه يوم التخاصم
وصاحبكم بالترب أَوْدَى بِهِ الثَّرَى ... فَصَارَ رُفَاتًا بَيْنَ تِلْكَ الرَّمَائِمِ
تَنَاوَلْتُمُ أَصْحَابَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ... بِسَبٍّ وَقَذْفٍ وانتهاك المحارم
هَذَا آخِرُهَا لَعَنَ اللَّهُ نَاظِمَهَا وَأَسْكَنَهُ النَّارَ، يوم لا تنفع الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ يوم يدعو ناظمها ثبورا ويصلى نارا سعيرا، يوم يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ للإنسان خذولا. إن كان مات كافرا وَهَذَا جَوَابُهَا لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ قَالَهَا ارْتِجَالًا حِينَ بَلَغَتْهُ هَذِهِ الملعونة غضبا للَّه ولرسوله ولدينه كما ذكر ذلك مَنْ رَآهُ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَغَفَرَ له خطاياه.
من المحتمى للَّه رَبِّ الْعَوَالِمِ ... وَدِينِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ آلِ هَاشِمِ
مُحَمَّدٍ الْهَادِي إِلَى اللَّهِ بِالتُّقَى ... وَبِالرُّشْدِ وَالْإِسْلَامِ أَفْضَلِ قَائِمِ
عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ مرددا ... إلى أن يوافي الحشر كُلُّ الْعَوَالِمِ
إِلَى قَائِلٍ بِالْإِفْكِ جَهْلًا وَضِلَّةً ... عَنِ النِّقْفُورِ الْمُفْتَرِي فِي الْأَعَاجِمِ
دَعَوْتَ إِمَامًا ليس من أمرائه ... بِكَفَّيْهِ إِلَّا كَالرُّسُومِ الطَّوَاسِمِ
دَهَتْهُ الدَّوَاهِي فِي خِلَافَتِهِ كَمَا ... دَهَتْ قَبْلَهُ الْأَمْلَاكَ دُهْمُ الدَّوَاهِمِ
وَلَا عَجَبٌ مِنْ نَكْبَةٍ أَوْ مُلِمَّةٍ ... تُصِيبُ الكريم الجدود الْأَكَارِمِ
وَلَوْ أَنَّهُ فِي حَالِ مَاضِي جُدُودِهِ ... لَجُرِّعْتُمُ مِنْهُ سُمُومَ الْأَرَاقِمِ
عَسَى عَطْفَةٌ للَّه في أهل دينه ... تجدد منه دارسات المعالم
فخرتم بما لو كان فيكم حقيقة ... لكان بفضل الله أحكم حاكم
إذن لاعترتكم خَجْلَةٌ عِنْدَ ذِكْرِهِ ... وَأُخْرِسَ مِنْكُمْ كُلُّ فَاهٍ مُخَاصِمِ
سَلَبْنَاكُمُ كَرًّا فَفُزْتُمْ بِغِرَّةٍ ... مِنَ الْكَرِّ أَفْعَالَ الضِّعَافِ الْعَزَائِمِ
فَطِرْتُمْ سُرُورًا عِنْدَ ذَاكَ ونشوة ... كفعل المهين الناقص المتعالم
وما ذاك إلا في تضاعيف عقله ... عريقا وَصَرْفُ الدَّهْرِ جَمُّ الْمَلَاحِمِ(11/247)
ولما تنازعنا الأمور تخاذلا ... ودانت لأهل الجهل دولة ظالم
وقد شعلت فينا الخلائف فتنة ... لعبدانهم مع تركهم والدلائم
بِكُفْرِ أَيَادِيهِمْ وَجَحْدِ حُقُوقِهِمْ ... بِمَنْ رَفَعُوهُ مِنْ حَضِيضِ الْبَهَائِمِ
وَثَبْتُمْ عَلَى أَطْرَافِنَا عِنْدَ ذَاكُمُ ... وثوب لصوص عند غفلة نائم
ألم تنتزع منكم بأعظم قوة ... جميع بلاد الشام ضربة لازم
ومصرا وَأَرْضَ الْقَيْرَوَانِ بِأَسْرِهَا ... وَأَنْدَلُسًا قَسْرًا بِضَرْبِ الْجَمَاجِمِ
ألم ننتزع منكم على ضعف حالنا ... صقلّيّة في بحرها المتلاطم
مَشَاهِدُ تَقْدِيسَاتِكُمْ وَبُيُوتُهَا ... لَنَا وَبِأَيْدِينَا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ
أَمَا بَيْتُ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةُ بَعْدَهَا ... بِأَيْدِي رجال المسلمين الأعاظم
وسركيسكم فِي أَرْضِ إِسْكَنْدَرِيَّةٍ ... وَكُرْسِيُّكُمْ فِي الْقُدْسِ فِي أدرثاكم
ضممناكم قسرا برغم انوفكم ... وكرسي قسطنطينية في المعادم
وَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ الْجَمِيعِ بِأَسْرِهِ ... إِلَيْنَا بِعِزٍّ قَاهِرٍ مُتَعَاظِمِ
أَلَيْسَ يَزِيدٌ حَلَّ وَسْطَ دياركم ... على باب قسطنطينية بالصوارم
ومسلمة قد داسها بعد ذاكم ... يجيش تهام قد دوى بالضراغم
وَأَخْدَمَكُمْ بِالذُّلِّ مَسْجِدَنَا الَّذِي ... بُنِي فِيكُمُ فِي عَصْرِهِ الْمُتَقَادِمِ
إِلَى جَنْبِ قَصْرِ الْمُلْكِ مِنْ دار ملككم ... ألا هذه حق صرامة صارم
وأدى لهارون الرشيد مليككم ... رفادة مغلوب وجزية غارم
سلبناكم مصرا شهود بِقُوَّةٍ ... حَبَانَا بِهَا الرَّحْمَنُ أَرْحَمُ رَاحِمِ
إِلَى بيت يعقوب وأرباب دومة ... إلى لجة البحر المحيط الْمَحَارِمِ
فَهَلْ سِرْتُمُ فِي أَرْضِنَا قَطُّ جُمْعَةً ... أبى للَّه ذَاكُمْ يَا بَقَايَا الْهَزَائِمِ
فَمَا لَكُمُ إِلَّا الْأَمَانِيُّ وَحْدَهَا ... بَضَائِعَ نَوْكَى تِلْكَ أَحْلَامُ نَائِمِ
رويدا بعد نحو الخلافة نورها ... وسفر مغير وجوه الهواشم
وحينئذ تدرون كيف قراركم ... إِذَا صَدَمَتْكُمْ خَيْلُ جَيْشٍ مُصَادِمِ
عَلَى سَالِفِ العادات منا ومنكم ... ليالي بهم فِي عِدَادِ الْغَنَائِمِ
سُبِيتُمْ سَبَايَا يَحْصَرُ الْعَدُّ دُونَهَا ... وَسَبْيُكُمْ فِينَا كَقَطْرِ الْغَمَائِمِ
فَلَوْ رَامَ بخلق عدها رام معجزا ... وأنى بتعداد لرش الحمائم
بأبنا بنى حَمْدَانَ وَكَافُورَ صُلْتُمُ ... أَرَاذِلَ أَنْجَاسٍ قِصَارِ الْمَعَاصِمِ(11/248)
دَعِيُّ وَحَجَّامٌ سَطَوْتُمْ عَلَيْهِمَا ... وَمَا قَدْرُ مَصَّاصٍ دِمَاءَ الْمَحَاجِمِ
فَهَلَّا عَلَى دِمْيَانَةٍ قَبْلَ ذَاكَ أَوْ ... عَلَى مَحَلٍ أَرْبَا رُمَاةُ الضَّرَاغِمِ
لَيَالِيَ قادكم كما اقتادكم ... أقيال جرجان بحز الْحَلَاقِمِ
وَسَاقُوا عَلَى رِسْلٍ بَنَاتِ مُلُوكِكُمْ ... سَبَايَا كَمَا سِيقَتْ ظِبَاءُ الصَّرَائِمِ
وَلَكِنْ سَلُوا عَنَّا هرقلا ومن خلى ... لَكُمْ مِنْ مُلُوكٍ مُكْرَمِينَ قُمَاقِمِ
يُخَبِّرْكُمُ عَنَّا التنوخ وقيصر ... وكم قد سبينا من نساء كرائم
وَعَمَّا فَتَحْنَا مِنْ مَنِيعِ بِلَادِكُمْ ... وَعَمَّا أَقَمْنَا فِيكُمُ مِنْ مَآتِمِ
وَدَعْ كُلَّ نَذْلٍ مُفْتَرٍ لا تعده ... إماما ولا الدعوى له بالتقادم
فَهَيْهَاتَ سَامَرَّا وَتَكْرِيتُ مِنْكُمُ ... إِلَى جَبَلٍ تِلْكُمْ أمانى هائم
منى يتمناها الضعيف ودونها ... نظائرها ... وحز الغلاصم
تريدون بغداد سوقا جديدة ... مَسِيرَةَ شَهْرٍ لِلْفَنِيقِ الْقَوَاصِمِ
مَحَلَّةُ أَهْلِ الزُّهْدِ والعلم والتقى ... ومنزلة يختارها كُلُّ عَالِمِ
دَعُوا الرَّمْلَةَ الصَّهْبَاءَ عَنْكُمْ فَدُونَهَا ... من المسلمين الغر كُلُّ مُقَاوِمِ
وَدُونَ دِمَشْقٍ جَمْعُ جَيْشٍ كَأَنَّهُ ... سحائب طير ينتحى بِالْقَوَادِمِ
وَضَرْبٌ يُلَقِّي الْكُفْرَ كُلَّ مَذَلَّةٍ ... كَمَا ضَرَبَ السَّكِّيُّ بِيضَ الدَّرَاهِمِ
وَمِنْ دُونِ أَكْنَافِ الحجاز وجحافل ... كقطر الغيوم الهلائلات السواحم
بِهَا مِنْ بَنِي عَدْنَانَ كُلُّ سَمَيْدَعٍ ... وَمِنْ حي قحطان كرام العمائم
وَلَوْ قَدْ لَقِيتُمْ مِنْ قُضَاعَةَ كُبَّةً ... لَقِيتُمْ ضراما في يبيس الهشائم
إذا أصبحوكم ذكروكم بما خلى ... لهم معكم من صادق مُتَلَاحِمِ
زَمَانَ يَقُودُونَ الصَّوَافِنَ نَحْوَكُمْ ... فَجِئْتُمْ ضَمَانًا أنكم في الغنائم
سَيَأْتِيكُمُ مِنْهُمْ قَرِيبًا عَصَائِبٌ ... تُنَسِّيكُمُ تَذْكَارَ أَخْذِ العواصم
وَأَمْوَالُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَدِمَاؤُكُمْ ... بِهَا يُشْتَفَى حَرُّ الصدور الحوائم
وأرضيكم حَقًّا سَيَقْتَسِمُونَهَا ... كَمَا فَعَلُوا دَهْرًا بِعَدْلِ الْمُقَاسِمِ
وَلَوْ طَرَقَتْكُمُ مِنْ خُرَاسَانَ عُصْبَةٌ ... وَشِيرَازَ وَالرَّيِّ الملاح الْقَوَائِمِ
لَمَا كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَا ... عَهِدْنَا لَكُمْ: ذُلٌّ وَعَضُّ الْأَبَاهِمِ
فَقَدْ طالما زاروكم في دياركم ... مسيرة عام بالخيول الصوادم
فأما سجستان وكرمان بالأولى ... وكابل حلوان بلاد المراهم(11/249)
وفي فارس والسوس جمع عرموم ... وفي أصبهان كل أروع عارم
فلو قد أتاكم جمعهم لغدوتم ... فرائس كالآساد فوق البهائم
وبالبصرة الغراء والكوفة التي ... سمت وبآدى واسط بالعظائم
جموع تسامى الرمل عدا وكثرة ... فما أحد عادوه منه بِسَالِمِ
وَمِنْ دُونِ بَيْتِ اللَّهِ فِي مَكَّةَ التي ... حباها بمجد للبرايا مراحم
مَحَلُّ جَمِيعِ الْأَرْضِ مِنْهَا تَيَقُّنًا ... مَحَلَّةُ سُفْلِ الْخُفِّ مِنْ فَصِّ خَاتَمِ
دِفَاعٌ مِنَ الرَّحْمَنِ عنها بحقها ... فما هو عنها رد طرف برائم
بها وقع الأحبوش هلكى وفيلهم ... بحصباء طير في ذرى الجو حائم
وجمع كجمع البحر ماض عرمرم ... حمى بنية الْبَطْحَاءِ ذَاتِ الْمَحَارِمِ
وَمِنْ دُونِ قَبْرِ الْمُصْطَفَى وَسْطَ طِيبَةٍ ... جُمُوعٌ كَمُسْوَدٍّ مِنَ اللَّيْلِ فَاحِمِ
يقودهم جيش الملائكة العلى ... دفاعا وَدَفْعًا عَنْ مُصَلٍّ وَصَائِمِ
فَلَوْ قَدْ لَقِينَاكُمْ لعدتم رمائما ... كما فرق الاعصار عظم البهائم
وَبِالْيَمَنِ الْمَمْنُوعِ فِتْيَانُ غَارَةٍ ... إِذَا مَا لَقُوكُمْ كنتم كالمطاعم
وفي جانبي أرض اليمامة عصبة ... معاذر أمجاد طوال البراجم
نستفينكم والقرمطيين دولة ... تقووا بميمون النَّقِيبَةِ حَازِمِ
خَلِيفَةُ حَقٍّ يَنْصُرُ الدِّينَ حُكْمُهُ ... وَلَا يَتَّقِي فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمِ
إِلَى ولد العباس تنمى جدوده ... بفخر عميم مزبد الموج فأعم
ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم ... فأهلا بماضي منهم وبقادم
محلهم فِي مَسْجِدِ الْقُدْسِ أَوْ لَدَى ... مَنَازِلِ بَغْدَادَ مَحَلُّ الْمَكَارِمِ
وَإِنْ كَانَ مِنْ عُلْيَا عَدِيٍّ وتيمها ... ومن أسد هذا الصَّلَاحِ الْحَضَارِمِ
فَأَهْلًا وَسَهْلًا ثُمَّ نُعْمَى وَمَرْحَبًا ... بِهِمْ مِنْ خِيَارٍ سَالِفِينَ أَقَادِمِ
هُمُ نَصَرُوا الْإِسْلَامَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ... وَهُمْ فَتَحُوا الْبُلْدَانَ فَتْحَ الْمُرَاغِمِ
رُوَيْدًا فَوَعْدُ اللَّهِ بِالصِّدْقِ وَارِدٌ ... بِتَجْرِيعِ أهل الكفر طعم العلاقم
سنفتح قسطنطينية وذواتها ... ونجعلكم فوق النسور القعاشم
وَنَفْتَحُ أَرْضَ الصِّينِ وَالْهِنْدِ عَنْوَةً ... بِجَيْشٍ لِأَرْضِ التُّرْكِ وَالْخَزْرِ حَاطِمِ
مَوَاعِيدُ لِلرَّحْمَنِ فِينَا صَحِيحَةٌ ... وليست كآمال العقول السواقم
وتملك أقصى أرضكم وبلادكم ... ونلزمكم ذل الحر أو الغارم(11/250)
إلى أن ترى الإسلام قد عم حكمه ... جميع الأراضي بالجيوش الصوارم
أتقرن يا مخذول دينا مثلثا ... بَعِيدًا عَنِ الْمَعْقُولِ بَادِي الْمَآثِمِ
تَدِينُ لِمَخْلُوقٍ يدين لغيره ... فيا لك سحقا ليس يخفى لعالم
أناجيلكم مصنوعة قد تشابهت ... كلام الأولى فِيهَا أَتَوْا بِالْعَظَائِمِ
وُعُودُ صَلِيبٍ مَا تَزَالُونَ سُجَّدًا ... لَهُ يَا عُقُولَ الْهَامِلَاتِ السَّوَائِمِ
تَدِينُونَ تضلالا بصلب إلهكم ... بأيدي يهود أرذلين لآثم
إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ تَوْحِيدِ رَبِّنَا ... فَمَا دِينُ ذي دين لها بِمُقَاوِمِ
وَصِدْقِ رِسَالَاتِ الَّذِي جَاءَ بِالْهُدَى ... مُحَمَّدٍ الآتي برفع الْمَظَالِمِ
وَأَذْعَنَتِ الْأَمْلَاكُ طَوْعًا لِدِينِهِ ... بِبُرْهَانِ صِدْقٍ طاهر فِي الْمَوَاسِمِ
كَمَا دَانَ فِي صَنْعَاءَ مَالِكُ دَوْلَةٍ ... وَأَهْلُ عُمَانٍ حَيْثُ رَهْطِ الْجَهَاضِمِ
وَسَائِرُ أَمْلَاكِ الْيَمَانِينَ أَسْلَمُوا ... وَمِنْ بَلَدِ الْبَحْرَيْنِ قَوْمُ الهازم
أجابوا لدين الله لا من مخافة ... ولا رغبة يحظى بِهَا كَفُّ عَادِمِ
فَحَلُّوا عُرَى التِّيجَانِ طَوْعًا ورغبة ... بحق يقين بالبراهين فاحم
وَحَابَاهُ بِالنَّصْرِ الْمَكِينِ إِلَهُهُ ... وَصَيَّرَ مَنْ عَادَاهُ تَحْتَ الْمَنَاسِمِ
فَقِيرٌ وَحِيدٌ لَمْ تُعِنْهُ عَشِيرَةٌ ... وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ شَتِيمَةَ شَاتِمِ
وَلَا عِنْدَهُ مَالٌ عَتِيدٌ لِنَاصِرٍ ... وَلَا دَفْعِ مَرْهُوبٍ وَلَا لِمُسَالِمِ
وَلَا وَعَدَ الْأَنْصَارَ مَالًا يَخُصُّهُمْ ... بَلَى كان معصوما لأقدر عاصم
ولم تنهنهه قَطُّ قُوَّةُ آسِرٍ ... وَلَا مُكِّنَتْ مِنْ جِسْمِهِ يد ظالم
كَمَا يَفْتَرِي إِفْكًا وَزُورًا وَضِلَّةً ... عَلَى وَجْهِ عيسى منكم كل لاطم
على أنكم قد قلتموا هو ربكم ... فيا لضلال في القيامة عائم
أبى للَّه أَنْ يُدْعَى لَهُ ابْنٌ وَصَاحِبٌ ... سَتَلْقَى دُعَاةُ الكفر حالة نادم
ولكنه عبد نبي رسول مُكَرَّمٌ ... مِنَ النَّاسِ مَخْلُوقٌ وَلَا قَوْلَ زَاعِمِ
أيلطم وجه الرب؟ تبا لدينكم ... لقد فقتم في قولكم كُلَّ ظَالِمِ
وَكَمْ آيَةٍ أَبْدَى النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ... وَكَمْ عِلْمٍ أَبْدَاهُ لِلشِّرْكِ حَاطِمِ
تَسَاوَى جَمِيعُ الناس في نصر حقه ... بل لكل في إعطائه حَالُ خَادِمِ
فَعُرْبٌ وَأُحْبُوشٌ وَفُرْسٌ وَبَرْبَرٌ ... وَكُرْدِيُّهُمْ قَدْ فَازَ قِدْحُ الْمَرَاحِمِ
وَقِبْطٌ وَأَنْبَاطٌ وَخَزْرٌ وَدَيْلَمٌ ... وَرُومٌ رَمَوْكُمْ دُونَهُ بِالْقَوَاصِمِ(11/251)
أبوا كفر أسلاف لهم فتمنعوا ... فآبوا بحظ في السعادة لازم
بِهِ دَخَلُوا فِي مِلَّةِ الْحَقِّ كُلُّهُمْ ... وَدَانُوا لأحكام الا له اللَّوَازِمِ
بِهِ صَحَّ تَفْسِيرُ الْمَنَامِ الَّذِي أَتَى ... به دانيال قبله حتم حاتم
وهند وسند أسلموا وتدينوا ... بدين الهدى رفض لدين الأعاجم
وشق له بَدْرَ السَّمَوَاتِ آيَةً ... وَأَشْبَعَ مِنْ صَاعٍ لَهُ كُلَّ طَاعِمِ
وَسَالَتْ عُيُونُ الْمَاءِ فِي وَسْطِ كفه ... فأروى به جيشا كثيرا هماهم
وجاء بما تقضى العقول بصدقة ... ولا كدعاء غَيْرِ ذَاتِ قَوَائِمِ
عَلَيْهِ سَلَامُ اللَّهِ مَا ذر شارق ... تعقبه ظَلْمَاءُ أَسْحَمَ قَاتِمِ
بَرَاهِينُهُ كَالشَّمْسِ لَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ ... وَتَخْلِيطِكُمْ فِي جَوْهَرٍ وَأَقَانِمِ
لَنَا كُلُّ عِلْمٍ مِنْ قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ ... وَأَنْتُمْ حَمِيرٌ دَامِيَاتُ الْمَحَازِمِ
أَتَيْتُمْ بِشِعْرٍ بَارِدٍ مُتَخَاذِلٍ ... ضَعِيفِ مَعَانِي النظم جم البلاعم
فَدُونَكَهَا كَالْعِقْدِ فِيهِ زُمُرُّدٌ ... وَدُرٌّ وَيَاقُوتٌ بِإِحْكَامِ حاكم
وَفِيهَا عُزِلَ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ عَنِ الْقَضَاءِ وَنُقِضَتْ سِجِلَّاتُهُ وَأُبْطِلَتْ أَحْكَامُهُ مُدَّةَ أَيَّامِهِ، وَوَلِيَ القضاء عوضه أبو بشر عمر بن أكتم بن رِزْقٍ، وَرُفِعَ عَنْهُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ ابْنُ أبى الشوارب في كل سنة وفي ذي الحجة منها اسْتَسْقَى النَّاسُ لِتَأَخُّرِ الْمَطَرِ- وَذَلِكَ فِي كَانُونَ الثاني- فلم يسقوا. وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ عَنْ ثَابِتِ بن سنان المؤرخ قال: حدثني جماعة مِمَّنْ أَثِقُ بِهِمْ أَنَّ بَعْضَ بَطَارِقَةِ الْأَرْمَنِ أَنْفَذَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَرْمَنِ مُلْتَصِقَيْنِ سِنُّهُمَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، مُلْتَحِمَيْنِ وَمَعَهُمَا أبوهما، ولهما سرتان وبطنان ومعدتان وجوعهما وريهما يختلفان، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ وَالْآخَرُ يَمِيلُ إِلَى الْغِلْمَانِ، وَكَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ وَتَشَاجُرٌ، وربما يحلف الآخر لَا يُكَلِّمُ الْآخَرَ فَيَمْكُثُ كَذَلِكَ أَيَّامًا ثُمَّ يصطلحان، وهبهما نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا وَدَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُقَالُ إِنَّهُمَا أَسْلَمَا. وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُمَا إِلَى بَغْدَادَ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى بَلَدِهِمَا مَعَ أَبِيهِمَا فَاعْتَلَّ أَحَدُهُمَا وَمَاتَ وَأَنْتَنَ رِيحُهُ وَبَقِيَ الْآخَرُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ اتِّصَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَاصِرَتَيْنِ، وَقَدْ كَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَرَادَ فَصْلَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ وَجَمَعَ الْأَطِبَّاءَ لِذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَلَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمَا حَارَ أَبُوهُمَا فِي فَصْلِهِ عَنْ أَخِيهِ فَاتَّفَقَ اعْتِلَالُ الْآخَرِ مِنْ غَمِّهِ وَنَتْنِ أَخِيهِ فَمَاتَ غَمًّا فَدُفِنَا جَمِيعًا فِي قَبْرٍ واحد.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ عُمَرُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرٍ أبو بشر الأسدي، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ فِي زَمَنِ الْمُطِيعِ نِيَابَةً عَنْ أَبِي السَّائِبِ عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ،(11/252)
ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ سِوَى أَبِي السائب، وكان جيد السيرة في القضاء. توفى في ربيع الأول منها.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ عَزَاءَ الْحُسَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فَاقْتَتَلَ الرَّوَافِضُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْتُهِبَتِ الْأَمْوَالُ. وَفِيهَا عَصَى نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي قَدْ صَادَرَ أَهْلَ حَرَّانِ وَأَخَذَ منهم أموالا جزيلة فتمرد بها وذهب إلى أذربيجان وأخذ طَائِفَةً مِنْهَا مِنْ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْوَرْدِ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فقتل بين يديه، وألقيت جثته في الأقذار. وفيها جاء الدمستق إلى المصيصة فحاصرها وثقب سُورَهَا فَدَافَعَهُ أَهْلُهَا فَأَحْرَقَ رُسْتَاقَهَا وَقَتَلَ مِمَّنْ حولها خمسة عشر الفا وعاثوا فسادا في بلاد أذنة وطرسوس، وكر راجعا إلى بلاده. وَفِيهَا قَصَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ وَجَزِيرَةَ ابْنِ عمر فَأَخَذَ الْمَوْصِلَ، وَأَقَامَ بِهَا، فَرَاسَلَهُ فِي الصُّلْحِ صَاحِبُهَا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحِمْلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَجَابَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ كثيرة استقصاها ابن الأثير.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ مِنْ أَوْلَادِ الحسين بن على، ويعرف بابن الراعي، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَهَرَبَ مِنْهُ ابْنُ النَّاصِرِ الْعَلَوِيُّ. وَفِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ وَفِي صُحْبَتِهِ الدمستق ملك الأرمن بلاد طرسوس فحاصرها مدة ثم غلت عليهم الأسعار وأخذهم الوباء فمات كثير منهم فكروا راجعين، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) 33: 25 وكان من عزمهم يريدون أن يستحوذوا على البلاد الإسلامية كلها، وذلك لسوء حكامها وفساد عقائدهم في الصحابة فسلم الله ورجعوا خائبين. وفيها كانت وقعة المختار بِبِلَادِ صِقِلِّيَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الرُّومِ خلق كثير، ومن الفرنج ما يقارب مائة أَلْفٍ، فَبَعَثَ أَهْلُ صِقِلِّيَّةَ إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ يستنجدونه، فبعث إليهم جيوشا كثيرة في الاسطول، وكانت بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ صَبَرَ فِيهَا الْفَرِيقَانِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ قتل أمير الروم مويل، وَفَّرَتِ الرُّومُ وَانْهَزَمُوا هَزِيمَةً قَبِيحَةً فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَسَقَطَ الْفِرِنْجُ فِي وَادٍ مِنَ الْمَاءِ عَمِيقٍ فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ وَرَكِبَ الْبَاقُونَ فِي الْمَرَاكِبِ، فَبَعَثَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ صَاحِبُ صِقِلِّيَّةَ في آثارهم مراكب أخر فقتلوا أكثرهم في البحر أيضا، وغنموا في هذه الغزوة كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ سَيْفٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: هَذَا سيف هندي زنته مائة وسبعون مثقالا، طال لما قُوتِلَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ(11/253)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به فِي جُمْلَةِ تُحَفٍ إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ. وَفِيهَا قَصَدَتِ الْقَرَامِطَةُ مَدِينَةَ طَبَرِيَّةَ لِيَأْخُذُوهَا من يد الإخشيد صاحب مضر وَالشَّامِ، وَطَلَبُوا مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِحَدِيدٍ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ سِلَاحًا، فَقَلَعَ لَهُمْ أَبْوَابَ الرقة- وكانت من حديد صامت- وأخذ لهم من حديد الناس حتى أخذ أواقي الباعة والأسواق، وأرسل بذلك كله إليهم، فأرسلوا إليه يقولون اكْتَفَيْنَا. وَفِيهَا طَلَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي دُخُولِ دَارِ الْخِلَافَةِ ليتفرج فيها فأذن له فدخلها، فبعث الخليفة خادمه وصاحبه معه فطافوا بها وهو مسرع خائف، ثم خرج منها وَقَدْ خَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ وَخَشِيَ أَنْ يقتل في دهاليزها، فَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ لَمَّا خَرَجَ شُكْرًا للَّه عَلَى سَلَامَتِهِ، وَازْدَادَ حُبًّا فِي الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ من يومئذ، وكان في جملة ما رأى فيها من العجائب صَنَمٌ مِنْ نُحَاسٍ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ جِدًّا، وَحَوْلَهَا أَصْنَامٌ صِغَارٌ فِي هَيْئَةِ الْخَدَمِ لها كان قد أتى بها في زمن المقتدر فأقيمت هناك ليتفرج عليها الجواري والنساء، فهم معز الدولة أَنْ يَطْلُبَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ ثُمَّ ارْتَأَى فَتَرَكَ ذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَى أَنَّهُ عَلَوِيٌّ، وَكَانَ يَتَبَرْقَعُ فَسُمِّي المتبرقع وغلظت فتنته وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عن بغداد واشتغاله بأمر الموصل كما تقدم، فلما رجع إلى بغداد اختفى المتبرقع وذهب في البلاد فلم ينتج له أمر بعد ذلك.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
بَكَّارُ بْنُ أحمد
ابن بكار بن بيان بن بكار بن درستويه بن عيسى المقري، رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وعنه أبو الحسن الحماني، وَكَانَ ثِقَةً أَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ سنة رحمه الله. توفى فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ عِنْدَ قَبْرِ أبى حنيفة.
أبو إسحاق الجهمى
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ إِذَا سُئِلَ أَنْ يُحَدِّثَ يُقْسِمُ أَنْ لَا يُحَدِّثَ حَتَّى يُجَاوِزَ الْمِائَةَ فَأَبِرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ وجاوزها فأسمع. توفى عن مائة سنة وثلاثين سنة رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وثلاثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم على ما تقدم قبل، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَعُلِّقَتِ الْمُسُوحُ، وَخَرَجَتِ النِّسَاءُ سَافِرَاتٍ ناشرات شعورهن، ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة على الحسين، وهذا تكلف لا حاجة إليه في الإسلام، ولو كان هذا أمرا محمودا لفعله خير القرون وصدر هذه الأمة وخيرتها وهم أولى به (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) 46: 11 وأهل السنة يقتدون ولا يبتدعون، ثم تسلطت أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم مَسْجِدَ بَرَاثَا الَّذِي هُوَ عُشُّ الرَّوَافِضِ وَقَتَلُوا بَعْضَ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْقَوَمَةِ. وَفِيهَا في رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى(11/254)
المصيصة فأخذها قَسْرًا وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، وَاسْتَاقَ بَقِيَّتَهُمْ مَعَهُ أُسَارَى، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ إنسان، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. ثم جاء إِلَى طَرَسُوسَ فَسَأَلَ أَهْلُهَا مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ وأمرهم بالجلاء عنها والانتقال منها، واتخذ مسجدها الأعظم إِسْطَبْلًا لِخُيُولِهِ وَحَرَّقَ الْمِنْبَرَ وَنَقَلَ قَنَادِيلَهُ إِلَى كَنَائِسِ بَلَدِهِ، وَتَنَصَّرَ بَعْضُ أَهْلِهَا مَعَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَكَانَ أَهْلُ طَرَسُوسَ وَالْمِصِّيصَةِ قَدْ أَصَابَهُمْ قبل ذلك بلاء وغلاء عَظِيمٌ، وَوَبَاءٌ شَدِيدٌ، بِحَيْثُ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُمْ في اليوم الواحد ثمانمائة نَفَرٍ، ثُمَّ دَهَمَهُمْ هَذَا الْأَمْرُ الشَّدِيدُ فَانْتَقَلُوا من شهادة إلى شهاد أَعْظَمَ مِنْهَا. وَعَزَمَ مَلِكُ الرُّومِ عَلَى الْمُقَامِ بِطَرَسُوسَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ فَسَارَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَفِي خِدْمَتِهِ الدمستق ملك الأرمن لعنه اللَّهُ. وَفِيهَا جُعِلَ أَمْرُ تَسْفِيرِ الْحَجِيجِ إِلَى نقيب الطالبيين وهو أبو أحمد الحسن بْنُ مُوسَى الْمُوسَوِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى، وكتب له منشور بالنقابة والحجيج.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُخْتُ مُعَزِّ الدَّوْلَةِ فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ في طيارة وجاء لعزائه فَقَبَّلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَشَكَرَ سعيه إليه، وصدقاته عليه. وفي ثانى عشر ذي الحجة منها عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ عِيدَ غَدِيرِ خُمٍّ عَلَى الْعَادَةِ الجارية كما تقدم. وَفِيهَا تَغَلَّبَ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رَشِيقٌ النُّسَيْمِيُّ بِمُسَاعَدَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأهوازي، وكان يضمن الطواحين، فأعطاه وأموالا عظيمة وَأَطْمَعَهُ فِي أَخْذِ أَنْطَاكِيَةَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ سَيْفَ الدولة قد اشتغل عنه بميّافارقين وعجز عن الرجوع إلى حلب، ثم تم لَهُمَا مَا رَامَاهُ مِنْ أَخْذِ أَنْطَاكِيَةَ، ثُمَّ رَكِبَا مِنْهَا فِي جُيُوشٍ إِلَى حَلَبَ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ نَائِبِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ، ثم أخذ البلد وتحصن النائب بالقلعة وجاءته نجدة من سيف الدولة مَعَ غُلَامٍ لَهُ اسْمُهُ بِشَارَةُ، فَانْهَزَمَ رَشِيقٌ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَابْتَدَرَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ فَقَتَلَهُ وأخذ رأسه وجاء بِهِ إِلَى حَلَبَ، وَاسْتَقَلَّ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ سَائِرًا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَأَقَامَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ اسْمُهُ دَزْبَرُ فَسَمَّاهُ الْأَمِيرَ، وَأَقَامَ آخَرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ لِيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً وَسَمَّاهُ الْأُسْتَاذَ. فَقَصَدَهُ نَائِبُ حَلَبَ وَهُوَ قَرْعُوَيْهِ فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا فَهَزَمَهُ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ [وَاسْتَقَرَّ بِأَنْطَاكِيَةَ، فَلَمَّا عَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ لَمْ يَبِتْ بِهَا إِلَّا لَيْلَةً واحدة حتى سار إلى أنطاكية فالتقاه ابن الأهوازي فاقتتلوا قتالا شديدا ثُمَّ انْهَزَمَ دَزْبَرُ وَابْنُ الْأَهْوَازِيِّ] [1] وَأُسِرَا فَقَتَلَهُمَا سيف الدولة.
وَفِيهَا ثَارَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ اسْمُهُ مَرْوَانُ كان يحفظ الطرقات لسيف الدولة، ثار بِحِمْصَ فَمَلَكَهَا وَمَا حَوْلَهَا فَقَصَدَهُ جَيْشٌ مِنْ حَلَبَ مَعَ الْأَمِيرِ بَدْرٍ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ فَرَمَاهُ بَدْرٌ بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ فَأَصَابَهُ، وَاتَّفَقَ أَنْ أَسَرَ أَصْحَابُ مَرْوَانَ بَدْرًا فَقَتَلَهُ مَرْوَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ صبرا ومات مروان بعد أيام وتفرق عنه أصحابه. وَفِيهَا عَصَى أَهْلُ سِجِسْتَانَ أَمِيرَهُمْ خَلَفَ بْنَ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَجَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وخمسين
__________
[1] سقط من المصرية.(11/255)
وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ، فَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَاسْتَمَالَ أَهْلَ الْبَلَدِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ لَمْ يُسَلِّمْهُ الْبَلَدَ وَعَصَى عَلَيْهِ، فذهب إلى بخارا إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ السَّامَانِيِّ فَاسْتَنْجَدَهُ، فَبَعَثَ مَعَهُ جَيْشًا فَاسْتَنْقَذَ الْبَلَدَ مِنْ طَاهِرٍ وَسَلَّمَهَا إِلَى الْأَمِيرِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ- وَقَدْ كَانَ خَلَفٌ عَالِمًا مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ- فَذَهَبَ طَاهِرٌ فَجَمَعَ جُمُوعًا ثُمَّ جَاءَ فَحَاصَرَ خَلَفًا وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَلَدَ. فَرَجَعَ خَلَفٌ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ فَبَعَثَ مَعَهُ مَنِ اسْتَرْجَعَ لَهُ الْبَلَدَ ثَانِيَةً وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ خَلَفٌ بِهَا وَتَمَكَّنَ مِنْهَا مَنَعَ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْخِلَعِ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ ببخارا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا فَتَحَصَّنَ خَلْفٌ فِي حِصْنٍ يقال له حصن إراك، فَنَازَلَهُ الْجَيْشُ فِيهِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِمَنَاعَةِ هَذَا الْحِصْنِ وَصُعُوبَتِهِ وَعُمْقِ خندقه وارتفاعه، وسيأتي ما آل إليه أمر خلف بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا قَصَدَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ بلاد الخزر فاستنجد أهل الخزر بأهل خوارزم فقالوا لهم: لَوْ أَسْلَمْتُمْ لَنَصَرْنَاكُمْ. فَأَسْلَمُوا إِلَّا مَلِكُهُمْ، فَقَاتَلُوا معهم الترك فأجلوهم عنها ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ وللَّه الْحَمْدُ والمنة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
الْمُتَنَبِّي الشَّاعِرُ المشهور
أحمد بن الحسين بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ أَبُو الطَّيِّبِ الْجُعْفِيُّ الشَّاعِرُ المعروف بالمتنبي، كان أبوه يعرف بعيدان السقا وكان يسقى الماء لأهل الكوفة على بعير له، وكان شيخا كبيرا. وَعِيدَانُ هَذَا قَالَ ابْنُ مَاكُولَا وَالْخَطِيبُ: هُوَ بكسر العين المهملة وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ، وَقِيلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا كَسْرِهَا، فاللَّه أَعْلَمُ. كَانَ مَوْلِدُ الْمُتَنَبِّي بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَنَشَأَ بِالشَّامِ بالبادية فطلب الْأَدَبَ فَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ فِيهِ، وَلَزِمَ جَنَابَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَامْتَدَحَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، ثم صار إلى مصر وامتدح الإخشيد ثم هجاء وَهَرَبَ مِنْهُ، وَوَرَدَ بَغْدَادَ فَامْتَدَحَ بَعْضَ أَهْلِهَا، وقدم الكوفة ومدح ابْنَ الْعَمِيدِ فَوَصَلَهُ مِنْ جِهَتِهِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى فَارِسَ فَامْتَدَحَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ فَأَطْلَقَ لَهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً تُقَارِبُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ بَلْ حَصَلَ له منه نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَيُّمَا أَحْسَنُ عَطَايَا عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ أَوْ عَطَايَا سَيْفِ الدَّوْلَةِ بن حمدان؟ فقال: هذه أجزل وفيها تَكَلُّفٌ، وَتِلْكَ أَقَلُّ وَلَكِنْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ مُعْطِيهَا، لِأَنَّهَا عَنْ طَبِيعَةٍ وَهَذِهِ عَنْ تَكَلُّفٍ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ ودس عليه طَائِفَةً مِنَ الْأَعْرَابِ فَوَقَفُوا لَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى بَغْدَادَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كان قد هجى مُقَدِّمَهُمُ ابْنَ فَاتَكٍ الْأَسَدِيَّ- وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ- فَلِهَذَا أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ يتعرضوا له فيقتلوه ويأخذوا له ما معه من الأموال، فانتهوا إليه سِتُّونَ رَاكِبًا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ بَلْ قُتِلَ في يوم الأربعاء لخمس بقين من رمضان، وقيل بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ، وَقَدْ نَزَلَ عِنْدَ عَيْنٍ تَحْتَ شَجَرَةِ إِنْجَاصٍ، وَقَدْ وُضِعَتْ سفرته ليتغدى، ومعه ولده محسن وَخَمْسَةَ عَشَرَ غُلَامًا لَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: هلموا يا وجوه العرب إلى الغداء، فَلَمَّا لَمْ يُكَلِّمُوهُ أَحَسَّ بِالشَّرِّ فَنَهَضَ إِلَى(11/256)
سلاحه وخيله فتواقفوا ساعة فقتل ابنه محسن وَبَعْضُ غِلْمَانِهِ وَأَرَادَ هُوَ أَنْ يَنْهَزِمَ. فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ وَأَنْتَ الْقَائِلُ:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والطعن والضرب والقرطاس والقلم
فقال له: ويحك قتلتني، ثم كر راجعا فطعنه زعيم القوم برمح في عنقه فقتله. ثم اجتمعوا عليه فطعنوه بالرماح حتى قتلوه وأخذوا جميع ما معه، وذلك بالقرب من النعمانية، وهو آئب إلى بغداد، ودفن هناك وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَذَكَرَ ابن عساكر أنه لما نزل تلك المنزلة التي كانت قبل منزلته التي قتل بها، سَأَلَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَيَخْفِرُونَهُ، فَمَنَعَهُ الشُّحُّ وَالْكِبْرُ وَدَعْوَى الشَّجَاعَةِ مِنْ ذلك. وقد كان المتنبي جعفي النسب صلبيبة مِنْهُمْ، وَقَدِ ادَّعَى حِينَ كَانَ مَعَ بَنِي كَلْبٍ بِأَرْضِ السَّمَاوَةِ قَرِيبًا مِنْ حِمْصَ أَنَّهُ علوي، ثم ادعى أنه نبي يوحى إليه، فَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ جَهَلَتِهِمْ وَسَفِلَتِهِمُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أنزل عليه قرآن فمن ذلك قوله: «وَالنَّجْمِ السَّيَّارِ، وَالْفَلَكِ الدَّوَّارِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِنَّ الكافر لفي خسار، امْضِ عَلَى سُنَّتِكِ وَاقْفُ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَامِعٌ بِكَ مَنْ أَلْحَدَ فِي دِينِهِ، وَضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» وهذا من خذلانه وكثرة هذيانه وفشاره، ولو لزم قافية مدحه النافق بالنفاق، والهجاء بالكذب والشقاق، لَكَانَ أَشْعَرَ الشُّعَرَاءِ، وَأَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ وَلَكِنْ أَرَادَ بِجَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا يُشْبِهُ كلام رب العالمين الّذي لو اجتمعت الجن والانس والخلائق أجمعون على أن يأتوا بسورة مثل سورة من أقصر سوره لما استطاعوا. وَلَمَّا اشْتَهَرَ خَبَرُهُ بِأَرْضِ السَّمَاوَةِ وَأَنَّهُ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ، خَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُ حِمْصَ مِنْ جِهَةِ بَنِي الْإِخْشِيدِ وَهُوَ الْأَمِيرُ لُؤْلُؤٌ بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَقَاتَلَهُ وشرد شمله، وأسر مذموما مدحورا، وسجن دَهْرًا طَوِيلًا، فَمَرِضَ فِي السِّجْنِ وَأَشْرَفَ عَلَى التَّلَفِ، فَاسْتَحْضَرَهُ وَاسْتَتَابَهُ وَكَتَبَ عَلَيْهِ كِتَابًا اعْتَرَفَ فيه ببطلان ما ادعاه من النبوة، وَأَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى دين الإسلام، فأطلق الأمير سراحه فكان بعد ذلك إذا ذكر له هذا يجحده إن أمكنه وَإِلَّا اعْتَذَرَ مِنْهُ وَاسْتَحْيَا، وَقَدِ اشْتُهِرَ بِلَفْظَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فِيمَا كَانَ ادَّعَاهُ مِنَ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَهِيَ لَفْظَةُ الْمُتَنَبِّي، الدَّالَّةُ عَلَى الْكَذِبِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ يهجوه:
أي فضل لشاعر يطلب ... الفضل مِنَ النَّاسِ بُكْرَةً وَعَشِيَّا
عَاشَ حِينًا يَبِيعُ في الكوفة الماء ... وحينا يبيع ماء المحيا
وللمتنبي ديوان شعر مشهور، فِيهِ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ وَمَعَانٍ لَيْسَتْ بِمَسْبُوقَةٍ، بَلْ مبتكرة شائقة. وَهُوَ فِي الشُّعَرَاءِ الْمُحْدَثِينَ كَامْرِئِ الْقَيْسِ فِي المتقدمين، وهو عندي كما ذَكَرَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ تَقَدُّمِ أَمْرِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ قِطَعًا رَائِقَةً اسْتَحْسَنَهَا مِنْ شعره، وكذلك الحافظ(11/257)
ابن عساكر شيخ إقليمه، فما استحسنه ابن الجوزي قوله:
عزيزا سبى مَنْ دَاؤُهُ الْحَدَقُ النُّجْلُ ... عَيَاءٌ بِهِ مَاتَ الْمُحِبُّونَ مِنْ قَبْلُ
فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْ إِلَيَّ فَمَنْظَرِي ... نَذِيرٌ إِلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْهَوَى سَهْلُ
جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي فِي مَفَاصِلِي ... فَأَصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بِهَا شُغْلُ
وَمِنْ جَسَدِي لَمْ يَتْرُكِ السُّقْمُ شَعْرَةً ... فَمَا فوقها إلا وفى لَهُ فِعْلُ
كَأَنَّ رَقِيبًا مِنْكَ سَدَّ مَسَامِعِي ... عَنِ الْعَذْلِ حَتَّى لَيْسَ يَدْخُلُهَا الْعَذْلُ
كَأَنَّ سُهَادَ اللَّيْلِ يَعْشَقُ مُقْلَتِي ... فَبَيْنَهُمَا فِي كُلِّ هَجْرٍ لَنَا وَصْلُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
كَشَفَتْ ثَلَاثَ ذَوَائِبٍ مِنْ شَعْرِهَا ... فِي لَيْلَةٍ فَأَرَتْ لَيَالِيَ أَرْبَعَا
وَاسْتَقْبَلَتْ قَمَرَ السَّمَاءِ بِوَجْهِهَا ... فَأَرَتْنِيَ الْقَمَرَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَا نَالَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كُلُّهُمْ ... شِعْرِي وَلَا سَمِعَتْ بِسِحْرِيَ بَابِلُ
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ ناقص ... فهي الشهادة لي بأنى كامل
مَنْ لِي بِفَهْمِ أُهِيلِ عَصْرٍ يَدَّعِي ... أَنْ يَحْسُبَ الْهِنْدِيَّ مِنْهُمْ بَاقِلُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى ... عدوا له ما من صداقته بد
وله
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ... تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأجسام
وله
ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت ... على عينيه يرى صدقها كذبا
وله
خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ ... فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ
وله في مدح بعض الملوك:
تمضى الكواكب وَالْأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ ... مِنْهَا إِلَى الْمَلِكِ الْمَيْمُونِ طَائِرُهُ
قد حزن في بشرفى، تَاجِهِ قَمَرُ ... فِي دِرْعِهِ أَسَدٌ تَدْمَى أَظَافِرُهُ
حُلْوٍ خَلَائِقُهُ شُوسٍ حَقَائِقُهُ ... يُحْصَى الْحَصَى قَبْلَ أَنْ تُحْصَى مَآثِرُهُ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسَرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
وَقَدْ بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى. وَأَخْبَرَنِي الْعَلَّامَةُ شَمْسُ(11/258)
الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمِعَ الشيخ تقى الدين المذكور يَقُولُ: رُبَّمَا قُلْتُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي السُّجُودِ أدعوا الله بما تضمناه من الذل والخضوع. ومما أورده ابن عساكر للمتنبي في ترجمته قوله:
أبعين مفتقر إليك رأيتني ... فأهنتنى وقذفتني من حالقى
لست الملوم، أنا الملوم، لأننى ... أنزلت آمالى بغير الخالق
قال ابن خلكان: وهذان البيتان ليسافى دِيوَانِهِ، وَقَدْ عَزَاهُمَا الْحَافِظُ الْكِنْدِيُّ إِلَيْهِ بِسَنَدٍ صحيح ومن ذلك قوله:
إذا ما كنت فِي شَرَفٍ مَرُومٍ ... فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ ... كَطَعْمِ الموت في أمر عظيم
وله قَوْلُهُ:
وَمَا أَنَا بِالْبَاغِي عَلَى الْحُبِّ رِشْوَةً ... قَبِيحٌ هَوًى يُرْجَى عَلَيْهِ ثَوَابُ
إِذَا نِلْتُ منك الود فالكل هَيِّنٌ ... وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَنَّهُ قُتِلَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنَ خَلِّكَانَ: وَقَدْ فَارَقَ سَيْفَ الدولة بن حمدان سنة أربع وخمسين لما كان من ابن خالويه إليه مَا كَانَ مِنْ ضَرْبِهِ إِيَّاهُ بِمِفْتَاحٍ فِي وجهه فأدماه، فصار إلى مصر فامتدح كافور الإخشيد وَأَقَامَ عِنْدَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ الْمُتَنَبِّي يَرْكَبُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ فَتَوَهَّمَ مِنْهُ كَافُورٌ فجأة، فخاف المتنبي فهرب، فأرسل في طلبه فأعجزه، فقيل لكافور: ما هذا حتى تخافه؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا بعد محمد، أَفَلَا يَرُومُ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا بِدِيَارِ مِصْرَ؟ والملك أقل وأذل من النبوة. ثُمَّ صَارَ الْمُتَنَبِّي إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ فَامْتَدَحَهُ فَأَعْطَاهُ مَالًا كَثِيرًا ثُمَّ رَجَعَ مِنْ عِنْدِهِ فعرض له فاتك ابن أبى الجهل الأسدي فقتله وابنه محسن وغلامه مفلح يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَقِيلَ للبلتين، بِسَوَادِ بَغْدَادَ، وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ، وَقَدْ شَرَحَ دِيوَانَهُ الْعُلَمَاءُ بِالشِّعْرِ وَاللُّغَةِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ شرحا وجيزا وبسيطا.
وممن توفى فيها من الأعيان أبو حاتم البستي صاحب الصحيح.
محمد بن حبان
ابن أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ بْنِ مُعَاذِ بْنِ مَعْبَدٍ أبو حاتم البستي صاحب الأنواع والتقاسيم، وأحدا الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُجْتَهِدِينَ، رَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَشَايِخِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ بَلَدِهِ وَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمُ الْكَلَامَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مُعْتَقَدِهِ وَنَسَبَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ، وَهِيَ نزغة فلسفية والله أعلم بصحة عزوها إليه ونقلها عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ
مُحَمَّدُ بن الحسن بن يعقوب
ابن الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مِقْسَمٍ أَبُو بَكْرِ بن مقسم المقري، ولد سنة خمس ومائتين، وسمع(11/259)
الكثير من المشايخ، روى عنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِالْقِرَاءَاتِ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي النَّحْوِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ، سَمَّاهُ كِتَابَ الْأَنْوَارِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا رَأَيْتُ مثله، وله تصانيف غيره، وَلَكِنْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِسَبَبِ تَفَرُّدِهِ بِقِرَاءَاتٍ لَا تَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُخَالِفُ الرَّسْمَ وَيَسُوغُ من حيث المعنى تجوز الْقِرَاءَةُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) 12: 80 أَيْ يَتَنَاجَوْنَ. قَالَ لَوْ قُرِئَ نَجِيبًا مِنَ النَّجَابَةِ لَكَانَ قَوِيًّا. وَقَدِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ وَكُتِبَ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عبد ربه
ابن موسى أبو بكر الشافعيّ، وله بجبلان سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، سَمِعَ مِنْهُ الدار قطنى وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ حين منعت الديالم من ذلك جهرا بالجامع بمدينة المنصور مخالفة لهم، وكذلك بمسجده بباب الشام.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خمس وخمسين وثلاثمائة
في عاشر المحرم عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم ببغداد. وفيها أجلى القرامطة الهجريين من عُمَانَ. وَفِيهَا قَصَدَتِ الرُّومُ آمِدَ فَحَاصَرُوهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وَلَكِنْ قَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَسَرُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةٍ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَصِيبِينَ، وَفِيهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ فَهَمَّ بِالْهَرَبِ مَعَ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَأَخَّرَ مَجِيءُ الرُّومِ فَثَبَتَ مَكَانَهُ وَقَدْ كادت تزلزل أَرْكَانَهُ. وَفِيهَا وَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَيْشِ خُرَاسَانَ- وكانوا بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا- يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ غَزْوَ الرُّومِ، فَأَكْرَمَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَأَمِنُوا إليهم فنهضوا إليهم وأخذوا الدَّيْلَمَ عَلَى غِرَّةٍ فَقَاتَلَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ فَظَفِرَ بهم لأن البغي له مصرع وخيم وَهَرَبَ أَكْثَرُهُمْ. وَفِيهَا خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى وَاسِطٍ لِقِتَالِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ حين تفاقم الحال بشأنه، واشتهر أمره في تلك النواحي، فَقَوِيَ الْمَرَضُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ فَاسْتَنَابَ عَلَى الْحَرْبِ وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي السَّنَةِ الآتية كما سنذكره- إلى حيث ألقت. وفيها قوى أمر أبى عبد الله ابن الدَّاعِي بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ وَأَظْهَرَ النُّسُكَ وَالْعِبَادَةَ، وَلَبِسَ الصُّوفَ وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ حَتَّى إِلَى بَغْدَادَ يدعو إلى الجهاد في سبيل الله لمن سَبَّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ نُودِيَ بِرَفْعِ الْمَوَارِيثِ الْحَشْرِيَّةِ وأن ترد إلى ذوى الأرحام. وفيها وقع الْفِدَاءُ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ الرُّومِ فَاسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ أُسَارَى كَثِيرَةً، مِنْهُمُ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو فِرَاسِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ حِصْنٍ الْقَاضِيَ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا. وَفِيهَا ابْتَدَأَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ فِي بِنَاءِ مَارَسْتَانٍ وَأَرْصَدَ لَهُ أَوْقَافًا جَزِيلَةً. وَفِيهَا قَطَعَتْ بَنُو سُلَيْمٍ السَّابِلَةَ عَلَى الْحَجِيجِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ(11/260)
عشرين ألف جمل بِأَحْمَالِهَا، وَكَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا لا يقدر كَثْرَةً، وَكَانَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْخَوَاتِيمِيِّ قَاضِي طَرَسُوسَ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ أراد كثير من الناس، وحين أخذوا جمالهم تركوهم على يرد الدِّيَارِ لَا شَيْءَ لَهُمْ، فَقَلَّ مِنْهُمْ مَنْ سلم والأكثر عطب، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وحج بالناس الشريف أبو أحمد نقيب الطالبيين من جهة العراق.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ داود
ابن عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بن الحسن بن زيد بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ. قَالَ الْحَاكِمُ: أبو عبد الله كَانَ شَيْخَ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عصره بخراسان وسيد العلوم فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ صَلَاةً وَصَدَقَةً وَمَحَبَّةً لِلصَّحَابَةِ، وَصَحِبْتُهُ مُدَّةً فَمَا سَمِعْتُهُ ذكر عثمان إلا قال: الشهيد، ويبكى. وَمَا سَمِعْتُهُ ذَكَرَ عَائِشَةَ إِلَّا قَالَ: الصِّدِّيقَةُ بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، ويبكى. وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَطَبَقَتِهِ، وكان آباؤه وبخراسان وَفِي سَائِرِ بُلْدَانِهِمْ سَادَاتٍ نُجَبَاءَ حَيْثُ كَانُوا:
من آل بيت رسول الله مِنْهُمْ ... لَهُمْ دَانَتْ رِقَابُ بَنِي مَعَدٍّ
مُحَمَّدُ بن الحسين بن على بن الحسن
ابن يَحْيَى بْنِ حَسَّانِ بْنِ الْوَضَّاحِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْبَارِيُّ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْوَضَّاحِيِّ، كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْمَحَامِلِيِّ وَابْنِ مَخْلَدٍ وأبى روق. روى عنه الحاكم شيئا من شعره كان أَشْعَرَ مَنْ فِي وَقْتِهِ، وَمِنْ شَعْرِهِ:
سَقَى اللَّهُ بَابَ الْكَرْخِ رَبْعًا وَمَنْزِلًا ... وَمَنْ حَلَّهُ صوب السحاب المجلل
فلو أن باكي دمنة الدار بالكوى ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
رَأَى عَرَصَاتِ الْكَرْخِ أَوْ حَلَّ أَرْضَهَا ... لَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَعَّابِيِّ
مُحَمَّدُ بْنُ عمر بْنِ سَلْمِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ سيار، أبو بكر الْجَعَّابِيِّ، قَاضِي الْمَوْصِلِ، وُلِدَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَخَرَّجَ بِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عُقْدَةَ، وَأَخَذَ عَنْهُ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَشَيْئًا مِنَ التَّشَيُّعِ أَيْضًا، وَكَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا، يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، وَيُذَاكِرُ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَيَحْفَظُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ وَالْمَقَاطِيعِ وَالْحِكَايَاتِ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَحْفَظُ أَسْمَاءَ الرِّجَالِ وَجَرْحَهُمْ وَتَعْدِيلَهُمْ، وَأَوْقَاتَ وَفَيَاتِهِمْ وَمَذَاهِبَهُمْ، حَتَّى تَقَدَّمَ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَفَاقَ سائر أقرانه. وكان يجلس للاملاء فيزد حم النَّاسُ عِنْدَ مَنْزِلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُمْلِي مِنْ حفظه إسناد(11/261)
الحديث ومتنه جيدا محررا صَحِيحًا، وَقَدْ نُسِبَ إِلَى التَّشَيُّعِ كَأُسْتَاذِهِ ابْنِ عقدة، وكان يسكن بباب البصرة عندهم، وقد سئل عنه الدار قطنى فقال: خلط. وقال أبو بكر البرقاني: صَاحِبَ غَرَائِبَ، وَمَذْهَبُهُ مَعْرُوفٌ فِي التَّشَيُّعِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ قِلَّةُ دِينٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَلَمَّا احْتُضِرَ أَوْصَى أَنْ تُحْرَقَ كُتُبُهُ فحرقت، وقد أحرق معها كتب كثيرة كانت عنده للناس، فبئس ما عمل. ولما أخرجت جِنَازَتَهُ كَانَتْ سُكَيْنَةُ نَائِحَةُ الرَّافِضَةِ تَنَوحُ عَلَيْهِ في جنازته.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ للَّه، وَالسُّلْطَانُ معز الدولة بن بويه الديلميّ. وفيها عملت الرَّوَافِضُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَزَاءَ الْحُسَيْنِ عَلَى عادة ما ابتدعوه من النوح وغيره كما تقدم.
وفاة معز الدولة بن بويه الّذي أظهر الرفض ونصر عليه
ولما كان ثالث عشر ربيع الأول منها توفى أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ الَّذِي أَظْهَرَ الرَّفْضَ وَيُقَالُ لَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، بِعِلَّةِ الذَّرَبِ، فَصَارَ لَا يَثْبُتُ فِي مَعِدَتِهِ شَيْءٌ بالكلية، فلما أَحَسَّ بِالْمَوْتِ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَدَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ، وَتَصَدَّقَ بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وعهد بالأمر إلى ولده بَخْتِيَارَ عِزِّ الدَّوْلَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ بِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَكَلَّمَهُ فِي السُّنَّةِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا زَوَّجَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِهَذَا قَطُّ، وَرَجَعَ إِلَى السُّنَّةِ وَمُتَابَعَتِهَا، وَلَمَّا حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ خرج عنه ذلك الرجل العالم فقال له معز الدولة: إلى أين تذهب؟
فقال: إلى الصلاة فقال له ألا تُصَلِّي هَاهُنَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ دَارَكَ مَغْصُوبَةٌ. فَاسْتَحْسَنَ مِنْهُ ذَلِكَ. وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلًا، وَكَانَتْ إِحْدَى يديه مقطوعة، وهو أول من أجرى السعاة بين يديه ليبعث بأخباره إلى أخيه ركن الدولة سريعا إلى شيراز، وحظي عنده أهل هذه الصناعة وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل، وبرغوش، يَتَعَصَّبُ لِهَذَا عَوَامُّ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلِهَذَا عَوَامُّ أَهْلِ الشِّيعَةِ، وَجَرَتْ لَهُمَا مَنَاصِفُ وَمَوَاقِفُ. وَلَمَّا مَاتَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ دُفِنَ بِبَابِ التِّبْنِ فِي مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، وَجَلَسَ ابْنُهُ لِلْعَزَاءِ. وَأَصَابَ النَّاسَ مطر ثلاثة أيام تباعا، وبعث عز الدولة إلى رءوس الأمراء فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِمَالٍ جَزِيلٍ لِئَلَّا تَجْتَمِعَ الدَّوْلَةُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ مُبَايَعَتِهِ، وَهَذَا من دهائه، وَكَانَ عُمُرُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، ومدة ولايته إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا ويومين، وقد كان نَادَى فِي أَيَّامِهِ بِرَدِّ الْمَوَارِيثِ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ قَبْلَ بَيْتِ الْمَالِ وَقَدْ سَمِعَ بَعْضُ النَّاسِ لَيْلَةَ تُوُفِّيَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ هَاتِفًا يَقُولُ:
لما بلغت أبا الحسين ... مراد نفسك بالطلب
وأمنت من حدث الليالي ... وَاحْتَجَبْتَ عَنِ النُّوَبْ(11/262)
مدت إليك يد الردى ... وأخذت من بين الرتب
ولما مات قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ عِزُّ الدَّوْلَةِ فَأَقْبَلَ على اللعب واللهو وَالِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ فَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، وَطَمِعَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ صاحب خُرَاسَانَ فِي مُلْكِ بَنِي بُوَيْهِ، وَأَرْسَلَ الْجُيُوشَ الكثيرة صحبة وُشْمَكِيرَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَابْنِ أَخِيهِ عِزِّ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُمَا، فَأَرْسَلَا إِلَيْهِ بِجُنُودٍ كَثِيرَةٍ، فَرَكِبَ فِيهَا رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ وُشْمَكِيرُ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ، وَيَقُولُ لَئِنْ قَدَرْتُ عَلَيْكَ لأفعلن بك ولأفعلن، فبعث إليه ركن الدولة يقول: لَكِنِّي إِنْ قَدَرْتُ عَلَيْكَ لَأُحْسِنَنَّ إِلَيْكَ وَلَأَصْفَحَنَّ عنك. فكانت الغلبة لِهَذَا، فَدَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ شَرَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ وشمكير ركب فرسا صعبا يتصيد عليها فحمل عليه خنزير فنفرت منه الْفَرَسُ فَأَلْقَتْهُ عَلَى الْأَرْضِ فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنَيْهِ فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ. وَبَعَثَ ابْنُ وُشْمَكِيرَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ مِنْ رُكْنِ الدَّوْلَةِ فأرسل إليه بالمال والرجال، ووفى بما قال من الإحسان، وَصَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْدَ السَّامَانِيَّةِ، وَذَلِكَ بِصِدْقِ النية وحسن الطوية وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو الْفَرَجِ الأصبهاني
صاحب كتاب الأغاني. واسمه عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَرْوَانَ ابن محمد بن مروان بن الحكم الأموي، صَاحِبُ كِتَابِ الْأَغَانِي وَكِتَابِ أَيَّامِ الْعَرَبِ، ذَكَرَ فيه ألفا وسبعمائة يوم من أيامهم، وكان شاعرا أديبا كاتبا، عالما بأخبار الناس وأيامهم، وكان فيه تشيع. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِثْلُهُ لَا يُوثَقُ بِهِ، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق وَيُهَوِّنُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَرُبَّمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْ نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى فيه كُلَّ قَبِيحٍ وَمُنْكَرٍ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ محمد بن عبد الله بن بطين وخلق، وروى عنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ، وَقَدْ ذَكَرَ له ابن خلكان مصنفات عديدة منها الأغاني والمزارات وأيام العرب. وفيها توفى.
سيف الدَّوْلَةِ
أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الشُّجْعَانِ، وَالْمُلُوكِ الْكَثِيرِي الْإِحْسَانِ، عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَشَيُّعٍ، وَقَدْ ملك دمشق في بعض السنين، واتفق له القفصي غَرِيبَةٌ، مِنْهَا أَنَّ خَطِيبَهُ كَانَ مُصَنِّفَ الْخُطَبِ النباتية أحد الفصحاء البلغاء. ومنها أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطر به كان أبو نصر الفارابيّ. وكان سيف الدولة كَرِيمًا جَوَّادًا مُعْطِيًا لِلْجَزِيلِ. وَمِنْ شَعْرِهِ فِي أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ:
رَضِيتُ لَكَ الْعَلْيَا، وَقَدْ كُنْتَ أَهْلَهَا ... وَقُلْتُ لَهُمْ: بَيْنِي وَبَيْنَ أَخِي فَرْقُ
وَمَا كَانَ لِي عَنْهَا نُكُولٌ، وَإِنَّمَا ... تَجَاوَزْتُ عَنْ حَقِّي فَتَمَّ لَكَ السبق(11/263)
أَمَا كُنْتَ تَرْضَى أَنْ أَكُونَ مُصَلِّيًا ... إِذَا كُنْتُ أَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ السَّبْقُ
وَلَهُ
قد جرى في دمعه دمه ... قال لي كَمْ أَنْتَ تَظْلِمُهُ
رُدَّ عَنْهُ الطَّرْفَ مِنْكَ ... فقد جرحته منك أسهمه
كيف تستطيع التَّجَلُّدَ ... مَنْ خَطَرَاتُ الْوَهْمِ تُؤْلِمُهُ
وَكَانَ سَبَبَ موته الفالج، وقيل عسر البول. توفى بِحَلَبَ وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ فَدُفِنَ بِهَا، وعمره ثلاث وخمسون سنة، ثم أقام في ملك حلب بعده ولده سيف الدولة أبو المعالي الشريف، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مَوْلَى أَبِيهِ قَرْعُوَيْهِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ حَلَبَ إِلَى أُمِّهِ بِمَيَّافَارِقِينَ، ثُمَّ عَادَ إليها كما سيأتي. وذكر ابن خلكان القفصي كثيرة مِمَّا قَالَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَقِيلَ فِيهِ، قَالَ وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِبَابِ أَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ مَا اجْتَمَعَ بِبَابِهِ مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَقَدْ أجاز لجماعة منهم، وقال: أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ وأنه ملك حلب بعد الثلاثين والثلاثمائة، وقبل ذلك ملك واسطا ونواحيها، ثم تقلبت بِهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى مَلَكَ حَلَبَ. انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْكِلَابِيِّ صَاحِبِ الْإِخْشِيدِ وقد قال يوما:
أَيُّكُمْ يُجِيزُ قَوْلِي وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْكُمْ يجيز ذلك: لَكَ جَسْمِي تُعِلُّهُ فَدَمِي لَمْ تُحِلُّهُ؟. فَقَالَ أبو فراس أخوه بديهة: إن كنت مالكا الأمر كله.
وقد كان هؤلاء الملوك رفضة وهذا من أقبح القول. وفيها توفى
كافور الإخشيد
مولى محمد بن طغج الإخشيدي، وقد قام بالأمر بعده مولاه لصغر ولده. تملك كافور مصر ودمشق وقاده لسيف الدَّوْلَةِ وَغَيْرَهُ. وَقَدْ كُتِبَ عَلَى قَبْرِهِ.
انْظُرْ إلى غير الأيام ما صنعت ... أفنت قرونا بِهَا كَانُوا وَمَا فَنِيَتْ
دُنْيَاهُمُ ضَحِكَتْ أَيَّامَ دَوْلَتِهِمْ ... حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ نَاحَتْ لَهُمْ وَبَكَتْ
أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِيُّ
صَاحِبُ الْأَمَالِي، إِسْمَاعِيلُ بْنُ القاسم بن عبدون بْنِ هَارُونَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سليمان، أبو على القاضي الْقَالِيُّ اللُّغَوِيُّ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ هَذَا كَانَ مَوْلًى لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَالْقَالِيُّ نسبة إلى قالي قلا. ويقال إنها أردن الروم فاللَّه أعلم. وكان مولده بميافارقين، جزء مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ، وَسَمِعَ الحديث من أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَخَذَ النَّحْوَ وَاللُّغَةَ عن ابن دريد وأبى بكر الْأَنْبَارِيِّ وَنِفْطَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَنَّفَ الْأَمَالِيَ وَهُوَ مَشْهُورٌ، وله كتاب التاريخ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي خَمْسَةِ آلَافِ وَرَقَةٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي اللُّغَةِ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ بِهَا ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَدَخَلَهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَاسْتَوْطَنَهَا، وَصَنَّفَ بها كتبا كثيرة إلى أن(11/264)
تُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ سَنَةً قَالَهُ ابْنُ خِلِّكَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ صَاحِبُ بِلَادِ كَرْمَانَ وَمُعَامَلَاتِهَا، فَأَخَذَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ كَرْمَانَ، مِنْ أَوْلَادِ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ- وَهُمْ ثَلَاثَةٌ- الْيَسَعُ، وَإِلْيَاسُ، وَسُلَيْمَانُ، والملك الكبير وشمكير، كما قدمنا.
وفيها توفى من الملوك أيضا الحسن بن الفيرزان. فكانت هذه السنة محل موت الملوك مات فيها معز الدولة، وكافور، وسيف الدولة، قال ابن الأثير: وفيها هلك نقفور ملك الأرمن وبلاد الروم- يعنى الدمستق كما تقدم-.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة
فِيهَا شَاعَ الْخَبَرُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ أَنَّ رَجُلًا ظَهَرَ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَوْعُودُ به، وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ، ودعا إليه ناس من الشيعة، وقالوا: هذا علوي من شيعتنا، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ إِذْ ذَاكَ مُقِيمًا بِمِصْرَ عِنْدَ كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَكَانَ يُكْرِمُهُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحْسِنِينَ لَهُ سُبُكْتِكِينُ الْحَاجِبُ، وَكَانَ شِيعِيًّا فَظَنَّهُ عَلَوِيًّا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُقْدِمَ إِلَى بَغْدَادَ لِيَأْخُذَ لَهُ الْبِلَادَ، فترحل عن مصر قاصد العراق فتلقاه سبكتكين الحاجب إِلَى قَرِيبِ الْأَنْبَارِ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ وَإِذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسْتَكْفِي باللَّه الْعَبَّاسِيُّ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ عَبَّاسِيٌّ وَلَيْسَ بِعَلَوِيٍّ انْثَنَى رَأْيُهُ فيه، فتفرق شمله وتمزق أمره، وذهب أصحابه كل مذهب، وحمل إلى معز الدولة فأمنه وسلمه إلى الْمُطِيعُ للَّه فَجَدَعَ أَنْفَهُ وَاخْتَفَى أَمْرُهُ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا وردت طائفة من الروم إِلَى بِلَادِ أَنْطَاكِيَةَ فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ حَوَاضِرِهَا وَسَبَوُا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِهَا وَرَجَعُوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد. وفيها عملت الروافض في يوم عاشوراء منها المأتم على الحسين، وَفِي يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ الْهَنَاءَ وَالسُّرُورَ. وَفِيهَا في تشرين عرض للناس داء الماشرى فمات به خلق كثير.
وَفِيهَا مَاتَ أَكْثَرُ جِمَالِ الْحَجِيجِ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعَطَشِ، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ إلا القليل، بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج. وَفِيهَا اقْتَتَلَ أَبُو الْمَعَالِي شَرِيفُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ هُوَ وَخَالُهُ وَابْنُ عَمِّ أَبِيهِ أَبُو فراس في المعركة. قال ابن الأثير: ولقد صَدَقَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ.
وَفِيهَا توفى من الأعيان
أيضا إبراهيم المتقى للَّه، وكان قد ولى الخلافة ثم ألجئ أن خلع من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة إلى هذه السنة، وألزم بَيْتَهُ فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِدَارِهِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
عُمَرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عبد الله
ابن أَبِي السَّرِيِّ: أَبُو جَعْفَرٍ الْبَصَرِيُّ الْحَافِظُ وُلِدَ سنة ثمانين ومائتين، حدث عن أبى الفضل ابن الحباب وغيره، وقد انتقد عليه مائة حديث وضعها. قال الدار قطنى فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا الصَّوَابُ(11/265)
مَعَ عُمَرَ بْنِ جَعْفَرٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الجوهري المحتسب، ويعرف بابن المخرم، كَانَ أَحَدَ أَصْحَابِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَدْ روى عن الكديمي وغيره، وقد اتفق له أنه تزوج امرأة فلما دخلت عَلَيْهِ جَلَسَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ فَجَاءَتْ أُمُّهَا فَأَخَذَتِ الدَّوَاةَ فَرَمَتْ بِهَا وَقَالَتْ: هَذِهِ أَضَرُّ عَلَى ابنتي من مائة ضرة. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ.
كَافُورُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِخْشِيدِيُّ
كَانَ مَوْلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بن طغج، اشْتَرَاهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ مِصْرَ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دينارا، ثم قربه وأدناه، وخصه مِنْ بَيْنِ الْمَوَالِي وَاصْطَفَاهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ أَتَابِكًا حِينَ مَلَّكَ وَلَدَاهُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْأُمُورِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمْلَكَةُ باسمه فدعى له على المنابر بالديار المصرية والشامية والحجازية، وكان شهما شجاعا ذكيا جيد السيرة، مدحه الشعراء، منهم المتنبي، وحصل له منه مال، ثم غضب عليه فهجاه ورحل عنه إلى عضد الدولة، ودفن كافور بتربته المشهورة به، وقام في الملك بَعْدَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْإِخْشِيدِ، وَمِنْهُ أَخَذَ الْفَاطِمِيُّونَ الْأَدْعِيَاءُ بِلَادَ مِصْرَ كَمَا سَيَأْتِي. ملك كافور سنتين وثلاثة أشهر
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة
في عاشوراء منها عملت الروافض بدعتهم وفي يوم خم عملوا الفرح والسرور المبتدع على عادتهم.
وفيها حصل الغلاء العظيم حتى كاد أن يعدم الخبز بالكلية، وكاد الناس أن يهلكوا. وفيها عاث الروم في الأرض فَسَادًا وَحَرَقُوا حِمْصَ وَأَفْسَدُوا فِيهَا فَسَادًا عَرِيضًا، وَسَبَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحَوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ إنسان ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وفيها دخل أبو الحسين جَوْهَرٌ الْقَائِدُ الرُّومِيُّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ يَوْمَ الثلاثاء لثلاث عشرة بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خطبوا لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ عَلَى مَنَابِرِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَسَائِرِ أعمالها، وأمر جوهر المؤذنين بالجوامع أَنْ يُؤَذِّنُوا بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأَنْ يجهر الأئمة بالتسليمة الأولى، وذلك أنه لما مات كافور لَمْ يَبْقَ بِمِصْرَ مَنْ تَجْتَمِعُ الْقُلُوبُ عَلَيْهِ، وَأَصَابَهُمْ غَلَاءٌ شَدِيدٌ أَضْعَفَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المعز بعث جوهرا هذا- وهو مولى أبيه المنصور- في جيش إلى مصر. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَصْحَابَ كَافُورٍ هَرَبُوا مِنْهَا قبل دخول جوهر إليها، فدخلها بِلَا ضَرْبَةٍ وَلَا طَعْنَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، فَفَعَلَ ما ذكرنا، واستقرت أيدي الفاطميين على تلك البلاد.
وفيها شَرَعَ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ فِي بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَّةِ، وبناء القصرين عندها على ما نذكره. وفيها شرع في الامامات إلى مولاه المعز الفاطمي. وفيها أرسل جَوْهَرٌ جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الشَّامِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ بِدِمَشْقَ الشريف أبو القاسم بن يعلى الهاشمي، وكان مطاعا في أهل الشام فجاحف عَنِ الْعَبَّاسِيِّينَ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ آلَ الْحَالُ إلى أن يخطبوا للمعز بدمشق، وحمل الشريف أبو(11/266)
القاسم هذا إلى الديار المصرية، وأسر الحسن بن طغج وجماعة من الأمراء وحملوا إلى الديار المصرية، فحملهم جوهر القائد إِلَى الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَى دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي وَأُذِّنَ فيها وفي نواحيها يحى على خير العمل أكثر من مائة سنة، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها، وأبواب المساجد، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كذلك حتى أزالت ذلك دولة الأتراك والأكراد نور الدين الشهيد وصلاح الدين بن أيوب على ما سيأتي بيانه. وَفِيهَا دَخَلَتِ الرُّومُ إِلَى حِمْصَ فَوَجَدُوا أَكْثَرَ أهلها قد انجلوا عنها وذهبوا، فَحَرَّقُوهَا وَأَسَرُوا مِمَّنْ بَقِيَ فِيهَا وَمِنْ حَوْلِهَا نحوا من مائة ألف إنسان، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ منها نقل عز الدولة والده معز الدولة ابن بُوَيْهِ مِنْ دَارِهِ إِلَى تُرْبَتِهِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الرافضة بِدْعَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ فَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَتَعَطَّلَتِ الْمَعَايِشُ وَدَارَتِ النِّسَاءُ سَافِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَالْمُسُوحُ مُعَلَّقَةٌ فِي الأسواق والتبن مدرور فيها. وفيها دخلت الروم أنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز وسبوا الصبايا والأطفال نحوا من عشرين ألفا ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. وَذَلِكَ كُلُّهُ بِتَدْبِيرِ مَلِكِ الْأَرْمَنِ نُقْفُورَ لَعَنَهُ الله وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله. قال ابن الجوزي: وكان قد تمرد وطغا، وكان هذا الخبيث قد تزوج بامرأة الملك الّذي كان قبله، ولهذا الملك المتقدم ابْنَانِ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْصِيَهُمَا وَيَجْعَلَهُمَا فِي الْكَنِيسَةِ لِئَلَّا يَصْلُحَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُلْكِ، فَلَمَّا فَهِمَتْ ذلك أمهما عملت عليه وسلطت عَلَيْهِ الْأُمَرَاءَ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ نَائِمٌ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أَكْبَرَ وَلَدَيْهَا. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ صُرِفَ عَنِ الْقَضَاءِ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ وَأُعِيدَ إِلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ. قَالَ ابْنُ الجوزي: وفيها نَقَصَتْ دِجْلَةُ حَتَّى غَارَتِ الْآبَارُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الشريف أبو أحمد النقيب، وانقض كوكب في ذي الحجة فأضاءت له الأرض حَتَّى بَقِيَ لَهُ شُعَاعٌ كَالشَّمْسِ، ثُمَّ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَالرَّعْدِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي المحرم منها خُطِبَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بِدِمَشْقَ عَنْ أَمْرِ جَعْفَرِ بن فلاح الّذي أرسله جوهر القائد بعد أخذه مصر، فَقَاتَلَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابن طغج بالرملة فغلبه ابن فلاح وأسره وأرسله إلى جوهر فأرسله إلى المعز وهو بإفريقية. وفيها وَقَعَتِ الْمُنَافَرَةُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَبِي تَغْلِبَ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَمَّا مات معز الدولة بن بويه عَزَمَ أَبُو تَغْلِبَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ بيته على أخذ بغداد، فَقَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ: إِنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ قَدْ ترك لولده عز الدولة أموالا جزيلة فلا تقدرون عليه ما دامت في يده، فاصبروا حتى ينفقها فإنه مبذر، فإذا أفلس فسيروا إليه فإنكم تغلبونه، فحقد عليه ولده أبو تغلب بسبب هذا القول وَلَمْ يَزَلْ بِأَبِيهِ(11/267)
حَتَّى سَجَنَهُ بِالْقَلْعَةِ، فَاخْتَلَفَ أَوْلَادُهُ بَيْنَهُمْ وَصَارُوا أحزابا، وضعفوا عما في أيديهم، فبعث أبو تغلب إلى عز الدولة يضمن منه بلاد الموصل بألف ألف كل سنة، وَاتَّفَقَ مَوْتُ أَبِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاسْتَقَرَّ أَبُو تَغْلِبَ بِالْمَوْصِلِ وَمَلَكَهَا، إِلَّا أنهم فيما بينهم مختلفين متحاربين. وفيها دَخَلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى طَرَابُلُسَ فَأَحْرَقَ كَثِيرًا منها وقتل خلقا، وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها مِنْهَا لِشِدَّةِ ظُلْمِهِ، فَأَسَرَتْهُ الرُّومُ وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا، ثُمَّ مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلدا سِوَى الْقُرَى، وَتَنَصَّرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ عَلَى أَيْدِيهِمْ ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وجاءوا إلى حمص فأحرقوا ونهبوا وسبوا، ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر من قدر عليه، وصارت له مهابة في قلوب الناس، ثم عاد إلى بلده وَمَعَهُ مِنَ السَّبْيِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ ما بين صَبِيٍّ وَصَبْيَةٍ، وَكَانَ سَبَبَ عَوْدِهِ إِلَى بِلَادِهِ كَثْرَةُ الْأَمْرَاضِ فِي جَيْشِهِ وَاشْتِيَاقُهُمْ إِلَى أَوْلَادِهِمْ، وَبَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى الْجَزِيرَةِ فَنَهَبُوا وَسَبَوْا، وَكَانَ قَرْعُوَيْهِ غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى حلب وأخرج منها ابن أستاذه شريف، فسار إلى طرف وهي تحت حكمه فأبوا أن يمكنوه من الدخول إِلَيْهِمْ، فَذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَهِيَ ابْنَةُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ فَمَكَثَ عِنْدَهَا حِينًا ثُمَّ سَارَ إِلَى حُمَاةَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى حلب بعد سنتين كما سيأتي، وَلَمَّا عَاثَتِ الرُّومُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالشَّامِ صَانَعَهُمْ قَرْعُوَيْهِ عَنْ حَلَبَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِأَمْوَالٍ وَتُحَفٍ ثُمَّ عَادُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَمَلَكُوهَا وَقَتَلُوا خلقا كثيرا من أهلها، وَسَبَوْا عَامَّةَ أَهْلِهَا وَرَكِبُوا إِلَى حَلَبَ وَأَبُو المعالي شريف محاصر قرعويه بها، فخافهم فهرب عنها فحاصرها الرُّومُ فَأَخَذُوا الْبَلَدَ، وَامْتَنَعَتِ الْقَلْعَةُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اصطلحوا مع قرعويه على هدية وَمَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ كُلَّ سَنَةٍ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ البلد ورجعوا عنه. وفيها خَرَجَ عَلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَهُوَ بِإِفْرِيقِيَّةَ رَجُلٌ يقال له أبو خزر فنهض إليه بنفسه وجنوده، وطرده ثم عاد فاستأمنه فقبل منه وصفح عنه وجاءه الرسول من جوهر يبشره بفتح مصر وإقامة الدعوة له بها، ويطلبه إليها، ففرح بذلك وامتدحه الشعراء من جملتهم شاعره محمد بن هانئ قصيدة له أولها:
يقول بنو العباس قد فُتِحَتْ مِصْرُ ... فَقُلْ لِبَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ قُضِيَ الأمر
وَفِيهَا رَامَ عِزُّ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ بَغْدَادَ مُحَاصَرَةَ عمران بن شاهين الصياد فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَصَالَحَهُ وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ. وَفِيهَا اصْطَلَحَ قَرْعُوَيْهِ وَأَبُو الْمَعَالِي شَرِيفٌ، فَخَطَبَ له قرعويه بحلب وجميع معاملاتها تخطب للمعز الفاطمي، وكذلك حمص ودمشق، ويخطب بمكة للمطيع باللَّه وللقرامطة، وَبِالْمَدِينَةِ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ. وَخَطَبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ بظاهرها للمطيع. وذكر ابن الأثير أن نقفور توفى في هذه السنة ثم صار ملك الروم إلى ابن الملك الّذي قبله، قال وكان يقال له الدمستق، وكان مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْفَقَّاسِ، فَتَنَصَّرَ وَلَدُهُ هَذَا(11/268)
وَحَظِيَ عِنْدَ النَّصَارَى حَتَّى صَارَ مِنْ أَمْرِهِ ما صار، وقد كان من أشد الناس على المسلمين، أخذ منهم بلادا كثيرة عنوة، من ذلك طرسوس والاذنة وعين زربة والمصيصة وغير ذلك، وقتل من المسلمين خلقا لا يعلمهم إلا الله، وسبى منهم ما لا يعلم عدتهم إلا الله، وتنصروا أو غالبهم، وهو الّذي بعث تلك القصيدة إلى المطيع كما تقدم.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مُحَمَّدُ بْنُ أحمد بن الحسين
ابن إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَلِيٍّ الصَّوَّافُ، رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحمد بن حنبل وطبقته، وعنه خلق منهم الدار قطنى. وقال ما رأت عيناي مثله في تحريره وَدِينِهِ، وَقَدْ بَلَغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ الله.
مُحَارِبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَارِبٍ
أَبُو الْعَلَاءِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ ذُرِّيَّةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، كان ثقة عالما، رَوَى عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ وَغَيْرِهِ.
أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَطَّانِ أَحَدُ أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج، ثم الشيخ أبى إسحاق الشيرازي وَتَفَرَّدَ بِرِيَاسَةِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْقَاسِمِ الدارانيّ، وَصَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، وَكَانَتِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ بِبَغْدَادَ، وَدَرَّسَ بِهَا وَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا. توفى في جمادى الأولى منها.
ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة
في عاشر محرمها عملت الرافضة بدعتهم المحرمة على عادتهم المتقدمة. وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا أَخَذَتِ الْقَرَامِطَةُ دِمَشْقَ وقتلوا نائبها جعفر بن فلاح، وَكَانَ رَئِيسَ الْقَرَامِطَةِ وَأَمِيرَهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَهْرَامٍ وَقَدْ أَمَدَّهُ عِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ بِسِلَاحٍ وَعُدَدٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الرملة فأخذوها وتحصن بها من كان بها من المغاربة نوابا. ثم إن القرامطة تركوا عليهم من يحاصرها ثم ساروا نحو القاهرة فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالْإِخْشِيدِيَّةِ وَالْكَافُورِيَّةِ، فَوَصَلُوا عَيْنَ شَمْسٍ فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَجُنُودُ جَوْهَرٍ القائد قِتَالًا شَدِيدًا، وَالظَّفَرُ لِلْقَرَامِطَةِ وَحَصَرُوا الْمَغَارِبَةَ حَصْرًا عَظِيمًا. ثُمَّ حَمَلَتِ الْمَغَارِبَةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ عَلَى مَيْمَنَةِ الْقَرَامِطَةِ فَهَزَمَتْهَا وَرَجَعَتِ الْقَرَامِطَةُ إِلَى الشام فجدوا في حصار باقي المغاربة فَأَرْسَلَ جَوْهَرٌ إِلَى أَصْحَابِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَرْكَبًا ميرة لأصحابه، فأخذتها القرامطة سوى مركبين أخذتها الأفرنج. وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ. وَمِنْ شَعْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ أحمد بن بهرام أمير القرامطة في ذلك:
زَعَمَتْ رِجَالُ الْغَرْبِ أَنِّي هِبْتُهَا ... فَدَمِي إِذَنْ مَا بَيْنَهُمْ مَطْلُولُ
يَا مِصْرُ إِنْ لَمْ أسق أرضك من دم ... يروى تراك فَلَا سَقَانِي النِّيلُ
وَفِيهَا تَزَوَّجَ أَبُو تَغْلِبَ بن حمدان بنت بَخْتِيَارَ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَعُمُرُهَا ثَلَاثُ سِنِينَ عَلَى صداق مائة(11/269)
ألف دينار، ووقع العقد في صفر منها. وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ الصاحب أبا القاسم ابن عباد فأصلح أموره وَسَاسَ دَوْلَتَهُ جَيِّدًا. وَفِيهَا أُذِّنَ بِدِمَشْقَ وَسَائِرِ الشام بحي على خير العمل.
قال ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ نائب دمشق: وهو أول من تأمر بها عن الفاطميين، أخبرنا أبو محمد الأكفاني قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِرَامٍ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ من صفر من سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَعْلَنَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْجَامِعِ بدمشق وسائر مآذن البلد، وسائر الْمَسَاجِدِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ بَعْدَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ جَعْفَرُ بْنُ فَلَاحٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَلَا وَجَدُوا مِنَ الْمُسَارَعَةِ إِلَى طَاعَتِهِ بُدًّا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثامن من جمادى الآخرة أُمِرَ الْمُؤَذِّنُونَ أَنْ يُثَنُّوا الْأَذَانَ وَالتَّكْبِيرَ فِي الْإِقَامَةِ مَثْنَى مَثْنَى. وَأَنْ يَقُولُوا فِي الْإِقَامَةِ حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ وصبروا على حكم الله تعالى.
وفيها توفى من الأعيان
سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ
أَبُو الْقَاسِمِ الطبراني الحافظ الكبير صاحب المعاجم الثلاثة: الكبير، والأوسط، والصغير. وله كتاب السُّنَّةِ وَكِتَابِ مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المصنفات المفيدة، عمر مائة سنة. توفى بِأَصْبَهَانَ وَدُفِنَ عَلَى بَابِهَا عِنْدَ قَبْرِ حُمَمَةَ الصحابي. قاله أبو الفرج ابن الجوزي. قال ابن خلكان:
سمع مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ، قَالَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وكان مولده في سنة ستين ومائتين فمات وله من العمر مائة سنة.
الرفّاء الشاعر أَحْمَدَ بْنِ السَّرِيِّ أَبُو الْحَسَنِ
الْكِنْدِيُّ الرَّفَّاءُ الشَّاعِرُ الْمَوْصِلِيُّ، أَرَّخَ وَفَاتَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي هذه السنة، توفى في بغداد. وذكر بن الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كما سيأتي.
محمد بن جعفر
ابن مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ يَزِيدَ أبو بكر بن المنذر أَصْلُهُ أَنْبَارِيٌّ. سَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ ابن البرجلاني، ومحمد بن الْعَوَّامِ الرِّيَاحِيِّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّائِغِ، وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ. قَالُوا: وَكَانَتْ أُصُولُهُ جِيَادًا بخط أبيه، وسماعه صحيحا، وقد انتقى عنه أبو عمرو البصري. توفى فَجْأَةً يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ.
مُحَمَّدُ بن الحسن بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الْآجِرِيُّ
سَمِعَ جعفر الْفِرْيَابِيَّ، وَأَبَا شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيَّ، وَأَبَا مُسْلِمٍ الْكَجِّيَّ وخلقا، وكان ثقة صادقا دينا، وله مصنفات كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا الْأَرْبَعُونَ الْآجِرِيَّةُ، وَقَدْ حَدَّثَ بِبَغْدَادَ قَبْلَ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ بَعْدَ إقامته بها ثلاثين سنة رحمه الله.(11/270)
محمد بن جعفر بن محمد
أبو عمر والزاهد، سمع الكثير ورحل إلى الآفاق المتباعدة، وَسَمِعَ مِنْهُ الْحُفَّاظُ الْكِبَارُ، وَكَانَ فَقِيرًا مُتَقَلِّلًا يضرب اللبن بقبور الفقراء، ويتقوت برغيف وجزرة أو بصلة، ويقوم الليل كله. توفى في جمادى الآخرة منها عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ
وَيُعْرَفُ بِالدُّقِّيِّ أَصْلُهُ مِنَ الدينور أقام ببغداد، ثم ارتحل وانتقل إِلَى دِمَشْقَ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخَرَائِطِيِّ، صاحب ابن الجلاء، والدقاق. توفى في هذه السنة وقد جاوز المائة
محمد بن الفرحانى
ابن زروية المروزي الطبيب، دَخَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِيهِ بِأَحَادِيثَ منكرة، روى عن الجنيد وابن مرزوق، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ فِيهِ ظُرْفٌ وَلَبَاقَةٌ، غير أنهم كانوا يتهمونه بوضع الحديث.
أحمد بن الفتح
ويقال ابن أبى الفتح الخاقانيّ، أبو العباس النِّجَادِ، إِمَامُ جَامِعِ دِمَشْقَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ عَابِدًا صَالِحًا، وَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً جَاءُوا لِزِيَارَتِهِ فَسَمِعُوهُ يَتَأَوَّهُ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، فأنكروا عليه ذلك، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمْ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ آهِ اسم من تستروح إليه الأعلى، قال فزاد في أعينهم وعظموه. قلت:
لكن هَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ مُسَلَّمًا إليه فيه، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ عَنِ الْمَعْصُومِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهُمُ كما تقدم، وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى الْجَزِيرَةِ وديار بكر فقتلوا خلقا مِنْ أَهْلِ الرَّهَا، وَسَارُوا فِي الْبِلَادِ كَذَلِكَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَغْنَمُونَ إِلَى أَنْ وَصَلُوا نَصِيبِينَ ففعلوا ذلك، ولم يغن عن تِلْكَ النَّوَاحِي أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ مُتَوَلِّيهَا شيئا، ولا دافع عنهم وَلَا لَهُ قُوَّةٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَهَبَ أَهْلُ الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع للَّه وغيره يستنصرونه ويستصرخون، فرثى لهم أهل بغداد وجاءوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذَلِكَ، وَكَانَ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مَشْغُولًا بِالصَّيْدِ فَذَهَبَتِ الرُّسُلُ وَرَاءَهُ فَبَعَثَ الْحَاجِبَ سُبُكْتِكِينَ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ، فَتَجَهَّزَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وكتب إلى تغلب أن يعد الميرة والاقامة، فأظهر السرور والفرح، وَلَمَّا تَجَهَّزَتِ الْعَامَّةُ لِلْغَزَاةِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا: الشر كله منكم، وثار الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَتَنَاقَضَ النَّقِيبُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ وَالْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ الشِّيرَازِيُّ، وَأَرْسَلَ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ(11/271)
إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَمْوَالًا يَسْتَعِينُ بِهَا على هذه الغزوة، فبعث إليه يقول: لو كان الخراج يجيئ إِلَيَّ لَدَفَعْتُ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ، ولكن أنت تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك. فترددت الرسل بينهم وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وَتَهَدَّدَهُ فَاحْتَاجَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُحَصِّلَ لَهُ شَيْئًا فباع بعض ثياب بدنه وشيئا من أثاث بيته، ونقض بعض سقوف داره وحصل له أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَصَرَفَهَا بَخْتِيَارُ فِي مَصَالِحِ نفسه وأبطل تلك الغزاة، فنقم الناس للخليفة وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضيّ من أخذه مال الخليفة وتركه الجهاد، فلا جزاه الله خيرا عن المسلمين. وَفِيهَا تَسَلَّمَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ قَلْعَةَ مَارِدِينَ فَنَقَلَ حَوَاصِلَهَا وَمَا فِيهَا إِلَى الْمَوْصِلِ. وَفِيهَا اصْطَلَحَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ صاحب خراسان وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَابْنُهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَا إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَ بِابْنَةِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَدَايَا والتحف ما لا يعد ولا يحصى. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا خَرَجَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ بِأَهْلِهِ وحاشيته وجنوده من المدينة الْمَنْصُورَةِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ قَاصِدًا الْبِلَادَ الْمِصْرِيَّةَ، بعد ما مهد له مولاه جوهر أمرها وبنى له بها القصرين، واستخلف المعز عَلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَنَوَاحِيهَا وَصِقِلِّيَةَ وَأَعْمَالِهَا نُوَّابًا من جهته وحزبه وَأَنْصَارِهِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ شَاعِرَهُ مُحَمَّدَ بْنَ هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيَّ، فَتُوُفِّيَ فِي أثناء الطريق، وَكَانَ قُدُومُ الْمُعِزِّ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ النَّقِيبُ على الطالبيين كلهم.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ
أَبُو الْقَاسِمِ الْقِرْمِطِيُّ الْهَجَرِيُّ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ سُلَالَةِ أَبِي سَعِيدٍ سِوَاهُ
عُثْمَانُ بْنُ عمر بن خفيف
أبو عمر المقري المعروف بالدراج، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وعنه ابن رزقويه، وكان من أهل القراءات والفقه والدراية والديانة والسيرة الجميلة، وكان يعد من الابدال. توفى يوم الجمعة في رمضان منها
على بن إسحاق بن خلف
أبو الحسين القطان الشاعر المعروف بالمراهى. ومن شعره:
قم فهن عَاشِقَيْنِ ... أَصْبَحَا مُصْطَحِبَيْنَ
جَمْعًا بَعْدَ فِرَاقٍ ... فُجِعَا منه ببين
ثُمَّ عَادَا فِي سُرُورٍ ... مِنْ صُدُودٍ آمِنَيْنَ
بهما روح ولكن ... ركبت في بدنين
أحمد بن سهل
ابن شَدَّادٍ أَبُو بَكْرٍ الْمُخَرِّمِيُّ، سَمِعَ أَبَا خَلِيفَةَ وجعفر الفريابي، وابن أبى الفوارس وابن جرير وغيرهم، وعنه الدار قطنى وَابْنُ رَزْقَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ. وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبَرْقَانِيُّ وابن الجوزي وغيرهم.(11/272)
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وثلاثمائة
في عاشر محرمها عملت الروافض من النياحة وتعليق المسوح وغلق الأسواق ما تقدم قبلها. وَفِيهَا اجْتَمَعَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرُّمَّانِيُّ وَابْنُ الدقاق الحنبلي بعز الدولة بختيار بْنِ بُوَيْهِ وَحَرَّضُوهُ عَلَى غَزْوِ الرُّومِ فَبَعَثَ جَيْشًا لِقِتَالِهِمْ فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَبَعَثُوا بِرُءُوسِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ فَسَكَنَتْ أنفس الناس. وفيها سارت الروم مع ملكهم لحصار آمد وعليها هزرمرد غُلَامُ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ، فَكَتَبَ إِلَى أبى تغلب يستنصره فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَخَاهُ أَبَا الْقَاسِمِ هِبَةَ اللَّهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَاجْتَمَعَا لِقِتَالِهِ فَلَقِيَاهُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ لَا مَجَالَ لِلْخَيْلِ فِيهِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ الرُّومِ قِتَالًا شَدِيدًا فَعَزَمَتِ الرُّومُ عَلَى الْفِرَارِ فلم يقدروا فَاسْتَحَرَّ فِيهِمُ الْقَتْلُ وَأُخِذَ الدُّمُسْتُقُ أَسِيرًا فَأُودِعَ السِّجْنِ فَلَمْ يَزَلْ فِيهِ حَتَّى مَرِضَ وَمَاتَ في السنة القابلة، وقد جمع أبو تغلب الأطباء له فلم ينفعه شيء. وفيها أحرق الْكَرْخُ بِبَغْدَادَ وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَعُونَةِ ضرب رجلا من العامة فمات فثارت عليه الْعَامَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ دارا فأخرجوه مسجونا وَقَتَلُوهُ وَحَرَقُوهُ، فَرَكِبَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ الشِّيرَازِيُّ- وَكَانَ شَدِيدَ التَّعَصُّبِ لِلسُّنَّةِ- وَبَعَثَ حَاجِبَهُ إِلَى أَهْلِ الْكَرْخِ فَأَلْقَى فِي دُورِهِمُ النَّارَ فَاحْتَرَقَتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةِ دُكَّانٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ مَسْجِدًا، وَسَبْعَةَ عَشَرَ ألف إنسان. فعند ذلك عزله بختيار عَنِ الْوِزَارَةِ وَوَلَّاهَا مُحَمَّدَ بْنَ بَقِيَّةَ، فَتَعَجَّبَ الناس من ذلك، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ وَضِيعًا عِنْدَ النَّاسِ لَا حُرْمَةَ لَهُ، كَانَ أَبُوهُ فَلَّاحًا بقرية كوثا، وكان هو ممن يخدم عز الدولة، كان يُقَدِّمُ لَهُ الطَّعَامَ وَيَحْمِلُ مِنْدِيلَ الزَّفَرِ عَلَى كَتِفِهِ، إِلَى أَنْ وَلِيَ الْوِزَارَةَ، وَمَعَ هَذَا كَانَ أَشَدَّ ظُلْمًا لِلرَّعِيَّةِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَثُرَ فِي زَمَانِهِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَفَسَدَتِ الْأُمُورُ. وفيها وقع الْخِلَافُ بَيْنَ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ حَاجِبِهِ سُبُكْتِكِينَ ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى دَخَنٍ. وَفِيهَا كَانَ دُخُولُ المعز الفاطمي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَصَحِبَتْهُ تَوَابِيتُ آبَائِهِ، فَوَصَلَ إِلَى اسكندرية في شعبان، وَقَدْ تَلَقَّاهُ أَعْيَانُ مِصْرَ إِلَيْهَا، فَخَطَبَ النَّاسَ هُنَالِكَ خُطْبَةً بَلِيغَةً ارْتِجَالًا، ذَكَرَ فِيهَا فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ، وَقَدْ كَذَبَ فَقَالَ فِيهَا: إِنَّ اللَّهَ أغاث الرعايا بهم وبدولتهم. وحكى قَاضِي بِلَادِ مِصْرَ وَكَانَ جَالِسًا إِلَى جَنْبِهِ فَسَأَلَهُ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيفَةً أَفْضَلَ مِنِّي؟ فَقَالَ له لم أر أحدا من الخلفاء سِوَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ: أَحَجَجْتَ؟ قَالَ نعم. قال: وزرت قبر الرسول؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قال فتحيرت ما أقول فإذا ابنه العزيز مَعَ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ فَقُلْتُ: شَغَلَنِي عَنْهُمَا رَسُولُ الله كَمَا شَغَلَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ السَّلَامِ عَلَى ولى العهد من بعده، ونهضت إليه وسلمت عليه ورجعت فانفسح المجلس إلى غيره. ثُمَّ سَارَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى مِصْرَ فَدَخَلَهَا فِي الْخَامِسِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَنَزَلَ الْقَصْرَيْنِ، فَقِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَا دَخَلَ إِلَى مَحَلِّ مُلْكِهِ خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا للَّه(11/273)
عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ حُكُومَةٍ انْتَهَتْ إليه أن امرأة كافور الإخشيدي ذكرت أَنَّهَا كَانَتْ أَوْدَعَتْ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ الصُّوَّاغِ قباء من لؤلؤ منسوج بالذهب، وأنه جحدها ذلك، فاستحضره وقرره فجحد ذلك وأنكره. فأمر أن تحفر داره ويستخرج منها مَا فِيهَا، فَوَجَدُوا الْقَبَاءَ بِعَيْنِهِ قَدْ جَعَلَهُ في جرة ودفنه في بعض المواضع من داره، فسلمه المعز إليها ووفره عليها، ولم يتعرض إلى القباء فقدمته إليه فأبى أن يقبله منها فاستحسن الناس منه ذلك. وقد ثبت في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لِيُؤَيِّدُ هذا الدين بالرجل الفاجر» .
وفيها توفى من الأعيان
السري بن أحمد بن أبى السري
أبو الحسن الكندي الموصلي، الرفّاء الشَّاعِرُ، لَهُ مَدَائِحُ فِي سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ قَدِمَ بغداد فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سنة أربع وقيل خمس وقيل ست وأربعين. وقد كان بينه وبين محمد بن سعيد معاداة، وادعى عليه أنه سرق شعره، وكان مغنيا ينسج على دِيوَانِ كُشَاجِمَ الشَّاعِرِ، وَرُبَّمَا زَادَ فِيهِ مِنْ شعر الخالديين ليكثر حجمه. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلِلسَّرِيِّ الرَّفَّاءِ هَذَا دِيوَانُ كبير جدا وأنشد من شعره.
يَلْقَى النَّدَى بِرَقِيقِ وَجْهٍ مُسْفِرٍ ... فَإِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ عَادَ صَفِيقَا
رَحْبُ الْمَنَازِلِ مَا أَقَامَ، فَإِنْ سَرَى ... فِي جَحْفَلٍ تَرَكَ الْفَضَاءَ مَضِيقًا
محمد بن هاني
الأندلسى الشاعر استصحبه المعز الفاطمي من بلاد القيروان حين توجه إلى مصر، فمات ببعض الطريق، وجد مقتولا على حافة البحر في رجب منها، وقد كان قَوِيَّ النَّظْمِ إِلَّا أَنَّهُ كَفَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ من العلماء في مبالغته في مدحه الخلق، فمن ذلك قوله يمدح المعز:
مَا شِئْتَ لَا مَا شَاءَتِ الْأَقْدَارُ ... فَاحْكُمْ فأنت الواحد القهار
وهذا من أكبر الكفر. وقال أيضا قبحه الله وأخزاه:
ولطالما زاحمت تحت رِكَابِهِ جِبْرِيلَا
وَمِنْ ذَلِكَ- قَوْلُهُ- قَالَ ابْنُ الأثير ولم أرها في شعره ولا في ديوانه-:
جل بزيادة جل المسيح ... بها وجل آدم ونوح
جل بِهَا اللَّهُ ذُو الْمَعَالِي ... فَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ ريح
وقد اعتذر عنه بعض المتعصبين له. قلت: هذا الكلام إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَلَيْسَ عَنْهُ اعْتِذَارٌ، لَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَا فِي هَذِهِ الدَّارِ. وفيها توفى.
إبراهيم بن محمد
ابن شجنونة بن عبد الله المزكي أحد الحفاظ أنفق على الحديث وأهله أموالا جزيلة، وأسمع(11/274)
الناس بتخريجه، وعقد له مجلس للاملاء بنيسابور، ورحل وسمع من المشايخ غربا وشرقا، وَمِنْ مَشَايِخِهِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ المحدثين، منهم أبو العباس الأصم وأضرابه، توفى عَنْ سَبْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
سَعِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ بن خالد
أبو عمرو البردعي أحد الحفاظ، روى عنه الدار قطنى وَغَيْرُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَوْثَرِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو بَحْرٍ الْبَرْبَهَارِيُّ، رَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ الحربي وتمام وَالْبَاغَنْدِيِّ وَالْكُدَيْمِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ رزقويه وأبو نعيم وانتخب عليه الدار قطنى، وَقَالَ: اقْتَصِرُوا عَلَى مَا خَرَّجْتُهُ لَهُ فَقَدِ اخْتَلَطَ صَحِيحُ سَمَاعِهِ بِفَاسِدِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ حُفَّاظِ زَمَانِهِ بِسَبَبِ تَخْلِيطِهِ وغفلته واتهمه بعضهم بالكذب أيضا.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة
فيها في عاشوراء عُمِلَتِ الْبِدْعَةُ الشَّنْعَاءُ عَلَى عَادَةِ الرَّوَافِضِ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالرَّافِضَةِ، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بَعِيدٌ عَنِ السَّدَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَرْكَبُوا امْرَأَةً وَسَمَّوْهَا عَائِشَةَ، وَتَسَمَّى بَعْضُهُمْ بِطَلْحَةَ، وَبَعْضُهُمْ بِالزُّبَيْرِ، وَقَالُوا: نُقَاتِلُ أَصْحَابَ على، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير، وعاث العيارون في البلد فسادا، ونهبت الأموال، ثُمَّ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقُتِلُوا وَصُلِبُوا فَسَكَنَتِ الفتنة. وفيها أخذ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ، وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ بابن أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَ الدَّيَالِمِ وَالْأَتْرَاكِ، فَقَوِيَتِ الدَّيْلَمُ عَلَى التُّرْكِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُلْكَ فِيهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَبَسُوا رُءُوسَهُمْ وَنَهَبُوا كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَكَتَبَ عِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى أَهْلِهِ إِنِّي سأكتب إليكم أنى قدمت فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ فَأَظْهِرُوا النَّوْحَ وَاجْلِسُوا للعزاء، فإذا جاء سبكتكين للعزاء فَاقْبِضُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُكْنُ الْأَتْرَاكِ وَرَأْسُهُمْ. فَلَمَّا جاء الكتاب إلى بغداد بذلك أظهروا النوح وجلسوا للعزاء فَفَهِمَ سُبُكْتِكِينُ أَنَّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ فَلَمْ يَقَرَبْهُمْ، وَتَحَقَّقَ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِزِّ الدَّوْلَةِ، وَرَكِبَ من فوره في الأتراك فحاصر دار عز الدولة يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَنْزَلَ أَهْلَهُ مِنْهَا وَنَهَبَ مَا فيها وأحدرهم إلى دجلة وإلى واسط منفيين، وكان قد عزم على إرسال الخليفة المطيع معهم، فتوسل إليه الخليفة فَعَفَا عَنْهُ وَأَقَرَّهُ بِدَارِهِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ سُبُكْتِكِينَ وَالْأَتْرَاكِ بِبَغْدَادَ، وَنَهَبَتِ الْأَتْرَاكُ دُورَ الدَّيْلَمِ، وَخَلَعَ سبكتكين على رءوس الْعَامَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَهُ عَلَى الدَّيْلَمِ، وَقَوِيَتِ السنة على الشيعة وأحرقوا الكرخ- لأنه محل الرافضة- ثانيا، وظهرت السنة على يدي الأتراك، وخلع المطيع وولى ولده على ما سنذكر إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.(11/275)
خلافة الطائع وخلع المطيع
ذكر ابن الأثير أنه لما كان الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَالَ ابْنُ الجوزي: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، خُلِعَ الْمُطِيعُ للَّه وَذَلِكَ لِفَالِجٍ أَصَابَهُ فَثَقُلَ لِسَانُهُ، فَسَأَلَهُ سُبُكْتِكِينُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ وَيُوَلِّيَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدَهُ الطَّائِعَ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ فَعُقِدَتِ الْبَيْعَةُ لِلطَّائِعِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ عَلَى يَدَيِ الْحَاجِبِ سُبُكْتِكِينَ، وَخُلِعَ أَبُوهُ الْمُطِيعُ بَعْدَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَانَتْ لَهُ فِي الْخِلَافَةِ، وَلَكِنْ تَعَوَّضَ بِوِلَايَةِ وَلَدِهِ. وَاسْمُ الطَّائِعِ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ بن المطيع أبى القاسم، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ مَنِ اسْمُهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ سواه، ولا من أبوه حي سواه، ولا من كنيته أبو بكر سِوَاهُ وَسِوَى أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ أَسَنُّ مِنْهُ، كان عمره لما تولى ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمَّ وَلَدٍ اسمها غيث، تعيش يوم ولى. ولما بويع رَكِبَ وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُبُكْتِكِينُ وَالْجَيْشُ، ثُمَّ خَلَعَ مِنَ الْغَدِ عَلَى سُبُكْتِكِينَ خِلَعَ الملوك ولقبه ناصر الدولة، وعقد له الامارة. ولما كان يوم الْأَضْحَى رَكِبَ الطَّائِعُ وَعَلَيْهِ السَّوَادُ، فَخَطَبَ النَّاسَ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَةً خَفِيفَةً حَسَنَةً. وَحَكَى ابْنُ الجوزي في منتظمه أَنَّ الْمُطِيعَ للَّه كَانَ يُسَمَّى بَعْدَ خَلْعِهِ بِالشَّيْخِ الْفَاضِلِ.
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وبين الحسين بْنِ أَحْمَدَ الْقِرْمِطِيِّ
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ بالديار المصرية وابتنى فيها القاهرة والقصرين وتأكد ملكه، سار إليه الحسين بْنُ أَحْمَدَ الْقِرْمِطِيُّ مِنَ الْأَحْسَاءِ فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالْتَفَّ مَعَهُ أَمِيرُ الْعَرَبِ بِبِلَادِ الشَّامِ وَهُوَ حَسَّانُ بْنُ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ، فِي عَرَبِ الشَّامِ بِكَمَالِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمُ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَتَبَ إلى القرمطى يستميله ويقول: إنما دعوة آبائك كَانَتْ إِلَى آبَائِي قَدِيمًا، فَدَعْوَتُنَا وَاحِدَةٌ، وَيَذْكُرُ فيه فضله وفضل آبائه، فرد عليه الْجَوَابَ: وَصَلَ كِتَابُكَ الَّذِي كَثُرَ تَفْضِيلُهُ وَقَلَّ تَحْصِيلُهُ وَنَحْنُ سَائِرُونَ إِلَيْكَ عَلَى إِثْرِهِ وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى دِيَارِ مِصْرَ عَاثُوا فِيهَا قتلا ونهبا وفسادا وحار المعز فيما يصنع وَضَعُفَ جَيْشُهُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، فَعَدَلَ إِلَى الْمَكِيدَةِ وَالْخَدِيعَةِ، فَرَاسَلَ حَسَّانَ بْنَ الْجَرَّاحِ أَمِيرَ الْعَرَبِ وَوَعَدَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ إِنْ هُوَ خَذَّلَ بين الناس، فبعث إليه حسان يقول أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِمَا الْتَزَمْتَ وَتَعَالَ بِمَنْ معك، فإذا لقيتنا انهزمت بمن معى فلا يبقى للقرمطى قوة فتأخذه كيف شئت. فأرسل إليه بمائة ألف دينار في أكياسها، ولكن أكثرها زغل ضرب النحاس وألبسه ذهبا وجعله في أسفل الأكياس، وجعل في رءوسها الدَّنَانِيرَ الْخَالِصَةَ، وَلَمَّا بَعَثَهَا إِلَيْهِ رَكِبَ فِي إثرها في جيشه فالتقى الناس فانهزم حسان بمن معه، فضعف جانب القرمطى وقوى عليه الفاطمي فكسره، وانهزمت القرامطة ورجعوا إلى أذرعات في أذل حال وأرذله، وَبَعَثَ الْمُعِزُّ فِي آثَارِهِمُ الْقَائِدَ أَبَا مَحْمُودٍ بن إبراهيم فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، لِيَحْسِمَ مَادَّةَ الْقَرَامِطَةِ ويطفئ نارهم عنه.(11/276)
ذكر مُلْكُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ دِمَشْقَ وَانْتِزَاعُهُ إِيَّاهَا مِنْ القرامطة
لما انهزم القرمطى بعث المعز سرية وأمر عليهم ظالم بن موهوب العقيلي، فجاءوا إلى دِمَشْقَ فَتَسَلَّمَهَا مِنَ الْقَرَامِطَةِ بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ واعتقل متوليها أبا الهيجاء الْقِرْمِطِيَّ وَابْنَهُ، وَاعْتَقَلَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَهْلِ نَابُلُسَ، كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي الْفَاطِمِيِّينَ وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ مَعِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لرميت الروم بواحد ورميت الفاطميين بتسعة. فأمر به فَسُلِخَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعِزِّ وَحُشِيَ جِلْدُهُ تِبْنًا وَصُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَمَّا تَفَرَّغَ أَبُو مَحْمُودٍ الْقَائِدُ مِنْ قِتَالِ الْقَرَامِطَةِ أَقْبَلَ نَحْوَ دِمَشْقَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ فَتَلَقَّاهُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ وَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ ظَاهِرَ دِمَشْقَ، فَأَفْسَدَ أصحابه في الغوطة ونهبوا الفلاحين وقطعوا الطرقات، فتحول أَهْلُ الْغُوطَةِ إِلَى الْبَلَدِ مِنْ كَثْرَةِ النَّهْبِ، وجيء بجماعة من القتلى فالقوا فَكَثُرَ الضَّجِيجُ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ لِلْقِتَالِ، وَالْتَقَوْا مَعَ الْمَغَارِبَةِ فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ وَانْهَزَمَتِ الْعَامَّةُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَحْرَقَتِ الْمَغَارِبَةُ نَاحِيَةَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ والدور، وطال القتال بينهم إلى سنة أربع وستين وأحرقت الْبَلَدُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ عَزْلِ ظَالِمِ بْنِ موهوب وتولية جيش بن صمصامة بن أُخْتِ أَبِي مَحْمُودٍ قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَقُطِّعَتِ الْقَنَوَاتُ وَسَائِرُ الْمِيَاهِ عَنِ الْبَلَدِ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ فِي الطُّرُقَاتِ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَمْ يَزَلِ الْحَالُ كَذَلِكَ حَتَّى وَلِيَ عَلَيْهِمُ الطَّوَاشِيُّ ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي، فسكنت النفوس وللَّه الحمد.
فصل
ولما قويت الأتراك ببغداد تحير بختيار بن معز الدولة في أمره وهو مقيم بالأهواز لا يستطيع الدخول إلى بغداد، فَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعَسْكَرٍ مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بن ركن الدولة فأبطأ عَلَيْهِ وَأَرْسَلَ إِلَى عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ فَأَظْهَرَ نَصْرَهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ فِي الْبَاطِنِ أَخْذَ بَغْدَادَ، وَخَرَجَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْ بَغْدَادَ فِي جَحْفَلٍ عظيم ومعهم الخليفة المطيع وأبوه، فلما انتهوا إلى واسط توفى المطيع وبعد أيام توفى سبكتكين، فحملا إلى بغداد والتف الأتراك على أمير يقال له الفتكين، فَاجْتَمَعَ شَمْلُهُمْ وَالْتَقَوْا مَعَ بَخْتِيَارَ فَضَعُفَ أَمْرُهُ جِدًّا وَقَوِيَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَ مِنْهُ مُلْكَ الْعِرَاقِ وَتَمَزَّقَ شَمْلُهُ، وَتَفَرَّقَ أَمْرُهُ. وَفِيهَا خُطِبَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بِالْحَرَمَيْنِ مَكَّةَ والمدينة النبويّة. وفيها خرج طائفة مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْحُجَّاجِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَطَّلُوا عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمُ الْحَجَّ فِي هَذَا الْعَامِ. وَفِيهَا انْتَهَى تَارِيخُ ثَابِتِ بْنِ سِنَانِ بْنِ ثابت بن قرة وأوله من سنة خمس وتسعين ومائتين، وهي أول دولة المقتدر. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ بِوَاسِطٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فيها الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ حَجٌّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سِوَى مَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى دَرْبِ(11/277)
الْعِرَاقِ، وَقَدْ أَخَذَ بِالنَّاسِ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فتم حجهم.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْعَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْفَضْلِ السراجى الْوَزِيرُ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بن بويه، وكان من الناصرين للسنة المتعصبين لها، عَكْسَ مَخْدُومِهِ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ بَقِيَّةَ الْبَابَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَحَبَسَ هَذَا فَقُتِلَ فِي مَحْبِسِهِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا، عَنْ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ فِيهِ ظُلْمٌ وَحَيْفٌ فاللَّه أعلم.
وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر
الفقيه الحنبلي المعروف بغلام، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْحَنَابِلَةِ الْأَعْيَانِ، وَمِمَّنْ صَنَّفَ وَجَمَعَ وَنَاظَرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وطبقته، ومات وقد عدا الثَّمَانِينَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَهُ الْمُقْنِعُ فِي مائة جزء، والشافي في ثمانين جزء، وزاد المسافر والخلاف مع الشافعيّ وكتاب القولين ومختصر السُّنَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، له ديوان جيد قوى، وله في المطابقة والمجانسة اليد الطولى، ومبتكرات أولى. وقد ذكر ابن الجوزي له في منتظمه مِنْ ذَلِكَ قِطْعَةً كَبِيرَةً مُرَتَّبَةً عَلَى حُرُوفِ المعجم، من ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا قَنِعْتُ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقُوتِ ... بَقِيتُ فِي النَّاسِ حُرًّا غَيْرَ مَمْقُوتِ
يَا قُوتَ يَوْمِي إِذَا مَا دَرَّ خَلْفُكَ لِي ... فَلَسْتَ آسَى على در وياقوت
وقوله:
يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ مَذْهَبِي ... لِيُقْتَدَى فِيهِ بمنهاجى
منهاجي الحق وقمع الهوى ... فهل لمنهاجى من هاجى
وقوله:
أَفِدْ طَبْعَكَ الْمَكْدُودَ بِالْجِدِّ رَاحَةً ... تَجُمَّ، وَعَلِّلْهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَزْحِ
وَلَكِنْ إِذَا أَعْطَيْتَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ ... بِمِقْدَارِ مَا تُعْطِي الطَّعَامَ مِنَ الْمِلْحِ
أَبُو فِرَاسِ بْنُ حَمْدَانَ الشَّاعِرُ
لَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ. اسْتَنَابَهُ أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلَى حَرَّانَ ومنبج، فقاتل مرة الروم فأسروه ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَاتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَهُ شعر رائق ومعاني حسنة، وقد رثاه أخوه سيف الدولة فقال:
المرء رهن مَصَائِبٍ لَا تَنْقَضِي ... حَتَّى يُوَارَى جِسْمُهُ فِي رمسه
فمؤجل يلقى الردى في أهله ... ومعجل يلقى الأذى في نفسه
فلما قالهما كان عنده رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ قُلْ فِي مَعْنَاهُمَا فقال الأعرابي:(11/278)
من يتمنى العمر فليتخذ ... صبرا على فقد أحبابه
وَمَنْ يُعَمَّرْ يَلْقَ فِي نَفْسِهِ ... مَا يَتَمَنَّاهُ لِأَعْدَائِهِ
كَذَا ذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فِي أَخِيهِ أَبِي فراس، وذكرها ابن الجوزي مِنْ شِعْرِ أَبِي فِرَاسٍ نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ أجازهما بالبيتين المذكورين بعدهما. ومن شعر أبى فراس:
سَيَفْقِدُنِي قَوْمِي إِذَا جَدَّ جَدُّهُمْ ... وَفِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ الْبَدْرُ
وَلَوْ سَدَّ غَيْرِي مَا سددت اكتفوا ... به وما فعل النسر الرفيق مع الصقر
وقوله من قصيدة:
إلى الله أشكو إننا بمنازل ... تَحَكَّمُ فِي آسَادِهِنَّ كِلَابُ
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الْذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ
ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة
فِيهَا جَاءَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ إِلَى وَاسِطٍ وَمَعَهُ وَزِيرُ أَبِيهِ أبو الفتح بن العميد، فهرب منه الفتكين في الأتراك إلى بغداد، فسار خلفهم فنزل في الجانب الشرقي منها، وَأَمَرَ بَخْتِيَارَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَحَصَرَ التُّرْكَ حَصْرًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ أُمَرَاءَ الْأَعْرَابِ أن يغيروا على الأطراف ويقطعوا عن بغداد الميرة الواصلة إليها، فغلت الأسعار وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْمَعَاشِ مِنْ كَثْرَةِ الْعَيَّارِينَ والنهوب، وكبس الفتكين البيوت لطلب الطعام واشتد الحال، ثُمَّ الْتَقَتِ الْأَتْرَاكُ وَعَضُدُ الدَّوْلَةِ فَكَسَرَهُمْ وَهَرَبُوا إِلَى تِكْرِيتَ وَاسْتَحْوَذَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَتِ التُّرْكُ قَدْ أَخْرَجُوا مَعَهُمُ الْخَلِيفَةَ فَرَدَّهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ مُكَرَّمًا، وَنَزَلَ هُوَ بِدَارِ الْمُلْكِ وضعف أَمْرُ بَخْتِيَارَ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ بالكلية، فأغلق بابه وطرد الحجبة والكتاب عَنْ بَابِهِ وَاسْتَعْفَى عَنِ الْإِمَارَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشُورَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَاسْتَعْطَفَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ أَنْ لَا يَقْبَلَ فَلَمْ يَقْبَلْ. وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا فصمم بختيار على الامتناع ظاهرا، فألزم عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا عَجْزًا مِنْهُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْمُلْكِ فَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى بَخْتِيَارَ وَعَلَى أَهْلِهِ واخوته، ففرح بذلك الخليفة الطائع، وَأَظْهَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ تَعْظِيمِ الْخِلَافَةِ مَا كَانَ دَارِسًا، وَجَدَّدَ دَارَ الْخِلَافَةِ حَتَّى صَارَ كُلُّ مَحَلٍّ مِنْهَا آنِسًا، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بالأموال والأمتعة الحسنة العزيزة وقتل الْمُفْسِدِينَ مِنْ مَرَدَةِ التُّرْكِ وَشُطَّارِ الْعَيَّارِينَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ الْبَلَاءُ بِالْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَأَحْرَقُوا سُوقَ بَابِ الشَّعِيرِ، وَأَخَذُوا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَرَكِبُوا الْخُيُولَ وَتَلَقَّبُوا بِالْقُوَّادِ، وَأَخَذُوا الْخَفَرَ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَالدُّرُوبِ،(11/279)
وعظمت المحنة بهم جدا واستفحل أمرهم، حَتَّى إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ أَسْوَدَ كَانَ مُسْتَضْعَفًا نَجَمَ فِيهِمْ وَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا حَصَلَتْ عِنْدَهُ حَاوَلَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا:
مَاذَا تَكْرَهِينَ مِنِّي؟ قَالَتْ: أَكْرَهُكَ كُلَّكَ. فَقَالَ: فَمَا تُحِبِّينَ؟ فقالت تبيعني. فقال: أو خير مِنْ ذَلِكَ؟ فَحَمَلَهَا إِلَى الْقَاضِي فَأَعْتَقَهَا وَأَعْطَاهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حِلْمِهِ وكرمه مع فسقه وقوته. قَالَ: وَوَرَدَ الْخَبَرُ فِي الْمُحَرَّمِ بِأَنَّهُ خُطِبَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي الْمَوْسِمِ، وَلَمْ يُخْطَبْ لِلطَّائِعِ. قَالَ: وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا غَلَتِ الأسعار ببغداد حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ الدَّقِيقُ الْحُوَّارَى بِمِائَةٍ وَنَيِّفٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا. قَالَ: وَفِيهَا اضْمَحَلَّ أَمْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ وَتَفَرَّقَ جُنْدُهُ عَنْهُ وَلَمْ يبق معه سوى بغداد وحدها، فأرسل إِلَى أَبِيهِ يَشْكُو لَهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ يَلُومُهُ على الغدر بابن عمه بختيار، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى فارس بعد أن أخرج ابن عمه مِنَ السِّجْنِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَعَادَهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا لَهُ بِالْعِرَاقِ يَخْطُبُ لَهُ بِهَا، وَجَعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ أَمِيرَ الْجُيُوشِ لِضَعْفِ بَخْتِيَارَ عن تدبير الأمور، واستمر ذاهبا إلى بلاده، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ أَمْرِ أَبِيهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَغَضَبِهِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ غَدْرِهِ بِابْنِ عَمِّهِ وَتَكْرَارِ مكاتباته فيه إليه. ولما سار تَرَكَ بَعْدَهُ وَزِيرَ أَبِيهِ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ الْعَمِيدِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بِبَغْدَادَ وَمَلَكَ الْعِرَاقَ لَمْ يَفِ لِابْنِ عَمِّهِ عَضُدِ الدولة بشيء مما قال، ولا ما كان التزم، بل تمادى على ضلاله القديم، واستمر على مشيه الّذي هو غير مستقيم، من الرفض وغيره.
قَالَ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ذي القعدة تزوج الخليفة الطائع شاه باز بِنْتَ عِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ أَلْفِ دينار، وفي سلخ ذي العقدة عُزِلَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بن أم شيبان وقلده أبو محمد معروف. وإمام الحج فيها أصحاب الفاطمي، وخطب له بالحرمين دون الطَّائِعِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ أَخْذِ دِمَشْقَ مِنْ أَيْدِي الْفَاطِمِيِّينَ
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كامله أن الفتكين غُلَامَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ الَّذِي كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ عَسَاكِرُ وَجُيُوشٌ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالتُّرْكِ وَالْأَعْرَابِ، نَزَلَ فِي هذه السنة على دمشق، وكان عليها من جهة الفاطميين ريان الخادم، فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراء أهلها وشيوخها فذكروا له مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ وَمُخَالَفَةِ الاعتقاد بسبب الفاطميين، وسألوه أن يصمم على أخذها لِيَسْتَنْقِذَهَا مِنْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ عَلَى أَخْذِهَا ولم يزل حتى أخذها وأخرج منها ريان الخادم وَكَسَرَ أَهْلَ الشَّرِّ بِهَا، وَرَفَعَ أَهْلَ الْخَيْرِ، ووضع في أهلها العدل وَقَمَعَ أَهْلَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَأَخَذُوا عَامَّةَ الْمَرْجِ وَالْغُوطَةِ، وَنَهَبُوا أَهْلَهَا. وَلَمَّا اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدَيْهِ وَصَلُحَ أَمْرُ أَهْلِ الشام كتب إليه المعز الفاطمي يَشْكُرُ سَعْيَهُ وَيَطْلُبُهُ إِلَيْهِ(11/280)
لِيَخْلَعَ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَهُ نَائِبًا مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ يجبه إلى ذلك، بل قطع خُطْبَتَهُ مِنَ الشَّامِ وَخَطَبَ لِلطَّائِعِ الْعَبَّاسِيِّ، ثُمَّ قَصَدَ صَيْدَا وَبِهَا خَلْقٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ عَلَيْهِمُ ابْنُ الشَّيْخِ، وَفِيهِمْ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، فَأَسَاءَ بِهِمُ السِّيرَةَ، فَحَاصَرَهُمْ وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَخَذَ الْبَلَدَ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ سَرَاتِهِمْ، ثُمَّ قَصَدَ طَبَرِيَّةَ فَفَعَلَ بِأَهْلِهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَمَ المعز الفاطمي على المسير إليه، فبينما هو يجمع له العساكر إذ توفى المعز فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَامَ بعده ولده العزيز، فاطمأن عند ذلك الفتكين بالشام، واستفحل أمره وقويت شوكته، ثم اتفق أمر المصريين على أن يبعثوا جوهرا القائد لقتاله وأخذ الشام من يده، فعند ذلك حلف أهل الشام لأفتكين أنهم معه على الفاطميين، وأنهم ناصحون له غير تاركيه وَجَاءَ جَوْهَرٌ فَحَصَرَ دِمَشْقَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَصْرًا شديدا ورأى من شجاعة الفتكين ما بهره، فلما طَالَ الْحَالُ أَشَارَ مَنْ أَشَارَ مِنَ الدَّمَاشِقَةِ على الفتكين أن يكتب إلى الحسين بن أحمد بن القرمطى وهو بالحساء، لِيَجِيءَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ أَقْبَلَ لِنَصْرِهِ، فلما سمع به جوهر لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَبْقَى بَيْنَ عَدُوَّيْنِ مِنْ داخل البلد وخارجها، وفارتحل قاصدا الرملة فتبعه الفتكين وَالْقِرْمِطِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَتَوَاقَعُوا عند نهر الطواحين على ثلاث فَرَاسِخَ مِنَ الرَّمَلَةِ، وَحَصَرُوا جَوْهَرًا بِالرَّمْلَةِ فَضَاقَ حَالُهُ جِدًّا مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، حَتَّى أَشْرَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْهَلَاكِ، فَسَأَلَ من الفتكين على أن يجتمع هو وهو عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يزل يترفق له أن يطلقه حتى يذهب بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أُسْتَاذِهِ شَاكِرًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ الْخَيْرَ، وَلَا يَسْمَعُ مِنَ القرمطى فِيهِ- وَكَانَ جَوْهَرٌ دَاهِيَةً- فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فَنَدَّمَهُ الْقِرْمِطِيُّ وَقَالَ: الرَّأْيُ أَنَّا كُنَّا نَحْصُرُهُمْ حتى يموتوا عن آخرهم فإنه يذهب إلى أستاذه ثم يجمع العساكر ويأتينا، ولا طاقة لنا به. وكان الأمر كما قال، فإنه لما أطلقه الفتكين مِنَ الْحَصْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَأْبٌ إِلَّا أنه حث العزيز على الخروج إلى الفتكين بنفسه، فأقبل في جحافل أمثال الجبال، وفي كثرة مِنَ الرِّجَالِ وَالْعُدَدِ وَالْأَثْقَالِ وَالْأَمْوَالِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ جوهر القائد. وجميع الفتكين وَالْقِرْمِطِيُّ الْجُيُوشَ وَالْأَعْرَابَ وَسَارُوا إِلَى الرَّمْلَةِ فَاقْتَتَلُوا فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَلَمَّا تَوَاجَهُوا رأى العزيز من شجاعة الفتكين مَا بَهَرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَعْرِضُ عَلَيْهِ إِنْ أَطَاعَهُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مُقَدَّمَ عَسَاكِرِهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ. فَتَرَجَّلَ أَفْتِكِينُ عَنْ فَرَسِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ نَحْوَ الْعَزِيزِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا القول سبق قَبْلَ هَذَا الْحَالِ لَأَمْكَنَنِي وَسَارَعْتُ وَأَطَعْتُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا. ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ وَحَمَلَ عَلَى ميسرة العزيز فَفَرَّقَ شَمْلَهَا وَبَدَّدَ خَيْلَهَا وَرَجِلَهَا، فَبَرَزَ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَزِيزُ مِنَ الْقَلْبِ وَأَمَرَ الْمَيْمَنَةَ فَحَمَلَتْ حَمْلَةً صَادِقَةً فَانْهَزَمَ الْقِرْمِطِيُّ وَتَبِعَهُ بَقِيَّةُ الشَّامِيِّينَ وَرَكِبَتِ الْمَغَارِبَةُ أَقَفِيَتَهُمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ مَنْ شَاءُوا، وَتَحَوَّلَ الْعَزِيزُ فَنَزَلَ خِيَامَ الشَّامِيِّينَ بِمَنْ مَعَهُ، وأرسل السرايا وراءهم،(11/281)
وجعل لَا يُؤْتَى بِأَسِيرٍ إِلَّا خَلَعَ عَلَى مَنْ جاء به، وجعل لمن جاءه الفتكين مائة ألف دينار، فاتفق أن الفتكين عطش عَطَشًا شَدِيدًا، فَاجْتَازَ بِمُفَرِّجِ بْنِ دَغْفَلٍ، وَكَانَ صاحبه، فاستسقاه فسقاه وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ فِي بُيُوتِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ يخبره بأن طلبته عنده، فليحمل المال إلى وليأخذ غريمه، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَجَاءَ مَنْ تسلمه منه، فلما أحيط بالفتكين لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ مَقْتُولٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْعَزِيزِ أَكْرَمَهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ لَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا، وَجَعَلَهُ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِهِ وَأُمَرَائِهِ، وَأَنْزَلَهُ إِلَى جَانِبِ مَنْزِلِهِ، وَرَجَعَ بِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، وَأَقْطَعَهُ هُنَالِكَ إَقْطَاعَاتٍ جَزِيلَةً، وأرسل إلى القرمطى أن يقدم عليه ويكرمه كما أكرم الفتكين، فامتنع عليه وخاف منه، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَجَعَلَهَا لَهُ عليه فِي كُلِّ سَنَةٍ، يَكُفُّ بِهَا شَرَّهُ، وَلَمْ يزل الفتكين مكرما عند العزيز حتى وقع بينه وبين الوزير ابن كاس، فَعَمِلَ عَلَيْهِ حَتَّى سَقَاهُ سُمًّا فَمَاتَ، وَحِينَ علم العزيز بِذَلِكَ غَضِبَ عَلَى الْوَزِيرِ وَحَبَسَهُ بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ رأى أن لا غنى به عنه فأعاده إلى الوزارة. وهذا ملخص ما ذكره ابن الأثير.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
سُبُكْتِكِينُ الْحَاجِبُ التُّرْكِيُّ
مَوْلَى الْمُعِزِّ الدَّيْلَمِيِّ وَحَاجِبُهُ، وَقَدْ تَرَقَّى فِي الْمَرَاتِبِ حَتَّى آل به الأمر إِلَى أَنْ قَلَّدَهُ الطَّائِعُ الْإِمَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ، وَلَقَّبَهُ بِنُورِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ أيامه فِي هَذَا الْمَقَامِ شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَدُفِنَ بِبَغْدَادَ وَدَارُهُ هِيَ دَارُ الْمُلْكِ بِبَغْدَادَ، وَهِيَ دَارٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ أنه سقط مرة عن فرسه فانكسر صلبه فَدَاوَاهُ الطَّبِيبُ حَتَّى اسْتَقَامَ ظَهْرُهُ وَقَدَرَ عَلَى الصلاة إلا أنه لا يستطيع الرُّكُوعَ، فَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يقول للطبيب: إذا ذكرت وجعي وَمُدَاوَاتَكَ لِي لَا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِكَ، وَلَكِنْ إِذَا تَذَكَّرْتُ وَضْعَكَ قَدَمَيْكَ عَلَى ظَهْرِي اشْتَدَّ غضبى منك. توفى ليلة الثلاثاء لسبع بقين من المحرم منها، وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، مِنْ ذَلِكَ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَصُنْدُوقَانِ مِنْ جَوْهَرٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ صندوقا من البلور، وخمسة وأربعين صندوقا من آنية الذهب، ومائة وثلاثون كوكبا مِنْ ذَهَبٍ، مِنْهَا خَمْسُونَ وَزْنُ كُلِّ وَاحِدٍ ألف دينار، وستمائة مركب من فضة وأربعة آلاف ثوب من ديباج، وعشرة آلاف ديبقي وَعِتَّابِيٍّ، وَثَلَاثُمِائَةِ عِدْلٍ مَعْكُومَةٍ مِنَ الْفُرُشِ، وَثَلَاثَةُ آلاف فرس وَأَلْفُ جَمَلٍ وَثَلَاثُمِائَةِ غُلَامٍ وَأَرْبَعُونَ خَادِمًا وَذَلِكَ غَيْرُ مَا أَوْدَعَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ. وكان صاحبه.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة
فِيهَا قَسَّمَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ مَمَالِكَهُ بين أولاده عند ما كَبِرَتْ سِنُّهُ، فَجَعَلَ لِوَلَدِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَأَرَّجَانَ، وَلِوَلَدِهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ الرَّيَّ وَأَصْبَهَانَ، وَلِفَخْرِ الدَّوْلَةِ هَمْدَانَ وَالدِّينَوَرَ،(11/282)
وَجَعَلَ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ فِي كَنَفِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَأَوْصَاهُ بِهِ. وَفِيهَا جَلَسَ قَاضِي الْقُضَاةِ ببغداد أبو محمد ابن معروف في دار عز الدولة لفصل الحكومات عن أمره له بذلك، فحكم بين يديه بين الناس وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ جِهَةِ العزيز الفاطمي بعد ما حاصر أَهْلُ مَكَّةَ وَلَقُوا شِدَّةً عَظِيمَةً، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بها جدا. وفيها ذكر ابن الأثير أن يوسف بلتكين نائب المعز الفاطمي على بلاد إفريقية ذهب إلى سبتة فأشرف عليها من جبل فطل عليها فجعل يتأمل من أين يحاصرها، فحاصرها نِصْفَ يَوْمٍ فَخَافَهُ أَهْلُهَا خَوْفًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةٍ هُنَالِكَ يُقَالُ لَهَا بَصْرَةُ فِي الْمَغْرِبِ، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا وَنَهْبِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ بَرْغَوَاطَةَ وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ له عيسى بن أُمِّ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ مَلِكُهَا، وَقَدِ اشْتَدَّتِ الْمِحْنَةُ بِهِ لِسِحْرِهِ وَشَعْبَذَتِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَطَاعُوهُ، ووضع لهم شريعة يقتدون بها، فقاتلهم بلتكين فهزمهم وقتل هذا الفاجر ونهب أموالهم وسبى ذراريهم فلم يرسبى أَحْسَنُ أَشْكَالًا مِنْهُمْ فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ تِلْكَ البلاد في ذلك الزمان.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمٍ
أَبُو بَكْرٍ الحنبلي، لَهُ مُسْنَدٌ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْكَجِّيِّ وخلق، وروى عنه الدار قطنى وغيره، وكان ثقة وقد قَارَبَ التِّسْعِينَ.
ثَابِتُ بْنُ سِنَانِ بْنِ ثَابِتِ بن قرة الصابي
الْمُؤَرِّخُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْكَامِلِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو عَلِيٍّ الْمَاسَرْجَسِيُّ الْحَافِظُ، رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ مُسْنَدًا فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ، بِطُرُقِهِ وَعِلَلِهِ، وَلَهُ المغازي والقبائل، وخرج على الصحيح وغيره، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي بَيْتِهِ وَسَلَفِهِ تِسْعَةَ عشر محدثا، توفى في رجب منها.
أبو أحمد بن عدي الحافظ
أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الجرجاني- أبو أحمد بن عدي- الحافظ الْكَبِيرُ الْمُفِيدُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْجَوَّالُ النَّقَّالُ الرَّحَّالُ، لَهُ كِتَابُ الْكَامِلِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، لَمْ يسبق إلى مثله ولم يلحق في شكله.
قال حمزة عن الدار قطنى: فيه كفاية لا يزاد عليه. ولد أبو أحمد بن عَدِيٍّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَتُوُفِّيَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هذه السنة.
المعز الفاطمي
باني القاهرة معد بن إسماعيل بن سعيد بن عبد اللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَهَا مِنَ الفاطميين، وكان أولا ملكا بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَوْهَرًا الْقَائِدَ فَأَخَذَ لَهُ بلاد مصر من(11/283)
كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ بَعْدَ حُرُوبٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَاسْتَقَرَّتْ أيدي الفاطميين عليها، فبنى بها القاهرة وبنى منزل الملك وهما القصران، ثم أقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي في سنة ثنتين وستين وثلاثمائة ثم قدم المعز بعد ذلك ومعه جحافل من الجيوش، وأمراء من المغاربة والأكابر، وحين نزل الاسكندرية تلقاه وجوه الناس فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها أنه ينصف المظلوم من الظالم، وافتخر فيها بنسبه وأن الله قد رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرا وباطنا كما قاله القاضي الباقلاني إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَإِيَّاهُ. وَقَدْ أُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقى أبو بكر النابلسي، فقال له المعز بلغني عنك أَنَّكَ قُلْتَ لَوْ أَنَّ مَعِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم، فقال ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله فقال: كيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بِالْعَاشِرِ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكُمْ غَيَّرْتُمْ دِينَ الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأ ثم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم. فَأَمَرَ بَإِشْهَارِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ ثُمَّ ضُرِبَ في اليوم الثاني بالسياط ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا ثُمَّ أَمَرَ بِسَلْخِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَجِيءَ بِيَهُودِيٍّ فَجَعَلَ يَسْلُخُهُ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَأَخَذَتْنِي رِقَّةٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ تِلْقَاءَ قَلْبِهِ طَعَنْتُهُ بِالسِّكِّينِ فَمَاتَ رحمه الله. فكان يقال لَهُ الشَّهِيدُ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ بَنُو الشَّهِيدِ مِنْ أهل نابلس إلى اليوم، ولم تزل فيهم بقايا خير، وقد كان المعز قبحه الله فيه شهامة وقوة حزم وشدة عزم، وله سياسة، وكان يظهر أنه يعدل وينصر الحق ولكنه كان مع ذلك منجما يعتمد على حَرَكَاتِ النُّجُومِ، قَالَ لَهُ مُنَجِّمُهُ: إِنَّ عَلَيْكَ قطعا- أي خوفا- فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَوَارَ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى تَنْقَضِيَ هَذِهِ الْمُدَّةُ. فَعَمِلَ لَهُ سِرْدَابًا وأحضر الأمراء وأوصاهم بولده نزار ولقبه العزيز وَفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِمْ، فَبَايَعُوهُ على ذلك، ودخل المعز ذَلِكَ السِّرْدَابَ فَتَوَارَى فِيهِ سَنَةً فَكَانَتِ الْمَغَارِبَةُ إذا رأوا سحابا ترجل الفارس منهم له عَنْ فَرَسِهِ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ ظَانِّينَ أَنَّ الْمُعِزَّ فِي ذَلِكَ الْغَمَامِ، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) 43: 54 ثم برز إليهم بعد سَنَةٍ وَجَلَسَ فِي مَقَامِ الْمُلْكِ وَحَكَمَ عَلَى عادته أياما، ولم تطل مدته بل عاجله القضاء المحتوم، ونال رزقه الْمَقْسُومُ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ أيامه في الملك قبل أن يملك مصر وبعد ما ملكها ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، منها بمصر سنتان وتسعة أشهر والباقي ببلاد المغرب، وجملة عمره كلها خمسة وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ وُلِدَ بِإِفْرِيقِيَّةَ في عاشر رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فيها توفى ركن الدولة بن على بن بويه وقد جاوز التسعين سَنَةً، وَكَانَتْ أَيَّامُ وِلَايَتِهِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ(11/284)
سنة، وقبل موته بسنة قَسَّمَ مُلْكَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ عمل ابن العميد مرة ضيافة في داره وكانت حافلة حضرها ركن الدولة وبنوه وأعيان الدولة، فعهد ركن الدولة فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى ابْنِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَخَلَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى إِخْوَتِهِ وَسَائِرِ الْأُمَرَاءِ الأقبية والأكسية على عادة الديلم، وحفوه بِالرَّيْحَانِ عَلَى عَادَتِهِمْ أَيْضًا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وقد كان ركن الدولة قد أسن وكبر وتوفى بعد هذه الوليمة بقليل في هذه السنة، وكان حَلِيمًا وَقُورًا كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ بر وكرم وإيثار، وحسن عشرة ورياسة، وحنو على الرعية وعلى أقاربه. وَحِينَ تَمَكَّنَ ابْنُهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَصَدَ الْعِرَاقَ ليأخذها من ابن عمه بَخْتِيَارَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ وَرَدَاءَةِ سَرِيرَتِهِ، فَالْتَقَوْا فِي هذه السنة بالأهواز فَهَزَمَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَأَخَذَ أَثْقَالَهُ وَأَمْوَالَهُ، وَبَعَثَ إلى البصرة فأخذها وأصلح بين أهلها حييى ربيعة ومضر، وكان بَيْنَهُمَا خُلْفٌ مُتَقَادِمٌ مِنْ نَحْوِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُضَرُ تَمِيلُ إِلَيْهِ وَرَبِيعَةُ عَلَيْهِ، ثم اتفق الحيان عليه وقويت شوكته، وأذل بختيار وَقَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ بَقِيَّةَ لِأَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ دُونَهُ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ إِلَى خَزَائِنِهِ، فاستظهر عضد الدولة بما وجده في الخزائن والحواصل لِابْنِ بَقِيَّةَ وَلَمْ يُبْقِ لَهُ مِنْهَا بَقِيَّةً. وكذلك أمر ركن الدَّوْلَةِ بِالْقَبْضِ عَلَى وَزِيرِ أَبِيهِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ لِمَوْجِدَةٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ سلف ذكرها. ولم يبق لابن الْعَمِيدِ أَيْضًا فِي الْأَرْضِ بَقِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَتِ الأكابر تتقيه.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْعَمِيدِ مِنَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بأوفر مكان، فخانته المقادير ونزل به غضب السلطان، ونحن نعوذ باللَّه مِنْ غَضَبِ الرَّحْمَنِ.
وَفِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ منها تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ بلاد خراسان وبخارى وغيرها، وكانت ولايته خمس عشر سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ نُوحٌ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلُقِّبَ بِالْمَنْصُورِ.
وفيها توفى الحاكم وهو الْمُسْتَنْصِرُ باللَّه بْنُ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ خِيَارِ الملوك وعلمائهم، وكان عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْخِلَافِ وَالتَّوَارِيخِ مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ مُحْسِنًا إليهم. توفى وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَسَبْعَةُ أشهر، ومدة خِلَافَتِهِ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هِشَامٌ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ وَلُقِّبَ بِالْمُؤَيَّدِ باللَّه، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِهِ وَاضْطَرَبَتِ الرَّعَايَا عَلَيْهِ وَحُبِسَ مُدَّةً ثُمَّ أُخْرِجَ وَأُعِيدَ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ أَمْرِهِ حَاجِبُهُ الْمَنْصُورُ أَبُو عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْمُعَافِرِيُّ، وَابْنَاهُ الْمُظَفَّرُ وَالنَّاصِرُ، فساسوا الرعايا جيدا وعدلا فيهم وغزوا الأعداء واستمر لَهُمُ الْحَالُ كَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سنة. وقد ساق ابن الأثير هنا قطعة من أخبارهم وأطال.
وَفِيهَا رَجَعَ مُلْكُ حَلَبَ إِلَى أَبِي الْمَعَالِي شَرِيفِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ وَقَامَ هُوَ مِنْ بعده تغلب قرعويه مولاهم واستولى عليهم سار إليه فأخرجه منها خائفا يترقب،(11/285)
ثُمَّ جَاءَ فَنَزَلَ حُمَاةَ وَكَانَتِ الرُّومُ قَدْ خَرَّبَتْ حِمْصَ فَسَعَى فِي عِمَارَتِهَا وَتَرْمِيمِهَا وَسَكَنَهَا، ثم لما اختلفت الأمور على قرعويه كتب أهل حلب إلى أبى المعالي هذا وهو بحمص أن يأتيهم، فسار إليهم فحاصر حلب أربعة أشهر فافتتحها وامتنعت منه القلعة وقد تحصن بها نكجور، ثُمَّ اصْطَلَحَ مَعَ أَبِي الْمَعَالِي عَلَى أَنْ يؤمنه على نفسه ويستنيبه بحمص، ثم انتقل إِلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ هَذِهِ الْمَزْرَعَةُ ظاهر دمشق التي تعرف بالقصر النكجورى.
ذكر ابتداء ملك بنى سُبُكْتِكِينَ
وَالِدِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ غَزْنَةَ. وَقَدْ كَانَ سبكتكين مولى الأمير أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ أَلِبْتِكِينَ صَاحِبِ جَيْشِ غَزْنَةَ وَأَعْمَالِهَا لِلسَّامَانِيَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِحَاجِبِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، ذَاكَ تُوُفِّيَ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ مَوْلَاهُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ لَا مِنْ وَلَدِهِ وَلَا مِنْ قَوْمِهِ، فَاصْطَلَحَ الْجَيْشُ على مبايعة سبكتكين هذا لصلاحه فيهم وخيره وَحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، فَاسْتَقَرَّ الملك في يده وَاسْتَمَرَّ مِنْ بَعْدِهِ فِي وَلَدِهِ السَّعِيدِ مَحْمُودِ بن سبكتكين، وقد غزا هذا بلاد الهند وفتح شيئا كثيرا من حصونهم، وغنم أموالا كثيرة، وَكَسَرَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ وَنُذُورِهِمْ أَمْرًا هَائِلًا، وَبَاشَرَ من معه من الجيوش حربا عظيمة هائلة، وقد قصده جيبال ملك الهند الأعظم بِنَفْسِهِ وَجُنُودِهِ الَّتِي تَعُمُّ السُّهُولَ وَالْجِبَالَ، فَكَسَرَهُ مَرَّتَيْنِ وَرَدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي أَسْوَإِ حَالٍ وَأَرْدَإِ بَالٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ أَنَّ سُبُكْتِكِينَ لَمَّا الْتَقَى مَعَ جِيبَالَ مَلِكِ الْهِنْدِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ عين في عقبة باغورك وكان من عادتهم أنها إذا وضعت فيها نجاسة أو قذرا كفهرت السَّمَاءُ وَأَرْعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ وَأَمْطَرَتْ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تُطَهَّرَ تِلْكَ الْعَيْنُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الّذي ألقى فيها، فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة فيها- وكانت قريبة من نحو الْعَدُوِّ- فَلَمْ يَزَالُوا فِي رُعُودٍ وَبَرْوَقٍ وَأَمْطَارٍ وصواعق حتى ألجأهم ذلك إِلَى الْهَرَبِ وَالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ خَائِبِينَ هَارِبِينَ، وَأَرْسَلَ مَلِكُ الْهِنْدِ يَطْلُبُ مِنْ سُبُكْتِكِينَ الصُّلْحَ فَأَجَابَهُ بَعْدَ امْتِنَاعٍ مِنْ وَلَدِهِ مَحْمُودٍ، عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَبِلَادٍ كَثِيرَةٍ يُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ، وَخَمْسِينَ فِيلًا وَرَهَائِنَ مِنْ رُءُوسِ قَوْمِهِ يتركها عنده حتى يقوم بما التزمه من ذلك.
وفيها توفى
أبو يعقوب بن سيف
ابن الحسين الْجَنَّابِيُّ، صَاحِبُ هَجَرَ وَمُقَدَّمُ الْقَرَامِطَةِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سِتَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ بِالسَّادَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَدْبِيرِ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فَمَشَى حَالُهُمْ. وَفِيهَا كَانَتْ وفاة.
الحسين بن أحمد
ابن سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقِرْمِطِيُّ. قَالَ ابْنُ عساكر: واسم أبى سعيد الحسين بن بهرام، ويقال ابن أحمد، يقال أصلهم من الفرس، وقد تغلب هذا عَلَى الشَّامِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ثم عاد(11/286)
إِلَى الْأَحْسَاءِ بَعْدَ سَنَةٍ ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ، وَكَسَرَ جَيْشَ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ، أَوَّلِ مَنْ نَابَ بِالشَّامِ عَنِ المعز الفاطمي قتله، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ فَحَاصَرَهَا فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَاسْتَمَرَّ مُحَاصِرُهَا شُهُورًا، وَقَدْ كَانَ اسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ ظالم بن موهوب ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَحْسَاءِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرَّمْلَةِ فَتُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جاوز التِّسْعِينَ، وَهُوَ يُظْهِرُ طَاعَةَ عَبْدِ الْكَرِيمِ الطَّائِعِ للَّه العباسي، وقد أورد له ابن عساكر أشعارا رائقة، مِنْ ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ إِلَى جَعْفَرِ بن فلاح قبل وقوع الحرب بينهما وهي من أفحل الشعر:
الْكُتْبُ مُعْذِرَةٌ وَالرُّسْلُ مُخْبِرَةٌ ... وَالْحُقُّ مُتَّبَعٌ وَالْخَيْرُ محمود
وَالْحَرْبُ سَاكِنَةٌ وَالْخَيْلُ صَافِنَةٌ ... وَالسِّلْمُ مُبْتَذَلٌ وَالظِّلُّ مَمْدُودُ
فَإِنْ أَنَبْتُمْ فَمَقْبُولٌ إِنَابَتُكُمْ ... وَإِنْ أَبَيْتُمْ فهذا الكور مشدود
على ظهور المنايا أو يردن بنا ... دمشق والباب مسدود وَمَرْدُودُ
إِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا أَرَبِي ... طَبْلٌ يَرِنُّ وَلَا نَايٌ وَلَا عُودُ
ولا اعتكاف على خمر ومخمرة ... وذات دل لها غنج وَتَفْنِيدُ
وَلَا أَبِيتُ بَطِينَ الْبَطْنِ مِنْ شِبَعٍ ... وَلِي رَفِيقٌ خَمِيصُ الْبَطْنِ مَجْهُودُ
وَلَا تَسَامَتْ بِيَ الدُّنْيَا إِلَى طَمَعٍ ... يَوْمًا وَلَا غَرَّنِي فِيهَا الْمَوَاعِيدُ
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
يَا سَاكِنَ الْبَلَدِ الْمُنِيفِ تَعُزُّزًا ... بِقِلَاعِهِ وَحُصُونِهِ وَكُهُوفِهِ
لَا عِزَّ إِلَّا لِلْعَزِيزِ بِنَفْسِهِ ... وَبِخَيْلِهِ وَبِرَجْلِهِ وَسُيُوفِهِ
وَبِقُبَّةٍ بَيْضَاءَ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَى ... شَرَفِ الْخِيَامِ بجاره وضيوفه
قوم إذا اشتد الوغا أردى العدا ... وشفى النفوس بضربه وزحوفه
لم يجعل الشرف التليد لنفسه ... حتى أفاد تَلِيدُهُ بِطَرِيفِهِ
وَفِيهَا تَمَلَّكَ قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ بِلَادَ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي. وَفِيهَا دَخَلَ الخليفة الطائع بشاه بار بِنْتِ عِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَكَانَ عُرْسًا حافلا. وفيها حَجَّتْ جَمِيلَةُ بِنْتُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ في تجمل عظيم، حتى كَانَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحَجِّهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا عَمِلَتْ أربعمائة محمل وكان لا يُدْرَى فِي أَيِّهَا هِيَ، وَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الكعبة نثرت عشرة آلاف دينار على الفقراء والمجاورين، وَكَسَتِ الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ كُلَّهُمْ، وَأَنْفَقَتْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي ذَهَابِهَا وَإِيَابِهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ مِنَ الْعِرَاقِ الشريف أحمد بن الحسين بن محمد الْعُلْوِيُّ، وَكَذَلِكَ حَجَّ بِالنَّاسِ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِينَ وثلاثمائة، وكانت الخطبة بالحرمين في هذه السنة للفاطميين أصحاب مصر دون العباسيين.(11/287)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ نجيد
ابن أحمد بن يوسف أَبُو عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، صَحِبَ الْجُنَيْدَ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى الحديث وكان ثقة، ومن جيد كلامه قوله: من لم تهدك رُؤْيَتُهُ فَلَيْسَ بِمُهَذَّبٍ. وَقَدِ احْتَاجَ شَيْخُهُ أَبُو عُثْمَانَ مَرَّةً إِلَى شَيْءٍ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فِيهِ فَجَاءَهُ ابْنُ نُجَيْدٍ بِكِيسٍ فِيهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ مِنْهُ وَجَعَلَ يَشْكُرُهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ له ابن نجيد بين أصحابه: يَا سَيِّدِي إِنَّ الْمَالَ الَّذِي دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ كان من مال أمى أخذته وهي كارهة فأنا أحب أن ترده إلى حتى أرده إليها. فأعطاه إياه، فلما كان الليل جاء به وقال أحب أن تصرفها في أمرك ولا تذكرها لأحد. فكان أبو عثمان يقول: أنا أجتني مِنْ هِمَّةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ نُجَيْدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهِ
أَبُو عَلِيٍّ ركن الدولة عرض له قولنج فمات في لَيْلَةَ السَّبْتِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، وكانت مدة ولايته أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ عُمُرِهِ ثَمَانٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا
محمد بن إسحاق
ابن إبراهيم بن أفلح بن رافع بْنِ رَافِعِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَفْلَحَ بْنِ عبد الرحمن بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَبُو الْحَسَنِ الْأَنْصَارِيُّ الزرقيّ، كان نقيب الأنصار، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً يَعْرِفُ أَيَّامَ الْأَنْصَارِ وَمَنَاقِبَهُمْ، وكانت وفاته في جمادى الآخرة منها.
محمد بن الحسن
ابن أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، سَمِعَ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ الْقَاضِي وَغَيْرَهُ، وَكَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ. صَلَّى حَتَّى أُقْعِدَ، وَبَكَى حتى عمى، توفى يوم عاشوراء منها.
القاضي منذر البلوطي
رحمه الله قاضى قضاة الأندلس، كان إماما عالما فصيحا خطيبا شاعرا أديبا، كثير الفضل، جامعا لصنوف من الخير والتقوى والزهد، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ وَاخْتِيَارَاتٌ، مِنْهَا أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي سكنها آدم وأهبط منها كانت في الأرض وليست بالجنة التي أعدها الله لعباده في الآخرة، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ مُفْرَدٌ، لَهُ وَقْعٌ في النفوس وعليه حلاوة وطلاوة، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَدِينَةِ الزَّهْرَاءِ وَقُصُورِهَا، وَقَدْ بُنِيَ لَهُ فِيهَا قَصْرٌ عظيم منيف، وقد زخرف بأنواع الدهانات وكسى الستور، وجلس عنده رءوس دولته وأمراؤه، فجاءه الْقَاضِي فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ وَجَعَلَ الْحَاضِرُونَ يُثْنُونَ على ذلك البناء ويمدحونه، وَالْقَاضِي سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ وقال.
ما تقول أنت يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ فَبَكَى الْقَاضِي وَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المفضح المهتك، المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكنه(11/288)
من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً) 43: 33- 35 الآية. قَالَ: فَوَجَمَ الْمَلِكُ عِنْدَ ذَلِكَ وَبَكَى وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَكَ. وقد قحط في بعض السنين فأمره الملك أن يستسقى للناس، فلما جاءته الرسالة مع البريد قال للرسول: كيف تركت الملك؟ فقال تركته أخشع ما يكون وأكثره دعاء وتضرعا. فقال القاضي: سقيتم وَاللَّهِ، إِذَا خَشَعَ جَبَّارُ الْأَرْضِ رَحِمَ جَبَّارُ السماء. ثم قال لغلامه: ناد في الناس الصلاة. فجاء الناس إلى محل الاستسقاء وجاء القاضي منذر فصعد المنبر والناس ينظرون إليه ويسمعون ما يَقُولُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ كَانَ أَوَّلَ مَا خاطبهم به قَالَ:
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 6: 54 ثم أعادها مرارا فَأَخَذَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى سُقُوا وَرَجَعُوا يَخُوضُونَ الماء.
أبو الحسن على بن أحمد
ابن المرزبان الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ وَأَخَذَ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ وَرِعًا زَاهِدًا لَيْسَ لِأَحَدٍ عنده مظلمة، وله في المذهب وجه، وَكَانَ لَهُ دَرْسٌ بِبَغْدَادَ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ منها.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة
فيها دَخَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَخَرَجَ مِنْهَا عز الدولة بختيار واتبعه عضد الدولة وأخذ معه الخليفة فاستعفاه فَأَعْفَاهُ، وَسَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَرَاءَهُ فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، ثُمَّ قُتِلَ سَرِيعًا وَتَصَرَّمَتْ دَوْلَتُهُ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَادَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ السنية والأسورة والطوق، وأعطاه لواءين أحدهما ذهب والآخر فضة، ولم يكن هذا لغيره إِلَّا لِأَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِتُحَفٍ سَنِيَّةٍ، وَبَعَثَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْخَلِيفَةِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ مِرَارًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كثيرة غرق بسببها خلق كثير، وَقِيلَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ إِنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ قَدْ قَلُّوا كَثِيرًا بِسَبَبِ الطَّاعُونِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ بِسَبَبِ الرَّفْضِ وَالسُّنَّةِ وَأَصَابَهُمْ حَرِيقٌ وَغَرَقٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا يُهَيِّجُ الشَّرَّ بَيْنَ النَّاسِ هَؤُلَاءِ الْقُصَّاصُ وَالْوُعَّاظُ، ثُمَّ رَسَمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُصُّ وَلَا يَعِظُ فِي سَائِرِ بَغْدَادَ وَلَا يَسْأَلُ سَائِلٌ بَاسِمِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وإنما يقرأ الْقُرْآنَ فَمَنْ أَعْطَاهُ أَخَذَ مِنْهُ. فَعُمِلَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ بن سمعون الواعظ- وكان من الصالحين- لم يترك الوعظ بل استمر عَلَى عَادَتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ بِهِ،(11/289)
وتحول عضد الدولة من مجلسه وجلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون إذا دخلت على الملك فتواضع في الخطاب وقبّل التراب. فلما دخل دار الملك وجده قد جلس وحده لئلا يبدر مِنِ ابْنِ سَمْعُونَ فِي حَقِّهِ كَلَامٌ بِحَضْرَةِ النَّاسِ يُؤْثَرُ عَنْهُ. وَدَخَلَ الْحَاجِبُ بَيْنَ يَدَيْهِ يستأذن له عليه ودخل ابن سمعون وراءه، ثم استفتح القراءة بقوله (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) 11: 102 الآية. ثم التفت بوجهه نحو دار عز الدولة ثم قرأ (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) 10: 14 ثُمَّ أَخَذَ فِي مُخَاطَبَةِ الْمَلِكِ وَوَعْظِهِ فَبَكَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ بُكَاءً كَثِيرًا، وَجَزَاهُ خَيْرًا. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لِلْحَاجِبِ: اذْهَبْ فَخُذْ ثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له فَإِنْ قَبِلَهَا جِئْنِي بِرَأْسِهِ، قَالَ الْحَاجِبُ: فَجِئْتُهُ فقلت: هذا أرسل به الملك إليك. فقال: لا حاجة لي به، هَذِهِ ثِيَابِي مِنْ عَهْدِ أَبِي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً كُلَّمَا خَرَجْتُ إِلَى النَّاسِ لَبِسْتُهَا، فَإِذَا رجعت طويتها، ولي دَارٌ آكُلُ مِنْ أُجْرَتِهَا تَرَكَهَا لِي أَبِي فانا في غنية عما أرسل به الملك. فقلت: فرقها في فقراء أهلك. فقال: فقراء أهله أحق بها من فقراء أَهْلِي، وَأَفْقَرُ إِلَيْهَا مِنْهُمْ.
فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَلِكِ لِأُشَاوِرَهُ وَأُخْبِرَهُ بِمَا قَالَ، فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي سَلَّمَهُ مِنَّا وَسَلَّمَنَا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ أَخَذَ ابْنَ بَقِيَّةَ الْوَزِيرَ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ فَأَمَرَ بِهِ فَوُضِعَ بَيْنَ قَوَائِمِ الْفِيَلَةِ فَتَخَبَّطَتْهُ بِأَرْجُلِهَا حَتَّى هَلَكَ، ثُمَّ صُلِبَ عَلَى رَأْسِ الْجِسْرِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، فَرَثَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِأَبْيَاتٍ يَقُولُ فِيهَا:
عُلُوٌّ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْمَمَاتِ ... بِحَقٍّ أَنْتَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ
كَأَنَّ النَّاسَ حَوْلَكَ حِينَ قَامُوا ... وُفُودُ نَدَاكَ أَيَّامَ الصِّلَاتِ
كَأَنَّكَ وَاقِفٌ فِيهَمْ خَطِيبًا ... وَكُلُّهُمْ وَقُوفٌ لِلصَّلَاةِ
مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحْوَهُمُ احْتِفَاءً ... كَمَدِّهِمَا إِلَيْهِمْ بِالْهِبَاتِ
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ أَوْرَدَ كَثِيرًا مِنْهَا ابْنُ الْأَثِيرِ في كامله.
صفة مقتل عز الدولة بختيار بن معز الدولة وأخذ الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا
لَمَّا دَخَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بَغْدَادَ وتسلمها خرج منها بختيار ذَلِيلًا طَرِيدًا فِي فَلٍّ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ عزمه أن يذهب إلى الشام فيأخذها، وكان عضد الدولة قد حلفه أن لا يتعرض لأبى تغلب لمودة كانت بينهما ومراسلات، فَحَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَحِينَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ كَانَ مَعَهُ حَمْدَانُ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ ابن حَمْدَانَ فَحَسَّنَ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ أَخْذَ بِلَادِ الْمَوْصِلِ من أبى تغلب، لأنها أطيب وأكثر مالا من الشام وأقرب إليه، وَكَانَ عِزُّ الدَّوْلَةِ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ الدِّينِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَبَا تَغْلِبَ أَرْسَلَ إِلَى عز الدولة يقول له: لئن أرسلت إلى ابن أخى حمدان بن ناصر الدولة أغنيتك بنفسي وجيشي حتى آخذ لك ملك بغداد من عضد الدولة، وأردك إليها. فعند ذلك أمسك حَمْدَانَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى عَمِّهِ أَبِي تَغْلِبَ(11/290)
فَسَجَنَهُ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ وَبَلَغَ ذَلِكَ عَضُدَ الدولة وأنهما قد اتفقا عَلَى حَرْبِهِ فَرَكِبَ إِلَيْهِمَا بِجَيْشِهِ وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الخليفة الطائع معه فاستعفاه فأعفاه فذهب إِلَيْهِمَا فَالْتَقَى مَعَهُمَا فَكَسَرَهُمَا وَهَزَمَهُمَا، وَأَخَذَ عِزَّ الدولة أسيرا وقتله من فوره، وأخذ الْمَوْصِلَ وَمُعَامَلَتَهَا، وَكَانَ قَدْ حَمَلَ مَعَهُ مِيرَةً كثيرة، وشرد أبا تغلب في البلاد وبعث وراءه السرايا في كل وجه، وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ إِلَى أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَفَتَحَ مَيَّافَارِقِينَ وَآمِدَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ بِلَادِ بَكْرٍ وَرَبِيعَةَ، وَتَسَلَّمَ بِلَادَ مُضَرَ مِنْ أَيْدِي نُوَّابِ أَبِي تَغْلِبَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الرَّحْبَةَ وَرَدَّ بَقِيَّتَهَا عَلَى صَاحِبِ حَلَبَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدولة، وتسلط على سعد الدولة، وحين رجع من الموصل استناب عليها أبا ألوفا، وعاد إلى بغداد فتلقاه الخليفة وَرُءُوسُ النَّاسِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانَ يَوْمًا مشهودا.
ومما وقع من الحوادث فيها الْوَقْعَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ الفاطمي وبين الفتكين غُلَامِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ دِمَشْقَ فَهَزَمَهُ وَأَسَرَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَسَلَّمُ الْعَزِيزُ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا، وَقَدْ تقدم بسط ذلك في سنة أربع وستين.
وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيِّ بِقَضَاءِ قُضَاةِ الرَّيِّ وَمَا تَحْتَ حكم مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ حَسَنَةٌ، مِنْهَا دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ وَعُمُدُ الأدلة وغيرها. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْمِصْرِيِّينَ وَهُوَ الْأَمِيرُ بَادِيسُ بْنُ زِيرِي أَخُو يُوسُفَ بْنِ بُلُكِّينَ. وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ اللُّصُوصُ وَسَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُمُ الْمَوْسِمَ هَذَا الْعَامَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَمْوَالِ. فَأَظْهَرَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ إِلَى مَا سَأَلُوا وَقَالَ لَهُمْ: اجْتَمَعُوا كُلُّكُمْ حَتَّى أُضَمِّنَكُمْ كُلَّكُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ حَرَامِيًّا، فَقَالَ:
هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ فَحَلَفُوا لَهُ إنه لم يبق منهم أحد. فأخذ عند ذلك بالقبض عليهم وبقطع أيديهم كلهم، ونعما ما فعل. وكانت الخطبة في الحجاز للفاطميين دون العباسيين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْمَلِكُ عِزُّ الدولة.
بختيار بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ وَعُمُرُهُ فَوْقَ الْعِشْرِينَ سَنَةً بِقَلِيلٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْجِسْمِ شديد البطش قوى القلب، يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوَائِمِ الثَّوْرِ الشَّدِيدِ فيلقيه في الأرض من غير أعوان، ويقصد الأسود في أماكنها، وَلَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّذَّاتِ، وَلَمَّا كَسَرَهُ ابْنُ عَمِّهِ بِبِلَادِ الْأَهْوَازِ كان في جملة ما أخذ منه أمرد كان يحبه حبا شديدا لا يهنأ بالعيش إلا معه، فبعث يترفق له في رده إليه، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتُحَفٍ كَثِيرَةٍ وَأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ وَجَارِيَتَيْنِ عوادتين لا قيمة لهما، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْغُلَامَ الْمَذْكُورَ فَكَثُرَ تَعْنِيفُ النَّاسِ له عند ذلك وَسَقَطَ مِنْ أَعْيُنِ الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ذهاب هذا الغلام منى أشد على من أخذ بغداد من يدي، بل وأرض العراق كلها. ثم كان من أمره بعد ذلك(11/291)
أن ابن عمه أسره كما ذكرنا وقتله سَرِيعًا، فَكَانَتْ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ومدة دولته منها إحدى وعشرين سنة وشهور، وهو الّذي أظهر الرفض ببغداد وجرى بسبب ذلك شرور كما تقدم.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قُرَيْعَةَ، وَلِيُّ الْقَضَاءِ بِالسِّنْدِيَّةِ، وَكَانَ فَصِيحًا يَأْتِي بِالْكَلَامِ الْمَسْجُوعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ ولا تردد، وكان جميل المعاشرة ومن شعره:
لي حيلة في من ينمم ... وَلَيْسَ فِي الُكَذَّابِ حِيلَهْ
مَنْ كَانَ يَخْلُقُ ما يقول ... فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ
وَكَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ أصحابه إذا تماشيا: إذا تقدمت بين يديك فانى حاجب وإن تأخرت فواجب.
توفى يوم السبب لعشر بقين من جمادى الآخرة منها.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة
فِي شَعْبَانَ مِنْهَا أَمَرَ الطَّائِعُ للَّه أَنْ يُدْعَى لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ بَعْدَ الْخَلِيفَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ بِبَغْدَادَ، وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّبَادِبُ عَلَى بَابِهِ وَقْتَ الفجر وبعد المغرب والعشاء. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ مِنْ بَنِي بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مُعِزُّ الدولة سأل من الخليفة أن يضرب الدبادب على بابه فلم يأذن له، وقد افتتح عز الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْمَوْصِلِ أَكْثَرَ بِلَادِ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، كَآمِدَ والرحبة وغيرهما، ثم دخل بغداد في سلخ ذي القعدة فتلقاه الخليفة والأعيان إلى أثناء الطريق.
ذكر ملك قسام التراب لدمشق فيها
لما ذهب الفتكين إِلَى دِيَارِ مِصْرَ نَهَضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دمشق يقال له قسام التراب، كان الفتكين يقربه ويدنيه، ويأمنه عَلَى أَسْرَارِهِ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى دِمَشْقَ وَطَاوَعَهُ أَهْلُهَا وَقَصَدَتْهُ عَسَاكِرُ الْعَزِيزِ مِنْ مِصْرَ فَحَاصَرُوهُ فَلَمْ يتمكنوا منه، وَجَاءَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حمدان فحاصره فلم يقدر أَنْ يَدْخُلَ دِمَشْقَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ خَائِبًا إِلَى طَبَرِيَّةَ، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي عُقَيْلٍ وَغَيْرِهِمْ من العرب حروب طويلة، آل الْحَالُ إِلَى أَنْ قَتُلِ أَبُو تَغْلِبَ وَكَانَتْ معه أخته وجميلة امرأته وهي بنت سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَرُدَّتَا إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، فَأَخَذَ أُخْتَهُ وَبَعَثَ بِجَمِيلَةَ إِلَى بَغْدَادَ فَحُبِسَتْ فِي دَارٍ وَأُخِذَ مِنْهَا أموال جزيله. وأما قسام التراب هذا- وهو مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ مِنَ الْيَمَنِ- فإنه أقام بالشام فسد خللها وقام بِمَصَالِحِهَا مُدَّةَ سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ بِالْجَامِعِ يجتمع الناس إليه فيأمرهم وينهاهم فيمتثلون ما يأمر بِهِ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ تلفيتا، وكان ترابا. قلت والعامة يسمونه قُسَيْمٌ الزَّبَّالُ، وَإِنَّمَا هُوَ قَسَّامٌ، وَلَمْ يَكُنْ زَبَّالًا بَلْ تَرَّابًا مِنْ قَرْيَةِ تَلْفِيتَا بِالْقُرْبِ مِنْ قَرْيَةِ مَنِينَ، وَكَانَ بُدُوَّ أَمْرِهِ أَنَّهُ انتمى إلى رجل من أحداث أهل دمشق يقال له أحمد بن المسطان، فكان من(11/292)
حِزْبِهِ ثُمَّ اسْتُحْوِذَ عَلَى الْأُمُورِ وَغُلِبَ عَلَى الولاة والأمراء إلى أن قدم بلكتكين التركي من مصرفى يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ست وسبعين وثلاثمائة، فأخذها منه وَاخْتَفَى قَسَّامٌ التَّرَّابُ مُدَّةً ثُمَّ ظَهَرَ فَأَخَذَهُ أَسِيرًا وَأَرْسَلَهُ مُقَيَّدًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأُطْلِقَ وأحسن إليه وأقام بها مكرما.
وممن توفى فيها من الأعيان.
العقيقي
صاحب الحمام والدار المنسوبتين إليه بدمشق بمحلة باب البريد، واسمه أحمد بن الحسن العقيقي ابن جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَصْغَرِ بن علي بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الشريف أبو القاسم الحسين الْعَقِيقِيُّ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ مِنْ وُجُوهِ الْأَشْرَافِ بِدِمَشْقَ وَإِلَيْهِ تَنْسُبُ الدَّارُ وَالْحَمَّامُ بِمَحَلَّةِ باب البريد. وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ من جمادى الأولى منها، وأنه دفن من الغد وأغلقت البلد لأجل جنازته، وحضرها نكجور وَأَصْحَابُهُ- يَعْنِي نَائِبَ دِمَشْقَ- وَدُفِنَ خَارِجَ بَابِ الصغير. قلت: وقد اشترى الملك الظاهر بِيبَرْسُ دَارَهُ وَبَنَاهَا مَدْرَسَةً وَدَارَ حَدِيثٍ وَتُرْبَةً وَبِهَا قَبْرُهُ، وَذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعِينَ وستمائة كما سيأتي بيانه.
أحمد بن جعفر
ابن مَالِكِ بْنِ شَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ- مِنْ قَطِيعَةِ الدَّقِيقِ بِبَغْدَادَ- رَاوِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ أَحْمَدَ، وَحَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وكان ثقة كثير الحديث، حدث عنه الدار قطنى وَابْنُ شَاهِينَ وَالْبَرْقَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَلَا الْتَفَتُوا إلى ما طعن عليه بعضهم وتكلم فيه، بسبب غرق كُتُبِهِ حِينَ غَرِقَتِ الْقَطِيعَةُ بِالْمَاءِ الْأَسْوَدِ، فَاسْتَحْدَثَ بعضها من نسخ أخرى، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُعَارَضَةٌ عَلَى كُتُبِهِ الَّتِي غَرِقَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ إِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فَكَانَ لَا يدرى ما جرى عليه، وقد جاوز التسعين.
تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ
وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ دَوْلَةِ أَبِيهِ وأخيه العزيز، وَقَدِ اتَّفَقَتْ لَهُ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ بِمَبْلَغٍ جَزِيلٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْ عِنْدَهُ أَضَافَ أَصْحَابَهُ ثُمَّ أَمَرَهَا فَغَنَّتْ- وَكَانَتْ تُحِبُّ شَخْصًا بِبَغْدَادَ-:
وبدا له من بعد ما انتقل الهوى ... برق تألق من هنا لمعانه
يبدو لحاشية اللواء وَدُونَهُ ... صَعْبُ الذَّرَى مُتَمَنِّعٌ أَرْكَانُهُ
فَبَدَا لِيَنْظُرَ كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وشده أَشْجَانُهُ
فَالنَّارُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ ضُلُوعُهُ ... وَالْمَاءُ ما سمحت به اجفانه
ثم غنته أبياتا غيرها فَاشْتَدَّ طَرَبُ تَمِيمٍ هَذَا وَقَالَ لَهَا: لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلِينِي حَاجَةً، فَقَالَتْ: عَافِيَتَكَ.(11/293)
فقال: ومع العافية. فَقَالَتْ: تَرُدُّنِي إِلَى بَغْدَادَ حَتَّى أُغَنِّيَ بِهَذِهِ الأبيات، فوجم لذلك ثم لم يجد بدا من الوفاء لها بما سألت، فأرسلها مع بعض أصحابه فأحجبها ثم سار بها عَلَى طَرِيقِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا فِي اللَّيْلَةِ التي يدخلون فيها بغداد من صبيحتها ذَهَبَتْ فِي اللَّيْلِ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَتْ، فلما سمع تميم خبرها شق عليه ذلك وتألم ألما شديدا، وندم ندما شديدا حيث لا ينفعه الندم.
أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ
النَّحْوِيُّ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الله بن المرزبان. الْقَاضِي، سَكَنَ بَغْدَادَ وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا نِيَابَةً، وله شرح كتاب سيبويه، وطبقات النحاة. روى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أبوه مجوسيا، وكان أبو سعيد هذا عالما باللغة والنحو والقراءات وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، وكان مع ذلك زَاهِدًا لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، كَانَ يَنْسَخُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ وَرَقَاتٍ بعشرة دراهم، تكون منها نفقته، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وكان ينتحل مذهب أهل العراق في الفقه، وقرأ القراءات عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ، وَاللُّغَةَ عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ، والنحو على ابن السراج وابن المرزبان، ونسبه بعضهم إلى الاعتزال وأنكره آخرون. توفى في رجب منها عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ.
عبد الله بن إبراهيم
ابن أبى القاسم الريحاني، ويعرف بالانبدرى، رحل في طلب الحديث إلى الآفاق ووافق ابْنَ عَدِيٍّ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، ثُمَّ سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي يَعْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبَتًا، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ، زَاهِدًا رَوَى عَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ وأثنى عليه خيرا، وذكر أن أكثر أدم أهله الخبز المأدوم بمرق الباقلاء، وذكر القفصي من تقلله وزهده وورعه. توفى عن خمس وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ وَرْقَاءَ
الْأَمِيرُ أَبُو أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَالْحِشْمَةِ، بلغ التسعين سنة، رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي صِفَةِ النِّسَاءِ:
هِيَ الضِّلَعُ الُعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا ... أَلَا إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انْكِسَارُهَا
أَيَجْمَعْنَ ضَعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْفَتَى ... أَلَيْسَ عَجِيبًا ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا؟
قلت: وهذا المعنى أخذه مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسْرَتَهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بها استمتعت بها وفيها عوج» .
محمد بن عيسى
ابن عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ رَاوِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَكَانَ مِنَ الزُّهَّادِ، يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ مِنَ النَّسْخِ وَبَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً.(11/294)
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة
في المحرم منها توفى الأمير عمر بْنُ شَاهِينَ صَاحِبُ بِلَادِ الْبَطِيحَةِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وَعَجَزَ عَنْهُ الْأُمَرَاءُ وَالْمُلُوكُ والخلفاء، وبعثوا إليه الجنود والسرايا والجيوش غيره مَرَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَفُلُّهَا وَيَكْسِرُهَا، وَكُلُّ مَا له في تمكن وزيادة وقوة، ومكث كذلك هذه المدة، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ. وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْحَسَنُ فَرَامَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ يَنْتَزِعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سرية حافلة من الجنود فكسرهم الحسن بن عمر بن شاهين، وَكَادَ أَنْ يُتْلِفَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِ عضد الدولة فصالحه عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةٍ. وَفِي صَفَرٍ قُبِضَ على الشريف أبى أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين، وقد كان أمير الحج مدة سنين، اتهم بِأَنَّهُ يُفْشِي الْأَسْرَارَ وَأَنَّ عِزَّ الدَّوْلَةِ أَوْدَعَ عنده عقدا ثمينا، ووجدوا كتابا بخطه فِي إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ فَأَنْكَرَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَكَانَ مُزَوَّرًا عَلَيْهِ، وَاعْتَرَفَ بِالْعِقْدِ فَأُخِذَ مِنْهُ وَعُزِلَ عن النقابة وولوا غيره، وكان مظلوما. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا عَزَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَعْرُوفٍ، وَوَلَّى غيره وفي شعبان منها وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنْ مِصْرَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِمُرَاسَلَاتٍ كَثِيرَةٍ فَرَدَّ الْجَوَابَ بِمَا مَضْمُونُهُ صِدْقُ النِّيَّةِ وَحُسْنُ الطَّوِيَّةِ ثُمَّ سَأَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنَ الطَّائِعِ أَنْ يُجَدِّدَ عَلَيْهِ الْخِلَعَ وَالْجَوَاهِرَ، وأن يزيد في إنشائه تاج الدولة، فأجابه إلى ذلك، وخلع عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ معه من تقبيل الأرض بين يدي الخليفة، وفوض إليه ما وراء بابه مِنَ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ ومغاربها، وحضر ذلك أعيان النَّاسِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَأَرْسَلَ فِي رَمَضَانَ إلى الْأَعْرَابِ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ وَغَيْرِهِمْ فَعَقَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ، وكان أميرهم منبه ابن محمد الأسدي متحصنا بعين التمر مدة نيف وثلاثين سنة، فأخذ ديارهم وأموالهم.
وفي يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تزوج الطَّائِعُ للَّه بِنْتَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الْكُبْرَى، وَعُقِدَ العقد بحضرة الأعيان على صداق مبلغه مائة أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ وَكِيلَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الشَّيْخُ أبا على الحسين بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ الْإِيضَاحِ وَالتَّكْمِلَةِ، وَكَانَ الَّذِي خَطَبَ خُطْبَةَ الْعَقْدِ الْقَاضِي أَبُو على الحسن بن على التنوخي. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا جَدَّدَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عِمَارَةَ بَغْدَادَ وَمَحَاسِنَهَا، وَجَدَّدَ الْمَسَاجِدَ وَالْمَشَاهِدَ، وَأَجْرَى على الفقهاء الأرزاق وعلى الأئمة مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْحُسَّابِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَطْلَقَ الصِّلَاتِ لِأَرْبَابِ الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ، وَأَلْزَمَ أَصْحَابَ الْأَمْلَاكِ بِعِمَارَةِ بُيُوتِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَمَهَّدَ الطُّرُقَاتِ وَأَطْلَقَ الْمُكُوسَ وأصلح الطريق للحجاج مِنْ بَغْدَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَرْسَلَ الصَّدَقَاتِ لِلْمُجَاوِرِينَ بالحرمين. قال: وأذن لِوَزِيرِهِ نَصْرِ بْنِ هَارُونَ- وَكَانَ نَصْرَانِيًّا- بِعِمَارَةِ البيع والأديرة وأطلق الأموال لفقرائهم.(11/295)
وفيها توفى حسنويه بن حسين الْكُرْدِيُّ، وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى نَوَاحِي بِلَادِ الدينور وهمدان وَنَهَاوَنْدَ مُدَّةَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ بِالْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ أولاده من بعده وتمرق شملهم، وتمكن عضد الدولة من أكثر بلادهم، وقويت شوكته في تلك الأرض.
وفيها ركب عضد الدولة في جنود كَثِيفَةٍ إِلَى بِلَادِ أَخِيهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَذَلِكَ لما بلغه من ممالأته لعز الدولة واتفاقهم عليه، فتسلم بلاد أخيه فخر الدولة وهمدان وَالرَّيَّ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَلَّمَ ذَلِكَ إلى مؤيد الدولة- وهو أخوه الآخر- لِيَكُونَ نَائِبَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ حسنويه الكردي فتسلمها وأخذ حواصله وذخائره، وكانت كثيرة جدا، وحبس بعض أولاده وأسر بَعْضَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَكْرَادِ الْهَكَّارِيَّةِ فَأَخَذَ مِنْهُمْ بعض بلادهم، وعظم شأنه وارتفع صيته، إلا أنه أصابه في هذا السفر داء الصداع، وكان قد تقدم له بالموصل مثله، وكان يكتمه إلى أن غلب عليه كَثْرَةُ النِّسْيَانِ فَلَا يَذْكُرُ الشَّيْءَ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ، وَالدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ:
دَارٌ إِذَا مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا ... أبكت غدا، بعدا لها من دار
وفيها توفى من الأعيان
أحمد بن زكريا أبو الحسن اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ الْمُجْمَلِ فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمَيْنِ:
يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي قَدْ أَحَطْتَ بِهَا ... عِلْمًا وَبِي وَبِإِعْلَانِي وَإِسْرَارِي
أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا ... فهب ذنوبي لتوحيدى وإقراري
ذكر ذلك ابن الأثير.
أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرُّوذَبَارِيُّ- ابْنُ أُخْتِ أَبِي عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ- أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ، وكان قد انتقل من بغداد فأقام بصور وتوفى بها في هذه السنة. قال: رأيت في المنام كأن قائلا يقول: أي شيء أصح في الصلاة؟ فقلت صحة القصد، فسمعت قائلا يقول. رؤية المقصود بإسقاط رؤية القصد أتم. وقال: مجالسة الاضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول، وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة، ولا كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الأسرار، ولا يؤمن على الأسرار الا الأمناء فقط. وقال: الخشوع في الصلاة علامة الفلاح. قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) 23: 1- 2 وترك الخشوع في الصلاة علامة النفاق وخراب القلب. قال تعالى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) 23: 117.
عبد الله بن إبراهيم
ابن أَيُّوبَ بْنِ مَاسِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَزَّازُ، أَسْنَدَ الْكَثِيرَ وَبَلَغَ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً ثبتا.
توفى في رجب منها
محمد بن صالح
ابن على بن يحيى أبو الحسن الهاشمي، يعرف بابن أم شيبان، كان عَالِمًا فَاضِلًا، لَهُ تَصَانِيفُ، وَقَدْ(11/296)
وَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ قَدِيمًا وَكَانَ جَيِّدَ السِّيرَةِ، توفى فيها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين.
ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة
فِيهَا وَرَدَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ مِنْ جِهَةِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَخِيهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فَتَلَقَّاهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ وَأَكْرَمَهُ وَأَمَرَ الأعيان بِاحْتِرَامِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَزَادَهُ فِي أَقْطَاعِهِ، وَرَدَّ معه هدايا كثيرة.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا رَجَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إلى بغداد فتلقاه الخليفة الطائع وضرب لَهُ الْقِبَابُ وَزُيِّنَتِ الْأَسْوَاقُ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا وَصَلَتْ هَدَايَا مِنْ صَاحِبِ الْيَمَنِ إِلَى عضد الدولة، وكانت الخطبة بالحرمين لِصَاحِبِ مِصْرَ، وَهُوَ الْعَزِيزُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
أَبُو بَكْرِ الرازيّ الحنفي
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الرازيّ أحد أئمة أصحاب أبى حنيفة، وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ كِتَابُ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تِلْمِيذُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ وَرَحَلِ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنَ الْآفَاقِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ وَأَبِي القاسم الطبراني، وقد أراده الطائع على أن يوليه القضاء فلم يقبل، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذَا الْعَامِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الخوارزمي.
محمد بن جعفر
ابن مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، وَيُلَقَّبُ بغندر، كان جوالا رحالا، سمع الْكَثِيرَ بِبِلَادِ فَارِسَ وَخُرَاسَانَ، وَسَمِعَ الْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ صَاعِدٍ وَابْنَ دُرَيْدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الْحَافِظُ أَبُو نعيم الأصفهانيّ، وكان ثقة حافظا.
ابْنُ خَالَوَيْهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالَوَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ، أَصْلُهُ مِنْ هَمَذَانَ، ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ فَأَدْرَكَ بها مشايخ هذا الشأن. كابن دُرَيْدٍ وَابْنِ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ، وَاشْتَغَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ ثُمَّ صَارَ إِلَى حَلَبَ فَعَظُمَتْ مَكَانَتُهُ عِنْدَ آلِ حَمْدَانَ، وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ يُكْرِمُهُ وَهُوَ أَحَدُ جُلَسَائِهِ، وَلَهُ مَعَ الْمُتَنَبِّي مُنَاظَرَاتٌ. وَقَدْ سَرَدَ لَهُ ابْنُ خلكان مصنفات كثيرة منها كتاب ليس في كلام العرب- لأنه كان يكثر أن يقول ليس في كلام العرب كذا وكذا- وكتاب الْآلِ تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى أَقْسَامِهِ وَتَرْجَمَ الْأَئِمَّةَ الاثني عشر وأعرب ثَلَاثِينَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَشَرَحَ الدُّرَيْدِيَّةَ وَغَيْرَ ذلك، وله شعر حسن، وكان به داء كانت به وفاته.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بالكرخ، وفيها سرق شيء نفيس لعضد الدولة فتعجب الناس من جرأة من سرقه مع شدة هَيْبَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا اجْتَهَدُوا كل الاجتهاد فلم يعرفوا من(11/297)
أَخَذَهُ. وَيُقَالُ إِنَّ صَاحِبَ مِصْرَ بَعَثَ مَنْ فعل ذلك فاللَّه أعلم.
وممن توفى فيها من الأعيان.
الإسماعيلي
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْجُرْجَانِيُّ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الرَّحَّالُ الْجَوَّالُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ وَخَرَّجَ وَصَنَّفَ فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ وَالِاعْتِقَادَ، صَنَّفَ كِتَابًا عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، وَعُلُومٌ غَزِيرَةٌ. قال الدار قطنى: كُنْتُ عَزَمْتُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى الرِّحْلَةِ إِلَيْهِ فَلَمْ أُرْزَقْ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ عَاشِرَ رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ السَّبِيعِيُّ، سَمِعَ ابْنَ جَرِيرٍ وقاسما المطرز وغيرهما، وعنه الدار قطنى وَالْبَرْقَانِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا مُكْثِرًا وَكَانَ عَسِرَ الرواية.
الحسن بن على بن الحسن
ابن الْهَيْثَمِ بْنِ طَهْمَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّاهِدُ، المعروف بالبادى، سمع الحديث وكان ثقة، عاش سَبْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، مِنْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مقيدا أعمى.
عبد الله بن الحسين
ابن إسماعيل بن محمد أبو بكر الضبيّ، ولى الحكم ببغداد، وكان عفيفا نزها دينا.
عبد العزيز بن الحارث
ابن أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ. لَهُ كَلَامٌ وَمُصَنَّفٌ فِي الْخِلَافِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الخطيب البغدادي أنه وضع حديثا. وأنكر ذلك ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ: مَا زَالَ هَذَا دَأْبَ الْخَطِيبِ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. قَالَ: وَشَيْخُ الْخَطِيبِ الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ هَذَا هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَسَدٍ الْعُكْبَرِيُّ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَقُولُ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ. قُلْتُ: وَهَذَا غريب فان المعتزلة يقولون بأن الكفار يخلدون في النار، بل يقولون بتخليد أصحاب الكبائر. قال: وعنه حكى الكلام عن ابْنِ بَطَّةَ أَيْضًا
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْحَسَنِ الْحُصَرِيُّ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ شَيْخُ الْمُتَصَوِّفَةِ بِبَغْدَادَ، أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ صَحِبَ الشِّبْلِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ لَمَّا كَبُرَتْ سِنُّهُ بُنِيَ لَهُ الرِّبَاطُ الْمُقَابِلُ لِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ عرف بصاحبه المروزي، وَكَانَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَلَهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ فِي التَّصَوُّفِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ.
وَمِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلَيَّ مِنِّي؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لِي فِيَّ؟ حَتَّى أَخَافَ وَأَرْجُوَ، إِنْ رَحِمَ رَحِمَ ماله،(11/298)
وإن عذب عذب ماله. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثمانين، ودفن بمقبرة دار حَرْبٍ مِنْ بَغْدَادَ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَحْدَبُ الْمُزَوِّرُ
كَانَ قَوِيَّ الْخَطِّ، لَهُ مَلَكَةٌ عَلَى التزوير لا يشاء يكتب على أحد كتابة إِلَّا فَعَلَ، فَلَا يَشُكُّ ذَلِكَ الْمُزَوَّرُ عَلَيْهِ أنه خطه، وحصل للناس به بلاء عَظِيمٍ، وَخَتَمَ السُّلْطَانُ عَلَى يَدِهِ مِرَارًا فَلَمْ يقدر، وكان يزور ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الشَّيْخُ أبو زيد المروزي الشافعيّ
محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد أبو زيد المروزي شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ وَإِمَامُ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ ودخل بغداد وحدث بها فسمع منه الدار قطنى وَغَيْرُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: عَادَلْتُ الشَّيْخَ أَبَا زَيْدٍ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ فَمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً.
وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتَهُ بِكَمَالِهَا فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نُعَيْمٍ: تُوُفِّيَ بِمَرْوَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ الْجَرِيرِيَّ وَابْنَ عَطَاءِ وَغَيْرَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كتابي المسمى بتلبيس إِبْلِيسَ عَنْهُ حِكَايَاتٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ مَذْهَبَ الْإِبَاحِيَّةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ منها جَرَى الْمَاءُ الَّذِي سَاقَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِهِ وَبُسْتَانِهِ. وَفِي صَفَرٍ فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي أَنْشَأَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ، وَقَدْ رَتَّبَ فِيهِ الْأَطِبَّاءَ وَالْخَدَمَ، وَنُقِلَ إليه من الأدوية والأشربة والعقاقير شيئا كثيرا. وَقَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَكَتَمَ أَصْحَابُهُ وفاته حتى أحضروا ولده صمصامة فَوَلَّوْهُ الْأَمْرَ وَرَاسَلُوا الْخَلِيفَةَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَالْوِلَايَةِ
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
أبو شجاع ابن ركن الدولة أبو على الحسين بن بويه الديلميّ، صاحب ملك بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَسَمَّى شَاهِنْشَاهْ، وَمَعْنَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«أَوْضَعُ اسْمٍ- وَفِي رِوَايَةٍ أَخْنَعُ اسم- عند الله رجل تسمى ملك الملوك» وفي رواية «مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضُرِبَتْ لَهُ الدَّبَادِبُ بِبَغْدَادَ، وَأَوَّلُ مَنْ خُطِبَ لَهُ بِهَا مَعَ الْخَلِيفَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ بمدائح هائلة منهم المتنبي وَغَيْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَامِيِّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
إِلَيْكَ طَوَى عَرْضَ الْبَسِيطَةِ جَاعِلٌ ... قُصَارَى الْمَطَايَا أَنْ يَلُوحَ لَهَا الْقَصْرُ
فَكُنْتُ وَعَزْمِي فِي الظلام وصارمى ... ثلاثة القفصي كَمَا اجْتَمَعَ النَّسْرُ(11/299)
وَبَشَّرْتُ آمَالِي بِمَلْكٍ هُوَ الْوَرَى ... وَدَارٍ هِيَ الدنيا ويوم هو الدهر
وَقَالَ الْمُتَنَبِّي أَيْضًا:
هِيَ الْغَرَضُ الْأَقْصَى وَرُؤْيَتُكَ المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
قال وقال أبو بكر أحمد الأرجاني فِي قَصِيدَةٍ لَهُ بَيْتًا فَلَمْ يَلْحَقِ السَّلَامِيَّ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ:
لَقِيتُهُ فَرَأَيْتُ النَّاسَ فِي رَجُلٍ ... وَالدَّهْرَ فِي سَاعَةٍ وَالْأَرْضَ فِي دَارِ
قال: وكتب إليه افتكين مولى أخيه يستمده بجيش إلى دمشق يُقَاتِلُ بِهِ الْفَاطِمِيِّينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ «غرّك عزّك فصار قصاراك ذُلَّكَ، فَاخْشَ فَاحِشَ فِعْلِكَ، فِعَلَّكَ بِهَذَا تُهْدَا» . قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَقَدْ أَبْدَعَ فِيهَا كُلَّ الْإِبْدَاعِ، وَقَدْ جَرَى لَهُ مِنَ التَّعْظِيمِ مِنَ الخليفة ما لم يقع لغيره قبله، وقد اجْتَهَدَ فِي عِمَارَةِ بَغْدَادَ وَالطُّرُقَاتِ، وَأَجْرَى النَّفَقَاتِ على المساكين والمحاويج، وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ وَبَنَى الْمَارَسْتَانَ الْعَضُدِيَّ وَأَدَارَ السُّورَ على مدينة الرسول، فعل ذلك مدة ملكه على العراق، وهي خمسة سِنِينَ، وَقَدْ كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا حَسَنَ السِّيَاسَةِ شَدِيدَ الْهَيْبَةِ بَعِيدَ الْهِمَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يتجاوز في سياسة الْأُمُورَ الشَّرْعِيَّةَ، كَانَ يُحِبُّ جَارِيَةً فَأَلْهَتْهُ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، فَأَمَرَ بِتَغْرِيقِهَا. وَبَلَغَهُ أَنَّ غُلَامًا لَهُ أَخَذَ لِرَجُلٍ بِطِّيخَةً فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُ نصفين، وهذه مبالغة. وكان سبب موته الصرع.
وحين أخذ في عِلَّةُ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَلَامٌ سِوَى تِلَاوَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى (مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) 69: 28- 29 فكان هذا هجيراه حتى مات. وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالْفَضِيلَةَ، وَكَانَ يُقْرَأُ عِنْدَهُ كِتَابُ إِقْلِيدِسَ وَكِتَابُ النَّحْوِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَهُوَ الْإِيضَاحُ وَالتَّكْمِلَةُ الّذي صنفه له.
وَقَدْ خَرَجَ مَرَّةً إِلَى بُسْتَانٍ لَهُ فَقَالَ أَوَدُّ لَوْ جَاءَ الْمَطَرُ، فَنَزَلَ الْمَطَرُ فَأَنْشَأَ يقول:
ليس شرب الراح إِلَّا فِي الْمَطَرْ ... وَغِنَاءٌ مِنْ جِوَارٍ فِي السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات فِي تَضَاعِيفِ الْوَتَرْ
رَاقِصَاتٍ زَاهِرَاتٍ نُجَّلٍ ... رَافِلَاتٍ في أفانين الحبر
مطربات غنجات لحن ... رافضات الهم أمال الفكر
مبرزات الكاس من مطلعها ... مُسَقَّيَاتِ الْخَمْرِ مَنْ فَاقَ الْبَشَرْ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَابْنُ رُكْنِهَا ... مَالِكُ الْأَمْلَاكِ غَلَّابُ الْقَدَرْ
[1]
سَهَّلَ الله إليه نصره ... في ملوك الأرض ما دام القمر
وأراه الخير في أولاده ... ولباس الملك فيهم بالغرر
قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنه قد اجترأ في أبياته هذه فلم يفلح بعدها، فيقال: إنه حين أنشد قوله غلاب القدر، أخذه الله فأهلكه، ويقال: إن هذه الأبيات إنما أنشدت بين يديه
__________
[1] بهامش الأصل: كذب القائل في لحنته. وكذا في شعره أيضا كفر.(11/300)
ثم هلك عقيبها. مات فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحُمِلَ إِلَى مَشْهَدِ على فدفن فيه، وكان فيه رفض وتشيع، وقد كتب على قبره في تربته عِنْدَ مَشْهَدِ عَلِيٍّ: هَذَا قَبْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَتَاجِ الْمَمْلَكَةِ، أَبِي شُجَاعِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، أَحَبَّ مُجَاوَرَةَ هَذَا الْإِمَامِ الْمُتَّقِي لِطَمَعِهِ فِي الْخَلَاصِ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) 16: 111 وَالْحَمْدُ للَّه وَصَلَوَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعِتْرَتِهِ الطَّاهِرَةِ. وَقَدْ تَمَثَّلَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهِيَ لِلْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ:
قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ ... عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى ظَنِّهِ خلقا
وأخليت در الملك من كان باذلا ... فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا وَشَرَّدْتُهُمْ شَرْقَا
فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عزا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رِقَّا
رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي ... فَهَا أَنَا ذَا فِي حُفْرَتِي عَاطِلًا مُلْقَى
فَأَذْهَبْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً ... فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنِّي بمصرعه أشقى؟
ثم جعل يكرر هذه الأبيات وهذه الْآيَةَ (مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) 69: 28- 29 إلى أن مات. وأجلس ابنه صمصامة عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ السَّوَادِ، وَجَاءَهُ الْخَلِيفَةُ معزيا وناح النساء عليه في الأسواق حاسرات عن وجوههن أياما كثيرة، ولما انقضى العزاء ركب ابنه صَمْصَامَةُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ سبع خلع وطوقه وسوره وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ وَلَقَّبَهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ، وَوَلَّاهُ مَا كان يتولاه أبوه، وكان يوما مشهودا.
محمد بن جعفر
ابن أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ وَهْبٍ أبو بكر الجريريّ الْمَعْرُوفُ بِزَوْجِ الْحُرَّةِ، سَمِعَ ابْنَ جَرِيرٍ وَالْبَغَوِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابْنُ رَزْقَوَيْهِ وابن شاهين والبرقاني، وكان أحد العدول الثقات جليل القدر. وذكر ابن الجوزي والخطيب سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِزَوْجِ الْحُرَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ إلى مطبخ أبيه بدار مولاته الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ الْمُقْتَدِرِ باللَّه، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُقْتَدِرُ وَبَقِيَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ سَالِمَةً مِنَ الْكُتَّابِ والمصادرات وكانت كثيرة الأموال، وكان هذا غلاما شابا حدث السن يحمل شيئا من حوائج المطبخ عَلَى رَأْسِهِ فَيَدْخُلُ بِهِ إِلَى مَطْبَخِهَا مَعَ جُمْلَةِ الْخَدَمِ، وَكَانَ شَابًّا رَشِيقًا حَرِكَا، فَنَفَقَ على القهرمانة حتى جعلته كاتبا على المطبخ، ثم ترقى إلى أن صار وكيلا للست على ضياعها، ينظر فيها وفي أموالها، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى صَارَتِ السِّتُّ تحدثه من وراء الحجاب، ثم علقت بِهِ وَأَحَبَّتْهُ وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا فَاسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ وَخَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ فَشَجَّعَتْهُ هِيَ وأعطته أموالا كثيرة ليظهر عليه الحشمة والسعادة مما يُنَاسِبُهَا لِيَتَأَهَّلَ لِذَلِكَ، ثُمَّ شَرَعَتْ تُهَادِي الْقُضَاةَ وَالْأَكَابِرَ، ثُمَّ عَزَمَتْ عَلَى تَزْوِيجِهِ وَرَضِيَتْ بِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْقُضَاةِ، وَاعْتَرَضَ أَوْلِيَاؤُهَا عَلَيْهَا فَغَلَبَتْهُمْ بالمكارم وَالْهَدَايَا، وَدَخَلَ عَلَيْهَا فَمَكَثَتْ مَعَهُ دَهْرًا طَوِيلًا ثم ماتت قبله فورث منها نحو ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَطَالَ عُمُرُهُ بَعْدَهَا حَتَّى كانت وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ(11/301)
والله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة
فِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ حَتَّى بَلَغَ الْكَرُّ مِنَ الطَّعَامِ إِلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَمَاتَ كثير من الناس جوعا، وجافت الطرقات من الموتى من الجوع، ثُمَّ تَسَاهَلَ الْحَالُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَأَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ عَبَّادٍ الْوَزِيرَ بَعَثَ إِلَى أَخِيهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ فَوَلَّاهُ الْمُلْكَ مكانه، فَاسْتَوْزَرَ ابْنَ عَبَّادٍ أَيْضًا عَلَى مَا كَانَ عليه، وَلَمَّا بَلَغَ الْقَرَامِطَةَ مَوْتُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ قَصَدُوا البصرة فيأخذوها مَعَ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ صولحوا على مال كثير فأخذوه وانصرفوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
بُوَيْهِ مُؤَيِّدُ الدولة بن ركن الدولة، وكان مَلِكًا عَلَى بَعْضِ مَا كَانَ أَبُوهُ يَمْلِكُهُ، وَكَانَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ وَزِيرَهُ، وقد تزوج مؤيد الدولة هذا ابنة عَمِّهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَغَرِمَ عَلَى عُرْسِهِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَذَا سَرَفٌ عَظِيمٌ.
بُلُكِّينُ بْنُ زيري بن منادى
الحمدى الصِّنْهَاجِيُّ، وَيُسَمَّى أَيْضًا يُوسُفَ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أمراء المعز الفاطمي، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ حِينَ سَارَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ حظية، وقد بشّر في ليلة واحدة بتسعة عَشَرَ وَلَدًا، وَهُوَ جَدُّ بَادِيسَ الْمَغْرِبِيِّ.
سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ
أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ، وَدَخَلَ الشَّامَ وَصَحِبَ أَبَا الْخَيْرِ الْأَقْطَعَ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةَ سِنِينَ، وَكَانَ لَا يَظْهَرُ فِي الْمَوَاسِمِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ لَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الله بن محمد
ابن عبد الله بن عثمان بن المختار بن محمد المري الْوَاسِطِيُّ، يُعْرَفُ بِابْنِ السَّقَّا، سَمِعَ عَبْدَانَ وَأَبَا يَعْلَى الْمَوْصِلِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَغَوِيَّ، وَكَانَ فَهِمًا حَافِظًا، دَخَلَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا مَجَالِسَ كثيرة من حفظه، وكان يحضره الدار قطنى وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ فَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَ مَرَّةً عَنْ أَبِي يَعْلَى بِحَدِيثٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي أَصْلِهِ بخط الضبيّ، كما حدث به، فبرئ من عهدته.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جرى الصلح بين صمصامة وبين عمه فخر الدولة، فأرسل الخليفة لفخر الدولة خلعا وَتُحَفًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا عمل عرس في درب رياح فَسَقَطَتِ الدَّارُ عَلَى مَنْ فِيهَا فَهَلَكَ أَكْثَرُ النِّسَاءِ بِهَا، وَنُبِشَ مِنْ تَحْتِ الرَّدْمِ فَكَانَتِ الْمُصِيبَةُ عَامَّةً.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةٌ.(11/302)
الحافظ أبى الفتح محمد بن الحسن
ابن أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ الْمُصَنَّفُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي يعلى وطبقته، وضعفه كثير من الحفاظ من أهل زَمَانِهِ، وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِوَضْعِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لِابْنِ بُوَيْهِ، حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ بَغْدَادَ، فَسَاقَهُ بِإِسْنَادٍ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ صُورَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ» . فَأَجَازَهُ وَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً. وَالْعَجَبُ إِنْ كان هذا صحيحا كيف راج عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَعَقْلٍ، وَقَدْ أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وستين.
وفيها توفى
الخطيب ابن نباتة الحذاء
في بطن من قضاعة، وقيل إياد الفارقيّ خطيب حلب في أَيَّامَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَلِهَذَا أَكْثَرُ دِيوَانِهِ الْخُطَبُ الْجِهَادِيَّةُ، وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَى مَثَلِ ديوانه هذا، ولا يلحق إلا أن يشاء الله شيئا، لأنه كان فصيحا بليغا دَيِّنًا وَرِعًا، رَوَى الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْكِنْدِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةٍ بِخُطْبَةِ الْمَنَامِ ثُمَّ رَأَى لَيْلَةَ السَّبْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: مرحبا بخطيب الخطباء، ثم أومأ إلى قبور هناك فقال لابن نباتة: كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلْعُيُونِ قُرَّةً، وَلَمْ يُعَدُّوا في الأحياء مرّة، أبادهم الّذي خلقهم، وأسكنتهم الّذي أنطقهم، وسيجدّهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، فتم الْكَلَامَ ابْنُ نُبَاتَةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ (يوم تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ 22: 78- وأشار إلى الصحابة الذين مع الرسول- وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) 2: 143 وَأَشَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: أَحْسَنْتَ أحسنت أدنه أدنه، فقبّل وَجْهَهُ وَتَفَلَ فِي فِيهِ- وَقَالَ: وَفَّقَكَ اللَّهُ. فَاسْتَيْقَظَ وَبِهِ مِنَ السُّرُورِ أَمْرٌ كَبِيرٌ، وَعَلَى وجهه بهاء ونور، ولم يعش بعد ذلك إلا سبعة عشر يوما لم يستطعم بطعام، وكان يوجد منه مِثْلُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ الْفَارِقِيُّ: وُلِدَ ابْنُ نُبَاتَةَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. حَكَاهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وسبعين وثلاثمائة
فيها خلع الخليفة على صمصامة الدَّوْلَةِ وَسَوَّرَهُ وَطَوَّقَهُ وَأُرْكِبَ عَلَى فَرَسٍ بِسَرْجٍ ذَهَبٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَنِيبٌ مِثْلُهُ، وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ سَادَةِ الْقَرَامِطَةِ وَهُمَا إسحاق وجعفر، دخلا الكوفة في حفل عظيم فانزعجت النفوس بسبب ذلك، وذلك لصرامتهما وشجاعتهما، ولأن عضد الدولة مع شجاعته كان يصانعهما، وأقطعهما أراضى من أراضى وَاسِطٍ، وَكَذَلِكَ عِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ قَبْلِهِ أَيْضًا. فجهز إليهما صمصامة جيشا فطردهما عَنْ تِلْكَ النَّوَاحِي الَّتِي قَدْ أَكْثَرُوا فِيهَا الفساد، وبطل ما كان في نفوس الناس منهما. وفيها عزم صمصامة الدَّوْلَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ مَكْسًا عَلَى الثِّيَابِ الابريسميات، فاجتمع الناس بجامع المنصور وأرادوا تعطيل الْجُمُعَةِ وَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَهُمْ فَأُعْفُوا مِنْ ذلك.(11/303)
وفي ذي الحجة ورد الخبر بموت مؤيد الدولة فجلس صمصامة للعزاء، وجاء إليه الخليفة معزيا له فقام إليه صمصامة وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَخَاطَبَا فِي الْعَزَاءِ بألفاظ حسنة.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ.
أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة
واسمه الحسن بن الحسين، وهو أَحَدُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ اخْتِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ غَرِيبَةٌ في المذهب وقد ترجمناه في طبقات الشافعية.
الحسين بن على
ابن مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَبُو أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ الْمَعْرُوفُ بحسنك، كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَتِلْمِيذًا لَهُ، وكان يقدمه على أولاده ويقر له ما لا يقر لِغَيْرِهِ، وَإِذَا تَخَلَّفَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ مَجَالِسِ السلطان بعث حسنك مَكَانَهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ خُزَيْمَةَ كَانَ عُمُرُ حسنك ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَمَّرَ بَعْدَهُ دَهْرًا طَوِيلًا، وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ عِبَادَةً وَقِرَاءَةً للقرآن، لا يترك قيام الليل حضرا ولا سفرا، كثيرا الصدقات وَالصِّلَاتِ، وَكَانَ يَحْكِي وُضُوءَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَصَلَاتَهُ، ولم يكن فِي الْأَغْنِيَاءِ أَحْسَنُ صَلَاةً مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ.
أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، نَزَلَ نَيْسَابُورَ ثُمَّ سَكَنَ بَغْدَادَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ. وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الْفَتْوَى فَيُجِيبُ بَعْدَ تَفَكُّرٍ طَوِيلٍ، فَرُبَّمَا كَانَتْ فَتْوَاهُ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: وَيَلَكُمُ رَوَى فَلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى من الأخذ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُخَالَفَتُهُمَا أَسْهَلُ مِنْ مخالفة الحديث. قال ابْنُ خَلِّكَانَ:
وَلَهُ فِي الْمَذْهَبِ وُجُوهٌ جَيِّدَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَتَانَةِ عِلْمِهِ، وَكَانَ يُتَّهَمُ بِالِاعْتِزَالِ، وكان قد أخذ العلم عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْحَدِيثَ عَنْ جَدِّهِ لِأُمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارَكِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ عَامَّةُ شُيُوخِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ، وَقِيلَ فِي ذِي القعدة منها، وقد نيف على السبعين رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ
أَبُو سَهْلٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَيُعْرَفُ بِالْحَسْنَوِيِّ، كَانَ فَقِيهًا شافعيا أديبا محدثا مشتغلا بنفسه عمالا يعنيه
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ
أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، سَمِعَ مِنِ ابن أبى عمرويه وَالْبَاغَنْدِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي شَرْحِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَعُرِضَ عليه(11/304)
الْقَضَاءُ فَأَبَاهُ وَأَشَارَ بِأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ الْحَنَفِيِّ، فلم يقبل الآخر أيضا. توفى فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وسبعين وثلاثمائة
قال ابن الجوزي: في محرمها كثرت الحيات في بغداد فهلك بسبب ذلك خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَلِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ- وكان يوم العشرين مِنْ تَمُّوزَ- وَقَعَ مَطَرٌ كَثِيرٌ بِبَرْقٍ وَرَعْدٍ. وفي رجب غلت الأسعار جدا وَوَرَدَ الْخَبَرُ فِيهِ بِأَنَّهُ وَقَعَ بِالْمَوْصِلِ زَلْزَلَةٌ عظيمة سقط بسببها عُمْرَانٌ كَثِيرٌ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ. وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ أَخِيهِ شرف الدولة فاقتتلا فغلبه شرف الدولة وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ وَهَنَّأَهُ بِالسَّلَامَةِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى شَرَفُ الدَّوْلَةِ بِفَرَّاشٍ لِيُكَحِّلَ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ فاتفق موته فأكحله بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ مَا وَقَعَ. وفي ذي الحجة منها قبل قاضى القضاة أبو محمد ابن معروف شهادة القاضي الحافظ أبى الحسن الدار قطنى، وأبى محمد بن عقبة، فذكر أن الدار قطنى ندم على ذلك وقال: كان ويقبل قَوْلِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدِي فَصَارَ لَا يُقْبَلُ قَوْلِي عَلَى نقلي إلا مع غيري.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة
في صفرها عُقِدَ مَجْلِسٌ بِحَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ فِيهِ الْقُضَاةُ وَأَعْيَانُ الدولة وجددت البيعة بين الطائع وَبَيْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَكَانَ يوما مشهودا، ثم في ربيعها الأول ركب شرف الدولة من داره إلى دار الخليفة وزينت البلد وضربت البوقات والطبول والدبادب، فخلع عليه الخليفة وسوره وأعطاه لواءين معه، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى مَا وَرَاءَ دَارِهِ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَدِمَ مَعَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْرُوفٍ، فَلَمَّا رَآهُ الخليفة قال:
مرحبا بالأحبة القادمينا ... أو حشونا وطال ما آنَسُونَا
فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَلَمَّا قضيت البيعة دخل شرف الدولة على أُخْتِهِ امْرَأَةِ الْخَلِيفَةِ فَمَكَثَ عِنْدَهَا إِلَى الْعَصْرِ وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ، ثُمَّ خَرَجَ وَسَارَ إِلَى دَارِهِ للتهنئة. وفيها اشْتَدَّ الْغَلَاءُ جِدًّا ثُمَّ لَحِقَهُ فَنَاءٌ كَثِيرٌ. وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ شَرَفِ الدَّوْلَةِ- وَكَانَتْ تُرْكِيَّةً أم ولد- فجاءه الخليفة فعزاه. وفيها ولد لشرف الدولة ابنان توأمان.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الطَّبَرِيِّ، كَانَ حَافِظًا لِلْحَدِيثِ مُجْتَهِدًا فِي العبادة، متقنا بصيرا بالأثر، فقيها حنفيا درس على أبى الحسين الْكَرْخِيِّ وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي الْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِخُرَاسَانَ، ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ وَقَدْ عَلَتْ سِنُّهُ، فَحَدَّثَ النَّاسَ وَكَتَبَ النَّاسُ عَنْهُ، منهم الدار قطنى.(11/305)
إسحاق بن المقتدر باللَّه
توفى ليلة الجمعة لسبع عشر مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْقَادِرُ باللَّه وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أمير المؤمنين، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ جَدَّتِهِ شَغَبَ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، وحضر جنازته الأمراء والأعيان من جهة الخليفة وشرف الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مَنْ عَزَّى الْخَلِيفَةَ فيه، واعتذر من الْحُضُورِ لِوَجَعٍ حَصَلَ لَهُ
جَعْفَرُ بْنُ الْمُكْتَفِي باللَّه
كان فاضلا توفى فيها أيضا.
أبو على الفارسي النحويّ
صاحب الإيضاح والمصنفات الكثيرة، وُلِدَ بِبَلَدِهِ ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ وَخَدَمَ الْمُلُوكَ وَحَظِيَ عِنْدَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِحَيْثُ إِنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ كَانَ يَقُولُ أَنَا غُلَامُ أَبِي عَلِيٍّ في النحو، وحصلت لَهُ الْأَمْوَالَ، وَقَدِ اتَّهَمَهُ قَوْمٌ بِالِاعْتِزَالِ وَفَضَّلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْمُبَرِّدِ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عنه أبو عثمان بن جنى وغيره، توفى فيها عن بضع وتسعين سنة.
سُتَيْتَةُ
بِنْتُ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بن إسماعيل المحاملي، وتكنى أم عبد الْوَاحِدِ، قَرَأَتِ الْقُرْآنَ وَحَفِظَتِ الْفِقْهَ وَالْفَرَائِضَ وَالْحِسَابَ والدرر وَالنَّحْوَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ فِي وَقْتِهَا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ تُفْتِي بِهِ مَعَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَتْ فَاضِلَةً فِي نَفْسِهَا كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ، مُسَارِعَةً إلى فعل الخيرات، وقد سمعت الحديث أيضا، وكانت وفاتها في رجب عن بضع وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة
في محرمها كثر الغلاء والفناء ببغداد إلى شعبان كثرت الرياح والعواصف، بحيث هدمت كثيرا من الأبنية، وغرق شيء كثير من السفن، وَاحْتَمَلَتْ بَعْضَ الزَّوَارِقِ فَأَلْقَتْهُ بِالْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ جُوخَى، وَهَذَا أَمَرٌ هَائِلٌ وَخَطْبٌ شَامِلٌ. وَفِي هَذَا الْوَقْتِ لَحِقَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ حَرٌّ شَدِيدٌ بِحَيْثُ سَقَطَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الطُّرُقَاتِ وماتوا من شدته.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ
أبو عبد الله المقري، وُلِدَ أَعْمَى، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ فيحفظ ما يقول وما يُمْلِيهِ كُلَّهُ، وَكَانَ ظَرِيفًا حَسَنَ الزِّيِّ، وَقَدْ سَبَقَ الشَّاطِبِيَّ إِلَى قَصِيدَةٍ عَمِلَهَا فِي الْقِرَاءَاتِ السبع، وذلك في حياة النقاش، وكانت تعجبه جدا، وكذلك شيوخ ذلك الزمان أذعنوا اليها.
الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زمانه، كان مقدما في الفقه والحديث، سمع ابن جرير والبغوي وابن صاعد وغيرهم، ولهذا سمى باسم النحويّ المتقدم.(11/306)
زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ الْهَيْثَمِ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَرْخَانِيُّ بِخَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى قُومِسَ، وَلَهُمُ الْجُرْجَانِيُّ بِجِيمَيْنِ، وهم جماعة، ولهم الخرجانى بخاء معجمة ثم جيم. وقد حرر هذه المواضع الشيخ ابن الجوزي في منتظمه
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيِّ، وَكَانَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى قَصْرِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَنْ إِشَارَةِ الْأَطِبَّاءِ لِصِحَّةِ الْهَوَاءِ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنَ الدَّاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي جُمَادَى الْأُولَى تَزَايَدَ بِهِ وَمَاتَ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ أَبِي نَصْرٍ، وَجَاءَ الْخَلِيفَةُ في طيارة لتعزيته في والده فتلقاه أبو نصر والترك بين يديه والديلم، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ العسكر والخليفة في الطيارة وَهُمْ يُقَبِّلُونَ الْأَرْضَ إِلَى نَاحِيَتِهِ. وَجَاءَ الرَّئِيسُ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ عند الخليفة إلى أبى نصر فبلغه تعزيته له في والده فقبّل الأرض أيضا ثَانِيَةً، وَعَادَ الرَّسُولُ أَيْضًا إِلَى الْخَلِيفَةِ فَبَلَّغَهُ شكر الأمير، ثُمَّ عَادَ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ لِتَوْدِيعِ أَبِي نصر فقبل الأرض ثالثا، ورجع الخليفة. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ عَاشِرُ هَذَا الشَّهْرِ رَكِبَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ إِلَى حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ للَّه وَمَعَهُ الْأَشْرَافُ وَالْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، وَجَلَسَ الْخَلِيفَةُ فِي الرِّوَاقِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْأَمِيرُ أبو نصر خَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ سَبْعَ خِلَعٍ أَعْلَاهُنَّ السَّوَادُ وَعِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي عُنُقِهِ طَوْقٌ وَفِي يَدِهِ سِوَارَانِ وَمَشَى الْحُجَّابُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسُّيُوفِ وَالْمَنَاطِقِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ ثَانِيَةً وَوُضِعَ لَهُ كُرْسِيٌّ فَجَلَسَ عليه وقرأ الرئيس أبو الحسن عهده، وقدم إلى الطائع لواء فَعَقَدَهُ بِيَدِهِ وَلَقَّبَهُ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ وَضِيَاءَ الْمِلَّةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَالْعَسْكَرُ مَعَهُ حَتَّى عَادَ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَأَقَرَّ الْوَزِيرَ أبا منصور بن صالح على الوزارة وخلع عليه. وفيها بُنِيَ جَامِعُ الْقَطِيعَةِ- قَطِيعَةُ أُمِّ جَعْفَرٍ- بِالْجَانِبِ الغربي من بغداد، وكان أصل بناء هذا المسجد أن امرأة رأت في منامها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي في مكانه، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي جِدَارٍ هُنَاكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ فذكرت ذلك فَوَجَدُوا أَثَرَ الْكَفِّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَبُنِيَ مَسْجِدًا ثُمَّ تُوُفِّيَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّرِيفَ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوسَوِيَّ جدده وجعله جامعا، وصلى الناس فيه في هذه السنة.
وفيها توفى من الأعيان.
شرف الدولة
ابن عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ، تَمَلَّكَ بَغْدَادَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيَبْغَضُ الشَّرَّ، وَأَمَرَ بِتَرْكِ الْمُصَادَرَاتِ. وَكَانَ مَرَضُهُ بِالِاسْتِسْقَاءِ فَتَزَايَدَ بِهِ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى تربة أبيه بمشهد على، وكلهم فيهم تشيع ورفض.(11/307)
محمد بن جعفر بن العباس
أبو جعفر، وأبو بكر النجار، ويلقب غندر أَيْضًا، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ وَطَبَقَتِهِ، وكان فهما يفهم القرآن فهما حسنا وهو من ثقات الناس.
عبد الكريم بن عبد الكريم
ابن بُدَيْلٍ أَبُو الْفَضْلِ الْخُزَاعِيُّ الْجُرْجَانِيُّ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا. قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِالْقِرَاءَاتِ وَصَنَّفَ أَسَانِيدَهَا، ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَخْلِطُ وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَى مَا يَرْوِيهِ، وَأَنَّهُ وَضَعَ كِتَابًا فِي الْحُرُوفِ وَنَسَبَهُ إِلَى أبى حنيفة، فكتب الدار قطنى وَجَمَاعَةٌ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ، فَافْتَضَحَ وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْجَبَلِ فَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ هُنَاكَ وَحَبِطَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَكَانَ يُسَمِّي نفسه أولا جميلا، ثم غيره إلى محمد
محمد بن المطرف
ابن مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ إِيَاسٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَزَّارُ الْحَافِظُ، وُلِدَ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى بِلَادٍ شَتَّى، وَرَوَى عَنِ ابْنِ جرير البغوي وَخَلْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ- مِنْهُمُ الدار قطنى- شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ يُعَظِّمُهُ وَيُجِلُّهُ وَلَا يَسْتَنِدُ بحضرته، كان ثقة ثبتا، وكان قديما ينتقد على المشايخ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ يَوْمَ السَّبْتَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الأولى أو الأخرى منها.
ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة من الهجرة
فِيهَا قُلِّدَ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْمُوسَوِيُّ نِقَابَةَ الْأَشْرَافِ الطَّالِبِيِّينَ وَالنَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ وَإِمْرَةَ الْحَاجِّ، وَكُتِبَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ وَاسْتُخْلِفَ ولداه المرتضى أبو القاسم والرضى أبو الحسين على النقابة وخلع عليهما. وفيها تفاقم الأمر بالعيارين بِبَغْدَادَ وَصَارَ النَّاسُ أَحْزَابًا فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ أَمِيرٌ مُقَدَّمٌ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ وَأُخِذَتِ الْأَمْوَالُ وَاتَّصَلَتِ الكبسات وأحرقت دور كبار، وَوَقَعَ حَرِيقٌ بِالنَّهَارِ فِي نَهْرِ الدَّجَاجِ، فَاحْتَرَقَ بسببه شيء كثير للناس والله أعلم.
وفيها توفى من الأعيان
يعقوب بن يوسف
أبو الفتوح بن كلس، وزير العزيز صاحب مصر، وكان شهما فهما ذا همة وتدبير وَكَلِمَةٍ نَافِذَةٍ عِنْدَ مَخْدُومِهِ، وَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَهُ فِي سَائِرِ مَمْلَكَتِهِ، وَلَمَّا مَرِضَ عَادَهُ العزيز ووصاه الوزير بأمر مملكته وَلَمَّا مَاتَ دَفَنَهُ فِي قَصْرِهِ وَتَوَلَّى دَفْنَهُ بِيَدِهِ وَحَزِنَ عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَأَغْلَقَ الدِّيوَانَ أَيَّامًا مِنْ شِدَّةِ حُزْنِهِ عَلَيْهِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وثمانين وثلاثمائة
فِيهَا كَانَ الْقَبْضُ عَلَى الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ للَّه وخلافة والقادر باللَّه أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ إِسْحَاقَ ابن المقتدر باللَّه، وكان ذلك في يوم السبت التاسع عشر من شعبان منها، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ عَلَى عَادَتِهِ فِي الرِّوَاقِ وَقَعَدَ الْمَلِكُ بِهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ مَنِ اجْتَذَبَ الْخَلِيفَةَ بِحَمَائِلِ سَيْفِهِ(11/308)
عَنِ السَّرِيرِ وَلَفُّوهُ فِي كِسَاءٍ وَحَمَلُوهُ إِلَى الْخِزَانَةِ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَتَشَاغَلَ النَّاسُ بِالنَّهْبِ وَلَمْ يدر أكثر الناس ما الخطب وما الخبر، حتى أن كبير المملكة بهاء الدولة ظن الناس أنه هو الّذي مسك، فنهبت الخزائن والحواصل والقفصي مِنْ أَثَاثِ دَارِ الْخِلَافَةِ، حَتَّى أُخِذَتْ ثِيَابُ الْأَعْيَانِ وَالْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ وَجَرَتْ كَائِنَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَرَجَعَ بِهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِهِ وَكَتَبَ عَلَى الطائع كتابا بالخلع من الخلافة، وأشهد عليه الأشراف وغيرهم أنه قد خلع نفسه من الْخِلَافَةِ وَسَلَّمَهَا إِلَى الْقَادِرِ باللَّه، وَنُودِيَ بِذَلِكَ في الأسواق، وسبقت الدَّيْلَمُ وَالْأَتْرَاكُ وَطَالَبُوا بِرَسْمِ الْبَيْعَةِ، وَرَاسَلُوا بَهَاءَ الدَّوْلَةِ فِي ذَلِكَ وَتَطَاوَلَ الْأَمَرُ فِي يَوْمِ الجمعة، ولم يُمَكَّنُوا مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِصَرِيحِ اسمه، بل قالوا اللَّهمّ أصلح عبدك وخليفتك القادر باللَّه، ثم أرضوا وجوههم وأكابرهم وأخذت البيعة له وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ، وَأَمَرَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِتَحْوِيلِ جَمِيعِ ما في دار الخلافة من الأواني والإناث وغيره إلى داره، وأبيحت للعامة والخاصة، فقلعوا وشعثوا أبنيتها، هذا وَالْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ قَدْ هَرَبَ إِلَى أَرْضِ الْبَطِيحَةِ من الطائع حين كان يطلبه، ولما رجع إلى بغداد ما نعته الدَّيْلَمُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا حَتَّى يُعْطِيَهُمْ رَسْمَ الْبَيْعَةِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ رَضُوا عنه ودخل بغداد، وكانت مدة هربه إلى أرض البطيحة ثلاث سنين. ولما دخل بغداد جلس في اليوم الثاني جلوسا عاما إلى التهنئة وَسَمَاعِ الْمَدَائِحِ وَالْقَصَائِدِ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الأخير من شوال، ثم خلع على بهاء الدولة وفوض إليه ما وراء بابه، وكان الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ باللَّه مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ وَسَادَاتِ العلماء في ذلك الزمان، وكان كثير الصدقة حسن الاعتقاد، وصنف قصيدة فِيهَا فَضَائِلُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَكَانَتْ تُقْرَأُ فِي حِلَقِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كُلَّ جُمُعَةٍ فِي جَامِعِ الْمَهْدِيِّ، وَتَجْتَمِعُ النَّاسُ لِسَمَاعِهَا مُدَّةَ خِلَافَتِهِ، وَكَانَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ يَتَرَنَّمُ بِهَا وَهِيَ لِسَابِقٍ الْبَرْبَرِيِّ:
سَبَقَ الْقَضَاءُ بِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنُ ... وَاللَّهُ يَا هَذَا لِرِزْقِكَ ضَامِنُ
تُعْنَى بما تكفى وتترك ما به ... تعنى كَأَنَّكَ لِلْحَوَادِثِ آمِنُ
أَوَ مَا تَرَى الدُّنْيَا وَمَصْرَعَ أَهْلِهَا ... فَاعْمَلْ لِيَوْمِ فِرَاقِهَا يَا خَائِنُ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لَا أَبًا لَكَ فِي الَّذِي ... أَصْبَحْتَ تَجْمَعُهُ لِغَيْرِكَ خَازِنُ
يَا عَامِرَ الدُّنْيَا أَتَعْمُرُ مَنْزِلًا ... لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَعَ الْمَنِيَّةِ سَاكِنُ
الْمَوْتُ شَيْءٌ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ ... حُقٌّ وَأَنْتَ بِذِكْرِهِ مُتَهَاوِنُ
إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَا تُؤَامِرُ مَنْ أَتَتْ ... فِي نَفْسِهِ يَوْمًا وَلَا تَسْتَأْذِنُ
وفي اليوم الثالث عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ- وَهُوَ يَوْمُ غَدِيرِ خُمٍّ- جَرَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ وَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، واستظهر أهل باب البصرة وحرقوا أَعْلَامَ السُّلْطَانِ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ اتُّهِمُوا بِفِعْلِ ذَلِكَ، وصلبوا على القناطر ليرتدع أمثالهم. وفيها ظهر أبو الفتوح الحسين بن جعفر(11/309)
الْعُلْوِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ، وَادَّعَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ، وَسَمَّى نَفْسَهُ الرَّاشِدَ باللَّه، فَمَالَأَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَحَصَلَ لَهُ أَمْوَالٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْصَى لَهُ بِهَا، فانتظم أمره بها، وَتَقَلَّدَ سَيْفًا وَزَعَمَ أَنَّهُ ذُو الْفَقَارِ، وَأَخَذَ بيده قَضِيبًا زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَصَدَ بِلَادَ الرَّمْلَةِ لِيَسْتَعِينَ بِعَرَبِ الشَّامِ، فَتَلَقَّوْهُ بِالرَّحْبِ وَقَبَّلُوا لَهُ الْأَرْضَ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَظْهَرَ الْأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ صَاحِبَ مِصْرَ- وَكَانَ قَدْ قَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ الْعَزِيزِ فِي هَذِهِ السنة- بعث إلى عرب الشام بملطفات وَوَعَدَهُمْ مِنَ الذَّهَبِ بِأُلُوفٍ وَمِئَاتٍ، وَكَذَلِكَ إِلَى عَرَبِ الْحِجَازِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى مَكَّةَ أَمِيرًا وَبَعَثَ إليه بخمسين أَلْفَ دِينَارٍ، فَانْتَظَمَ أَمْرُ الْحَاكِمِ وَتَمَزَّقَ أَمْرُ الراشد، وانسحب إِلَى بِلَادِهِ كَمَا بَدَأَ مِنْهَا، وَعَادَ إِلَيْهَا كما خرج عَنْهَا، وَاضْمَحَلَّ حَالُهُ وَانْتَقَضَتْ حِبَالُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ رجاله.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ الحسن بن مهران
أبو بكر المقري، توفى فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمِ وَفَاتِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْعَامِرِيُّ الْفَيْلَسُوفُ، فَرَأَى بَعْضُ الصَّالِحِينَ أحمد بن الحسين بن مهران هذا فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: أقام أبا الحسن العامري بجانبي، وقال هذا فداؤك من النار.
عبد اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْرُوفٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ قاضى قضاة بَغْدَادَ، رَوَى عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ وَعَنْهُ الْخَّلَالُ والأزهري وغيرهما، وكان من العلماء الثقات العقلاء الفطناء، حسن الشكل جميل اللبس، عفيفا من الأموال، تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أربعا، ثم دفن في داره سامحه الله.
جَوْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَائِدُ بَانِي الْقَاهِرَةِ، أصله أرمنى ويعرف بالكاتب، أخذ مصر بعد موت كافور الإخشيدي، أرسله مولاه العزيز الفاطمي إليها فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فوصل إليها فِي شَعْبَانَ مِنْهَا فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، ومائتي صندوق لينفقه في عمارة القاهرة، فبرزوا لِقِتَالِهِ فَكَسَرَهُمْ وَجَدَّدَ الْأَمَانَ لِأَهْلِهَا، وَدَخَلَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ، فَشَقَّ مِصْرَ وَنَزَلَ فِي مَكَانِ الْقَاهِرَةِ الْيَوْمَ، وَأَسَّسَ مِنْ لَيْلَتِهِ الْقَصْرَيْنِ وَخَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْآتِيَةِ لمولاه، وقطع خطبة بنى العباس، وذكر في خطبته الأئمة الاثني عشر، وأمر فأذن بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَكَانَ يُظْهِرُ الْإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ، وَيَجْلِسُ كُلَّ يَوْمِ سَبْتٍ مَعَ الوزير ابن الْفُرَاتِ وَالْقَاضِي، وَاجْتَهَدَ فِي تَكْمِيلِ الْقَاهِرَةِ وَفَرَغَ من جامعها الأزهر سَرِيعًا، وَخَطَبَ بِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وهو الّذي يقال له الجامع الْأَزْهَرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ إِلَى الشام فأخذها، ثم قدم مولاه المعز في سنة اثنتين وَسِتِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَزَلَ بِالْقَصْرَيْنِ(11/310)
ولم تزل منزلته عالية عنده إلى أن مات في هذه السنة، وقام مكانه الْحُسَيْنُ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ قَائِدُ الْقُوَّادِ، وهو أكبر أمراء الحاكم، ثُمَّ كَانَ قَتْلُهُ عَلَى يَدَيْهِ فِي سِنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقُتِلَ مَعَهُ صِهْرُهُ زَوْجُ أُخْتِهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ النُّعْمَانِ، وَأَظُنُّ هَذَا القاضي هو الّذي صنف الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ، وَالنَّامُوسِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ مَا لَمْ يَصِلْ إِبْلِيسُ إِلَى مِثْلِهِ، وقد رد على هذا الكتاب أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثنتين وثمانين وثلاثمائة
في عاشر محرمها أمر الْوَزِيرُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَوْكَبِيُّ- وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى السلطان- أهل الْكَرْخِ وَبَابِ الطَّاقِ مِنَ الرَّافِضَةِ بِأَنْ لَا يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ الَّتِي كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهَا فِي عَاشُورَاءَ: مِنْ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ وَتَغْلِيقِ الْأَسْوَاقِ وَالنِّيَاحَةِ عَلَى الْحُسَيْنِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وللَّه الْحَمْدُ. وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ طماعا، رسم أن لا يقبل أحدا من الشهود ممن أحدثت عدالته بعد ابن معروف، وكان كثيرا مِنْهُمْ قَدْ بَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي ذَلِكَ، فَاحْتَاجُوا إِلَى أَنْ جَمَعُوا لَهُ شَيْئًا فَوَقَعَ لَهُمْ بِالِاسْتِمْرَارِ، وَلَمَّا كَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَعَتِ الدَّيْلَمُ وَالتُّرْكُ عَلَى ابْنِ الْمُعَلِّمِ هَذَا وَخَرَجُوا بِخِيَامِهِمْ إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ وَرَاسَلُوا بَهَاءَ الدولة ليسلمه إليهم، لسوء معاملته لهم، فدافع عنه مدافعة عظيمة في أيام مُتَعَدِّدَةٍ، وَلَمْ يَزَالُوا يُرَاسِلُونَهُ فِي أَمْرِهِ حَتَّى خنقه في حبل ومات ودفن بالمحرم. وفي رجب منها سلم الخليفة الطائع الّذي خلع إلى الخليفة القادر فَأَمَرَ بِوَضْعِهِ فِي حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ وَأَمَرَ أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِ الْأَرْزَاقُ وَالتُّحَفُ وَالْأَلْطَافُ، مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وطيب وغيره وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ وَيَخْدِمُهُ، وَكَانَ يَتَعَنَّتُ عَلَى الْقَادِرِ فِي تَقَلُّلِهِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ، فرتب من يحضر له من سائر الأنواع، ولم يزالوا كَذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ وَهُوَ فِي السِّجْنِ. وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ وَلَدٌ ذَكَرٌ، وَهُوَ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَادِرِ باللَّه، وَقَدْ وَلَّاهُ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ وَسَمَّاهُ الْغَالِبَ باللَّه، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ الْأَمْرُ. وَفِي هَذَا الْوَقْتِ غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ حَتَّى بِيعَ رَطْلُ الخبز بأربعين درهما، والجزر بدرهم. وفي ذي القعدة قام صاحب الصفراء الْأَعْرَابِيُّ وَالْتَزَمَ بِحِرَاسَةِ الْحُجَّاجِ فِي ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ، وأن يُخْطَبَ لِلْقَادِرِ مِنَ الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَأُطْلِقَتْ لَهُ الْخِلَعُ وَالْأَمْوَالُ والأواني وغيرها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مُحَمَّدُ بْنُ العباس
ابن محمد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى بْنِ معاذ أبو عمر القزاز المعروف بابن حيوة، سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَالْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ صَاعِدٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا، وانتقد عليه الدار قطنى وَسَمِعَ مِنْهُ الْأَعْيَانُ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا مُتَيَقِّظًا ذَا مُرُوءَةٍ، وَكَتَبَ مِنَ الْكُتُبِ الْكِبَارِ كَثِيرًا بِيَدِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا وقد(11/311)
قارب التسعين
أبو أحمد العسكري
الحسن بن عبد الله بن سعيد أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَالنَّحْوِ وَالنَّوَادِرِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفُ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا التَّصْحِيفُ وغيره، وكان الصاحب بن عباد يوم الاجتماع به فسافر إلى عسكر خلفه حَتَّى اجْتَمَعَ بِهِ فَأَكْرَمَهُ وَرَاسَلَهُ بِالْأَشْعَارِ. تُوُفِّيَ فيها وله تسعون سنة. كذا ذكره ابْنُ خَلِّكَانَ. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَنْ تُوُفِّيَ في سنة سبع وثمانين كما سيأتي.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة
فِيهَا أَمَرَ الْقَادِرُ باللَّه بِعِمَارَةِ مَسْجِدِ الْحَرْبِيَّةِ وَكِسْوَتِهِ، وَأَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْجَوَامِعِ فِي الْخُطَبِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي جواز ذلك. قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ. أَدْرَكْتُ الْجُمُعَةَ تُقَامُ بِبَغْدَادَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ الرَّصَافَةِ، وَمَسْجِدِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَمَسْجِدِ بَرَاثَا، وَمَسْجِدِ قَطِيعَةَ أُمِّ جَعْفَرٍ، وَمَسْجِدِ الْحَرْبِيَّةِ. قَالَ: وَلَمْ يَزَلِ الْأَمَرُ عَلَى هَذَا إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَتَعَطَّلَتْ فِي مَسْجِدِ بَرَاثَا. وَفِي جُمَادَى الْأُولَى فُرِغَ مِنَ الْجِسْرِ الَّذِي بَنَاهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ فِي مَشْرَعَةِ الْقَطَّانِينَ، وَاجْتَازَ عَلَيْهِ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ زين المكان. وفي جمادى الآخرة شعثت الديالم والأتراك في نواحي البلد لتأخر العطاء عنهم، وغلت الأسعار وراسلوا بهاء الدولة فأزيحت عللهم.
وفي يوم الخميس الثاني من ذي القعدة تَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ سُكَيْنَةَ بِنْتَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَى صداق مائة ألف دينار وكان وكيل بهاء الدولة الشريف أبو أحمد الموسوي، ثم تُوُفِّيَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ دُخُولِ الْخَلِيفَةِ بِهَا. وفيها ابْتَاعَ الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرٍ سَابُورُ بْنُ أَزْدَشِيرَ دارا بالكرخ وجدد عمارتها، وَنَقَلَ إِلَيْهَا كُتُبًا كَثِيرَةً، وَوَقَّفَهَا عَلَى الْفُقَهَاءِ، وَسَمَّاهَا دَارَ الْعِلْمِ. وَأَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ أَوَّلُ مدرسة وقفت على الفقهاء، وكانت قبل النظامية بمدة طويلة. وفيها في أواخرها ارتفعت الأسعار وضاق الحال وجاع العيال.
وفيها توفى مِنَ الْأَعْيَانِ
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَسَنِ بن شاذان بن حرب بن مهران، أبو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ صاعد وابن أبى داود وابن دريد، وعنه الدار قطنى والبرقاني والأزهري وغيرهم، وكان ثَبْتًا صَحِيحَ السَّمَاعِ، كَثِيرَ الْحَدِيثِ، مُتَحَرِّيًا وَرِعًا. تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فيها عظم الخطب بأمر العيارين، عاثوا ببغداد فسادا وأخذوا الأموال والعملات الثقال ليلا ونهارا، وحرقوا مواضع كَثِيرَةً، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَسْوَاقِ الْجِبَايَاتِ، وَتَطَلَّبَهُمُ الشُّرَطُ فلم يفد ذلك شيئا ولا فكروا في الدولة، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الرِّجَالِ، وَإِرْعَابِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فِي سَائِرِ الْمَحَالِّ. فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِمْ تَطَلَّبَهُمُ السُّلْطَانُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَأَلَحَّ فِي طَلَبِهِمْ فهربوا(11/312)
بين يديه واستراح الناس من شرهم. وأظن هذه الحكايات التي يذكرها بعض الناس عن أحمد الدنف عنهم، أو كان منهم والله أعلم.
وفي ذي القعدة عزل الشريف الموسوي وولداه عن نقابة الطالبيين. وفيها رجع ركب العراق من أثناء الطريق بعد ما فاتهم الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُصَيْفِرَ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي كَانَ قَدْ تَكَفَّلَ بِحِرَاسَتِهِمُ اعْتَرَضَ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وذكر لهم أن الدنانير التي أقطعت لَهُ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ كَانَتْ دَرَاهِمَ مَطْلِيَّةً، وأنه يريد من الحجيج بدلها وإلا لا يدعهم يتجاوزوا هذا المكان، فمانعوه وراجعوه، فحبسهم عن السير حتى ضاق الوقت ولم يبق فيه ما يدركوا فيه الحج فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَلَمْ يَحُجَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وكذلك ركب الشام وأهل اليمن لم يحج منهم أَحَدٌ، وَإِنَّمَا حَجَّ أَهْلُ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ خَاصَّةً. وفي يوم عرفة قلد الشريف أبو الحسين الزَّيْنَبِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي تَمَّامٍ الزَّيْنَبِيُّ نِقَابَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَقُرِئَ عَهْدُهُ بَيْنَ يَدَيِ الخليفة بحضرة القضاة والأعيان.
وفيها توفى من الأعيان
الصابئي الكاتب المشهور صاحب التصانيف، وهو:
إبراهيم بن هلال
ابن إبراهيم بن زهرون بن حبون أبو إسحاق الحراني كاتب الرسائل للخليفة ولمعز الدولة بن بويه، كان على دين الصابئة إلى أن مات عليه، وَكَانَ مَعَ هَذَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ حِفْظِهِ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ حِفْظًا حَسَنًا، وَيَسْتَعْمِلُ منه في الرسائل، وكانوا يحرضون عليه أَنْ يُسْلِمَ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قوى. توفى في شوال منها وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَقَدْ رَثَاهُ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ وقال: إنما رثيت فضائله، وليس له فضائل ولا هو أهل لها ولا كرامة.
عبد الله بن محمد
ابن نافع بن مكرّم أبو العباس البستي الزَّاهِدُ، وَرِثَ مِنْ آبَائِهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَأَنْفَقَهَا كلها في وجوه الخير والقرب، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، يُقَالُ إِنَّهُ مَكَثَ سَبْعِينَ سنة لم يَسْتَنِدُ إِلَى حَائِطٍ وَلَا إِلَى شَيْءٍ، وَلَا اتكأ عَلَى وِسَادَةٍ، وَحَجَّ مِنْ نَيْسَابُورَ مَاشِيًا حَافِيًا، وَدَخَلَ الشَّامَ وَأَقَامَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ شُهُورًا، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ وَبِلَادَ الْمَغْرِبِ، وَحَجَّ مِنْ هُنَاكَ ثم رجع إلى بلاده بست، وكان له بها بقية أموال وأملاك فتصدق بها كلها، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَتَأَلَّمُ وَيَتَوَجَّعُ، فَقِيلَ له في ذلك فَقَالَ: أَرَى بَيْنَ يَدَيَّ أُمُورًا هَائِلَةً، وَلَا أدرى كيف أنجو منها. توفى فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَلَيْلَةَ مَوْتِهِ رَأَتِ امْرَأَةٌ أُمَّهَا بعد موتها وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ حِسَانٌ وَزِينَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّهْ ما هذه الزينة؟
فقالت: نحن في عيد لأجل قدوم عبيد الله بن محمد الزاهد البستي عَلَيْنَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.(11/313)
على بن عيسى بن عبيد اللَّهِ
أَبُو الْحَسَنِ النَّحْوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالرُّمَّانِيِّ، رَوَى عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ كَبِيرٌ وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ مَعْرُوفٍ فَقَبِلَهُ، وَرَوَى عنه التنوخي والجوهري، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَالرُّمَّانِيُّ نِسْبَةً إِلَى بَيْعِ الرماني أو إلى قصر الرمان بواسط، تُوُفِّيَ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ فِي الشونيزية عند قبر أبى على الفارسي.
محمد بن العباس بن أحمد بن القزاز
أَبُو الْحَسَنِ الْكَاتِبُ الْمُحَدِّثُ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ. قَالَ الخطيب: كَانَ ثِقَةً، كَتَبَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ فِي وَقْتِهِ، بَلَغَنِي أَنَّهُ كَتَبَ مِائَةَ تَفْسِيرٍ وَمِائَةَ تَارِيخٍ، وَخَلَّفَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ صندقا مَمْلُوءَةً كُتُبًا أَكْثَرُهَا بِخَطِّهِ سِوَى مَا سُرِقَ له، وكان حفظه فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ لَهُ جارية تعارض معه- أي تقابل مَا يَكْتُبُهُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
أَبُو عبد اللَّهِ الْكَاتِبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَرْزُبَانِ، رَوَى عَنِ البغوي وابن دريد وغيرهما، وكان صاحب اختيار وَآدَابٍ، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً فِي فُنُونٍ مُسْتَحْسَنَةٍ، وهو مصنف كتاب تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، وَكَانَ مَشَايِخُهُ وَغَيْرُهُمْ يَحْضُرُونَ عِنْدَهُ وَيَبِيتُونَ فِي داره على فُرُشٍ وَأَطْعِمَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إذا اجتاز بداره لا يجوز حتى يسلم عليه، وكان يقف حتى يخرج إليه، وكان أبو على الفارسي يقول عنه: هو من محاسن الدنيا. وقال العقيقي: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَا كَانَ ثِقَةً. وقال ابن الجوزي: ما كان مِنَ الْكَذَّابِينَ وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ وَاعْتِزَالٌ ويخلط السماع بالإجازة، وبلغ الثمانين سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خمس وثمانين وثلاثمائة
فيها استوزر ابن رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الضَّبِّيَّ، الْمُلَقَّبَ بِالْكَافِي، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ الصَّاحِبِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ، وَكَانَ مِنْ مَشَاهِيرِ الْوُزَرَاءِ. وَفِيهَا قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَصَادَرَهُ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا بِيعَ لَهُ فِي الْمُصَادَرَةِ ألف طيلسان وألف ثوب معدني، ولم يحج فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا ركب العراق، والخطبة في الحرمين للفاطميين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ
وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبَّاسِ بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقانيّ، أبو القاسم الوزير المشهور بِكَافِي الْكُفَاةِ، وَزَرَ لِمُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِ والفضيلة والبراعة والكرم والإحسان إلى العلماء والفقراء عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، كَانَ يَبْعَثُ فِي كُلِّ سنة إلى بغداد(11/314)
بخمسة آلاف دينار لتصرف عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي الْأَدَبِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ وَاقْتَنَى كتبا كثيرة، وكانت تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي وزراء بنى بويه مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ فِي مَجْمُوعِ فَضَائِلِهِ، وَقَدْ كَانَتْ دَوْلَةُ بَنِي بُوَيْهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَفَتَحَ خَمْسِينَ قَلْعَةً لِمَخْدُومِهِ مُؤَيِّدِ الدولة، وابنه فخر الدولة، بصرامته وحسن تدبيره وجودة رأيه، وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ، وَيُبْغِضُ الْفَلْسَفَةَ وَمَا شابهها من علم الكلام والآراء الْبِدْعِيَّةِ، وَقَدْ مَرِضَ مَرَّةً بِالْإِسْهَالِ فَكَانَ كُلَّمَا قَامَ عَنِ الْمِطْهَرَةِ وَضَعَ عِنْدَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ لئلا يتبرم به الفراشون، فكانوا يتمنون لو طالت علته، ولما عوفي أباح للفقراء نهب داره، وكان فيها ما يساوى نحوا من خمسين ألف دينار من الذهب، وقد سمع الحديث من المشايخ الجياد العوالي الْإِسْنَادِ، وَعُقِدَ لَهُ فِي وَقْتٍ مَجْلِسٌ لِلْإِمْلَاءِ فاحتفل الناس لحضوره، وحضره وجوه الأمراء، فلما خرج إليه لَبِسَ زِيَّ الْفُقَهَاءِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ مِمَّا يُعَانِيهِ مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ، وَذَكَرَ للناس أنه كَانَ يَأْكُلُ مِنْ حِينِ نَشَأَ إِلَى يَوْمِهِ هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم، ولكن كان يخالط السلطان وهو تائب مما يمارسونه، واتخذ بناء فِي دَارِهِ سَمَّاهُ بَيْتَ التَّوْبَةِ، وَوَضَعَ الْعُلَمَاءُ خُطُوطَهُمْ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ، وَحِينَ حَدَّثَ اسْتَمْلَى عَلَيْهِ جماعة لكثرة مجلسه، فكان في جملة من يكتب عنه ذلك اليوم القاضي عبد الجبار الهمدانيّ وأضرابه من رءوس الفضلاء وسادات الفقهاء والمحدثين، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ قَاضِي قَزْوِينَ بِهَدِيَّةٍ كُتُبٍ سنية، وكتب معها.
العميدي عبد كافى الكفاة وأنه ... اعقل فِي وُجُوهِ الْقُضَاةِ
خَدَمَ الْمَجْلِسَ الرَّفِيعَ، بَكُتْبٍ ... منعمات، مِنْ حُسْنِهَا مُتْرَعَاتِ
فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ أَخَذَ مِنْهَا كِتَابًا وَاحِدًا وَرَدَّ بَاقِيَهَا وَكَتَبَ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ.
قَدْ قَبِلْنَا مِنَ الْجَمِيعِ كِتَابًا ... وَرَدَدْنَا لِوَقْتِهَا الْبَاقِيَاتِ
لَسْتُ أَسْتَغْنِمُ الْكَثِيرَ وَطَبْعِي ... قَوْلُ: خذ ليس مذهبي قول هات
وجلس مَرَّةً فِي مَجْلِسِ شَرَابٍ فَنَاوَلَهُ السَّاقِي كَأْسًا، فلما أراد شربها قال له بعض خدمه: إِنَّ هَذَا الَّذِي فِي يَدِكَ مَسْمُومٌ. قَالَ: وَمَا الشَّاهِدُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِكَ؟ قَالَ تُجَرِّبُهُ، قَالَ: فِيمَنْ؟ قَالَ فِي السَّاقِي. قَالَ وَيْحَكَ لَا أَسْتَحِلُّ ذَلِكَ، قَالَ فَفِي دَجَاجَةٍ، قَالَ: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز، تم أَمَرَ بِصَبِّ مَا فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ وَقَالَ للساقى: لا تدخل بعد اليوم داري، وَلَمْ يَقْطَعْ عَنْهُ مَعْلُومَهُ. وَقَدْ عَمِلَ عَلَيْهِ الوزير أبو الفتح ابن ذِي الْكِفَايَتَيْنِ حَتَّى عَزَلَهُ عَنْ وِزَارَةِ مُؤَيِّدِ الدولة في وقت وباشرها عوضه واستمر فيها مدة، فبينما هو ذات ليلة قد اجتمع عنده أصحابه وهو في أتم السرور، قد هيئ له في مجلس حافل بأنواع اللذات، وقد نظم أبياتا والمغنون يغنونه بها وَهُوَ فِي غَايَةِ الطَّرَبِ وَالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَهِيَ هذه الأبيات
دَعَوْتُ الْهَنَا وَدَعَوْتُ الْعُلَا ... فَلَمَّا أَجَابَا دَعَوْتُ الْقَدَحْ
وَقُلْتُ لِأَيَّامِ شَرْخِ الشَّبَابِ ... إِلَيَّ. فَهَذَا أوان الفرح(11/315)
إِذَا بَلَغَ الْمَرْءُ آمَالَهُ ... فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَهَا مُنْتَزَحْ
ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: بَاكِرُونِي غَدًا إِلَى الصَّبُوحِ، وَنَهَضَ إِلَى بَيْتِ مَنَامِهِ فَمَا أَصْبَحَ حَتَّى قَبَضَ عَلَيْهِ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا فِي دَارِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، وَجَعَلَهُ مثلة في العباد، وأعاد إلى وزارته ابن عباد. وقد ذكر ابن الجوزي أن ابن عباد هذا حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَاءَهُ الْمَلِكُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بن مؤيد الدولة يغوده لِيُوصِيَهُ فِي أُمُورِهِ فَقَالَ لَهُ إِنِّي مُوصِيكَ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي الْأُمُورِ عَلَى مَا تَرَكْتُهَا عليه، ولا تغيرها، فإنك إن استمريت بِهَا نُسِبَتْ إِلَيْكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَى آخره، وإن غيرتها وسلكت غيرها نسب الخير الْمُتَقَدِّمُ إِلَيَّ لَا إِلَيْكَ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الْخَيْرِ إِلَيْكَ وَإِنْ كُنْتُ أَنَا المشير بها عليك. فأعجبه ذلك منه واستمر بما أَوْصَاهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي عَشِيَّةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تسمى من الوزراء بالصاحب، ثم استعمل بعده منهم، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ صُحْبَتِهِ الْوَزِيرَ أَبَا الفضل بن الْعَمِيدِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَيَّامَ وِزَارَتِهِ. وَقَالَ الصابئ في كتابه الناجي: إنما سماه الصاحب مؤيد الدولة لأنه كان صاحبه من الصغر، وكان إذ ذاك يسميه الصاحب، فلما ملك واستوزره سماه به واستمر فاشتهر به، وسمى بِهِ الْوُزَرَاءُ بَعْدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ مَكَارِمِهِ وَفَضَائِلِهِ وَثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَعَدَّدَ لَهُ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً، مِنْهَا كِتَابُهُ الْمُحِيطُ فِي اللُّغَةِ فِي سَبْعِ مُجَلَّدَاتٍ، يَحْتَوِي عَلَى أَكْثَرِ اللُّغَةِ وَأَوْرَدَ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ منها في الخمر:
رق الزجاج وراقت الْخَمْرُ ... وَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الْأَمْرُ
فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ ... وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ بِالرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ نَحْوُ سِتِّينَ سَنَةً وَنُقِلَ إِلَى أَصْبَهَانَ رَحِمَهُ الله.
الْحَسَنِ بْنِ حَامِدٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَدِيبُ، كَانَ شاعرا متجولا كثيرا الْمَكَارِمِ، رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَوْصِلِيِّ وَعَنْهُ الصُّورِيُّ، وَكَانَ صَدُوقًا. وَهُوَ الّذي أنزل المتنبي داره حين قدم بغداد وأحسن إليه حَتَّى قَالَ لَهُ الْمُتَنَبِّي: لَوْ كُنْتُ مَادِحًا تَاجِرًا لَمَدَحْتُكَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا شاعرا ماهرا، فمن شعره الجيد قوله:
شربت الْمَعَالِيَ غَيْرَ مُنْتَظِرٍ بِهَا ... كَسَادًا وَلَا سُوقًا يقام لها أحرى
وَمَا أَنَا مِنْ أَهْلِ الْمَكَاسِبِ كُلَّمَا ... تَوَفَّرَتِ الْأَثْمَانُ كُنْتُ لَهَا أَشْرَى
ابْنُ شَاهِينَ الْوَاعِظُ
عمر بن أحمد بن عثمان بن محمد بن أيوب بن زذان، أبو حفص الْمَشْهُورُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ عَنِ الْبَاغَنْدِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَغَوِيِّ، وَابْنِ صَاعِدٍ، وَخَلْقٍ. وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا، يَسْكُنُ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ من بغداد، وكانت له المصنفات العديدة. ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ صَنَّفَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ مُصَنَّفًا(11/316)