وَكَانَ الْحَارِثُ يُطْعِمُهُمْ فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: اخْرُجُوا حَتَّى أُرِيَكُمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَخْرُجُ بِهِمْ إِلَى دير المراق فيريهم رجالا على خيل فيتبعه عَلَى ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ، وَفَشَا أَمَرُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَكَثُرَ أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، حَتَّى وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ فَعَرَضَ عَلَى القاسم أمره وأخذ عليه العهد إِنْ هُوَ رَضِيَ أَمْرًا قَبِلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ كتم عَلَيْهِ، قَالَ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي نَبِيٌّ، فَقَالَ الْقَاسِمُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، مَا أَنْتَ نَبِيٌّ، وَفِي رِوَايَةٍ وَلَكِنَّكَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نبي» وأنت أحدهم ولا عهد لك. ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ- وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ بِدِمَشْقَ- فَأَعْلَمَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْحَارِثِ فَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ نَعْرِفُهُ، ثُمَّ أَعْلَمَ أَبُو إِدْرِيسَ عَبْدَ الْمَلِكِ بِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مَكْحُولًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي زائدة دَخْلَا عَلَى الْحَارِثِ فَدَعَاهُمَا إِلَى نُبُوَّتِهِ فَكَذَّبَاهُ وَرَدَّا عَلَيْهِ مَا قَالَ، وَدَخَلَا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَعْلَمَاهُ بِأَمْرِهِ، فَتَطَلَّبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ طَلَبًا حثيثا، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت الْمَقْدِسِ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ سِرًّا وَاهْتَمَّ عَبْدُ الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية مِمَّنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْحَارِثِ وَهُوَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَعْلَمَهُ بِأَمْرِهِ وَأَيْنَ هُوَ، وَسَأَلَ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجُنْدِ الْأَتْرَاكِ لِيَحْتَاطَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ طَائِفَةً وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ الْقُدْسِ لِيَكُونَ فِي طَاعَةِ هَذَا الرَّجُلِ وَيَفْعَلَ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ، فَلَمَّا وصل الرجل إلى النصرية ببيت الْمَقْدِسِ بِمَنْ مَعَهُ انْتَدَبَ نَائِبَ الْقُدْسِ لِخِدْمَتِهِ، فأمره أن يجتمع مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّمُوعِ وَيَجْعَلُ مَعَ كل رجل شمعته فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِإِشْعَالِهَا فِي اللَّيْلِ أَشْعَلُوهَا كُلُّهُمْ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ حَتَّى لَا يَخْفَى أَمْرُهُ، وَذَهَبَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ فَدَخَلَ الدَّارَ الَّتِي فيها الحارث فقال لبوابه استأذن عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، فَقَالَ: فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح النصري أسرجوا، فأشعل النَّاسُ شُمُوعَهُمْ حَتَّى صَارَ اللَّيْلُ كَأَنَّهُ النَّهَارُ، وهم النصري عَلَى الْحَارِثِ فَاخْتَفَى مِنْهُ فِي سِرْبٍ هُنَاكَ فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ رُفِعَ إِلَى السماء، قال فأدخل النصري يَدَهُ فِي ذَلِكَ السِّرْبِ فَإِذَا بِثَوْبِهِ فَاجْتَرَّهُ فَأَخْرَجَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَرْغَانِيِّينَ مِنْ أَتْرَاكِ الْخَلِيفَةِ قال فأخذوه فَقَيَّدُوهُ، فَيُقَالُ إِنَّ الْقُيُودَ وَالْجَامِعَةَ سَقَطَتْ مِنْ عنقه مرارا ويعيدونها، وجعل يقول: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ 34: 50) وَقَالَ لِأُولَئِكَ الْأَتْرَاكِ (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله 40: 28) ؟ فَقَالُوا لَهُ بِلِسَانِهِمْ وَلُغَتِهِمْ: هَذَا كُرَانُنَا فَهَاتِ كُرَانَكَ، أَيْ هَذَا قُرْآنُنَا فَهَاتِ قُرْآنَكَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ بِصَلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ وَأَمَرَ رَجُلًا فَطَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ فَانْثَنَتْ فِي ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيْحَكَ أَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ طَعَنْتَهُ؟ فَقَالَ: نَسِيتُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ سَمِّ اللَّهَ ثُمَّ اطْعَنْهُ، قَالَ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ طَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ حَبَسَهُ قَبْلَ صلبه وأمر رجالا(9/28)
من أهل الفقه والعلم أَنْ يَعِظُوهُ وَيُعْلِمُوهُ أَنَّ هَذَا الَّذِي بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ فَصَلَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ.
وقد قال الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ فَحَدَّثَنِي من سمع الْأَعْوَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ زِيَادٍ الْعَدَوِيَّ. يَقُولُ: مَا غَبَطْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بِشَيْءٍ مِنْ ولايته إلا بقتله حارثا حيث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَمَنْ قَالَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا فَلَهُ الْجَنَّةُ» . وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ لَوْ حَضَرْتُكَ مَا أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بِهِ الْمَذْهَبُ فَلَوْ جَوَّعَتَهُ لَذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَالَ الْوَلِيدُ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ نَافِعٍ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ الجلاخ يقول لغيلان: ويحك يا غيلان، ألم تأخذك فِي شَبِيبَتِكَ تُرَامِي النِّسَاءَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بالتفاح، ثم صرت حارثيا تحجب امرأته وتزعم أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ تَحَوَّلْتَ فَصِرْتَ قَدَرِيًّا زِنْدِيقًا.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ فِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ يُصَانِعُ الْمُسْلِمِينَ تَارَةً وَيَتَمَرَّدُ أُخْرَى، فَكَتَبَ الحجاج إلى ابن أبى بكرة تأخذه بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَسْتَبِيحَ أَرْضَهُ وَتَهْدِمَ قِلَاعَهُ وَتَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُ، فَخَرَجَ فِي جَمْعٍ مِنَ الْجُنُودِ مِنْ بِلَادِهِ وَخَلْقٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ثُمَّ الْتَقَى مَعَ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ فَكَسَرَهُ وَهَدَمَ أَرْكَانَهُ بِسَطْوَةٍ بِتَّارَةٍ، وَجَاسَ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَجُنْدُهُ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَقَالِيمِهِ وَمُدُنِهِ وَأَمْصَارِهِ، وَتَبَّرَ مَا هُنَالِكَ تَتْبِيرًا، ثُمَّ إِنَّ رُتْبِيلَ تَقَهْقَرَ منه وَمَا زَالَ يَتْبَعُهُ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْ مَدِينَتِهِ الْعُظْمَى، حَتَّى كَانُوا مِنْهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَخَافَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْهُمْ خَوْفًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ التُّرْكَ أَخَذَتْ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ وَالشِّعَابَ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ حَتَّى ظَنَّ كُلٌّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ هَالِكٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنْ يُصَالِحَ رُتْبِيلَ عَلَى أَنْ يأخذ منه سبعمائة ألف، ويفتحوا للمسلمين طريقا يخرجون عنه وَيَرْجِعُونَ عَنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَانْتَدَبَ شُرَيْحَ بْنَ هانئ- وَكَانَ صَحَابِيًّا، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ عَلَيٍّ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ- فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْقِتَالِ وَالْمُصَابَرَةِ وَالنِّزَالِ وَالْجِلَادِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالنِّبَالِ، فَنَهَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَأَجَابَهُ شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الشُّجْعَانِ وَأَهْلِ الْحَفَائِظِ، فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ بِهِمِ الترك حتى فنى أكثر المسلمين رضى الله عنهم، قَالُوا وَجَعَلَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:
أَصْبَحْتُ ذَا بَثٍّ أُقَاسِيَ الْكِبَرَا ... قَدْ عِشْتُ بين المشركين أعصرا
ثم أَدْرَكْتُ النَّبِيَّ الْمُنْذِرَا ... وَبَعْدَهُ صِدِّيقَهُ وَعُمَرَا
وَيَوْمَ مِهْرَانَ وَيَوْمَ تُسْتَرَا ... وَالْجَمْعَ فِي صِفِّينِهِمْ وَالنَّهَرَا
هَيْهَاتَ مَا أَطْوَلَ هَذَا عُمُرَا(9/29)
ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ صُحْبَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ مِنْ أَرْضِ رُتْبِيلَ، وَهُمْ قليل، وبلغ ذلك الحجاج فأخذ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْثِ جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُ بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ، فَحِينَ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بالموافقة على ذَلِكَ، وَأَنْ يُعَجِّلَ ذَلِكَ سَرِيعًا، فَحِينَ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ أَخَذَ فِي جَمْعِ الْجُيُوشِ فَجَهَّزَ جَيْشًا كَثِيفًا لِذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا. وَقِيلَ إِنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ ثَلَاثُونَ أَلْفًا وَابْتِيعَ الرَّغِيفُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِدِينَارٍ وَقَاسَوْا شَدَائِدَ، وَمَاتَ بِسَبَبِ الْجُوعِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، فَإِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التُّرْكِ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا قَتَلُوا أَضْعَافَهَمْ وَيُقَالُ إِنَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْفَى شُرَيْحٌ مِنَ الْقَضَاءِ فَأَعْفَاهُ الْحَجَّاجُ مِنْ ذَلِكَ وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا بُرْدَةَ ابن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ شُرَيْحٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أبان بن عثمان أمير المدينة النبويّة، وفيها قُتِلَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ التَّمِيمِيُّ أَبُو نَعَامَةَ الْخَارِجِيُّ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشَاهِيرِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْخِلَافَةِ، وَقَدْ جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ وَحُرُوبٌ مَعَ جَيْشِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا فِي أَمَاكِنِهِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي زَمَنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ وَأَقَالِيمَ وَغَيْرِهَا، وَوَقَائِعُهُ مَشْهُورَةٌ وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ جُيُوشًا كبيرة فَهَزَمَهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ بَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ الْحَرُورِيَّةِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ أَعْجَفَ وَبِيَدِهِ عَمُودُ حَدِيدٍ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ كَشَفَ قَطَرِيٌّ عَنْ وَجْهِهِ فَوَلَّى الرَّجُلُ هَارِبًا فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ إِلَى أَيْنَ؟ أَمَا تَسْتَحِي أَنْ تَفِرَّ وَلَمْ تَرَ طَعْنًا وَلَا ضَرْبًا؟ فَقَالَ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَفِرَّ مِنْ مِثْلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فِي جَيْشٍ فَاقْتَتَلُوا بِطَبَرِسْتَانَ، فَعَثَرَ بِقَطَرِيٍّ فَرَسُهُ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ سَوْدَةُ بْنُ الْحُرِّ الدَّارِمِيُّ، وَكَانَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ مَعَ شَجَاعَتِهِ الْمُفَرِطَةِ وَإِقْدَامِهِ مِنْ خُطَبَاءَ الْعَرَبِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَجَوْدَةِ الْكَلَامِ وَالشِّعْرِ الْحَسَنِ، فَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ يُشَجِّعُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَمَنْ سَمِعَهَا انْتَفَعَ بِهَا:
أَقُولُ لَهَا وَقَدْ طَارَتْ شَعَاعًا ... مِنَ الْأَبْطَالِ وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي
فَإِنَّكِ لَوْ طلبت بَقَاءَ يَوْمٍ ... عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي لَكَ لِمَ تُطَاعِي
فَصَبْرًا فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْرًا ... فَمَا نيل الخلود بمستطاعى
وَلَا ثَوْبُ الْحَيَاةِ بِثَوْبِ عِزٍّ ... فَيُطْوَى عَنْ أخى الخنع اليراعى(9/30)
سَبِيلُ الْمَوْتِ غَايَةُ كُلِّ حَيٍّ ... وَدَاعِيهِ لِأَهْلِ الأرض داع
فمن لَا يَغْتَبِطْ يَسْأَمْ وَيَهْرَمْ ... وَتُسْلِمْهُ الْمَنُونُ إِلَى انقطاعي
وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ ... إِذَا مَا عد من سقط المتاعى
ذكرها صاحب الحماسة واستحسنها ابن خلكان كَثِيرًا وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَمِيرُ الْجَيْشِ الَّذِي دَخَلَ بِلَادَ التُّرْكِ وَقَاتَلُوا رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ جَيْشِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَقَدْ دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى الْحَجَّاجِ مَرَّةً وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ فَقَالَ لَهُ الحجاج: وكم خَتَمْتَ بِخَاتَمِكَ هَذَا؟
قَالَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، قَالَ فَفِيمَ أَنْفَقْتَهَا؟ قَالَ: فِي اصطناع المعروف، ورد الملهوف والمكافأة بالصناع وَتَزْوِيجِ الْعَقَائِلِ. وَقِيلَ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ عَطَشَ يَوْمًا فَأَخْرَجَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كُوزَ مَاءٍ بَارِدٍ فَأَعْطَاهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ إِنَّهُ أُهْدِيَ إِلَيْهِ وَصَيْفٌ وَوَصِيفَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ خُذْهُمَا لَكَ، ثُمَّ فَكَّرَ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ إِيثَارَ بَعْضِ الْجُلَسَاءِ عَلَى بَعْضٍ لَشُحٌّ قَبِيحٌ وَدَنَاءَةٌ رَدِيئَةٌ، ثُمَّ قَالَ يَا غُلَامُ ادْفَعْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُلَسَائِي وَصَيْفًا وَوَصِيفَةً، فَأُحْصِيَ ذَلِكَ فَكَانُوا ثَمَانِينَ وَصَيْفًا وَوَصِيفَةً.
تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ ببست وقيل بذرخ والله سبحانه وتعالى أعلم وأحلم، والحمد للَّه رب العالمين
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
ففيها كان السيل الحجاف بمكة لأنه حجف على كل شيء فذهب به، وحمل الحجاج من بطن مكة الجمال بِمَا عَلَيْهَا، وَالرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِنْهُ، وَبَلَغَ الْمَاءُ إِلَى الْحَجُونِ، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ ارْتَفَعَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُغَطِّيَ الْبَيْتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بالبصرة في هذه السنة الطاعون، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهَا قَطَعَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صفرة نهر، وَأَقَامَ بِكَشَّ سَنَتَيْنِ صَابِرًا مُصَابِرًا لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ هُنَاكَ فُصُولٌ يُطُولُ ذكرها، وفد عليه في غضون هَذِهِ الْمُدَّةِ كِتَابُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَلْعِهِ الْحَجَّاجَ، فَبَعَثَهُ الْمُهَلَّبُ بِرُمَّتِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى قَرَأَهُ ثُمَّ كَانَ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ حُرُوبِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْحَجَّاجُ الْجُيُوشَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وغيرهما لقتال رتبيل ملك الترك ليقضوا مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ جَيْشِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَجَهَّزَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمِصْرَيْنِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن محمد ابن الْأَشْعَثِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ الْحَجَّاجُ يُبْغِضُهُ جِدًّا، حتى قال مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ إِلَّا هَمَمْتُ بِقَتْلِهِ، وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا عَلَى الْحَجَّاجِ وَعِنْدَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ انْظُرْ إِلَى مِشْيَتِهِ وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَأَسَرَّهَا الشَّعْبِيُّ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ: وَأَنَا وَاللَّهِ لأجهدت أَنْ أُزِيلَهُ عَنْ(9/31)
سُلْطَانِهِ إِنْ طَالَ بِي وَبِهِ الْبَقَاءُ. وَالْمَقْصُودُ أن الحجاج أخذ في استعراض هذه الجنود وَبَذَلِ فِيهِمُ الْعَطَاءَ ثُمَّ اخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِيمَنْ يُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَتَى عَمُّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْأَشْعَثِ فَقَالَ لِلْحَجَّاجِ: إني أخاف أن تؤمره فلا ترى لك طاعة إذا جاوز جسر الصراة، فقال: ليس هو هنالك هو لي حبيب، ومتى أَرْهَبُ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرِي أَوْ يَخْرُجَ عَنْ طَاعَتِي، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ، فَسَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُيُوشِ نَحْوَ أَرْضِ رُتْبِيلَ، فَلَمَّا بَلَغَ رُتْبِيلَ مَجِيءُ ابْنِ الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ رُتْبِيلَ يَعْتَذِرُ مِمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ فِي السنة الماضية، وأنه كان لذلك كارها، وأن المسلمين هم الذين أَلْجَئُوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَسَأَلَ مِنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَنْ يُصَالِحَهُ وَأَنْ يَبْذُلَ لِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ، فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى ذَلِكَ، وَصَمَّمَ عَلَى دُخُولِ بِلَادِهِ، وَجَمَعَ رُتْبِيلُ جُنُودَهُ وَتَهَيَّأَ لَهُ وَلِحَرْبِهِ، وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ كَلَّمَا دَخَلَ بَلَدًا أَوْ مَدِينَةً أَوْ أَخَذَ قَلْعَةً مِنْ بِلَادِ رتبيل استعمل عليها نائبا من جهته يحفظها له، وجعل المشايخ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ وَمَكَانٍ مَخُوفٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ وَمُدُنٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جَزِيلَةً، وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرَةً، ثُمَّ حَبَسَ النَّاسَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ حَتَّى يُصْلِحُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، وَيَتَقَوَّوْا بما فيها من المغلات والحواصل، ثم يتقدمون فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ فَلَا يَزَالُونَ يجوزون الأراضي والأقاليم حتى يحاصروا رتبيل وجنوده فِي مَدِينَتِهِمْ مَدِينَةِ الْعُظَمَاءِ عَلَى الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَّارِي حَتَّى يَغْنَمُوهَا ثُمَّ يَقْتُلُونَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الرَّأْيُ، وَكَتَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْحَجَّاجِ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَتْحِ وَمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ الَّذِي رَآهُ لَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ وَجَّهَ هِمْيَانَ بْنَ عَدِيٍّ السَّدُوسِيَّ إلى كرما مسلحا لِأَهْلِهَا لِيَمُدَّ عَامِلَ سِجِسْتَانَ وَالسِّنْدِ إِنِ احْتَاجَا إلى ذلك، فعصى هميان ومن معه على الحجاج، فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهُ وَأَقَامَ ابن الأشعث بِمَنْ مَعَهُ، وَمَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِإِمْرَةِ سِجِسْتَانَ مَكَانَ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَجَهَّزَ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ جَيْشًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ سِوَى أُعْطِيَاتِهِمْ، وَكَانَ يُدْعَى هَذَا الْجَيْشُ جَيْشَ الطَّوَاوِيسِ، وَأَمَرَهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى رُتْبِيلَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: بَلْ حَجَّ بِهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ عَلَى الصَّائِفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وعلى المدينة أبان ابن عُثْمَانَ، وَعَلَى الْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَهُوَ أَبُو زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ أَصْلُهُ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ النمر اشْتَرَاهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ لَمَّا حَجَّ سَنَةَ إِحْدَى عشرة،(9/32)
وَتُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ رَحِمَهُ الله.
جبير بن نفير
ابن مَالِكٍ الْحَضْرَمِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ وَقِيلَ أَقَلُّ.
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَفَاةً، سَكَنَ الْمَدِينَةَ، وَلَمَّا اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ جَعْفَرٌ بِمُؤْتَةَ «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّهِمْ فَقَالَ: ائْتُونِي بِبَنِي أَخِي، فَأُتِيَ بِهِمْ كَأَنَّهُمْ أَفْرُخٌ، فَدَعَا بِالْحَلَّاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ ثُمَّ قَالَ: اللَّهمّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَتِهِ، فَجَاءَتْ أُمُّهُمْ فَذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ، فَقَالَ أَنَا لَهُمْ عِوَضًا مِنْ أَبِيهِمْ» وَقَدْ بَايَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمْرُهُمَا سَبْعُ سِنِينَ، وَهَذَا لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِمَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن جعفر بن أَسْخَى النَّاسِ، يُعْطِي الْجَزِيلَ الْكَثِيرَ وَيَسْتَقِلُّهُ، وَقَدْ تَصَدَّقَ مَرَّةً بِأَلْفَيْ أَلْفٍ، وَأَعْطَى مَرَّةً رَجُلًا سِتِّينَ أَلْفًا، وَمَرَّةً أَعْطَى رَجُلًا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقِيلَ إِنَّ رَجُلًا جَلَبَ مَرَّةً سُكَّرًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَسَدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَشْتَرِهِ أَحَدٌ فَأَمَرَ ابْنُ جَعْفَرٍ قَيِّمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَأَنْ يهديه لِلنَّاسِ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ وَنَزَلَ فِي دَارِ مَرْوَانَ قَالَ يَوْمًا لِحَاجِبِهِ: انْظُرْ هَلْ تَرَى بِالْبَابِ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ أَوِ ابْنَ جَعْفَرٍ أَوْ فُلَانًا- وَعَدَّ جَمَاعَةً- فَخَرَجَ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَقِيلَ لَهُ: هُمْ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَتَغَدَّوْنَ، فَأَتَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَا أَنَا إِلَّا كَأَحَدِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا ثُمَّ أَتَى بَابَ ابْنِ جَعْفَرٍ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ وَدَخَلَ فَأَجْلَسَهُ فِي صَدْرِ فِرَاشِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ غَدَاؤُكَ يَا ابْنَ جَعْفَرٍ؟
فَقَالَ: وَمَا تَشْتَهِي من شيء فأدعو بِهِ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَطْعِمْنَا مُخًّا، فَقَالَ يَا غلام هات مخا، فأتى بصحيفة فَأَكَلَ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ لِغُلَامِهِ: هات مخا، فجاء بصحيفة أُخْرَى مَلْآنَةً مُخًّا إِلَى أَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَتَعَجَّبَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: يَا ابْنَ جعفر ما يشبعك إِلَّا الْكَثِيرُ مِنَ الْعَطَاءِ، فَلَمَّا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ أَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ ابْنُ جَعْفَرٍ صَدِيقًا لِمُعَاوِيَةَ وَكَانَ يَفِدُ عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ فَيُعْطِيهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَقْضِي لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ. وَلَمَّا حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ الْوَفَاةُ أَوْصَى ابنه يزيد، فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ جَعْفَرٍ عَلَى يَزِيدَ قَالَ لَهُ: كَمْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُعْطِيكَ كُلَّ سَنَةٍ؟ قَالَ أَلْفَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَضَعَفْنَاهَا لَكَ، وَكَانَ يُعْطِيهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ كُلَّ سنة، فقال له عبد الملك بْنُ جَعْفَرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا قُلْتُهَا لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَا أَقُولُهَا لِأَحَدٍ بَعْدَكَ، فَقَالَ يَزِيدُ: وَلَا أَعْطَاكَهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يُعْطِيكَهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يُعْطِيكَهَا أَحَدٌ بَعْدِي، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ ابْنِ جَعْفَرٍ جَارِيَةٌ تُغَنِّيهِ تُسَمَّى عِمَارَةَ، وَكَانَ يُحِبُّهَا مَحَبَّةً عَظِيمَةً، فَحَضَرَ عنده يزيد(9/33)
ابن مُعَاوِيَةَ يَوْمًا فَغَنَّتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا يَزِيدُ افْتُتِنَ بِهَا وَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ أن يطلبها منه، فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِ يَزِيدَ مِنْهَا حَتَّى مَاتَ أَبُوهُ مُعَاوِيَةُ، فَبَعَثَ يَزِيدُ رَجُلًا مِنْ أهل العراق وأمره أن يتطلع فِي أَمْرِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَقَدِمَ الرَّجُلُ الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ جِوَارَ ابْنِ جَعْفَرٍ وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَتُحَفًا كَثِيرَةً، وَأَنِسَ بِهِ، وَلَا زَالَ حَتَّى أخذ الجارية وأتى يزيد. وكان الحسن البصري يذم ابن جعفر على سماعه الغنى وَاللَّهْوِ وَشِرَائِهِ الْمُوَلَّدَاتِ، وَيَقُولُ: أَمَا يَكْفِيهِ هَذَا الأمر القبيح المتلبس بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَغَيْرِهَا؟ حَتَّى زَوَّجَ الْحَجَّاجَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: إِنَّمَا تَزَوَّجْتُهَا لِأَذِلَّ بِهَا آلَ أَبِي طَالِبٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَيْهِ أن يطلقها فطلقها. أسند عبد الله ابن جَعْفَرٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا.
أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ
اسْمُهُ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لَهُ أَحْوَالٌ وَمَنَاقِبُ، كَانَ يَقُولُ: قَلْبٌ نَقِيٌّ فِي ثِيَابٍ دَنِسَةٍ خَيْرٌ مِنْ قَلْبٍ دَنِسٍ فِي ثِيَابٍ نَقِيَّةٍ، وَقَدْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ.
مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الْقَدَرِيُّ
يُقَالُ إِنَّهُ مَعْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عليم، رَاوِي حَدِيثِ: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» .
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَشَهِدَ يَوْمَ التَّحْكِيمِ، وَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فِي ذَلِكَ وَوَصَّاهُ ثُمَّ اجْتَمَعَ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَوَصَّاهُ فِي ذلك فقال له:
أيها يا تيس جهنة ما أنت من أهل السر والعلانية، وَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكَ الْحَقُّ وَلَا يَضُرُّكُ الْبَاطِلُ. وَهَذَا تَوَسُّمٌ فِيهِ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلِهَذَا كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ سوس، وَأَخَذَ غَيْلَانُ الْقَدَرَ مِنْ مَعْبَدٍ، وَقَدْ كَانَتْ لِمَعْبَدٍ عِبَادَةٌ وَفِيهِ زَهَادَةٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِيَّاكُمْ وَمَعْبَدًا فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَعَاقَبَهُ الْحَجَّاجُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ ثُمَّ قَتَلَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ: بَلْ صَلَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ بِدِمَشْقَ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: مَاتَ قَبْلَ التِّسْعِينَ فاللَّه أعلم، وقيل إن الأقرب قتل عبد الملك له وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وثمانين
فَفِيهَا فَتَحَ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ مَدِينَةَ قَالِيقَلَا وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَفِيهَا قُتِلَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ، قتله بجير بْنُ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ، وَكَانَ بُكَيْرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الشجعان، ثم ثار لبكير ابن وِشَاحٍ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ صَعْصَعَةُ بن حرب العوفيّ الصريمى، فقتل بجير بْنَ وَرْقَاءَ الَّذِي قَتَلَ بُكَيْرًا، طَعْنُهُ بِخِنْجَرٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَبَعَثَ(9/34)
المهلب بصعصعة إليه، فلما تمكن منه بجير بْنُ وَرْقَاءَ قَالَ ضَعُوا رَأْسَهُ عِنْدَ رِجْلِي، فوضعوه فطعنه بجير بِحَرْبَتِهِ حَتَّى قَتَلَهُ وَمَاتَ عَلَى إِثْرِهِ. وَقَدْ قَالَ لَهُ أَنَسُ بْنُ طَارِقٍ: اعْفُ عَنْهُ فَقَدْ قَتَلْتَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمُوتُ وَهَذَا حَيٌّ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ إِنَّمَا قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ فاللَّه أَعْلَمُ.
فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: كَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَوَافَقْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ كَانَ الْحَجَّاجُ يُبْغِضُهُ وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُ ذَلِكَ وَيُضْمِرُ لَهُ السُّوءَ وَزَوَالَ الْمُلْكِ عَنْهُ، فَلَمَّا أَمَّرَهُ الْحَجَّاجُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَأَمَرَهُ بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَمَضَى وَصَنَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَخْذِهِ بَعْضَ بِلَادِ التُّرْكِ، ثُمَّ رَأَى لِأَصْحَابِهِ أَنْ يُقِيمُوا حَتَّى يَتَقَوَّوْا إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَسْتَهْجِنُ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَيَسْتَضْعِفُ عَقْلَهُ وَيَقْرَعُهُ بِالْجُبْنِ وَالنُّكُولِ عَنِ الْحَرْبِ، وَيَأْمُرُهُ حَتْمًا بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ، ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ ثَانٍ ثُمَّ ثَالِثٍ مع البريد، وكتب في جملة ذلك يا ابن الحائك الغادر المرتد، امض إلى ما أمرتك به من الإيغال في أرض العدو وإلا حل بك ما لا يطاق.
وكان الحجاج يبغض ابن الأشعث: ويقول هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الّذي سلب أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم بن عقيل حتى قتله، وجده الأشعث ارتد عن الإسلام وما رأيته قط إلا هممت بقتله، ولما كتب الحجاج إلى ابن الأشعث بذلك وترادفت إليه البرد بذلك، غضب ابن الأشعث وقال: يكتب إلى بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون من بعض جندي ولا من بعض خدمي لخوره وضعف قوته؟ أما يذكر أباه من ثقيف هذا الجبان صاحب غزالة- يعنى أن غزالة زوجة شبيب حملت على الحجاج وجيشه فانهزموا منها وهي امرأة لما دخلت الكوفة- ثم إن ابن الأشعث جمع رءوس أهل العراق وقال لهم: إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم أما أنا فلست مطيعة ولا أنقض رأيا رأيته بالأمس، ثم قام فيهم خطيبا فأعلمهم بما كان رأى من الرأى له ولهم، وطلب في ذلك من إصلاح البلاد التي فتحوها، وأن يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون في بلاد العدو فيفتحونها بلدا بلدا إلى أن يحصروا رتبيل ملك الترك في مدينة العظماء، ثم أعلمهم بما كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْأَمْرِ بِمُعَاجَلَةِ رُتْبِيلَ. فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَقَالُوا: لَا بَلْ نَأْبَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ وَلَا نَسْمَعُ لَهُ وَلَا نُطِيعُ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ:
فَحَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بن عامر بن وائلة الْكِنَانِيُّ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ شَاعِرًا خَطِيبًا، وَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْحَجَّاجِ فِي هَذَا الرَّأْيِ وَمَثَلَنَا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ لِأَخِيهِ احْمِلْ عَبْدَكَ عَلَى الْفَرَسِ فَإِنْ(9/35)
هلك هلك، وإن نجا فلك، أنتم إذا ظَفِرْتُمْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي سُلْطَانِهِ، وَإِنْ هَلَكْتُمْ كُنْتُمُ الْأَعْدَاءَ الْبُغَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: اخْلَعُوا عَدُوَّ اللَّهِ الْحَجَّاجَ- وَلَمْ يَذْكُرْ خَلْعَ عَبْدِ الملك- وبايعوا لأميركم عبد الرحمن ابن الْأَشْعَثِ فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوَّلُ خَالِعٍ لِلْحَجَّاجِ. فَقَالَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: خَلَعْنَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَوَثَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا. ثُمَّ سَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ الَّذِينَ مَعَهُ مُقْبِلًا مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى الْحَجَّاجِ لِيُقَاتِلَهُ وَيَأْخُذَ مِنْهُ العراق، فلما تَوَسَّطُوا الطَّرِيقَ قَالُوا: إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لابن مروان فخلعوهما وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ فَبَايَعَهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسِنَةِ رَسُولِهِ وَخَلْعِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَجِهَادِ الملحدين، فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ بَايَعَهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا صَنَعُوا مِنْ خَلْعِهِ وَخَلْعِ ابْنِ مَرْوَانَ، كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَعْجِلُهُ فِي بَعْثِهِ الْجُنُودَ إِلَيْهِ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَبَلَغَ الْمُهَلَّبَ خَبَرُ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَى عَلَيْهِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ يَا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ وَضَعْتَ رَجْلَكَ فِي رِكَابٍ طَوِيلٍ، أَبْقِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، انظر إلى نفسك فَلَا تُهْلِكْهَا، وَدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَسْفِكْهَا، وَالْجَمَاعَةِ فَلَا تُفَرِّقْهَا، وَالْبَيْعَةِ فَلَا تَنْكُثْهَا، فَإِنْ قُلْتَ أَخَافُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِي فاللَّه أَحَقُّ أَنْ تَخَافَهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تُعَرِّضْهَا للَّه فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ، أَوِ اسْتِحْلَالِ مُحَرَّمٍ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْكَ مِثْلَ السَّيْلِ المنحدر من علو لَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَرَارِهِ، وإن لأهل العراق شدة فِي أَوَّلِ مَخْرَجِهِمْ، وَصَبَابَةً إِلَى أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُمْ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ وينبسطوا إلى نسائهم وَيَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ. ثُمَّ وَاقِعْهُمْ عِنْدَهَا فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا قَرَأَ الْحَجَّاجُ كِتَابَهُ قَالَ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ، لَا وَاللَّهِ مَا لِي نَظَرَ وَلَكِنْ لِابْنِ عمه نصح. ولما وصل البريد بكتاب الْحَجَّاجِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ هَالَهُ ذَلِكَ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ وَبَعَثَ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَأَقْرَأَهُ كِتَابَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَ هَذَا الْحَدَثُ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ فَخَفْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ سِجِسْتَانَ فَلَا تَخَفْهُ، ثُمَّ أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي تَجْهِيزِ الْجُنُودِ مِنَ الشَّامِ إِلَى العراق في نصرة الحجاج وتجهيزه في الخروج إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَعَصَى رَأْيَ الْمُهَلَّبِ فِيمَا أشار به عليه، وكان في شوره النُّصْحُ وَالصِّدْقُ، وَجُعِلَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِخَبَرِ ابْنِ الْأَشْعَثِ صَبَاحًا وَمَسَاءً، أَيْنَ نَزَلَ وَمِنْ أَيْنَ ارْتَحَلَ، وَأَيُّ النَّاسِ إِلَيْهِ أَسْرَعُ. وَجَعَلَ النَّاسُ يَلْتَفُّونَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ سَارَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ فَارِسٍ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُنُودِ الشَّامِ مِنَ الْبَصْرَةِ نَحْوَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَنَزَلَ تُسْتَرَ وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُطَهِّرَ بْنَ حيي الكعبي(9/36)
أَمِيرًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُمَيْتٍ أَمِيرًا آخَرَ، فَانْتَهَوْا إِلَى دُجَيْلٍ فَإِذَا مُقَدِّمَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَانٍ الْحَارِثِيُّ، فَالْتَقَوْا فِي يَوْمِ الْأَضْحَى عِنْدَ نَهْرِ دُجَيْلٍ، فَهُزِمَتْ مُقَدِّمَةُ الْحَجَّاجِ وَقَتَلَ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَاحْتَازُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ خُيُولٍ وَقُمَاشٍ وَأَمْوَالٍ. وَجَاءَ الْخَبَرُ إلى الحجاج بهزيمة أصحابه وأخذه مَا دَبَّ وَدَرَجَ.
وَقَدْ كَانَ قَائِمًا يَخْطُبُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْجِعُوا إِلَى الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ أرفق بالجند، فرجع بالناس وتبعهم خُيُولُ ابْنِ الْأَشْعَثِ لَا يُدْرِكُونَ مِنْهُمْ شَاذًّا إِلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا فَاذًّا إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَمَضَى الْحَجَّاجُ هَارِبًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ حَتَّى أَتَى الزَّاوِيَةَ فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا وَجَعَلَ يَقُولُ: للَّه در المهلب أي صاحب حرب هذا، قَدْ أَشَارَ عَلَيْنَا بِالرَّأْيِ وَلَكِنَّا لَمْ نَقْبَلْ، وَأَنْفَقَ الْحَجَّاجُ عَلَى جَيْشِهِ وَهُوَ بِهَذَا الْمَكَانِ مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَخَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا، وَجَاءَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ وَاجْتَمَعُوا بِأَهَالِيهِمْ وَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ، وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ البصرة فخطب الناس بهم وَبَايَعَهُمْ وَبَايَعُوهُ عَلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَنَائِبِهِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَيْسَ الْحَجَّاجُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ لِنُقَاتِلَهُ، وَوَافَقَهُ عَلَى خَلْعِهِمَا جَمِيعُ من في البصرة مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالشُّيُوخِ وَالشَّبَابِ، ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هذه السنة.
وحج بالناس فيها إسحاق بن عيسى فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِيهَا غَزَا مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَمِيرُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ فَافْتَتَحَ مُدُنًا كَثِيرَةً، وَأَرَاضِيَ عَامِرَةً، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إلى الرقاق الْمُنْبَثِقِ مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ الْمُحِيطِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
بجير بن ورقاء الصريمى
أحد الأشراف بخراسان، والقواد والأمراء الَّذِي حَارَبَ ابْنَ خَازِمٍ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ ثُمَّ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
سُوِيدُ بْنُ غَفْلَةَ بْنِ عَوْسَجَةَ بْنِ عَامِرٍ
أَبُو أُمَيَّةَ الْجَعَفِيُّ الْكُوفِيُّ، شَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُخَضْرَمِينَ وَيُقَالُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى مَعَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يره، وَقِيلَ إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَهُ بِسَنَتَيْنِ، وَعَاشَ مِائَةً وعشرين سنة لم ير يوما محتنيا ولا متساندا، وافتض بكرا عام وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ
كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الزهاد، والعلماء، وَلَهُ وَصَايَا وَكَلِمَاتٌ حِسَانٌ، وَقَدْ رَوَى عِدَّةَ أحاديث عن الصحابة وعن خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ(9/37)
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو الْقَاسِمِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بابن الحنفية، وكانت سوداء سندية من بَنِي حَنِيفَةَ اسْمُهَا خَوْلَةُ. وُلِدَ مُحَمَّدٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَوَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَدْ صَرَعَ مَرْوَانَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَنَاشَدَهُ مَرْوَانُ باللَّه وَتَذَلَّلَ لَهُ فَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ ذَكَّرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ عَفْوًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَفَا عَنْهُ وأجزل له الجائزة، وكان محمد ابن عَلِيٍّ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَمِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَمِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَلَمَّا بُويِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ يُبَايِعْهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا شَرٌّ عَظِيمٌ حَتَّى هَمَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَبَايَعَهُ ابْنُ عُمَرَ تَابَعَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. وَالرَّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بِجَبَلِ رَضْوَى، وَأَنَّهُ حَيٌّ يُرْزَقُ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ، وَقَدْ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي ذَلِكَ
أَلَا إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ ... وُلَاةُ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ
عَلَيٌّ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ بَنِيهِ ... هُمُ الْأَسْبَاطُ لَيْسَ بِهِمْ خَفَاءُ
فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيمَانٍ وَبِرٍّ ... وَسِبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبُلَاءُ
وَسِبْطٌ لَا تَرَاهُ الْعَيْنُ حتى ... تعود الخيل يقدمها لواء
ولما هم ابن الزبير بابن الحنفية كتب ابن الحنفية إلى شيعتهم بالكوفة مع أبى الطفيل واثلة بن الأسقع وعلى الكوفة المختار بن عبيد الله، وقد كان ابن الزبير جمع لهم حطبا كثيرا على أبوابهم ليحرقهم بالنار، فلما وصل كتاب ابن الحنفية إلى المختار، وقد كان المختار يدعو إليه ويسميه المهدي، فبعث المختار أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف فاستنقذوا بنى هاشم من يدي ابن الزبير. وخرج معهم ابن عباس فمات بالطائف وبقي ابن الحنفية في شيعته، فأمره ابن الزبير أن يخرج عنه فخرج إلى أرض الشام بأصحابه وكانوا نحو سبعة آلاف، فلما وصل إلى أيلة كتب إليه عبد الملك: إما أن تبايعنى وإما أن تخرج من أرضى، فكتب إليه ابن الحنفية: أبايعك على أن تؤمّن أصحابى، قال نعم فقام ابن الحنفية في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد للَّه الّذي حقن دماءكم وأحرز دينكم فمن أحب منكم أن يأتى مأمنه إلى بلده محفوظا فليفعل، فرحل عنه الناس إلى بلادهم حتى بقي في سبعمائة رجل، فأحرم بعمرة وقلد هديا وسار نحو مكة، فلما أراد دخول الحرم بعث إليه ابن الزبير خيلا فمنعه أن يدخل، فأرسل إليه: إنا لم نأت لحرب ولا لقتال، دعنا ندخل حتى نقضي نسكنا ثم نخرج عنك، فأبى عليه وكان معه بدن قد قلدها فرجع إلى المدينة فأقام بها محرما حتى قدم الحجاج وقتل ابن الزبير. فكان ابن الحنفية في تلك المدة محرما، فلما سار الحجاج إلى العراق مضى ابن الحنفية إلى مكة وقضى نسكه(9/38)
وذلك بعد عدة سنين، وكان القمل يتناثر منه في تلك المدة كلها، فلما قضى نسكه رجع إلى المدينة أقام بها حتى مات، وقيل إن الحجاج لما قتل ابن الزبير بعث إلى ابن الحنفية: قد قتل عدو الله فبايع، فكتب إليه إذا بايع الناس كلهم بايعت، فقال الحجاج: والله لأقتلنك، فقال ابن الحنفية:
إن للَّه في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ، في كل نظرة ثلاثمائة وستون قضية، فلعل الله تعالى أن يجعلني في قضية منها فيكفينيك فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك فأعجبه قوله وكتب إليه قد عرفنا أن محمدا ليس عنده خلاف فارفق به فهو يأتيك ويبايعك، وكتب عبد الملك بكلامه ذلك إن للَّه ثلاثمائة وستين نظرة إلى ملك الروم، وذلك أن ملك الروم كتب إلى عبد الملك يتهدده بجموع من الجنود لا يطيقها أحد، فكتب بكلام ابن الحنفية فقال ملك الروم: إن هذا الكلام ليس من كلام عبد الملك، وإنما خرج من بيت نبوة، ولما اجتمع الناس على بيعة عبد الملك قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء فبايع، فكتب بيعته إلى عبد الملك ووفد عليه بعد ذلك.
توفى ابن الحنفية في المحرم بالمدينة وعمره خمس وستون سنة، وكان له من الولد عبد الله وحمزة وعلى وجعفر الأكبر والحسن وإبراهيم والقاسم وعبد الرحمن وجعفر الأصغر وعون ورقية، وكلهم لأمهات شتى. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَتْ شِيعَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَفِيهِ يَقُولُ السَّيِّدُ
أَلَا قُلْ لِلْوَصِيِّ فَدَتْكَ نَفْسِي ... أَطَلْتَ بِذَلِكَ الْجَبَلِ الْمُقَامَا
أَضَرَّ بِمَعْشَرٍ وَالَوْكَ مِنَّا ... وَسَمَّوْكَ الْخَلِيفَةَ وَالْإِمَامَا
وَعَادَوْا فِيكَ أَهْلَ الْأَرْضِ طُرًّا ... مَقَامُكَ فيهم سِتِّينَ عَامَا
وَمَا ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ ... وَلَا وَارَتْ لَهُ أَرْضٌ عِظَامَا
لَقَدْ أَمْسَى بِمُورِقِ شِعْبِ رَضْوَى ... تُرَاجِعُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلَامَا
وَإِنَّ لَهُ بِهِ لَمَقِيلَ صِدْقٍ ... وَأَنْدِيَةً تُحَدِّثُهُ كراما
هدانا الله ادخرتم لأمر ... به عليه يلتمس التماما
تمام نوره الْمَهْدِيِّ حَتَّى ... تَرَوْا رَايَاتِهِ تَتْرَى نِظَامَا
وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ إِلَى إِمَامَتِهِ وَأَنَّهُ يُنْتَظَرُ خُرُوجُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا يَنْتَظِرُ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيَّ، الَّذِي يَخْرُجُ فِي زَعْمِهِمْ مِنْ سِرْدَابِ سَامَرَّا، وهذا من خرافاتهم وهذيانهم وجهلهم وضلالهم وترهاتهم، وسنزيد ذلك وضوحا في موضعه وإن شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ
فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّاوِيَةِ بَيْنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَالْحَجَّاجِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ توافقوا يَوْمًا آخَرَ فَحَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ أَحَدُ أُمَرَاءِ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى(9/39)
مَيْمَنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهَا وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي هذا اليوم، وخر الحجاج للَّه ساجدا بعد ما كان جثى عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَسَلَّ شَيْئًا مِنْ سَيْفِهِ وَجَعَلَ يَتَرَحَّمُ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَقُولُ: مَا كان أكرمه حتى صَبَرَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَبُو الطُّفَيْلِ بن عامر بن وائلة اللَّيْثِيُّ، وَلَمَّا فَرَّ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ رَجَعَ ابن الأشعث بمن بقي معه ومن تبعه مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ فَعَمَدَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عياش بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَبَايَعُوهُ، فَقَاتَلَ الْحَجَّاجَ خَمْسَ لَيَالٍ أَشَدَّ الْقِتَالِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِابْنِ الْأَشْعَثِ، وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَاسْتَنَابَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْبَصْرَةِ أيوب بن الحكم ابن أَبِي عَقِيلٍ، وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْكُوفَةَ فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَكَثُرَ مُتَابِعُو ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى ذَلِكَ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ جِدًّا وعظم الخطب، واتسع الخرق على الراقع.
قال الواقدي: ولما الْتَقَى جَيْشُ الْحَجَّاجِ وَجَيْشُ ابْنِ الْأَشْعَثِ بِالزَّاوِيَةِ جَعَلَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَقَالَ الْقُرَّاءُ وَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ-: أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ أَحَدٍ بأقبح مِنْكُمْ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ وَاسْتِذْلَالِهِمُ الضُّعَفَاءَ وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ حَمَلَتِ الْقُرَّاءُ- وَهُمُ الْعُلَمَاءُ- عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ حملة صادقة فبرعوا فِيهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا فَإِذَا هُمْ بِمُقَدَّمِهِمْ جَبَلَةُ بن زحر صريعا، فهدمهم ذَلِكَ فَنَادَاهُمْ جَيْشُ الْحَجَّاجِ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ قَدْ قَتَلْنَا طَاغِيَتَكُمْ، ثُمَّ حَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَيْسَرَةِ ابن الأشعث وعليها الأبرد بن مرة التميمي، فانهزموا ولم يقاتلوا كثيرا قِتَالٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ الْأَبْرَدُ شُجَاعًا لَا يَفِرُّ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ خَامَرَ، فَنُقِضَتِ الصُّفُوفُ وَرَكِبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ أَخَذَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَذَهَبَ إِلَى الْكُوفَةِ فبايعه أهلها، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ من هذه السنة.
وقعة دير الجماجم
قال الْوَاقِدِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَمَّا قَصَدَ الْكُوفَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا فَتَلَقَّوْهُ وَحَفَوْا بِهِ وَدَخَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً أَرَادَتْ أَنْ تُقَاتِلَهُ دُونَ مَطَرِ بْنِ نَاجِيَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَعَدَلُوا إِلَى الْقَصْرِ، فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الكوفة أمر بالسلالم فَنُصِبَتْ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ فَأَخَذَهُ وَاسْتَنْزَلَ مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَقَالَ لَهُ: اسْتَبْقِنِي فَإِنِّي خَيْرٌ مِنْ فُرْسَانِكَ، فَحَبَسَهُ ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَأَطْلَقَهُ وَبَايَعَهُ وَاسْتَوْثَقَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ أَمْرُ الْكُوفَةِ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَمَرَ بِالْمَسَالِحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحُفِظَتِ(9/40)
الثُّغُورُ وَالطُّرُقُ وَالْمَسَالِكُ. ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ رَكِبَ فَيْمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي الْبَرِّ حَتَّى مَرَّ بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَالْعُذَيْبِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْعَبَّاسِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَصْرَيْنِ فَمَنَعُوا الحجاج من دخول الْقَادِسِيَّةِ، فَسَارَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ قُرَّةَ، وَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الْبَصْرِيَّةِ وَالْكُوفِيَّةِ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ، وَمَعَهُ جنود كثيرة، وفيهم القراء وَخَلْقٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْعَثِ، أَمَا كَانَ يَزْجُرُ الطَّيْرَ حَيْثُ رَآنِي قَدْ نَزَلْتُ دَيْرَ قُرَّةَ، وَنَزَلَ هُوَ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِمَّنْ يَأْخُذُ الْعَطَاءَ، وَمَعَهُمْ مِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ، وَقَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ فِي غُبُونِ ذَلِكَ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّامِ، وَخَنْدَقَ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا يُمْتَنَعُ بِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ كَانَ يَبْرُزُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ فيقتتلون قتالا شديدا في كل حين، حَتَّى أُصِيبَ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ خَلْقٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَةِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرْضِيهِمْ مِنْكَ أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمُ الْحَجَّاجَ فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِتَالِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَمَعَهُمَا جُنُودٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كَانَ يُرْضِيكُمْ مِنِّي عَزْلُ الْحَجَّاجِ عنكم عزلته عنكم، وبعثت عَلَيْكُمْ أُعْطِيَّاتِكُمْ مِثْلَ أَهْلِ الشَّامِ، وَلْيَخْتَرِ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ يَكُونُ عَلَيْهِ أَمِيرًا مَا عَاشَ وَعِشْتُ، وَتَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَالَ فِي عَهْدِهِ هَذَا: فَإِنْ لم تجب أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى ذَلِكَ فَالْحَجَّاجُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ إِمْرَةُ الْحَرْبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي طاعة الحجاج وَتَحْتَ أَمْرِهِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ رَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ عَزْلِهِ إِنْ رَضُوا بِهِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً جِدًّا وَعَظُمَ شَأْنُ هَذَا الرَّأْيِ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَ أَهْلَ الْعِرَاقِ نَزْعِي عَنْهُمْ لَا يَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يُخَالِفُوكَ وَيَسِيرُوا إِلَيْكَ، وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا جُرْأَةً عَلَيْكَ، أَلَمْ تَرَ وَتَسْمَعْ بِوُثُوبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ؟ فَلَمَّا سَأَلَهُمْ مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نَزْعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا نَزَعَهُ لَمْ تَتِمَّ لَهُمُ السَّنَةُ حَتَّى سَارُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ؟
وَإِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ، كَانَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا ارْتَأَيْتَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
قَالَ: فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا عَرْضَ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا أَمَرَ، فَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ فَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَذَكَرَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُوهُ مَعَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ: وَأَنَا رَسُولُ(9/41)
أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكُمْ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا غَدًا وَنَرُدُّ عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ عَشِيَّةً، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَاجْتَمَعَ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَزْلِ الْحَجَّاجِ عَنْهُمْ وَبَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَإِبْقَاءِ الْأُعْطِيَّاتِ وَإِمْرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ بَدَلَ الْحَجَّاجِ، فَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ، نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَهُمْ فِي ضِيقٍ مِنَ الْحَالِ وَقَدْ حَكَّمْنَا عَلَيْهِمْ وَذَلُّوا لَنَا، وَاللَّهِ لَا نُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا. ثُمَّ جَدَّدُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ ونائبة ثَانِيَةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ كُلُّهُمْ.
فَلَمَّا بَلَغَ عبد الله بن عبد الملك وعمه محمدا الْخَبَرُ قَالَا لِلْحَجَّاجِ: شَأْنُكَ بِهِمْ إِذًا، فَنَحْنُ فِي طَاعَتِكَ كَمَا أَمَرَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَا إِذَا لَقِيَاهُ سَلَّمَا عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ وَيُسَلِّمُ هُوَ أَيْضًا عَلَيْهِمْ بِالْإِمْرَةِ، وَتَوَلَّى الْحَجَّاجُ أَمْرَ الْحَرْبِ وَتَدْبِيرَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَرَزَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ اللَّخْمِيَّ، وَعَلَى الخليل سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ وَعَلَى الرَّجَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَبِيبٍ الْحَكَمِيَّ. وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَلَى ميمنته الحجاج بن حارثة الجشمي، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَعَلَى الخيالة عبد الرحمن ابن عياش بن أبى رَبِيعَةَ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ الزُّهْرِيَّ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ جَبَلَةَ بْنَ زحر بن قيس الجعفي، وكان فيهم سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ- وَكَانَ شجاعا فاتكا على كبر سنه- وأبو البحتري الطَّائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَجَعَلُوا يَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَأْتِيهِمُ الْمِيرَةُ مِنَ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ، من العلف والطعام، وأما أهل الشام الذين مع الحجاج فهم في أضيق حال مِنَ الْعَيْشِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الطَّعَامِ، وَقَدْ فَقَدُوا اللَّحْمَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَجِدُونَهُ، وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ وَقِتَالِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ، وَالدَّائِرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ. وَقَدْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ زِيَادُ بْنُ غَنْمٍ، وَكَسَرَ بِسْطَامُ بْنُ مِصْقَلَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ جُفُونَ سُيُوفِهِمْ وَاسْتَقْتَلُوا وَكَانُوا مِنْ أَصْحَابِ ابن الأشعث.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَهُوَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ظَالِمٌ أَبُو سَعِيدٍ الْأَزْدِيُّ أَحَدُ أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَوُجُوهِهِمْ وَدُهَاتِهِمْ وَأَجْوَادِهِمْ وَكُرَمَائِهِمْ، وُلِدَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانُوا يَنْزِلُونَ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ، وقد ارتد قومه فقالتهم عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الصِّدِّيقِ وَفِيهِمْ أَبُو صُفْرَةَ وَابْنُهُ الْمُهَلَّبُ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، ثُمَّ نَزَلَ الْمُهَلَّبُ الْبَصْرَةَ وَقَدْ غَزَا فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ أَرْضَ الْهِنْدِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَوَلِيَ الْجَزِيرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ وَلِيَ حَرْبَ الْخَوَارِجِ أَوَّلَ دَوْلَةِ الْحَجَّاجِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ فِي وَقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَمَانَمِائَةٍ، فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحَجَّاجِ.
وَكَانَ فَاضِلًا شُجَاعًا كَرِيمًا يُحِبُّ الْمَدْحَ، وَلَهُ كَلَامٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ: نِعْمَ الْخَصْلَةُ السَّخَاءُ تَسْتُرُ عَوْرَةَ الشَّرِيفِ(9/42)
وَتَلْحَقُ خَسِيسَةَ الْوَضِيعِ، وَتُحَبِّبُ الْمَزْهُودَ فِيهِ. وَقَالَ: يُعْجِبُنِي فِي الرَّجُلِ خَصْلَتَانِ أَنْ أَرَى عَقْلَهُ زَائِدًا عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا أَرَى لِسَانَهُ زَائِدًا على عقله.
توفى المهلب غازيا بمروالروذ وَعُمْرُهُ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ لَهُ عَشْرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ وَهُمْ:
يَزِيدُ، وَزِيَادٌ، وَالْمُفَضَّلُ، وَمُدْرِكٌ، وَحَبِيبٌ، وَالْمُغِيرَةُ، وَقَبِيصَةُ، وَمُحَمَّدٌ، وَهِنْدٌ، وَفَاطِمَةُ. تُوُفِّيَ الْمُهَلَّبُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ وَلَهُ مَوَاقِفُ حَمِيدَةٌ، وَغَزَوَاتٌ مَشْهُورَةٌ فِي التُّرْكِ وَالْأَزَارِقَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الخوارج، وجعل الأمر من بعده ليزيد بْنِ الْمُهَلَّبِ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ فَأَمْضَى لَهُ ذلك الحجاج وعبد الملك بن مروان.
[ممن توفى في هذه السنة]
أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي
وكان جوادا ممدحا، حكى أَنَّهُ رَأَى يَوْمًا شَابًّا عَلَى بَابِ دَارِهِ جَالِسًا فَسَأَلَهُ عَنْ قُعُودِهِ عَلَى بَابِهِ فَقَالَ: حَاجَةٌ لَا أَسْتَطِيعُ ذِكْرَهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: جَارِيَةٌ رَأَيْتُهَا دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا وَقَدْ خَطَفَتْ قَلْبِي مَعَهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَدْخَلَهُ دَارَهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِ كُلَّ جَارِيَةٍ عِنْدَهُ حَتَّى مَرَّتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ فَقَالَ: هَذِهِ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَاجْلِسْ عَلَى الْبَابِ مَكَانَكَ، فَخَرَجَ الشَّابُّ فَجَلَسَ مَكَانَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ وَالْجَارِيَةُ مَعَهُ قَدْ أَلْبَسَهَا أَنْوَاعَ الْحُلِيِّ، وَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْكَ وَأَنْتَ دَاخِلَ الدَّارِ إِلَّا أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ لِأُخْتِي، وَكَانَتْ ضَنِينَةً بِهَا، فَاشْتَرَيْتُهَا لَكَ مِنْهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَلْبَسْتُهَا هَذَا الْحُلِيَّ، فَهِيَ لَكَ بِمَا عَلَيْهَا، فَأَخَذَهَا الشَّابُّ وَانْصَرَفَ.
الْمُغِيرَةُ بن المهلب
ابن أَبِي صُفْرَةَ، كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، لَهُ مواقف مشهورة.
الحارث بن عبد الله
ابن رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ الْمَعْرُوفُ بِقُبَاعٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
كَانَ مِنْ فُضَلَاءِ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَعْقَلِهِمْ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
عَبْدُ اللَّهِ بن أبى طلحة بن أبى الْأَسْوَدِ
وَالِدُ الْفَقِيهِ إِسْحَاقَ حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ أُمُّ سُلَيْمٍ لَيْلَةَ مَاتَ ابْنُهَا فَأَصْبَحَ أَبُو طلحة فأخبر النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم: «عرستم بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا» . وَلَمَّا وُلِدَ حَنَّكَهُ بِتَمَرَاتٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ، لَهُ روايات، توفى بالمدينة هذه السنة
.(9/43)
عفان بْنُ وَهْبٍ
أَبُو أَيْمَنَ الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَغَزَا الْمَغْرِبَ، وَسَكَنَ مِصْرَ وَبِهَا مات.
جميل بن عبد الله
ابن مَعْمَرِ بْنِ صَبَّاحِ بْنِ ظَبْيَانَ بْنِ الْحَسَنِ بن ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبيد بْنِ كَثِيرِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ هذيم بن زيد بن ليث بن سرهد بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ. أَبُو عَمْرٍو الشَّاعِرُ صَاحِبُ بُثَيْنَةَ، كَانَ قَدْ خَطَبَهَا فَمُنِعَتْ مِنْهُ، فَتَغَزَّلَ فِيهَا وَاشْتَهَرَ بِهَا، وَكَانَ أَحَدَ عُشَّاقِ الْعَرَبِ، كَانَتْ إِقَامَتُهُ بِوَادِي الْقُرَى، وكان عفيفا حييا دَيِّنًا شَاعِرًا إِسْلَامِيًّا، مِنْ أَفْصَحِ الشُّعَرَاءِ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ رَاوِيَتَهُ، وَهُوَ يَرْوِي عن هدبة بن خثرم عَنِ الْحُطَيْئَةِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَابْنِهِ كَعْبٍ، قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ كَانَ جَمِيلٌ أشعر العرب حيث يقول: -
وأخبرتمانى أَنَّ تَيْمَاءَ مَنْزِلٌ ... لِلَيْلَى إِذَا مَا الصَّيْفُ ألقى المراسيا
فهذه شُهُورُ الصَّيْفِ عَنَّا قَدِ انْقَضَتْ ... فَمَا لِلنَّوَى تَرْمِي بِلَيْلَى الْمَرَامِيَا
وَمِنْهَا قَوْلُهُ
وَمَا زِلْتِ بى يابثن حَتَّى لَوَ انَّنِي ... مِنَ الشَّوْقِ أَسَتَبْكِي الْحَمَامَ بَكَى لِيَا
وَمَا زَادَنِي الْوَاشُونَ إِلَّا صَبَابَةً ... وَلَا كَثْرَةُ النَّاهِينَ إِلَّا تَمَادِيَا
وَمَا أَحْدَثَ النأى المفرق بيننا ... سلوّا ولا طول اجتماع تَقَالِيَا
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَذْبَةَ الرِّيقِ أَنَّنِي ... أَظَلُّ إِذَا لَمْ أَلْقَ وَجْهَكِ صَادِيَا
لَقَدْ خِفْتُ أَنْ أَلْقَى الْمَنِيَّةَ بَغْتَةً ... وَفِي النَّفْسِ حاجات إليك كما هيا
وله أيضا
إِنِّي لَأَحْفَظُ غَيْبَكُمْ وَيَسُرُّنِي ... لَوْ تَعْلَمِينَ بِصَالِحٍ أَنْ تَذْكُرِي
إِلَى أَنْ قَالَ
مَا أَنْتِ وَالْوَعْدُ الَّذِي تَعِدِينَنِي ... إِلَّا كَبَرْقِ سَحَابَةٍ لَمْ تمطر
وقوله وروى لعمرو:
مَا زِلْتُ أَبْغِي الْحَيَّ أَتْبَعُ فَلَّهُمْ ... حَتَّى دفعت إلى ربيبة هودج
ابن أبى ربيعة.
فَدَنَوْتُ مُخْتَفِيًا أُلِمُّ بِبَيْتِهَا ... حَتَّى وَلَجْتُ إِلَى خفي المولج
فيما نقله ابن عساكر
قَالَتْ وَعَيْشِ أَخِي وَنِعْمَةِ وَالِدِي ... لَأُنَبِّهَنَّ الْحَيَّ إِنْ لَمْ تَخْرُجِ
فَتَنَاوَلَتْ رَأْسِي لِتَعْرِفَ مَسَّهُ ... بِمُخَضَّبِ الْأَطْرَافِ غَيْرِ مُشَنَّجِ
فَخَرَجْتُ خِيفَةَ أَهْلِهَا فَتَبَسَّمَتْ ... فَعَلِمْتُ أَنَّ يَمِينَهَا لَمْ تَحَرَّجِ
فَلَثَمْتُ فاها آخذا بقرونها ... فرشفت ريقا باردا متثلج
قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: لَقِيَنِي جَمِيلُ بُثَيْنَةَ فَقَالَ: من أين أقبلت؟ فقلت: من عنده هذه الحبيبة، فقال وإلى أين؟ فقلت: وإلى هَذِهِ الْحَبِيبَةِ- يَعْنِي عَزَّةَ- فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا رَجَعْتَ إِلَى بُثَيْنَةَ فَوَاعَدْتَهَا لِي فَإِنَّ لِي مِنْ أَوَّلِ الصَّيْفِ مَا رَأَيْتُهَا، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِي بِهَا بِوَادِي الْقُرَى، وَهِيَ تَغْسِلُ هي(9/44)
وَأُمُّهَا ثَوْبًا فَتَحَادَثْنَا إِلَى الْغُرُوبِ، قَالَ كُثَيِّرٌ: فَرَجَعْتُ حَتَّى أَنَخْتُ بِهِمْ. فَقَالَ أَبُو بُثَيْنَةَ: مَا رَدَّكَ يَا ابْنَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: أَبْيَاتٌ قُلْتُهَا فَرَجَعْتُ لِأَعْرِضَهَا عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَأَنْشَدْتُهُ وَبُثَيْنَةُ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: -
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ أَرْسَلَ صَاحِبِي ... إِلَيْكِ رَسُولًا وَالرَّسُولُ مُوَكَّلُ
بِأَنْ تَجْعَلِي بَيْنِي وَبَيْنَكِ مَوْعِدًا ... وَأَنْ تَأْمُرِينِي مَا الَّذِي فِيهِ أَفْعَلُ
وَآخِرُ عَهْدِي مِنْكِ يَوْمَ لَقِيتِنِي ... بِأَسْفَلِ وَادِي الدَّوْمِ والثوب يغسل
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَقْبَلَتْ بُثَيْنَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَاعَدَتْهُ إِلَيْهِ، وَجَاءَ جَمِيلٌ وَكُنْتُ مَعَهُمْ فَمَا رَأَيْتُ لَيْلَةً أَعْجَبَ مِنْهَا وَلَا أَحْسَنَ مُنَادِمَاتٍ، وَانْفَضَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ وَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَفْهَمُ لِمَا فِي ضَمِيرِ صَاحِبِهِ مِنْهُ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى جَمِيلٍ وَهُوَ يَمُوتُ فَقَالَ لَهُ:
مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ قَطُّ، وَلَمْ يَزْنِ قَطُّ، وَلَمْ يَسْرِقْ وَلَمْ يَقْتُلِ النَّفْسَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: أَظُنُّهُ قَدْ نَجَا وَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ، فَمَنْ هَذَا؟ قَالَ: أنا، فقلت الله: ما أظنك سلمت وأنت تشبب بالنساء مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، بِبُثَيْنَةَ. فَقَالَ: لَا نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنِّي لَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ وَآخَرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِنْ كُنْتُ وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهَا بِرِيبَةٍ، قَالَ: فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى مَاتَ. قُلْتُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ فأكرمه وسأله عن حبه بثينة فقال: شديدا، وَاسْتَنْشَدَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ وَمَدَائِحِهِ فَأَنْشَدَهُ فَوَعَدَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَعَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ آمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ رَجُلٍ أَنَّ جَمِيلًا قَالَ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً إِلَى حَيِّ بُثَيْنَةَ وَلَكَ مَا عِنْدِي؟ قَالَ نَعَمْ! قَالَ: إذا أنامت فَارْكَبْ نَاقَتِي وَالْبَسْ حُلَّتِي هَذِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ أَبْيَاتًا مِنْهَا قَوْلُهُ
قُومِي بُثَيْنَةَ فَانْدُبِي بعويل ... وابكى خَلِيلًا دُونَ كُلِّ خَلِيلِ
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حيهم أنشد الأبيات فخرجت بثينة كأنها بدرسرى في جنة وَهِيَ تَتَثَنَّى فِي مَرْطِهَا فَقَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ قَتَلْتَنِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَقَدْ فَضَحْتَنِي. فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ صَادِقٌ وهذه حلته وناقته، فلما تحققت ذلك أنشدت أبياتا ترثيه بها وتتأسف عليه فيها، وأنه لا يطيب لها العيش بعده، ولا خير لها في الحياة بعد فقده، ثم ماتت من ساعتها: قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلَا بَاكِيَةً مِنْ يَوْمئِذٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ بِدِمَشْقَ: لَوْ تَرَكْتَ الشِّعْرَ وَحَفِظْتَ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: هَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لِحِكْمَةً»(9/45)
عمر بن عبيد الله
ابن مَعْمَرِ بْنِ عُثْمَانَ أَبُو حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ التَّمِيمِيُّ أَحَدُ الْأَجْوَادِ وَالْأُمَرَاءِ الْأَمْجَادِ، فُتِحَتْ عَلَى يَدَيْهِ بُلْدَانٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ نَائِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَقَدْ فَتَحَ كَابُلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ قُطْرِيَّ بْنَ الفجاءة، وروى عن ابن عمر وجابر وغيرهما، وعن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ. قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ. وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً كَانَتْ تُحْسِنُ الْقُرْآنَ وَالشِّعْرَ وَغَيْرَهُ فَأَحَبَّهَا حُبًّا شَدِيدًا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مَالَهُ كُلَّهُ حَتَّى أَفْلَسَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ سِوَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَقَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: قَدْ أَرَى مَا بِكَ مِنْ قِلَّةِ الشَّيْءِ. فَلَوْ بِعْتَنِي وَانْتَفَعْتَ بِثَمَنِي صَلُحَ حَالُكَ، فَبَاعَهَا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا- وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ- بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا قَبَضَ الْمَالَ نَدِمَ وَنَدِمَتِ الجارية، فأشارت تخاطب سيدها بأبيات شعر وهي: -
هَنِيئًا لَكَ الْمَالُ الَّذِي قَدْ أَخَذْتَهُ ... وَلَمْ يَبْقَ فِي كَفِّي إِلَّا تَفَكُّرِي
أَقُولُ لِنَفْسِي وهي في كرب عيشة ... أَقَلِّي فَقَدْ بَانَ الْخَلِيطُ أَوْ أَكْثَرِي
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ عِنْدَكِ حِيلَةٌ ... وَلَمْ تَجِدِي بُدًّا مِنَ الصَّبْرِ فَاصْبِرِي
فَأَجَابَهَا سَيِّدُهَا فَقَالَ: -
وَلَوْلَا قُعُودُ الدَّهْرِ بِي عَنْكِ لَمْ يكن ... لفرقتنا شيء سوى الموت فاصبرى
أَءُوبُ بِحُزْنٍ مِنْ فِرَاقِكِ مُوجِعٍ ... أُنَاجِي بِهِ قَلْبًا طَوِيلَ التَّذَكُّرِ
عَلَيْكِ سَلَامٌ لَا زِيَارَةَ بَيْنَنَا ... وَلَا وَصْلَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ابْنُ مَعْمَرِ
فَلَمَّا سَمِعَهُمَا ابْنُ مَعْمَرٍ قَدْ شَبَّبَتْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا فَرَقْتُ بَيْنَ مُحِبَّيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ الْمَالَ- وَهُوَ مِائَةُ أَلْفٍ- وَالْجَارِيَةَ لَمَّا رَأَى مِنْ تَوَجُّعِهِمَا عَلَى فِرَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَأَخَذَ الرِّجْلُ الْجَارِيَةَ وَثَمَنَهَا وَانْطَلَقَ. تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ هَذَا بِدِمَشْقَ بِالطَّاعُونِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَمَشَى فِي جِنَازَتِهِ وَحَضَرَ دَفْنَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ طَلْحَةُ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى صَدَاقٍ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَوْلَدَهَا إِبْرَاهِيمَ وَرَمْلَةَ، فَتَزَوَّجَ رَمْلَةَ إِسْمَاعِيلُ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
كُمَيْلُ بْنُ زِيَادِ
ابن نهيك بن خيثم النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ. رَوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَشَهِدَ مَعَ عَلَيٍّ صِفِّينَ، وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا، وَزَاهِدًا عَابِدًا، قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْقِصَاصَ مِنْ لَطْمَةٍ لَطَمَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ عُثْمَانُ مِنْ نَفْسِهِ عَفَا عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَوَ مِثْلُكَ يَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ القصاص؟(9/46)
ثُمَّ أَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، قَالُوا: وَذَكَرَ الْحَجَّاجُ عَلِيًّا فِي غُبُونِ ذَلِكَ فَنَالَ مِنْهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ كُمَيْلٌ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: وَاللَّهِ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكَ مَنْ يُبْغِضُ عَلِيًّا أَكْثَرَ مِمَّا تُحِبُّهُ أَنْتَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنَ أَدْهَمَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَيُقَالُ أَبَا الْجَهْمِ بْنَ كِنَانَةَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَقَدْ رَوَى عَنْ كُمَيْلٍ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَلَهُ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي أَوَّلُهُ «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا» وَهُوَ طَوِيلٌ قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ الثِّقَاتِ وَفِيهِ مَوَاعِظُ وَكَلَامٌ حسن رضى الله عن قائله.
ذاذان أَبُو عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ
أَحَدُ التَّابِعِينَ كَانَ أَوَّلًا يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَضْرِبُ بِالطُّنْبُورِ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ التَّوْبَةَ على يد عبد الله ابن مَسْعُودٍ وَحَصَلَتْ لَهُ إِنَابَةٌ وَرُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ، وَخَشْيَةٌ شَدِيدَةٌ، حَتَّى كَانَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ خشبة.
قَالَ خَلِيفَةُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ ترجمة (شقيق بْنُ سَلَمَةَ) أَبُو وَائِلٍ، أَدْرَكَ مِنْ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُمُّ الدَّرْدَاءِ الصُّغْرَى
اسْمُهَا هُجَيْمَةُ وَيُقَالُ جُهَيْمَةُ تَابِعِيَّةٌ عَابِدَةٌ عَالِمَةٌ فَقِيهَةٌ كَانَ الرِّجَالُ يَقْرَءُونَ عَلَيْهَا وَيَتَفَقَّهُونَ فِي الْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَتِهَا مَعَ الْمُتَفَقِّهَةِ يَشْتَغِلُ عَلَيْهَا وَهُوَ خَلِيفَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالنَّاسُ مُتَوَاقِفُونَ لِقِتَالِ الْحَجَّاجِ وَأَصْحَابِهِ بِدَيْرِ قُرَّةَ، وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ، وَالْمُبَارَزَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَاقِعَةٌ، وَفِي غَالِبِ الْأَيَّامِ تَكُونُ النُّصْرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّ أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ كَسَرُوا أَهْلَ الشَّامِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَرَّةً يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَالْحَجَّاجُ ثَابِتٌ فِي مَكَانِهِ صَابِرٌ وَمُصَابِرٌ لَا يَتَزَحْزَحُ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، بَلْ إِذَا حَصَلَ لَهُ ظَفَرٌ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ يَتَقَدَّمُ بِجَيْشِهِ إلى نحو عَدُّوِهِ، وَكَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْحَرْبِ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى أَمَرَ بِالْحَمْلَةِ عَلَى كَتِيبَةِ الْقُرَّاءِ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَصَبَرَ الْقُرَّاءُ لِحَمْلَةِ جَيْشِهِ، ثُمَّ جَمَعَ الرُّمَاةَ مِنْ جَيْشِهِ وَحَمَلَ بِهِمْ، وَمَا انْفَكَّ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ حَمَلَ على ابن الأشعث وعلى من معه من الجيش فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَذَهَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَهَرَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَعَهُ فَلٌّ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَتْبَعُهُ الْحَجَّاجُ جَيْشًا كثيفا مع عمارة بن غنم اللَّخْمِيِّ وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَالْإِمْرَةُ لِعِمَارَةَ، فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ يَطْرُدُونَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِهِ قَتْلًا أَوْ أَسْرًا، فَمَا زَالَ يَسُوقُ وَيَخْتَرِقُ الْأَقَالِيمَ(9/47)
وَالْكُورَ وَالرَّسَاتِيقَ، وَهُمْ فِي أَثَرِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى كَرْمَانَ، وَاتَّبَعَهُ الشَّامِيُّونَ فَنَزَلُوا فِي قَصْرٍ كَانَ فِيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ قَبْلَهُمْ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ قَدْ كَتَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِينَ فَرُّوا مَعَهُ مَنْ شعر أبى خلدة الْيَشْكُرِيِّ يَقُولُ:
أَيَا لَهَفَا وَيَا حُزْنَا جَمِيعًا ... وَيَا حَرَّ الْفُؤَادِ لِمَا لَقِينَا
تَرَكْنَا الدِّينَ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا ... وَأَسْلَمْنَا الْحَلَائِلَ وَالْبَنِينَا
فَمَا كُنَّا أناسا أهل دينا ... فَنَمْنَعُهَا وَلَوْ لَمْ نَرْجُ دِينًا
تَرَكْنَا دَوْرَنَا لِطَغَامِ عَكٍّ ... وَأَنْبَاطِ الْقُرَى وَالْأَشْعَرِينَا
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ دَخَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفَلِّ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَأَكْرَمَهُ رُتْبِيلُ وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ وَأَمَّنَهُ وَعَظَّمَهُ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَمَرَّ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ عَلَى عَامِلٍ لَهُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَأَكْرَمَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَأَنْزَلَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً بِهِ وَمَكْرًا، وَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ إِلَى عِنْدِي إِلَى الْبَلَدِ لِتَتَحَصَّنَ بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ وَلَكِنْ لَا تَدَعْ أَحَدًا مِمَّنْ مَعَكَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَكْرَ بِهِ، فَمَنْعَهُ أَصْحَابُهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَثَبَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فَمَسَكَهُ وَأَوْثَقَهُ بِالْحَدِيدِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ بِهِ يَدًا عِنْدَ الْحَجَّاجِ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ رُتْبِيلَ سُرَّ بِقُدُومِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا حَدَثَ لَهُ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْعَامِلِ بِمَدِينَةِ بُسْتَ، سَارَ حَتَّى أَحَاطَ بِبُسْتَ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَامِلِهَا يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ آذَيْتَ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسَتَنْزِلُكَ وَأَقْتُلُ جَمِيعَ مَنْ فِي بَلَدِكَ، فَخَافَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ وَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ فَأَكْرَمَهُ رُتْبِيلُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ لرُتْبِيلَ: إِنَّ هَذَا الْعَامِلَ كَانَ عَامِلِي وَمِنْ جِهَتِي، فَغَدَرَ بِي وَفَعَلَ مَا رَأَيْتَ، فَأْذَنْ لِي فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: قَدْ أَمَّنْتُهُ. وَكَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عياش ابن أبى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ هو الّذي يصلى بالناس لك فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ، ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفَلِّ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنَ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا وَسَارُوا وَرَاءَ ابْنِ الْأَشْعَثِ لِيُدْرِكُوهُ فَيَكُونُوا مَعَهُ- وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا- فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى سِجِسْتَانَ وَجَدُوا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ دَخَلَ إِلَى عِنْدِ رُتْبِيلَ فَتَغَلَّبُوا عَلَى سِجِسْتَانَ وَعَذَّبُوا عَامِلَهَا عبد الله بن عامر النعار وإخوته وقرابته، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَانْتَشَرُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَأَخَذُوهَا، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى نَكُونَ مَعَكَ نَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ، وَنَأْخُذُ بِلَادَ خراسان، فان بها جندا ومنعة كثيرة مِنَّا، فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ أَوْ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَنَرَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْنَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَسَارَ بِهِمْ قَلِيلًا إِلَى نَحْوِ خُرَاسَانَ فَاعْتَزَلَهُ شِرْذِمَةٌ مِنْ أَهْلِ العراق مع عبيد الله بْنِ سَمُرَةَ، فَقَامَ فِيهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ(9/48)
خَطِيبًا فَذَكَرَ غَدْرَهُمْ وَنُكُولَهُمْ عَنِ الْحَرْبِ، وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِكُمْ، وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى صَاحِبِي رُتْبِيلَ فَأَكُونُ عِنْدَهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ. فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَايَعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن عياش بن أبى رَبِيعَةَ الْهَاشِمِيَّ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى خُرَاسَانَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صفرة، فمنعهم من دخول بلاده، وكتب إلى عبد الرحمن بن عياش يَقُولُ لَهُ: إِنَّ فِي الْبِلَادِ مُتَّسَعًا فَاذْهَبْ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ بِهَا سُلْطَانٌ فَإِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا بَعَثْتُ إِلَيْكَ. فقال له: إنا لم نجيء لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا جِئْنَا نَسْتَرِيحُ وَنُرِيحُ خَيْلَنَا ثم نذهب وليست بنا حاجة إلى شيء مِمَّا عَرَضْتَ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ مِمَّا حَوْلُهُ مِنَ الْبِلَادِ مِنْ كور خراسان، فخرج إليه يزيد بن الملهب وَمَعَهُ أَخُوهُ الْمُفَضَّلُ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ، فَلَمَّا صَادَفُوهُمُ اقْتَتَلُوا غَيْرَ كَثِيرٍ ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عبد الرحمن بن عياش، وقتل يزيد منهم مقتلة كبيرة، واحتاز ما في معسكره، وَبَعَثَ بِالْأُسَارَى وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَيُقَالُ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ: أَسْأَلُكَ بِدَعْوَةِ أَبِي لِأَبِيكَ لَمَا أَطْلَقْتَنِي، فَأَطْلَقَهُ.
قَالَ ابن جَرِيرٍ: وَلِهَذَا الْكَلَامِ خَبَرٌ فِيهِ طُولٌ، وَلَمَّا قَدِمَتِ الْأُسَارَى عَلَى الْحَجَّاجِ قَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَعَفَا عَنْ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ يَوْمَ ظَهَرَ على ابن الأشعث نَادَى مُنَادِيهِ فِي النَّاسِ: مَنْ رَجَعَ فَهُوَ آمن ومن لحق بمسلم بن قتيبة بالري فهو آمن، فلحق بمسلم خَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَأَمَّنَهُمُ الْحَجَّاجُ، وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَكَانَ الشعبي من جملة من صار إلى مسلم بن قتيبة فذكره الحجاج يوما فقيل له: إنه سار إلى مسلم بن قتيبة، فكتب إلى مسلم: أن ابعث لي بِالشَّعْبِيِّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَمَرُونِي أَنْ أَعْتَذِرَ إِلَيْكَ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا الْحَقَّ كائنا في ذلك ما كان، قد والله تمردنا عليك، وخرجنا وَجَهَدْنَا كُلَّ الْجَهْدِ فَمَا آلَوْنَا، فَمَا كُنَّا بِالْأَقْوِيَاءِ الْفَجَرَةِ، وَلَا بِالْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ، وَلَقَدْ نَصَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَأَظْفَرَكَ بِنَا فَإِنْ سَطَوْتَ فَبِذُنُوبِنَا وَمَا جَرَّتْ إِلَيْكَ أَيْدِينَا، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فبحلمك، وبعد فلك الحجة عَلَيْنَا.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَنْتَ وَاللَّهِ يَا شَعْبِيُّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا يَقْطُرُ سَيْفُهُ مِنْ دِمَائِنَا ثُمَّ يَقُولُ: مَا فَعَلْتُ وَلَا شَهِدْتُ، قَدْ أَمِنْتَ عِنْدَنَا يَا شَعْبِيُّ. قَالَ: فَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا مَشَيْتُ قَلِيلًا قَالَ: هَلُمَّ يَا شَعْبِيُّ، قَالَ:
فَوَجَلَ لِذَلِكَ قَلْبِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ قَدْ أَمِنْتَ يَا شَعْبِيُّ فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي، فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ النَّاسَ بَعْدَنَا يَا شَعْبِيُّ؟ - قال: وكان لي مكرما قبل الخروج عليه- فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، قَدِ اكْتَحَلْتُ بَعْدَكَ السهر، واستوعرت السهل، وَاسْتَوْخَمْتُ الْجَنَابَ، وَاسْتَحْلَسْتُ الْخَوْفَ، وَاسْتَحْلَيْتُ الْهَمَّ،(9/49)
وَفَقَدْتُ صَالِحَ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ أَجِدْ مِنَ الْأَمِيرِ خلفا. قال انصرف يا شعبى، فانصرفت. ذكر ذلك ابن جرير وغيره. ورواه أبو مخنف عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عَنِ الشَّعْبِيِّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ مسألة في الفرائض وهي أم زوج وَأُخْتٌ وَمَا كَانَ يَقُولُهُ فِيهَا الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِيهَا، فَنَقَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ الشَّعْبِيُّ فِي ساعة فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَ عَلِيٍّ وَحَكَمَ بِقَوْلِ عُثْمَانَ، وَأُطْلِقَ الشَّعْبِيُّ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَ خَمْسَةَ آلَافِ أَسِيرٍ مِمَّنْ سَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا فَجَعَلَ لَا يُبَايِعُ أَحَدًا من أهلها إلا قال: اشهد عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ قَدْ كَفَرْتَ، فَإِذَا قَالَ نَعَمْ بَايَعَهُ، وَإِنْ أَبَى قَتَلَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ، قَالَ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: مَا أَظُنُّ هَذَا يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ- وَأَرَادَ الْحَجَّاجُ مُخَادَعَتَهُ- فَقَالَ: أَخَادِعِي أَنْتَ عَنْ نَفْسِي؟ أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وأكفر من فرعون وهامان ونمروذ. قَالَ: فَضَحِكَ الْحَجَّاجُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ أَنَّ أَعْشَى هَمْدَانَ أُتِيَ بِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ- وَكَانَ قَدْ عَمِلَ قَصِيدَةً هَجَا فِيهَا الْحَجَّاجَ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَيَمْدَحُ فِيهَا ابْنَ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ- فَاسْتَنْشَدَهُ إِيَّاهَا فَأَنْشُدَهُ قَصِيدَةً طَوِيلَةً دَالِيَّةً، فِيهَا مَدْحٌ كَثِيرٌ لِعَبْدِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَجَعَلَ أَهْلُ الشَّامِ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: إِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ، إِنَّمَا يَقُولُ هَذَا مُصَانَعَةٌ، ثُمَّ أَلَحَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْشُدَهُ قَصِيدَتَهُ الْأُخْرَى، فَلَمَّا أَنْشَدَهَا غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَاسْمُ الْأَعْشَى هَذَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَبُو الْمُصْبِحِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ الشَّاعِرُ، أَحَدُ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ فِي مُبْتَدَئِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ فَعُرِفَ بِهِ، وَقَدْ وَفَدَ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَهُوَ أَمِيرٌ بِحِمْصَ فَامْتَدَحَهُ، وَكَانَ مَحْصُولُهُ فِي رِحْلَتِهِ إِلَيْهِ مِنْهُ وَمِنْ جُنْدِ حِمْصَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ زَوْجَ أُخْتِ الشَّعْبِيِّ، كَمَا أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ زَوْجَ أُخْتِهِ أَيْضًا، وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَتَلَهُ الْحَجَّاجُ كَمَا ذَكَرْنَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ وَهُوَ مُوَاقِفٌ لِابْنِ الْأَشْعَثِ بَعَثَ كَمِينًا يَأْتُونَ جَيْشَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ تَوَاقَفَ الْحَجَّاجُ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَهَرَبَ الْحَجَّاجُ بِمَنْ مَعَهُ وَتَرَكَ مُعَسْكَرَهُ، فَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ فَاحْتَازَ مَا فِي الْمُعَسْكَرِ وَبَاتَ فِيهِ، فَجَاءَتِ السَّرِيَّةُ إِلَيْهِمْ لَيْلًا وَقَدْ وَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَمَالُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، وَرَجَعَ الْحَجَّاجُ بِأَصْحَابِهِ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي دِجْلَةَ وَدُجَيْلٍ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَقَتَلَ مَنْ وَجَدَهُ فِيهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَاحْتَازُوهُ بِكَمَالِهِ، وَانْطَلَقَ ابْنُ الْأَشْعَثِ هَارِبًا فِي ثَلَاثمِائَةٍ فَرَكِبُوا دُجَيْلًا فِي السُّفُنِ وَعَقَرُوا دَوَابَّهُمْ وَجَازَوْا إلى البصرة، ثم ساروا من هنالك(9/50)
إلى بلاد الترك، وكان في دخوله بلاد رتبيل ما تقدم، ثُمَّ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِ أَصْحَابِ ابْنِ الأشعث فجعل يقتلهم مَثْنَى وَفُرَادَى، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، قاله النضر ابن شُمَيْلٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَجَمَاعَاتٌ مِنَ السادات الأخيار، والعلماء الأبرار، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
بِنَاءُ وَاسِطٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنِي الحجاج واسط، وَكَانَ سَبَبَ بِنَائِهِ لَهَا أَنَّهُ رَأَى رَاهِبًا عَلَى أَتَانٍ قَدْ أَجَازَ دِجْلَةَ، فَلَمَّا مَرَّ بِمَوْضِعِ وَاسِطٍ وَقَفَتْ أَتَانُهُ فَبَالَتْ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَعَمَدَ إِلَى مَوْضِعِ بَوْلِهَا فَاحْتَفَرَهُ وَرَمَى بِهِ فِي دِجْلَةَ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: عَلَيَّ بِهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ يُبْنَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَسْجِدٌ يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يُوَحِّدُهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَطَّ الْحَجَّاجُ مَدِينَةَ وَاسِطٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَبَنَى الْمَسْجِدَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ عَطَاءِ بْنِ رَافِعٍ صَقَلِّيَةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جحيرة
الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ أَمِيرُ مِصْرَ قَدْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَصَصِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ رِزْقُهُ فِي الْعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ لَا يَدَّخِرُ مِنْهَا شَيْئًا.
طَارِقُ بْنُ شهاب
ابن عَبْدِ شَمْسٍ الْأَحْمَسِيُّ مِمَّنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَا فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ غَزَاةً، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ هَذِهِ السَّنَةَ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عدي
ابن الْخِيَارِ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحدث عن جماعة من الصحابة عبد الله بن قيس ابن مخرمة، كان قاضى المدينة. وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ قُرَيْشٍ وَعُلَمَائِهِمْ وَأَبُوهُ عَدِيٌّ ممن قتل يوم بدر كافرا وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْخَيْرِ الْيَزْنِيُّ. وَفِيهَا فُقِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْأَشْعَثِ، مِنْهُمْ مَنْ هَرَبَ وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُسِرَ فَضَرَبَ الْحَجَّاجُ عُنُقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَبَّعَهُ الْحَجَّاجُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَقَدْ سَمَّى مِنْهُمْ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْيَانِ، فَمِنْهُمْ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو مَرَّانَةَ الْعِجْلِيُّ قُتِلَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الغفار قتل، وعقبة بن وشاح قتل، وعبد الله بن خالد الْجَهْضَمِيُّ قُتِلَ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ الرَّبَعِيُّ قُتِلَ، وَالنَّضِرُ بن أنس، وعمران والد أبى حمزة الضُّبَعِيُّ، وَأَبُو الْمِنْهَالِ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ الرِّيَاحِيُّ، ومالك بن دينار، ومرة بن ذباب الهدادى وأبو نجيد الجهضمي، وأبو سبيج الْهَنَائِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَأَخُوهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ أَيُّوبُ:(9/51)
قِيلَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ النَّاسُ حَوْلَكَ كَمَا قُتِلُوا حَوْلَ هَوْدَجِ عَائِشَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ فَأَخْرِجِ الْحَسَنَ مَعَكَ، فَأَخْرَجَهُ. وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَعْرُورُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفِ، وَزُبَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ الْيَامِيَّانِ، وَعَطَاءُ بْنُ السائب. قال أيوب: فما منهم صُرِعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ إِلَّا رَغِبَ عَنْ مَصْرَعِهِ، وَلَا نَجَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ الَّذِي سَلَّمَهُ. وَمِنْ أَعْيَانِ مَنْ قَتَلَ الْحَجَّاجُ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ الضُّبَعِيُّ، وَالِدُ أَبِي حجزة، كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ صَالِحًا عَابِدًا، أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ لَهُ: اشْهَدْ عَلَى نَفْسِكَ بِالْكُفْرِ حَتَّى أُطْلِقَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي مَا كَفَرْتُ باللَّه مُنْذُ آمنت به، فأمر به فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَبِيهِ أَبِي لَيْلَى صُحْبَةٌ. أَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، خَرَجَ مَعَ ابْنِ الأشعث فأتى به الحجاج فَضُرِبَ عُنُقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِيهَا افْتَتَحَ عبد الله بن عبد الملك الْمِصِّيصَةَ، وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ أَرْمِينِيَّةَ فقتل منهم خلقا وصرف كَنَائِسَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ وَتُسَمَّى سَنَةَ الْحَرِيقِ، وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الحجاج على فارس محمد ابن الْقَاسِمِ الثَّقَفِيَّ، وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ الْأَكْرَادِ. وَفِيهَا وَلَّى عبد الملك الإسكندرية عياض بن غنم البجينى وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي الْكَنُودِ الَّذِي كَانَ قَدْ وَلِيَهَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي. وَفِيهَا افْتَتَحَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ طَائِفَةً مِنْ بلاد المغرب من ذلك بلد أرومة، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرًا كَثِيرًا جِدًّا، وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ أيضا جماعة من أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ،
مِنْهُمْ: أَيُّوبُ بْنُ الْقِرِّيَّةِ
وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا وَاعِظًا، قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ. وَهُوَ أيوب بن زيد ابن قَيْسٍ أَبُو سُلَيْمَانَ الْهِلَالِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقِرِّيَّةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ. وَسَعْدُ بن إياس الشيباني، وأبو غنينما الْخَوْلَانِيُّ. لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، سَكَنَ حِمْصَ وَبِهَا تُوُفِّيَ وَقَدْ قَارَبَ الْمِائَةَ سَنَةٍ. عَبْدُ اللَّهِ ابن قتادة، وغير هؤلاء جماعة منهم من قتلهم الْحَجَّاجُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُوُفِّيَ. أَبُو زُرْعَةَ الْجُذَامِيُّ الْفِلَسْطِينِيُّ، كَانَ ذَا مَنْزِلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ، فَخَافَ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فَفَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَهْدِمْ رُكْنًا بَنَيْتَهُ، وَلَا تُحْزِنُ صَاحِبًا سَرَرْتَهُ، وَلَا تُشْمِتْ عَدُوًّا كَبَتَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ مُعَاوِيَةُ.
وَفِيهَا توفى عتبة بن منذر السلمي صحابى جليل، كان يعد في أهل الصفة. عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الْخَارِجِيُّ، كَانَ أَوَّلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْخَوَارِجِ حَسَنَةً جَمِيلَةً جِدًّا فَأَحَبَّهَا، وَكَانَ هُوَ دَمِيمَ الشَّكْلِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى السُّنَّةِ فَأَبَتْ فَارْتَدَّ مَعَهَا إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنَ الشعراء(9/52)
المفلقين، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ وَقَاتِلِهِ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا
إِنِّي لَأَذْكُرهُ يوما فأحسبه ... أو في الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ بُطُونُ الطَّيْرِ قَبْرُهُمُ ... لَمْ يَخْلِطُوا دِينَهُمُ بَغْيًا وَعُدْوَانَا
وَقَدْ كَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِهِ هَذِهِ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ قَوْلُهُ: -
أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لَا يَسْأَمُونَهَا ... عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فَإِنَّهَا ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيلٍ تَقَشَّعُ
كَرَكْبٍ قَضَوْا حَاجَاتِهِمْ وَتَرَّحَلُوا ... طَرِيقَهُمُ بَادِي الْعَلَامَةِ مَهْيَعُ
مَاتَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي أَبْيَاتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَبْيَاتٍ عَلَى قَافِيَتِهَا وَوَزْنِهَا:
بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ خُسْرَانَا
إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ ... أَشْقَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا
رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ
كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ.
وَفِيهَا كَانَ مَهْلِكُ عَبْدُ الرحمن بن الأشعث الْكِنْدِيُّ وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا فاللَّه أَعْلَمُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى رُتْبِيلَ مَلِكِ الترك الّذي لجأ إليه ابن الأشعث يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ لَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ بِابْنِ الْأَشْعَثِ لَأَبْعَثَنَّ إِلَى بِلَادِكَ أَلْفَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَلِأُخَرِّبَنَّهَا. فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْوَعِيدُ مِنَ الْحَجَّاجِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ ابْنِ الْأَشْعَثِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُخَرِّبَ الْحَجَّاجُ دِيَارَهُ وَيَأْخُذَ عَامَّةَ أَمْصَارِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا إِلَّا مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الْخَرَاجِ، فَأَجَابَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ إِنَّ الْحَجَّاجَ وَعْدَهُ أَنْ يُطْلِقَ لَهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ سَبْعَ سِنِينَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ غَدَرَ رُتْبِيلُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ فَقِيلَ إِنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى ثَلَاثِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ فَقَيَّدَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ وَبَعَثَ بِهِمْ مَعَ رُسُلِ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطريق بمكان يقال له الرجح، صَعِدَ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيدِ إِلَى سَطْحِ قَصْرٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ مُوكَّلٌ بِهِ لِئَلَّا يَفِرَّ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَصْرِ وَسَقَطَ مَعَهُ الْمُوكَّلُ بِهِ فَمَاتَا جَمِيعًا، فَعَمَدَ الرَّسُولُ إِلَى رَأْسِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَاحْتَزَّهُ، وَقَتَلَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَمَرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْعِرَاقِ، ثم بعثه إلى عَبْدِ الْمَلِكِ فَطِيفَ(9/53)
بِرَأْسِهِ فِي الشَّامِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمِصْرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ هُنَالِكَ، ثم دفنوا رأسه بمصر وجثته بالرجح، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ: -
هَيْهَاتَ مَوْضِعُ جُثَّةٍ مِنْ رَأْسِهَا ... رَأْسٌ بِمِصْرَ وَجُثَّةٌ بالرجح
وَإِنَّمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَقْتَلَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَعَبْدُ الرحمن هذا هو أبو مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ، قَدْ رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَدِيثُ «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ البائع أو تشاركا» . وَعَنْهُ أَبُو الْعُمَيْسِ وَيُقَالُ إِنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَهُ بَعْدَ التِّسْعِينَ سَنَةً فاللَّه أَعْلَمُ. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِالْإِمَارَةِ وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنْدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْأَنْصَارَ سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَمِيرٌ مَعَ أَمِيرِ الْمُهَاجِرِينَ فَأَبَى الصِّدِّيقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ ضَرَبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الَّذِي دَعَا إِلَى ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَكَيْفَ يَعْمِدُونَ إِلَى خَلِيفَةٍ قَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ سِنِينَ فَيَعْزِلُونَهُ وَهُوَ مِنْ صلبية قُرَيْشٍ وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ كِنْدِيٍّ بَيْعَةً لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك فيه خلق كثير ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156
أيوب بن الْقِرِّيَّةِ
وَهِيَ أُمُّهُ وَاسْمُ أَبِيهِ يَزِيدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ مُسْلِمٍ النَّمِرِيُّ الْهِلَالِيُّ، كَانَ أَعْرَابِيًّا أُمِّيًّا، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ، صَحِبَ الْحَجَّاجَ وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَئِنْ لَمْ تَقُمْ خَطِيبًا فَتَخْلَعُ الْحَجَّاجَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَفَعَلَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْحَجَّاجُ اسْتَحْضَرَهُ وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُ مَقَامَاتٌ وَمَقَالَاتٌ فِي الْكَلَامِ، ثم آخِرِ الْأَمْرِ ضَرَبَ عُنُقَهُ وَنَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ضَرْبِ عُنُقِهِ، وَلَكِنْ نَدِمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ. كَمَا قِيلَ: وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ وَأَطَالَ تَرْجَمَتَهُ وَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ حَسَنَةً، قَالَ: والْقِرِّيَّةُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وهي جدته واسمها جماعة بِنْتُ جُشَمَ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ وَجُودَهُ وَوُجُودَ مَجْنُونِ لَيْلَى، وَابْنِ أَبِي الْعَقَبِ صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَقَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
روح بن زنباع
ابن سَلَامَةَ الْجُذَامِيُّ أَبُو زُرْعَةَ وَيُقَالُ أَبُو زِنْبَاعٍ الدِّمَشْقِيُّ دَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ الْبُزُورِيِّينَ عِنْدَ دار(9/54)
ابن عقب صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ. وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَمُعَاوِيَةُ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ. كَانَ رَوْحٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَالْوَزِيرِ لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَقَدْ أَمَّرَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَى جُنْدِ فِلَسْطِينَ، وَزَعَمَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَّ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يُتَابَعْ مُسْلِمٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَمِنْ مَآثِرِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا خَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ يُعْتِقُ نسمة، قال ابن زيد: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ بِالْأُرْدُنِّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً فَنَزَلَ عَلَى مَاءٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَأَمَرَ فَأُصْلِحَتْ لَهُ أَطْعِمَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، ثُمَّ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَأْكُلُ إِذْ جَاءَ رَاعٍ مِنَ الرُّعَاةِ يَرِدُ الْمَاءَ، فَدَعَاهُ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَجَاءَ الرَّاعِي فَنَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ وَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ رَوْحٌ: فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الطَّوِيلِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ تَصُومُ يَا رَاعِي؟ فَقَالَ الرَّاعِي: أَفَأَغْبِنُ أيامى من أجل طعامك؟ ثُمَّ إِنَّ الرَّاعِيَ ارْتَادَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا فَنَزَلَهُ وَتَرَكَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ، فَقَالَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ: -
لَقَدْ ضَنِنْتَ بِأَيَّامِكَ يَا رَاعِي ... إِذْ جَادَ بِهَا رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعِ
ثُمَّ إِنَّ رَوْحًا بَكَى طَوِيلًا وَأَمَرَ بِتِلْكَ الْأَطْعِمَةِ فَرُفِعَتْ، وَقَالَ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهَا آكِلًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَابِ أَوِ الرُّعَاةِ؟ ثُمَّ سَارَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقَدْ أَخَذَ الرَّاعِي بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ وَصَغُرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خمس وثمانين
فِيهَا كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ كَانَ مَقْتَلُ عبد الرحمن بن الأشعث فاللَّه أَعْلَمُ، وَفِيهَا عَزَلَ الْحَجَّاجُ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ وَفِدَ مَرَّةً عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا انْصَرَفَ مَرَّ بِدَيْرٍ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ فِيهِ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَالِمًا، فَدُعِيَ فَقَالَ: يَا شَيْخُ هَلْ تَجِدُونَ فِي كُتُبِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ فَمَا تَجِدُونَ صِفَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَجِدُهُ مَلِكًا أَقْرَعَ، مَنْ يَقُمْ في سبيله يُصْرَعُ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ ثُمَّ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ يَفْتَحُ بِهِ على الناس، قال: فتعرفني له قال: قد أخبرت بك. قال: أفتعرف مآلى؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَمَنْ يَلِي الْعِرَاقَ بَعْدِي؟ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ، قَالَ أَفِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟ قَالَ لَا أَدْرِي، قَالَ: أَفَتَعْرِفُ صِفَتَهُ؟ قَالَ يَغْدِرُ غَدْرَةً لَا أَعْرِفُ غَيْرَهَا قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَسَارَ سَبْعًا وَهُوَ وَجِلٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَعْفِيهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ لِيَعْلَمَ مَكَانَتَهُ عِنْدَهُ؟ فَجَاءَ الْكِتَابُ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ جَلَسَ يَوْمًا مُفَكِّرًا وَاسْتَدْعَى(9/55)
بِعُبَيْدِ بْنِ مَوْهَبٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُبَيْدُ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مَا تَحْتَ يَدِي سَيَلِيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ ويزيد ابن حصين بن نمير ويزيد بن دينار وليسوا هناك، وما هو إِلَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ. فَقَالَ عُبَيْدٌ: لَقَدْ شرفتهم وعظمت ولايتهم وإن لهم لقدرا وَجَلَدًا وَحَظًّا فَأَخْلِقْ بِهِ. فَأَجْمَعَ رَأْيُ الْحَجَّاجِ على عزل يزيد ابن الْمُهَلَّبِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَذُمُّهُ وَيُخَوِّفُهُ غَدْرُهُ وَيُخْبِرُهُ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْخُ الكتابي، فجاء البريد بكتاب فيه قَدْ أَكْثَرْتَ فِي شَأْنِ يَزِيدَ فَسَمِّ رَجُلًا يَصْلُحُ لِخُرَاسَانَ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُ الْحَجَّاجِ عَلَى الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَوَلَّاهُ قَلِيلًا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَغَزَا بلاد عبس وَغَيْرَهَا وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ لَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ بَلَدٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنْ بَلْدَةٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ تِرْمِذَ وَكَانَ مَلِكُهَا فِيهِ ضَعْفٌ، فَجَعَلَ يُهَادِنُهُ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ بِالْأَلْطَافِ وَالتُّحَفِ، حَتَّى جَعَلَ يَتَصَيَّدُ هُوَ وَهُوَ، ثُمَّ عَنَّ لِلْمَلِكِ فَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا وَبَعَثَ إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ أَنِ ائْتِنِي فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ جَيْشِهِ مِائَةً مِنْ شُجْعَانِهِمْ، ثُمَّ دخل البلد فلما فرغت الضيافة اضطجع موسى فِي دَارِ الْمَلِكِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْوَمُ مِنْ هُنَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا الْمَنْزِلُ مَنْزِلِي أَوْ يَكُونَ قَبْرِي: فَثَارَ أَهْلُ الْقَصْرِ إِلَيْهِ فَحَاجَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ تِرْمِذَ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ تِرْمِذَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، وَاسْتَدْعَى مُوسَى ببقية جَيْشِهِ إِلَيْهِ وَاسْتَحْوَذَ مُوسَى عَلَى الْبَلَدِ فَحَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَخَرَجَ مِنْهَا مَلِكُهَا هَارِبًا فَلَجَأَ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَاسْتَنْصَرَهُمْ فَقَالُوا له: هؤلاء قوم نحو من مائة رجل أخرجوك من بلدك، لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ مَلِكُ تِرْمِذَ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ التُّرْكِ فَاسْتَصْرَخَهُمْ فَبَعَثُوا مَعَهُ قُصَّادًا نَحْوَ مُوسَى لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِقُدُومِهِمْ- وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ- أَمْرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُؤَجِّجُوا نَارًا وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ الشِّتَاءِ وَيُدْنُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ النَّارِ كَأَنَّهُمْ يَصْطَلُونَ بِهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ رَأَوْا أَصْحَابَهُ وَمَا يَصْنَعُونَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فقالوا لهم: ما هذا الّذي نراكم تفعلون؟ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا نَجِدُ الْبَرْدَ فِي الصَّيْفِ وَالْكُرْبَ فِي الشِّتَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: مَا هَؤُلَاءِ بَشَرٌ، مَا هَؤُلَاءِ إِلَّا جِنٌّ ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا فَقَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ صَاحِبُ تِرْمِذَ فَاسْتَجَاشَ بِطَائِفَةٍ أُخْرَى فَجَاءُوا فحاصرهم بِتِرْمِذَ وَجَاءَ الْخُزَاعِيُّ فَحَاصَرَهُمْ أَيْضًا، فَجَعَلَ يُقَاتِلُ الْخُزَاعِيَّ أَوَّلَ النَّهَارِ وَيُقَاتِلُ آخِرَهُ الْعَجَمَ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى بَيَّتَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَأَفْزَعَ ذَلِكَ عُمَرَ الْخُزَاعِيَّ فَصَالَحَهُ وَكَانَ مَعَهُ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَلَيْسَ يرى معه سلاحا فقال له عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ(9/56)
أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِلَا سِلَاحٍ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي سِلَاحًا، ثُمَّ رَفَعَ صَدْرَ فِرَاشِهِ فَإِذَا سَيْفُهُ مُنْتَضًى فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَضَرْبَهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ وَخَرَجَ هَارِبًا، ثُمَّ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى عَزْلِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ إِمْرَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ فِي الليل، وكان لا يحجب عنه في أَيَّ سَاعَةٍ جَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى إِرَادَةِ عَزْلِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ الْوَلِيدِ ثُمَّ سُلَيْمَانَ ثُمَّ يَزِيدَ ثُمَّ هِشَامِ، وَذَلِكَ عَنْ رَأْيِ الْحَجَّاجِ وَتَرْتِيبِهِ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَبُوهُ مَرْوَانُ عَهِدَ بِالْأَمْرِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يُنَحِّيَهُ عَنِ الْإِمْرَةِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَجْعَلَ الْأَمْرَ فِي أَوْلَادِهِ وَعَقِبِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ بَاقِيَةً فِيهِمْ وَاللَّهُ أعلم.
عبد العزيز بن مروان
هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو الْأَصْبَغِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ أَبُوهُ إِمْرَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا إِلَى هَذِهِ السنة، وشهد قتل سعيد بن عمرو بْنِ الْعَاصِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ بدمشق وهي دار الصوفية الْيَوْمَ، الْمَعْرُوفَةُ بِالْخَانَقَاهِ السُّمَيْسَاطِيَّةِ ثُمَّ كَانَتْ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ تنقلت إلى أن صارت خانقاها لِلصُّوفِيَّةِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ في مسند أحمد وسنن أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ جبن خالع وشح هالع» . وَعَنْهُ ابْنُهُ عُمَرُ وَالزُّهْرِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ وَجَمَاعَةٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَلْحَنُ فِي الْحَدِيثِ وَفِي كَلَامِهِ، ثُمَّ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فَأَتْقَنَهَا وَأَحْسَنَهَا فَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَشْكُو خَتَنَهُ- وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ- فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: من ختنك؟ فقال الرجل: ختني الْخَاتِنُ الَّذِي يَخْتِنُ النَّاسَ، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ وَيْحَكَ بِمَاذَا أَجَابَنِي؟ فَقَالَ الْكَاتِبُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ مَنْ خَتَنُكَ، فَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ، فَمَكَثَ جُمُعَةً وَاحِدَةً فَتَعَلَّمَهَا فَخَرَجَ وَهُوَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْزِلُ عَطَاءَ مَنْ يُعْرِبُ كَلَامَهُ وَيَنْقُصُ عَطَاءَ مَنْ يَلْحَنُ فِيهِ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ إِلَى تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ يوما إلى رجل: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ، فقال: تجدها في جائزتك، فنقصت جائزته مائة دينار:(9/57)
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: ارْفَعْ إِلَيَّ حَاجَتَكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . وَلَسْتُ أَسْأَلُكَ شَيْئًا وَلَا أَرُدُّ رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سُوِيدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: بَعَثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بِأَلْفِ دِينَارٍ إِلَى ابن عمر قال: فجئت فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَالَ: أَيْنَ الْمَالُ؟ فَقُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُهُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أُصْبِحَ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا يَبِيتُ ابْنُ عُمَرَ اللَّيْلَةَ وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ، قَالَ: فَدَفَعَ إِلَيَّ الْكِتَابَ حَتَّى جِئْتُهُ بِهَا فَفَرَّقَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَجَبًا لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ وَيُوقِنُ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ وَيُخْلِفُ عَلَيْهِ، كَيْفَ يَحْبِسُ مالا عن عظيم أجر وحسن ثناء. ولما حضرته الوفاة أحضر له مال يحصيه وإذا هو ثلاثمائة مدّ مِنْ ذَهَبَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُ بَعْرٌ حَائِلٌ بِنَجْدٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَلَوَدِدْتُ أَنْ أَكُونَ هَذَا الْمَاءَ الْجَارِيَ، أَوْ نَبَاتَةً بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَقَالَ لهم: ائْتُونِي بِكَفَنِي الَّذِي تُكَفِّنُونِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أُفٍّ لَكَ مَا أَقْصَرَ طَوِيلَكَ، وَأَقَلَّ كَثِيرَكَ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عن الليث بن سعد قال: كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ يَعْقُوبَ بن سفيان وَالصَّوَابُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ عبد الملك أخيه، ومات عبد الملك بعده بسنه سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَهُوَ وَالِدُ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدِ اكْتَسَى عُمْرُ أَخْلَاقَ أَبِيهِ وَزَادَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَكَانَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ عُمْرَ، عَاصِمٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَصْبَغُ- مَاتَ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ فَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا كَثِيرًا وَمَرِضَ بَعْدَهُ وَمَاتَ. وَسُهَيْلٌ وَكَانَ له عدة بنات، أم محمد وسهيل وَأُمُّ عُثْمَانَ وَأُمُّ الْحَكَمِ وَأُمُّ الْبَنِينَ وَهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتٍ شَتَّى، وَلَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ مِصْرَ وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ فِي النِّيلِ ودفن بها، وقد ترك عبد العزيز مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَعْجَزُ عَنْهُ الْوَصْفُ، من جملة ذلك ثلاثمائة مدّ من ذَهَبٍ غَيْرُ الْوَرِقِ، مَعَ جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَبَذْلِهِ وَعَطَايَاهُ الْجَزِيلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْطَى النَّاسَ لِلْجَزِيلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْعَهْدِ الَّذِي لَهُ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ أَوْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ أَعَزُّ الْخَلْقِ عَلَيَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: إِنِّي أَرَى فِي أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا تَرَى فِي الْوَلِيدِ. فَكَتَبَ(9/58)
إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَأْمُرُهُ. بِحَمْلِ خَرَاجِ مِصْرَ- وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لَا يَحْمِلُ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْخَرَاجِ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلَادُ مِصْرَ بِكَمَالِهَا وَبِلَادُ الْمَغْرِبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّهَا لِعَبْدِ الْعَزِيزِ، مَغَانِمُهَا وَخَرَاجُهَا وَحِمْلُهَا- فَكَتَبَ عبد العزيز إلى عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنِّي وَإِيَّاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قد بلغنا سنّا لا يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ إِلَّا كَانَ بَقَاؤُهُ قَلِيلًا، وَإِنِّي لَا أَدْرِي وَلَا تَدْرِي أَيُّنَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ أَوَّلًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ لا تعتب عَلَيَّ بَقِيَّةَ عُمْرِي فَافْعَلْ، فَرَقَّ لَهُ عَبْدُ الملك وكتب إليه: لعمري لا أعتب عَلَيْكَ بَقِيَّةَ عُمْرِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ عنك، ثم قال لابنه الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ: هَلْ قَارَفْتُمَا مُحَرَّمًا أَوْ حَرَامًا قط؟ فقالا: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، نِلْتُمَاهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَيُقَالُ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا امْتَنَعَ أخوه من إجابته إلى ما طلب منه في بَيْعَتِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ دَعَا عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهمّ إِنَّهُ قَطَعَنِي فَاقْطَعْهُ، فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْلًا حَزِنَ وَبَكَى وَبَكَى أَهْلُهُ بُكَاءً كَثِيرًا عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَكِنْ سَرَّهُ ذلك من جهة ابنيه فإنه نال فيها مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ لَهُمَا مِنْ وِلَايَتِهِ إِيَّاهُمَا بعده. وقد كان الحجاج بعث إلى عبد الملك يحسن له ولاية الوليد ويزينها له مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْفَدَ إِلَيْهِ وَفَدًا فِي ذَلِكَ عليهم عمران بن عصام العثرى، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَامَ عِمْرَانُ خَطِيبًا فَتَكَلَّمَ وَتَكَلَّمَ الْوَفْدُ فِي ذَلِكَ وَحَثُّوا عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْشَدَ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ فِي ذَلِكَ:
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ نُهْدِي ... عَلَى النَّأْيِ التَّحِيَّةَ وَالسِّلَامَا
أَجِبْنِي فِي بَنِيكَ يَكُنْ جَوَابِي ... لَهُمْ عَادِيَةً وَلَنَا قِوَامَا
فَلَوْ أَنَّ الْوَلِيدَ أُطَاعُ فِيهِ ... جَعَلْتَ لَهُ الْخِلَافَةَ وَالذِّمَامَا
شَبِيهُكَ حَوْلَ قُبَّتِهِ قُرَيْشٌ ... بِهِ يَسْتَمْطِرُ النَّاسُ الْغَمَامَا
وَمِثْلُكَ فِي التُّقَى لَمْ يَصْبُ يَوْمًا ... لَدُنْ خَلَعَ الْقَلَائِدَ وَالْتِمَامًا
فَإِنْ تُؤْثِرْ أَخَاكَ بِهَا فَإِنَّا ... وَجَدِّكَ لَا نُطِيقُ لَهَا اتِّهَامَا
وَلَكِنَّا نُحَاذِرُ مِنْ بَنِيهِ ... بَنِي الْعَلَّاتِ مَأْثَرَةً سَمَامَا
وَنَخْشَى إِنْ جَعَلْتَ الْمُلْكَ فِيهِمْ ... سَحَابًا أَنْ تَعُودَ لَهُمْ جَهَامَا
فَلَا يَكُ مَا حَلَبْتَ غدا لقوم ... وبعد غد بنوك هم العباما
فَأُقْسِمُ لَوْ تَخَطَّأْنِي عِصَامٌ ... بِذَلِكَ مَا عَذَرْتُ بِهِ عِصَامَا
وَلَوْ أَنِّي حَبَوْتُ أَخًا بِفَضْلٍ ... أُرِيدُ بِهِ الْمَقَالَةَ وَالْمَقَامَا
لِعَقَّبَ فِي بَنِيَّ عَلَى بَنِيهِ ... كَذَلِكَ أَوْ لَرُمْتُ لَهُ مَرَامَا
فَمَنْ يَكُ فِي أَقَارِبِهِ صُدُوعٌ ... فَصَدْعُ الْمُلْكِ أبطؤه التئاما(9/59)
قال: فَهَاجَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كَتَبَ لِأَخِيهِ يَسْتَنْزِلُهُ عَنِ الْخِلَافَةِ لِلْوَلِيدِ فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْتَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَ مَوْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَامٍ وَاحِدٍ، فَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِمَّا أَرَادَ مِنْ بَيْعَةِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ- ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، بُويِعَ لَهُ بِدِمَشْقَ ثُمَّ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ ثُمَّ لِسُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ امْتَنَعَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنْ يُبَايِعَ فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَحَدٍ، فَأَمَرَ بِهِ هشام بن إسماعيل نائب المدينة فضربه سِتِّينَ سَوْطًا، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابًا مِنْ شَعْرٍ وَأَرْكَبَهُ جَمَلًا وَطَافَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى ثَنِيَّةِ ذُبَابٍ- وَهِيَ الثنية التي كانوا يصلون عندها ويقيلون- فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا رَدُّوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَوْدَعُوهُ السَّجْنَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لا تقتلوننى لم ألبس هذا الثياب. ثُمَّ كَتَبَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمُخَالَفَةِ سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ فِي ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُ بِإِخْرَاجِهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ سَعِيدًا كَانَ أَحَقَّ مِنْكَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ مِمَّا فَعَلْتَ بِهِ، وَإِنَّا لِنَعْلَمُ أَنَّ سَعِيدًا لَيْسَ عِنْدَهُ شِقَاقٌ وَلَا خِلَافٌ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يُبَايِعَ، فَإِنْ لَمْ يُبَايِعْ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ خَلَّيْتَ سَبِيلَهُ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ سَعِيدًا لما جاءت بيعة الوليد امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ فَضَرَبَهُ نَائِبُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ- وَهُوَ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ- سِتِّينَ سَوْطًا أَيْضًا وَسَجَنَهُ فاللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْعَشَرَةِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً وَكَانَ بِهِ صَمَمٌ وَوَضَحٌ كثير، وأصابه الفالج قبل أن يموت. عبد الله ابن عامر بن ربيعة. عمرو بن حريث. عمرو بن سلمة. واثلة بن الأسقع. شَهِدَ وَاثِلَةُ تَبُوكَ ثُمَّ شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ وَنَزَلَهَا، وَمَسْجِدُهُ بِهَا عِنْدَ حَبْسِ بَابِ الصَّغِيرِ من القبلة. قلت: وقد احترق مسجده في فتنة تمرلنك ولم يبق منه إلا رسومه، وعلى بابه من الشرق قناة ماء. خالد بن يزيد بن معاوية ابن أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِفُنُونِ الْعِلْمِ، وَلَهُ يَدٌ طُولَى فِي الطِّبِّ، وَكَلَامٌ كَثِيرٌ فِي الْكِيمْيَاءِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَفَادَ ذَلِكَ مِنْ رَاهِبٍ اسْمُهُ مريانش، وكان خالد فصيحا بليغا شاعرا منطيقا كَأَبِيهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مروان بحضرة الحكم بن أبى العاص، فشكى إِلَيْهِ أَنَّ ابْنَهُ الْوَلِيدَ يَحْتَقِرُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أهلها أذلة) فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَ(9/60)
عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 17: 16) فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ أَخُوكَ عَبْدُ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ، فَقَالَ خَالِدٌ: وَالْوَلِيدُ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ، فَقَالَ خَالِدٌ:
وَأَنَا أَخُو عَبْدِ اللَّهِ لَا أَلْحَنُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ- وَكَانَ حَاضِرًا- لِخَالِدِ بن يزيد: اسكت، فو الله مَا تُعَدُّ فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ، فَقَالَ خَالِدٌ: اسْمَعْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! ثُمَّ أَقْبَلَ خَالِدٌ عَلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: وَيْحَكَ وَمَا هُوَ الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ غَيْرُ جِدِّي أَبِي سُفْيَانَ صَاحِبِ الْعِيرِ، وَجَدِّي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ صَاحِبِ النفير؟ ولكن لو قلت غنيمات وجبيلات وَالطَّائِفُ، وَرَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ، لَقُلْنَا صَدَقْتَ- يَعْنِي أَنَّ الْحَكَمَ كَانَ مَنْفِيًّا بِالطَّائِفِ يَرْعَى غَنَمًا ويأوى إلى جبلة الْكَرَمِ حَتَّى آوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حِينَ وَلِيَ- فَسَكَتَ الْوَلِيدُ وَأَبُوهُ وَلَمْ يُحِيرَا جَوَابًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وثمانين
فَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ نَائِبُ الْحَجَّاجِ عَلَى مَرْوٍ وَخُرَاسَانَ، بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَرْضِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ وَتَسَلَّمَ قِلَاعًا وَحُصُونًا وَمَمَالِكَ، ثُمَّ قَفَلَ فَسَبَقَ الْجَيْشَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ: إِذَا كُنْتَ قَاصِدًا بِلَادَ الْعَدُوِّ فَكُنْ فِي مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَإِذَا قَفَلْتَ رَاجِعًا فَكُنْ فِي سَاقَةِ الْجَيْشَ- يَعْنِي لِتَكُونَ رَدْءًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَغَيْرِهِمْ بِكَيْدٍ- وَهَذَا رَأْيٌ حَسَنٌ وَعَلَيْهِ جَاءَتِ السنة، وكان في السَّبْيِ امْرَأَةُ بَرْمَكَ- وَالِدِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ- فَأَعْطَاهَا قُتَيْبَةُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمٍ فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ قُتَيْبَةَ مَنَّ عَلَى السَّبْيِ وَرُدَّتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَهِيَ حُبْلَى مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ وَلَدُهَا عِنْدَهُمْ حَتَّى أَسْلَمُوا فَقَدِمُوا بِهِ مَعَهُمْ أَيَّامَ بَنِي الْعَبَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا رَجَعَ قُتَيْبَةُ إِلَى خُرَاسَانَ تَلْقَاهُ دَهَاقِينُ بُلْغَارَ بهدايا عظمة، ومفتاح من ذهب.
وَفِيهَا كَانَ طَاعُونٌ بِالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ وَيُسَمَّى طَاعُونَ الْفَتَيَاتِ، لِأَنَّهُ أَوَّلَ مَا بَدَأَ بِالنِّسَاءِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ. وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ وَافْتَتَحَ حِصْنَ بِوَلْقَ وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، وَفِيهَا عَقْدَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مِصْرَ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَدَخَلَهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الروم الأخرم لورى لَا رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا حَبَسَ الْحَجَّاجُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هِشَامُ بْنُ إسماعيل المخزومي. وفي هذه السنة توفى أبو أمامة الْبَاهِلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ فِي قَوْلٍ، شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا وَهُوَ آخِرُ من مات من الصحابة بمصر.
[وممن توفى في هذه السنة]
وفيها في شَوَّالِهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ
وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بن مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ،(9/61)
وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ. سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عفان، وشهد الدار مع أبيه وهو ابن عَشْرُ سِنِينَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَارَ بِالنَّاسِ فِي بِلَادِ الرُّومِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ يُجَالِسُ الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ وَالْعُبَّادَ وَالصُّلَحَاءَ وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَبَرِيرَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وَرَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ وَجَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ. ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ القاسم وكان يكنى بأبي القاسم، ثم غَيَّرَ اسْمَهُ فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ بِعَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَحْمَدَ وَالِدُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَرُوضِيُّ. وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فِي خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَقِيَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بَاقِي الْبِلَادِ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْخِلَافَةِ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ وَمَوْلِدُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَبْلَ الْخِلَافَةِ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْفُقَهَاءِ الْمُلَازِمِينَ لِلْمَسْجِدِ التَّالِينَ لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ. وَكَانَتْ أَسْنَانُهُ مُشَبَّكَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ أَفْوَهَ مَفْتُوحَ الْفَمِ، فَرُبَّمَا غَفَلَ فَيَنْفَتِحُ فَمُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الذُّبَابُ، وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ له أبو الذباب. وَكَانَ أَبْيَضَ رَبْعَةً لَيْسَ بِالنَّحِيفِ وَلَا الْبَادِنِ، مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ أَشْهَلَ كَبِيرَ الْعَيْنَيْنِ دَقِيقَ الْأَنْفِ مُشْرِقَ الْوَجْهِ أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ حَسَنَ الْوَجْهِ لم يخضب، ويقال إنه خضب بعد. وَقَدْ قَالَ نَافِعٌ: لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ وَمَا فِيهَا شَابٌّ أَشَدَّ تَشْمِيرًا وَلَا أَفْقَهَ وَلَا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك ابن مَرْوَانَ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: كَانَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةً سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وقبيصة ابن ذُؤَيْبٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِمَارَةِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَدَ النَّاسُ أَبْنَاءً وَوَلَدَ مَرْوَانُ أَبًا- يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ- وَرَآهُ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كُنْتُ أجالس بريدة بن الحصيب فقال لي يوما:
يَا عَبْدَ الْمَلِكِ إِنَّ فِيكَ خِصَالًا، وَإِنَّكَ لِجَدِيرٌ أَنْ تَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاحْذَرِ الدِّمَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَعُ عَنْ باب الجنة بعد أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا عَلَى مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمٍ يُرِيقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ الزبيري عن مالك عن يحيى بن سعيد بن داود الزبيري قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَفِتْيَانٌ مَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ. وَقَالَ الشعبي:(9/62)
مَا جَالَسْتُ أَحَدًا إِلَّا وَجَدْتُ لِي الْفَضْلَ عَلَيْهِ إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فَإِنِّي ما ذاكرته حديثا إلا زادني منه، وَلَا شِعْرًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ. وَذَكَرَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ أَنِ ابْعَثِ ابْنَكَ عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى بَعْثِ الْمَدِينَةِ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيجٍ، فَذَكَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ وَغِنَائِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَجْلَى بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ هُنَالِكَ، فَقَدِمَ مَعَ أَبِيهِ الشَّامَ، ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الْإِمَارَةُ مَعَ أَبِيهِ وَبَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ أَقَامَ فِي الْإِمَارَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ أَوْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِي جُمَادَى الْأُولَى إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمَّا سُلِّمَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ كَانَ فِي حِجْرِهِ مُصْحَفٌ فَأَطْبَقَهُ وَقَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: صُنِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ مَجْلِسٌ تُوُسِّعَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ بُنِيَ لَهُ فِيهِ قُبَّةٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَدَخَلَهُ وقال: لقد كان حثمة الأحوازى- يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- يَرَى أَنَّ هَذَا عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمُصْحَفَ مِنْ حِجْرِهِ قَالَ. هَذَا آخَرُ الْعَهْدِ مِنْكَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَهُ إِقْدَامٌ عَلَى سَفْكِ الدماء، وَكَانَ حَازِمًا فَهِمًا فَطِنًا سَائِسًا لِأُمُورِ الدُّنْيَا، لَا يَكِلُ أَمْرَ دُنْيَاهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبُوهَا مُعَاوِيَةُ هُوَ الَّذِي جَدَعَ أَنْفَ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا خَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ خَرَجَ مَعَهُ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ: اللَّهمّ احْجِزْ بَيْنَ هَذَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَوَلِّ الْأَمْرَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْكَ. فظفر عبد الملك- وقد كان مصعب من أعز الناس على عَبْدُ الْمَلِكِ- وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا بُويِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فيه ومن أصدق من الله حديثا) لا أحد والسلام. وبعث به مع سلام فَوَجَدُوا عَلَيْهِ إِذْ قَدَّمَ اسْمَهُ عَلَى اسْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ نَظَرُوا فِي كُتُبِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ، فَاحْتَمَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَالَ الواقدي: حدثني ابن أبى ميسرة عن أبى موسى الخياط عن أبى كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يَقُولُ: يا أهل المدينة أنا أحق الناس أن يلزم الأمر الأول، وَقَدْ سَالَتْ عَلَيْنَا أَحَادِيثُ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَشْرِقِ وَلَا نَعْرِفُهَا وَلَا نَعْرِفُ مِنْهَا إِلَّا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَالْزَمُوا مَا فِي مُصْحَفِكُمُ(9/63)
الّذي حملكم عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمَظْلُومُ، وَعَلَيْكُمْ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي جَمَعَكُمْ عَلَيْهَا إِمَامُكُمُ الْمَظْلُومُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَنِعْمَ الْمُشِيرُ كَانَ لِلْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَحْكِمَا مَا أحكما، واستقصيا مَا شَذَّ عَنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِعَامَيْنِ، فَخَطَبَنَا فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ كَانَ مَنْ قَبْلِي من الخلفاء يأكلون من المال ويوكلون، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُدَاوِي أَدْوَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَلَسْتُ بِالْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضْعَفِ- يَعْنِي عُثْمَانَ- وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمُدَاهِنِ- يَعْنِي مُعَاوِيَةَ- وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمَأْبُونِ- يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ- أَيُّهَا النَّاسُ إنا نحتمل منكم كل الغرمة مَا لَمْ يَكُنْ عَقْدَ رَايَةٍ أَوْ وَثَوْبٍ عَلَى مِنْبَرٍ، هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ حَقُّهُ حقه، قرابته وابنه، قَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا فَقُلْنَا بِسَيْفِنَا هَكَذَا، وَإِنَّ الْجَامِعَةَ الَّتِي خَلَعَهَا مِنْ عُنُقِهِ عِنْدِي، وَقَدْ أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا أَضَعَهَا فِي رَأْسِ أَحَدٍ إِلَّا أَخْرَجَهَا الصُّعَدَاءَ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا عَبَّادُ بْنُ سَلْمِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قَالَ: رَكِبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بَكْرًا فَأَنْشَأَ قَائِدُهُ يَقُولُ: -
يَا أَيُّهَا الْبَكْرُ الَّذِي أَرَاكَا ... عَلَيْكَ سَهْلُ الْأَرْضِ فِي مَمْشَاكَا
وَيْحَكَ هَلْ تَعْلَمُ مَنْ عَلَاكَا ... خَلِيفَةُ اللَّهِ الَّذِي امْتَطَاكَا
لَمْ يَحْبُ بَكْرًا مِثْلَ مَا حَبَاكَا
فَلَمَّا سَمِعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ: إِيْهًا يَا هَنَاهُ، قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَحَصِرَ فَقَالَ: إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّا نَسْكُتُ حَصْرًا وَلَا نَنْطِقُ هَذْرًا، وَنَحْنُ أُمَرَاءُ الْكَلَامِ، فِينَا رَسَخَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَدَلَّتْ أَغْصَانُهُ، وَبَعْدَ مَقَامِنَا هَذَا مَقَامٌ، وَبَعْدَ عِيِّنَا هَذَا مَقَالٌ، وَبَعْدَ يَوْمِنَا هَذَا أَيَّامٌ، يُعْرَفُ فِيهَا فَصْلُ الْخِطَابِ وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا وَأَنَا أَعْرِضُ عَقْلِي عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ وَقَالَ غَيْرُهُ قِيلَ لعبد الملك: أسرع إليك الشيب، فقال: وتنسى ارْتِقَاءِ الْمِنْبَرِ وَمَخَافَةُ اللَّحْنِ؟ وَلَحَنَ رَجُلٌ عِنْدَ عبد الملك- يعنى أسقط من كلامه الفا- فقال له عبد الملك زد ألف، فقال الرجل: وَأَنْتَ فَزِدْ أَلِفًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ غَيْرَ غَالٍ فِيهِ وَلَا جَافٍّ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُسَايِرُهُ فِي سَفَرِهِ: إِذَا رُفِعَتْ لَهُ شَجَرَةٌ، سَبِّحُوا بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ تِلْكَ الشجرة، كبروا بنا حتى نأتي تلك الحجرة، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ وَقَعَ مِنْهُ فَلْسٌ فِي بِئْرٍ قَذِرَةٍ فَاكْتَرَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ بين الناس يقوم السيافون على رأسه بالسيف فَيُنْشِدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُ مَنْ يُنْشِدُ فَيَقُولُ:(9/64)
إِنَّا إِذَا نَالَتْ دَوَاعِي الْهَوَى ... وَأَنْصَتَ السَّامِعُ لِلْقَائِلِ
وَاصْطَرَعَ النَّاسُ بِأَلْبَابِهِمْ ... نَقْضِي بِحُكْمٍ عَادِلٍ فأصل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلفظ دُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ
نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا ... فنجهل الحق مع الجاهل
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَشْكُو الْحَجَّاجَ وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: لَوْ أَنَّ رجلا خدم عيسى بن مريم أو رآه أو صحبه تعرفه النصارى أو تعرف مكانه لهاجرت إليه ملوكهم، ولنزل من قلوبهم بالمنزلة العظيمة، وَلَعَرَفُوا لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا خَدَمَ موسى أو رآه تعرفه اليهود لفعلوا به من الخير والمحبة وغير ذلك ما استطاعوا، وَإِنِّي خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ ورأيته وأكلت معه، ودخلت وخرجت وجاهدت معه أعداءه، وَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَدْ أَضَرَّ بِي وَفَعَلَ وَفَعَلَ، قال: أخبرنى مَنْ شَهِدَ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَهُوَ يَبْكِي وَبَلَغَ بِهِ الْغَضَبُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِكِتَابٍ غَلِيظٍ، فَجَاءَ إلى الحجاج فقرأه فتغير ثُمَّ قَالَ إِلَى حَامِلِ الْكِتَابِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ نَتَرَضَّاهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَيَّامِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنَّكَ أَعَزُّ مَا تَكُونُ باللَّه أحوج ما تكون إليه، وأذل ما تكون للمخلوق أحوج ما تكون إليهم، وَإِذَا عَزَزْتَ باللَّه فَاعْفُ لَهُ، فَإِنَّكَ بِهِ تَعِزُّ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ فَأَمَرَ من عنده بالانصراف، فلما خلا به وأراد الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك: احذر في كلامك ثلاثا، إِيَّاكَ أَنْ تَمْدَحَنِي فَإِنِّي أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْكَ، أَوْ تَكْذِبَنِي فَإِنَّهُ لَا رَأْيَ لِكَذُوبٍ، أَوْ تسعى إلى بأحد من الرعية فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي، وَإِنْ شِئْتَ أَقَلْتُكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ:
أَقِلْنِي فَأَقَالَهُ. وَكَذَا كَانَ يَقُولُ لِلرَّسُولِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ: اعْفِنِي مِنْ أَرْبَعٍ وَقُلْ مَا شِئْتَ، لَا تُطْرِنِي، وَلَا تُجِبْنِي فِيمَا لَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، وَلَا تَكْذِبْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي عَلَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ إِلَى رَأْفَتِي وَمَعْدَلَتِي أَحْوَجُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِرَجُلٍ كَانَ مَعَ بَعْضِ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
اضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي مِنْكَ، فَقَالَ: وَمَا جَزَاؤُكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مَعَ فُلَانٍ إِلَّا بِالنَّظَرِ لَكَ، وَذَلِكَ أَنِّي رَجُلٌ مَشْئُومٌ مَا كُنْتُ مَعَ رَجُلٍ قَطُّ إِلَّا غُلِبَ وَهُزِمَ، وَقَدْ بَانَ لَكَ صِحَّةُ مَا ادَّعَيْتُ، وَكُنْتُ عَلَيْكَ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مَعَكَ تنصحك، لقد كنت مع فلان فكسر وهزم وتفرق جمعه، وكنت مع فلان فقتل، وكنت مع فلان فهزم- حتى عد جماعة من الأمراء- فَضَحِكَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَقِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَيُّ الرِّجَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ تَوَاضَعَ عَنْ رِفْعَةٍ وَزَهَدَ عَنْ قُدْرَةِ، وَتَرَكَ النُّصْرَةَ عَنْ قُوَّةٍ. وَقَالَ أَيْضًا لَا طُمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ ضِدُّ الْحَزْمِ. وَقَالَ: خَيْرُ الْمَالِ مَا أَفَادَ حَمْدًا وَدَفَعَ ذَمًّا، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، فَإِنَّ(9/65)
الْخَلْقَ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَيَنْبَغِي أَنَّ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمُؤَدِّبِ أَوْلَادِهِ- وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ-: عَلِّمْهُمُ الصِّدْقَ كَمَا تُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، وَجَنِّبْهُمُ السفلة فإنهم أسوأ الناس رغبة في الخير وَأَقَلُّهُمْ أَدَبًا، وَجَنِّبْهُمُ الْحَشَمَ فَإِنَّهُمْ لَهُمْ مَفْسَدَةٌ، وَأَحْفِ شُعُورَهُمْ تَغْلُظْ رِقَابُهُمْ، وَأَطْعِمْهُمُ اللَّحْمَ يَقْوُوا، وَعَلِّمُهُمُ الشِّعْرَ يَمْجُدُوا وَيُنْجُدُوا، وَمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَاكُوا عَرْضًا، وَيَمُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا، وَلَا يَعُبُّوا عَبًّا، وإذا احتجت أن تتناولهم فتناولهم بِأَدَبٍ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي سِرٍّ لَا يَعْلَمُ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَاشِيَةِ فَيَهُونُوا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ إِذْنًا خَاصًّا، فَدَخَلَ شَيْخٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ لَمْ يَأْبَهْ لَهُ الْحَرَسُ، فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ صَحِيفَةً وَخَرَجَ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ، وَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ (بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ 38: 26) (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ 83: 4- 6) (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ 11: 103) (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ 11: 104) إن اليوم الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لَوْ بَقِيَ لِغَيْرِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا 27: 52) وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ 37: 22) (أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ 11: 18) قَالَ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَدَخَلَ دَارَ حَرَمِهِ وَلَمْ تَزَلِ الْكَآبَةُ فِي وَجْهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا. وَكَتَبَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا وَفِي آخِرِهِ: وَلَا يُطْمِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُولِ الْبَقَاءِ مَا يظهر لك في صِحَّتِكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ وَاذْكُرْ مَا تَكَلَّمَ بِهِ
الْأَوَّلُونَ إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلَادَهَا ... وَبَلِيَتْ مَنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا
وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا ... تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فَلَمَّا قَرَأَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بَكَى حَتَّى بَلَّ طَرْفَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ زِرٌّ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْنَا بِغَيْرِ هَذَا كَانَ أَرْفَقَ. وَسَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُونَ سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فقال: أنهى عن ذكر عمر فإنه مرارة للامراء مَفْسَدَةٌ لِلرَّعِيَّةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يحيى القباني عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ بِدِمَشْقَ، فَقَالَتْ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ شربت الطلا بعد العبادة والنسك، فقال: إي والله، والدما أَيْضًا قَدْ شَرِبْتُهَا. ثُمَّ جَاءَهُ غُلَامٌ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ لَعَنَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَعَّانٌ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ قَدْ صِرْتُ لَا أَفْرَحُ بِالْحَسَنَةِ أَعْمَلُهَا، وَلَا أَحْزَنُ عَلَى السَّيِّئَةِ أَرْتَكِبُهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: الْآنَ تَكَامَلَ مَوْتُ قَلْبِهِ.(9/66)
وقال الأصمعي عن أبيه عن جده قَالَ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا خُطْبَةً بَلِيغَةً ثُمَّ قَطَعَهَا وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ قَلِيلَ عَفْوِكَ أَعْظَمُ مِنْهَا، اللَّهمّ فَامْحُ بِقَلِيلِ عَفْوِكَ عَظِيمَ ذُنُوبِي.
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ فَبَكَى وَقَالَ: لَوْ كَانَ كَلَامٌ يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ لَكُتِبَ هَذَا الْكَلَامُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ نحو ذلك، أي أنه لما بلغه هذا الكلام قال مثل ما قال الحسن. وقال مُسْهِرٍ الدِّمَشْقِيُّ:
وُضِعَ سِمَاطُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: ائْذَنْ لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، فَقَالَ:
مات يا أمير المؤمنين، قال: فلأبيه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: مات، قال: فلخالد بن يزيد ابن معاوية، قال: مات، قال فلفلان وفلان- حتى عد أقواما قد ماتوا وهو يعلم ذلك قبلنا- فأمر برفع السماط وأنشأ يقول:
ذهبت لذتي وانقضت أيامهم ... وغبرت بَعْدَهُمْ وَلَسْتُ بِخَالِدِ
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ فَبَكَى فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا هَذَا؟ أَتَحِنُّ حَنِينَ الْجَارِيَةِ والأمة؟ إذا أنامت فَشَمِّرْ وَاتَّزِرْ وَالْبَسْ جِلْدَ النَّمِرِ، وَضَعِ الْأُمُورَ عِنْدَ أَقْرَانِهَا، وَاحْذَرْ قُرَيْشًا.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا وَلِيدُ اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَسْتَخْلِفُكُ فِيهِ، وَاحْفَظْ وَصِيَّتِي، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُعَاوِيَةَ فَصِلْ رَحِمَهُ وَاحْفَظْنِي فِيهِ، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُحَمَّدٍ فأمره على الجزيرة ولا تعزله عنها، وانظر إلى ابن عمنا على بْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ إِلَيْنَا بِمَوَدَّتِهِ وَنَصِيحَتِهِ وَلَهُ نَسَبٌ وَحَقٌّ فَصِلْ رَحِمَهُ وَاعْرِفْ حقه، وانظر إلى الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ فَأَكْرِمْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي مهد لك البلاد وقهر الأعداء وخلص لَكُمُ الْمُلْكَ وَشَتَّتَ الْخَوَارِجَ، وَأَنْهَاكَ وَإِخْوَتَكَ عَنِ الْفِرْقَةِ وَكُونُوا أَوْلَادَ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَكُونُوا فِي الْحَرْبِ أَحْرَارًا، وَلِلْمَعْرُوفِ مَنَارًا، فَإِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تُدْنِ مَنِيَّةً قَبْلَ وَقْتِهَا، وَإِنَّ الْمَعْرُوفَ يُشَيِّدُ ذِكْرَ صَاحِبِهِ وَيُمَيِّلُ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ، وَيُذَلِّلُ الْأَلْسِنَةَ بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ، وللَّه دَرُّ الْقَائِلِ:
إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا ... بِالْكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وَبَطْشٍ مفند
عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ ... فَالْكَسْرُ والتوهين للمتبدد
ثم قال: إذا أنامت فَادْعُ النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِكَ فَمَنْ أَبَى فَالسَّيْفُ، وعليك بالإحسان إلى أخواتك فَأَكْرِمْهُنَّ وَأَحَبُّهُنَّ إِلَيَّ فَاطِمَةُ- وَكَانَ قَدْ أَعْطَاهَا قُرْطَيْ مَارِيَةَ وَالدُّرَّةَ الْيَتِيمَةَ- ثُمَّ قَالَ: اللَّهمّ احْفَظْنِي فِيهَا. فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا.
وَلَمَّا احْتُضِرَ سَمِعَ غَسَّالًا يَغْسِلُ الثِّيَابَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا غَسَّالٌ، فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتَ غَسَّالًا أَكْسِبُ مَا أَعِيشُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَلَمْ أَلِ الْخِلَافَةَ. ثُمَّ تَمَثَّلَ فَقَالَ: -
لَعَمْرِي لَقَدْ عُمِّرْتُ فِي الْمُلْكِ بُرْهَةً ... وَدَانَتْ لِيَ الدُّنْيَا بِوَقْعِ الْبَوَاتِرِ
وَأُعْطِيتُ حمر المال والحكم والنهى ... ولى سلّمت كل الملوك الجبابر(9/67)
فَأَضْحَى الَّذِي قَدْ كَانَ مِمَّا يَسُرُّنِي ... كَحُلْمٍ مضى في المزمنات الفوابر
فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أُعْنَ بِالْمُلْكِ لَيْلَةً ... وَلَمْ أسع في لذات عيش نواضر
وَقَدْ أَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ أَجِدُنِي كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ 6: 94 الْآيَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا احْتُضِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَمَرَ بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ مِنْ قصره، فلما فتحت سمع قصارا بالوادي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا قَصَّارٌ، فَقَالَ: يَا ليتني كنت قصارا أعيش من عمل يدي، فَلَمَّا بَلَغَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَوْلُهُ قَالَ: الحمد للَّه الّذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم. وقال:
لما حضره الموت جعل يندم ويندب وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي اكتسبت قوتي يوما بيوم واشتغلت بعبادة ربى عز وجل وطاعته. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا بَنِيهِ فَوَصَّاهُمْ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَا يسأل أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ثُمَّ يُنْشِدُ: -
فَهَلْ مِنْ خَالِدٍ إِمَّا هَلَكْنَا ... وَهَلْ بالموت للباقين عَارُ
وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: ارْفَعُونِي، فَرَفَعُوهُ حَتَّى شَمَّ الْهَوَاءَ وَقَالَ: يَا دُنْيَا مَا أَطْيَبَكِ! إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإنا كُنَّا بِكِ لَفِي غُرُورٍ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ البيتين:
إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَبِّ ... عَذَابًا لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ
أَوْ تُجَاوِزْ فَأَنْتَ رَبٌّ صَفُوحٌ ... عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ كَالتُّرَابِ
قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَقِيلَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَقِيلَ الْخَمِيسِ، فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ وَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ سِتِّينَ سَنَةً. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَصَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَقِيلَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ، وقيل ثماني وَخَمْسِينَ. وَدُفِنَ بِبَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ذِكْرُ أَوْلَادِهِ وَأَزْوَاجِهِ مِنْهُمُ الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ وَمَرْوَانُ الْأَكْبَرُ دَرَجَ وَعَائِشَةُ، وَأُمُّهُمْ وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضٍ، وَيَزِيدُ وَمَرْوَانُ الْأَصْغَرُ وَمُعَاوِيَةُ دَرَجَ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهِشَامٌ وَأُمُّهُ أُمُّ هِشَامٍ عَائِشَةُ- فِيمَا قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ- بِنْتُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ. وَأَبُو بَكْرٍ وَاسْمُهُ بَكَّارٌ وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، وَالْحَكَمُ دَرَجَ وَأُمُّهُ أُمُّ أَيُّوبَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْأُمَوِيِّ، وَفَاطِمَةُ وَأُمُّهَا الْمُغِيرَةُ بِنْتُ الْمُغِيرَةِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ. وَعَبْدُ اللَّهِ وَمَسْلَمَةُ وَالْمُنْذِرُ وَعَنْبَسَةُ وَمُحَمَّدٌ وَسَعْدُ الْخَيْرِ وَالْحَجَّاجُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى، فَكَانَ جُمْلَةُ أَوْلَادِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا،(9/68)
وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ مُشَارِكًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَنَصِفٌ مُسْتَقِلًّا بِالْخِلَافَةِ وَحْدَهُ. وَكَانَ قَاضِيَهُ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَكَاتِبُهُ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ، وَحَاجِبُهُ يُوسُفُ مَوْلَاهُ، وَصَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ وَالْخَاتَمِ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ. وَعَلَى شُرْطَتِهِ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عُمَّالَهُ فِيمَا مَضَى. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ أُخَرَ، شَقْرَاءُ بِنْتُ سَلَمَةَ بْنِ حَلْبَسٍ الطَّائِيِّ، وَابْنَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّ أَبِيهَا بِنْتُ عَبْدِ الله بن جعفر. وَمِمَّنْ يُذْكَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تقريبا
. أرطاة بن زفر
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ ضمرة بن غقعان بن أبى حارثة بن مرة بن شبة بن نميط بْنِ مُرَّةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ الوليد المري، ويعرف بابن شهبة، وهي أمه بنت رامل بْنِ مَرْوَانَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خديج بن جشم بن كعب بن عون بْنِ عَامِرِ بْنِ عَوْفٍ- سَبِيَّةٌ مِنْ كَلْبٍ- وَكَانَتْ عِنْدَ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى زُفَرَ وَهِيَ حَامِلٌ فَأَتَتْ بِأَرْطَاةَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَقَدْ عُمِّرَ أَرْطَاةُ دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى جَاوَزَ الْمِائَةَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا مُمَدَّحًا شَاعِرًا مُطْبِقًا قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: ويقال إن بنى غقعان بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مازن بن الحارث دخلوا في بنى مرة بن شبة فقالوا بنى غقعان بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ مُرَّةَ. وَقَدْ وَفَدَ أَبُو الْوَلِيدِ أَرْطَاةُ بْنُ زُفَرَ هَذَا عَلَى عبد الملك فَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتًا: -
رَأَيْتُ الْمَرْءَ تَأْكُلُهُ اللَّيَالِي ... كَأَكْلِ الْأَرْضِ سَاقِطَةَ الْحَدِيدِ
وَمَا تُبْقِي الْمَنِيَّةُ حِينَ تَأْتِي ... عَلَى نَفْسِ ابْنِ آدَمَ مِنْ مَزِيدِ
وَأَعْلَمُ أَنَّهَا سَتَكُرُّ حَتَّى ... تُوُفِّيَ نَذْرَهَا بِأَبِي الْوَلِيدِ
قَالَ: فَارْتَاعَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَظَنَّ أَنَّهُ عَنَاهُ بِذَلِكَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا عَنَيْتُ نَفْسِي، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَأَنَا وَاللَّهِ سيمر بى ما الّذي يمر بك، وزاد بعضهم في هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: -
خُلِقْنَا أَنْفُسًا وَبَنِي نُفُوسٍ ... وَلَسْنَا بالسلام ولا الحديد
لئن أفجعت بِالْقُرَنَاءِ يَوْمًا ... لَقَدْ مُتِّعْتُ بِالْأَمَلِ الْبَعِيدِ
وَهُوَ الْقَائِلُ وَإِنِّي لَقَوَّامٌ لَدَى الضَّيْفِ مُوهِنًا ... إِذَا أَسْبَلَ السِّتْرَ الْبَخِيلُ الْمُوَاكِلُ
دَعَا فَأَجَابَتْهُ كِلَابٌ كَثِيرَةٌ ... عَلَى ثِقَةٍ مِنِّي بِأَنِّي فَاعِلُ
وَمَا دُونَ ضَيْفِي مِنْ تِلَادٍ تَحُوزُهُ ... لِيَ النَّفْسُ إلا أن تصان الحلائل
مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ
كَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ يَقُولُ مَا أُوتِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، وَعُقُولُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ زَمَانِهِمْ. وَقَالَ: إِذَا اسْتَوَتْ سريرة العبد(9/69)
وَعَلَانِيَتُهُ قَالَ اللَّهُ هَذَا عَبْدِي حَقًّا. وَقَالَ: إذا دخلتم على مربض فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَدْعُوَ لَكُمْ فَإِنَّهُ قَدْ حُرِّكَ- أَيْ قَدْ أُوقِظَ مِنْ غَفْلَتِهِ بِسَبَبِ مَرَضِهِ- فَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ مِنْ أَجْلِ كَسْرِهِ وَرِقَّةِ قَلْبِهِ. وَقَالَ:
إِنَّ أَقْبَحَ مَا طُلِبَتْ بِهِ الدنيا عمل الآخرة.
خلافة الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ
لَمَّا رَجَعَ مِنْ دَفْنِ أَبِيهِ خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ- وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَقِيلَ الْجُمْعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السنة- لَمْ يَدْخُلِ الْمَنْزِلَ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ- مِنْبَرَ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ بِدِمَشْقَ- فَخَطَبَ النَّاسَ فَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 وَاللَّهُ المستعان على مصيبتنا في أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَمْدُ للَّه عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا مِنَ الْخِلَافَةِ، قُومُوا فَبَايِعُوا. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: -
اللَّهُ أَعْطَاكَ الَّتِي لَا فَوْقَهَا ... وَقَدْ أَرَادَ الْمُلْحِدُونَ عَوْقَهَا
عَنْكَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا سَوْقَهَا ... إِلَيْكَ حَتَّى قَلَّدُوكَ طَوْقَهَا
ثم بايعه وبايع النَّاسُ بَعْدَهُ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ اللَّهُ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ الله وسابقته ما كَتَبَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ وَمَلَائِكَتِهِ الْمَوْتُ، وقد صار إلى منازل الأبرار بما لاقاه فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ- يَعْنِي بِالَّذِي يَحِقُّ للَّه عَلَيْهِ- مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى الْمُرِيبِ وَاللَّيِّنِ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَالْفَضْلِ وَإِقَامَةِ مَا أَقَامَ اللَّهُ مِنْ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَائِهِ مِنْ حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ وَغَزْوِ هَذِهِ الثُّغُورِ وَشَنِّ هَذِهِ الْغَارَاتِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَلَا مُفَرِّطًا، أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الجماعة فان الشيطان مع الواحد، أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَبْدَى لَنَا ذَاتَ نَفْسِهِ ضَرَبْنَا الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، وَمَنْ سَكَتَ مَاتَ بدائه. ثم نزل فنظر مَا كَانَ مِنْ دَوَابِّ الْخِلَافَةِ فَحَازَهَا.
وَكَانَ جبارا عنيدا. وقد ورد في ولاية الْوَلِيدِ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يزيد بن عبد الملك كما سيأتي، وكما تقدم تقريره في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا فَقَدْ كَانَ صَيِّنًا فِي نَفْسِهِ حَازِمًا فِي رَأْيِهِ، يُقَالُ إِنَّهُ لَا تُعْرَفُ لَهُ صَبْوَةٌ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِهِ مَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أن الله قص لنا قصة قوم لوط في كتابه ما ظننا أن ذكرا كان يَأْتِي ذَكَرًا كَمَا تُؤْتَى النِّسَاءُ، كَمَا سَيَأْتِي ذلك في ترجمته عند ذكر وفاته، وهو باني مسجد جَامِعِ دِمَشْقَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فِي الْآفَاقِ أَحْسَنُ بِنَاءً مِنْهُ، وَقَدْ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي بِنَائِهِ وَتَحْسِينِهِ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ، فَلَمَّا أَنْهَاهُ انْتَهَتْ أَيَّامُ خِلَافَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا. وَقَدْ كَانَ مَوْضِعُ هَذَا الْمَسْجِدِ كَنِيسَةً يُقَالُ لَهَا كَنِيسَةُ يُوحَنَّا، فَلَمَّا فَتَحَتِ الصَّحَابَةُ دِمَشْقَ جَعَلُوهَا مُنَاصَفَةً، فَأَخَذُوا مِنْهَا الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ فَحَوَّلُوهُ مَسْجِدًا، وَبَقِيَ الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ كَنِيسَةً(9/70)
بِحَالِهِ مِنْ لَدُنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَزَمَ الْوَلِيدُ عَلَى أَخْذِ بَقِيَّةِ الْكَنِيسَةِ مِنْهُمْ وَعَوَّضَهُمْ عَنْهَا كَنِيسَةَ مَرْيَمَ لِدُخُولِهَا فِي جَانِبِ السَّيْفِ، وَقِيلَ عَوَّضَهُمْ عَنْهَا كَنِيسَةَ تُومَا، وَهَدَمَ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَأَضَافَهَا إِلَى مَسْجِدِ الصَّحَابَةِ، وَجَعَلَ الْجَمِيعَ مَسْجِدًا وَاحِدًا عَلَى هَيْئَةٍ بَدِيعَةٍ لَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أو أكثرهم لها نظيرا في البنيان والزينات والآثار والعمارات، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وثمانين
فَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَ عَمِّهِ وَزَوْجَ أُخْتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الملك عمر بن عبد العزيز، فدخلها على ثَلَاثِينَ بَعِيرًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَنَزَلَ دَارَ مَرْوَانَ وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَعَمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَلَمَّا صَلَّى الظَّهْرَ دَعَا عَشَرَةً مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ عُرْوَةُ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبة، وأبو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَبُو بَكْرِ بن سليمان بن خَيْثَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَخُوهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَجَلَسُوا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنَّمَا دَعَوْتُكُمْ لِأَمْرٍ تُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ وَتَكُونُونَ فِيهِ أَعْوَانًا عَلَى الْحَقِّ، إِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا إِلَّا بِرَأْيِكُمْ أَوْ بِرَأْيِ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا يَتَعَدَّى أَوْ بَلَغَكُمْ عَنْ عَامِلٍ لِي ظُلَامَةٌ، فَأُحَرِّجُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَبْلَغَنِي. فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ يَجْزُونَهُ خَيْرًا، وَافْتَرَقُوا عَلَى ذَلِكَ. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَنْ يُوقِفَ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ للناس عند دار مروان- وكان يسيء الرأى فيه- لأنه أساء إلى أهل المدينة فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى سَعِيدِ بْنِ المسيب وعلى بن الحسين. قال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِابْنِهِ وَمَوَالِيهِ: لَا يَعْرِضُ منكم أحد لهذا الرجل فىّ، تَرَكْتُ ذَلِكَ للَّه وَلِلرَّحِمِ. وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَا أُكَلِّمُهُ أَبَدًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَإِنَّهُ مر به وهو موقوف فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى خاصته أن لا يعرض أحد منهم له، فلما اجتاز به وتجاوزه ناداه هشام الله يعلم حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً وَغَنِمَ غَنَائِمَ جَمَّةً، وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي غَزَا بِلَادَ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَفَتَحَ حِصْنَ بِوَلْقَ، وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ، وَبُحَيْرَةَ الفرمسان، وَحِصْنَ بُولَسَ، وَقُمَيْقِمَ، وَقَتَلَ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ وَسَبَى ذَرَّارِيَّهُمْ. وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ التُّرْكِ وَصَالَحَهُ مَلِكُهُمْ نَيْزَكُ عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ، وَعَلَى أَنْ يُطْلِقَ كُلَّ مَنْ بِبِلَادِهِ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بِيكَنْدَ فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ عِنْدَهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَرْضِهِمُ اسْتَنْجَدُوا عَلَيْهِ بِأَهْلِ الصغد ومن(9/71)
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَأَتَوْهُمُ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ فَأَخَذُوا عَلَى قُتَيْبَةَ الطُّرُقَ وَالْمَضَايِقَ، فَتَوَاقَفَ هُوَ وَهُمْ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أن يبعث إليهم رسولا ولا يأتيه منهم رَسُولٌ، وَأَبْطَأَ خَبَرُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى خَافَ عَلَيْهِ وَأَشْفَقَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ مِنَ التُّرْكِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَمْصَارِ، وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَتِلُونَ مَعَ التُّرْكِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَكَانَ لِقُتَيْبَةَ عَيْنٌ مِنَ الْعَجَمِ يُقَالُ لَهُ تندر، فأعطاه أهل بخارى ما لا جَزِيلًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ قُتَيْبَةَ فَيُخَذِّلَهُ عَنْهُمْ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَخْلِنِي، فَأَخْلَاهُ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ سِوَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ضِرَارُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ تَنْدُرُ:
هَذَا عَامِلٌ يَقْدَمُ عَلَيْكَ سَرِيعًا بِعَزْلِ الْحَجَّاجِ، فَلَوِ انْصَرَفْتَ بِالنَّاسِ إِلَى مَرْوَ، فَقَالَ قُتَيْبَةُ لِمَوْلَاهُ سِيَاهٍ اضرب عنقه فقتله، ثم قال لِضِرَارٍ: لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَ هَذَا غَيْرِي وَغَيْرُكَ وَإِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنْ ظَهَرَ هذا حتى ينقضي حربنا ألحقتك به، فاملك علينا لسانك، فان انتشار هذا في مثل هذا الحال ضعف في أعضاد الناس ونصرة للأعداء، ثُمَّ نَهَضَ قُتَيْبَةُ فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْحَرْبِ، وَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الرَّايَاتِ يُحَرِّضُهُمْ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قتالا شديدا ثم أنزل اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الصَّبْرَ فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ فَهُزِمَتِ التُّرْكُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ مَا شَاءُوا، وَاعْتَصَمَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ قُتَيْبَةُ الْفَعَلَةُ بِهَدْمِهَا فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ عَظِيمٍ فَصَالَحَهُمْ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهِ وَعِنْدَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ ثُمَّ سَارَ رَاجِعًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْهُمْ عَلَى خَمْسِ مَرَاحِلَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَقَتَلُوا الْأَمِيرَ وَجَدَعُوا أُنُوفَ مَنْ كان معه، فرجع إليها وَحَاصَرَهَا شَهْرًا. وَأَمَرَ النَّقَّابِينَ وَالْفَعَلَةَ فَعَلَّقُوا سُورَهَا عَلَى الْخَشَبِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُضْرِمَ النَّارَ فِيهَا، فَسَقَطَ السُّورُ فَقَتَلَ مِنَ الْفِعْلَةِ أَرْبَعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَأَبَى، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى افْتَتَحَهَا فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ، وَكَانَ الَّذِي أَلَّبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أَعْوَرُ مِنْهُمْ، فَأُسِرَ فَقَالَ أَنَا أَفْتَدِي نَفْسِي بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ صِينِيَّةٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ أَلْفٍ، فَأَشَارَ الْأُمَرَاءُ عَلَى قُتَيْبَةَ بِقَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ قُتَيْبَةُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُرَوِّعُ بِكَ مُسْلِمًا مَرَّةً ثانية، وأمر به فضربت عنقه. وهذا من الزهد في الدنيا، ثم إن الغنائم سيدخل فيها ما أراد أن يفتدى به نفسه فان المسلمين قد غنموا مِنْ بِيكَنْدَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ والفضة والأصنام من الذهب، وكان من جملتها صَنَمٌ سُبِكَ فَخَرَجَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَوَجَدُوا فِي خَزَائِنِ الملك أموالا كثيرا وسلاحا كثيرا وعددا متنوعة، وَأَخَذُوا مِنَ السَّبْيِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَكَتَبَ قُتَيْبَةُ [إلى الحجاج يسأله] أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ لِلْجُنْدِ فَأَذِنَ لَهُ فَتَمَوَّلَ المسلمون وتقووا على قتال الأعداء، وصار لكل واحد منهم مال مستكثر جدا، وصارت لهم أسلحة وعدد وخيول كثيرة فقووا بذلك قُوَّةً عَظِيمَةً وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَقَاضِيهِ بِهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ(9/72)
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الحجاج، وَنَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ وَقَاضِيهِ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَعَامِلُهُ عَلَى الْحَرْبِ بِالْكُوفَةِ زِيَادُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَقَاضِيهِ بِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَنَائِبُهُ عَلَى خراسان وأعمالها قتيبة بن مسلم.
وفيها تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ، يُرْوَى أَنَّهُ شَهِدَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَعَنِ الْعِرْبَاضِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَسْلَمَ قَبْلِي بِسَنَةٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ بَعْدَ التِّسْعِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[قَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ. وَرَوَى بَقِيَّةُ عَنْ بجير ابن سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ لَحَقَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَقِيلِ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: اشْتَكَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُرْيَ فكساني خيشتين فلقد رأيتني وأنا أكسى الصحابة] [1]
المقدام بن معديكرب
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ أَيْضًا، لَهُ أَحَادِيثُ، وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ. قَالَ محمد ابن سعد والفلاس وأبو عبيدة: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: تُوُفِّيَ بَعْدَ التِّسْعِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
أَبُو أُمَامَةُ الْبَاهِلِيُّ
واسمه صديّ بن عجلان، نَزَلَ حِمْصَ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ «تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْوَفَيَاتِ.
قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ
أَبُو سُفْيَانَ الْخُزَاعِيُّ الْمَدَنِيُّ، وُلِدَ عَامَ الْفَتْحِ وَأُتِيَ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْعُوَ لَهُ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذَنٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ إِذَا وَرَدَتْ مِنَ الْبِلَادِ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَيُخْبِرُهُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْبِلَادِ فِيهَا، وَكَانَ صَاحِبَ سِرِّهِ، وَكَانَ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ بِبَابِ الْبَرِيدِ، وَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ.
عُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
وَلِيَ إِمْرَةَ الْكُوفَةِ لِلْحَجَّاجِ، وَكَانَ شَرِيفًا لَبِيبًا مُطَاعًا فِي النَّاسِ، وَكَانَ أَحْوَلَ. تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ
يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ،
كَانَ قَاضِيَ مَرْوَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ وَلَهُ أَحْوَالٌ وَمُعَامَلَاتٌ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُصَحَاءِ، أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ.
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالاستانة.(9/73)
شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْقَاضِي
أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَاسْتَقْضَاهُ عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ فَمَكَثَ بِهَا قَاضِيًا خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ عَالِمًا عَادِلًا كَثِيرَ الْخَيْرِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، فِيهِ دُعَابَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ كَوْسَجًا لَا شَعْرَ بِوَجْهِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وقيس بن سعد بن عبادة، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ وَسِنِّهِ وَعَامِ وَفَاتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَفَاتَهُ فِي هذه السنة.
[قلت: قد تقدمت ترجمة شريح القاضي في سنة ثمان وسبعين بما فيها من الزيادة الكثيرة غير ما ذكره المؤلف هنا وهناك] [1]
. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَافْتَتَحَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ طُوَانَةَ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- وَكَانَ حصينا مَنِيعًا- اقْتَتَلَ النَّاسُ عِنْدَهُ قِتَالًا عَظِيمًا ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى النَّصَارَى فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمُ الْكَنِيسَةَ، ثُمَّ خَرَجَتِ النَّصَارَى فَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَوْقِفِهِ إِلَّا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ وَمَعَهُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ الْجُمَحِيُّ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَيْنَ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: نَادِهِمْ يَأْتُوكَ، فَنَادَى يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَتَرَاجَعَ النَّاسُ فَحَمَلُوا عَلَى النَّصَارَى فَكَسَرُوهُمْ ولجئوا إِلَى الْحِصْنِ فَحَاصَرُوهُمْ حَتَّى فَتَحُوهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جرير أنه فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ كِتَابُ الْوَلِيدِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَإِضَافَةِ حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ يُوَسِّعَهُ مِنْ قِبْلَتِهِ وَسَائِرِ نَوَاحِيهِ، حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فِي مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، فَمَنْ باعك ملكه فاشتره مِنْهُ وَإِلَّا فَقَوِّمْهُ لَهُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ أهدمه وَادْفَعْ إِلَيْهِمْ أَثْمَانَ بُيُوتِهِمْ، فَإِنَّ لَكَ فِي ذَلِكَ سَلَفَ صِدْقٍ عُمَرَ وَعُثْمَانَ. فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُجُوهَ النَّاسِ وَالْفُقَهَاءَ الْعَشَرَةَ وأهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الْوَلِيدِ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالُوا:
هَذِهِ حُجَرٌ قَصِيرَةُ السُّقُوفِ، وَسُقُوفُهَا مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَحِيطَانُهَا مِنَ اللَّبِنِ، وَعَلَى أَبْوَابِهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا أَوْلَى لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ وَالْمُسَافِرُونَ، وَإِلَى بُيُوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يُعَمِّرُونَ فِيهَا إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ وَيُكِنُّ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا الْبُنْيَانَ الْعَالِيَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْفَرَاعِنَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَكُلِّ طَوِيلِ الْأَمَلِ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْخُلُودِ فِيهَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْوَلِيدِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخَرَابِ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلِّيَ سُقُوفَهُ.
فَلَمْ يَجِدْ عُمَرُ بُدًّا مِنْ هَدْمِهَا، وَلَمَّا شَرَعُوا فِي الْهَدْمِ صَاحَ الْأَشْرَافُ وَوُجُوهُ النَّاسِ من بنى هاشم وغيرهم،
__________
[1] زيادة في المصرية.(9/74)
وَتَبَاكَوْا مِثْلَ يَوْمِ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وأجاب مَنْ لَهُ مِلْكٌ مُتَاخِمٌ لِلْمَسْجِدِ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ، وَشَرَعَ فِي بِنَائِهِ وَشَمَّرَ عَنْ إِزَارِهِ واجتهد في ذلك، وأرسل الوليد إليه فعولا كثيرة، فَأَدْخَلَ فِيهِ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ- حُجْرَةَ عَائِشَةَ- فَدَخَلَ الْقَبْرُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ حَدَّهُ مِنَ الشَّرْقِ وَسَائِرُ حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَمَرَ الْوَلِيدُ، وَرُوِّينَا أَنَّهُمْ لَمَّا حَفَرُوا الْحَائِطَ الشَّرْقِيَّ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ بَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَخَشُوا أَنْ تَكُونَ قَدَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تحققوا أنها قدم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيُحْكَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ- كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجِدًا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُ صُنَّاعًا لِلْبِنَاءِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ صَانِعٍ وَفُصُوصٍ كثيرة من أجل المسجد النبوي، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَحْفِرَ الْفَوَّارَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ يُجْرِيَ مَاءَهَا فَفَعَلَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْفِرَ الْآبَارَ وَأَنْ يُسَهِّلَ الطُّرُقَ وَالثَّنَايَا، وَسَاقَ إِلَى الْفَوَّارَةِ الْمَاءَ مِنْ ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، وَالْفَوَّارَةُ بُنِيَتْ فِي ظَاهِرِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بُقْعَةٍ رَآهَا فَأَعْجَبَتْهُ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَلِكَ الترك كور بغانون ابْنَ أُخْتِ مَلِكِ الصِّينِ، وَمَعَهُ مِائَتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنْ أَهْلِ الصُّغْدِ وَفَرْغَانَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ مَعَ قُتَيْبَةَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ مَأْسُورًا فَكَسَرَهُمْ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَسَبَى وَأَسَرَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَخْبَرُوهُ عَنْ قِلَّةِ الْمَاءِ بِمَكَّةَ لِقِلَّةِ الْمَطَرِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَا نَسْتَمْطِرُ؟ فَدَعَا وَدَعَا النَّاسُ فَمَا زَالُوا يَدْعُونَ حَتَّى سُقُوا وَدَخَلُوا مَكَّةَ وَمَعَهُمُ الْمَطَرُ، وَجَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ حَتَّى خَافَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ شِدَّةِ الْمَطَرِ، وَمُطِرَتْ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى، وَأَخْصَبَتِ الْأَرْضُ هَذِهِ السَّنَةَ خِصْبًا عَظِيمًا بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دعاء عمر وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَكَانَ النُّوَّابُ عَلَى الْبُلْدَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هُمُ الَّذِينَ كانوا قبلها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرِ بْنِ أَبِي بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
صَحَابِيٌّ كَأَبِيهِ، سَكَنَ حِمْصَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التابعين، قال الواقدي: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، زَادَ غَيْرُهُ وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوَفِّيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَعِيشُ قَرْنًا، فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى
عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيُّ ثُمَّ الْأَسْلَمِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَقِيلَ قَارَبَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
.(9/75)
وفيها توفى هشام بن إسماعيل
ابن هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ، وَكَانَ حَمَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَنَائِبَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَمَاتَ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ دِرَاسَةَ الْقُرْآنِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ فمات فيها في السبع.
عمير بن حكيم
الْعَنْسِيُّ الشَّامِيُّ، لَهُ رِوَايَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الشَّامِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيبَ الْحَجَّاجَ عَلَانِيَةً إلا هو وابن محيريز أبو الأبيض، قُتِلَ فِي غَزْوَةِ طُوَانَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ في هذه السنة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا وَفَتَحَا حُصُونًا كَثِيرَةً، مِنْهَا حِصْنُ سُورِيَّةَ وَعَمُّورِيَّةَ وَهِرَقْلَةَ وَقَمُودِيَّةَ. وَغَنِمَا شَيْئًا كَثِيرًا وَأَسَرَا جَمًّا غَفِيرًا. وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ الصُّغْدِ وَنَسَفَ وكش، وَقَدْ لَقِيَهُ هُنَالِكَ خَلْقٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَظَفِرَ بِهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ إِلَى بُخَارَى فَلَقِيَهُ دُونَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّرْكِ فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ عِنْدَ مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ خَرْقَانُ، وَظَفِرَ بِهِمْ فَقَالَ فِي ذَلِكَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ:
وَبَاتَتْ لَهُمْ مِنَّا بِخَرْقَانَ لَيْلَةٌ ... وَلَيْلَتُنَا كَانَتْ بِخَرْقَانَ أَطْوَلَا
ثُمَّ قَصَدَ قُتَيْبَةُ وَرْدَانَ خُذَاهْ مَلِكَ بُخَارَى فَقَاتَلَهُ وَرْدَانُ قِتَالًا شَدِيدًا فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ قُتَيْبَةُ، فَرَجَعَ عَنْهُ إِلَى مَرْوَ، فَجَاءَهُ البريد بكتاب الْحَجَّاجِ يُعَنِّفُهُ عَلَى الْفِرَارِ وَالنُّكُولِ عَنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِصُورَةِ هَذَا الْبَلَدِ- يَعْنِي بُخَارَى- فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِصُورَتِهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ ارْجِعْ إِلَيْهَا وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَنْبِكِ وَائْتِهَا مِنْ مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَرِدْ وَرْدَانَ خُذَاهْ، وَإِيَّاكَ وَالتَّحْوِيطَ، وَدَعْنِي وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِمْرَةَ مَكَّةَ لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فَحَفَرَ بِئْرًا بِأَمْرِ الْوَلِيدِ عِنْدَ ثَنِيَّةِ طُوًى وَثَنِيَّةِ الْحَجُونِ، فَجَاءَتْ عَذْبَةَ الْمَاءِ طيبة، وكان يستقى منها الناس. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ. قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ مَكَّةَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: أَيُّهَا النَّاسُ! أَيُّهُمَا أَعْظَمُ خَلِيفَةً الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ أَمْ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ؟ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَعْلَمُوا فَضْلَ الْخَلِيفَةِ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ اسْتَسْقَاهُ فَسَقَاهُ مِلْحًا أُجَاجًا، وَاسْتَسْقَى الْخَلِيفَةُ فَسَقَاهُ عَذْبًا فُرَاتًا- يَعْنِي الْبِئْرَ الَّتِي احْتَفَرَهَا بِالثَّنِيَّتَيْنِ ثَنِيَّةِ طُوًى وَثَنِيَّةِ الْحَجُونِ- فَكَانَ يُنْقَلُ مَاؤُهَا فَيُوضَعُ فِي حَوْضٍ مِنْ أَدَمٍ إِلَى جَنْبِ زَمْزَمَ لِيُعْرَفَ فَضْلُهُ عَلَى زَمْزَمَ. قَالَ ثُمَّ غَارَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ فَذَهَبَ مَاؤُهَا فَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ إِلَى الْيَوْمِ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ غَرِيبٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ يتضمن(9/76)
كُفْرًا إِنْ صَحَّ عَنْ قَائِلِهِ، وَعِنْدِي أَنَّ خالد بن عبد الله لَا يَصِحُّ عَنْهُ هَذَا الْكَلَامُ، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَقَدْ قِيلَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَلِيفَةَ أَفْضَلَ مِنَ الرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَتَضَمَّنُ كُفْرَ قَائِلِهَا.
وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم الترك حتى بلغ باب الأبواب من ناحية أذربيجان، وفتح حصونا ومدائن كثيرة هُنَالِكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز. قال شيخنا الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ صِقِلِّيَةُ وَمَيُورْقَةُ وقيل ميرقة، وهما في البحر بين جزيرة صقلّيّة وخدرة مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ.
وَفِيهَا سَيَّرَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ وَلَدَهُ إِلَى النِّقْرِيسِ مَلِكِ الْفِرِنْجِ فَافْتَتَحَ بلادا كثيرة. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَحَدُ التَّابِعِينَ الْعُذْرِيُّ الشَّاعِرُ، وَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ النَّسَبَ. وَالْعُمَّالُ فِي هَذِهِ السنة هم المذكورون في التي قبلها.
ثم دخلت سنة تسعين من الهجرة
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ، فَفَتَحَا حُصُونًا وَقَتَلَا خَلْقًا مِنَ الرُّومِ وَغَنِمَا وَأَسَرَا خَلْقًا كَثِيرًا. وَفِيهَا أَسَرَتِ الرُّومُ خَالِدَ بْنَ كَيْسَانَ صَاحِبَ الْبَحْرِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ فَأَهْدَاهُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا قُرَّةَ بْنَ شَرِيكٍ. وَفِيهَا قَتَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ مَلِكَ السِّنْدِ دَاهِرَ بْنَ صَصَّةَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ هَذَا عَلَى جَيْشٍ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ. وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَدِينَةَ بخارى وهزم جميع الْعَدُوِّ مِنَ التُّرْكِ بِهَا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ فُصُولٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ تَقَصَّاهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِيهَا طَلَبَ طَرْخُونُ مَلِكُ الصُّغْدِ بَعْدَ فَتْحِ بُخَارَى مِنْ قُتَيْبَةَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ يَبْذُلُهُ فِي كُلِّ عَامٍ فَأَجَابَهُ قُتَيْبَةُ إِلَى ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا عَلَيْهِ. وَفِيهَا اسْتَنْجَدَ وَرْدَانُ خُذَاهْ بِالتُّرْكِ فَأَتَوْهُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي- وَهُوَ صَاحِبُ بُخَارَى بَعْدَ أَخْذِ قُتَيْبَةَ لَهَا- وَخَرَجَ وَرْدَانُ خُذَاهْ وَحَمَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَطَّمُوهُمْ ثُمَّ عَادَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَصَالَحَ قُتَيْبَةُ مَلِكَ الصُّغْدِ، وَفَتَحَ بُخَارَى وَحُصُونَهَا، وَرَجَعَ قُتَيْبَةُ بِالْجُنْدِ إِلَى بِلَادِهِ فَأَذِنَ لَهُ الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا سَارَ إِلَى بِلَادِهِ بَلَغَهُ أَنَّ صَاحِبَ الصُّغْدِ قَالَ لِمُلُوكِ التُّرْكِ: إِنِ الْعَرَبَ بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ فَإِنْ أُعْطُوا شَيْئًا ذَهَبُوا، وَإِنَّ قُتَيْبَةَ هَكَذَا يَقْصِدُ الْمُلُوكَ، فَإِنْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا أَخْذَهُ وَرَجَعَ عَنْهُمْ، وَإِنَّ قُتَيْبَةَ لَيْسَ بِمَلِكٍ وَلَا يَطْلُبُ مُلْكًا. فَبَلَغَ قُتَيْبَةَ قَوْلُهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَكَاتَبَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ مُلُوكَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنْهُمْ مَلِكُ الطَّالَقَانِ، وَكَانَ قَدْ صَالَحَ قُتَيْبَةَ فَنَقَضَ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُتَيْبَةَ، وَاسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِالْمُلُوكِ كُلِّهَا، فَأَتَاهُ ملوك كثيرة كَانُوا قَدْ عَاهَدُوا قُتَيْبَةَ عَلَى الصُّلْحِ فَنَقَضُوا كُلُّهُمْ وَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى قُتَيْبَةَ، وَاتَّعَدُوا إِلَى الرَّبِيعِ وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فَيُقَاتِلُوا كُلُّهُمْ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قُتَيْبَةُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ مقتلة(9/77)
عَظِيمَةً جِدًّا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَصَلَبَ مِنْهُمْ سِمَاطَيْنِ فِي مَسَافَةِ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ فِي نِظَامٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِمَّا كَسَرَ جُمُوعَهُمْ كُلَّهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَأَخَوَاهُ الْمُفَضَّلُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ سِجْنِ الْحَجَّاجِ، فَلَحِقُوا بِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَمَّنَهُمْ مِنَ الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدِ احْتَاطَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَاقَبَهُمْ عُقُوبَةً عَظِيمَةً، وَأَخَذَ مِنْهُمْ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَكَانَ أَصْبَرَهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، كَانَ لَا يُسْمَعُ لَهُ صوت ولو فعلوا به ما فعلوا نكاية لذلك، وكان ذلك يغيظ الحجاج، قَالَ قَائِلٌ لِلْحَجَّاجِ: إِنَّ فِي سَاقِهِ أَثَرَ نُشَّابَةٍ بَقِيَ نَصْلُهَا فِيهِ، وَإِنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا شَيْءٌ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَصْرُخَ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ أَنْ يُنَالَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْهُ بِعَذَابٍ، فَصَاحَ فَلَمَّا سَمِعَتْ أُخْتُهُ هِنْدُ بِنْتُ الْمُهَلَّبِ- وَكَانَتْ تَحْتَ الْحَجَّاجِ- صَوْتَهُ بَكَتْ وَنَاحَتْ عَلَيْهِ فَطَلَّقَهَا الْحَجَّاجُ ثُمَّ أَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ، ثُمَّ خَرَجَ الْحَجَّاجُ إِلَى بَعْضِ الْمَحَالِّ لِيُنْفِذَ جَيْشًا إِلَى الْأَكْرَادِ وَاسْتَصْحَبَهُمْ مَعَهُ، فَخَنْدَقَ حَوْلَهُمْ وَوَكَّلَ بِهِمُ الْحَرَسَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي أَمَرَ يزيد ابن المهلب بطعام كثير فصنع للحرس، ثُمَّ تَنَكَّرَ فِي هَيْئَةِ بَعْضِ الطَّبَّاخِينَ وَجَعَلَ لحيته لحية بيضاء وخرج فَرَآهُ بَعْضُ الْحَرَسِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مِشْيَةً أَشْبَهَ بِمِشْيَةِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنْ هَذَا، ثم تبعه يَتَحَقَّقُهُ، فَلَمَّا رَأَى بَيَاضَ لِحْيَتِهِ انْصَرَفَ عَنْهُ، ثُمَّ لَحِقَهُ أَخَوَاهُ فَرَكِبُوا السُّفُنَ وَسَارُوا نَحْوَ الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ هَرَبُهُمُ انْزَعَجَ لِذَلِكَ وَذَهَبَ وَهْمُهُ أَنَّهُمْ سَارُوا إِلَى خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ يُحَذِّرُهُ قُدُومَهُمْ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ، وَأَنْ يَرْصُدَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَكْتُبَ إِلَى أُمَرَاءِ الثُّغُورِ وَالْكُوَرِ بِتَحْصِيلِهِمْ.
وَكَتَبَ إلى أمير المؤمنين يُخْبِرُهُ بِهَرَبِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَرَاهُمْ هَرَبُوا إِلَّا إلى خراسان، وخاف الحجاج من يزيد أن يصنع كما صنع ابن الْأَشْعَثِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ وَجَمْعِ النَّاسِ لَهُ، وتحقق عنده قول الراهب.
وَأَمَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَإِنَّهُ سَلَكَ عَلَى الْبَطَائِحِ وَجَاءَتْهُ خُيُولٌ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لَهُ أَخُوهُ مَرْوَانُ بْنُ الْمُهَلَّبِ لِهَذَا الْيَوْمِ، فَرَكِبَهَا وَسَلَكَ بِهِ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي كَلْبٍ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ يَزِيدَ، فَأَخَذَ بِهِمْ عَلَى السَّمَاوَةِ، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَجَّاجِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَنَّ يَزِيدَ قَدْ سَلَكَ نَحْوَ الشَّامِ، فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَسَارَ يَزِيدُ حَتَّى نَزَلَ الْأُرْدُنَّ عَلَى وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيِّ- وَكَانَ كَرِيمًا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ- فَسَارَ وُهَيْبٌ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَأَخَوَيْهِ فِي مَنْزِلِي، قَدْ جَاءُوا مُسْتَعِيذِينَ بك من الحجاج، قال: فاذهب فأتنى بِهِمْ فَهُمْ آمِنُونَ مَا دُمْتُ حَيًّا، فَجَاءَهُمْ فَذَهَبَ بِهِمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَمَّنَهُمْ سُلَيْمَانُ وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْوَلِيدِ: إِنَّ آلَ الْمُهَلَّبِ قَدْ أَمَّنْتُهُمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لِلْحَجَّاجِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفٍ، وَهِيَ عندي. فكتب إليه الوليد: لَا وَاللَّهِ لَا أُؤَمِّنُهُ حَتَّى تَبْعَثَ بِهِ إِلَيَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَا وَاللَّهِ لَا أَبْعَثُهُ حَتَّى أَجِيءَ مَعَهُ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَفْضَحَنِي أَوْ تُخْفِرَنِي فِي جِوَارِي. فكتب إليه: لا والله لا تجيء مَعَهُ وَابْعَثْ بِهِ إِلَيَّ فِي وَثَاقٍ. فَقَالَ يزيد: ابعث(9/78)
بى إِلَيْهِ فَمَا أُحِبُّ أَنْ أُوقِعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً وَحَرْبًا، فَابْعَثْنِي إِلَيْهِ وَابْعَثْ مَعِي ابْنَكَ وَاكْتُبْ إِلَيْهِ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ تَقْدِرُ عَلَيْهَا فَبَعَثَهُ وَبَعَثَ مَعَهُ ابْنَهُ أَيُّوبَ، وَقَالَ لِابْنِهِ: إِذَا دَخَلْتَ فِي الدِّهْلِيزِ فَادْخُلْ مَعَ يَزِيدَ فِي السِّلْسِلَةِ، وَادْخُلَا عَلَيْهِ كَذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى الْوَلِيدُ ابْنَ أَخِيهِ فِي السِّلْسِلَةِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغْنَا مِنْ سُلَيْمَانَ. وَدَفَعَ أَيُّوبُ كِتَابَ أَبِيهِ إِلَى عَمِّهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسِي فِدَاؤُكَ لَا تَخْفِرْ ذِمَّةَ أَبِي وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ مَنَعَهَا، وَلَا تَقْطَعْ مِنَّا رَجَاءَ مَنْ رَجَا السَّلَامَةَ فِي جِوَارِنَا لِمَكَانِنَا مِنْكَ، وَلَا تُذِلَّ مَنْ رَجَا الْعِزَّ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْنَا لِعِزِّنَا بِكَ. ثُمَّ قَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ يا أمير المؤمنين فو الله إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ لَوِ اسْتَجَارَ بِي عَدُوٌّ قَدْ نَابَذَكَ وَجَاهَدَكَ فَأَنْزَلْتُهُ وَأَجْرَتْهُ أَنَّكَ لَا تذل جواري ولا تخفره، بَلْ لَمْ أُجِرْ إِلَّا سَامِعًا مُطِيعًا، حَسَنَ الْبَلَاءِ وَالْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ فَإِنْ كُنْتَ إنما تعد قطيعتي واخفار ذمتي وَالْإِبْلَاغَ فِي مَسَاءَتِي فَقَدْ قَدَرْتَ إِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ، وَأَنَا أُعِيذُكَ باللَّه مِنِ احْتِرَادِ قَطِيعَتِي وانتهاك حرمتي، وترك بري وإجابتي إلى ما سألتك، ووصلتي، فو الله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَدْرِي مَا بَقَائِي وَبَقَاؤُكَ، وَلَا مَتَى يُفَرِّقُ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَدَامَ اللَّهُ سُرُورَهُ أَنْ لَا يَأْتِيَ أَجَلُ الْوَفَاةِ عَلَيْنَا إِلَّا وَهُوَ لِي وَاصِلٌ وَلِحَقِّي مُؤَدٍّ، وَعَنْ مَسَاءَتِي نازع فليفعل، وو الله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَصْبَحْتُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ بِأَسَرَّ مِنِّي برضاك وسرورك، وإن رضاك وسرورك أحب إلى من رضائي وسروري، ومما ألتمس به رضوان الله عز وجل لصلتى ما بيني وبينك، وَإِنْ كُنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمًا مِنَ الدهر تريد صلتي وَكَرَامَتِي وَإِعْظَامَ حَقِّي فَتَجَاوَزْ لِي عَنْ يَزِيدَ، وَكُلُّ مَا طَلَبْتَهُ بِهِ فَهُوَ عَلَيَّ.
فَلَمَّا قَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَهُ قَالَ: لَقَدْ أَشْفَقْنَا عَلَى سُلَيْمَانَ، ثُمَّ دَعَا ابْنَ أَخِيهِ فَأَدْنَاهُ مِنْهُ، وَتَكَلَّمَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ بَلَاءَكُمْ عِنْدَنَا أَحْسَنُ الْبَلَاءِ، فمن ينس ذلك فلسنا ننساه، وَمَنْ يَكْفُرُهُ فَلَسْنَا بِكَافِرِيهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ بَلَائِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي طَاعَتِكُمْ وَالطَّعْنِ فِي أَعْيُنِ أَعْدَائِكُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الْعِظَامِ فِي الْمَشَارِقِ والمغارب، ما أن المنة فيه علينا عَظِيمَةٌ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَجَلَسَ فَأَمَّنَهُ وَكَفَّ عنه ورده إلى سليمان، فكان عنده حسن الهيئة، ويصف له ألوان الأطعمة الشهية، وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ لَا يُهْدَى إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ إلا أرسل له بنصفها، وتقرب يزيد ابن الْمُهَلَّبِ إِلَى سُلَيْمَانَ بِأَنْوَاعِ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالتَّقَادُمِ، وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ إِنِّي لَمْ أَصِلْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَعَ أَخِي سُلَيْمَانَ، فَاكْفُفْ عَنْهُمْ وَالْهَ عَنِ الْكِتَابِ إِلَيَّ فِيهِمْ. فَكَفَّ الْحَجَّاجُ عَنْ آلِ الْمُهَلَّبِ وَتَرَكَ مَا كَانَ يُطَالِبُهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، حَتَّى تَرَكَ لِأَبِي عُيَيْنَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حَتَّى هَلَكَ الحجاج في سنة خمس وتسعين، ثُمَّ وَلِيَ يَزِيدُ بِلَادَ الْعِرَاقِ بَعْدَ الْحَجَّاجِ كما أخبره الراهب.
وفيها توفى من الأعيان:(9/79)
يتاذوق الطَّبِيبُ
الْحَاذِقُ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي فَنِّهِ وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَ الْحَجَّاجِ، مَاتَ فِي حُدُودِ سَنَةِ تِسْعِينَ بِوَاسِطٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ
وَأَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَتَوَلَّى غَزْوَ الْهِنْدِ، وَطَالَ عُمْرُهُ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ أَخُو الْحَجَّاجِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ يَلْعَنُ عَلِيًّا عَلَى الْمَنَابِرِ، قِيلَ إنه أمر حجر المنذري أَنْ يَلْعَنَ عَلِيًّا فَقَالَ: بَلْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَلْعَنُ عَلِيًّا، وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ إِنَّهُ وَرَّى فِي لَعْنِهِ فاللَّه أَعْلَمُ
. خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
أَبُو هَاشِمٍ الْأُمَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ تَلِي دَارَ الْحِجَارَةِ، وَكَانَ عَالِمًا شَاعِرًا، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ، وَكَانَ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الطَّبِيعَةِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ خَالِدُ يَصُومُ الْأَعْيَادَ كُلَّهَا الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ- يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ، وَيَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ عِيدُ الْيَهُودِ، وَالْأَحَدُ لِلنَّصَارَى- وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ خِيَارِ الْقَوْمِ، وَقَدْ ذُكِرَ لِلْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَلْتَئِمْ لَهُ الْأَمْرُ، وَكَانَ مَرْوَانُ زَوْجَ أُمِّهِ، وَمِنْ كَلَامِهِ: أَقْرَبُ شَيْءٍ الْأَجَلُ، وَأَبْعَدُ شَيْءٍ الْأَمَلُ، وَأَرْجَى شَيْءٍ الْعَمَلُ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
سألت الندا والجود حرّان أنتما ... فردا وقالا إننا لعبيد
فقلت ومن مولا كما فَتَطَاوَلَا ... عَلَيَّ وَقَالَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدِ
[قَالَ: فأمر له بمائة ألف. قلت: وقد رأيتهما قد أنشدا في خالد بن الوليد رضى الله عنه. فقال:
وقالا خالد بن وليد. والله أعلم. وخالد بن يزيد هذا كان أميرا على حمص، وهو الّذي بنى جامع حمص وكان له فيه أربعمائة عبد يعملون، فلما فرغ منه أعتقهم. وكان خالد يبغض الحجاج، وهو الّذي أشار على عبد الملك لما تزوج الحجاج بنت جعفر أن يرسل إليه فيطلقها ففعل. ولما مات مشى الوليد في جنازته وصلى عليه، وكان قد تجدد على خالد اصفرار وضعف، فسأله عبد الملك عن هذا فلم يخبره فما زال حتى أخبره أنه من حب رملة أخت مصعب بن الزبير، فأرسل عبد الملك يخطبها لخالد فقالت: حتى يطلق نساءه فطلقهن وتزوجها وأنشد فيها الشعر] [1] وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَقَدْ ذُكِرَ هُنَاكَ، وَالصَّحِيحُ الأول.
عبد الله بن الزبير
ابن سَلِيمٍ الْأَسَدِيُّ الشَّاعِرُ أَبُو كَثِيرٍ، وَيُقَالُ أَبُو سعيد، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَفَدَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالاستانة.(9/80)
الزُّبَيْرِ فَامْتَدَحَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنْ وَصَاحِبَهَا، يُقَالُ إِنَّهُ مَاتَ فِي زَمَنِ الحجاج.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بِلَادَ التُّرْكِ حَتَّى بَلَغَ الْبَابَ مِنْ نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، فَفَتَحَ مَدَائِنَ وَحُصُونًا كَثِيرَةً أَيْضًا، وَكَانَ الْوَلِيدُ قَدْ عَزَلَ عَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ عَنِ الْجَزِيرَةِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَوَلَّاهُمَا أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا غَزَا مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِلَادَ الْمَغْرِبِ فَفَتَحَ مُدُنًا كَثِيرَةً وَدَخَلَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَوَلَجَ فِيهَا حَتَّى دَخَلَ أَرَاضِيَ غَابِرَةً قَاصِيَةً فِيهَا آثَارُ قُصُورٍ وَبُيُوتٍ لَيْسَ بِهَا سَاكِنٌ، وَوَجَدَ هُنَاكَ مِنْ آثَارِ نِعْمَةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ مَا يَلُوحُ عَلَى سِمَاتِهَا أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا أَصْحَابَ أَمْوَالٍ ونعمة دارة سائغة، فَبَادُوا جَمِيعًا فَلَا مُخْبِرَ بِهَا.
وَفِيهَا مَهَّدَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ نَقَضُوا مَا كَانُوا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصَالَحَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ وَحَرْبٍ يَشِيبُ لَهَا الْوَلِيدُ، وَذَلِكَ أَنَّ مُلُوكَهُمْ كَانُوا قَدِ اتعدوا في العام الماضي في أول الرَّبِيعِ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيُقَاتِلُوا قُتَيْبَةَ، وَأَنْ لَا يُوَلُّوا عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى يُخْرِجُوا الْعَرَبَ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا اجْتِمَاعًا هَائِلًا لَمْ يَجْتَمِعُوا مِثْلَهُ فِي مَوْقِفٍ، فَكَسَرَهُمْ قُتَيْبَةُ وَقَتَلَ مِنْهُمْ أُمَمًا كَثِيرَةً، وَرَدَّ الْأُمُورَ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُ صَلَبَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ المواضع من جملة من أخذه منهم سِمَاطَيْنِ طُولُهُمَا أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، عن يمينه وشماله، صلب الرجل منهم بجنب الرجل، وهذا شيء كثير، وقتل في الكفار قتلا ذريعا، ثم لا يزال يتتبع نَيْزَكَ خَانَ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَمِنْ كُورَةٍ إِلَى كُورَةٍ، وَمِنْ رُسْتَاقٍ إِلَى رُسْتَاقٍ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُ حَتَّى حَصَرَهُ فِي قَلْعَةٍ هُنَالِكَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَ نَيْزَكَ خَانَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَأَشْرَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْهَلَاكِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ قُتَيْبَةُ مَنْ جَاءَ بِهِ مُسْتَأْمَنًا مَذْمُومًا مَخْذُولًا، فَسَجَنَهُ عِنْدَهُ ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَمْرِهِ فَجَاءَ الْكِتَابُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِقَتْلِهِ، فَجَمَعَ قُتَيْبَةُ الْأُمَرَاءَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَقَائِلٌ يَقُولُ:
اقْتُلْهُ. وَقَائِلٌ يَقُولُ لَا تَقْتُلْهُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: إِنَّكَ أَعْطَيْتَ اللَّهَ عَهْدًا أَنَّكَ إِنْ ظَفِرْتَ بِهِ لَتَقْتُلَنَّهُ، وَقَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَالَ قتيبة: والله إن لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي إِلَّا مَا يَسَعُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ لَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قَالَ:
اقْتُلُوهُ اقْتُلُوهُ اقتلوه، فقتل هو وسبعمائة من أصحابه من أمرائه فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَخَذَ قُتَيْبَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَخُيُولِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ فِي هَذَا الْعَامِ مُدُنًا كَثِيرَةً، وَقَرَّرَ مَمَالِكَ كثيرة.
وأخذ حصونا كثيرة مشحونة بالأموال والنساء، ومن آنية الذهب والفضة شيئا كثيرا، ثم سار قتيبة إلى الطالقان- وهي مدينة كبيرة وبها حصون وأقاليم- فأخذها واستعمل عليها، ثم سار إلى الفارياب وبها مدن ورساتيق، فخرج إليه ملكها سامعا مطيعا، فاستعمل عليها رجلا من أصحابه، ثم سار إلى(9/81)
الجوزجان فأخذها من ملكها واستعمل عليها، ثم أتى بلخ فدخلها وأقام بها نهارا واحدا، ثم خرج منها وقصد نيزك خان ببغلان، وقد نزل نيزك خان معسكرا على فم الشعب الّذي منه يدخل إلى بلاده، وفي فم الشعب قلعة عظيمة تسمى شمسية، لعلوها وارتفاعها واتساعها. فقدم على قتيبة الرؤب خان ملك الرؤب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة، فأمنه وبعث معه رجالا إلى القلعة فأتوها ليلا ففتحوها وقتلوا خلقا من أهلها وهرب الباقي، ودخل قتيبة الشعب وأتى سمنجان- وهي مدينة كبيرة- فأقام بها وأرسل أخاه عبد الرحمن خلف ملك تلك المدن والبلاد نيزك خان في جيش هائل، فسار خلفه إلى بغلان فحصره بها، وأقام بحصاره شهرين حتى نفذ ما عنده من الأقوات، فأرسل قتيبة من عنده ترجمانا يسمى الناصح، فقال له: اذهب فائتنى بنيزك خان ولئن عدت إلى وليس هو معك ضربت عنقك. وأرسل قتيبة معه هدايا وأطعمة فاخرة، فسار الترجمان إلى نيزك حتى أتاه وقدم إليه الأطعمة فوقع عليها أصحابه يتخاطفونها- وكانوا قد أجهدهم الجوع- ثم أعطاه الناصح الأمان وحلف له، فقدم به على قتيبة ومعه سبعمائة أمير من أصحابه ومن أهل بيته جماعة.
وكذلك استأمن قتيبة جماعة من الملوك فأمنهم وولى على بلادهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز أَشْرَافَ الْمَدِينَةِ فَتَلَقَّوْهُ فَرَحَّبَ بِهِمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ فَأُخْلِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، فَلَمْ يَبْقَ بِهِ أَحَدٌ سِوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ أَنْ يُخْرِجَهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ثِيَابٌ لَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالُوا لَهُ: تَنَحَّ عَنِ الْمَسْجِدِ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْهُ، فَدَخَلَ الْوَلِيدُ الْمَسْجِدَ فَجَعَلَ يَدُورُ فِيهِ يُصَلِّي هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَجَعَلْتُ أَعْدِلُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِ سَعِيدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَرَاهُ، فحانت منه التفاتة فقال: من هذا هو سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المؤمنين، ولو علم بأنك قادم لقام إليك وسلم عليك. فقال: قد علمت بغضه لنا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه وإنه، وشرعت أثنى عليه، وشرع الْوَلِيدُ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ ضَعِيفُ الْبَصَرِ- وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَعْتَذِرَ لَهُ- فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ، فَجَاءَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقُمْ لَهُ سَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ الْوَلِيدُ: كَيْفَ الشَّيْخُ؟ فَقَالَ: بِخَيْرٍ وَالْحَمْدُ للَّه، كَيْفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: الْوَلِيدُ: بِخَيْرٍ وَالْحَمْدُ للَّه وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز: هذا فقيه النَّاسِ. فَقَالَ: أَجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ الْوَلِيدُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي الْخُطْبَةِ الأولى وانتصب في الثانية، قال وقال: هكذا خطب عثمان، ثُمَّ انْصَرَفَ فَصَرَفَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَهَبًا كَثِيرًا وَفِضَّةً كَثِيرَةً، ثُمَّ كَسَا الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ كُسْوَةً مِنْ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ الَّتِي معه، وهي من ديباج غليظ.(9/82)
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ بن سعد بْنِ ثُمَامَةَ،
وَقَدْ حَجَّ بِهِ أَبُوهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عُمْرُ السَّائِبِ سَبْعَ سِنِينَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَلِهَذَا قال الواقدي: إنه ولد سنة سنة ثلاث من الهجرة، وتوفى سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ سِتٍّ وقيل ثمان وثمانين، فاللَّه أَعْلَمُ.
سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ
صَحَابِيٌّ مَدَنِيٌّ جَلِيلٌ، تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وكان ممن ختمه الحجاج في عنقه هُوَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي يَدِهِ، لِيُذِلَّهُمْ كَيْلَا يَسْمَعَ النَّاسُ مِنْ رَأْيِهِمْ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: لَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ، وَقَدْ قال البخاري وغيره: توفى سنة ثمان وثمانين فاللَّه أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ وَابْنُ أَخِيهِ عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَا حُصُونًا كَثِيرَةً وَغَنِمَا شَيْئًا كَثِيرًا وَهَرَبَتْ مِنْهُمُ الرُّومُ إِلَى أَقْصَى بِلَادِهِمْ، وَفِيهَا غَزَا طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ مَوْلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ [بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ فِي اثْنَيْ عشر ألفا، فخرج إليه ملكها أذريقون فِي جَحَافِلِهِ وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَمَعَهُ سَرِيرُ مُلْكِهِ، فَقَاتَلَهُ طَارِقٌ فَهَزَمَهُ وَغَنِمَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ السَّرِيرُ، وَتَمَلَّكَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ بِكَمَالِهَا، قَالَ الذَّهَبِيُّ:
كَانَ طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ أَمِيرَ طَنْجَةَ وَهِيَ أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ نَائِبًا لِمَوْلَاهُ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ] [1] ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ يَسْتَنْجِدُ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، فَدَخَلَ طَارِقٌ إِلَى جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ مِنْ زُقَاقِ سَبْتَةَ وَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ لِكَوْنِ الْفِرِنْجِ قَدِ اقْتَتَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَمْعَنَ طَارِقٌ فِي بِلَادِ الأندلس فافتتح قرطبة وقتل ملكها ادرينوق، وَكَتَبَ إِلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ بِالْفَتْحِ، فَحَسَدَهُ موسى على الانفراد بهذا للفتح، وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُبَشِّرُهُ بِالْفَتْحِ وَيَنْسِبُهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَتَبَ إِلَى طَارِقٍ يَتَوَعَّدُهُ لِكَوْنِهِ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ مَكَانَهُ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ مُسْرِعًا بِجُيُوشِهِ فَدَخَلَ الْأَنْدَلُسَ وَمَعَهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيُّ، فَأَقَامَ سِنِينَ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَيَأْخُذُ الْمُدُنَ وَالْأَمْوَالَ، وَيَقْتُلُ الرِّجَالَ وَيَأْسِرُ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، فَغَنِمَ شَيْئًا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ وَلَا يُعَدُّ، مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَالذَّهَبِ والفضة، ومن آنية الذهب والفضة والإناث وَالْخُيُولِ وَالْبِغَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ وَالْمُدُنِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَكَانَ مِمَّا فَتَحَ مَسْلَمَةُ وَابْنُ أَخِيهِ عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ حُصُونِ بِلَادِ الرُّومِ حِصْنُ سَوْسَنَةَ وَبَلَغَا إِلَى خَلِيجِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بن مسلم شومان وكش وَنَسَفَ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ فِرْيَابَ فَأَحْرَقَهَا، وَجَهَّزَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى الصُّغْدِ إِلَى طَرْخُونَ خَانَ مَلِكِ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَصَالَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وأعطاه طرخون خان
__________
[1] سقط من المصرية.(9/83)
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَقَدِمَ عَلَى أَخِيهِ وَهُوَ ببُخَارَى فَرَجَعَ إِلَى مَرْوَ، وَلَمَّا صَالَحَ طَرْخُونُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَرَحَلَ عَنْهُ اجْتَمَعَتِ الصُّغْدُ وَقَالُوا لِطَرْخُونَ: إِنَّكَ قَدْ بُؤْتَ بِالذُّلِّ، وَأَدَّيْتَ الْجِزْيَةَ، وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيكَ، ثُمَّ عزلوه وولوا عليهم غورك خان- أخاطر خون خَانَ- ثُمَّ إِنَّهُمْ عَصَوْا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ سِجِسْتَانَ يُرِيدُ رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى أَوَّلِ مَمْلَكَةِ رُتْبِيلَ تَلَقَّتْهُ رُسُلُهُ يُرِيدُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ، خُيُولٍ وَرَقِيقٍ وَنِسَاءٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ، يُحْمَلُ ذَلِكَ إليه، فصالحه. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نائب المدينة.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مَالِكُ بْنُ أَوْسِ
بن الحدثان النضري، أبو سعيد المدني، مختلف في صحبته، قال بَعْضُهُمْ: رَكِبَ الْخَيْلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرَأَى أَبَا بَكْرٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَالُوا: لَا تَصِحُّ لَهُ صُحْبَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا فاللَّه أَعْلَمُ.
طُوَيْسٌ الْمُغَنِّي
اسْمُهُ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ الْمُنْعِمِ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، كَانَ بَارِعًا فِي صِنَاعَتِهِ، وَكَانَ طَوِيلًا مُضْطَرِبًا أَحْوَلَ الْعَيْنِ، وكان مشئوما، لأنه ولد يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفُطِمَ يَوْمَ تُوُفِّيَ الصِّدِّيقُ، وَاحْتَلَمَ يَوْمَ قُتِلَ عُمَرُ، وَتَزَوَّجَ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَوُلِدَ لَهُ يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقِيلَ وُلِدَ لَهُ يَوْمَ قُتِلَ عَلِيٌّ. حَكَاهُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَغَيْرُهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وثمانين سنة بالسويد- وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ-
الْأَخْطَلُ
كَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، فَاقَ أَقْرَانَهُ فِي الشِّعْرِ.
ثُمَّ دخلت سنة ثلاث وتسعين
وَفِيهَا افْتَتَحَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، مِنْهَا حِصْنُ الْحَدِيدِ وَغَزَالَةُ وَمَاسَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَفِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بن الوليد ففتح سمسطية. وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ الْوَلِيدِ الرُّومَ حَتَّى بلغ حنجرة. وَفِيهَا كَتَبَ خَوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى قُتَيْبَةَ يَدْعُوهُ إِلَى الصُّلْحِ وَأَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ بِلَادِهِ مَدَائِنَ، وَأَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ أَمْوَالًا وَرَقِيقًا كَثِيرًا عَلَى أَنْ يُقَاتِلَ أَخَاهُ وَيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَبَغَى عَلَى النَّاسِ وَعَسَفَهُمْ، وَكَانَ أَخُوهُ هَذَا لَا يَسْمَعُ بِشَيْءٍ حَسَنٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلَّا بَعَثَ إِلَيْهِ فَأَخَذَهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ نِسَاءً أَوْ صِبْيَانًا أَوْ دَوَابَّ أَوْ غَيْرَهُ، فَأَقْبَلَ قُتَيْبَةُ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الْجُيُوشِ فَسَلَّمَ إِلَيْهِ خَوَارِزْمُ شَاهْ مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ قُتَيْبَةُ إِلَى بِلَادِ أَخِي خَوَارِزْمَ شَاهْ جَيْشًا فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا أَخَاهُ وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَسِيرٍ من كبارهم، فَدَفَعَ أَخَاهُ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ قُتَيْبَةُ بِالْأُسَارَى فَضُرِبَتْ أعناقهم بحضرته، قيل أَلْفًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَلْفًا عَنْ يَمِينِهِ وَأَلْفًا عَنْ شِمَالِهِ وَأَلْفًا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، لِيُرْهِبَ بِذَلِكَ الْأَعْدَاءَ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ.(9/84)
فَتْحُ سَمَرْقَنْدَ
وَذَلِكَ أَنَّ قُتَيْبَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِ، قَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: إِنَّ أَهْلَ الصُّغْدِ قَدْ أَمِنُوكَ عَامَكَ هَذَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَعْدِلَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَإِنَّكَ مَتَى فَعَلْتَ ذَلِكَ أَخَذْتَهَا إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ. فَقَالَ قُتَيْبَةُ لِذَلِكَ الْأَمِيرِ: هَلْ قُلْتَ هَذَا لِأَحَدٍ؟ قَالَ:
لَا! قَالَ فلأن يَسْمَعْهُ مِنْكَ أَحَدٌ أَضْرِبْ عُنُقَكَ. ثُمَّ بَعَثَ قُتَيْبَةُ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُسْلِمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا فَسَبَقَهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَلَحِقَهُ قُتَيْبَةُ فِي بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْأَتْرَاكُ بِقُدُومِهِمْ إِلَيْهِمُ انْتَخَبُوا مِنْ بَيْنِهِمْ كُلَّ شَدِيدِ السَّطْوَةِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى قُتَيْبَةَ فِي اللَّيْلِ فَيَكْبِسُوا جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى قُتَيْبَةَ بِذَلِكَ فَجَرَّدَ أَخَاهُ صَالِحًا فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْأَبْطَالِ الَّذِينَ لَا يُطَاقُونَ، وَقَالَ: خُذُوا عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ، فَسَارُوا فَوَقَفُوا لَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وتفرقوا ثلاث فرق، فلما اجتازوا بهم بالليل- وهم لا يشعرون بهم- نادوا عليهم فاقتتل المسلمون هُمْ وَإِيَّاهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أُولَئِكَ الْأَتْرَاكِ إِلَّا النَّفَرُ الْيَسِيرُ وَاحْتَزُّوا رُءُوسَهُمْ وَغَنِمُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْأَسْلِحَةِ الْمُحَلَّاةِ بِالذَّهَبِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَقَالَ لَهُمْ بَعْضُ أُولَئِكَ: تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ لَمْ تَقْتُلُوا فِي مَقَامِكُمْ هَذَا إِلَّا ابْنَ مَلِكٍ أو بطل مِنَ الْأَبْطَالِ الْمَعْدُودِينَ بِمِائَةِ فَارِسٍ أَوْ بِأَلْفِ فَارِسٍ، فَنَفَلَهُمْ قُتَيْبَةُ جَمِيعَ مَا غَنِمُوهُ مِنْهُمْ من ذهب وسلاح، واقترب مِنَ الْمَدِينَةِ الْعُظْمَى الَّتِي بِالصُّغْدِ- وَهِيَ سَمَرْقَنْدُ- فَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ فَرَمَاهَا بِهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُقَاتِلُهُمْ لَا يُقْلِعُ عَنْهُمْ، وَنَاصَحَهُ مَنْ معه عليها من بُخَارَى وَخَوَارِزْمَ، فَقَاتَلُوا أَهْلَ الصُّغْدِ قِتَالًا شَدِيدًا، فأرسل إليه غورك ملك الصغد: إنما تقاتلني بإخواني وأهل بيتي، فاخرج إلى في الْعَرَبَ. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ قُتَيْبَةُ وَمَيَّزَ الْعَرَبَ مِنَ الْعَجَمِ وَأَمَرَ الْعَجَمَ بِاعْتِزَالِهِمْ، وَقَدَّمَ الشُّجْعَانَ مِنَ الْعَرَبِ وَأَعْطَاهُمْ جَيِّدَ السِّلَاحِ، وَانْتَزَعَهُ مِنْ أَيْدِي الْجُبَنَاءِ، وَزَحَفَ بِالْأَبْطَالِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَرَمَاهَا بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدها الترك بغرار الدُّخْنِ، وَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَوْقَهَا فَجَعَلَ يَشْتُمُ قُتَيْبَةَ فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَهْمٍ فَقَلَعَ عَيْنَهُ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَأَعْطَى قُتَيْبَةُ الَّذِي رَمَاهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، ثُمَّ دَخَلَ اللَّيْلُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَمَاهُمْ بِالْمَجَانِيقِ فَثَلَمَ أَيْضًا ثُلْمَةً وَصَعِدَ الْمُسْلِمُونَ فَوْقَهَا، وَتَرَامَوْا هُمْ وَأَهْلُ الْبَلَدِ بِالنُّشَّابِ، فَقَالَتِ التَّرْكُ لِقُتَيْبَةَ: ارْجِعْ عَنَّا يَوْمَكَ هَذَا وَنَحْنُ نُصَالِحُكَ غَدًا، فَرَجَعَ عَنْهُمْ وَصَالَحُوهُ مِنَ الْغَدِ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفٍ يَحْمِلُونَهَا إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَعَلَى أَنْ يُعْطُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ الرَّقِيقِ، لَيْسَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَا شَيْخٌ وَلَا عَيْبٌ، وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ رَقِيقٍ، وَعَلَى أَنْ يَأْخُذَ حِلْيَةَ الْأَصْنَامِ وَمَا فِي بُيُوتِ النِّيرَانِ، وَعَلَى أَنْ يُخْلُوا الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ حَتَّى يَبْنِيَ فِيهَا قُتَيْبَةُ مَسْجِدًا، وَيُوضَعُ لَهُ فِيهِ مِنْبَرٌ يَخْطُبُ عَلَيْهِ، وَيَتَغَدَّى وَيَخْرُجُ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَهَا قُتَيْبَةُ دَخَلَهَا وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنَ الْأَبْطَالِ- وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بُنِيَ الْمَسْجِدُ(9/85)
وَوُضِعَ فِيهِ الْمِنْبَرُ- فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَخَطَبَ وَتَغَدَّى وَأُتِيَ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي لَهُمْ فَسُلِبَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُلْقِيَتْ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، حَتَّى صَارَتْ كالقصر العظيم، ثم أمر بتحريقها، فتصارخوا وتباكوا وَقَالَ الْمَجُوسُ: إِنَّ فِيهَا أَصْنَامًا قَدِيمَةً مَنْ أحرقها هلك، وجاء الملك غورك فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لِقُتَيْبَةَ:
إِنِّي لَكَ ناصح، فقام قتيبة وأخذ في يده شعلة نار وقال: أنا أحرقها بيدي فيكدونى جميعا ثم لا تنظرون، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا وَهُوَ يُكَبِّرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَلْقَى فِيهَا النَّارَ فَاحْتَرَقَتْ، فَوَجَدَ مِنْ بقايا ما كان فيها من الذهب خمسون أَلْفَ مِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَصَابَ قُتَيْبَةُ فِي السَّبْيِ جَارِيَةً مِنْ ولد يزدجرد، فَأَهْدَاهَا إِلَى الْوَلِيدِ فَوَلَدَتْ لَهُ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى قُتَيْبَةُ بِأَهْلِ سَمَرْقَنْدَ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَا أُرِيدُ مِنْكُمْ أَكْثَرَ مِمَّا صَالَحْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ جُنْدٍ يُقِيمُونَ عِنْدَكُمْ مِنْ جِهَتِنَا.
فَانْتَقَلَ عَنْهَا مَلِكُهَا غورك خَانَ فَتَلَا قُتَيْبَةُ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى 53: 50- 51 الْآيَاتِ ثُمَّ ارْتَحَلَ عَنْهَا قُتَيْبَةُ إِلَى بِلَادِ مَرْوَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى سَمَرْقَنْدَ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بن مسلم، وقال له: لا تدع مُشْرِكًا يَدْخُلُ بَابَ سَمَرْقَنْدَ إِلَّا مَخْتُومَ الْيَدِ، ثُمَّ لَا تَدَعْهُ بِهَا إِلَّا مِقْدَارَ مَا تَجِفُّ طِينَةُ خَتْمِهِ، فَإِنْ جَفَّتْ وَهُوَ بِهَا فأقتله، ومن رأيت مِنْهُمْ وَمَعَهُ حَدِيدَةٌ أَوْ سِكِّينَةٌ فَاقْتُلْهُ بِهَا، وإذا أغلقت الباب فوجدت بها أحدا فَاقْتُلْهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كَعْبٌ الْأَشْقَرِيُّ- وَيُقَالُ هِيَ لِرَجُلٍ مِنْ جُعْفِيٍّ: -
كُلَّ يَوْمٍ يَحْوِي قُتَيْبَةُ نَهْبًا ... وَيَزِيدُ الْأَمْوَالَ مَالًا جَدِيدَا
بَاهِلِيٌّ قَدْ أُلْبِسَ التَّاجَ حَتَّى ... شَابَ مِنْهُ مَفَارِقٌ كُنَّ سُودَا
دَوَّخَ الصُّغْدَ بِالْكَتَائِبِ حَتَّى ... تَرَكَ الصُّغْدَ بِالْعَرَاءِ قُعُودَا
فَوَلِيدٌ يَبْكِي لِفَقْدِ أَبِيهِ ... وَأَبٌ مُوجَعٌ يُبَكِّي الْوَلِيدَا
كُلَّمَا حَلَّ بَلْدَةً أَوْ أَتَاهَا ... تَرَكَتْ خَيْلُهُ بِهَا أُخْدُودَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ نَائِبَ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَوْلَاهُ طَارِقًا عَنِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ فَفَتَحَهَا فَوَجَدَ فِيهَا مَائِدَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَفِيهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، فَبَعَثُوا بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فما وصلت إليه حتى مات وتولى أخوه سليمان بن عبد الملك، فوصلت مائدة سليمان عليه السلام إلى سليمان على ما سيأتي بيانه في موضعه، وكان فيها ما يبهر العقول، لم ير منظر أحسن منها. واستعمل موسى بن نصير مكان مولاه ولده عبد العزيز بن موسى بن نصير. وفيها بعث موسى بن نصير العساكر وبثها في بلاد المغرب، فافتتحوا مدنا كثيرة من جزيرة الأندلس منها قرطبة وطنجة، ثم سار موسى بنفسه إلى غرب الأندلس فافتتح مدينة باجة والمدينة البيضاء وغيرهما من المدن الكبار والأقاليم، ومن القرى والرساتيق شيء كثير، وكان لا يأتى مدينة فيبرح عنها حتى يفتحها أو ينزلوا على حكمه، وجهز البعوث والسرايا غربا(9/86)
وشرقا وشمالا، فجعلوا يفتتحون المغرب بلدا بلدا، وإقليما إقليما، ويغنمون الأموال ويسبون الذراري والنساء، ورجع موسى بن نصير بغنائم وأموال وتحف لا تحصى ولا تعد كثرة.
وَفِيهَا قَحَطَ أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ وَأَجْدَبُوا جَدْبًا شَدِيدًا، فَخَرَجَ بِهِمْ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ يَسْتَسْقِي بِهِمْ، فَمَا زَالَ يَدْعُو حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْمِنْبَرِ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْعُو لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ:
لَيْسَ هَذَا الموضع موضع ذاك، فلما قال هذه المقالة أرسل الله عليهم الغيث فأمطروا مطرا غزيرا وحسن حالهم، وأخصبت بلادهم. وَفِيهَا ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خُبَيْبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ سَوْطًا بأمر الوليد له في ذلك، وَصَبَّ فَوْقَ رَأْسِهِ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ بَارِدٍ في يوم شتاء بارد، وأقامه على باب المسجد يوم ذلك فمات رحمه الله. وكان عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ مَوْتِ خُبَيْبٍ شَدِيدَ الْخَوْفِ لَا يَأْمَنُ، وَكَانَ إِذَا بُشِّرَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ يَقُولُ: وَكَيْفَ وَخُبَيْبٌ لِي بِالطَّرِيقِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُ هَذَا إِذَا لم يكن خبيب في الطريق، ثُمَّ يَصِيحُ صِيَاحَ الْمَرْأَةِ الثَّكْلَى، وَكَانَ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ يَقُولُ:
خُبَيْبٌ وَمَا خُبَيْبٌ إِنْ نَجَوْتُ مِنْهُ فَأَنَا بِخَيْرٍ. وَمَا زَالَ عَلَى الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ ضَرَبَ خُبَيْبًا فَمَاتَ فَاسْتَقَالَ وَرَكِبَهُ الْحُزْنُ وَالْخَوْفُ مِنْ حِينِئِذٍ، وَأَخَذَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْبُكَاءِ، وَكَانَتْ تِلْكَ هَفْوَةً مِنْهُ وَزَلَّةً، وَلَكِنْ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِهَا خَيْرٌ كَثِيرٌ، مِنْ عِبَادَةٍ وَبُكَاءٍ وَحُزْنٍ وَخَوْفٍ وَإِحْسَانٍ وَعَدْلٍ وَصَدَقَةٍ وَبِرٍّ وَعِتْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ- وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الحجاج بن يوسف- مدينة الدبيل وَغَيْرَهَا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ وَكَانَ قَدْ وَلَّاهُ الْحَجَّاجُ غَزْوَ الْهِنْدِ وَعُمْرُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَارَ فِي الْجُيُوشِ فَلَقُوا الْمَلِكَ دَاهِرَ- وَهُوَ ملك الهند- في جمع عظيم ومعه سبع وَعِشْرُونَ فِيلًا مُنْتَخَبَةً، فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَهَرَبَ الْمَلِكُ دَاهِرُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَقْبَلَ الْمَلِكُ ومعه خلق كثير جدا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَقُتِلَ الْمَلِكُ دَاهِرُ وَغَالِبُ مَنْ مَعَهُ، وَتَبِعَ الْمُسْلِمُونَ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الْهُنُودِ فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ فافتتح مدينة الكبرج وَبَرَّهَا وَرَجَعَ بِغَنَائِمَ كَثِيرَةٍ وَأَمْوَالٍ لَا تُحْصَى كثرة، من الجواهر والذهب وغير ذلك [فكانت سوق الجهاد قائمة في بنى أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه. فقتيبة ابن مسلم يفتح في بلاد الترك، يقتل ويسبى ويغنم، حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه، فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرة هدية، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده، بحيث إن ملوك تلك النواحي كلها تؤدى إليه الخراج خوفا منه. ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد](9/87)
الصين، ولم يبق إلا أن يلتقى مع ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر. ثم إن قتيبة قتل بعد ذلك، قتله بعض المسلمين. ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعا يعبد الله فيه، وامتلأت قلوب الفرنج منهم رعبا. ومحمد بن القاسم ابن أخى الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم. وموسى بن نصير يجاهد في بلاد المغرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرهم. وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الإسلام وتركوا عبادة الأوثان. وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان فتحوا غالب هذه النواحي ودخلوا في مبانيها، بعد هذه الأقاليم الكبار، مثل الشام ومصر والعراق واليمن وأوائل بلاد الترك، ودخلوا إلى ما وراء النهر وأوائل بلاد المغرب، وأوائل بلاد الهند. فكان سوق الجهاد قائما في القرن الأول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بنى أمية وفي أثناء خلافة بنى العباس مثل أيام المنصور وأولاده، والرشيد وأولاده، في بلاد الروم والترك والهند. وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلادا كثيرة من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بنى أمية إلى بلاد المغرب وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها. ثم لما بطل الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلادا كثيرة، وضعف الإسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار المصرية والشامية، وضعف الإسلام وقلّ ناصروه، وجاء الفرنج فأخذوا غالب بلاد الشام حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بنى أيوب مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة، وسيأتي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى] [1] وَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُخْبِرُهُ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُمْ فِي ضَيْمٍ وَضِيقٍ مَعَ الْحَجَّاجِ مِنْ ظُلْمِهِ وَغَشْمِهِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْحَجَّاجُ فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ عُمَرَ ضعيف عن إمرة الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَهَذَا وَهْنٌ وَضَعْفٌ فِي الْوِلَايَةِ، فاجعل على الحرمين من يضبط أمرهما. فولى عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ حَيَّانَ، وَعَلَى مَكَّةَ خالد بن عبد الله القسري، وفعل مَا أَمَرَهُ بِهِ الْحَجَّاجُ. فَخَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ فَنَزَلَ السُّوَيْدَاءَ، وَقَدِمَ عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ الْمَدِينَةَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عبد الملك.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أنس بن مالك
ابن النَّضْرِ بْنِ ضَمْضَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النجار، أبو حمزة
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالاستانة.(9/88)
وَيُقَالُ أَبُو ثُمَامَةَ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ، وَأُمُّهُ أُمُّ حَرَامٍ مُلَيْكَةُ بِنْتُ مِلْحَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، زَوْجَةُ أَبِي طَلْحَةَ زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ. رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ جَمَّةً، وَأَخْبَرَ بِعُلُومٍ مُهِمَّةٍ. وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ، قَالَ أَنَسٌ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ثُمَامَةَ قَالَ قِيلَ لِأَنَسٍ:
أَشَهِدْتَ بَدْرًا؟ فَقَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْ بَدْرٍ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: شَهِدَهَا يَخْدُمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي، قُلْتُ:
الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا شَهِدَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَغَازِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أُمَّهُ أَتَتْ بِهِ- وَفِي رِوَايَةٍ عَمُّهُ زَوْجُ أُمِّهِ أَبُو طَلْحَةَ- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أنس خادم لبيب يخدمك، فوهبته منه فَقَبِلَهُ، وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَقَالَ: «اللَّهمّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَنَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بنخلة كُنْتُ أَجْتَنِيهَا.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ عَلَى عِمَالَةِ الْبَحْرَيْنِ وَشَكَرَاهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدِ انْتَقَلَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَكَانَ لَهُ بِهَا أَرْبَعُ دُورٍ، وَقَدْ نَالَهُ أَذًى مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، تَوَهَّمَ الْحَجَّاجُ منه أنه له مداخلة فِي الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ أَفْتَى فِيهِ، فَخَتَمَهُ الْحَجَّاجُ في عنقه، هذا عنق الْحَجَّاجِ، وَقَدْ شَكَاهُ أَنَسٌ كَمَا قَدَّمْنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعَنِّفُهُ، فَفَزِعَ الْحَجَّاجُ مِنْ ذَلِكَ وَصَالَحَ أَنَسًا. وَقَدْ وَفَدَ أَنَسٌ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ، قِيلَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ يَبْنِي جَامِعَ دِمَشْقَ، قَالَ مَكْحُولٌ: رَأَيْتُ أَنَسًا يَمْشِي فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: لَا وضوء. وقال الأوزاعي: حدثني إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ قَالَ: قَدِمَ أَنَسٌ عَلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: مَاذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ بِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنْتُمْ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» . وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عُمَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: قَدِمَ أَنَسٌ عَلَى الْوَلِيدِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: لا أعرف مِمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَقَدْ صَنَعْتُمْ فِيهَا مَا صَنَعْتُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ- يَعْنِي مَا كَانَ يَفْعَلُهُ خُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا الْمُوَسَّعِ- كَانُوا يُوَاظِبُونَ عَلَى التَّأْخِيرِ إِلَّا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: جَاءَتْ بِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا غلام فقالت: يا رسول الله خويدمك أُنَيْسٌ فَادْعُ اللَّهَ لَهُ.
فَقَالَ: «اللَّهمّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ» . قَالَ: فَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَتَيْنِ وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ، وَفِي(9/89)
رواية قال أنس: فو الله إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ حَتَّى نَخْلِي وَكَرْمِي لَيُثْمِرُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوٍ الْمِائَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَإِنَّ وَلَدِي لِصُلْبِي مِائَةٌ وَسِتَّةٌ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَأَلْفَاظٌ مُنْتَشِرَةٌ جِدًّا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أنس: وأخبرتنى بنتي آمنة أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي إِلَى حِينِ مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ عِشْرُونَ وَمِائَةٌ. وَقَدْ تَقَصَّى ذَلِكَ بِطُرُقِهِ وَأَسَانِيدِهِ وَأَوْرَدَ أَلْفَاظَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي أَوَاخِرِ السِّيرَةِ وللَّه الْحَمْدُ. وَقَالَ ثَابِتٌ لِأَنَسٍ: هَلْ مَسَّتْ يَدُكَ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ فَأَعْطِنِيهَا أُقَبِّلْهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ ابن سَعْدٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْمُثَنَّى بن سعيد الذراع قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَأَنَا أَرَى فِيهَا حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يبكى. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عن يونس ابن أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ: كَانَ أَنَسٌ صَاحِبَ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم وإدواته، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خُوَيْدِمُكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ ثَنَا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «قَالَ أَنَا فَاعِلٌ، قُلْتُ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ، قُلْتُ: فَإِذَا لَمْ أَلْقَكَ؟ قَالَ: فَأَنَا عِنْدَ الْمِيزَانِ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ فَأَنَا عِنْدَ الْحَوْضِ لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ حرب بن ميمون أبى الخطاب صاحب الأعمش الْأَنْصَارِيِّ بِهِ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ ابْنِ أُمِّ سُلَيْمٍ- يَعْنِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ- وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ صَلَاةً فِي الْحَضَرِ والسفر. وقال أنس: خذ منى فأنا أَخَذْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَسْتَ تَجِدُ أَوْثَقَ مِنِّي. وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ صلى إلى الْقِبْلَتَيْنِ غَيْرِي. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عفان حدثني شيخ لنا يكنى أبا جناب سمعت الحريري يَقُولُ: أَحْرَمَ أَنَسٌ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ فَمَا سَمِعْنَاهُ مُتَكَلِّمًا إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى أَحَلَّ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي هَكَذَا الْإِحْرَامُ. وَقَالَ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: دَخَلَ عَلَيْنَا أَنَسٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَنَحْنُ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ فَقَالَ: مه، فلما أقيمت الصلاة قال: إني لأخاف أَنْ أَكُونَ قَدْ أَبْطَلْتُ جُمُعَتِي بِقَوْلِي لَكُمْ مَهْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا بَشَّارُ ابن مُوسَى الْخَفَّافُ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثابت قال: كنت مع أنس فجاءت قهرمانة فقالت يَا أَبَا حَمْزَةَ عَطِشَتْ أَرْضُنَا، قَالَ فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثم دعا فرأيت السحاب(9/90)
يلتئم ثم أمطرت حتى خيل إلينا أنها مَلَأَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَمَّا سَكَنَ الْمَطَرُ بَعَثَ أَنَسٌ بَعْضَ أَهْلِهِ فَقَالَ:
انْظُرْ أَيْنَ بَلَغَتِ السَّمَاءُ، فَنَظَرَ فَلَمْ تَعْدُ أَرْضَهُ إِلَّا يَسِيرًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثنا فَفَرَغَ مِنْهُ قَالَ: أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ عن ابن عوف عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: بَعَثَ أَمِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى أَنَسٍ شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ فَقَالَ أَخُمُسٌ؟ قَالَ: لَا، فَلَمْ يَقْبَلْهُ: وَقَالَ النَّضِرُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ: مَرِضَ أَنَسٌ فَقِيلَ لَهُ أَلَا نَدْعُو لَكَ الطَّبِيبَ؟ فَقَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتَ فِي الْقَصْرِ مَعَ الْحَجَّاجِ وَهُوَ يَعْرِضُ النَّاسَ لَيَالِيَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَجَاءَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: هِي يَا خَبِيثُ، جَوَّالٌ فِي الْفِتَنِ، مَرَّةً مَعَ عَلِيٍّ، وَمَرَّةً مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرَّةً مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ الْحَجَّاجِ بِيَدِهِ لَأَسْتَأْصِلَنَّكَ كَمَا تُسْتَأْصَلُ الصِّمْغَةُ، وَلَأُجَرِّدَنَّكَ كَمَا تجرد الضب. قال يقول أنس:
إياي يَعْنِي الْأَمِيرُ؟ قَالَ إِيَّاكَ أَعْنِي، أَصَمَّ اللَّهُ سَمْعَكَ، قَالَ فَاسْتَرْجَعَ أَنَسٌ، وَشُغِلَ الْحَجَّاجُ فَخَرَجَ أَنَسٌ فَتَبِعْنَاهُ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي ذكرت ولدى- وفي رواية لولا أنى ذكرت أولادي الصغار- وخفته عليهم ما باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يستخفني بَعْدَهُ أَبَدًا. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أَنَّ أَنَسًا بَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يشكو إليه الحجاج ويقول: والله لو أن اليهود والنصارى رأوا من خدم نبيهم لأكرموه، وأنا قد خَدَمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سنين.
فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتابا فيه كلام جد وفيه: إذا جاءك كتابي هذا فقم إلى أبى حمزة فترضّاه وقبّل يده ورجله، وإلا حل بك منى ما تستحقه. فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، همّ أن ينهض إليه فأشار عليه إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، الَّذِي قَدِمَ بِالْكِتَابِ أَنْ لَا يَذْهَبَ إِلَى أَنَسٍ، وَأَشَارَ عَلَى أَنَسٍ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْمُصَالَحَةِ- وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ صَدِيقَ الْحَجَّاجِ- فَجَاءَ أَنَسٌ فَقَامَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَتَلَقَّاهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا مثلي ومثلك إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. أَرَدْتُ أَنْ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ عَلَيَّ مَنْطِقٌ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ- لَمَّا قَالَ لِأَنَسٍ مَا قَالَ-: يَا ابْنَ الْمُسْتَفْرِمَةِ عجب الزَّبِيبِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْكُلَكَ رَكْلَةً تَهْوِي بِهَا إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، قَاتَلَكَ اللَّهُ أُخَيْفِشَ العينين، أفيتل الرجلين، أسود العاجزين- ومعنى قوله المستقرة عجب الزَّبِيبِ- أَيْ تُضَيِّقُ فَرْجَهَا عِنْدَ الْجِمَاعِ بِهِ، وَمَعْنَى أَرْكُلُكَ أَيْ أَرْفُسُكَ بِرِجْلِي، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَجَّاجِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ: لَمْ يُبْتَلَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا رَجُلَيْنِ، مُعَيْقِيبٌ كَانَ بِهِ الْجُذَامُ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ بِهِ وَضَحٌ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي جعفر قال:(9/91)
رَأَيْتُ أَنَسًا يَأْكُلُ فَرَأَيْتُهُ يَلْقَمُ لُقَمًا عِظَامًا، وَرَأَيْتُ بِهِ وَضَحًا شَدِيدًا. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثنا عبد الله ابن معاذ بن يزيد عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: ضَعُفَ أَنَسٌ عَنِ الصَّوْمِ فصنع طعاما وَدَعَا ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ.
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. وقال شعبة عن موسى السنبلاوى قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَنْتَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قَدْ بَقِيَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَأَمَّا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَا آخِرُ مَنْ بَقِيَ، وَقِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ: أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ فَقَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، وَجَعَلَ يَقُولُ: لَقِّنُونِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ مُحْتَضِرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى قُبِضَ. وَكَانَتْ عِنْدَهُ عُصَيَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ مَعَهُ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ وَلَهُ مِائَةٌ وَسَبْعُ سِنِينَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ أَنَسًا عُمِّرَ مائة سنة غير ستة، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ والْفَلَّاسُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُؤَرِّخُونَ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، فَقِيلَ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَقِيلَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: تُوُفِّيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي جُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ. وَقَالَ قتادة: لما مات أنس قال مؤرق الْعِجْلِيُّ:
ذَهَبَ الْيَوْمَ نِصْفُ الْعِلْمِ، قِيلَ لَهُ وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِذَا خَالَفُونَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ربيعة
ابْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، يُقَالُ إِنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَخُتِنَ يَوْمَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، وَتَزَوَّجَ يَوْمَ مَقْتَلِ عَلِيٍّ، فاللَّه أَعْلَمُ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالتَّغَزُّلِ الْمَلِيحِ الْبَلِيغِ، كَانَ يَتَغَزَّلُ فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا الثُّرَيَّا بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيَّةُ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا سَهْلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: -
أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرَكَ اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إِذَا مَا اسْتَقَلَّتْ ... وَسُهَيْلٌ إِذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِ
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ:
حَيِّ طَيْفًا مِنَ الْأَحِبَّةِ زَارَا ... بعد ما برح الكرى السمارا
طارقا في المنام بعد دجى ... الليل خفيا بِأَنْ يَزُورَ نَهَارَا
قُلْتُ مَا بَالُنَا جَفَيْنَا وَكُنَّا ... قَبْلَ ذَاكَ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَا
قَالَ: إِنَّا كَمَا عَهِدْتَ وَلَكِنْ ... شَغَلَ الْحَلْيُ أَهْلَهُ أَنْ يعارا(9/92)
[بلال بن أبى الدرداء
ولى إمرة دمشق ثم ولى القضاء بها، ثم عزله عبد الملك بأبي إدريس الخولانيّ. كان بلال حسن السيرة، كثير العبادة، والظاهر أن هذا القبر الّذي بباب الصغير الّذي يقال له قبر بلال، إنما هو قبر بلال بن أبى الدرداء، لا قبر بلال بن حمامة مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِ بلالا المؤذن دفن بداريّا والله أعلم.
بشر بن سعيد
المزني السيد العابد الفقيه، كان من العباد المنقطعين، الزهاد المعروفين، توفى بالمدينة.
زرارة بن أوفى
ابن حاجب العامري، قاضى البصرة، كان من كبار علماء أهل البصرة وصلحائها، له روايات كثيرة، قرأ مرة في صلاة الصبح سورة المدثر فلما بلغ (فإذا نقر في الناقور) خرّ ميتا. توفى بالبصرة وعمره نحو سبعين سنة.
خبيب بن عبد الله
ابن عبد الله بن الزبير، ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد له في ذلك فمات، ثم عزل عمر بعده بأيام قليلة، فكان يتأسف على ضربه له ويبكى. مات بالمدينة.
حفص بن عاصم
ابن عمر بن الخطاب المدني، له روايات كثيرة، وكان من الصالحين. توفى بالمدينة.
سعيد بن عبد الرحمن
ابن عتاب بن أسيد الأموي، أحد الأشراف بالبصرة، كان جوادا ممدحا، وهو أحد الموصوفين بالكرم، قيل إنه أعطى بعض الشعراء ثلاثين [1] .
فروة بن مجاهد
قيل إنه كان من الأبدال، أسر مرة وهو في غزوة هو وجماعة معه فأتوا بهم الملك فأمر بتقييدهم وحبسهم في المكان والاحتراز عليهم إلى أن يصبح فيرى فيهم رأيه، فقال لهم فروة: هل لكم في المضي إلى بلادنا؟ فقالوا: وما ترى ما نحن فيه من الضيق؟ فلمس قيودهم بيده فزالت عنهم، ثم أتى باب السجن فلمسه بيده فانفتح، فخرجوا منه ومضوا، فأدركوا جيش المسلمين قبل وصولهم إلى البلد.
أبو الشعثاء جابر بن زيد
كان لا يماكس في ثلاث، في الكرى إلى مكة، وفي الرقبة يشتريها لتعتق، وفي الأضحية.
وقال: لا تماكس في شيء يتقرب به إلى الله. وقال ابن سيرين: كان أبو الشعثاء مسلما عند الدينار والدرهم، قلت: كما قيل: -
__________
[1] كذا بالأصل.(9/93)
إني رأيت فلا تظنوا غيره ... أن التورع عند هذا الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركته ... فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم
وقال أبو الشعثاء: لأن أتصدق بدرهم على يتيم ومسكين أحب إلى من حجة بعد حجة الإسلام.
كان أبو الشعثاء من الذين أوتوا العلم، وكان يفتى في البصرة، وكان الصحابة مثل جابر بن عبد الله إذا سأله أهل البصرة عن مسألة يقول: كيف تسألونا وفيكم أبو الشعثاء؟ وقال له جابر بن عبد الله:
يا ابن زيد إنك من فقهاء البصرة وإنك ستستفتى فلا تفتين إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك فقد هلكت وأهلكت. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أعلم بفتيا من جابر ابن زيد. وقال إياس بن معاوية: أدركت أهل البصرة ومفتيهم جابر بن زيد من أهل عمان. وقال قتادة لما دفن جابر بن زيد: اليوم دفن أعلم أهل الأرض. وَقَالَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قال أبو الشعثاء: كتب الحكم بن أيوب نفرا للقضاء أنا أحدهم- أي عمرو- فلو أنى ابتليت بشيء منه لركبت راحلتي وهربت من الأرض. وقال أبو الشعثاء: نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك. وأخذ مرة قبضة تراب من حائط، فلما أصبح رماها في الحائط، وكان الحائط لقوم قالوا: لو كان كلما مر به أخذ منه قبضة لم يبق منه شيء. وقال أبو الشعثاء: إذا جئت يوم الجمعة إلى المسجد فقف على الباب وقل: اللَّهمّ اجعلني اليوم أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأنجح من دعاك ورغب إليك. وقال سيار: حدثنا حماد بن زيد ثنا الحجاج بن أبى عيينة. قال: كان جابر ابن زيد يأتينا في مصلانا، قال: فأتانا ذات يوم وعليه نعلان خلقان، فقال: مضى من عمري ستون سنة نعلاى هاتان أحب إلى مما مضى منه إلا أن يكون خير قدمته. وقال صالح الدهان: كان جابر ابن زيد إذا وقع في يده ستوق كسره ورمى به لئلا يغر به مسلم. الستوق الدرهم المغاير أو الدغل، وقيل: هو المغشوش.
وروى الامام أحمد: حدثنا أبو عبد الصمد العمى حدثنا مالك بن دينار قال: دخل عليّ جابر ابن زيد وأنا أكتب المصحف فقلت له: كيف ترى صنعتي هذه يا أبا الشعثاء؟ قال: نعم الصنعة صنعتك، تنقل كتاب الله ورقة إلى ورقة، وآية إلى آية، وكلمة إلى كلمة، هذا الحلال لا بأس به.
وقال مالك بن دينار: سألته عن قوله تعالى إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ 17: 75 قال:
ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً 17: 75 وقال سفيان: حدثني أبو عمير الحارث بن عمير قال: قالوا لجابر بن زيد عند الموت: ما تشتهي وما تريد؟ قال: نظرة إلى الحسن. وفي رواية عن ثابت قال: لما ثقل على جابر بن زيد قيل له: ما تشتهي؟ قال نظرة إلى(9/94)
الحسن. قال ثابت: فأتيت الحسن فأخبرته فركب إليه، فلما دخل عليه قال لأهله: أقعدونى، فجلس فما زال يقول: أعوذ باللَّه من النار وسوء الحساب.
وقال حماد بن زيد: حدثنا حجاج بن أبى عيينة قال: سمعت هندا بنت المهلب بن أبى صفرة- وكانت من أحسن النساء- وذكروا عندها جابر بن زيد فقالوا: إنه كان إباضيا، فقالت:
كان جابر بن زيد أشد الناس انقطاعا إليّ وإلى أمى، فما أعلم عنه شيئا، وكان لا يعلم شيئا يقربني إلى الله عز وجل إلا أمرنى به، ولا شيئا يباعدني عن الله إلا نهاني عنه، وما دعاني إلى الإباضية قط ولا أمرنى بها، وكان ليأمرنى أين أضع الخمار- ووضعت يدها على الجبهة- أسند عن جماعة من الصحابة، ومعظم روايته عن ابن عمر وابن عباس] [1]
ثم دخلت سنة أربع وتسعين
فِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ أَرْضَ الرُّومِ، فقيل إنه فتح انطاكية، وَغَزَا أَخُوهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَلَغَ غَزَالَةَ، وَبَلَغَ الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ أَرْضَ بُرْجِ الْحَمَامِ، وَبَلَغَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ أَرْضَ سُورِيَّةَ. وَفِيهَا كَانَتِ الرَّجْفَةُ بِالشَّامِ، وَفِيهَا افْتَتَحَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنْدَرَةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ. وَفِيهَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فُتُوحَاتٍ عَظِيمَةً فِي دَوْلَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَلَى يَدَيْ أَوْلَادِهِ وَأَقْرِبَائِهِ وَأُمَرَائِهِ حَتَّى عَادَ الْجِهَادُ شَبِيهًا بِأَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ أَرْضَ الْهِنْدِ وَغَنِمَ أَمْوَالًا لَا تُعَدُّ وَلَا تُوصَفُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي غَزْوِ الْهِنْدِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ. وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ الشَّاشَ وَفَرْغَانَةَ حَتَّى بَلَغَ خُجَنْدَةَ، وَكَاشَانَ مَدِينَتَيْ فَرْغَانَةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصُّغْدِ وَفَتْحِ سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ خَاضَ تِلْكَ الْبِلَادَ يَفْتَحُ فِيهَا حَتَّى وَصَلَ إِلَى كَابُلَ فَحَاصَرَهَا وَافْتَتَحَهَا، وَقَدْ لَقِيَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي جُمُوعٍ هَائِلَةٍ مِنَ التُّرْكِ فَقَاتَلَهُمْ قُتَيْبَةُ عند خجندة فكسرهم مرارا وظفر بهم، وأخذ البلاد منهم، وقتل منهم خلقا وأسر آخرين، وغنم أموالا كثيرة جدا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قَالَ سَحْبَانُ وَائِلٍ يذكر قتالهم بخجندة التي هي قريبة من بلاد الصين أبياتا في ذلك: -
فسل الفوارس في خجندة ... تَحْتَ مُرْهَفَةِ الْعَوَالِي
هَلْ كُنْتُ أَجْمَعُهُمْ إِذَا ... هُزِمُوا وَأُقْدِمُ فِي قِتَالِي
أَمْ كُنْتُ أَضْرِبُ هامة ... العاتي وأصبر للنزال
هذا وأنت قريع قيس ... كُلِّهَا ضَخْمُ النَّوَالِ
وَفَضَلْتَ قَيْسًا فِي النَّدَى ... وأبوك في الحجج الخوالى
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالاستانة.(9/95)
تمّت مروءتكم و ... ناغى عزكم غلب الجبال
ولقد تبين عدل حكمك ... فِيهِمُ فِي كُلِّ مَالِ
هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ جرير هَذَا مِنْ شِعْرِ سَحْبَانَ وَائِلٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ في منظمه أن سحبان وائل مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
مَقْتَلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى نَفَقَاتِ الْجُنْدِ حِينَ بعثه مع ابن الأشعث إلى قتال رتبيل ملك الترك، فَلَمَّا خَلَعَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ خَلَعَهُ مَعَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَلَمَّا ظَفِرَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابِهِ هَرَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهَا أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ سَعِيدٌ هَرَبَ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ يَعْتَمِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيَحُجُّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَجَأَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ وَلِيَهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، فَأَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَى سَعِيدٍ بِالْهَرَبِ مِنْهَا فَقَالَ سَعِيدٌ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللَّهِ مما أَفِرُّ وَلَا مَفَرَّ مِنْ قَدَرِهِ؟ وَتَوَلَّى عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ بَدَلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَجَعَلَ يَبْعَثُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أصحاب ابن الأشعث من الْعِرَاقِ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي الْقُيُودِ، فَتَعَلَّمَ مِنْهُ خالد بن الوليد الْقَسْرِيُّ فَعَيَّنَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ مَكَّةَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدَ بن جبر، وعمرو بن دينار، وطلق ابن حبيب. ويقال إن الحجاج أرسل إِلَى الْوَلِيدِ يُخْبِرُهُ أَنَّ بِمَكَّةَ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ، فَبَعَثَ خَالِدٌ بِهَؤُلَاءِ إِلَيْهِ ثُمَّ عَفَا عَنْ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَبَعَثَ بِأُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا طَلْقٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ، وأما مجاهد فحبس فما زال في السجن حتى مات الحجاج، وأما سعيد ابن جبير فلما أوقف بَيْنَ يَدَيِ الْحَجَّاجِ قَالَ لَهُ: يَا سَعِيدُ أَلَمْ أُشْرِكْكَ فِي أَمَانَتِي! أَلَمْ أَسْتَعْمِلْكَ؟ أَلَمْ أَفْعَلْ أَلَمْ أَفْعَلْ؟ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: نَعَمْ، حَتَّى ظَنَّ مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَيُخْلِي سَبِيلَهُ، حتى قال له: فما حملك على الخروج عَلَيَّ وَخَلَعْتَ بَيْعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ أَخَذَ مِنِّي الْبَيْعَةَ عَلَى ذَلِكَ وَعَزَمَ عَلَيَّ، فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ غضبا شديدا وانتفخ حتى سقط طرف رِدَائِهِ عَنْ مَنْكِبِهِ، وَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ أَلَمْ أَقْدَمْ مَكَّةَ فَقَتَلْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَخَذْتُ بَيْعَةَ أَهْلِهَا وَأَخَذْتُ بَيْعَتَكَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ؟
قَالَ: بَلَى، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ وَالِيًا عَلَى الْعِرَاقِ فَجَدَّدْتُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَيْعَةَ فَأَخَذْتُ بَيْعَتَكَ لَهُ ثَانِيَةً؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ فَتَنْكُثُ بَيْعَتَيْنِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَفِي بِوَاحِدَةٍ لِلْحَائِكِ ابْنِ الْحَائِكِ؟ يَا حَرَسِيُّ اضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ: فَضُرِبَتْ عنقه فبدر رأسه عليه لاطئة صغيرة بيضاء، وقد ذكر الواقدي نحو هذا، وقال له: أما أعطيتك مائة ألف؟ أما فعلت أما فعلت.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ خَلَفَ بْنَ خليفة يذكر(9/96)
عَنْ رَجُلٍ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَنَدَرَ رَأْسُهُ هَلَّلَ ثَلَاثًا، مَرَّةً يُفْصِحُ بِهَا، وَفِي الثِّنْتَيْنِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُفْصِحُ بِهَا. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ أَبِي شَيْخٍ يَقُولُ: لَمَّا أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لعن ابن النصرانية- يعنى خالد الْقَسْرِيَّ وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ- أَمَا كُنْتُ أَعْرِفُ مَكَانَهُ، بَلَى وَاللَّهِ وَالْبَيْتَ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا سَعِيدُ مَا أَخْرَجَكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَنَا امْرُؤٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُخْطِئُ مَرَّةً وَيُصِيبُ أُخْرَى، فَطَابَتْ نَفْسُ الْحَجَّاجِ وَانْطَلَقَ وَجْهُهُ، وَرَجَا الْحَجَّاجُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ أَمْرِهِ، ثُمَّ عَاوَدَهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةٌ فِي عُنُقِي، فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ قتله. وذكر عتاب ابن بشر عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ قَالَ: أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهُوَ يُرِيدُ الرُّكُوبَ وَقَدْ وَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي الْغَرْزِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرْكَبُ حَتَّى تَتَبَوَّأَ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ، اضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
قَالَ: وَالْتَبَسَ الْحَجَّاجُ فِي عَقْلِهِ مَكَانَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: قُيُودَنَا قُيُودَنَا، فَظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ الْقُيُودَ الَّتِي عَلَى سَعِيدٍ، فَقَطَعُوا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنْصَافِ سَاقَيْهِ وَأَخَذُوا الْقُيُودَ:
وَقَالَ محمد بن أبى حَاتِمٍ: ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالَ: جِيءَ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ: كَتَبْتَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزبير؟ فقال: بلى كتبت إلى مصعب، قال: لا وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ: إِنِّي إِذًا لَسَعِيدٌ كَمَا سَمَّتْنِي أُمِّي. قَالَ فَقَتَلَهُ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْحَجَّاجُ بعده إلا أربعين يوما، وكان إِذَا نَامَ يَرَاهُ فِي الْمَنَامِ يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ فِيمَ قَتَلْتَنِي؟ فَيَقُولُ الْحَجَّاجُ: مَا لِي وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَا لِي وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؟ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ هِشَامِ الْأَسَدِيُّ مَوْلَى بَنِي وَالِبَةَ كُوفِيًّا أَحَدَ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَكَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ، وَكَانَ لَا يَكْتُبُ عَلَى الْفُتْيَا، فَلَمَّا عَمِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبَ، فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَقْتَلَهُ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي شَعْبَانَ، وَأَنَّ الْحَجَّاجَ مَاتَ بَعْدَهُ فِي رمضان، وقيل قبل بستة أشهر. وذكر عن الامام أحمد أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ- أَوْ قَالَ مُفْتَقِرٌ- إِلَى عِلْمِهِ. وَيُقَالُ إِنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يُسَلَّطْ بَعْدَهُ عَلَى أَحَدٍ، وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ الْحَجَّاجِ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ هَذَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ يُقَالُ لِهَذِهِ السَّنَةِ سَنَةُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ مَاتَ فِيهَا عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، مَاتَ فِي أَوَّلِهَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بن زَيْنُ الْعَابِدِينَ، ثُمَّ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَ هَؤُلَاءِ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ، وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا صَالِحًا هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَاسْتَقْضَى الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ السنة على الشام سليمان بن صرد. وحج بالناس فيها العباس بْنُ الْوَلِيدِ، وَيُقَالُ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وكان على نيابة مكة خالد القسري، وعلى(9/97)
الْمَدِينَةِ عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، وَعَلَى الْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى خُرَاسَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ زِيَادُ بْنُ جَرِيرٍ، وَعَلَى قَضَائِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى إِمْرَةِ الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَسَدِيُّ الْوَالِبِيُّ
مَوْلَاهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْكُوفِيُّ الْمَكِّيُّ، مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وَكَثْرَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَأَى خَلْقًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَعَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ، يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يقرأ القرآن في الصلاة فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ خَتْمَةً تَامَّةً، وَكَانَ يَقْعُدُ فِي الْكَعْبَةِ الْقَعْدَةَ فَيَقْرَأُ فِيهَا الْخَتْمَةَ، وَرُبَّمَا قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ. وروى عنه أنه ختم القرآن مرتين ونصفا في الصلاة في ليلة في الكعبة. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَقَدْ مَاتَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى عِلْمِهِ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا ظَفِرَ [الْحَجَّاجُ] هَرَبَ سَعِيدٌ إِلَى أَصْبَهَانَ، ثُمَّ كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى مَكَّةَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً لِلْعُمْرَةِ وَمَرَّةً لِلْحَجِّ، وَرُبَّمَا دَخَلَ الْكُوفَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَحَدَّثَ بِهَا، وكان بخراسان لا يتحدث لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ هُنَاكَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي مَا عِنْدِي مِنَ الْعِلْمِ، وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوهُ. وَاسْتَمَرَّ فِي هَذَا الْحَالِ مُخْتَفِيًا مِنَ الْحَجَّاجِ قَرِيبًا مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ أَرْسَلَهُ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الحجاج، وكان مِنْ مُخَاطَبَتِهِ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا.
وَقَالَ أبو نعيم في كتابه الحلية: ثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق ثنا محمد بن أحمد ابن أبى خلف ثنا شعبان عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ. قَالَ: لَمَّا أُتِيَ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِلَى الْحَجَّاجِ قَالَ له:
أنت الشقي بْنُ كُسَيْرٍ؟ قَالَ: لَا! إِنَّمَا أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ، قَالَ: أَنَا إِذًا كما سمتني أمى سعيدا [قال شقيت وشقيت أمك، قال: الأمر ليس إليك. ثم قال: اضربوا عنقه، فقال:
دعوني أصلى رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَجِّهُوهُ إِلَى قِبْلَةِ النَّصَارَى، قَالَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله 2: 115 قَالَ:
إِنِّي أَسْتَعِيذُ مِنْكَ بِمَا اسْتَعَاذَتْ بِهِ مَرْيَمُ، قَالَ: وَمَا عَاذَتْ بِهِ؟ قَالَ: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا 19: 18 قال سفيان: لم يقتل بعده إلا واحدا. وفي رواية أنه قال له: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها. وفي رواية أنه لما أراد قتله قال:
وجهوه إلى قبلة النصارى، فقال: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله 2: 115 فقال: اجلدوا به الأرض، فقال:
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى 20: 55 فقال: اذبح فما أنزعه لآيات الله منذ اليوم. فقال: اللَّهمّ لا تسلطه على أحد بعدي. وقد ذكر أبو نعيم هنا كلاما كثيرا في مقتل سعيد(9/98)
ابن جبير، أحسنه هذا والله أعلم] [1] وَقَدْ ذَكَرْنَا صِفَةَ مَقْتَلِهِ إِيَّاهُ، وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ غَرِيبَةٌ فِي صِفَةِ مَقْتَلِهِ، أَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ، وَقَدْ عُوقِبَ الْحَجَّاجُ بَعْدَهُ وَعُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخَذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا سَنَذْكُرُ وَفَاتَهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، فَقِيلَ إِنَّهُ مَكَثَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ ستة أشهر والله أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عُمْرِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رحمه الله حين قتل، فقيل تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ سَبْعًا وَخَمْسِينَ فاللَّه أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ: كَانَ مَقْتَلُهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَقْتَلَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ- فاللَّه أعلم.
[قلت: هاهنا كلمات حسان من كلام سعيد بن جبير أحببت أن أذكرها. قال: إن أفضل الخشبة أن تخشى الله خشية تحول بينك وبين معصيته، وتحملك على طاعته، فتلك هي الخشية النافعة. والذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر له، وإن كثر منه التسبيح وتلاوة القرآن. قيل له: من أعبد الناس؟ قال: رجل اقترف من الذنوب، فكلما ذكر ذنبه احتقر عمله، وقال له الحجاج: ويلك! فقال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، فقال:
اضربوا عنقه، فقال: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، أستحفظك بها حتى ألقاك يوم القيامة فأنا خصمك عند الله، فذبح من قفاه، فبلغ ذلك الحسن فقال: اللَّهمّ يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثة حتى وقع من جوفه دود فأنتن منه فمات. وقال سعيد للحجاج لما أمر بقتله وضحك فقال له: ما أضحكك؟ فقال: أضحك من غيراتك على وحلم الله عنك] [2]
سعيد بن المسيب
ابن حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عمران بن مخزوم القرشي أبو محمد المدنف، سَيِّدُ التَّابِعِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا وقبل بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْهَا، وَقَوْلُ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَشَرَةَ وَهْمٌ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَكِنْ أَرْسَلَ عَنْهُمْ كَمَا أَرْسَلَ كَثِيرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْ عمر كثيرا، فقيل سمع منه، وعن عثمان وعلى وسعيد وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ زَوْجَ ابْنَتِهِ، وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِ، وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَخَلْقٍ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، قال ابن عمر: كان سعيد أحد المتقنين، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: جَالَسْتُهُ سَبْعَ حِجَجٍ وَأَنَا لَا أَظُنُّ عِنْدَ أَحَدٍ عِلْمًا غَيْرَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: طُفْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. فَمَا لَقِيتُ أَعْلَمَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: سُئِلَ الزهري ومكحول من
__________
[1، 2] زيادة من المصرية.(9/99)
أَفْقَهُ مَنْ لَقِيتُمَا؟ قَالَا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يُقَالُ لَهُ فَقِيهُ الْفُقَهَاءِ. وقال مالك عن يحيى ابن سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كُنْتُ أَرْحَلُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، قَالَ مَالِكٌ:
وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُرْسِلُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَسْأَلُهُ عَنْ قَضَايَا عُمَرَ وَأَحْكَامِهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِرْسَالُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هِيَ صِحَاحٌ:
قال: وسعيد بن المسيب أفضل التابعين. قال عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَا أَعْلَمُ فِي التَّابِعِينَ أَوْسَعَ عِلْمًا مِنْهُ، وَإِذَا قَالَ سَعِيدٌ مَضَتِ السُّنَّةُ فَحَسْبُكَ بِهِ، وَهُوَ عِنْدِي أَجْلُّ التَّابِعِينَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ:
كَانَ سَعِيدُ رَجُلًا صَالِحًا فَقِيهًا، كَانَ لَا يَأْخُذُ الْعَطَاءَ، وَكَانَتْ لَهُ بِضَاعَةٌ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَتَّجِرُ فِي الزَّيْتِ، وَكَانَ أَعْوَرَ. وَقَالَ أَبُو زرعة: كان مدنيا ثقة إماما. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ فِي التَّابِعِينَ أَنْبَلُ مِنْهُ، وَهُوَ أَثْبَتُهُمْ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ الله.
[وكان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا، والكلام فيما لا يعنى، ومن أكثر الناس أدبا في الحديث، جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث فجلس فحدثه ثم اضطجع، فقال الرجل: وددت أنك لم تتعنّ، فقال: إني كرهت أن أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا مضطجع، وقال برد مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد في المسجد. وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة. وقال سعيد: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة. وقال: ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء. وقال: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها إلا بمعصية الله تعالى. وقال: كفى بالمرء نصرة من الله له أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله. وقال: من استغنى باللَّه افتقر الناس إليه. وقال: الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أميل، وأندل منها من أخذها من غير وجهها ووضعها في غير سبيلها. وقال: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه. وقال:
من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقد زوج سعيد بن المسيب ابنته على درهمين لكثير بن أبى وداعة- وكانت من أحسن النساء وأكثرهم أدبا وأعلمهم بكتاب اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وأعرفهم بحق الزوج- وكان فقيرا، فأرسل إليه بخمسة آلاف، وقيل: بعشرين ألفا، وقال: استنفق هذه. وقصته في ذلك مشهورة، وقد كان عبد الملك خطبها لابنه الوليد فأبى سعيد أن يزوجه بها، فاحتال عليه حتى ضربه بالسياط كما تقدم، لما جاءت بيعة الوليد إلى المدينة في أيام عبد الملك، ضربه نائبة على المدينة هشام بن(9/100)
إسماعيل وأطافه المدينة، وعرضوه على السيف فمضى ولم يبايع، فلما رجفوا به رأته امرأة فقالت:
ما هذا الخزي يا سعيد؟ فقال: من الخزي فررنا إلى ما نرين، أي لو أحببناهم وقعنا في خزي الدنيا والآخرة. وكان يجعل على ظهره إهاب الشاة، وكان له مال يتجر فيه ويقول: اللَّهمّ إنك تعلم أنى لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بنى مروان حتى ألقى الله فيحكم في وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدى منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار. والله سبحانه وتعالى أعلم] [1]
طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ الْعَنَزِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وعبد الله بن عمر وغيرهم، وعنه حميد الطويل والأعمش وطاووس، وهو من أقرانه وأثنى عليه عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ تَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ، وَقَدْ كَانَ ممن خرج مع ابن الأشعث، وكان يقول تقووا بِالتَّقْوَى، فَقِيلَ لَهُ: صِفْ لَنَا التَّقْوَى، فَقَالَ: التقوى هي الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ يرجو رحمة الله، وترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب اللَّهِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَعْظَمُ من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى، أو يقوم بشكرها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين. وكان طلق لا يخرج إلى صلاة إلا ومعه شيء يتصدق به، وإن لم يجد إلا بصلا، ويقول: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً 58: 12 فتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الله أعظم وأعظم. قَالَ مَالِكٌ:
قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ بَعَثَ مِنْ مَكَّةَ ثَلَاثَةً إِلَى الْحَجَّاجِ، وَهُمْ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ، فَمَاتَ طَلْقٌ فِي الطَّرِيقِ وَحُبِسَ مُجَاهِدٌ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ سَعِيدٍ مَا كَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ
الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنِ الْعَبَادِلَةِ وَمُعَاوِيَةَ وَالْمُغِيرَةِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأُمِّهِ أَسْمَاءَ، وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَخَلْقٌ مِمَّنْ سِوَاهُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ عُرْوَةُ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ عَالِمًا مَأْمُونًا ثَبَتًا. وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: مَدَّنِيٌّ تَابِعِيٌّ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفِتَنِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا حَافِظًا ثَبَتًا حُجَّةً عَالِمًا بِالسِّيَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الْمَغَازِيَ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْمَعْدُودِينَ، وَلَقَدْ كَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ، وكان أروى الناس للشعر، وقال ابنه هِشَامٍ: الْعِلْمُ لِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، لِذِي حَسَبٍ يزين به
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالأستانة.(9/101)
حسبه، أَوْ ذِي دِينٍ يَسُوسُ بِهِ دِينَهُ، أَوْ مختلط بسلطان يتحفه بنعمه ويتخلص منه بالعلم، فلا يقع في هلكة، وقال: ولا أعلم أحدا اشترطه لهذه الثلاثة إِلَّا عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَكَانَ عُرْوَةُ يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ رُبْعَ الْقُرْآنِ وَيَقُومُ بِهِ فِي اللَّيْلِ، وَكَانَ أَيَّامَ الرطب يثلم حائطه للناس فيدخلون ويأكلون، فَإِذَا ذَهَبَ الرُّطَبُ أَعَادَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ عروة بحرا لا ينزف ولا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْ عُرْوَةَ وَمَا أَعْلَمُهُ يَعْلَمُ شَيْئًا أَجْهَلُهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ كان عمر بن عبد العزيز يرجع إليهم فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ [وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى الْوَلِيدِ بِدِمَشْقَ، فَلَمَّا رَجَعَ أَصَابَتْهُ فِي رِجْلِهِ الْأَكِلَةُ فَأَرَادُوا قَطْعَهَا، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَشْرَبَ شَيْئًا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ حَتَّى لَا يَحِسَّ بِالْأَلَمِ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ قَطْعِهَا، فَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يُؤْمِنُ باللَّه يَشْرَبُ شَيْئًا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ حَتَّى لَا يَعْرِفَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ هَلُمُّوا فَاقْطَعُوهَا فَقَطَعُوهَا مِنْ رُكْبَتِهِ وَهُوَ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، ولا يعرف أنه أنّ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَطَعُوهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْعُرْ لِشُغْلِهِ بِالصَّلَاةِ فاللَّه أَعْلَمُ. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الَّتِي قُطِعَتْ فِيهَا رِجْلُهُ وَلَدٌ لَهُ يُسَمَّى مُحَمَّدًا كَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِهِ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَزَّوْهُ فِيهِ، فَقَالَ: اللَّهمّ لَكَ الْحَمْدُ، كَانُوا سَبْعَةً فَأَخَذْتَ وَاحِدًا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فَلَئِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ فَلَقَدْ أَعْطَيْتَ، وَلَئِنْ كنت قد ابتليت فقد عافيت [قلت: قد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجها إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة. وكان مبدؤها هناك، فظن أنها لا يكون منها ما كان، فذهب في وجهه ذلك، فما وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه، فدخل على الوليد فجمع له الأطباء العارفين بذلك، فاجمعوا على أنه إن لم يقطعهما وإلا أكلت رجله كلها إلى وركه. وربما ترقّت إلى الجسد فأكلته، فطابت نفسه بنشرها وقالوا له: ألا نسقيك مرقّدا حتى يذهب عقلك منه فلا تحس بألم النشر؟ فقال: لا! والله ما كنت أظن أن أحدا يشرب شرابا أو يأكل شيئا يذهب عقله، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة، فانى لا أحس بذلك، ولا أشعر به. قال: فنشروا رجله من فوق الأكلة، من المكان الحي، احتياطا أنه لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلى، فما تصوّر ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزاه الوليد في رجله، فقال: اللَّهمّ لك الحمد، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وإن كنت قد أبليت فلطالما عافيت، فلك الحمد على ما أخذت وعلى ما عافيت. قال: وكان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد، وكان أحبهم إليه، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات، فأتوه فعزوه فيه، فقال: الحمد للَّه كانوا سبعة فأخذت منهم واحدا وأبقيت ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما(9/102)
عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت. فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، قال: فما سمعناه ذكر رجله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى، فلما كان في المكان الّذي أصابته الأكلة فيه قال: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ويعزونه في رجله وولده، فبلغه أن بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه. فأنشد عروة في ذلك والأبيات لمعن بن أوس: -
لعمرك ما أهويت كفى لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصرى لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
ولست بماش ما حييت لمنكر ... من الأمر لا يمشى إلى مثله مثلي
ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة ... وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي
وأعلم أنى لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
وفي رواية: اللَّهمّ إنه كان لي بنون أربعة فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة. كذا ذكر هذا الحديث فيه هشام. وقال مسلمة بن محارب: وقعت في رجل عروة الأكلة فقطعت ولم يمسكه أحد، ولم يدع في تلك الليلة ورده. وقال الأوزاعي: لما نشرت رجل عروة قال: اللَّهمّ إنك تعلم أنى لم أمش بها إلى سوء قط. وأنشد البيتين المتقدمين. رأى عروة رجلا يصلى صلاة خفيفة فدعاه فقال: يا أخى أما كانت لك إلى ربك حاجة في صلاتك؟ إني لأسأل الله في صلاتي حتى أسأله الملح. قال عروة:
رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزا طويلا. وقال لبنيه: إذا رأيتم الرجل يعمل الحسنة فاعلموا أن لها عنده أخوات، وإذا رأيتم الرجل يعمل السيئة فاعلموا أن لها عنده أخوات، فان الحسنة تدل على أختها، والسيئة تدل على أختها. وكان عروة إذا دخل حائطه ردد هَذِهِ الْآيَةَ (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ 18: 39) حتى يخرج منه والله سبحانه وتعالى أعلم] [1] .
قِيلَ إِنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاةِ عُمَرَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ عُمَرَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَقِيلَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ إِحْدَى وَمِائَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أو خمس وتسعين، وقيل تسع وتسعين فاللَّه أعلم.
على بن الحسين
ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ الْمَشْهُورُ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا سَلَّامَةُ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَكْبَرُ مِنْهُ يُقَالُ لَهُ عَلِيٌّ أَيْضًا، قُتِلَ مَعَ أَبِيهِ، رَوَى عَلِيٌّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَصَفِيَّةَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، أُمَّهَاتِ المؤمنين. وعنه
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/103)
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَنُوهُ زَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُمَرُ، وأبو جعفر محمد بن على بن قر، وزيد بن أسلم، وطاووس وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَخَلْقٌ.
قال ابن خلكان: كانت أم سلمة بِنْتَ يَزْدَجِرْدَ آخِرِ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ أَنَّ يَزْدَجِرْدَ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ سُبِينَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَحَصَلَتْ وَاحِدَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَوْلَدَهَا سَالِمًا، وَالْأُخْرَى لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَأَوْلَدَهَا الْقَاسِمَ، وَالْأُخْرَى لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَأَوْلَدَهَا عَلِيًّا زَيْنَ الْعَابِدِينَ هَذَا، فَكُلُّهُمْ بَنُو خَالَةٍ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَمَّا قَتَلَ قُتَيْبَةُ بن مسلم فيروز ابن يَزْدَجِرْدَ بَعَثَ بِابْنَتَيْهِ إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَخَذَ إِحْدَاهُمَا وبعث بالأخرى إلى الوليد، فَأَوْلَدَهَا الْوَلِيدُ يَزِيدَ النَّاقِصَ. وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْمَعَارِفِ أَنَّ زَيْنَ الْعَابِدِينَ هَذَا كَانَتْ أُمُّهُ سِنْدِيَّةً، يُقَالُ لَهَا سَلَّامَةُ، وَيُقَالُ غَزَالَةُ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ بِكَرْبَلَاءَ، فَاسْتُبْقِيَ لِصِغَرِهِ، وَقِيلَ لِمَرَضِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ هَمَّ بِقَتْلِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَشَارَ بَعْضُ الْفَجَرَةِ عَلَى يَزِيدَ بن معاوية بقتله أيضا فمنعه الله منه، ثُمَّ كَانَ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُجْلِسُهُ مَعَهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ، ثم بعثهم إلى المدينة، وكان على بالمدينة محترما معظما. قال ابْنُ عَسَاكِرَ: وَمَسْجِدُهُ بِدِمَشْقَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ. قلت: وهو مشهد على بالناحية الشرقية من جَامِعِ دِمَشْقَ. وَقَدِ اسْتَقْدَمَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى دِمَشْقَ فَاسْتَشَارَهُ فِي جَوَابِ مَلِكِ الرُّومِ عَنْ بَعْضِ مَا كَتَبَ إِلَيْهِ فِيهِ مِنْ أَمْرِ السَّكَّةِ وَطِرَازِ الْقَرَاطِيسِ، قال الزهري: ما رأيت قرشيا أورع منه، ولا أفضل. وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ يَوْمَ قُتِلَ ابْنَ ثَلَاثٍ وعشرين سنة وهو مريض، فقال عمر ابن سَعْدٍ: لَا تَعَرَّضُوا لِهَذَا الْمَرِيضِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ وَأَعْبَدِهِمْ وَأَتْقَاهُمْ للَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ إِذَا مَشَى لَا يَخْطُرُ بِيَدِهِ، وَكَانَ يَعْتَمُّ بِعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ يُرْخِيهَا مِنْ ورائه، وكان كنيته أبا الحسن، وقيل أبا محمد، وقيل أبا عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا كَثِيرَ الْحَدِيثِ عَالِيًا رَفِيعًا وَرِعًا، وَأُمُّهُ غَزَالَةُ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْحُسَيْنِ مَوْلَاهُ زُبَيْدٌ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زُبَيْدٍ، وهو على الأصغر، فأما الْأَكْبَرُ فَقُتِلَ مَعَ أَبِيهِ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَازِمٍ: لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ مِثْلُهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأنصاري: سمعت على ابن الْحُسَيْنِ وَهُوَ أَفْضَلُ هَاشِمِيٍّ أَدْرَكْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَحِبُّونَا حُبَّ الْإِسْلَامِ، فَمَا بَرِحَ بِنَا حُبُّكُمْ حَتَّى صَارَ عَلَيْنَا عَارًا. وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى بَغَّضْتُمُونَا إِلَى النَّاسِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَمْ يَكُنْ لِلْحُسَيْنِ عَقِبٌ إِلَّا مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ نسل إلا من ابن عَمِّهِ الْحَسَنِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: لو اتخذت السراري يَكْثُرَ أَوْلَادُكُ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَا أَتَسَرَّى بِهِ، فَأَقْرَضَهُ مِائَةَ أَلْفٍ فَاشْتَرَى لَهُ السِّرَارِيَّ فولدت لَهُ وَكَثُرَ نَسْلُهُ، ثُمَّ لَمَّا مَرِضَ مَرْوَانُ أَوْصَى أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ(9/104)
الحسين شيء مما كان أقرضه، فجميع الحسينيين من نسله رحمه الله. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ:
أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ كُلِّهَا الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ احْتَرَقَ الْبَيْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فلما انصرف قالوا له: مالك لَمْ تَنْصَرِفْ؟ فَقَالَ: إِنِّي اشْتَغَلْتُ عَنْ هَذِهِ النَّارِ بِالنَّارِ الْأُخْرَى، وَكَانَ إِذَا تَوَضَّأَ يَصْفَرُّ لَوْنُهُ، فَإِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ ارْتَعَدَ مِنَ الْفَرَقِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَا تدرون بين يدي من أَقُومَ وَلِمَنْ أُنَاجِي؟ وَلَمَّا حَجَّ أَرَادَ أَنْ يُلَبِّيَ فَارْتَعَدَ وَقَالَ:
أَخْشَى أَنْ أَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهمّ لبيك، فيقال لي: لا لبيك، فشجعوه على التَّلْبِيَةِ، فَلَمَّا لَبَّى غُشِيَ عَلَيْهِ حَتَّى سَقَطَ عن الراحلة. وكان يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ. وقال طاووس: سَمِعْتُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ الْحِجْرِ يَقُولُ: عُبَيْدُكَ بفنائك. سائلك بفنائك. فقيرك بفنائك، قال طاووس: فو الله مَا دَعَوْتُ بِهَا فِي كَرْبٍ قَطُّ إِلَّا كُشِفَ عَنِّي. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ يَقُولُ صَدَقَةُ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرب، وتنور القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة، وقاسم اللَّهُ تَعَالَى مَالَهُ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ نَاسٌ بِالْمَدِينَةِ يَعِيشُونَ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَعِيشُونَ وَمَنْ يُعْطِيهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَدُوا ذَلِكَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِمْ فِي اللَّيْلِ بِمَا يَأْتِيهِمْ بِهِ. وَلَمَّا مَاتَ وَجَدُوا فِي ظَهْرِهِ وأكتافه أثر حمل الجراب إِلَى بُيُوتِ الْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ فِي اللَّيْلِ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَعُولُ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يَدْرُونَ بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَ. وَدَخَلَ عَلِيُّ بن الحسين على محمد بن أسامة ابن زَيْدٍ يَعُودُهُ فَبَكَى ابْنُ أُسَامَةَ فَقَالَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ، قَالَ: وَكَمْ هُوَ؟ قَالَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ- وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ- فَقَالَ: هِيَ عَلَيَّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَنَالَ مِنْهُ رَجُلٌ يَوْمًا فَجَعَلَ يَتَغَافَلُ عَنْهُ- يُرِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ- فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِيَّاكَ أَعْنِي، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَعَنْكَ أُغْضِي. وَخَرَجَ يَوْمًا مِنَ الْمَسْجِدِ فَسَبَّهُ رَجُلٌ فانتدب النَّاسُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: دَعُوهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أَكْثَرُ، أَلَكَ حَاجَةٌ نُعِينُكَ عَلَيْهَا؟ فَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ فَأَلْقَى إِلَيْهِ خَمِيصَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: أَنَّكَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالُوا: وَاخْتَصَمَ عَلِيُّ بن الحسين وحسن ابن حَسَنٍ- وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُنَافَسَةٌ- فَنَالَ مِنْهُ حَسَنُ بْنُ حَسَنٍ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذهب على ابن الْحُسَيْنِ إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَلَحِقَهُ فَصَالَحَهُ. وَقِيلَ لَهُ مَنْ أعظم الناس خطرا؟ فقال: من لم ير الدنيا لنفسه قدر أ، وَقَالَ أَيْضًا: الْفِكْرَةُ مِرْآةٌ تُرِي الْمُؤْمِنَ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، وَقَالَ: فَقْدُ الْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَآخَرُونَ عَبَدُوهُ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَآخَرُونَ عَبَدُوهُ مَحَبَّةً وَشُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ الْأَخْيَارِ. وَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَصْحَبْ فاسقا فإنه(9/105)
يَبِيعُكَ بِأَكْلَةٍ وَأَقَلَّ مِنْهَا يَطْمَعُ فِيهَا ثُمَّ لَا يَنَالُهَا، وَلَا بَخِيلًا فَإِنَّهُ يَخْذُلُكَ فِي مَالِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَلَا كَذَّابًا فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ مِنْكَ الْبَعِيدَ وَيُبَاعِدُ عَنْكَ الْقَرِيبَ، وَلَا أَحْمَقَ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ، وَلَا قَاطِعَ رَحِمٍ فَإِنَّهُ مَلْعُونٌ فِي كتاب الله. قال تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ 47: 22- 23 وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ تَخَطَّى النَّاسَ حَتَّى يَجْلِسَ فِي حَلْقَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، أَنْتَ سَيِّدُ الناس تأتى تخطي حلق أهل العلم وقريش حَتَّى تَجْلِسَ مَعَ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: إِنَّمَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ حيث ينتفع، وإن العلم يطلب حَيْثُ كَانَ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؟ فَقُلْتُ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ أُرِيدُ أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها ولا منقصة، إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا يَرْمِينَا بِهِ هَؤُلَاءِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْعِرَاقِ- وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إسحاق عن زر بْنِ عُبَيْدٍ [1] قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرْحَبًا بِالْحَبِيبِ ابْنِ الْحَبِيبِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بن محمد بن يحيى الصولي: ثنا العلاء ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَبَّلَهُ وَأَقْعَدَهُ إِلَى جنبه، ثم قال: «يولد لا بنى هَذَا ابْنٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيٌّ، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ لِيَقُمْ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ، فَيَقُومُ هُوَ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ أَكْثَرُ مُجَالَسَتِي مَعَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَكَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَحْسَنِهِمْ طَاعَةً، وَأَحَبِّهِمْ إِلَى مَرْوَانَ وَابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يسمى زَيْنَ الْعَابِدِينَ. وَقَالَ جُوَيْرِيَّةُ بْنُ أَسْمَاءَ: مَا أَكَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْهَمًا قَطُّ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: بَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَكَرِهَ أَنْ يَقْبَلَهَا وَخَافَ أَنْ يَرُدَّهَا، فَاحْتَبَسَهَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعَثَ إِلَيَّ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْبَلَهَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّهَا، فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا ابْنَ عَمٍّ! خُذْهَا فَقَدْ طَيَّبْتُهَا لَكَ، فَقَبِلَهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: سَادَةُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا الْأَسْخِيَاءُ الْأَتْقِيَاءُ، وَفِي الْآخِرَةِ أَهْلُ الدين وأهل الفضل والعلم الأتقياء، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَرَى الْأَخَ مِنْ إِخْوَانِي فَأَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْجَنَّةَ وَأَبْخَلَ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
__________
[1] لعله زر بن حبيش.(9/106)
قيل لي فإذا كانت الجنة بيدك كنت بِهَا أَبْخَلَ، وَأَبْخَلَ وَأَبْخَلَ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَكَى حَتَّى ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ عَلَى يُوسُفَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يذبحون في غداة واحدة، فترون حُزْنَهُمْ يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِي أَبَدًا؟ وَقَالَ عَبْدُ الرزاق: سبكت جَارِيَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ مَاءً لِيَتَوَضَّأَ فَسَقَطَ الْإِبْرِيقُ مِنْ يَدِهَا عَلَى وَجْهِهِ فَشَجَّهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: إِنَّ اللَّهَ يقول وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ 3: 134، فَقَالَ: قَدْ كَظَمْتُ غَيْظِي، قَالَتْ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ 3:
134 فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكِ. فَقَالَتْ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 3: 134 قال: أنت حرة لوجه الله تعالى. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن إبراهيم بن قدامة اللخمي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جلس قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَذَكَرُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَنَالُوا مِنْهُمَا، ثُمَّ ابْتَدَءُوا فِي عُثْمَانَ فقال لهم: أخبرونى أنتم من المهاجرين الأولين الذين أُخْرِجُوا من دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا من الله وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ 59: 8؟ قالوا: لا قال: فأنتم من الذين تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ 59: 9؟ قالوا لا! فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْفِرْقَةِ الثَّالِثَةِ الذين قال الله عز وجل فيهم وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا 59: 10 الآية، فقوموا عَنِّي لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَلَا قَرَّبَ دوركم، أنتم مستهزءون بِالْإِسْلَامِ، وَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهِ. وَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ مَتَى يُبْعَثُ عَلِيٌّ؟ فَقَالَ: يُبْعَثُ وَاللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَهُمُّهُ نَفْسُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا:
حُدِّثْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: اللَّهمّ إِنِّي أَتَصَدَّقُ الْيَوْمَ- أَوْ أَهَبُ عِرْضِي الْيَوْمَ- مَنِ اسْتَحَلَّهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ غُلَامًا سَقَطَ مِنْ يَدِهِ سَفُّودٌ وَهُوَ يَشْوِي شَيْئًا فِي التَّنُّورِ عَلَى رَأْسِ صَبِيٍّ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَقَتَلَهُ، فَنَهَضَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُسْرِعًا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قال للغلام: إِنَّكَ لَمْ تَتَعَمَّدْ، أَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ شَرَعَ فِي جَهَازِ ابْنِهِ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِنَصِيبِي مِنَ الذُّلِّ حُمْرَ النَّعَمِ: وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ. وَمَاتَ لِرَجُلٍ وَلَدٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ فَجَزِعَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ إِسْرَافِهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: إِنَّ مِنْ وَرَاءِ ابْنِكَ خِلَالًا ثَلَاثًا، شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَشَفَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَرَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَارَفَ الزُّهْرِيُّ ذَنْبًا فَاسْتَوْحَشَ مِنْهُ وَهَامَ عَلَى وَجْهِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ لَهُ: يَا زُهْرِيُّ قُنُوطُكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِكِ، فقال الزهري: الله أعلم حيث يجعل رسالاته وفي رواية أنه كان أصاب دما حراما خَطَأً فَأَمَرَهُ عَلِيٌّ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَأَنْ يَبْعَثَ الدية إلى أهله. ففعل ذلك. وكان(9/107)
الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَعْظَمُ النَّاسِ عَلَيَّ مِنَّةً.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: لَا يَقُولُ رَجُلٌ فِي رَجُلٍ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَا يَعْلَمُ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ مَا لَا يَعْلَمُ، وَمَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَفْتَرِقَا عَلَى غَيْرِ طاعة. وذكروا أنه زوج أمه مِنْ مَوْلًى لَهُ وَأَعْتَقَ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَلُومُهُ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً 33: 21 وَقَدْ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ فَتَزَوَّجَهَا، وَزَوَّجَ مَوْلَاهُ زَيْدَ بن حارثة من بنت عمه زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. قَالُوا: وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الشِّتَاءِ خَمِيصَةً مِنْ خَزٍّ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، فَإِذَا جَاءَ الصَّيْفُ تَصَدَّقَ بِهَا، وَيَلْبَسُ فِي الصَّيْفِ الثِّيَابَ الْمُرَقَّعَةَ وَدُونَهَا وَيَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ من الرِّزْقِ 7: 32. (وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ ذَكَرَهَا الصُّولِيُّ وَالْجُرَيْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ حج في خلافة أبيه وأخيه الْوَلِيدِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ لَمْ يَتَمَكَّنْ حَتَّى نُصِبَ لَهُ مِنْبَرٌ فَاسْتَلَمَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَقَامَ أَهْلُ الشَّامِ حَوْلَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحَجَرِ لِيَسْتَلِمَهُ تَنَحَّى عَنْهُ النَّاسُ إِجْلَالًا لَهُ وَهِيبَةً وَاحْتِرَامًا، وَهُوَ فِي بِزَّةٍ حَسَنَةٍ، وَشَكْلٍ مَلِيحٍ، فَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ لِهِشَامٍ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ- استنقاصا به واحتفارا؟ لِئَلَّا يَرْغَبَ فِيهِ أَهْلُ الشَّامِ- فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ- وَكَانَ حَاضِرًا- أَنَا أَعْرِفُهُ، فَقَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ فأشار الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ... إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ
يُنْمَى إِلَى ذُرْوَةِ الْعِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ ... عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الْإِسْلَامِ وَالْعَجَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ ... فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
بِكَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهَا عَبِقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ
مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ ... طَابَتْ عَنَاصِرُهَا وَالْخِيمُ وَالشِّيَمُ
يَنْجَابُ نُورُ الْهُدَى مِنْ نُورِ غُرَّتِهِ ... كَالشَّمْسِ يَنْجَابُ عَنْ إشراقها الغيم
حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقْوَامٍ إِذَا فُدِحُوَا ... حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ ... بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ قَدْ خُتِمُوا
مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ ... وَفَضْلُ أُمَّتِهِ دَانَتْ لَهَا الْأُمَمُ(9/108)
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغواية وَالْإِمْلَاقُ وَالظُّلَمُ
كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا ... يَسْتَوْكِفَانِ وَلَا يَعْرُوهُمَا الْعَدَمُ
سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَا تخشى بوادره ... يزينه اثنتان الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميمون بغيبته ... رَحْبُ الْفِنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ يَعْتَزِمُ
مِنْ مَعْشَرٍ حبهم دين وبغضهم ... كفر وقر بهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويستزاد بِهِ الْإِحْسَانُ وَالنِّعَمُ
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ ذِكْرُهُمُ ... فِي كُلِّ حُكْمٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الْكَلِمُ
إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمَّتَهُمْ ... أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قِيلَ هُمُ
لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِمْ ... وَلَا يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإِنْ كَرُمُوا
هُمُ الْغُيُوثُ إِذَا مَا أَزْمَةٌ أَزَمَتْ ... وَالْأُسْدُ أُسْدُ الشَّرَى وَالْبَأْسُ مُحْتَدِمُ
يَأْبَى لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ ... خِيمٌ كرام وأيد بالندى هضم
لا ينقص العدم بَسْطًا مِنْ أَكُفِّهِمُ ... سِيَّانَ ذَلِكَ إِنْ أَثْرَوْا وَإِنْ عَدِمُوا
أَيُّ الْخَلَائِقِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ ... لأولية هذا أوله نِعَمُ
فَلَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هَذَا بِضَائِرِهِ ... الْعُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أَنْكَرْتَ وَالْعَجَمُ
مَنْ يَعْرِفِ اللَّهَ يَعْرِفْ أَوَّلِيَّةَ ذَا ... فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الْأُمَمُ
قَالَ: فَغَضِبَ هِشَامٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِحَبْسِ الْفَرَزْدَقِ بِعُسْفَانَ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بَعَثَ إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها وَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ مَا قُلْتُ للَّه عَزَّ وَجَلَّ وَنُصْرَةً لِلْحَقِّ، وَقِيَامًا بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَلَسْتُ أَعْتَاضُ عَنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ نيتك في ذلك، وأقسمت عليك باللَّه لتقبلنها فتقبلها منه ثم جعل يهجو هشاما وكان مما قال فيه:
تحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس تهوى مُنِيبُهَا
يُقَلِّبُ رَأْسًا لَمْ يَكُنْ رَأْسَ سَيِّدٍ ... وَعَيْنَيْنِ حَوْلَاوَيْنِ بَادٍ عُيُوبُهَا
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّتْ به الجنازة يقول هذين البيتين:
نُرَاعُ إِذَا الْجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا ... وَنَلْهُو حِينَ تَمْضِي ذَاهِبَاتِ
كَرَوْعَةِ ثَلَّةٍ لِمُغَارِ سَبْعٍ ... فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الله المقري حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ سَيِّدَ الْعَابِدِينَ يُحَاسِبُ نفسه ويناجي ربه: -(9/109)
يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وَإِلَى عِمَارَتِهَا رُكُونُكِ، أَمَا اعْتَبَرْتِ بِمَنْ مَضَى مِنْ أَسْلَافِكِ وَمَنْ وَارَتْهُ الْأَرْضُ مِنْ أُلَّافِكِ؟ وَمَنْ فُجِعْتِ بِهِ مِنْ إِخْوَانِكِ، وَنُقِلَ إِلَى الثرى مِنْ أَقْرَانِكِ؟ فَهُمْ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهَا، مَحَاسِنُهُمْ فِيهَا بِوَالٍ دَوَاثِرُ.
خَلَتْ دُورُهُمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عِرَاصُهُمْ ... وَسَاقَتْهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِرُ
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها ... وضمهم تحت التراب الحفائر
كم خرمت أَيْدِي الْمَنُونِ مِنْ قُرُونٍ بَعْدَ قُرُونٍ، وَكَمْ غيرت الأرض ببلائها، وغيبت في ترابها، ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأمارس، ثم رجعت [عنهم إلى عمل أهل الإفلاس: -
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِسٌ ... لِخُطَّابِهَا فِيهَا حريص مكاثر
على خطر تمشى وَتُصْبِحُ لَاهِيًا ... أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ
وَإِنَّ امْرَأً يَسْعَى لِدُنْيَاهُ دَائِبًا ... وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لَا شَكَّ خَاسِرُ
فَحَتَّامَ عَلَى الدُّنْيَا إقبالك؟ وبشهواتها اشْتِغَالُكَ؟ وَقَدْ وَخَطَكَ الْقَتِيرُ، وَأَتَاكَ النَّذِيرُ، وَأَنْتَ عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات،
وَفِي ذِكْرِ هَوْلِ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ وَالْبِلَى ... عَنِ اللَّهْوِ وَاللَّذَّاتِ لِلْمَرْءِ زَاجِرُ
أَبَعْدَ اقْتِرَابِ الْأَرْبَعِينَ تربص ... وشيب قذال منذر للكابر
كأنك معنى بما هو ضائر ... لنفسك عمدا وعن الرشد حائر
انْظُرْ إِلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُلُوكِ الْفَانِيَةِ كَيْفَ اختطفتهم عقبان الْأَيَّامُ، وَوَافَاهُمُ الْحِمَامُ، فَانْمَحَتْ مِنَ الدُّنْيَا آثَارُهُمْ، وبقيت فيها أخبارهم، وأضحوا رمما في التراب، إلى يوم الحشر والمآب،
أمسحوا رميما في التراب وعطلت ... مجالسهم منهم وأخلى مقاصر
وَحَلُّوا بِدَارٍ لَا تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ ... وَأَنَّى لِسُكَّانِ القبور التزاور
فما أن ترى الا قبورا قَدْ ثَوَوْا بِهَا ... مُسَطَّحَةً تُسْفِي عَلَيْهَا الْأَعَاصِرُ
كَمْ مِنْ ذِي مَنَعَةٍ وَسُلْطَانٍ وَجُنُودٍ وَأَعْوَانٍ، تَمَكَّنَ مِنْ دُنْيَاهُ، وَنَالَ فِيهَا مَا تَمَنَّاهُ، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر.
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ الْمَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ ... مُبَادِرَةً تَهْوِي إِلَيْهِ الذَّخَائِرُ
وَلَا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونُ الَّتِي بَنَى ... وَحَفَّ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ
وَلَا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ ... وَلَا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهُ الْعَسَاكِرُ
أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يُرَدُّ، وَنَزَلَ بِهِ مِنْ قَضَائِهِ مَا لَا يُصَدُّ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الّذي ذل لعزه كل سلطان، وأباد بقوته كل ديان.(9/110)
مَلِيكٌ عَزِيزٌ لَا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ ... حَكِيمٌ عَلِيمٌ نافذ الأمر قاهر
عنى كل ذي عز لعزة وجهه ... فكم من عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ
لَقَدْ خَضَعَتْ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَاءَلَتْ ... لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الْمُلُوكُ الْجَبَابِرُ
فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ وَالْحِذَارَ الْحِذَارَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَكَايِدِهَا، وَمَا نَصَبَتْ لَكَ مِنْ مَصَايِدِهَا، وَتَحَلَّتْ لَكَ مِنْ زِينَتِهَا، وأظهرت لك من بهجتها، وأبرزت لك من شهواتها، وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها،
وَفِي دُونِ مَا عَايَنْتَ مِنْ فَجَعَاتِهَا ... إِلَى دفعها داع وبالزهد آمر
فجد ولا تغفل وكن متيقظا ... فعما قليل يترك الدار عامر
فشمر ولا تفتر فعمرك زَائِلٌ ... وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ صَائِرُ
وَلَا تطلب الدنيا فان نعيمها ... وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا غُبَّةً لَكَ ضَائِرُ
فَهَلْ يَحْرِصُ عَلَيْهَا لَبِيبٌ، أَوْ يُسَرُّ بِهَا أَرِيبٌ؟ وَهُوَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ فَنَائِهَا، وَغَيْرُ طَامِعٍ فِي بَقَائِهَا، أَمْ كَيْفَ تَنَامُ عَيْنَا مَنْ يخشى البيات، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الْمَمَاتَ.
أَلَا لَا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا ... وَتَشْغَلُنَا اللَّذَّاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ هو موقف ... بِمَوْقِفِ عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
كَأَنَّا نَرَى أن لا نشور وأننا ... سدى مالنا بعد الممات مصادر
وَمَا عَسَى أَنْ يَنَالَ صَاحِبُ الدُّنْيَا مِنْ لَذَّتِهَا وَيَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ بَهْجَتِهَا، مَعَ صُنُوفِ عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وفي طَلَبِهَا، وَمَا يُكَابِدُ مِنْ أَسْقَامِهَا وَأَوْصَابِهَا وَآلَامِهَا
أما قد نرى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا وَيُبَاكِرُ
تُعَاوِرُنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا ... وَكَمْ قَدْ تُرَى يَبْقَى لَهَا الْمُتَعَاوِرُ
فَلَا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ ... وَلَا هُوَ عَنْ تَطْلَابِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ
كَمْ قَدْ غَرَّتِ الدُّنْيَا مِنْ مُخْلِدٍ إِلَيْهَا، وَصَرَعَتْ مِنْ مُكِبٍّ عَلَيْهَا، فَلَمْ تُنْعِشْهُ مِنْ عثرته، ولم تنقذه مِنْ صَرْعَتِهِ، وَلَمْ تَشْفِهِ مِنْ أَلَمِهِ، وَلَمْ تبره من سقمه. ولم تخلصه من وصمه.
بل أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمَنْعَةٍ ... مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ] [1]
فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَا نَجَاةَ وَأَنَّهُ ... هُوَ الْمَوْتُ لَا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ
تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ ... عَلَيْهِ وأبكته الذنوب الكبائر
إذ بَكَى عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَطَايَاهُ، وَتَحَسَّرَ على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِغْفَارُ، وَلَا يُنْجِيهِ الِاعْتِذَارُ، عِنْدَ هول المنية ونزول البلية.
__________
[1] سقط من المصرية.(9/111)
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ ... وَأَبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ المقادر
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ ... وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ
وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ ... تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا وَالْحَنَاجِرُ
هُنَالِكَ خف عواده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت البرية بِالْعَوِيلِ، وَقَدْ أَيِسُوا مِنَ الْعَلِيلِ، فَغَمَّضُوا بِأَيْدِيهِمْ عينيه، ومد عند خروج روحه رجليه، وتخلى عند الصديق، والصاحب الشفيق.
فكم موجع يبكى عليه مفجع ... وَمُسْتَنْجِدٍ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ
وَمُسْتَرْجِعٍ دَاعٍ له الله مخلصا ... يعدد منه كل مَا هُوَ ذَاكِرُ
وَكَمْ شَامِتٍ مُسْتَبْشِرٍ بِوَفَاتِهِ ... وعما قليل للذي صار صائر
فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لا برازه، كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى، ولا الحبيب المبدى.
وحل أحب القوم كان بقربة ... يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ
وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أحضروه لغسله ... ووجه لما فاض لِلْقَبْرِ حَافِرُ
وَكُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعَتْ لَهُ ... مُشَيِّعَةً إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ
فَلَوْ رَأَيْتَ الْأَصْغَرَ مِنْ أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه، وخضبت الدموع عينيه، وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه وا حرباه: -
لَعَايَنْتَ مِنْ قُبْحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظَرًا ... يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ
أَكَابِرُ أَوْلَادٍ يَهِيجُ اكْتِئَابُهُمْ ... إِذَا ما تناساه البنون الأصاغر
وربّة نِسْوَانٍ عَلَيْهِ جَوَازِعٍ ... مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ
ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ سَعَةِ قَصْرِهِ، إِلَى ضِيقِ قبره، فلما استقر في اللحد وهيئ عليه اللبن، احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه، وضاق ذرعا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا البكاء عَلَيْهِ وَالِانْتِحَابَ، ثُمَّ وَقَفُوا سَاعَةً عَلَيْهِ، وَأَيِسُوا من النظر إليه، وتركوه رهنا بما كسب وطلب
فَوَلَّوْا عَلَيْهِ مُعْوِلِينَ وَكُلُّهُمْ ... لِمِثْلِ الَّذِي لَاقَى أَخُوهُ مُحَاذِرُ
كَشَاءٍ رِتَاعٍ آمِنِينَ بَدَا لَهَا ... بِمُدْيَتِهِ بَادِي الذِّرَاعَيْنِ حَاسِرُ
فَرِيعَتْ وَلَمْ تَرْتَعْ قَلِيلًا وَأَجْفَلَتْ ... فَلَمَّا نَأَى عَنْهَا الَّذِي هُوَ جَازِرُ
عَادَتْ إِلَى مَرْعَاهَا، وَنَسِيَتْ مَا فِي أختها دهاها، أفبأفعال الأنعام اقْتَدَيْنَا؟ أَمْ عَلَى عَادَتِهَا جَرَيْنَا؟
عُدْ إِلَى ذكر المنقول إلى دار البلى، وَاعْتَبِرْ بِمَوْضِعِهِ تَحْتَ الثَّرَى، الْمَدْفُوعِ إِلَى هَوْلِ مَا تَرَى.
ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ ... مواريثه أولاده والأصاهر(9/112)
وَأَحْنَوْا عَلَى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا ... فَلَا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ
فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا ... وَيَا آمِنًا مِنْ أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ
كَيْفَ أَمِنْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ وَأَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهَا لا محالة؟ أم كيف ضيعت حياتك وهي مطيتك إلى مماتك؟ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك؟ أم كيف تهنأ بالشهوات، وهي مطية الآفات
وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلرَّحِيلِ وَقَدْ دَنَا ... وَأَنْتَ عَلَى حال وشيك مُسَافِرُ
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي كَمْ أُسَوِّفُ تَوْبَتِي ... وَعُمْرِيَ فَانٍ وَالرَّدَى لِي نَاظِرُ
وَكُلُّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحْفِ مُثْبَتٌ ... يُجَازِي عَلَيْهِ عَادِلُ الْحُكْمِ قَادِرُ
فَكَمْ تُرَقِّعُ بِآخِرَتِكَ دُنْيَاكَ، وَتَرْكَبُ غيك وهواك، أَرَاكَ ضَعِيفَ الْيَقِينِ، يَا مُؤْثِرَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ أَبِهَذَا أَمَرَكَ الرَّحْمَنُ؟ أَمْ عَلَى هَذَا نزل القرآن؟ أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب، وشر المآب أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بورا، ومساكنهم قبورا:
تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى وَتَعْمُرُ فَانِيًا ... فَلَا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلَا ذَاكَ عَامِرُ
وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً ... وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لَدَى اللَّهِ عَاذِرُ
أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِيَ ... وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّارِيخِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، زَيْنُ الْعَابِدِينَ، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ- فِي أَوَّلِهَا عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْبَقِيعِ، وَدُفِنَ بِهِ، قَالَ الفلاس: مات على بن الحسين وسعيد بن المسيب وَعُرْوَةُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَنَةَ أربع وتسعين، وقال بعضهم: توفى سنة ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَأَغْرَبَ الْمَدَائِنِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَاللَّهُ أعلم انتهى ما ذكره المؤلف [من ترجمة على بن الحسين وقد رأيت له كلاما متفرقا وهو من جيد الحكمة، فأحببت أن أذكره لعل الله أن ينفع به من وقف عليه:
قال حفص بن غياث عن حجاج عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قال: إن الجسد إذا لم يمرض أشر وبطر، ولا خير في جسد يأشر ويبطر. وقال أبو بكر بن الأنباري: حدثنا أحمد بن الصلت حدثنا قاسم بن إبراهيم العلويّ حدثنا أبى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال على بن الحسين: فقد الأحبة غربة. وكان يقول: اللَّهمّ إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات الغيوب سريرتي، اللَّهمّ كما أسأت وأحسنت إلى، فإذا عدت فعد إلى. اللَّهمّ ارزقني مواساة من قترت عليه رزقك بما وسعت على من فضلك. وقال لابنه: يا بنى اتخذ ثوبا للغائط فانى رأيت الذباب يقع على الشيء ثم يقع على الثوب. ثم انتبه فقال: وما كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَّا ثوب واحد، فرفضه. وعن أبى حمزة الثمالي قال: أتيت باب على بن الحسين فكرهت أن أصوت فقعدت على(9/113)
الباب حتى خرج فسلمت عليه ودعوت له فرد على السلام ودعا لي، ثم انتهى إلى حائط فقال: يا حمزة ترى هذا الحائط؟ قلت: نعم! قال: فانى اتكأت عليه يوما وأنا حزين فإذا رجل حسن الوجه حسن الثياب ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا على بن الحسين! ما لي أراك كئيبا حزينا على الدنيا! فهي رزق حاضر يأخذ منها البر والفاجر. فقلت: ما عليها أحزن لأنها كما تقول، فقال على الآخرة؟
فهي وعد صادق، بحكم فيها ملك قادر، فقلت: ما على هذا أحزن لأنه كما تقول. فقال: فعلام حزنك؟ فقلت: ما أتخوف من الفتنة- يعنى فتنة ابن الزبير- فقال لي: يا على! هل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا! قال ويخاف الله فلم يكفه؟ قلت: لا! ثم غاب عنى فقيل لي: يا على إن هذا الخضر الّذي جاءك لفظ الخضر مزاد فيه من بعض الرواة.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الخضرى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عن عمر بن حارث. قال: لما مات على بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره. فقالوا:
ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة. وقال ابن عائشة:
سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات على بن الحسين.
وروى عبد الله بن حنبل عن ابن إشكاب عن محمد بن بشر عن أبى المنهال الطائي أن على بن الحسين كان إذا ناول المسكين الصدقة قبله ثم ناوله. وقال الطبري: حدثنا يحيى بن زكريا الغلابي حدثنا العتبى حدثني أبى. قال قال على بن الحسين- وكان من أفضل بنى هاشم الأربعة- يا بنى اصبر على النوائب ولا تتعرض للحقوق، ولا تخيب أخاك إلا في الأمر الّذي مضرته عليك أكثر من منفعته لك. وروى الطبراني باسناده عنه: أنه كان جالسا في جماعة فسمع داعية في بيته فنهض فدخل منزله ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمن حدث كانت الداعية؟ قال: نعم! فعزوه وتعجبوا من صبره، فقال: إنا أهل بيت نطيع الله عز وجل فيما نحبه، ونحمده على ما نكره. وروى الطبراني عنه قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ لِيَقُمْ أهل الفضل فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة. فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون قبل الحساب؟ قالوا:
نعم! قالوا: من أنتم؟ قالوا نحن أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنا إذا جهل علينا حملنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، قالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادى مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: فما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله، وصبرناها على البلاء. فقالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادى المنادي: ليقم جيران الله في داره! فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم:(9/114)
انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك، فيقولون: بم استحققتم مجاورة الله عز وجل في داره؟ فيقولون: كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله عز وجل. فيقال لهم، ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وقال على بن الحسين: إن الله يحب المؤمن المذنب التواب. وقال: التارك للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقى منهم تقاة. قالوا: وما تقاه؟ قال:
يخاف جبارا عنيدا أن يسطو عليه وأن يطغى. وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحدا أورع من فلان. فقال له سعيد: هل رأيت على بن الحسين؟ قال: لا! قال: ما رأيت أورع منه. وروى سفيان بن عيينة عن الزهري. قال: دخلت على على بن الحسين فقال: يا زهري فيم كنتم؟ قلت:
كنا نتذاكر الصوم، فأجمع رأيي ورأى أصحابى على أنه ليس من الصوم شيء واجب، إلا شهر رمضان فقال! يا زهري ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجها، عشرة منها واجب كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربع عشرة منها صاحبها بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب، قال الزهري قلت: فسّرهن يا ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أما الواجب فصوم شهر رمضان، وصوم شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، وصيام ثلاثة أيام كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، وصيام حلق الرأس، وصوم دم المتعة لمن لم يجد الهدى وصوم جزاء الصيد، يقوّم الصيد قيمته ثم يقسم ذلك الثمن على الحنطة. وأما الّذي صاحبه بالخيار فصوم الإثنين والخميس، وستة أيام من شوال بعد رمضان، وصوم عرفة ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار. فأما صوم الأذن فالمرأة لا تصوم تطوعا إلا باذن زوجها، وكذلك العبد والأمة، وأما صوم الحرام فصوم يوم الفطر والأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك، نهينا أن نصومه لرمضان. وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر، وصوم الضيف لا يصوم تطوعا إلا باذن صاحبه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نزل على قوم لا يصومن تطوعا إلا بأذنهم» .
وأما صوم الاباحة فمن أكل أو شرب ناسيا أجزأه صومه، وأما صوم المريض والمسافر فقال قوم:
يصوم، وقال قوم لا يصوم، وقال قوم إن شاء صام وإن شاء أفطر» وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين، فان صام في السفر والمرض فعليه القضاء] [1]
أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ
ابن هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ الْمَدَنِيُّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، قِيلَ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ اسْمُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسمه وكنيته واحد، وله من
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/115)
الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ كَثِيرٌ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ عَمَّارٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَنُوهُ سَلَمَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَعُمَرُ، وَمَوْلَاهُ سُمَيٌّ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ. وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ رَاهِبُ قُرَيْشٍ، لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ، وَكَانَ مَكْفُوفًا، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْفِقْهِ وصحة الرواية على جانب عظيم، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ قَدْ كُفَّ وَكَانَ إِذَا سَجَدَ يَضَعُ يَدَهُ فِي طَسْتٍ لِعِلَّةٍ كَانَ يَجِدُهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقِيلَ فِي التي بعدها. والله أعلم.
[قلت: ونظم بعض الشعراء بيتين ذكر فيهما الفقهاء السبعة فقال: -
ألا كل من لا يقتدى بأئمة ... فقسمته جبرا عن الحق خارجة
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة
وفيها توفى الفضل بن زياد الرقاشيّ، أحد زهاد أهل البصرة، وله مناقب وفضائل كثيرة جدا، قال: لا يلهينك الناس عن ذات نفسك، فان الأمر يخلص إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكيت وكيت، فإنه محفوظ عليك ما قلت. وقال: لم أر شيئا أحسن طلبا، ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم.
أبو سلمة أبو عبد الرحمن بن عوف الزهري، كان أحد فقهاء المدينة، وكان إماما عالما، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان واسع العلم. توفى بالمدينة.
عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، له روايات كثيرة، وكان عالما، وخلف كتبا كثيرة من علمه، روى عن جماعة من الصحابة، وأسر يوم وقعة ابن الأشعث فأطلقه الحجاج.
عبد الرحمن بن معاوية بن خزيمة، قاضى مصر لعمر بن عبد العزيز بن مروان وصاحب شرطته، كان عالما فاضلا، روى الحديث وعنه جماعة] [1]
ثم دخلت سنة خمس وتسعين
فِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ، وافتتح حصونا كثيرة. وفيها فتح مسلمة بن عبد الملك مدينة في بلاد الروم، ثم حرقها ثم بناها بعد ذلك بعشر سنين، وفيها افتتح محمد بن القاسم مدينة المولينا [2] من بلاد الْهِنْدِ، وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَفِيهَا قَدِمَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ عَلَى الْعَجَلِ تُحْمَلُ مِنْ كَثْرَتِهَا، وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ السَّبْيِ، وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ الشَّاشِ، فَفَتَحَ مُدُنًا وَأَقَالِيمَ كَثِيرَةً، فَلَمَّا كَانَ هُنَاكَ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ فَقَمَعَهُ ذَلِكَ وَرَجَعَ بِالنَّاسِ إِلَى مَدِينَةِ مَرْوَ وَتَمَثَّلَ بقول بعض الشعراء:
__________
[1] زيادة من المصرية.
[2] كذا ولعلها (الملتان) .(9/116)
لَعَمْرِي لَنِعْمَ الْمَرْءُ مِنْ آلِ جَعْفَرٍ ... بِحَوْرَانَ أمسى أعلقته الحبائل
فان تحيا لا أملك حَيَاتِي وَإِنْ تَمُتْ ... فَمَا فِي حَيَاتِي بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ
وَفِيهَا كَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى قُتَيْبَةَ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ، وَيَعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَجْزِيهِ خَيْرًا، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا صَنَعَ مِنَ الْجِهَادِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ وَقِتَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ. وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ اسْتَخْلَفَ عَلَى الصَّلَاةِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، فَوَلَّى الْوَلِيدُ الصَّلَاةَ وَالْحَرْبَ بِالْمِصْرَيْنِ- الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ- يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ، وَوَلَّى خَرَاجَهُمَا يَزِيدَ بن مسلم، وقيل كان الحجاج يَسْتَخْلِفُهُمَا عَلَى ذَلِكَ فَأَقَرَّهُمَا الْوَلِيدُ، وَاسْتَمَرَّ سَائِرُ نُوَّابِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ الْحَجَّاجِ لِخَمْسٍ، وَقِيلَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ مَاتَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ. وَفِيهَا قُتِلَ الْوَضَّاحِيُّ بِأَرْضِ الرُّومِ وَمَعَهُ أَلْفٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَوْلِدُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابن على بن عبد الله بن عباس.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ وَذِكْرُ وفاته
هو الحجاج بن يوسف بْنِ أَبِي عَقِيلِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنُ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عمرو ابن سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ، وَهُوَ قَسِيُّ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَرَوَى عَنْ أَنَسٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَأَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَرَوَى عَنْهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَحُمَيْدٌ الطويل، ومالك بن دينار، وجواد بْنُ مُجَالِدٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ. قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، قَالَ: وَكَانَتْ له بدمشق دور منها دار الرواية بِقُرْبِ قَصْرِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ. وَوَلَّاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحِجَازَ فَقَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا وَوَلَّاهُ الْعِرَاقَ.
وَقَدِمَ دِمَشْقَ وَافِدًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: خَطَبَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فَذَكَرَ الْقَبْرَ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: إِنَّهُ بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَبَيْتُ الْغُرْبَةِ، حَتَّى بَكَى وأبكى مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مَرْوَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ:
خَطَبَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «مَا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَبْرٍ أَوْ ذَكَرَهُ إِلَّا بَكَى» . وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، وَسَاقَ مِنْ طريق أحمد بن عبد الجبار: ثنا يسار عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا يَحْيَى أَلَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ حَسَنٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى! فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَلْيَدْعُ بِهَا فِي دُبُرِ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/117)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ تَتَخَلَّلُ- أي تخلل أسنانها لتخرج مَا بَيْنَهَا مِنْ أَذًى- وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتِ بَاكَرْتِ الغذاء إنك لرعينة دَنِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي تُخَلِّلِينَ مِنْهُ شَيْءٌ بَقِيَ فِي فِيكِ مِنَ الْبَارِحَةِ إِنَّكِ لِقَذِرَةٌ، فَطَلَّقَهَا فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا كَانَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتَ، وَلَكِنَّنِي بَاكَرْتُ مَا تُبَاكِرُهُ الْحُرَّةُ مِنَ السِّوَاكِ، فَبَقِيَتْ شَظِيَّةٌ فِي فَمِي مِنْهُ فَحَاوَلْتُهَا لِأُخْرِجَهَا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِيُوسُفَ أَبِي الْحَجَّاجِ: تَزَوَّجْهَا فإنها لخليقة بأن تَأْتِيَ بِرَجُلٍ يَسُودُ، فَتَزَوَّجَهَا يُوسُفُ أَبُو الْحَجَّاجِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأُخْبِرْتُ أَنَّ أَبَا الْحَجَّاجِ لَمَّا بَنَى بِهَا وَاقَعَهَا فَنَامَ فَقِيلَ لَهُ فِي النَّوْمِ: مَا أَسْرَعَ مَا أَلْقَحْتَ بِالْمُبِيرِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَاسْمُ أُمِّهِ الْفَارِعَةُ بِنْتُ هَمَّامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ زَوْجُهَا الحارث ابن كَلَدَةَ الثَّقَفِيُّ طَبِيبَ الْعَرَبِ، وَذَكَرَ عَنْهُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ فِي السِّوَاكِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعِقْدِ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ يُعَلِّمَانِ الْغِلْمَانَ بِالطَّائِفِ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَكَانَ عِنْدَ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ وَزِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَشَكَا عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى رَوْحٍ أَنَّ الْجَيْشَ لَا يَنْزِلُونَ لِنُزُولِهِ وَلَا يَرْحَلُونَ لِرَحِيلِهِ، فَقَالَ رَوْحٌ: عِنْدِي رَجُلٌ تُوَلِّيهِ ذَلِكَ، فَوَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ أَمْرَ الْجَيْشِ، فَكَانَ لَا يَتَأَخَّرُ أَحَدٌ فِي النُّزُولِ وَالرَّحِيلِ، حَتَّى اجْتَازَ إِلَى فُسْطَاطِ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ وَهُمْ يَأْكُلُونَ فَضَرَبَهُمْ وَطَوَّفَ بِهِمْ وَأَحْرَقَ الْفُسْطَاطَ، فَشَكَا رَوْحٌ ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ لِلْحَجَّاجِ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْهُ إِنَّمَا فَعَلَهُ أَنْتَ، فَإِنَّ يَدِي يَدُكَ، وَسَوْطِي سَوْطُكَ، وَمَا ضَرَّكَ إِذَا أَعْطَيْتَ رَوْحًا فُسْطَاطَيْنِ بَدَلَ فُسْطَاطِهِ، وَبَدَلَ الْغُلَامِ غُلَامَيْنِ، وَلَا تَكْسِرُنِي فِي الَّذِي وَلَّيْتَنِي؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ الْحَجَّاجُ عِنْدَهُ. قَالَ: وَبَنَى وَاسِطَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَفَرَغَ مِنْهَا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَفِي أَيَّامِهِ نُقِطَتِ الْمَصَاحِفُ، وَذُكِرَ فِي حِكَايَتِهِ مَا يَدُلُّ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يُسَمَّى كُلَيْبًا، ثُمَّ سُمِّيَ الْحَجَّاجَ. وَذُكِرَ أَنَّهُ وُلِدَ وَلَا مَخْرَجَ لَهُ حَتَّى فُتِقَ لَهُ مَخْرَجٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِعْ أياما حتى سقوه دم جدي ثم دم سالح وَلُطِّخَ وَجْهُهُ بِدَمِهِ فَارْتَضَعَ، وَكَانَتْ فِيهِ شَهَامَةٌ وَحُبٌّ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا ارْتَضَعَ ذَلِكَ الدَّمُ الَّذِي لُطِّخَ بِهِ وَجْهُهُ، وَيُقَالُ إِنَّ أُمَّهُ هِيَ الْمُتَمَنِّيَةُ لِنَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ، وَقِيلَ إِنَّهَا أُمُّ أَبِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ فِيهِ شَهَامَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي سَيْفِهِ رَهَقٌ، وَكَانَ كَثِيرَ قَتْلِ النُّفُوسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ، وَكَانَ يَغْضَبُ غَضَبَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُ يَتَشَبَّهُ بِزِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، وَكَانَ زِيَادٌ يَتَشَبَّهُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِيمَا يَزْعُمُ أَيْضًا، وَلَا سَوَاءٌ وَلَا قَرِيبٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمِ بْنِ عنز التُّجِيبِيِّ قَاضِي مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.
وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ خُطْبَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْجَابِيَةِ، وَكَانَ مِنَ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ مَعَ أَبِيهِ بِمِصْرَ فِي جَامِعِهَا فاجتاز بهما سليم بن عنز هَذَا فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَبُو(9/118)
الْحَجَّاجِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَلْ مِنْ حَاجَةٍ لَكَ عِنْدَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ! تَسْأَلُهُ أَنْ يَعْزِلَنِي عَنِ الْقَضَاءِ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ!! وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ قَاضِيًا الْيَوْمَ خَيْرًا مِنْكَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ابْنِهِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَهْ أتقوم إلى رجل من تحبيب وَأَنْتَ ثَقَفِيٌّ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ إني لأحسب أن الناس يرحمون بهذا وأمثاله. فقال: وَاللَّهِ مَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَضَرُّ مِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ، فَقَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِمْ فَيُحَدِّثُونَهُمْ عَنْ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَيُحَقِّرُ النَّاسُ سِيرَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَرَوْنَهَا شَيْئًا عِنْدَ سِيرَتِهِمَا فَيَخْلَعُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَيْهِ وَيَبْغَضُونَهُ، وَلَا يَرَوْنَ طاعته، والله لو خلص لي مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَ هَذَا وَأَمْثَالِهِ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَكَ شَقِيًّا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَاهُ كَانَ ذَا وَجَاهَةٍ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ ذَا فِرَاسَةٍ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّهُ تَفَرَّسَ فِي ابْنِهِ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالُوا: وَكَانَ مَوْلِدُ الْحَجَّاجِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ نَشَأَ شَابًّا لَبِيبًا فَصِيحًا بَلِيغًا حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ الْحَجَّاجُ يَقْرَأُ القرآن كل ليلة، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْهُ وَمِنَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَكَانَ الْحَسَنُ أفصح منه. وقال الدار قطنى: ذكر سليمان بن أبى منيح عن صالح بن سليمان قال قال عقبة بْنُ عَمْرٍو:
مَا رَأَيْتُ عُقُولَ النَّاسِ إِلَّا قَرِيبًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، إِلَّا الْحَجَّاجَ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّ عُقُولَهُمَا كَانَتْ تَرْجَحُ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بَعَثَ الْحَجَّاجَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ فَحَاصَرَهُ بِهَا وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَئِذٍ، وَلَمْ يتمكن وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَا تَمَكَّنَ ابن الزبير ومن عنده من الوقوف، وَلَمْ يَزَلْ مُحَاصِرَهُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِ فِي جُمَادَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَنِ، ثُمَّ نقله إلى الْعِرَاقَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ بِشْرٍ، فَدَخَلَ الْكُوفَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ لَهُمْ وَفَعَلَ بِهِمْ مَا تَقَدَّمَ إِيرَادُهُ مُفَصَّلًا، فَأَقَامَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ عِشْرِينَ سَنَةً كَامِلَةً، وَفَتَحَ فِيهَا فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً، هَائِلَةً مُنْتَشِرَةً، حَتَّى وَصَلَتْ خُيُولُهُ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ وَالسِّنْدِ، فَفَتَحَ فِيهَا جُمْلَةَ مُدُنٍ وَأَقَالِيمَ، وَوَصَلَتْ خُيُولُهُ أَيْضًا إِلَى قَرِيبٍ مِنْ بِلَادِ الصِّينِ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَنَحْنُ نُورِدُ هُنَا أَشْيَاءَ أُخَرَ مِمَّا وَقَعَ لَهُ مِنَ الأمور والجراءة والاقدام، والتهاون فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ، مِمَّا يُمْدَحُ عَلَى مِثْلِهِ وَمِمَّا يُذَمُّ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، مِمَّا سَاقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ:
فَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ ابْنِ أَخِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ صَلَّى مَرَّةً بِجَنْبِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ- وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ شَيْئًا- فَجَعَلَ يَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَيَقَعُ قَبْلَهُ فِي السُّجُودِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ سَعِيدٌ بِطَرْفِ رِدَائِهِ- وَكَانَ لَهُ ذِكْرٌ يَقُولُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ- فَمَا زَالَ الْحَجَّاجُ يُنَازِعُهُ رِدَاءَهُ حَتَّى قَضَى سَعِيدٌ ذِكْرَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ سَعِيدٌ(9/119)
فَقَالَ لَهُ: يَا سَارِقُ يَا خَائِنُ، تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَ بِهَذَا النَّعْلِ وَجْهَكَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ مَضَى الْحَجَّاجُ إِلَى الْحَجِّ، ثُمَّ رَجَعَ فَعَادَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ جَاءَ نَائِبًا عَلَى الْحِجَازِ. فَلَمَّا قَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ نَائِبًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ إِذَا مَجْلِسُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَقَصَدَهُ الْحَجَّاجُ فَخَشِيَ النَّاسُ عَلَى سَعِيدٍ مِنْهُ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ الْكَلِمَاتِ؟ فَضَرَبَ سَعِيدٌ صَدْرَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ مُعَلِّمٍ وَمُؤَدِّبٍ خَيْرًا، مَا صَلَّيْتُ بَعْدَكَ صَلَاةً إِلَّا وَأَنَا أَذْكُرُ قَوْلَكَ. ثُمَّ قَامَ وَمَضَى. وَرَوَى الرِّيَاشِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْعَلَاءِ- أَخِي أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ- قَالَ: لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الناس فَجُمِعُوا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ! بَلَغَنِي إِكْبَارُكُمْ قَتْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَلَا وَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، حَتَّى رَغِبَ فِي الْخِلَافَةِ وَنَازَعَ فِيهَا أَهْلَهَا، فَنَزَعَ طَاعَةَ اللَّهِ وَاسْتَكَنَّ بِحَرَمِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مَانِعَ الْعُصَاةِ لَمَنَعَتْ آدَمَ حُرْمَةُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَأَبَاحَ لَهُ كَرَامَتَهُ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، فَلَمَّا أَخْطَأَ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ بِخَطِيئَتِهِ، وَآدَمُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْجَنَّةُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْكَعْبَةِ، اذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ ثنا عون عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ أَنَّ الْحَجَّاجَ دَخَلَ على أسماء بنت أبى بكر بعد ما قَتَلَ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَذَاقَهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَفَعَلَ. فَقَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ، صَوَّامًا قَوَّامًا، وَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ الْآخِرُ مِنْهُمَا شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُبِيرٌ» .
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عون عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ. قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ دَخَلَ عَلَى أَسْمَاءَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ الْأَحْنَفِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ رَجُلَانِ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ» . قَالَتْ فَقُلْتُ لِلْحَجَّاجِ: أَمَّا الْكَذَّابُ فَقَدْ رَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ هُوَ يا حجاج. وقال عبيد بْنُ حُمَيْدٍ: أَنْبَأَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَ الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَقُولُ لِلْحَجَّاجِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهَا يُعَزِّيهَا فِي ابْنِهَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ رَجُلَانِ مُبِيرٌ وَكَذَّابٌ» . فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ- تَعْنِي الْمُخْتَارَ وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ. وَتَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَوْرَدْنَاهُ عِنْدَ مَقْتَلِ ابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ ثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَتْنَا أم عراب عَنِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا عَقِيلَةُ عَنْ سَلَّامَةَ بِنْتِ الْحُرِّ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «في ثقيف كذاب «مبير» . تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو يَعْلَى. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أحمد عن وكيع عن أم عراب- واسمها(9/120)
طَلْحَةُ- عَنْ عَقِيلَةَ عَنْ سَلَّامَةَ حَدِيثًا آخَرَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بَسْطَامٍ ثَنَا يَزِيدُ بن ربيع ثَنَا إِسْرَائِيلُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ «أَنْبَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِي ثَقِيفٍ مُبِيرًا وَكَذَّابًا» وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ عن عبد الله بن عاصم وَيُقَالُ عِصْمَةَ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ شريك.
وقال الشافعيّ: ثنا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اعْتَزَلَ لَيَالِيَ قِتَالِ ابن الزبير والحجاج بمنى، فكان لا يُصَلِّي مَعَ الْحَجَّاجِ. وَقَالَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي وَرَاءَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: أَنْبَأَ جَرِيرٌ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ غَيَّرَ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
مَا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى ذلك، ولا أنت معه، ولو شئت أَقُولَ: كَذَبْتَ لَفَعَلْتُ. وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَطَالَ الْخُطْبَةَ فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ مِرَارًا، ثُمَّ قَامَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَقَامَ النَّاسُ، فَصَلَّى الْحَجَّاجُ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟
فَقَالَ: إِنَّمَا نَجِيءُ لِلصَّلَاةِ فصل الصلاة لوقتها ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ عَمِّي يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا فَرَغَ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدِمَ الْمَدِينَةِ لَقِيَ شَيْخًا خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: بِشَرِّ حَالٍ، قُتِلَ ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الحجاج: ومن قتله؟ فقال: الْفَاجِرُ اللَّعِينُ الْحَجَّاجُ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَتَهْلُكَتُهُ، مِنْ قَلِيلِ الْمُرَاقَبَةِ للَّه. فَغَضِبَ الْحَجَّاجُ غَضَبًا شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ! أَتَعْرِفُ الْحَجَّاجَ إِذَا رَأَيْتَهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ! فَلَا عَرَّفَهُ اللَّهُ خَيْرًا وَلَا وَقَاهُ ضُرًّا. فَكَشَفَ الْحَجَّاجُ عَنْ لِثَامِهِ وَقَالَ: سَتَعْلَمُ أَيُّهَا الشَّيْخُ الْآنَ إِذَا سَالَ دَمُكَ السَّاعَةَ. فَلَمَّا تَحَقَّقَ الشَّيْخُ الْجَدُّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ يَا حَجَّاجُ، لَوْ كُنْتَ تَعْرِفُنِي مَا قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، أُصْرَعُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ:
انْطَلِقْ فَلَا شَفَى اللَّهُ الْأَبْعَدَ مِنْ جُنُونِهِ وَلَا عَافَاهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ثَنَا حَمَّادٌ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي رافع عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ خَالِدُ بْنُ يزيد بن معاوية لعبد الملك: أتمكنه من ذلك؟ فقال: وما بأس من ذلك. قال: أشد الناس وَاللَّهِ، قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ ذَهَبَ مَا فِي صَدْرِي عَلَى آلِ الزُّبَيْرِ مُنْذُ تَزَوَّجْتُ [1] رَمْلَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ، قال: وكأنه كَانَ نَائِمًا فَأَيْقَظَهُ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَعْزِمُ عليه بطلاقها فَطَلَّقَهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: حَجَّ الْحَجَّاجُ مَرَّةً فَمَرَّ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَأُتِيَ بغذائه فقال لحاجبه:
__________
[1] كذا بالأصول والظاهر أن في مواضع من هذا الخبر تحريفا.(9/121)
انْظُرْ مَنْ يَأْكُلُ مَعِي، فَذَهَبَ فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ نَائِمٌ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ، فَقَامَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ قَالَ لَهُ: اغْسِلْ يَدَيْكَ ثُمَّ تَغَدَّ مَعِي، فَقَالَ: إِنَّهُ دَعَانِي من هو خير منك، قال: ومن؟
قَالَ اللَّهُ دَعَانِي إِلَى الصَّوْمِ فَأَجَبْتُهُ، قَالَ: فِي هَذَا الْحَرِّ الشَّدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ صُمْتُ لِيَوْمٍ هُوَ أَشَدُّ حَرًّا مِنْهُ، قَالَ: فَأَفْطِرْ وَصُمْ غَدًا، قَالَ: إِنْ ضَمِنْتَ لِيَ الْبَقَاءَ لغد. قال: ليس ذلك لي، قَالَ: فَكَيْفَ تَسْأَلُنِي عَاجِلًا بِآجِلٍ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّ طَعَامَنَا طَعَامٌ طَيِّبٌ، قَالَ: لَمْ تُطَيِّبْهُ أَنْتَ وَلَا الطَّبَّاخُ، إِنَّمَا طَيَّبَتْهُ العافية
فصل
قَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ دُخُولِ الْحَجَّاجِ الْكُوفَةَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخُطْبَتَهُ إِيَّاهُمْ بَغْتَةً، وَتَهْدِيدَهُ وَوَعِيدَهُ إِيَّاهُمْ، وَأَنَّهُمْ خَافُوهُ مَخَافَةً شَدِيدَةً، وَأَنَّهُ قتل عمير بن ضابىء، وكذلك قتل كميل بن زياد صبرا، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي قِتَالِ ابْنِ الأشعث ما قدمنا، ثم تسلط عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْعُبَّادِ وَالْقُرَّاءِ، حَتَّى كَانَ آخِرُ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ. قَالَ الْقَاضِي الْمُعَافَى زكريا:
ثنا أحمد بن محمد بن سعد الْكَلْبِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيُّ ثَنَا محمد- يعنى ابن عبد اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- عَنْ عَطَاءٍ- يَعْنِي ابْنَ مُصْعَبٍ- عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الْعِرَاقِ بَعْدَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ، فَقَالَ:
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدِ اسْتَبْطَنَكُمْ فَخَالَطَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ، وَالْعَصَبَ وَالْمَسَامِعَ، وَالْأَطْرَافَ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى الاسماخ والأمخاخ، والأشباح والأرواح، ثم ارتع فَعَشَّشَ، ثُمَّ بَاضَ وَفَرَّخَ، ثُمَّ دَبَّ وَدَرَجَ، فَحَشَاكُمْ نِفَاقًا وَشِقَاقًا، وَأَشْعَرَكُمْ خِلَافًا، اتَّخَذْتُمُوهُ دَلِيلًا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤتمنا تُشَاوِرُونَهُ وَتَسْتَأْمِرُونَهُ، فَكَيْفَ تَنْفَعُكُمْ تَجْرِبَةٌ، أَوْ يَنْفَعُكُمْ بيان! ألستم أصحابى بالأهواز حيث منيتم المكر واجتمعتم على الغدر، واتفقتم عَلَى الْكُفْرِ، وَظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَخْذُلُ دِينَهُ وخلافته، وأنا والله أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لو إذا، وتنهزمون سراعا. ويوم الزَّاوِيَةِ وَمَا يَوْمُ الزَّاوِيَةِ، مِمَّا كَانَ مِنْ فَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَتَخَاذُلِكُمْ وَبَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْكُمْ، وَنُكُوسِ قُلُوبِكُمْ إِذْ وَلَّيْتُمْ كَالْإِبِلِ الشَّارِدَةِ عَنْ أَوْطَانِهَا النوازع، لا يسأل المرء منكم عَنْ أَخِيهِ، وَلَا يَلْوِي الشَّيْخُ عَلَى بَنِيهِ، حين عضكم السلاح، ونخعتكم الرماح.
ويوم دَيْرِ الْجَمَاجِمِ وَمَا يَوْمُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ، بِهَا كَانَتِ الْمَعَارِكُ وَالْمَلَاحِمُ، بِضَرْبٍ يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ، وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ. يَا أَهْلَ العراق يا أهل الكفران بعد الفجران، والغدران بعد الخذلان، وَالنَّزْوَةِ بَعْدَ النَّزَوَاتِ، إِنْ بَعَثْنَاكُمْ إِلَى ثُغُورِكُمْ غَلَلْتُمْ وَخُنْتُمْ، وَإِنْ أَمِنْتُمْ أَرَجَفْتُمْ، وَإِنْ خِفْتُمْ نَافَقْتُمْ، لَا تَذْكُرُونَ نِعْمَةً، وَلَا تَشْكُرُونَ مَعْرُوفًا، ما استخفكم ناكث، ولا استغواكم غاو، ولا استنقذكم عاص، ولا استنصركم ظالم، ولا اسْتَعْضَدَكُمْ خَالِعٌ، إِلَّا لَبَّيْتُمْ دَعْوَتَهُ، وَأَجَبْتُمْ صَيْحَتَهُ، وَنَفَرْتُمْ إِلَيْهِ خِفَافًا وَثِقَالًا، وَفُرْسَانًا وَرِجَالًا. يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ هَلْ شَغَبَ شَاغِبٌ، أَوْ نَعَبَ نَاعِبٌ، أَوْ زَفَرَ زَافِرٌ(9/122)
إِلَّا كُنْتُمْ أَتْبَاعَهُ وَأَنْصَارَهُ؟ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ أَلَمْ تَنْفَعْكُمُ الْمَوَاعِظُ؟ أَلَمْ تَزْجُرْكُمُ الْوَقَائِعُ؟ أَلَمْ يُشَدِّدِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَطْأَتَهُ، وَيُذِقْكُمْ حَرَّ سَيْفِهِ، وَأَلِيمَ بَأْسِهِ وَمَثُلَاتِهِ؟. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ كَالظَّلِيمِ الرَّامِحِ عَنْ فِرَاخِهِ يَنْفِي عَنْهَا الْقَذَرَ، وَيُبَاعِدُ عَنْهَا الْحَجَرَ، وَيُكِنُّهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَيَحْمِيهَا مِنَ الضَّبَابِ، وَيَحْرُسُهَا مِنَ الذُّبَابِ. يَا أهل الشام! أنتم الجنة والبرد، وأنتم الملاءة والجلد، أَنْتُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَنْصَارُ، وَالشِّعَارُ وَالدِّثَارُ، بِكُمْ يُذَبُّ عن البيضة والحوذة، وَبِكُمْ تُرْمَى كَتَائِبُ الْأَعْدَاءِ وَيُهْزَمُ مَنْ عَانَدَ وَتَوَلَّى.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ سَمِعْتُ شَيْخًا مِنْ قُرَيْشٍ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ التَّيْمِيَّ قَالَ: كَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ- وَكَانَ لَسِنًا-: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ الْأَرْضِ فَأَمْشَاهُمْ عَلَى ظَهْرِهَا، فَأَكَلُوا ثِمَارَهَا وَشَرِبُوا أَنْهَارَهَا وَهَتَكُوهَا بِالْمَسَاحِي وَالْمُرُورِ، ثُمَّ أَدَالَ اللَّهُ الْأَرْضَ مِنْهُمْ فَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ كَمَا أَكَلُوا ثِمَارَهَا، وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ كَمَا شَرِبُوا أَنْهَارَهَا، وَقَطَّعَتْهُمْ فِي جَوْفِهَا وَفَرَّقَتْ أَوْصَالَهُمْ كَمَا هَتَكُوهَا بِالْمَسَاحِي وَالْمُرُورِ.
وَمِمَّا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي المواعظ: الرجل وكلكم ذاك الرَّجُلُ، رَجُلٌ خَطَمَ نَفْسَهُ وَزَمَّهَا فَقَادَهَا بِخِطَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَفَّهَا بِزِمَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً رَدَّ نَفْسَهُ، امْرَأً اتَّهَمَ نَفْسَهُ، امْرَأً اتَّخَذَ نَفْسَهُ عَدُوَّهُ، امْرَأً حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الْحِسَابُ إِلَى غَيْرِهِ، امْرَأً نَظَرَ إِلَى مِيزَانِهِ، امْرَأً نَظَرَ إِلَى حِسَابِهِ، امْرَأً وَزَنَ عَمَلَهُ، امْرَأً فَكَّرَ فِيمَا يَقْرَأُ غَدًا فِي صَحِيفَتِهِ وَيَرَاهُ فِي مِيزَانِهِ، وَكَانَ عِنْدَ قَلْبِهِ زَاجِرًا، وَعِنْدَ هَمِّهِ آمِرًا، امْرَأً أَخَذَ بِعِنَانِ عَمَلِهِ كَمَا يَأْخُذُ بِعِنَانِ جَمَلِهِ، فَإِنْ قَادَهُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَبِعَهُ، وَإِنْ قَادَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَفَّ، امْرَأً، عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ، امْرَأً فَاقَ وَاسْتَفَاقَ، وَأَبْغَضَ الْمَعَاصِيَ وَالنِّفَاقَ، وَكَانَ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالْأَشْوَاقِ. فَمَا زَالَ يَقُولُ امْرَأً امْرَأً، حَتَّى بَكَى مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ.
[وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى الدُّنْيَا الْفَنَاءَ، وَعَلَى الْآخِرَةِ الْبَقَاءَ، فَلَا فَنَاءَ لِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ، وَلَا بَقَاءَ لِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ، فَلَا يَغُرَنَّكُمْ شَاهِدُ الدُّنْيَا عَنْ غَائِبِ الْآخِرَةِ، وَاقْهَرُوا طُولَ الْأَمَلِ بِقِصَرِ الْأَجَلِ] [1] وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: وَقَذَتْنِي كَلِمَةٌ سَمِعْتُهَا مِنَ الْحَجَّاجِ سَمِعْتُهُ يَقُولُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْوَادِ: إِنَّ امْرَأً ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ عُمْرِهِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ لَحَرِيٌّ أَنْ تَطُولَ عَلَيْهَا حَسْرَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ قَالَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا: مَنْ كَانَ لَهُ بَلَاءٌ أعطيناه على قدره، فقام رجل فقال:
__________
[1] سقط من المصرية.(9/123)
أَعْطِنِي فَإِنِّي قَتَلْتُ الْحُسَيْنَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: دَسَرْتُهُ بِالرُّمْحِ دَسْرًا، وَهَبَرْتُهُ بِالسَّيْفِ هَبْرًا، وَمَا أَشْرَكْتُ مَعِي فِي قَتْلِهِ أَحَدًا. فَقَالَ: اذهب فو الله لَا تَجْتَمِعُ أَنْتَ وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَضُرِبَ عَلَى اسْمِي فِي الدِّيوَانِ وَمُنِعْتُ الْعَطَاءَ وَقَدْ هُدِمَتْ دَارِي، فقال الحجاج، أما سمعت قول الشاعر:
حنانيك من تجنى عَلَيْكَ وَقَدْ ... تُعْدِي الصِّحَاحَ مَبَارِكُ الْجُرْبِ
وَلَرُبَّ مَأْخُوذٍ بِذَنْبِ قَرِيبِهِ ... وَنَجَا الْمُقَارِفُ صَاحِبُ الذَّنْبِ؟
فَقَالَ الرَّجُلُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ! إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ غَيْرَ هَذَا، وَقَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ مِنْ هَذَا، قَالَ:
وَمَا قَالَ؟ قَالَ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ 12: 78- 79 قَالَ: يَا غُلَامُ أَعِدِ اسْمَهُ فِي الدِّيوَانِ وابن داره، وأعطه عطاءه، ومر منادى يُنَادِي صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الشَّاعِرُ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بن عدي عن ابن عباس: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِ أَسْلَمَ بْنِ عَبْدٍ الْبَكْرِيِّ، لِمَا بَلَغَنِي عَنْهُ، فَأَحْضَرَهُ الْحَجَّاجُ فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْتَ الشَّاهِدُ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْغَائِبُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ 49: 6 وما بلغه باطل، وَإِنِّي أَعُولُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ امْرَأَةً مَا لَهُنَّ كَاسِبٌ غَيْرِي وَهُنَّ بِالْبَابِ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ بِإِحْضَارِهِنَّ، فَلَمَّا حَضَرْنَ جَعَلَتْ هَذِهِ تَقُولُ: أَنَا خَالَتُهُ، وَهَذِهِ أَنَا عَمَّتُهُ، وَهَذِهِ أَنَا أُخْتُهُ، وَهَذِهِ أنا زوجته، وهذه أنا بنته، وتقدمت إليه جارية فوق الثمان وَدُونَ الْعَشَرَةِ، فَقَالَ لَهَا الْحَجَّاجُ: مَنْ أَنْتِ؟
فَقَالَتْ: أَنَا ابْنَتُهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، وَجَثَتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَقَالَتْ: -
أَحَجَّاجُ لَمْ تَشْهَدْ مَقَامَ بَنَاتِهِ ... وَعَمَّاتِهِ يَنْدُبْنَهُ اللَّيْلَ أَجْمَعَا
أَحَجَّاجُ كَمْ تَقْتُلْ بِهِ إِنْ قَتَلْتَهُ ... ثَمَانًا وَعَشْرًا وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعَا
أَحَجَّاجُ مَنْ هَذَا يَقُومُ مَقَامَهُ ... عَلَيْنَا فَمَهْلًا أَنْ تَزِدْنَا تَضَعْضُعَا
أَحَجَّاجُ إِمَّا أَنْ تَجُودَ بِنِعْمَةٍ ... عَلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ تُقَتِّلَنَا مَعَا
قَالَ: فَبَكَى الْحَجَّاجُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعَنْتُ عَلَيْكُنَّ وَلَا زِدْتُكُنَّ تَضَعْضُعًا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَا قَالَ الرَّجُلُ، وَبِمَا قَالَتِ ابْنَتُهُ هَذِهِ، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ وَحُسْنِ صِلَتِهِ وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ وَتَفَقُّدِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَقِيلَ إِنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ الصَّبْرُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ أَيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ مَا أَصْفَقَ وَجْهَكَ وَأَقَلَّ حَيَاءَكَ، تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ وَتَقُولُ مثل هذا الكلام؟ خبث وَضَلَّ سَعْيُكَ، فَقَالَ لِلْحَرَسِ خُذُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي جَرَّأَكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ، أَنْتَ(9/124)
تَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ وَلَا أَجْتَرِئُ أَنَا عَلَيْكَ، وَمَنْ أَنْتَ حَتَّى لَا أَجْتَرِئَ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ تَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ، فَأُطْلِقَ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِأَسِيرَيْنِ من أصحاب ابن لأشعث فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا:
إِنَّ لِي عِنْدَكَ يَدًا، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: ذَكَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا أُمَّكَ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ قَالَ: صَاحِبِي هَذَا! فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَعَمْ! فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: بُغْضُكَ، قَالَ أَطْلِقُوا هَذَا لِصِدْقِهِ، وهذا لفعله. فأطلقوهما. وذكر محمد بن زياد عن ابن الْأَعْرَابِيِّ فِيمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ جَحْدَرُ بْنُ مَالِكٍ وَكَانَ فَاتِكًا بِأَرْضِ الْيَمَامَةِ، فَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهَا يُؤَنِّبُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى عَدَمِ أَخْذِهِ، فَمَا زَالَ نَائِبُهَا فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَسَرَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا كُنْتَ تَصْنَعُهُ؟ فَقَالَ: جَرَاءَةُ الْجَنَانِ، وَجَفَاءُ السُّلْطَانِ، وَكَلْبُ الزَّمَانِ، وَلَوِ اخْتَبَرَنِي الأمير لوجدني من صالح الأعوان، وشهم الْفُرْسَانِ، وَلَوَجَدَنِي مِنْ أَصْلَحِ رَعِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنِّي مَا لَقِيتُ فَارِسًا قَطُّ إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي مُقْتَدِرًا، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: إِنَّا قَاذِفُوكَ فِي حَائِرٍ فِيهِ أَسَدٌ عَاقِرٌ فَإِنْ قَتَلَكَ كَفَانَا مُؤْنَتَكَ، وَإِنْ قَتَلْتَهُ خَلَّيْنَا سَبِيلَكَ. ثُمَّ أَوْدَعَهُ السِّجْنَ مُقَيَّدًا مَغْلُولَةً يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ، وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهِ بِكَسْكَرَ أن يبعث بِأَسَدٍ عَظِيمٍ ضَارٍ، وَقَدْ قَالَ جَحْدَرٌ هَذَا فِي مَحْبَسِهِ هَذَا أَشْعَارًا يَتَحَزَّنُ فِيهَا عَلَى امْرَأَتِهِ سُلَيْمَى أَمِّ عَمْرٍو يَقُولُ فِي بَعْضِهَا:
أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ... وَإِيَّانَا فَذَاكَ بنا تدانى
بلى وترى الهلال كما نراه ... وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ إِذَا عَلَانِي
إِذَا جَاوَزْتُمَا نَخَلَاتِ نجد ... وأودية اليمامة فانعيانى
وقولا حجدر أَمْسَى رَهِينًا ... يُحَاذِرُ وَقْعَ مَصْقُولٍ يَمَانِي
فَلَمَّا قَدِمَ الْأَسَدُ عَلَى الْحَجَّاجِ أَمَرَ بِهِ فَجُوِّعَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أُبْرِزَ إِلَى حَائِرٍ- وَهُوَ الْبُسْتَانُ- وَأَمَرَ بِجَحْدَرٍ فَأُخْرِجَ فِي قُيُودِهِ وَيَدُهُ الْيُمْنَى مَغْلُولَةٌ بِحَالِهَا، وَأُعْطِيَ سَيْفًا فِي يَدِهِ الْيُسْرَى وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَسَدِ وَجَلَسَ الْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ فِي مَنْظَرَةٍ، وَأَقْبَلَ جَحْدَرٌ نَحْوَ الْأَسَدِ وَهُوَ يَقُولُ:
لَيْثٌ وَلَيْثٌ فِي مَجَالِ ضَنْكِ ... كِلَاهُمَا ذُو أَنَفٍ وَمَحْكِ
وَشِدَّةٍ فِي نَفْسِهِ وَفَتْكِ ... إِنْ يَكْشِفِ اللَّهُ قِنَاعَ الشَّكِّ
فَهْوَ أَحَقُّ مَنْزِلٍ بِتَرْكِ
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ الْأَسَدُ زَأَرَ زَأْرَةً شَدِيدَةً وَتَمَطَّى وَأَقْبَلَ نَحْوَهُ فَلَمَّا صَارَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ رُمْحٍ وَثَبَ الْأَسَدُ عَلَى جَحْدَرٍ وَثْبَةً شَدِيدَةً فَتَلَقَّاهُ جَحْدَرٌ بِالسَّيْفِ فضربه ضربة خَالَطَ ذُبَابُ السَّيْفِ لَهَوَاتِهِ، فَخَرَّ الْأَسَدُ كَأَنَّهُ خَيْمَةٌ قَدْ صَرَعَتْهَا الرِّيحُ، مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبَةِ، وسقط حجدر مِنْ شِدَّةِ وَثْبَةِ الْأَسَدِ وَشِدَّةِ مَوْضِعِ(9/125)
القيود عليه، فكبر الحجاج وكبر أصحابه وأشار جَحْدَرٌ يَقُولُ:
يَا جُمْلُ إِنَّكِ لَوْ رَأَيْتِ كَرِيهَتِي ... فِي يَوْمِ هَوْلٍ مُسْدِفٍ وَعَجَاجِ
وَتَقَدُّمِي لليث أرسف موثقا ... كيما أساوره على الأخراج
شَثْنٌ بَرَاثِنُهُ كَأَنَّ نُيُوبَهُ ... زُرْقُ الْمَعَاوِلِ أَوْ شِبَاهُ زُجَاجِ
يَسْمُو بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيهِمَا ... لَهَبًا أَحَدُّهُمَا شُعَاعُ سِرَاجِ
وَكَأَنَّمَا خِيطَتْ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ ... برقاء أو خرقا مِنَ الدِّيبَاجِ
لَعَلِمْتِ أَنِّي ذُو حِفَاظٍ مَاجِدٌ ... من نسل أقوام ذوى أبراج
فَعِنْدَ ذَلِكَ خَيَّرَهُ الْحَجَّاجُ إِنْ شَاءَ أَقَامَ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ انْطَلَقَ إِلَى بِلَادِهِ، فَاخْتَارَ الْمَقَامَ عِنْدَ الْحَجَّاجِ، فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا. وَأَنْكَرَ يَوْمًا أَنْ يَكُونَ الْحُسَيْنُ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ ابْنَ بِنْتِهِ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: كَذَبْتَ! فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى مَا قُلْتَ بِبَيِّنَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَقَالَ قَالَ اللَّهُ وَمن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ 6: 84 إلى قوله وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى 6: 85 فَعِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ مَرْيَمَ، وَالْحُسَيْنُ ابْنُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: صدقت، ونفاه إلى خراسان.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ يَلْحَنُ فِي حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْكَرَهَا يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُبْدِلُ إِنِ الْمَكْسُورَةَ بان الْمَفْتُوحَةِ وَعَكْسُهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ 9: 24 إلى قوله أَحَبَّ إِلَيْكُمْ 9: 24 فيقرأها برفع أحب. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ يَسْأَلُهُ عَنْ أَمْسِ وَالْيَوْمَ وَغَدٍ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: أَكَانَ خُوَيْلِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ! فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: أَمَّا أَمْسِ فَأَجَلٌ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَعَمَلٌ، وَأَمَّا غَدًا فَأَمَلٌ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى. قَالَ: لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الْأَشْعَثِ وَصَفَتْ لَهُ الْعِرَاقُ، وَسَّعَ عَلَى النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّكَ تُنْفِقُ فِي الْيَوْمِ مَا لَا يُنْفِقُهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُسْبُوعِ وَتُنْفِقُ فِي الْأُسْبُوعِ مَا لَا يُنْفِقُهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الشَّهْرِ، ثُمَّ قَالَ مُنْشِدًا:
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ... وكن يا عبيد الله تخشى وتضرع
ووفر خراج المسلمين وفيأهم ... وَكُنْ لَهُمُ حِصْنًا تُجِيرُ وَتَمْنَعُ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ:
لَعَمْرِي لَقَدْ جَاءَ الرَّسُولُ بِكُتْبِكُمْ ... قَرَاطِيسَ تملا ثُمَّ تُطْوَى فَتُطْبَعُ
كِتَابٌ أَتَانِي فِيهِ لِينٌ وَغِلْظَةٌ ... وَذُكِّرْتُ وَالذِّكْرَى لِذِي اللُّبِّ تَنْفَعُ(9/126)
وَكَانَتْ أُمُورٌ تَعْتَرِينِي كَثِيرَةٌ ... فَأَرْضَخُ أَوْ أَعْتَلُّ حِينًا فَأَمْنَعُ
إِذَا كُنْتُ سَوْطًا مِنْ عَذَابٍ عَلَيْهِمُ ... وَلَمْ يَكُ عِنْدِي بِالْمَنَافِعِ مَطْمَعُ
أَيَرْضَى بذلك النَّاسُ أَوْ يَسْخَطُونَهُ ... أَمُ احْمَدُ فِيهِمْ أَمْ ألام فأقذع
وكان بِلَادٌ جِئْتُهَا حِينَ جِئْتُهَا ... بِهَا كُلُّ نِيرَانِ الْعَدَاوَةِ تَلْمَعُ
فَقَاسَيْتُ مِنْهَا مَا عَلِمْتَ وَلَمْ أَزَلْ ... أُصَارِعُ حَتَّى كِدْتُ بِالْمَوْتِ أُصْرَعُ
وَكَمْ أَرَجَفُوا مِنْ رَجْفَةٍ قَدْ سَمِعْتُهَا ... وَلَوْ كَانَ غَيْرِي طَارَ مِمَّا يُرَوَّعُ
وَكُنْتُ إِذَا هَمُّوا بإحدى نهاتهم ... حَسَرْتُ لَهُمْ رَأْسِي وَلَا أَتَقَنَّعُ
فَلَوْ لَمْ يَذُدْ عَنِّي صَنَادِيدُ مِنْهُمُ ... تُقَسِّمُ أَعْضَائِي ذِئَابٌ وَأَضْبُعُ
قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَنِ اعمل برأيك. وقال الثوري عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ الْجُمَحِيِّ قَالَ: أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِسَارِقٍ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ غَنِيًّا أن تكسب جناية فيؤتى بك إلى الحاكم فَيُبْطِلَ عَلَيْكَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِذَا قَلَّ ذَاتُ الْيَدِ سَخَتِ النَّفْسُ بِالْمَتَالِفِ. قَالَ: صَدَقْتَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حُسْنُ اعْتِذَارٍ يُبْطِلُ حَدًّا لَكُنْتُ لَهُ مُوضِعًا، يَا غُلَامُ سَيْفٌ صَارِمٌ وَرَجُلٌ قَاطِعٌ، فَقَطَعَ يَدَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: تَغَدَّى الْحَجَّاجُ يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا انْقَضَى غَدَاؤُهُمَا دَعَاهُ الْوَلِيدُ إِلَى شُرْبِ النَّبِيذِ [1] فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْحَلَالُ مَا أَحْلَلْتَ، وَلَكِنِّي أنهى عنه أهل العراق وأهل عَمَلِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُخَالِفَ قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ 11: 88. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ أَشْيَاخِهِ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي إِسْرَافِهِ فِي صَرْفِ الْأَمْوَالِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، ويقول: إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَنَحْنُ خُزَّانُهُ، وَسِيَّانَ منع حق أو إعطاء باطل، وكتب في أسفل الكتاب هذه الأبيات: -
إذ أَنْتَ لَمْ تَتْرُكْ أُمُورًا كَرِهْتَهَا ... وَتَطْلُبْ رِضَائِي فِي الَّذِي أَنَا طَالِبُهْ
وَتَخْشَى الَّذِي يَخْشَاهُ مِثْلُكَ هَارِبًا ... إِلَى اللَّهِ مِنْهُ ضَيَّعَ الدُّرَّ حالبه
فَإِنْ تَرَ مِنِّي غَفْلَةً قُرَشِيَّةً ... فَيَا رُبَّمَا قَدْ غَصَّ بِالْمَاءِ شَارِبُهْ
وَإِنْ تَرَ مِنِّي وَثْبَةً أُمَوِيَّةً ... فَهَذَا وَهَذَا كُلُّهُ أَنَا صَاحِبُهْ
فَلَا تَعْدُ مَا يَأْتِيكَ مِنِّي فَإِنْ تَعُدْ ... تَقُمْ فَاعْلَمَنْ يَوْمًا عَلَيْكَ نَوَادِبُهْ
فَلَمَّا قَرَأَهُ الْحَجَّاجُ كَتَبَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَاءَنِي كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَذْكُرُ فِيهِ سَرَفِي فِي الْأَمْوَالِ،
__________
[1] ما يسمى في هذا العصر نبيذا هو الخمر المحض، وهو غير ما كان يسميه سلفنا نبيذا. والنبيذ عندهم هو التمر أو الزبيب يترك عليه الماء ويسمونه بعد ذلك نبيذا سواء أسكر أو لم يسكر. وفي كلتا الحالتين فإنه أشبه بعصير القصب اليوم إن لم يكن دونه.(9/127)
والدماء، فو الله مَا بَالَغْتُ فِي عُقُوبَةِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا قَضَيْتُ حَقَّ أَهْلِ الطَّاعَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَرَفًا فَلْيُحِدَّ لِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَدًّا أَنْتَهِي إِلَيْهِ وَلَا أَتَجَاوَزُهُ، وَكَتَبَ فِي أَسْفَلِ الْكِتَابِ:
إِذَا أَنَا لَمْ أَطْلُبْ رِضَاكَ وَأَتَّقِي ... أَذَاكَ فَيَوْمِي لَا تَوَارَتْ كَوَاكِبُهْ
إِذَا قَارَفَ الْحَجَّاجُ فِيكَ خَطِيئَةً ... فَقَامَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّبَاحِ نَوَادِبُهْ
أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتَ مِنْ ذِي هَوَادَةٍ ... وَمَنْ لا تُسَالِمْهُ فَإِنِّي مُحَارِبُهْ
إِذَا أَنَا لَمْ أُدْنِ الشَّفِيقَ لِنُصْحِهِ ... وَأُقْصِ الَّذِي تَسْرِي إِلَيَّ عَقَارِبُهْ
فَمَنْ يَتَّقِي يَوْمِي وَيَرْجُو إذًا غَدِي ... عَلَى مَا أَرَى وَالدَّهْرُ جَمٌّ عَجَائِبُهْ
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِلْغَازِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنْ يَسْأَلَ الْحَجَّاجَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ:
هَلْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا أصاب من الدنيا شَيْئًا؟ فَسَأَلَهُ كَمَا أَمَرَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أحب أن لي لبنان أو سبير ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَكَانَ مَا أبلانى الله من الطاعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
فيما روى عنه من الكلمات النافعة وَالْجَرَاءَةِ الْبَالِغَةِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
اتَّقَوْا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجُوا مِنْ بَابٍ آخَرَ لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَخَذْتُ رَبِيعَةَ بِمُضَرَ لَكَانَ ذَلِكَ لِي مِنَ اللَّهِ حَلَالًا، وَمَا عَذِيرِي مِنْ عَبْدِ هُذَيْلٍ يَزْعُمُ أَنَّ قُرْآنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا رَجَزٌ مِنْ رَجَزِ الْأَعْرَابِ مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَذِيرِي مِنْ هَذِهِ الْحَمْرَاءِ، يَزْعُمُ أحدهم يرمى بالحجر فيقول لي إن تقع الحجر حدث أمر، فو الله لَأَدَعَنَّهُمْ كَالْأَمْسِ الدَّابِرِ. قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِلْأَعْمَشِ فَقَالَ: وأنا والله سمعته منه. ورواه أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ وَالْأَعْمَشِ أَنَّهُمَا سَمِعَا الْحَجَّاجَ قَبَّحَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَفِيهِ وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فَخَرَجْتُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُكُمْ، وَلَا أَجِدُ أَحَدًا يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَلَأَحُكَّنَّهَا من المصحف ولو بضلع خنزير.
ورواه غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِنَحْوِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْتُ عبد هذيل لأضربن عُنُقَهُ. وَهَذَا مِنْ جَرَاءَةِ الْحَجَّاجِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَإِقْدَامِهِ عَلَى الْكَلَامِ السَّيِّئِ، وَالدِّمَاءِ الْحَرَامِ.
وَإِنَّمَا نَقَمَ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ خَالَفَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَمُوَافِقِيهِ والله أعلم.(9/128)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: ثَنَا الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ عَلَى مِنْبَرِ وَاسِطٍ يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، لَوْ أَدْرَكْتُهُ لَأَسْقَيْتُ الْأَرْضَ مِنْ دَمِهِ. قَالَ وَسَمِعْتُهُ عَلَى مِنْبَرِ وَاسِطٍ وَتَلَا هذه الآية هَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي 38: 35 قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ لَحَسُودًا. وَهَذِهِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ تُفْضِي بِهِ إِلَى الْكُفْرِ: قَبَّحَهُ الله وأخزاه، وأبعده وأقصاه.
[قال أبو نعيم: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة. قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فقال: إني جئتك من عند رجل يملى المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمرو غضب وقال: ويحك، انظر ما تقول. قال: ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود. قال: ما أعلم أحدا أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك. «إنا سهرنا ليلة في بيت عند أبى بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرجنا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي بيني وبين أبى بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ فقام النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله أعتمت، فغمزني بيده- يعنى اسكت- قال: فقرأ وركع وسجد وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلّ نفطه [1] ثم قال: من سرّه أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد، فعلمت أنا وصاحبي أنه عبد الله بن مسعود، فلما أصبحت غدوت إليه لأبشره فقال: سبقك بها أبو بكر، وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه» وهذا الحديث قد روى من طرق، فرواه حبيب بن حسان عن زيد بن وهب عن عمر مثله، ورواه شعبة وزهير وخديج عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عبد الله، ورواه عاصم عن عبد الله، ورواه الثوري وزائدة عن الأعمش نحوه. وقال أبو داود: حدثنا عمر بن ثابت عن أبى إسحاق عن حمير بن مالك قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: «أخذت مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لصبي مع الصبيان، فأنا لا أدع ما أخذت مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَدْ رواه الثوري وإسرافيل عن أبى إسحاق به. وفي رواية ذكرها الطبراني عنه قال: «لقد تلقيت مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت، وله ذؤابة يلعب مع الغلمان» . وقد روى أبو داود عنه وذكر قصة رعيه الغنم لعقبة بن أبى معيط، وأنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنك غلام معلم، قال: فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فيها أحد» . ورواه أبو أيوب الإفريقي وأبو عوانة عن عاصم عن زر عنه نحوه. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إذنك أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي حتى أنهاك» . وقد روى هذا عنه من طرق.
وروى الطبراني عن عبد الله بن شداد بن الهاد أن عبد الله كان صاحب الوساد والسواد والسواك
__________
[1] هذا الخبر في الإستيعاب لابن عبد البر، لكنه اختصر هذا الموضع منه.(9/129)
والنعلين. وروى غيره عن علقمة قال: قدمت الشام فجلست إلى أبى الدرداء فقال لي: ممن أنت؟
فقلت: من أهل الكوفة، فقال: أليس فيكم صاحب الوساد والسواك؟ وقال الحارث بن أبى أسامة:
حدثنا عبد العزيز بن أبان حدثنا قطر بن خليفة حدثنا أبو وائل قال سمعت حذيفة يقول، وابن مسعود قائم: لقد عَلِمَ الْمَحْفُوظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أقربهم وسيلة يوم القيامة. وقد روى هذا عن حذيفة من طرق، فرواه شعبة عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حذيفة ورواه عن أبى وائل فاضل الأحدب وجامع بن أبى راشد، وعبيدة، وأبو سنان الشيباني، وحكيم بن جبير، ورواه عبد الرحمن بن يزيد عن حذيفة.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أبى إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول: قلنا لحذيفة أخبرنا برجل قريب الهدى والسمت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نلزمه، فقال:
ما أعلم أحدا أقرب هديا وسمتا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يواريه جدار بيته من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ أَقْرَبُهُمْ إِلَى اللَّهِ وسيلة. قلت: فهذا حذيفة بن اليمان صاحب سِرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا قوله في عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فكذب الحجاج وفجر، ولقم النار والحجر فيما يقوله فيه، وفي رميه له بالنفاق، وفي قوله عن قراءته: إنها شعر من شعر هذيل، وإنه لا بد أن يحكّها من المصحف ولو بضلع خنزير، وأنه لو أدركه لضرب عنقه، فحصل على إثم ذلك كله بنيته الخبيثة. وقال عفان: حدثنا حماد حدثنا عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كنت أجتني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكا من أراك، فكانت الريح تكفوه، وكان في ساقه دقة، فضحك القوم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يضحككم؟ قالوا: من دقة ساقيه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أحد» . ورواه جرير وعلى بن عاصم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أُمِّ مُوسَى عَنْ عَلِيٍّ بن أبى طالب. وروى سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «تمسكوا بعهد عبد الله بن أم مسعود» ورواه الترمذي والطبراني. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أبى إسحاق. قال: سمعت أبا الأحوص قال: شهدت أبا موسى وأبا مسعود حين توفى ابن مسعود وأحدهما يقول لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله. قال: إن قلت ذاك إنه كان ليؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا. وقال الأعمش: يعنى عبد الله بن مسعود. وقال أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وهب. قال: أقبل عبد الله بن مسعود ذات يوم وعمر جالس فقال: كيف مليء فقها. وقال عمر بن حفص: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أبى حصين عن أبى عطية أن أبا موسى الأشعري قال: لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهرنا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعنى ابن مسعود- وروى جرير عن الأعمش(9/130)
عن عمرو بن عروة عن أبى البختري قال: قالوا لعلى: حدثنا عن أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: عن أيهم؟ قالوا: حدثنا عن ابن مسعود. قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علما. وفي رواية عن على قال: علم القرآن ثم وقف عنده وكفى به. فهداتنا الصحابة العالمون به، العارفون بما كان عليه، فهم أولى بالاتباع وأصدق أقوالا من أصحاب الأهواء الحائدين عن الحق، بل أقوال الحجاج وغيره من أهل الأهواء: هذيانات وكذب وافتراء، وبعضها كفر وزندقة، فان الحجاج كان عثمانيا أمويا، يميل إليهم ميلا عظيما. ويرى أن خلافهم كفر. ويستحل بذلك الدماء، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم] [1] .
وَمِنِ الطَّامَّاتِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّالْقَانِيُّ ثَنَا جَرِيرٌ. وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ بَزِيعِ بْنِ خَالِدٍ الضَّبِّيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَخْطُبُ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: رَسُولُ أَحَدِكُمْ فِي حَاجَتِهِ أَكْرَمُ عَلَيْهِ أَمْ خَلِيفَتُهُ فِي أَهْلِهِ؟ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: للَّه عَلَيَّ أَنْ لَا أُصَلِّيَ خَلْفَكَ صَلَاةً أَبَدًا، وَإِنْ وَجَدْتُ قَوْمًا يُجَاهِدُونَكَ لَأُجَاهِدَنَّكَ مَعَهُمْ. زَادَ إِسْحَاقُ فَقَاتَلَ فِي الْجَمَاجِمِ حَتَّى قُتِلَ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْهُ فَظَاهِرُهُ كُفْرٌ إِنْ أَرَادَ تَفْضِيلَ مَنْصِبَ الْخِلَافَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الرَّسُولِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ ثَنَا أَبُو حَفْصٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا فَأَقْبَلَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْحَجَّاجَ كَافِرٌ، ثُمَّ أَطْرَقَ فَقَالَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ كَافِرٌ، ثُمَّ أَطْرَقَ فَأَقْبَلَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْحَجَّاجَ كَافِرٌ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، ثُمَّ قال: كافريا أَهْلَ الْعِرَاقِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى. وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ ثَنَا ضَمْرَةُ ثَنَا ابْنُ شَوْذَبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَيْنَمَا الْحَجَّاجُ يَخْطُبُنَا يَوْمًا إِذْ قَالَ: الْحَجَّاجُ كَافِرٌ، قُلْنَا: مَا لَهُ؟ أَيُّ شَيْءٍ يُرِيدُ؟
قَالَ: الْحَجَّاجُ كَافِرٌ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَالْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا للحجاج:
مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ عَيْبَ نفسه، فصف عَيْبَ نَفْسِكَ، فَقَالَ: اعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَبَى، فَقَالَ: أَنَا لَجُوجٌ حَقُودٌ حَسُودٌ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا فِي الشَّيْطَانِ شَرٌّ مِمَّا ذَكَرْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ:
إذًا بَيْنَكَ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ نَسَبٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ نِقْمَةً عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ بِمَا سَلَفَ لَهُمْ من الذنوب والخروج على الأئمة، وخذ لانهم لَهُمْ، وَعِصْيَانِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَيْهِمْ، قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ شريح بن عبيد عمن حدثه قال: جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب فَأَخْبَرَهُ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ حَصَبُوا أَمِيرَهُمْ فَخَرَجَ غَضْبَانَ، فَصَلَّى لَنَا صَلَاةً فَسَهَا فِيهَا، حَتَّى جَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؟
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالأستانة.(9/131)
فَقَامَ رَجُلٌ ثُمَّ قَامَ آخَرُ ثُمَّ قُمْتُ أَنَا ثَالِثًا أَوْ رَابِعًا، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ اسْتَعِدُّوا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ بَاضَ فِيهِمْ وَفَرَّخَ، اللَّهمّ إِنَّهُمْ قَدْ لَبِسُوا عَلَيْهِمْ فَأَلْبِسْ عَلَيْهِمْ وَعَجِّلْ عَلَيْهِمْ بِالْغُلَامِ الثَّقَفِيِّ، يَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَلَا يَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَقَدْ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ مُسْنَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَذْبَةَ الْحِمَّصِيِّ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ. وقال عبد الرزاق: ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: اللَّهمّ كَمَا ائْتَمَنْتُهُمْ فَخَانُونِي، وَنَصَحْتُ لَهُمْ فَغَشُّونِي فَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ فَتَى ثَقِيفٍ الذَّيَّالَ الْمَيَّالَ، يَأْكُلُ خَضِرَتَهَا، وَيَلْبَسُ فَرْوَتَهَا، وَيَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ يَقُولُ الْحَسَنُ: وَمَا خُلِقَ الْحَجَّاجُ يَوْمَئِذٍ. وَرَوَاهُ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: الشَّابُّ الذَّيَّالُ أَمِيرُ الْمِصْرَيْنِ يَلْبَسُ فَرْوَتَهَا وَيَأْكُلُ خَضِرَتَهَا، وَيَقْتُلُ أَشْرَافَ أَهْلِهَا، يَشْتَدُّ مِنْهُ الْفَرَقُ، وَيَكْثُرُ مِنْهُ الْأَرَقُ، وَيُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَى شِيعَتِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَ الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ. قَالَ قَالَ عَلِيٌّ لِرَجُلٍ: لَا مِتَّ حتى تدرك فتى ثقيف، قال: وَمَا فَتَى ثَقِيفٍ؟ قَالَ: لَيُقَالَنَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اكْفِنَا زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا جَهَنَّمَ، رَجُلٌ يَمْلِكُ عِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، لَا يَدْعُ للَّه مَعْصِيَةً إِلَّا ارْتَكَبَهَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلِقٌ لَكَسَرَهُ حَتَّى يَرْتَكِبَهَا، يَقْتُلُ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زكريا ثنا إسماعيل بن موسى السدوسي ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ سِنَانٍ الْجَدَلِيَّةِ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عَلِيٍّ فَرَدَّهُ قُنْبُرٌ فَأَدْمَى أَنْفَهُ فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهُ يَا أَشْعَثُ، أما والله لو بعبد ثقيف تحرشت لَاقْشَعَرَّتْ شُعَيْرَاتُ اسْتِكَ، قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ عَبْدُ ثَقِيفٍ؟
قَالَ: غُلَامٌ يَلِيهِمْ لَا يُبْقِي أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا أَلْبَسَهُمْ ذُلًّا، قِيلَ كَمْ يَمْلِكُ؟ قَالَ عِشْرِينَ إن بلغ. وقال البيهقي أنبأنا الحاكم أنبأ الحسن بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ ثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ التِّنِّيسِيُّ ثنا ابن يحيى الغاني. قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَوْ تخابثت الأمم فجاءت كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا، وَجِئْنَا بِالْحَجَّاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ أَنَّهُ قَالَ:
مَا بَقِيَتْ للَّه عَزَّ وَجَلَّ حُرْمَةٌ إِلَّا وَقَدِ ارْتَكَبَهَا الْحَجَّاجُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ «إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا ومبيرا» وكان المختار هو الْكَذَّابُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ الرَّفْضَ أَوَّلًا وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ الْمَحْضَ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ هَذَا، وَقَدْ كَانَ نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا وَشِيعَتَهُ فِي هَوَى آلِ مَرْوَانَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، مِقْدَامًا عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَلْفَاظٌ بَشِعَةٌ شَنِيعَةٌ ظَاهِرُهَا الْكُفْرُ كَمَا قَدَّمْنَا. فَإِنْ كَانَ(9/132)
قَدْ تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ عَنْهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ فِي عُهْدَتِهَا، وَلَكِنْ قَدْ يُخْشَى أَنَّهَا رُوِيَتْ عَنْهُ بِنَوْعٍ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الشِّيعَةَ كَانُوا يُبْغِضُونَهُ جِدًّا لِوُجُوهٍ، وَرُبَّمَا حَرَّفُوا عَلَيْهِ بَعْضَ الْكَلِمِ. وَزَادُوا فِيمَا يَحْكُونَهُ عَنْهُ بَشَاعَاتٍ وَشَنَاعَاتٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَدَيَّنُ بِتَرْكِ الْمُسْكِرِ، وَكَانَ يُكْثِرُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَيَتَجَنَّبُ الْمَحَارِمَ، وَلَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ التَّلَطُّخِ بِالْفُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ مُتَسَرِّعًا فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ فاللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَحَقَائِقِ الْأُمُورِ وساترها، وخفيات الصدور وضمائرها:
[قلت: الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله عز وجل، وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطى على القرآن كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلاثمائة درهم. والله أعلم.] [1] .
وَقَالَ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طرار الْبَغْدَادِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيُّ ثَنَا أَبِي ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ ثَنَا هِشَامُ أبو مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ ثَنَا عَوَانَةُ بْنُ الْحَكَمِ الْكَلْبِيُّ. قَالَ:
دَخَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يديه قال لَهُ إِيهٍ إِيهٍ يَا أُنَيْسُ، يَوْمٌ لَكَ مَعَ عَلِيٍّ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَاللَّهِ لَأَسْتَأْصِلَنَّكَ كما تستأصل الشاة، وَلَأَدْمَغَنَّكَ كَمَا تُدْمَغُ الصَّمْغَةُ. فَقَالَ أَنَسٌ: إِيَّايَ يعنى الأمير أصلحه الله؟ قال: إياك أعنى صك اللَّهُ سَمْعَكَ. قَالَ أَنَسٌ: إِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ لَوْلَا الصِّبْيَةُ الصِّغَارُ مَا بَالَيْتُ أَيَّ قِتْلَةٍ قُتِلْتُ، وَلَا أَيَّ مِيتَةٍ مِتُّ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الْحَجَّاجِ فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِمَا قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا قَرَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ كتاب أنس استشاط غضبا، وشفق عَجَبًا، وَتَعَاظَمَ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ كِتَابُ أنس إلى عبد الملك:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِي هُجْرًا، وَأَسْمَعَنِي نُكْرًا، وَلَمْ أَكُنْ لِذَلِكَ أَهْلًا، فَخُذْ لِي عَلَى يَدَيْهِ، فَإِنِّي أَمُتُّ بِخِدْمَتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِي إِيَّاهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَبَعَثَ عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر- وَكَانَ مُصَادِقًا لِلْحَجَّاجِ- فَقَالَ لَهُ: دُونَكَ كِتَابَيَّ هَذَيْنِ فَخُذْهُمَا وَارْكَبِ الْبَرِيدَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَابْدَأْ بِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فارفع كِتَابِي إِلَيْهِ وَأَبْلِغْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْحَجَّاجِ الْمَلْعُونِ كِتَابًا إِذَا قَرَأَهُ كَانَ أَطْوَعَ لَكَ مِنْ أَمَتِكَ، وَكَانَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ! مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ إِلَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/133)
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ شِكَايَتِكَ الْحَجَّاجَ، وَمَا سَلَّطْتُهُ عَلَيْكَ وَلَا أَمَرْتُهُ بِالْإِسَاءَةِ إِلَيْكَ، فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا اكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ أُنْزِلْ بِهِ عُقُوبَتِي، وَتَحْسُنْ لك معونتى. والسلام.
فلما قرأ أنس كتاب أمير المؤمنين وَأُخْبِرَ بِرِسَالَتِهِ قَالَ: جَزَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي خَيْرًا، وَعَافَاهُ وَكَفَاهُ وَكَافَأَهُ بِالْجَنَّةِ، فَهَذَا كَانَ ظَنِّي بِهِ وَالرَّجَاءَ مِنْهُ. فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ لِأَنَسٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ الْحَجَّاجَ عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ بِكَ عَنْهُ غِنًى، وَلَا بِأَهْلِ بَيْتِكَ، وَلَوْ جُعِلَ لك في جامعة ثم دفع إليك، فَقَارِبْهُ وَدَارِهِ تَعِشْ مَعَهُ بِخَيْرٍ وَسَلَامٍ. فَقَالَ أَنَسٌ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ إسماعيل من عند أنس فدخل على الحجاج، فقال الحجاج: مرحبا برجل أحبه وكنت أحب لقاه، فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ:
أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَكَ فِي غَيْرِ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ الحجاج وخاف وَقَالَ: مَا أَتَيْتَنِي بِهِ؟ قَالَ:
فَارَقْتُ أَمِيرَ المؤمنين وهو أشد الناس غضبا عليك، وَمِنْكَ بُعْدًا، قَالَ: فَاسْتَوَى الْحَجَّاجُ جَالِسًا مَرْعُوبًا، فَرَمَى إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بِالطُّومَارِ فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَنْظُرُ فِيهِ مَرَّةً وَيَعْرَقُ، وَيَنْظُرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ أُخْرَى، فلما فضه قَالَ: قُمْ بِنَا إِلَى أَبِي حَمْزَةَ نَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَنَتَرَضَّاهُ، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: لَا تَعْجَلْ! فَقَالَ:
كَيْفَ لَا أَعْجَلُ وَقَدْ أَتَيْتَنِي بِآبِدَةٍ؟ وكان في الطومار:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، 1: 1 من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ عَبْدٌ طَمَتْ بِكَ الْأُمُورُ، فَسَمَوْتَ فِيهَا وَعَدَوْتَ طَوْرَكَ، وَجَاوَزْتَ قَدْرَكَ، وَرَكِبْتَ دَاهِيَةً إِدًّا، وَأَرَدْتَ أن تبدو لي فَإِنْ سَوَّغْتُكَهَا مَضَيْتَ قُدُمًا، وَإِنْ لَمْ أُسَوِّغْهَا رجعت القهقرى، فلعنك الله من عبد أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْقُوصَ الْجَاعِرَتَيْنِ. أَنَسِيتَ مَكَاسِبَ آبَائِكَ بِالطَّائِفِ، وَحَفْرَهُمُ الْآبَارَ، وَنَقْلَهُمُ الصُّخُورَ عَلَى ظُهُورِهِمْ فِي الْمَنَاهِلِ، يَا ابْنَ الْمُسْتَفْرِمَةِ بِعُجْمِ الزَّبِيبِ، والله لأغمرنك غمر اللَّيْثِ الثَّعْلَبَ، وَالصَّقْرَ الْأَرْنَبَ. وَثَبْتَ عَلَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَلَمْ تَقْبَلْ لَهُ إِحْسَانَهُ، ولم تتجاوز له عن إِسَاءَتَهُ، جُرْأَةً مِنْكَ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِخْفَافًا مِنْكَ بِالْعَهْدِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ والنصارى رأت رجلا خدم عزير بن عزرى، وعيسى بن مريم، لعظمته وشرفته وأكرمته وأحبته، بل لو رأوا من خدم حمار العزير أو خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه، فَكَيْفَ وَهَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ سِنِينَ، يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّهِ، وَيُشَاوِرُهُ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا أَصْحَابِهِ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَكُنْ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ خُفِّهِ وَنَعْلِهِ، وَإِلَّا أَتَاكَ مِنِّي سَهْمٌ بكل حتف قَاضٍ، وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَقَدْ تكلم ابن طرار عَلَى مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْغَرِيبِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الزبير- يعنى ابن عدي- قال:
أتينا أنس بن مالك [نشكو إليه مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عليكم عام أو زمان(9/134)
أَوْ يَوْمٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَهَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ» الْحَدِيثَ. قُلْتُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى فَيَقُولُ:
كُلُّ عَامٍ تَرْذُلُونَ. وَهَذَا اللَّفْظُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى هَذَا الحديث، والله أعلم.
قلت: قد مر بى مرة من كلام عائشة مرفوعا وموقوفا: كل يوم ترذلون. ورأيت للإمام أحمد كلاما قال فيه: وروى في الحديث كل يوم ترذلون نسما خبيثا. فيحتمل هذا أنه وقع للإمام أحمد مرفوعا، ومثل أحمد لا يقول هذا إلا عن أصل، وقد روى عن الحسن مثل ذلك، والله أعلم. فدل على أن له أصلا إما مرفوعا وإما من كلام السلف، لم يزل يتناوله الناس قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، حتى وصل إلى هذه الأزمان، وهو موجود في كل يوم، بل في كل ساعة تفوح رائحته، ولا سيما من بعد فتنة تمرلنك، وإلى الآن نجد الرذالة في كل شيء، وهذا ظاهر لمن تأمله، والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ. قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى الْحَجَّاجِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي السَّفَرِ. قَالَ قَالَ الشَّعْبِيُّ:
وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُمْ لَتَمَنَّوُنَّ الْحَجَّاجَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّكَ تَقُولُ: الْآخِرُ شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ الْحَجَّاجِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ تَنْفِيسَاتٍ.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: بَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْحَسَنِ وَقَدْ هَمَّ بِهِ، فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: يَا حَجَّاجُ كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ آدَمَ مِنْ أَبٍ؟ قَالَ: كَثِيرٌ، قَالَ: فَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: مَاتُوا. قَالَ: فَنَكَّسَ الْحَجَّاجُ رَأْسَهُ وَخَرَجَ الْحَسَنُ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: إِنَّ الْحَجَّاجَ أَرَادَ قَتْلَ الْحَسَنِ مِرَارًا فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مَعَهُ مُنَاظَرَاتٍ، عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَعَهُمْ مُكْرَهًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ نِقْمَةٌ فَلَا تُقَابَلُ نِقْمَةُ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ وَالسَّكِينَةِ وَالتَّضَرُّعِ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الحضر عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ. قَالَ: أُتِيَ الْوَلِيدُ بْنُ عبد الملك رجل مِنَ الْخَوَارِجِ فَقِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟
فَأَثْنَى خَيْرًا، قَالَ فَعُثْمَانَ؟ فأثنى خيرا، قيل له: فما تقول في على؟ فأثنى خيرا، فذكر له الخلفاء واحدا بعد واحد، فيثنى على كل بما يناسبه، حَتَّى قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ؟ فَقَالَ:
الْآنَ جَاءَتِ الْمَسْأَلَةُ، مَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ الْحَجَّاجُ خَطِيئَةٌ مِنْ بعض خَطَايَاهُ؟.] [1] وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِامْرَأَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ فَجَعَلَ يُكَلِّمُهَا وَهِيَ لَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا تَرُدُّ عَلَيْهِ كَلَامًا، فَقَالَ لَهَا بَعْضُ الشُّرَطِ: يكلمك الأمير وأنت معرضة عنه؟
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/135)
فَقَالَتْ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ بِهَا فَقُتِلَتْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ كَيْفِيَّةَ مَقْتَلِ الْحَجَّاجِ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَا دَارَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَلَامِ وَالْمُرَاجَعَةِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبُو ظَفَرٍ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ بِسْطَامَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: خَرَجْتَ عَلَى الْحَجَّاجِ؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ عَلَيْهِ حَتَّى كَفَرَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بَعْدَهُ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا اسْمُهُ مَاهَانُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ قَبْلَهُ خَلْقًا كَثِيرًا، أَكْثَرُهُمْ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا أَبُو داود سليمان بن مسلم الْبَلْخِيُّ ثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ صَبْرًا فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا قَالَ الأصمعي:
ثنا أبو صم عن عباد بن كثير عن قحدم قَالَ: أَطْلَقَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي غداة واحدة أحدا وثمانين ألف أسير كانوا في سجن الحجاج، وقيل إنه لبث في سجنه ثمانون ألفا منهم ثلاثون ألف امرأة وَعُرِضَتِ السُّجُونُ بَعْدَ الْحَجَّاجِ فَوَجَدُوا فِيهَا ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قطع ولا صلب، وكان فيمن حُبِسَ أَعْرَابِيٌّ وُجِدَ يَبُولُ فِي أَصْلِ رَبَضِ مدينة واسط، وكان فيمن أُطْلِقُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إِذَا نَحْنُ جَاوَزْنَا مَدِينَةَ وَاسِطٍ ... خَرَيْنَا وَصَلَّيْنَا بِغَيْرِ حِسَابِ
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ هَذَا الْعُنْفِ الشَّدِيدِ لَا يَسْتَخْرِجُ مِنْ خَرَاجِ الْعِرَاقِ كَبِيرَ أَمْرٍ، قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أبى سنح ثَنَا صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَوْ تخابثت الأمم فجاءت كل امة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم، وما كان الحجاج يَصْلُحُ لِدُنْيَا وَلَا لِآخِرَةٍ لَقَدْ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَهُوَ أَوْفَرُ مَا يَكُونُ فِي الْعِمَارَةِ، فَأَخَسَّ به إلى أن صَيَّرَهُ إِلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَلَقَدْ أُدِّيَ إليّ عمالى في عامي هذا ثمانين أَلْفَ أَلْفٍ، وَإِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ رَجَوْتُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيَّ مَا أُدِّيَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ ألف. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِيِّ: ثَنَا أَبُو عَرُوبَةَ ثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ ثَنَا أَبِي سَمِعْتُ جَدِّي قَالَ. كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَسْتَنُّ بِسَنَنِ الْحَجَّاجِ فَلَا تَسْتَنَّ بِسَنَنِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا، وَيَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهَا وَكَانَ لِمَا سِوَى ذَلِكَ أَضْيَعَ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَسَدٍ ثَنَا ضَمْرَةُ عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ مُسْلِمٍ. قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بآل بيت أَبِي عَقِيلٍ- أَهْلِ بَيْتِ الْحَجَّاجِ- إِلَى صَاحِبِ الْيَمَنِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ بِآلِ أَبِي عَقِيلٍ وَهُمْ شَرُّ بَيْتٍ في العمل، فَفَرِّقْهُمْ فِي الْعَمَلِ عَلَى قَدْرِ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْنَا، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا نَفَاهُمْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ يَقُولُ: كَانَ الْحَجَّاجُ يَنْقُضُ عُرَى الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ حِكَايَةً. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ: لَمْ يُبْقِ للَّه حُرْمَةً إِلَّا ارْتَكَبَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ: اخْتَلَفُوا فِي الْحَجَّاجِ فَسَأَلُوا مُجَاهِدًا فَقَالَ: تسألون عَنِ الشَّيْخِ الْكَافِرِ.(9/136)
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْحَجَّاجُ مُؤْمِنٌ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، كَافِرٌ باللَّه الْعَظِيمِ.
كَذَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ معمر عن ابن طاووس عَنْ أَبِيهِ قَالَ: عَجَبًا لِإِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُسَمُّونَ الْحَجَّاجَ مُؤْمِنًا؟! وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابن عوف: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُسْأَلُ عَنِ الْحَجَّاجِ أَتَشْهَدُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ أَتَأْمُرُونِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى [1] اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ منصور:
سألت إبراهيم عن الْحَجَّاجِ أَوْ بَعْضِ الْجَبَابِرَةِ فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يقول أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ 11: 18 وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَفَى بِالرَّجُلِ عَمًى أَنْ يَعْمَى عَنْ أَمْرِ الْحَجَّاجِ. وَقَالَ سَلَامُ بْنُ أبى مطيع لأنا بالحجاج أَرْجَى مِنِّي لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، لَأَنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَ النَّاسَ عَلَى الدُّنْيَا، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ أحدث للناس بدعة شنعاء، قتل الناس بعضهم بعضا، وقال الزبير: سَبَبْتُ الْحَجَّاجَ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي وَائِلٍ فَقَالَ:
لَا تَسُبُّهُ لَعَلَّهُ قَالَ يَوْمًا اللَّهمّ ارْحَمْنِي فَيَرْحَمُهُ، إِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ مَنْ يَقُولُ أَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ. وَقَالَ عَوْفٌ:
ذُكِرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: مِسْكِينٌ أَبُو مُحَمَّدٍ، إِنْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَبِذَنْبِهِ، وَإِنْ يَغْفِرْ لَهُ فَهَنِيئًا لَهُ، وَإِنْ يَلْقَ اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فهو خير منا، وقد أَصَابَ الذُّنُوبَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.
فَقِيلَ له ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم الله تعالى منه الحياء والايمان، وأن يعلم أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
وَقَالَ أَبُو قَاسِمٍ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أتشهد على الحجاج وعلى أبى مسلم الخراساني أنهما في النار؟ قال: لا! إن أَقَرَّا بِالتَّوْحِيدِ. وَقَالَ الرِّيَاشِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْأَزْرَقُ عَنِ السِّرِّيِّ بْنِ يَحْيَى قَالَ: مَرَّ الْحَجَّاجُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ فَسَمِعَ اسْتِغَاثَةً فَقَالَ: مَا هذا؟
فقيل أَهْلُ السُّجُونِ يَقُولُونَ قَتَلَنَا الْحَرُّ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونَ. قَالَ: فَمَا عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ جُمُعَةٍ حتى قصمه الله قاصم كل جبار. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَأْتِي الْجُمُعَةَ وَقَدْ كَادَ يَهْلِكُ مِنَ الْعِلَّةِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَمَّا مَرِضَ الْحَجَّاجُ أَرْجَفَ النَّاسُ بِمَوْتِهِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ فَقَالُوا: مَاتَ الْحَجَّاجُ، وَمَاتَ الحجاج فمه؟! فهل يَرْجُو الْحَجَّاجُ الْخَيْرَ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَاللَّهُ مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا أَمُوتَ وَأَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَمَا رَأَيْتُ اللَّهَ رَضِيَ التَّخْلِيدَ إِلَّا لِأَهْوَنِ خَلْقِهِ عَلَيْهِ إِبْلِيسَ، قَالَ الله له إِنَّكَ من الْمُنْظَرِينَ 7: 15 فَأَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَلَقَدْ دَعَا اللَّهُ العبد الصالح فقال هَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي 38: 35 فأعطاه الله ذلك إلا البقاء، ولقد طلب العبد الصالح الموت بعد أن تم له أمره، فقال تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ 12: 101 فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، كَأَنِّي وَاللَّهِ بِكُلِّ حَيٍّ مِنْكُمْ مَيِّتًا، وَبِكُلِّ رَطْبٍ يَابِسًا، ثُمَّ نُقِلَ فِي أثياب أكفانه ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ طُولًا فِي ذِرَاعٍ عَرْضًا، فَأَكَلَتِ الأرض لحمه، ومصت صديده،
__________
[1] كذا بالأصول.(9/137)
وانصرف الخبيث من ولده يقسم الخبيث مِنْ مَالِهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ يَعْقِلُونَ مَا أَقُولُ، ثُمَّ نَزَلَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ:
مَا حَسَدْتُ الْحَجَّاجَ عَدُوَّ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ حَسَدِي إِيَّاهُ عَلَى حُبِّهِ الْقُرْآنَ وَإِعْطَائِهِ أَهْلَهُ عليه، وَقَوْلِهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: اللَّهمّ اغْفِرْ لِي فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ حَدَّثَنَا عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ. قَالَ:
كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُبْغِضُ الْحَجَّاجَ فَنَفَسَ عَلَيْهِ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا عند الموت: اللَّهمّ اغفر لي فإنهم يزعمون أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ قِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ عند الموت كذا وكذا، قال: قالها؟ قالوا: نعم! قال فما عسى. وقال أبو العباس المري عَنِ الرِّيَاشِيِّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتِ الْحَجَّاجَ الْوَفَاةُ أَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الْأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا ... بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ وَيْحَهُمُ ... مَا عِلْمُهُمْ بِعَظِيمِ الْعَفْوِ غَفَّارِ
قَالَ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ فقال: باللَّه إن نجا لينجون بهما. وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ: -
إِنَّ الْمَوَالِيَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدُهُمْ ... فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ أَبْرَارِ
وَأَنْتَ يَا خَالِقِي أَوْلَى بِذَا كَرَمًا ... قَدْ شِبْتُ فِي الرِّقِّ فَاعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ لَمْ يعلم أحد بِمَوْتِهِ حَتَّى أَشْرَفَتْ جَارِيَةٌ فَبَكَتْ فَقَالَتْ: أَلَا إن مطعم الطعام، وميتم الأيتام، ومرمل النساء، وَمُفَلِّقَ الْهَامِ، وَسَيِّدَ أَهْلِ الشَّامِ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: -
الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يبغضنا ... وَالْيَوْمَ يَأْمَنُنَا مَنْ كَانَ يَخْشَانَا
وَرَوَى عَبْدُ الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ مِرَارًا فَلَمَّا تَحَقَّقَ وَفَاتَهُ قَالَ: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للَّه رب العالمين) وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْحَسَنَ لَمَّا بُشِّرَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ سَجَدَ شُكْرًا للَّه تَعَالَى، وَكَانَ مُخْتَفِيًا فَظَهَرَ، وَقَالَ اللَّهمّ أَمَتَّهُ فَأَذْهِبْ عَنَّا سُنَّتَهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: لَمَّا أَخْبَرْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ بَكَى مِنَ الْفَرَحِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ ثَنَا صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قَالَ زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ بن الحارث لِأَهْلِ السِّجْنِ يَمُوتُ الْحَجَّاجُ فِي مَرَضِهِ هَذَا فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَمْ يَنَمْ أَهْلُ السِّجْنِ فَرَحًا، جَلَسُوا ينظرون حتى يسمعوا الناعية، وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، لِأَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ عَامَ الْجَمَاعَةِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ بعدها بسنة، وقيل قبلها بسنة، مات بواسط(9/138)
وَعُفِيَ قَبْرُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لِكَيْلَا يُنْبَشَ وَيُحْرَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَا كَانَ أعجب حال الْحَجَّاجَ، مَا تَرَكَ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عبيد حدثني عبد الرحمن بن عبيد الله بن فرق: ثنا عمى قال: زعموا أن الحجاج لما مات لم يَتْرُكْ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَمُصْحَفًا وَسَيْفًا وَسَرْجًا وَرَحْلًا وَمِائَةَ دِرْعٍ مَوْقُوفَةٍ. وَقَالَ شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي يَزِيدُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فَقَالَ: حَدِّثْنِي بوصية الحجاج ابن يوسف، فقال: اعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: حَدِّثْنِي بِهَا، فَقُلْتُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ إِلَّا طَاعَةَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الملك، عليها يحيى، وَعَلَيْهَا يَمُوتُ، وَعَلَيْهَا يُبْعَثُ، وَأَوْصَى بِتِسْعِمِائَةِ دِرْعٍ حَدِيدٍ، سِتِّمِائَةٍ مِنْهَا لِمُنَافِقِي أَهْلِ الْعِرَاقِ يَغْزُونَ بِهَا، وَثَلَاثِمِائَةٍ لِلتُّرْكِ. قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو جَعْفَرٍ رَأْسَهُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ الطُّوسِيِّ- وَكَانَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ- فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ الشِّيعَةُ لَا شِيعَتُكُمْ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَجَّاجَ فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: قَتَلَنِي بِكُلِّ قَتْلَةٍ قَتَلْتُ بِهَا إنسانا، قال: ثم رأيته بعد الحول ففلت: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ أَمَا سَأَلْتَ عَنْ هَذَا عَامَ أَوَّلَ؟ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ: كُنْتُ عِنْدَ الرَّشِيدِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَأَيْتُ الْحَجَّاجَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ، قَالَ: فِي أَيِّ زِيٍّ رَأَيْتَهُ؟ قال: في زي قبيح.
فقلت: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: مَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ! فَقَالَ هَارُونُ: صدق وَاللَّهِ، أَنْتَ رَأَيْتَ الْحَجَّاجَ حَقًّا، مَا كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ لِيَدَعَ صَرَامَتَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ ثنا ضمرة بن أبى شوذب عن أشعث الخراز. قَالَ: رَأَيْتُ الْحَجَّاجَ فِي الْمَنَامِ فِي حَالَةٍ سَيِّئَةٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: مَا قَتَلْتُ أَحَدًا قِتْلَةً إلا قتلني بها. قَالَ ثُمَّ أَمَرَ بِي إِلَى النَّارِ، قُلْتُ ثُمَّ مَهْ، قَالَ ثُمَّ أَرْجُو مَا يَرْجُو أَهْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَيُخْلِفَنَّ اللَّهُ رَجَاءَهُ فِيهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ:
سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا إِلَّا ذَكَرَ فِيهِ الْحَجَّاجَ فَدَعَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَرَآهُ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْحَجَّاجُ؟ قَالَ: أَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ:
قُتِلْتُ بِكُلِّ قَتِيلٍ قَتَلْتُهُ ثُمَّ عُزِلْتُ مَعَ الْمُوَحِّدِينَ. قَالَ: فَأَمْسَكَ الْحَسَنُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ شَتْمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عثمان أنبأ ابن المبارك أنبأنا سفيان. قال: قدم الحجاج على عبد الملك بن مروان وافدا ومعه معاوية بن قرة، فسأل عبد الملك معاوية عن الحجاج فقال: إن صدقنا كم قتلتمونا، وإن كذبناكم خشينا الله عز وجل، فنظر إليه الحجاج فقال له عبد الملك: لا تعرض له، فنفاه إلى السند فكان له بها مواقف] [1] .
__________
[1] سقط من نسخة الأستانة.(9/139)
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ
[قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا جِنَازَةً أَوْ سَمِعْنَا بِمَيِّتٍ عُرِفَ ذَلِكَ فِينَا أَيَّامًا، لِأَنَّا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ صَيَّرَهُ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّكُمْ تتحدثون في جنائزكم بِأَحَادِيثَ دُنْيَاكُمْ. وَقَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ رَأْيٌ إِلَّا بروية، ولا روية إِلَّا بِرَأْيٍ. وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَهَاوَنُ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَاغْسِلْ يَدَيْكَ مِنْ فَلَاحِهِ. وَقَالَ: إني لأرى الشيء مما يعاب مِمَّا يُعَابُ فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ عَيْبِهِ إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ أُبْتَلَى بِهِ. وَبَكَى عِنْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: انْتِظَارُ مَلَكِ الْمَوْتِ، مَا أَدْرِي يُبَشِّرُنِي بِجَنَّةٍ أَوْ بِنَارٍ] [1] .
الحسن بن محمد بن الْحَنَفِيَّةِ
كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، كَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى إخوته، وكان عالما فقيها عارفا بالاختلاف والفقه، قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ، وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً ثُمَّ نَدِمَ عَلَيْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَلَا يَتَوَلَّاهُمْ وَلَا يَذُمُّهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَبَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَرَبَهُ فَشَجَّهُ وَقَالَ: وَيْحَكَ أَلَا تَتَوَلَّى أَبَاكَ عَلِيًّا؟ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَقَالَ خَلِيفَةُ: تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ
وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهِيَ أُخْتُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِأُمِّهِ، وَكَانَ حُمَيْدٌ فَقِيهًا نَبِيلًا عَالِمًا، لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ.
مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ
تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَهُمْ تَرَاجِمُ فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ. وَفِيهَا كَانَ مَوْتُ الْحَجَّاجِ بِوَاسِطٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا مُسْتَقْصًى وللَّه الْحَمْدُ. وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدَائِنِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دخلت سنة ست وتسعين
وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَاشْغَرَ مِنْ أَرْضِ الصِّينِ وَبَعَثَ إِلَى مَلِكِ الصِّينِ رُسُلًا يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ وَيُقْسِمُ باللَّه لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَطَأَ بِلَادَهُ وَيَخْتِمَ مُلُوكَهُمْ وَأَشْرَافَهُمْ، وَيَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الإسلام. فدخل الرسل على الملك الأعظم فيهم، وَهُوَ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ، يُقَالُ إِنَّ عَلَيْهَا تِسْعِينَ بَابًا فِي سُورِهَا الْمُحِيطِ بِهَا، يُقَالُ لَهَا خَانُ بَالِقَ، مِنْ أَعْظَمِ الْمُدُنِ وَأَكْثَرِهَا رَيْعًا وَمُعَامَلَاتٍ وَأَمْوَالًا، حَتَّى قِيلَ إِنَّ بِلَادَ الْهِنْدِ مَعَ اتِّسَاعِهَا كَالشَّامَةِ فِي مُلْكِ الصِّينِ، والصين لا يحتاجون إلى أن
__________
[1] سقط من نسخة الأستانة.(9/140)
يُسَافِرُوا فِي مُلْكِ غَيْرِهِمْ لِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمْ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ وَالدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ، وَسَائِرُ مُلُوكِ تِلْكَ الْبِلَادِ تُؤَدِّي إِلَى مَلِكِ الصِّينَ الْخَرَاجَ، لِقَهْرِهِ وَكَثْرَةِ جُنْدِهِ وَعُدَدِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى ملك الصين وجدوا مملكة عظمة حَصِينَةً [ذَاتَ أَنْهَارٍ وَأَسْوَاقٍ وَحُسْنٍ وَبَهَاءٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي قَلْعَةٍ عَظِيمَةٍ حَصِينَةٍ] [1] بِقَدْرِ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ، فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُ الصِّينِ: مَا أَنْتُمْ؟
- وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَسُولٍ عَلَيْهِمْ هُبَيْرَةُ- فَقَالَ الْمَلِكُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ وَمَا تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا:
نَحْنُ رُسُلُ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ يَدْعُوكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالْحَرْبُ.
فَغَضِبَ الْمَلِكُ وَأَمَرَ بِهِمْ إِلَى دَارٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَكُونُونَ فِي عِبَادَةِ إِلَهِكُمْ؟ فَصَلَّوُا الصَّلَاةَ عَلَى عَادَتِهِمْ فَلَمَّا رَكَعُوا وَسَجَدُوا ضَحِكَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: كَيْفَ تَكُونُونَ فِي بُيُوتِكُمْ؟ فَلَبِسُوا ثِيَابَ مِهَنِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: كَيْفَ تَدْخُلُونَ عَلَى مُلُوكِكُمْ؟ فَلَبِسُوا الْوَشْيَ وَالْعَمَائِمَ وَالْمَطَارِفَ وَدَخَلُوا عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا فَرَجَعُوا، فَقَالَ الْمَلِكُ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ أَشْبَهُ بِهَيْئَةِ الرِّجَالِ مِنْ تِلْكَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَهُمْ أُولَئِكَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ: أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ كَيْفَ تَلْقَوْنَ عَدُوَّكُمْ؟ فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ سِلَاحَهُمْ وَلَبِسُوا الْمَغَافِرَ وَالْبَيْضَ وَتَقَلَّدُوا السُّيُوفَ ونكبوا الْقِسِيَّ وَأَخَذُوا الرِّمَاحَ وَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ وَمَضَوْا، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ الصِّينِ فَرَأَى أَمْثَالَ الْجِبَالِ مُقْبِلَةً، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ رَكَزُوا رِمَاحَهُمْ ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ مُشَمِّرِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ: ارْجِعُوا- وَذَلِكَ لِمَا دَخَلَ قُلُوبَ أَهْلِ الصِّينِ مِنَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ- فَانْصَرَفُوا فَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ وَاخْتَلَجُوا رِمَاحَهُمْ ثُمَّ سَاقُوا خُيُولَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَطَارَدُونَ بِهَا، فَقَالَ الْمَلِكُ لِأَصْحَابِهِ: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا كهؤلاء قَطُّ. فَلَمَّا أَمْسَوْا بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ زَعِيمَكُمْ وَأَفْضَلَكُمْ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ: قَدْ رَأَيْتُمْ عِظَمَ مُلْكِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَمْنَعُكُمْ مِنِّي، وَأَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ فِي كَفِّي، وَأَنَا سَائِلُكُ عن أمر فان تصدقني وإلا قَتَلْتُكَ، فَقَالَ: سَلْ! فَقَالَ الْمَلِكُ: لِمَ صَنَعْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ مِنْ زِيٍّ أَوَّلَ يَوْمٍ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ؟ فَقَالَ: أَمَّا زِيُّنَا أَوَّلَ يَوْمٍ فَهُوَ لِبَاسُنَا فِي أَهْلِنَا وَنِسَائِنَا وَطِيبُنَا عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا مَا فَعَلْنَا ثَانِيَ يَوْمٍ فَهُوَ زِيُّنَا إِذَا دَخَلْنَا عَلَى مُلُوكِنَا، وَأَمَّا زِيُّنَا ثَالِثَ يَوْمٍ فَهُوَ إِذَا لَقِينَا عَدُوَّنَا.
فَقَالَ الْمَلِكُ: مَا أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إِلَى صَاحِبِكُمْ- يَعْنِي قُتَيْبَةَ- وَقُولُوا لَهُ يَنْصَرِفُ رَاجِعًا عَنْ بِلَادِي، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حِرْصَهُ وَقِلَّةَ أَصْحَابِهِ، وَإِلَّا بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ مَنْ يُهْلِكُكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ.
فَقَالَ لَهُ هُبَيْرَةُ: تَقُولُ لِقُتَيْبَةَ هَذَا؟! فَكَيْفَ يَكُونُ قَلِيلَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَوَّلُ خَيْلِهِ فِي بِلَادِكَ وَآخِرُهَا فِي مَنَابِتِ الزَّيْتُونِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ حَرِيصًا مَنْ خَلَّفَ الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَيْهَا، وَغَزَاكَ فِي بِلَادِكَ؟ وَأَمَّا تَخْوِيفُكَ إِيَّانَا بِالْقَتْلِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا أَجَلًا إِذَا حَضَرَ فَأَكْرَمُهَا عِنْدَنَا الْقَتْلُ، فَلَسْنَا نَكْرَهُهُ وَلَا نخافه.
__________
[1] سقط من نسخة الأستانة.(9/141)
فَقَالَ الْمَلِكُ: فَمَا الَّذِي يُرْضِي صَاحِبَكُمْ؟ فَقَالَ: قَدْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَطَأَ أَرْضَكَ وَيَخْتِمَ مُلُوكَكَ وَيَجْبِيَ الْجِزْيَةَ مِنْ بِلَادِكَ، فقال أَنَا أَبِرُّ يَمِينَهُ وَأُخْرِجُهُ مِنْهَا، أُرْسِلُ إِلَيْهِ بِتُرَابٍ مِنْ أَرْضِي، وَأَرْبَعِ غِلْمَانٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَأُرْسِلُ إِلَيْهِ ذَهَبًا كَثِيرًا وَحَرِيرًا وَثِيَابًا صينية لا تقوّم ولا يدرى قَدْرَهَا، ثُمَّ جَرَتْ لَهُمْ مَعَهُ مُقَاوَلَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ بَعَثَ صِحَافًا مَنْ ذَهَبٍ مُتَّسِعَةً فِيهَا تُرَابٌ مِنْ أَرْضِهِ ليطأه قتيبة، وبعث بجماعة من أولاده وأولاده الْمُلُوكِ لِيَخْتِمَ رِقَابَهُمْ، وَبَعَثَ بِمَالٍ جَزِيلٍ لِيَبِرَّ بِيَمِينِ قُتَيْبَةَ، وَقِيلَ إِنَّهُ بَعَثَ أَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ الْمُلُوكِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قُتَيْبَةَ مَا أَرْسَلَهُ مَلِكُ الصِّينِ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ انْتَهَى إِلَيْهِ خَبَرُ مَوْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَانْكَسَرَتْ هِمَّتُهُ لِذَلِكَ، وَقَدْ عَزَمَ قُتَيْبَةُ بْنُ مسلم الباهلي على ترك مُبَايَعَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَرَادَ الدَّعْوَةَ إِلَى نَفْسِهِ. لِمَا تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَلِمَا فَتَحَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَا كُسِرَتْ لَهُ رَايَةٌ، وَكَانَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ. وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ، وَغَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الرُّومَ، فَفَتَحَ طُولَسَ وَالْمَرْزُبَانَيْنِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ.
وَفِيهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِدِمَشْقَ عَلَى يَدِ بَانِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الملك بن مروان رحمه الله تعالى وجزاه خيرا، وَكَانَ أَصْلُ مَوْضِعِ هَذَا الْجَامِعِ قَدِيمًا مَعْبَدًا بنته اليونان الكلدانيون الذين كانوا بعمرون دِمَشْقَ، وَهُمُ الَّذِينَ وَضَعُوهَا وَعَمَرُوهَا أَوَّلًا، فَهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا، وَقَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السبعة المتميزة، وَهِيَ الْقَمَرُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَعُطَارِدُ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمِرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي فِي السادسة، وزحل في السابعة. وقد كانوا صَوَّرُوا عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ هَيْكَلًا لِكَوْكَبٍ مِنْ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَكَانَتْ أَبْوَابُ دِمَشْقَ سَبْعَةً وَضَعُوهَا قَصْدًا لِذَلِكَ، فَنَصَبُوا هَيَاكِلَ سَبْعَةً لِكُلِّ كَوْكَبٍ هَيْكَلٌ، وَكَانَ لَهُمْ عِنْدَ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ عِيدٌ فِي السَّنَةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ وَضَعُوا الْأَرْصَادَ وَتَكَلَّمُوا عَلَى حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالَاتِهَا وَمُقَارَنَتِهَا، وَبَنَوْا دِمَشْقَ وَاخْتَارُوا لَهَا هَذِهِ الْبُقْعَةَ إِلَى جَانِبِ الْمَاءِ الْوَارِدِ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ، وَصَرَّفُوهُ أَنْهَارًا تَجْرِي إِلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ وَالْمُنْخَفِضَةِ، وَسَلَكُوا الْمَاءَ فِي أَفْنَاءِ أَبْنِيَةِ الدُّورِ بِدِمَشْقَ، فَكَانَتْ دِمَشْقُ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ أَحْسَنِ الْمُدُنِ، بَلْ هِيَ أَحْسَنُهَا، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّصَارِيفِ الْعَجِيبَةِ، وبنوا هذا المعبد وهو الجامع اليوم في جِهَةِ الْقُطْبِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ، وكانت محاريبهم إلى جهته، وَكَانَ بَابُ مَعْبَدِهِمْ يُفْتَحُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، خَلْفَ الْمِحْرَابِ الْيَوْمَ، كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ عِيَانًا، وَرَأَيْنَا مَحَارِيبَهُمْ إِلَى جِهَةِ الْقُطْبِ، وَرَأَيْنَا الْبَابَ وَهُوَ بَابٌ حَسَنٌ مَبْنِيٌّ بِحِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَعَلَيْهِ كِتَابٌ بِخَطِّهِمْ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ بَابَانِ صَغِيرَانِ بالنسبة(9/142)
إِلَيْهِ، وَكَانَ غَرْبِيَّ الْمَعْبَدِ قَصْرٌ مُنِيفٌ جِدًّا تَحْمِلُهُ هَذِهِ الْأَعْمِدَةُ الَّتِي بِبَابِ الْبَرِيدِ، وَشَرْقِيَّ الْمَعْبَدِ قَصْرُ جَيْرُونَ الْمَلِكِ، الَّذِي كَانَ مَلِكَهُمْ، وَكَانَ هُنَاكَ دَارَانِ عَظِيمَتَانِ مُعَدَّتَانِ لِمَنْ يَتَمَلَّكُ دِمَشْقَ قَدِيمًا مِنْهُمْ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مَعَ الْمَعْبَدِ ثَلَاثُ دُورٍ عَظِيمَةٍ لِلْمُلُوكِ، وَيُحِيطُ بِهَذِهِ الدُّورِ وَالْمَعْبَدِ سُورٌ وَاحِدٌ عَالٍ مُنِيفٌ، بِحِجَارَةٍ كِبَارٍ مَنْحُوتَةٍ، وَهُنَّ دَارُ الْمُطْبِقِ، وَدَارُ الْخَيْلِ، وَدَارٌ كَانَتْ تَكُونُ مَكَانَ الْخَضْرَاءِ الَّتِي بَنَاهَا معاوية.
قال ابْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ كُتُبِ بَعْضِ الأوائل: إن اليونان مَكَثُوا يَأْخُذُونَ الطَّالِعَ لِبِنَاءِ دِمَشْقَ وَهَذِهِ الْأَمَاكِنَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ حَفَرُوا أَسَاسَ الْجُدْرَانِ حتى وأتاهم الْوَقْتُ الَّذِي طَلَعَ فِيهِ الْكَوْكَبَانِ اللَّذَانِ أَرَادُوا أن هذا المعبد لَا يَخْرُبُ أَبَدًا وَلَا تَخْلُو مِنْهُ الْعِبَادَةُ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ إِذَا بُنِيَتْ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ دَارَ الْمَلِكِ وَالسَّلْطَنَةِ. قُلْتُ: أَمَّا الْمَعْبَدُ فَلَمْ يَخْلُ مِنَ الْعِبَادَةِ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَا يَخْلُو مِنْهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَأَمَّا دَارُ الْمَلِكِ الَّتِي هِيَ الْخَضْرَاءُ فَقَدْ جَدَّدَ بِنَاءَهَا مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، فَبَادَتْ وَصَارَتْ مَسَاكِنَ ضُعَفَاءِ النَّاسِ وَأَرَاذِلِهِمْ فِي الْغَالِبِ إلى زماننا هذا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْيُونَانَ اسْتَمَرُّوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَّرْنَاهَا بِدِمَشْقَ مُدَدًا طَوِيلَةً، تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى جُدْرَانَ هَذَا الْمَعْبَدِ الْأَرْبَعَةَ هُودٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ كَانَ هُودٌ قبل إبراهيم الخليل بمدد طويلة، وقد ورد إبراهيم الخليل دمشق ونزل شمالها عِنْدَ بَرْزَةَ، وَقَاتَلَ هُنَاكَ قَوْمًا مِنْ أَعْدَائِهِ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مَقَامُهُ لِمُقَاتَلَتِهِمْ عِنْدَ بَرْزَةَ، فَهَذَا الْمَكَانُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ بِهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، يَأْثِرُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَإِلَى زَمَانِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ دِمَشْقُ إِذْ ذَاكَ عَامِرَةً آهِلَةً بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْيُونَانِ، وَكَانُوا خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ خُصَمَاءُ الْخَلِيلِ، وَقَدْ نَاظَرَهُمْ الْخَلِيلُ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ وَغَيْرَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ، وفي قصة الخليل مِنْ كِتَابِنَا هَذَا «الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ» وللَّه الْحَمْدُ وباللَّه الْمُسْتَعَانُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْيُونَانَ لَمْ يَزَالُوا يَعْمُرُونَ دِمَشْقَ وَيَبْنُونَ فِيهَا وَفِي مُعَامَلَاتِهَا مِنْ أَرْضِ حَوْرَانَ وَالْبِقَاعِ وَبَعْلَبَكَّ وَغَيْرِهَا، الْبِنَايَاتِ الْهَائِلَةَ الْغَرِيبَةَ الْعَجِيبَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِمُدَّةٍ نَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ تَنَصَّرَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى يَدِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ، الّذي بنى المدينة المشهورة به ببلاد الروم وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَهُوَ الَّذِي وَضَعَ لَهُمُ الْقَوَانِينَ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا هُوَ وَقَوْمُهُ وَغَالِبُ أَهْلِ الأرض يونانا، ووضعت له بطاركته النَّصَارَى دِينًا مُخْتَرَعًا مُرَكَّبًا مِنْ أَصْلِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، مَمْزُوجًا بِشَيْءٍ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَصَلَّوْا بِهِ إِلَى الشَّرْقِ، وَزَادُوا فِي الصِّيَامِ، وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ، وَعَلَّمُوا أَوْلَادَهُمُ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خِيَانَةٌ كَبِيرَةٌ، وَجِنَايَةٌ كَثِيرَةٌ حَقِيرَةٌ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْحَجْمِ(9/143)
صغيرة. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ وَبَيَّنَّاهُ. فَبَنَى لَهُمْ هَذَا الْمَلِكُ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ الطائفة الملكية من النصارى، كنائس كبيرة فِي دِمَشْقَ وَفِي غَيْرِهَا، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ بنى اثنتي عَشْرَةَ أَلْفَ كَنِيسَةً، وَأُوقِفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا دَارَّةً، من ذلك كنيسة بيت لحم، وقمامة في القدس، بنتها أم هيلانة الغندقانية، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ- يَعْنِي النَّصَارَى- حَوَّلُوا بِنَاءَ هَذَا الْمَعْبَدِ الَّذِي هُوَ بِدِمَشْقَ مُعَظَّمًا عند اليونان فجعلوه كَنِيسَةُ يُوحَنَّا، وَبَنَوْا بِدِمَشْقَ كَنَائِسَ كَثِيرَةً غَيْرَهَا مستأنفة، واستمر النصارى على دينهم بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان من شأنه ما تقدم بَعْضَهُ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وقد بعث إِلَى مَلِكِ الرُّومِ فِي زَمَانِهِ- وَهُوَ قَيْصَرُ ذَلِكَ الْوَقْتِ- وَاسْمُهُ هِرَقْلُ يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ مِنْ مُرَاجَعَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ إِلَى أبى سفيان ما تقدم، ثم بعث أمراءه الثلاثة، زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رَوَاحَةَ، إِلَى الْبَلْقَاءِ مِنْ تُخُومِ الشَّامِ، فَبَعَثَ الروم إليهم جيشا كبيرا فَقَتَلُوا هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءَ وَجَمَاعَةً مِمَّنْ مَعَهُمْ مِنَ الْجَيْشِ، فَعَزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ الرُّومِ وَدُخُولِ الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ، ثم رجع عَامَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحَرِّ، وَضَعْفِ الْحَالِ، وَضِيقِهِ على الناس.
ثم لما توفى بعث الصديق الجيوش إلى الشَّامَ بِكَمَالِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ دِمَشْقَ بِأَعْمَالِهَا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ فَتْحِهَا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْيَدُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا وَأَنْزَلَ اللَّهُ رَحْمَتَهُ فِيهَا، وَسَاقَ بِرَّهُ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ أمير الحرب أبو عبيدة إذ ذاك، وَقِيلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، لِأَهْلِ دِمَشْقَ كِتَابَ أمان، أقروا أَيْدِيَ النَّصَارَى عَلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَنِيسَةً، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ نِصْفَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهَا كَنِيسَةَ مَرْيُحَنَّا، بِحُكْمِ أَنَّ الْبَلَدَ فَتَحَهُ خَالِدٌ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ بِالسَّيْفِ، وَأَخَذَتِ النَّصَارَى الْأَمَانَ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَكَانَ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ الصُّلْحُ، فَاخْتَلَفُوا ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا نِصْفَ الْبَلَدِ صُلْحًا وَنِصْفَهُ عَنْوَةً، فَأَخَذُوا نِصْفَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ الشَّرْقِيَّ فَجَعَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَسْجِدًا يصلى فيه المسلمون، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أبو عبيدة ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ فِي الْبُقْعَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِنْهُ، الَّتِي يُقَالُ لَهَا مِحْرَابُ الصَّحَابَةِ. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنِ الْجِدَارُ مَفْتُوحًا بِمِحْرَابٍ مَحْنِيٍّ، وَإِنَّمَا كَانُوا يصلون عنده هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلِيدَ هُوَ الّذي فتق المحاريب في الجدار القبلي [قلت: هذه المحاريب متجددة ليست من فتق الوليد، وإنما فتق الوليد محرابا واحدا، إن كان قد فعل، ولعله لم يفعل شيئا منها، فكان يصلى فيه الخليفة، وبقيتها فتقت قريبا، لكل إمام محراب، شافعيّ وحنفي ومالكي وحنبلي، وهؤلاء إنما حدثوا بعد الوليد بزمان] [1] وقد كره كثير من السلف مِثْلِ هَذِهِ الْمَحَارِيبِ، وَجَعَلُوهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى يَدْخُلُونَ هَذَا الْمَعْبَدَ مِنْ باب واحد،
__________
[1] زيادة من المصرية:(9/144)
وهو باب المعبد الأعلى مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، مَكَانَ الْمِحْرَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي فِي الْمَقْصُورَةِ الْيَوْمَ، فَيَنْصَرِفُ النَّصَارَى إِلَى جِهَةِ الْغَرْبِ إِلَى كَنِيسَتِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ يَمْنَةً إِلَى مَسْجِدِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ النَّصَارَى أَنْ يَجْهَرُوا بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِمْ، وَلَا يَضْرِبُوا بِنَاقُوسِهِمْ، إِجْلَالًا لِلصَّحَابَةِ وَمَهَابَةً وخوفا. وقد بنى معاوية فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ عَلَى الشَّامِ دَارَ الْإِمَارَةِ قِبْلِيَّ الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ لِلصَّحَابَةِ، وَبَنَى فِيهَا قُبَّةً خَضْرَاءً، فَعُرِفَتِ الدَّارُ بِكَمَالِهَا بِهَا، فَسَكَنَهَا مُعَاوِيَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا قَدَّمْنَا. ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ شَطْرَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، مِنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَقَدْ صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، فَعَزَمَ الْوَلِيدُ عَلَى أَخْذِ بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَإِضَافَتِهَا إِلَى مَا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَجَعْلِ الْجَمِيعِ مَسْجِدًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يَتَأَذَّى بِسَمَاعِ قِرَاءَةِ النَّصَارَى لِلْإِنْجِيلِ، وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي صَلَوَاتِهِمْ، فَأَحَبَّ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ الْمَكَانَ إِلَى هذا، فيصير كله معبدا للمسلمين، ويتسع المسجد لكثرة المسلمين، فعند ذلك طلب النَّصَارَى وَسَأَلَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لَهُ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ، وَيُعَوِّضَهُمْ إِقْطَاعَاتٍ كَثِيرَةً، وَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وأن يبقى بأيديهم أَرْبَعَ كَنَائِسَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَهْدِ، وَهِيَ كنيسة مريم، وكنيسة المصلبة داخل باب شرقى، وَكَنِيسَةُ تَلِّ الْجُبْنِ، وَكَنِيسَةُ حُمَيْدِ بْنِ دُرَّةَ التي بدرب الصقل، فأبوا ذلك أشد الاباء، فقال: ائتوني بعهودكم التي بأيديكم من زمن الصحابة، فأتوا بها فقرئت بِحَضْرَةِ الْوَلِيدِ، فَإِذَا كَنِيسَةُ تُومَا الَّتِي كَانَتْ خارج باب توما على حافة النَّهْرِ- لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَهْدِ، وَكَانَتْ فِيمَا يُقَالُ أَكْبَرَ مِنْ كَنِيسَةِ مَرْيُحَنَّا، فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَنَا أَهْدِمُهَا وَأَجْعَلُهَا مَسْجِدًا، فَقَالُوا: بَلْ يَتْرُكُهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا ذَكَرَ مِنَ الْكَنَائِسِ وَنَحْنُ نرضى ونطيب له نفسا ببقية هَذِهِ الْكَنِيسَةِ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى تِلْكَ الْكَنَائِسِ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ. هَذَا قَوْلٌ، وَيُقَالُ إِنَّ الْوَلِيدَ لَمَّا أَهَمَّهُ ذَلِكَ وَعَرَضَ مَا عَرَضَ عَلَى النَّصَارَى فَأَبَوْا مِنْ قَبُولِهِ، دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَأَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَقِيسَ من باب شرقى ومن باب الجابية، فوجدوا أن الكنيسة قد دخلت في العنوة وذلك أنهم قاسوا من باب شرقى ومن باب الجابية فوجدوا مُنْتَصَفَ ذَلِكَ عِنْدَ سُوقِ الرَّيْحَانِ تَقْرِيبًا، فَإِذَا الكنيسة قَدْ دَخَلَتْ فِي الْعَنْوَةِ، فَأَخَذَهَا. وَحُكِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ مَوْلَى الْوَلِيدِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْوَلِيدِ فوجدته مهموما فقلت: مالك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَهْمُومًا؟ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَدْ ضَاقَ بِهِمُ الْمَسْجِدُ، فَأَحْضَرْتُ النَّصَارَى وَبَذَلْتُ لَهُمُ الْأَمْوَالَ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ لِأُضِيفَهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَّسِعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَبَوْا، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي مَا يُزِيلُ هَمَّكَ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ:
الصَّحَابَةَ لَمَّا أَخَذُوا دِمَشْقَ دَخَلَ خَالِدُ بْنُ الوليد من الباب شرقى بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ الْبَلَدِ بِذَلِكَ فَزِعُوا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَفَتَحُوا لَهُ بَابَ الْجَابِيَةِ، فَدَخَلَ مِنْهُ أَبُو عبيدة(9/145)
بِالصُّلْحِ، فَنَحْنُ نُمَاسِحُهُمْ إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ بَلَغَ السَّيْفُ أَخَذْنَاهُ، وَمَا بِالصُّلْحِ تَرَكْنَاهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُو أَنْ تُدْخَلَ الْكَنِيسَةُ كُلُّهَا فِي الْعَنْوَةِ، فَتَدْخُلَ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ الْوَلِيدُ: فَرَّجْتَ عَنِّي، فَتَوَلَّ أَنْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ، فَتَوَلَّاهُ الْمُغِيرَةُ وَمَسَحَ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ إِلَى نَحْوِ بَابِ الْجَابِيَةِ إِلَى سُوقِ الرَّيْحَانِ فَوَجَدَ السَّيْفَ لَمْ يَزَلْ عَمَّالًا حتى جاوز القنطرة الكبيرة بأربع أَذْرُعٍ وَكَسْرٍ، فَدَخَلَتِ الْكَنِيسَةُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ إِلَى النَّصَارَى فَأَخْبَرَهُمْ وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْكَنِيسَةَ كُلَّهَا دَخَلَتْ فِي الْعَنْوَةِ فَهِيَ لَنَا دُونَكُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ أَوَّلًا دَفَعْتَ إِلَيْنَا الْأَمْوَالَ وَأَقْطَعْتَنَا الْإِقْطَاعَاتِ فَأَبَيْنَا، فَمِنْ إِحْسَانِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أن يصالحنا فيبقى لنا هذه الكنائس الأربع بِأَيْدِينَا، وَنَحْنُ نَتْرُكُ لَهُ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ، فصالحهم على إبقاء هذه الأربع الكنائس وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ إِنَّهُ عَوَّضَهُمْ مِنْهَا كَنِيسَةً عند حمام القاسم عند باب الفراديس داخله فَسَمَّوْهَا مَرْيُحَنَّا بِاسْمِ تِلْكَ الْكَنِيسَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا شَاهِدَهَا فَوَضَعُوهُ فَوْقَ الَّتِي أَخَذُوهَا بَدَلَهَا فاللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَمَرَ الْوَلِيدُ بِإِحْضَارِ آلات الهدم واجتمع إليه الأمراء والكبراء، وَجَاءَ إِلَيْهِ أَسَاقِفَةُ النَّصَارَى وَقَسَاوِسَتُهُمْ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ من يهدم هذه الكنيسة يجن، فقال الوليد:
أنا أحب أن أجن في الله، والله لَا يَهْدِمُ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا قَبْلِي، ثُمَّ صَعِدَ الْمَنَارَةَ الشَّرْقِيَّةَ ذَاتِ الْأَضَالِعِ الْمَعْرُوفَةِ بِالسَّاعَاتِ، وكانت صومعة هائلة فيها راهب عِنْدَهُمْ، فَأَمَرَهُ الْوَلِيدُ بِالنُّزُولِ مِنْهَا فَأَكْبَرَ الرَّاهِبُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ الْوَلِيدُ بِقَفَاهُ فَلَمْ يَزَلْ يَدْفَعُهُ حتى أنزله مِنْهَا، ثُمَّ صَعِدَ الْوَلِيدُ عَلَى أَعْلَى مَكَانٍ فِي الْكَنِيسَةِ فَوْقَ الْمَذْبَحِ الْأَكْبَرِ مِنْهَا، الَّذِي يُسَمُّونَهُ الشَّاهِدَ، وَهُوَ تِمْثَالٌ فِي أَعْلَى الْكَنِيسَةِ، فَقَالَ لَهُ الرُّهْبَانُ:
احْذَرِ الشَّاهِدَ، فَقَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَا أَضَعُ فَأْسِي فِي رَأْسِ الشَّاهِدِ، ثُمَّ كَبَّرَ وَضَرَبَهُ فَهَدَمَهُ، وَكَانَ عَلَى الْوَلِيدِ قباء أصفر لونه سَفَرْجَلِيٌّ قَدْ غَرَزَ أَذْيَالَهُ فِي الْمِنْطَقَةِ، ثُمَّ أخذ فأسا بيده فَضَرَبَ بِهَا فِي أَعْلَى حَجَرٍ فَأَلْقَاهُ، فَتَبَادَرَ الْأُمَرَاءُ إِلَى الْهَدْمِ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، وَصَرَخَتِ النَّصَارَى بِالْعَوِيلِ عَلَى دَرَجِ جَيْرُونَ، وَكَانُوا قَدِ اجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ أَمِيرَ الشُّرَطَةِ وهو أبو نائل رِيَاحٌ الْغَسَّانِيُّ، أَنْ يَضْرِبَهُمْ حَتَّى يَذْهَبُوا مِنْ هُنَالِكَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهَدَمَ الْوَلِيدُ وَالْأُمَرَاءُ جَمِيعَ ما جدده النصارى في تربيع هذا المعبد من المذابح والأبنية والحنايا، حتى بقي المكان صَرْحَةً مُرَبَّعَةً، ثُمَّ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ بِفِكْرَةٍ جَيِّدَةٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْحَسَنَةِ الْأَنِيقَةِ، الَّتِي لم يشتهر مثلها قبلها كما سنذكره.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْوَلِيدُ فِي بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصُّنَّاعِ وَالْمُهَنْدِسِينَ وَالْفَعَلَةِ، وَكَانَ الْمُسْتَحِثُّ عَلَى عِمَارَتِهِ أَخُوهُ وَوَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيُقَالُ إِنَّ الْوَلِيدَ بَعَثَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَطْلُبُ مِنْهُ صُنَّاعًا فِي الرُّخَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى عِمَارَةِ هَذَا الْمَسْجِدِ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَأَرْسَلَ يَتَوَعَّدُهُ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَيَغْزُوَنَّ بِلَادَهُ بِالْجُيُوشِ، وَلَيُخَرِّبَنَ كُلَّ كَنِيسَةٍ فِي بِلَادِهِ، حَتَّى(9/146)
كنيسة القدس، وهي قمامة، وَكَنِيسَةَ الرُّهَا، وَسَائِرَ آثَارِ الرُّومِ، فَبَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَيْهِ صُنَّاعًا كَثِيرَةً جِدًّا، مِائَتَيْ صَانِعٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنْ كَانَ أَبُوكَ فَهِمَ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُهُ وَتَرَكَهُ فَإِنَّهُ لَوَصْمَةٌ عَلَيْكَ، وإن لم يكن فهمه وفهمت أنت لوصمة عليه، فلما وصل ذلك إِلَى الْوَلِيدِ أَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ، واجتمع الناس عنده لذلك، فكان فِيهِمُ الْفَرَزْدَقُ الشَّاعِرُ، فَقَالَ: أَنَا أُجِيبُهُ يَا أمير المؤمنين من كتاب الله. قَالَ الْوَلِيدُ: وَمَا هُوَ وَيْحَكَ؟ فَقَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً 21: 79 وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ دَاوُدَ، فَفَهَّمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ أَبُوهُ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ فَأَرْسَلَ بِهِ جَوَابًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ. وَقَدْ قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي ذَلِكَ: -
فَرَّقْتَ بَيْنَ النَّصَارَى فِي كنائسهم ... والعابدين مع الأسحار والعنم
وَهُمْ جَمِيعًا إِذَا صَلَّوْا وَأَوْجُهُهُمْ ... شَتَّى إِذَا سَجَدُوا للَّه وَالصَّنَمِ
وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ النَّاقُوسُ يَضْرِبُهُ ... أَهْلُ الصَّلِيبِ مَعَ الْقُرَّاءِ لَمْ تَنَمِ
فُهِّمْتَ تَحْوِيلَهَا عَنْهُمْ كَمَا فَهِمَا ... إِذْ يَحْكُمَانِ لَهُمْ فِي الْحَرْثِ وَالْغَنَمِ
دَاوُدُ وَالْمَلِكُ الْمَهْدِيُّ إِذْ جزآ ... ولادها وَاجْتِزَازُ الصُّوفِ بِالْجَلَمِ
فَهَّمَكَ اللَّهُ تَحْوِيلًا لِبَيْعَتِهِمْ ... عَنْ مَسْجِدٍ فِيهِ يُتْلَى طَيِّبُ الْكَلِمِ
مَا مِنْ أَبٍ حَمَلَتْهُ الْأَرْضُ نَعْلَمُهُ ... خَيْرٌ بَنِينَ وَلَا خَيْرٌ مِنَ الْحَكَمِ
قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ الدِّمَشْقِيُّ: بَنَى الْوَلِيدُ مَا كَانَ دَاخِلَ حِيطَانِ الْمَسْجِدِ وَزَادَ فِي سَمْكِ الْحِيطَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ: إِنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي بَنَى الْحَائِطَ الْقِبْلِيَّ مِنْ مَسْجِدِ دِمَشْقَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا أَرَادَ الْوَلِيدُ بِنَاءَ الْقُبَّةِ الَّتِي وَسَطَ الرِّوَاقَاتِ- وَهِيَ قُبَّةُ النَّسْرِ وَهُوَ اسْمٌ حَادِثٌ لَهَا، وَكَأَنَّهُمْ شَبَّهُوهَا بِالنَّسْرِ فِي شَكْلِهِ، لِأَنَّ الرواقات عن يمينها وشمالها كالأجنحة لها- حفر لِأَرْكَانِهَا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْمَاءِ وَشَرِبُوا مِنْهُ مَاءً عَذْبًا زُلَالًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ وَضَعُوا فِيهِ زيادة الْكَرْمِ، وَبَنَوْا فَوْقَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْأَرْكَانُ بَنَوْا عَلَيْهَا الْقُبَّةَ فَسَقَطَتْ، فَقَالَ الْوَلِيدُ لِبَعْضِ الْمُهَنْدِسِينَ:
أُرِيدُ أَنْ تَبْنِيَ لِي أَنْتَ هَذِهِ الْقُبَّةَ، فَقَالَ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي عَهْدَ اللَّهِ وميثاقه على أَنْ لَا يَبْنِيَهَا أَحَدٌ غَيْرِي، فَفَعَلَ. فَبَنَى الْأَرْكَانَ ثُمَّ غَلَّفَهَا بِالْبَوَارِي، وَغَابَ عَنْهَا سَنَةً كَامِلَةً لَا يَدْرِي الْوَلِيدُ أَيْنَ ذَهَبَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ السَّنَةِ حَضَرَ، فَهَمَّ بِهِ الْوَلِيدُ فَأَخَذَهُ وَمَعَهُ رُءُوسُ النَّاسِ، فَكَشَفَ الْبَوَارِيَ عَنِ الْأَرْكَانِ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَبَطَتْ بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا حَتَّى سَاوَتِ الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ هَذَا أُتِيتَ، ثُمَّ بَنَاهَا فَانْعَقَدَتْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ الْوَلِيدُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْضَةَ الْقُبَّةِ مِنْ ذَهَبٍ خالص ليعظم بذلك شأن هذا البناء، فَقَالَ لَهُ الْمِعْمَارُ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَضَرَبَهُ خَمْسِينَ سَوْطًا، وَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ! أَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَتَزْعُمُ أَنِّي أَعْجَزُ عَنْهُ؟ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَأَمْوَالُهَا تُجْبَى إِلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنَا أُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ، قَالَ: فبين(9/147)
ذَلِكَ، قَالَ: اضْرِبْ لَبِنَةً وَاحِدَةً مِنَ الذَّهَبِ وَقِسْ عَلَيْهَا مَا تُرِيدُ هَذِهِ الْقُبَّةُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ فَأُحْضِرَ مِنَ الذَّهَبِ مَا ضرب منه لَبِنَةٌ فَإِذَا هِيَ قَدْ دَخَلَهَا أُلُوفٌ مِنَ الذَّهَبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا نُرِيدُ مثل هذه اللبنة كَذَا وَكَذَا أَلْفِ لَبِنَةً، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ عَمِلْنَاهُ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ صحة قوله أطلق له الوليد خمسين دينارا، وقال إني لا أعجز عما قلت، ولكن فيه إسراف وضياع مال في غير وجهه اللائق به، ولأن يكون ما أردنا من ذلك نفقة في سبيل الله، وردا على ضعفاء المسلمين خير من ذلك. ثُمَّ عَقَدَهَا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ الْمِعْمَارُ. وَلَمَّا سَقَفَ الْوَلِيدُ الْجَامِعَ جَعَلُوا سَقْفَهُ جَمَلُونَاتٍ، وَبَاطِنَهَا مُسَطَّحًا مُقَرْنَصًا بِالذَّهَبِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أهله: أتعبت الناس بعدك في طين أسطحتهم، لما يريد هذا المسجد في كل عام من الطين الكثير- يشير إلى أن التراب يغلو والفعلة تقل لأجل العمل في هَذَا الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ عَامٍ- فَأَمَرَ الْوَلِيدُ أَنْ يُجْمَعَ مَا فِي بِلَادِهِ مِنَ الرَّصَاصِ لِيَجْعَلَهُ عِوَضَ الطِّينِ، وَيَكُونَ أَخَفَّ عَلَى السُّقُوفِ. فَجَمَعَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الشَّامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ، فَعَازُوا فَإِذَا عِنْدَ امْرَأَةٍ مِنْهُ قناطير مقنطرة، فساوموها فيه، فقالت: لا أبيعه إِلَّا بِوَزْنِهِ فِضَّةً، فَكَتَبُوا إِلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: اشْتَرُوهُ مِنْهَا وَلَوْ بِوَزْنِهِ فِضَّةً، فَلَمَّا بَذَلُوا لها ذلك قالت: أما إذا قلتم ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ للَّه يَكُونُ فِي سَقْفِ هَذَا الْمَسْجِدِ، فَكَتَبُوا عَلَى أَلْوَاحِهَا بِطَابَعٍ «للَّه» وَيُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ إِسْرَائِيلِيَّةً، وَإِنَّهُ كُتِبَ عَلَى الْأَلْوَاحِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهَا: هَذَا مَا أَعْطَتْهُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ: سَمِعْتُ الْمَشَايِخَ يَقُولُونَ: مَا تَمَّ بِنَاءُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ إِلَّا بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، لَقَدْ كَانَ يَفْضُلُ عِنْدَ الرَّجُلِ من القوم أو الفعلة الفلس ورأس المسمار فيأتى به حَتَّى يَضَعَهُ فِي الْخِزَانَةِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الدَّمَاشِقَةِ: لَيْسَ فِي الْجَامِعِ مِنَ الرُّخَامِ شَيْءٌ إِلَّا الرُّخَامَتَانِ اللَّتَانِ فِي الْمَقَامِ مِنْ عَرْشِ بِلْقِيسَ وَالْبَاقِي كُلُّهُ مَرْمَرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اشْتَرَى الوليد الْعَمُودَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَحْتَ النَّسْرِ، مِنْ حَرْبِ ابن خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ. وَقَالَ دُحَيْمٌ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَرْخَمٍ، وَقَالَ أَبُو قُصَيٍّ عَنْ دُحَيْمٍ عَنِ الوليد ابن مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ الْأَنْصَارِيِّ: إِنَّهُمْ حَسَبُوا مَا أَنْفَقَهُ الْوَلِيدُ عَلَى الْكَرْمَةِ [1] الَّتِي في قبلي الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَقَالَ أَبُو قُصَيٍّ: أُنْفِقَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ أَرْبَعُمِائَةِ صندوق من الذهب، فِي كُلِّ صُنْدُوقٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي كُلِّ صُنْدُوقٍ ثَمَانِيَةً وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. قُلْتُ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ذَلِكَ
__________
[1] هي فسيفساء على هيئة الكرم مؤلفة من قطع صغيرة من الزجاج المربع مبطن بالذهب أو الألوان، وكان منها بقايا إلى أيام الحريق الأخير سنة 1310 هـ ويوجد قريب منها في قبة الملك الظاهر بدمشق إلى اليوم.(9/148)
خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَصْرُوفُ فِي عِمَارَةِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِائَتَيْ ألف دينار. وقيل إنه صرف أكثر من ذلك بكثير، والله أعلم.
قال أَبُو قُصَيٍّ: وَأَتَى الْحَرَسِيُّ إِلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَنْفَقَ أمير المؤمنين بيوت الأموال فِي غَيْرِ حَقِّهَا. فَنُودِيَ فِي النَّاسِ الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَصَعِدَ [الْوَلِيدُ] الْمِنْبَرَ وَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكُمْ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ أَنْفَقَ الْوَلِيدُ بُيُوتَ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مُهَاجِرٍ، قُمْ فَأَحْضِرْ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ، فَحُمِلَتْ عَلَى الْبِغَالِ إِلَى الْجَامِعِ، ثم بسط لها الأنطاع تحت قبة النسر، ثُمَّ أُفْرِغَ عَلَيْهَا الْمَالُ ذَهَبًا صَبِيبًا، وَفِضَّةً خَالِصَةً، حَتَّى صَارَتْ كُوَمًا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ إذا قام من الجانب الواحد لَا يَرَى الرَّجُلَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَهَذَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ جِيءَ بِالْقَبَّانِينَ فَوُزِنَتِ الْأَمْوَالُ فَإِذَا هِيَ تَكْفِي النَّاسَ ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً، وَفِي رِوَايَةٍ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً، لَوْ لم يدخل للناس شيء بالكلية، فقال لهم الوليد: والله ما أنفقت في عمارة هذا المسجد درهما من بيوت المال، وإنما هذا كله من مالي. ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عز وجل على ذلك، ودعوا للخليفة وانصرفوا شاكرين داعين. فقال لهم الوليد: يا أهل دمشق، والله ما أنفقت في بناء هذا المسجد شيئا من بيوت المال، وإنما هذا كله من مالي، لم أرزأكم من أموالكم شيئا، ثُمَّ قَالَ الْوَلِيدُ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، إِنَّكُمْ تَفْخَرُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ، بِهَوَائِكُمْ وَمَائِكُمْ وَفَاكِهَتِكُمْ وَحَمَّامَاتِكُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَزِيدَكُمْ خَامِسَةً وَهِيَ هَذَا الجامع. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فِي قِبْلَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ ثَلَاثُ صَفَائِحَ مُذَهَّبَةٍ بِلَازُورْدَ، فِي كُلٍّ مِنْهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوم. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، رَبُّنَا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَدِينُنَا الْإِسْلَامُ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَرَ بِبُنْيَانِ هَذَا الْمَسْجِدِ وَهَدْمِ الْكَنِيسَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدُ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَفِي صَفِيحَةٍ أُخْرَى رَابِعَةٍ مِنْ تِلْكَ الصَّفَائِحِ: الْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى آخر الفاتحة، ثم النازعات، ثم عبس، ثم إذا الشمس كورت، قَالُوا: ثُمَّ مُحِيَتْ بَعْدَ مَجِيءِ الْمَأْمُونِ إِلَى دِمَشْقَ. وَذَكَرُوا أَنَّ أَرْضَهُ كَانَتْ مُفَضَّضَةً كُلَّهَا، وَأَنَّ الرُّخَامَ كَانَ فِي جُدْرَانِهِ إِلَى قَامَاتٍ، وَفَوْقَ الرُّخَامِ كَرْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفَوْقَ الْكَرْمَةِ الْفُصُوصُ الْمُذَهَّبَةُ وَالْخُضْرُ وَالْحُمْرُ وَالزُّرْقُ وَالْبِيضُ، قَدْ صَوَّرُوا بِهَا سَائِرَ الْبُلْدَانِ الْمَشْهُورَةِ، الْكَعْبَةَ فَوْقَ الْمِحْرَابِ، وَسَائِرَ الْأَقَالِيمِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَصَوَّرُوا مَا فِي الْبُلْدَانِ مِنَ الْأَشْجَارِ الْحَسَنَةِ الْمُثْمِرَةِ وَالْمُزْهِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَقْفُهُ مُقَرْنَصٌ بِالذَّهَبِ، وَالسَّلَاسِلُ المعلقة فيها جَمِيعُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَنْوَارُ الشُّمُوعِ فِي أَمَاكِنِهِ مُفَرَّقَةٌ. قَالَ: وَكَانَ فِي مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ بَرْنِيَّةٌ حَجَرٌ مِنْ بَلُّورٍ، وَيُقَالُ بَلْ كَانَتْ حَجَرًا مِنْ جَوْهَرٍ وَهِيَ الدُّرَّةُ، وَكَانَتْ تُسَمَّى الْقَلِيلَةَ، وَكَانَتْ إِذَا طَفِئَتِ الْقَنَادِيلُ تُضِيءُ لِمَنْ هُنَاكَ بِنُورِهَا، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْأَمِينِ بْنِ الرَّشِيدِ- وَكَانَ يُحِبُّ الْبَلُّورَ وَقِيلَ(9/149)
الْجَوْهَرَ- بَعَثَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَإِلَى شُرَطَةِ دِمَشْقَ أن يبعث بها إليه، فسرقها الوالي خوفا من الناس وأرسلها إليه، فَلَمَّا وَلِيَ الْمَأْمُونُ رَدَّهَا إِلَى دِمَشْقَ لِيُشَنِّعَ بِذَلِكَ عَلَى الْأَمِينِ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: ثُمَّ ذَهَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَجُعِلَ مَكَانَهَا بَرْنِيَّةٌ مِنْ زُجَاجٍ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ تِلْكَ الْبَرْنِيَّةَ ثُمَّ انْكَسَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُجْعَلْ مَكَانَهَا شَيْءٌ، قَالُوا: وَكَانَتِ الْأَبْوَابُ الشَّارِعَةُ مِنْ دَاخِلِ الصَّحْنِ لَيْسَ عَلَيْهَا أَغْلَاقٌ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَيْهَا السُّتُورُ مُرْخَاةً، وَكَذَلِكَ السُّتُورُ عَلَى سَائِرِ جُدْرَانِهِ إِلَى حد الكومة الَّتِي فَوْقَهَا الْفُصُوصُ الْمُذَهَّبَةُ، وَرُءُوسُ الْأَعْمِدَةِ مَطْلِيَّةٌ بِالذَّهَبِ الْخَالِصِ الْكَثِيرِ، وَعَمِلُوا لَهُ شُرُفَاتٍ تُحِيطُ بِهِ، وَبَنَى الْوَلِيدُ الْمَنَارَةَ الشَّمَالِيَّةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مِئْذَنَةُ الْعَرُوسِ، فَأَمَّا الشَّرْقِيَّةُ وَالْغَرْبِيَّةُ فَكَانَتَا فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِدُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَقَدْ كَانَ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ هَذَا الْمَعْبَدِ صَوْمَعَةٌ شَاهِقَةٌ جِدًّا، بَنَتْهَا الْيُونَانُ لِلرَّصْدِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَقَطَتِ الشَّمَالِيَّتَانِ وَبَقِيَتِ الْقِبْلِيَّتَانِ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ أُحْرِقَ بَعْضُ الشَّرْقِيَّةِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَنُقِضَتْ وَجُدِّدَ بِنَاؤُهَا مِنْ أَمْوَالِ النَّصَارَى، حَيْثُ اتُّهِمُوا بِحَرِيقِهَا، فَقَامَتْ عَلَى أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ، بَيْضَاءَ بذاتها وهي والله أعلم الشرفة التي ينزل عليها عيسى بن مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ.
[قُلْتُ: ثُمَّ أُحْرِقَ أَعْلَى هَذِهِ الْمَنَارَةِ وَجُدِّدَتْ، وَكَانَ أَعْلَاهَا مِنْ خَشَبٍ فَبُنِيَتْ بِحِجَارَةٍ كُلُّهَا فِي آخِرِ السَّبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَصَارَتْ كُلُّهَا مَبْنِيَّةً بِالْحِجَارَةِ] [1] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَامِعَ الْأُمَوِيَّ لَمَّا كَمُلَ بِنَاؤُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَبْهَى ولا أجمل مِنْهُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ أو إلى جهة منه أو إلى بقعة أو مكان منه تحير فيها نظره لحسنه وجماله، وَلَا يَمَلُّ نَاظِرُهُ، بَلْ كُلَّمَا أَدْمَنَ النَّظَرَ بَانَتْ لَهُ أُعْجُوبَةٌ لَيْسَتْ كَالْأُخْرَى، وَكَانَتْ فِيهِ طِلَّسْمَاتٌ مِنْ أَيَّامِ الْيُونَانَ فَلَا يَدْخُلُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ شَيْءٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا مِنَ الْحَيَّاتِ وَلَا مِنَ الْعَقَارِبِ، وَلَا الْخَنَافِسِ وَلَا الْعَنَاكِيبِ، وَيُقَالُ وَلَا الْعَصَافِيرُ أَيْضًا تُعَشِّشُ فِيهِ، وَلَا الْحَمَامُ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الطِلَّسْمَاتِ أَوْ كُلُّهَا كَانَتْ مودعة في سقف هذا المعبد، مما يلي السبع، فأحرقت لما أحرق لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فِي دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ كَانَتْ بِدِمَشْقَ طِلَّسْمَاتٌ وَضَعَتْهَا الْيُونَانُ بَعْضُهَا بَاقٍ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَمِنْ ذَلِكَ الْعَمُودُ الَّذِي في رأسه مثل الكرة في سوق الشَّعِيرِ عِنْدَ قَنْطَرَةِ أُمِّ حَكِيمٍ، وَهَذَا الْمَكَانُ يعرف اليوم بالعلبيين، ذكر أهل دِمَشْقَ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْيُونَانِ لِعُسْرِ بَوْلِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا دَارُوا بِالْحَيَوَانِ حَوْلَ هَذَا الْعَمُودِ ثلاث دورات انطلق باطنه فبال، وذلك مجرب من عهد اليونان.
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/150)
[قال ابن تيمية عن هذا العمود: إن تحته مدفون جبار عنيد، كافر يعذب، فإذا داروا بالحيوان حوله سمع العذاب فراث وبال من الخوف، قال: ولهذا يذهبون بالدواب إلى قبور النصارى واليهود والكفار، فإذا سمعت أصوات المعذبين انطلق بولها. والعمود المشار إليه ليس له سر، ومن اعتقد أن فيه منفعة أو مضرة فقد أخطأ فاحشا. وقيل إن تحته كنزا وصاحبه عنده مدفون، وكان ممن يعتقد الرجعة إلى الدنيا كما قال تعالى وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا 45: 24 وَمَا نحن بمبعوثين والله سبحانه وتعالى أعلم] [1] .
وَمَا زَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَعْمَلُ فِي تَكْمِلَةِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مُدَّةَ وِلَايَتِهِ، وَجُدِّدَتْ لَهُ فِيهِ الْمَقْصُورَةُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَزَمَ عَلَى أن يجرده مما فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ، وَيَقْلَعُ السَّلَاسِلَ وَالرُّخَامَ وَالْفُسَيْفِسَاءَ، ويرد ذلك كله إلى بيت المال، ويجعل مكان ذلك كله طينا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ وَاجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ إِلَيْهِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ: أنا أكلمه لكم، فقال له: يا أمير المؤمنين بلغنا عنك كَذَا وَكَذَا، قَالَ: نَعَمْ! فَقَالَ خَالِدٌ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ يَا ابْنَ الْكَافِرَةِ؟ - وَكَانَتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً رُومِيَّةً أُمَّ وَلَدٍ- فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ كَافِرَةً فَقَدْ وَلَدَتْ رَجُلًا مُؤْمِنًا، فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَاسْتَحْيَا عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَلِمَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ غَالِبَ مَا فِيهِ مِنَ الرُّخَامِ إِنَّمَا حَمَلَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، وليس هو لبيت المال، فأطرق عمر. قَالُوا: وَاتَّفَقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قُدُومُ جَمَاعَةٍ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ رُسُلًا مِنْ عِنْدِ مَلِكِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ بَابِ الْبَرِيدِ وَانْتَهَوْا إِلَى الْبَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي تَحْتَ النَّسْرِ، وَرَأَوْا مَا بهر عقولهم من حسن الْجَامِعِ الْبَاهِرِ، وَالزَّخْرَفَةِ الَّتِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، صَعِقَ كَبِيرُهُمْ وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَبَقِيَ أَيَّامًا مُدْنِفًا، فَلَمَّا تَمَاثَلَ سَأَلُوهُ عَمَّا عَرَضَ لَهُ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَبْنِيَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ هَذَا الْبِنَاءِ، وَكُنْتُ أَعْتَقِدُ أَنَّ مُدَّتَهُمْ تَكُونُ أَقْصَرَ مِنْ هَذَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قال:
أو إن الغيظ أهلك الْكُفَّارِ، دَعُوهُ. وَسَأَلَتِ النَّصَارَى فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَعْقِدَ لَهُمْ مَجْلِسًا فِي شَأْنِ مَا كَانَ أَخَذَهُ الْوَلِيدُ مِنْهُمْ، وَكَانَ عُمَرُ عَادِلًا، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ أَخَذَهُ الْوَلِيدُ مِنْهُمْ فَأَدْخَلَهُ فِي الْجَامِعِ، ثُمَّ حَقَّقَ عُمَرُ الْقَضِيَّةَ، ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا الْكَنَائِسُ الَّتِي هِيَ خَارِجُ الْبَلَدِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُمُ الصَّحَابَةُ، مثل كنيسة دير مران بسفح قائسون، وهي بقرية المعظمية، وَكَنِيسَةِ الرَّاهِبِ، وَكَنِيسَةِ تُومَا خَارِجَ بَابِ تُومَا، وسائر الكنائس التي بقرى الحواجز، فحيرهم بَيْنَ رَدِّ مَا سَأَلُوهُ وَتَخْرِيبِ هَذِهِ الْكَنَائِسِ كُلِّهَا، أَوْ تَبْقَى تِلْكَ الْكَنَائِسُ وَيَطِيبُوا نَفْسًا لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ، فَاتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى إِبْقَاءِ تِلْكَ الْكَنَائِسِ، وَيَكْتُبُ لَهُمْ كتاب أمان بها،
__________
[1] زيادة من المصرية:(9/151)
وَيَطِيبُوا نَفْسًا بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ، فَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ أَمَانٍ بِهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَامِعَ الْأُمَوِيَّ كَانَ حِينَ تَكَامَلَ بِنَاؤُهُ لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا مثيل فِي حُسْنِهِ وَبَهْجَتِهِ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ: أَهْلُ دِمَشْقَ في بلادهم في قصر من قصور الجنة- يعنى الجامع- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ ثَوْبَانَ: مَا يَنْبَغِي لأحد من أهل الأرض أن يكون أَشَدَّ شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ حُسْنِ مَسْجِدِهَا. قَالُوا: وَلَمَّا دخل أمير المؤمنين المهدي دمشق يريد زيارة القدس نَظَرَ إِلَى جَامِعِ دِمَشْقَ فَقَالَ لِكَاتِبِهِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيِّ:
سَبَقَنَا بَنُو أُمَيَّةَ بِثَلَاثٍ، بهذا المسجد الّذي لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِثْلَهُ، وَبِنُبْلِ الموالي، وبعمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ، لَا يَكُونُ وَاللَّهِ فِينَا مِثْلُهُ أَبَدًا. ثُمَّ لَمَّا أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَنَظَرَ إِلَى الصَّخْرَةِ- وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ هُوَ الَّذِي بَنَاهَا- قَالَ لِكَاتِبِهِ: وَهَذِهِ رَابِعَةٌ. وَلَمَّا دَخَلَ الْمَأْمُونُ دِمَشْقَ فَنَظَرَ إِلَى جَامِعِهَا وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ الْمُعْتَصِمُ، وَقَاضِيهِ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، قَالَ: مَا أَعْجَبُ مَا فِيهِ؟ فَقَالَ أَخُوهُ: هَذِهِ الْأَذْهَابُ الَّتِي فِيهِ، وَقَالَ يَحْيَى بن أكثم: الرخام وهذه العقد، فقال المأمون: إني إِنَّمَا أَعْجَبُ مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ، ثُمَّ قَالَ الْمَأْمُونُ لِقَاسِمٍ التَّمَّارِ: أَخْبِرْنِي بِاسْمٍ حَسَنٍ أُسَمِّي بِهِ جَارِيَتِي هَذِهِ، فَقَالَ: سَمِّهَا مَسْجِدَ دِمَشْقَ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ. وقال عبد الرحمن عن ابن عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: عَجَائِبُ الدُّنْيَا خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا مَنَارَتُكُمْ هَذِهِ- يَعْنِي مَنَارَةَ ذِي القرنين بِإِسْكَنْدَرِيَّةَ- وَالثَّانِيَةُ أَصْحَابُ الرَّقِيمِ وَهْمُ بِالرُّومِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَالثَّالِثَةُ مِرْآةٌ بِبَابِ الْأَنْدَلُسِ عَلَى بَابِ مَدِينَتِهَا، يَجْلِسُ الرَّجُلُ تَحْتَهَا فَيَنْظُرُ فِيهَا صاحبه من مسافة مائة فرسخ. وقيل ينظر من بالقسطنطينية، وَالرَّابِعُ مَسْجِدُ دِمَشْقَ وَمَا يُوصَفُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عليه، والخامس الرخام والفسفساء، فإنه لا يدرى لها مَوْضِعٌ، وَيُقَالُ إِنَّ الرُّخَامَ مَعْجُونٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَذُوبُ عَلَى النَّارِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي اللَّيْثِ الْكَاتِبُ- وَكَانَ قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ- فِي رِسَالَةٍ لَهُ قَالَ: ثُمَّ أُمِرْنَا بِالِانْتِقَالِ فَانْتَقَلْتُ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ، وَوَافَقَ ظَاهِرَهُ بَاطِنُهُ، أَزِقَّتُهُ أَرِجَةٌ، وَشَوَارِعُهُ فَرِجَةٌ، فَحَيْثُ ما مشيت شَمَمْتَ طِيبًا، وَأَيْنَ سَعَيْتَ رَأَيْتَ مَنْظَرًا عَجِيبًا، وإن أفضيت إلى جامعه شاهدت مِنْهُ مَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَةِ الْوَاصِفِ أَنْ يَصِفَهُ، وَلَا الرَّائِي أَنْ يُعَرِّفَهُ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ كنز الدَّهْرِ وَنَادِرَةُ الْوَقْتِ، وَأُعْجُوبَةُ الزَّمَانِ، وَغَرِيبَةُ الْأَوْقَاتِ، وَلَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ ذِكْرًا يُدْرَسُ، وَخَلَّفَ بِهِ أَمْرًا لَا يَخْفَى وَلَا يدرس. قال ابن عساكر: وأنشدنى بعض الْمُحَدِّثِينَ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ عَمَّرَهُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ وفي دمشق فقال:
دِمَشْقُ قَدْ شَاعَ حُسْنُ جَامِعِهَا ... وَمَا حَوَتْهُ رُبَى مَرَابِعِهَا
بَدِيعَةُ الْحَسَنِ فِي الْكَمَالِ لِمَا ... يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنْ بَدَائِعِهَا(9/152)
طَيِّبَةٌ أَرْضُهَا مُبَارَكَةٌ ... بِالْيُمْنِ وَالسَّعْدِ أَخْذُ طَالِعِهَا
جَامِعُهَا جَامِعُ الْمَحَاسِنِ قَدْ ... فَاقَتْ بِهِ الْمُدْنَ فِي جَوَامِعِهَا
بَنِيَّةٌ بِالْإِتْقَانِ قَدْ وُضِعَتْ ... لَا ضَيَّعَ اللَّهُ سَعْيَ وَاضِعِهَا
تُذْكَرُ فِي فَضْلِهِ ورفعته ... آثار صِدْقٍ رَاقَتْ لِسَامِعِهَا
قَدْ كَانَ قَبْلَ الْحَرِيقِ مدهشة ... فغيرت ناره بلاقعها
فَأَذْهَبَتْ بِالْحَرِيقِ بَهْجَتَهُ ... فَلَيْسَ يُرْجَى إِيَابُ رَاجِعِهَا
إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي الْفُصُوصِ وَمَا ... فِيهَا تَيَقَّنْتَ حِذْقَ رَاصِعِهَا
أَشْجَارُهَا لَا تَزَالُ مُثْمِرَةً ... لَا ترهب الرِّيحُ مِنْ مَدَافِعِهَا
كَأَنَّهَا مِنْ زُمُرُّدٍ غُرِسَتْ ... في أرض تبر تغشى بنافعها
فِيهَا ثِمَارٌ تَخَالُهَا يَنَعَتْ ... وَلَيْسَ يُخْشَى فَسَادُ يانعها
تقطف باللحظ لا بجارحة ... الأيدي ولا تجتنى لبايعها
وَتَحْتَهَا مِنْ رُخَامِهِ قِطَعٌ ... لَا قَطَّعَ اللَّهُ كَفَّ قَاطِعِهَا
أَحْكَمَ تَرْخِيمَهَا الْمُرَخِّمُ قَدْ ... بَانَ عَلَيْهَا إِحْكَامُ صَانِعِهَا
وَإِنْ تَفَكَّرْتَ فِي قَنَاطِرِهِ ... وَسَقْفِهِ بَانَ حِذْقُ رَافِعِهَا
وَإِنْ تَبَيَّنْتَ حُسْنَ قُبَّتِهِ ... تَحَيَّرَ اللُّبُّ فِي أَضَالِعِهَا
تَخْتَرِقُ الرِّيحُ في منافذها ... عَصْفًا فَتَقْوَى عَلَى زَعَازِعِهَا
وَأَرْضُهُ بِالرُّخَامِ قَدْ فُرِشَتْ ... يَنْفَسِحُ الطَّرْفُ فِي مَوَاضِعِهَا
مَجَالِسُ الْعِلْمِ فيه مؤنقة ... يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ فِي مَجَامِعِهَا
وَكُلُّ بَابٍ عَلَيْهِ مَطْهَرَةٌ ... قَدْ أَمِنَ النَّاسُ دَفْعَ مَانِعِهَا
يَرْتَفِقُ الناس مِنْ مَرَافِقِهَا ... وَلَا يَصُدُّونَ عَنْ مَنَافِعِهَا
وَلَا تَزَالُ الْمِيَاهُ جَارِيَةً ... فِيهَا لِمَا شُقَّ مِنْ مشارعها
وسوقها لا تزال آهلة ... يزدحم الناس في شوارعها
لما يشاؤن مِنْ فَوَاكِهِهَا ... وَمَا يُرِيدُونَ مِنْ بَضَائِعِهَا
كَأَنَّهَا جنة معجلة ... في الأرض لولا مسرى فَجَائِعِهَا
دَامَتْ بِرَغْمِ الْعِدَى مُسَلَّمَةً ... وَحَاطَهَا اللَّهُ من قوارعها(9/153)
فَصْلٌ
(فِيمَا رُوِيَ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ مِنَ الْآثَارِ وَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ) رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَالتِّينِ 95: 1 قال: هو مسجد دمشق وَالزَّيْتُونِ 95: 1 قال: هو مسجد بيت المقدس وَطُورِ سِينِينَ 95: 2 حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ 95: 3 وهو مكة [1] . رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ قَالَ قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَيُبْنَيَنَّ فِي دِمَشْقَ مَسْجِدٌ يَبْقَى بَعْدَ خَرَابِ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ عَامًا. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاتِكَةِ عَنْ على بن زيد عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جَبَلِ قَاسْيُونَ أَنْ هَبْ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ إِلَى جَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ ففعل فأوحى الله إليه أما إذا فعلت فانى سأبنى لي في خطتك بَيْتًا أُعْبَدُ فِيهِ بَعْدَ خَرَابِ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكَ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ، قَالَ فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ الضَّعِيفِ الْمُتَضَرِّعِ.
وَقَالَ دُحَيْمٌ: حِيطَانُ الْمَسْجِدِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ بِنَاءِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا كَانَ مِنَ الْفُسَيْفِسَاءِ إِلَى فَوْقَ فَهُوَ مِنْ بِنَاءِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ- يَعْنِي أَنَّهُ رَفَعَ الْجِدَارَ فَعَلَّاهُ مِنْ حَدِّ الرُّخَامِ وَالْكَرْمَةِ إِلَى فَوْقَ- وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا بَنَى هود الجدار القبلي فقط. وَنَقَلَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَالتِّينِ 95: 1 قالوا: هو مسجد دمشق.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبِرَامِيِّ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْوَانَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُلَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ قَالَ: كَانَ خَارِجَ بَابِ السَّاعَاتِ صَخْرَةٌ يُوضَعُ عَلَيْهَا الْقُرْبَانُ، فَمَا تُقُبِّلَ مِنْهُ جَاءَتْ نَارٌ فَأَكَلَتْهُ، وَمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ الصَّخْرَةُ نُقِلَتْ إِلَى دَاخِلِ بَابِ السَّاعَاتِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ إِلَى الْآنَ، وَبَعْضُ الْعَامَّةِ يَزْعُمُ أَنَّهَا الصَّخْرَةُ الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا ابْنَا آدَمَ قُرْبَانَهُمَا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يحيى الحسنى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ «صَلَّى فِي مَوْضِعِ مَسْجِدِ دمشق» قال ابن عساكر: وهذا منقطع وَمُنْكَرٌ جِدًّا، وَلَا يَثْبُتُ أَيْضًا لَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبِرَامِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عبد الملك بن المغيرة المقري حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ تَقَدَّمَ إِلَى الْقُوَّامِ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ اللَّيْلَةَ في المسجد، فلا تتركوا أحدا يصلى الليلة، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا
__________
[1] في الأصل «قال دمشق» . وصححناه من حديث قتادة في تاريخ ابن عساكر 1: 196(9/154)
الخضر يصلى في المسجد في كل ليلة، وفي رواية أنه قال لهم: لا تتركوا أحدا يدخله، ثم إن الوليد أَتَى بَابَ السَّاعَاتِ فَاسْتَفْتَحَ الْبَابَ فَفُتِحَ لَهُ، فإذا رجل قائم بين السَّاعَاتِ وَبَابِ الْخَضْرَاءِ الَّذِي يَلِي الْمَقْصُورَةَ يُصَلِّي، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى بَابِ الْخَضْرَاءِ مِنْهُ إِلَى باب الساعات، فقال الوليد لِلْقُوَّامِ: أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ لَا تَتْرُكُوا أَحَدًا اللَّيْلَةَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يا أمير المؤمنين هذا الخضر يُصَلِّي كُلَّ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ» . فِي إِسْنَادِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ وَصِحَّتِهَا نَظَرٌ، وَلَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا وجود الخضر بالكلية، ولا صلاته في الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنَّ الزَّاوِيَةَ الْقِبْلِيَّةَ عِنْدَ بَابِ الْمِئْذَنَةِ الْغَرْبِيَّةِ تُسَمَّى زَاوِيَةَ الْخَضِرِ، وَمَا أَدْرِي مَا سَبَبُ ذَلِكَ، وَالَّذِي ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ صَلَاةُ الصحابة فيه، وكفى بذلك شرفا له ولغيره من المساجد التي صلوا فيها، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى فِيهِ إِمَامًا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ بِالشَّامِ، وَأَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وصلى فيه خلق من الصحابة مثل معاذ بن جبل وغيره لَكِنْ قَبْلَ أَنْ يُغَيِّرَهُ الْوَلِيدُ إِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ غُيِّرَ إِلَى هَذَا الشَّكْلِ فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ وَرَدَ دِمَشْقَ سنة ثنتين وتسعين، وهو يبنى فيه الوليد، فصلى فيه أنس ورأى الْوَلِيدِ وَأَنْكَرَ أَنَسٌ عَلَى الْوَلِيدِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ، عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وتسعين، وسيصلى فيه عيسى بن مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، إِذَا خَرَجَ الدَّجَّالُ وَعَمَّتِ الْبَلْوَى بِهِ، وَانْحَصَرَ النَّاسُ مِنْهُ بِدِمَشْقَ، فَيَنْزِلُ مَسِيحُ الْهُدَى فَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ، وَيَكُونُ نُزُولُهُ عَلَى الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِدِمَشْقَ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَيَأْتِي وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ النَّاسِ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ، فَيَقُولُ: إِنَّمَا أُقِيمَتْ لَكَ، فَيُصَلِّي عِيسَى تِلْكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ رَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يُقَالُ إِنَّهُ الْمَهْدِيُّ فاللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ يَخْرُجُ عِيسَى بِالنَّاسِ فَيُدْرِكُ الدَّجَّالَ عِنْدَ عَقَبَةِ أَفِيقَ، وَقِيلَ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ بِيَدِهِ هُنَالِكَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ 4: 159 وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، وَإِمَامًا عَادِلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الإسلام» . والمقصود أن عيسى ينزل على المنارة الشرقية بدمشق، والبلد محصور محصن من الدجال، فينزل على المنارة- وَهِيَ هَذِهِ الْمَنَارَةُ الْمَبْنِيَّةُ فِي زَمَانِنَا مِنْ أموال النصارى- ثُمَّ يَكُونُ نُزُولُ عِيسَى حَتْفًا لَهُمْ وَهَلَاكًا وَدَمَارًا عَلَيْهِمْ، يَنْزِلُ بَيْنَ مَلَكَيْنِ وَاضِعًا يَدَيْهِ على مناكبهما، وعليه مهروذتان، وَفِي رِوَايَةٍ مُمَصَّرَتَانِ [1] يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْفَجْرِ، فَيَنْزِلُ على المنارة
__________
[1] الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة.(9/155)
وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ هَذَا الْجَامِعُ. وَمَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلَابِيُّ: فَيَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، كَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى بِحَسَبِ مَا فَهِمَهُ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ أُخْبِرْتُ وَلَمْ أقف عليه إلى الْآنَ أَنَّهُ كَذَلِكَ، فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ، فِي بَعْضِ الْمُصَنَّفَاتِ، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ الْمَأْمُولُ أَنْ يُوَفِّقَنِي فَيُوقِفَنِي عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَيْسَ فِي الْبَلَدِ مَنَارَةٌ تُعْرَفُ بِالشَّرْقِيَّةِ سِوَى هَذِهِ، وَهِيَ بَيْضَاءُ بِنَفْسِهَا، وَلَا يُعْرَفُ فِي بِلَادِ الشَّامِ مَنَارَةٌ أَحْسَنُ مِنْهَا، وَلَا أَبْهَى وَلَا أعلى منها، وللَّه الحمد والمنة [قلت: نزول عيسى على المنارة التي بالجامع الأموي غير مستنكر، وذلك أن البلاء بالدجال يكون قد عم فينحصر الناس داخل البلد، ويحصرهم الدجال بها، ولا يتخلف أحد عن دخول البلد إلا أن يكون متبعا للدجال، أو مأسورا معه، فان دمشق في آخر الزمان تكون معقل المسلمين وحصنهم من الدجال، فإذا كان الأمر كذلك فمن يصلى خارج البلد، والمسلمون كلهم داخل البلد، وعيسى إنما ينزل وقد أقيمت الصلاة فيصلي مع المسلمين، ثم يأخذهم ويطلب الدجال ليقتله، وبعض العوام يقول: إن المراد بالمنارة الشرقية بدمشق، منارة مسجد بلاشو، خارج باب شرقى. وبعضهم يقول:
إنها المنارة التي على نفس باب شرقى. فاللَّه أعلم بمراد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سبحانه العالم بكل شيء، المحيط بكل شيء، القادر على كل شيء، القاهر فوق كل شيء، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض] [1]
الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ قَالَ: وَكَّلَنِي الْوَلِيدُ عَلَى الْعُمَّالِ فِي بِنَاءِ جَامِعِ دِمَشْقَ، فَوَجَدْنَا فِيهِ مَغَارَةً فَعَرَّفْنَا الْوَلِيدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ وَافَانَا وَبَيْنَ يَدَيْهِ الشَّمْعُ، فَنَزَلَ فَإِذَا هِيَ كَنِيسَةٌ لَطِيفَةٌ، ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَإِذَا فِيهَا صُنْدُوقٌ، فَفَتَحَ الصُّنْدُوقَ فَإِذَا فِيهِ سفط وفي السفط رأس يحيى ابن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ هَذَا رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَأَمَرَ بِهِ الْوَلِيدُ فَرُدَّ إلى مكانه، وَقَالَ: اجْعَلُوا الْعَمُودَ الَّذِي فَوْقَهُ مُغَيَّرًا مِنْ بَيْنِ الْأَعْمِدَةِ، فَجُعِلَ عَلَيْهِ عَمُودٌ مُسَفَّطَ الرَّأْسِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ كَانَ تَحْتَ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْقُبَّةِ- يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تُبْنَى- قَالَ: وَكَانَ عَلَى الرَّأْسِ شَعْرٌ وَبَشَرٌ. وَقَالَ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ: حَضَرْتُ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَقَدْ أُخْرِجَ مِنَ اللِّيطَةِ الْقِبْلِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ الَّتِي عِنْدَ مَجْلِسِ بُجَيْلَةَ، فوضع تحت عمود الكاسة، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: هُوَ الْعَمُودُ الرَّابِعُ الْمُسَفَّطُ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبِرَامِيِّ عن أحمد بن أنس ابن مَالِكٍ عَنْ حَبِيبٍ الْمُؤَذِّنِ عَنْ أَبِي زِيَادٍ وأبى أمية الشعناييين عن سفيان الثوري أنه قال: صلاة
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/156)
فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُسْهِرٍ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ نَافِعٍ- مَوْلَى أَمِّ عَمْرٍو بِنْتِ مَرْوَانَ- عَنْ أَبِيهِ- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ- أَنَّ وَاثِلَةَ ابن الْأَسْقَعِ خَرَجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِي بَابَ جَيْرُونَ فَلَقِيَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ وَاثِلَةُ: أُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ: تعال أريك موضعا في الْمَسْجِدِ مَنْ صَلَّى فِيهِ فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَذَهَبَ بِهِ فَأَرَاهُ مَا بَيْنَ الباب الأصفر الّذي يخرج منه الوالي- يعنى الخليفة- إِلَى الْحَنِيَّةِ- يَعْنِي الْقَنْطَرَةَ الْغَرْبِيَّةَ- فَقَالَ: مَنْ صَلَّى فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ وَاثِلَةُ: إِنَّهُ لَمَجْلِسِي وَمَجْلِسُ قَوْمِي. قَالَ كَعْبٌ: هُوَ ذَاكَ. وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ جِدًّا وَمُنْكَرٌ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ.
وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِبِنَاءِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَجَدُوا فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ الْقِبْلِيِّ لَوْحًا مِنْ حجر فيه كتاب نقش، فبعثوا به إلى الوليد فبعثه إِلَى الرُّومِ فَلَمْ يَسْتَخْرِجُوهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى من كان بدمشق من بقية الإسبان فَلَمْ يَسْتَخْرِجُوهُ، فَدُلَّ عَلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِمَوْضِعِ ذَلِكَ اللَّوْحِ فَوَجَدُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَائِطِ- وَيُقَالُ ذَلِكَ الْحَائِطَ بَنَاهُ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْبٌ حَرَّكَ رَأْسَهُ وَقَرَأَهُ فَإِذَا هُوَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ابْنَ آدَمَ لَوْ رَأَيْتَ يَسِيرَ مَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِكَ، لَزَهَدْتَ فِي طُولِ مَا تَرْجُو مِنْ أَمَلِكَ، وإنما تلقى ندمك لو قد زل بِكَ قَدَمُكَ. وَأَسْلَمَكَ أَهْلُكَ وَحَشَمُكَ، وَانْصَرَفَ عَنْكَ الحبيب وأسلمك الصاحب والقريب، ثُمَّ صِرْتَ تُدْعَى فَلَا تُجِيبُ، فَلَا أَنْتَ إلى أهلك عائد، ولا إلى عَمَلِكَ زَائِدٌ، فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَبْلَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِكَ أَجَلُكَ، وَتُنْزَعَ مِنْكَ رُوحُكَ، فَلَا يَنْفَعُكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ، وَلَا وَلَدٌ وَلَدْتَهُ، وَلَا أَخٌ تَرَكْتَهُ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى بَرْزَخِ الثَّرَى، وَمُجَاوَرَةِ الْمَوْتَى، فاغتنم الحياة قبل الممات، وَالْقُوَّةَ قَبْلَ الضَّعْفِ، وَالصِّحَّةَ قَبْلَ السَّقَمِ، قَبْلَ أَنْ تُؤْخَذَ بِالْكَظْمِ وَيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْعَمَلِ، وكتب في زمن [1] دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ السُّلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ التميمي أنبأ تمام الرازيّ ثنا ابن البرامي سمعت أبا مروان عبد الرحمن بْنَ عُمَرَ الْمَازِنِيَّ يَقُولُ: لَمَّا كَانَ فِي أَيَّامِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَبِنَائِهِ الْمَسْجِدَ احْتَفَرُوا فِيهِ مَوْضِعًا فَوَجَدُوا بَابًا مِنْ حِجَارَةٍ مُغْلَقًا، فَلَمْ يَفْتَحُوهُ وَأَعْلَمُوا بِهِ الْوَلِيدَ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، وَفُتِحَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا دَاخِلُهُ مَغَارَةٌ فِيهَا تَمْثَالُ إِنْسَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ، عَلَى فَرَسٍ مِنْ حِجَارَةٍ، فِي يَدِ التَّمْثَالِ الْوَاحِدَةِ الدُّرَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْمِحْرَابِ، وَيَدُهُ الْأُخْرَى مَقْبُوضَةٌ، فَأَمَرَ بِهَا فَكُسِرَتْ، فَإِذَا فِيهَا حَبَّتَانِ، حَبَّةُ قَمْحٍ وَحَبَّةُ شَعِيرٍ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ لَوْ تَرَكْتَ الْكَفَّ لَمْ تَكْسِرْهَا لَمْ يُسَوِّسْ فِي هَذَا الْبَلَدِ قَمْحٌ ولا شعير. وقال الحافظ أبو حمدان الوراق- وكان قد عمر مائة
__________
[1] كذا بالأصول، ولعله سقط منه لفظ «سليمان بن» .(9/157)
سَنَةٍ-: سَمِعْتُ بَعْضَ الشُّيُوخِ يَقُولُ: لَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دِمَشْقَ وَجَدُوا عَلَى الْعَمُودِ الَّذِي عَلَى الْمِقْسِلَّاطِ- عَلَى السَّفُّودِ الْحَدِيدِ الَّذِي فِي أَعْلَاهُ- صَنَمًا مَادًّا يَدَهُ بِكَفٍّ مُطْبَقَةٍ، فَكَسَرُوهُ فَإِذَا فِي يَدِهِ حَبَّةُ قَمْحٍ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ فقيل لهم: هذه الحبة قمح جَعَلَهَا حُكَمَاءُ الْيُونَانِ فِي كَفِّ هَذَا الصَّنَمِ طلسما، حتى لا يسوس القمح في هذه البلاد، وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ كَثِيرَةً. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وقد رأيت أنا في هذا السفود على قناطر كَنِيسَةُ الْمِقْسِلَّاطِ كَانَتْ مَبْنِيَّةً فَوْقَ الْقَنَاطِرِ الَّتِي فِي السُّوقِ الْكَبِيرِ، عِنْدَ الصَّابُونِيِّينَ وَالْعَطَّارِينَ الْيَوْمَ، وَعِنْدَهَا اجْتَمَعَتْ جُيُوشُ الْإِسْلَامِ يَوْمَ فَتْحِ دِمَشْقَ، أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَخَالِدٌ مِنَ باب الشَّرْقِيِّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ بَابِ الجابية الصغير. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِي نَصْرٍ عبد الوهاب بن عبد الله المري: سَمِعْتُ جَمَاعَةً مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ دِمَشْقَ يَقُولُونَ: إن في سقف الْجَامِعِ طَلَاسِمَ عَمِلَهَا الْحُكَمَاءُ فِي السَّقْفِ مِمَّا يَلِي الْحَائِطَ الْقِبْلِيَّ، فِيهَا طَلَاسِمُ لِلصَّنُونِيَّاتِ، لَا تَدْخُلُهُ وَلَا تُعَشِّشُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْأَوْسَاخِ الَّتِي تَكُونُ مِنْهَا، وَلَا يَدْخُلُهُ غُرَابٌ، وَطِلَّسْمٌ للفأر والحيات والعقارب، فما رأى النَّاسُ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا الْفَأْرَ، وَيُشَكُّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُدِمَ طِلَّسْمُهَا، وَطِلَّسْمٌ لِلْعَنْكَبُوتِ حتى لا ينسج فيه، وفي رواية فَيَرْكَبُهُ الْغُبَارُ وَالْوَسَخُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَسَمِعْتُ جَدِّي أَبَا الْفَضْلِ يَحْيَى بْنَ عَلِيٍّ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَدْرَكَ فِي الْجَامِعِ قَبْلَ حَرِيقِهِ طِلَّسْمَاتٍ لِسَائِرِ الْحَشَرَاتِ، مُعَلَّقَةً فِي السَّقْفِ فَوْقَ الْبَطَائِنِ مِمَّا يَلِي السُّبْعَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِي الْجَامِعِ شَيْءٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ قَبْلَ الحريق.
فلما احترقت الطلسمات حين أحرق الْجَامِعِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَتْ بِدِمَشْقَ طِلَّسْمَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا سِوَى الْعَمُودِ الّذي بسوق العلبيين الّذي في أعلاه مثل الكرة العظيمة، وهي لِعُسْرِ بَوْلِ الدَّوَابِّ، إِذَا دَارُوا بِالدَّابَّةِ حَوْلَهُ ثلاث مرات انطلق باطنها. وقد كان شيخنا ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إِنَّمَا هَذَا قبر مشرك مفرد مدفون هنالك يعذب، فإذا سمعت الدابة صراخه فزعت فانطلق باطنها وطبعها، قَالَ: وَلِهَذَا يَذْهَبُونَ بِالدَّوَابِّ إِلَى مَقَابِرِ الْيَهُودِ والنصارى إذا مغلت فتنطلق طِبَاعُهَا وَتَرُوثُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهَا تَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
. ذِكْرُ السَّاعَاتِ الَّتِي عَلَى بَابِهِ
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَبْرٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ بَابُ الْجَامِعِ الْقِبْلِيُّ بَابَ السَّاعَاتِ لِأَنَّهُ عُمِلَ هُنَاكَ بلكار الساعات، كان يعمل بِهَا كُلُّ سَاعَةٍ تَمْضِي مِنَ النَّهَارِ، عَلَيْهَا عَصَافِيرُ مِنْ نُحَاسٍ، وَحَيَّةٌ مِنْ نُحَاسٍ وَغُرَابٌ، فَإِذَا تَمَّتِ السَّاعَةُ خَرَجَتِ الْحَيَّةُ فَصَفَّرَتِ الْعَصَافِيرُ وَصَاحَ الْغُرَابُ وَسَقَطَتْ حَصَاةٌ فِي الطَّسْتِ فَيَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ مِنَ النَّهَارِ سَاعَةٌ، وكذلك سَائِرِهَا. قُلْتُ: هَذَا يَحْتَمِلُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ إِمَّا أن تكون السَّاعَاتِ كَانَتْ فِي الْبَابِ الْقِبْلِيِّ مِنَ الْجَامِعِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَابُ الزِّيَادَةِ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ مُحْدَثٌ بَعْدَ بِنَاءِ الْجَامِعِ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنَّ السَّاعَاتِ كَانَتْ عِنْدَهُ فِي زَمَنِ الْقَاضِي ابْنِ زَبْرٍ،(9/158)
وإما أنه قد كان في الجامع في الجانب الشرقي منه في الحائط القبلي باب آخر في محاكاة بَابِ الزِّيَادَةِ، وَعِنْدَهُ السَّاعَاتُ ثُمَّ نُقِلَتْ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى بَابِ الْوَرَّاقِينَ الْيَوْمَ، وَهُوَ بَابُ الْجَامِعِ مِنَ الشَّرْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[قُلْتُ: باب الوراقين فبلى أيضا، فيضاف إلى الجامع نسبة إلى من يدخل منه إلى الجامع والله أعلم، أو لمجارته للجامع ولبابة] [1] قُلْتُ: فَأَمَّا الْقُبَّةُ الَّتِي فِي وَسَطِ صَحْنِ الجامع التي فيها الماء الجاري، ويقول الْعَامَّةُ لَهَا قُبَّةُ أَبِي نُوَاسٍ فَكَانَ بِنَاؤُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَرَّخَ ذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ خَطِّ بَعْضِ الدَّمَاشِقَةِ. وَأَمَّا الْقُبَّةُ الْغَرْبِيَّةُ الْعَالِيَةُ الَّتِي فِي صَحْنِ الْجَامِعِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا قُبَّةُ عَائِشَةَ، فَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الذَّهَبِيَّ يَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا بُنِيَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ فِي أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ بْنِ منصور الْعَبَّاسِيِّ، وَجَعَلُوهَا لِحَوَاصِلِ الْجَامِعَ وَكُتُبِ أَوْقَافِهِ، وَأَمَّا القبة الشرقية التي على باب مسجد عَلِيٍّ فَيُقَالُ: إِنَّهَا بُنِيَتْ فِي زَمَنِ الْحَاكِمِ العبيدي في حدود سنة أربع ومائة. وَأَمَّا الْفَوَّارَةُ الَّتِي تَحْتَ دُرْجِ جَيْرُونَ فَعَمِلَهَا الشريف فخر الدولة أبو على حمزة بن الحسن بن العباس الحسنى، وكأنه كان ناظرا بالجامع، وَجَرَّ إِلَيْهَا قِطْعَةً مِنْ حَجَرٍ كَبِيرٍ مِنْ قصر حجاج، وأجرى منها الْمَاءَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَعُمِلَتْ حَوْلَهَا قَنَاطِرُ، وَعُقِدَ عَلَيْهَا قُبَّةٌ، ثُمَّ سَقَطَتِ الْقُبَّةُ بِسَبَبِ جِمَالٍ تَحَاكَّتْ عِنْدَهَا وَازْدَحَمَتْ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَأُعِيدَتْ ثُمَّ سَقَطَتْ أَعْمِدَتُهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ حَرِيقِ اللبادين والحجارة فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
قُلْتُ: وَأَمَّا الْقَصْعَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْفَوَّارَةِ، فَمَا زَالَتْ وَسَطَهَا، وَقَدْ أَدْرَكْتُهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ رُفِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَانَ بِطَهَّارَةِ جَيْرُونَ قَصْعَةٌ أُخْرَى مِثْلُهَا، فلم تزل بها إلى أن تهدمت اللَّبَّادِينَ بِسَبَبِ حَرِيقِ النَّصَارَى فِي سَنَةِ إِحْدَى وأربعين وسبعمائة، ثم اسْتُؤْنِفَ بِنَاءُ الطَّهَارَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَتْ، وَذَهَبَتْ تِلْكَ الْقَصْعَةُ فَلَمْ يَبْقَ لها أثر، ثم عمل الشاذروان الّذي شَرْقِيُّ فَوَّارَةِ جَيْرُونَ، بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ- أَظُنُّهُ- سَنَةَ أربع عشرة وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ السُّبْعِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: ثَنَا أبو عباس مُوسَى بْنُ عَامِرٍ الْمُرِّيُّ ثَنَا الْوَلِيدُ- هُوَ ابن مسلم- قال قال أبو عمر الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: الدِّرَاسَةُ مُحْدَثَةٌ أَحْدَثَهَا هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ، فِي قدمة قدمها عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَحَجَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فَجَلَسَ بَعْدَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَسَمِعَ قِرَاءَةً فَقَالَ:
مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقْرَأُ فِي الْخَضْرَاءِ، فَقَرَأَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، فَجَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ هِشَامٍ، فَقَرَأَ بِقِرَاءَتِهِ مَوْلًى لَهُ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَقَرَءُوا بِقِرَاءَتِهِ. وَقَالَ هِشَامُ
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/159)
ابن عَمَّارٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ: ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ حَسَّانَ ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ ثَنَا خَالِدُ بْنُ دِهْقَانَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْقِرَاءَةَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ هشام بن إسماعيل بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْقِرَاءَةَ بِفِلَسْطِينَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيُّ. قُلْتُ: هشام بن إسماعيل كَانَ نَائِبًا عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمَّا امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أَبُوهُ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا الْوَلِيدُ وَوَلَّى عَلَيْهَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ حَضَرَ هَذَا السُّبْعَ جَمَاعَاتٌ مِنْ سَادَاتِ السَّلَفِ مِنَ التَّابِعِينَ بِدِمَشْقَ، مِنْهُمْ هِشَامُ بْنُ إسماعيل وَمَوْلَاهُ رَافِعٌ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، وَكَانَ مُكْتِبًا لِأَوْلَادِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ إِفْرِيقِيَّةَ لِهِشَامِ بن عبد الملك وابنيه عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمَرْوَانُ. وَحَضَرَهُ مِنَ الْقُضَاةِ أَبُو إدريس الْخَوْلَانِيُّ، وَنُمَيْرُ بْنُ أَوْسٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي الْهَمْدَانِيِّ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيُّ، ومحمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَسَدِيُّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ والمحدثين والحفاظ المقرءين أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مولى مُعَاوِيَةَ، وَمَكْحُولٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الْأَشْدَقُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، وَأَبُو إِدْرِيسَ الْأَصْغَرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عِرَاكٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَامِرٍ الْيَحْصُبِيُّ- أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامر- ويحيى بن الحارث الدماري، وعبد الملك بن نعمان المري، وأنس بن أنس العذري، وسليمان ابن بذيغ القاري، وسليمان بن داود الخشنيّ، وعران- أو هران- بن حكيم القرشي، ومحمد بن خالد ابن أَبِي ظَبْيَانَ الْأَزْدِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ عُبَيْدَةَ بْنِ أبى المهاجر، وعباس بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ. هَكَذَا أَوْرَدَهُمُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَرِهَ اجْتِمَاعَهُمْ وَأَنْكَرَهُ، وَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ ثَنَا الْوَلِيدُ- هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عروب يُنْكِرُ الدِّرَاسَةَ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ، وَقَدْ أَدْرَكْتُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ عبد الرحمن أميرا على دمشق في أواخر سنة ست وثمانين [1] فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
فَصْلٌ
كَانَ ابْتِدَاءُ عِمَارَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ فِي أَوَاخِرَ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، هُدِمَتِ الْكَنِيسَةُ الَّتِي كَانَتْ مَوْضِعَهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْهَدْمِ شَرَعُوا فِي الْبِنَاءِ، وَتَكَامَلَ فِي عَشْرِ سِنِينَ، فَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ- وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَانِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ بَقِيَتْ فِيهِ بَقَايَا فَكَمَّلَهَا أَخُوهُ سُلَيْمَانُ كَمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا قَوْلُ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ: سَأَلْتُ هِشَامَ بن عمار عن قصة مسجد
__________
[1] كذا بالأصول. والصواب: في سنة تسع وتسعين.(9/160)
دِمَشْقَ وَهَذِهِ الْكَنِيسَةِ قَالَ: كَانَ الْوَلِيدُ قَالَ للنصارى: مَا شِئْتُمْ إِنَّا أَخَذْنَا كَنِيسَةَ تُومَا عَنْوَةً وَكَنِيسَةَ الدَّاخِلَةِ صُلْحًا، فَأَنَا أَهْدِمُ كَنِيسَةَ تُومَا- قَالَ هِشَامٌ وَتِلْكَ أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الدَّاخِلَةِ- قال فرضوا أن يهدم كَنِيسَةَ الدَّاخِلَةِ وَأُدْخِلَهَا فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَكَانَ بَابُهَا قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ الْيَوْمَ، وَهُوَ الْمِحْرَابُ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ، قَالَ: وَهَدْمُ الْكَنِيسَةِ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ الْوَلِيدِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَمَكَثُوا فِي بنائها سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى مَاتَ الْوَلِيدُ وَلَمْ يُتِمَّ بِنَاءَهُ، فَأَتَمَّهُ هِشَامٌ مِنْ بَعْدِهِ فَفِيهِ فَوَائِدُ وَفِيهِ غَلَطٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّهُمْ مَكَثُوا فِي بِنَائِهِ سَبْعَ سِنِينَ، وَالصَّوَابُ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ- وَقَدْ حَكَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ على ذلك إجماع أهل السير، والّذي أتم ما بقي من بنائه أَخُوهُ سُلَيْمَانُ لَا هِشَامٌ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
[قلت: نقل من خط ابن عساكر وقد تقدم، وقد جددت فيه بعد ذلك أشياء، منها القباب الثلاث التي في صحنه. وقد تقدم ذكرها. وقيل إن القبة الشرقية عمرت في أيام المستنصر العبيدي في سنة خمسين وأربعمائة وكتب عليه اسمه واسم الاثني عشر الذين تزعم الرافضة أنهم أئمتهم، وأما العمودان الموضوعان في صحنه فجعلا للتنوير ليالي الجمع، وصنعا في رمضان سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، بأمر قاضى البلد أبى محمد] [1] .
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ وَذِكْرُ وَفَاتِهِ فِي هَذَا الْعَامِ
هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْأُمَوِيُّ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ بِعَهْدٍ مِنْهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَالْوَلِيَّ مِنْ بَعْدِهِ، وَأُمُّهُ ولادة بنت العباس بن حزن بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَكَانَ أَبَوَاهُ يُتْرِفَانِهِ، فَشَبَّ بِلَا أَدَبٍ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَكَانَ طَوِيلًا أسمر به أثر جدري خفي، أَفْطَسَ الْأَنْفِ سَائِلَهُ، وَكَانَ إِذَا مَشَى يَتَوَكَّفُ فِي الْمِشْيَةِ- أَيْ يَتَبَخْتَرُ- وَكَانَ جَمِيلًا وَقِيلَ دَمِيمًا، قَدْ شَابَ فِي مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ، وَقَدْ رَأَى سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَسَمِعَ أَنَسَ بْنَ مالك لما قدم عليه سأله ما سَمِعَ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ، وَسَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَحَكَى عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ ثُمَّ تَوَقَّفَ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَجَمَعَ الْوَلِيدُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ عِنْدَهُ فَأَقَامُوا سَنَةً، وَقِيلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَخَرَجَ يَوْمَ خَرَجَ أَجْهَلَ مِمَّا كَانَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:
قَدْ أُجْهِدَ وَأُعْذِرَ، وَقِيلَ إِنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ أَوْصَاهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ لَهُ: لَا أَلْفَيَنَّكَ إِذَا مِتُّ تَجْلِسُ تَعْصِرُ عَيْنَيْكَ، وَتَحِنُّ حَنِينَ الْأَمَةِ، وَلَكِنْ شمروا تزر، وَدَلِّنِي فِي حُفْرَتِي، وَخَلِّنِي وَشَأْنِي، وَادْعُ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَمَنْ قَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا فَقُلْ بِسَيْفِكَ هَكَذَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وتسعين [2] غزا الوليد
__________
[1] زيادة من المصرية.
[2] كذا بالأصول. وفيها تحريف ظاهر لأنه مات سنة 96 هـ.(9/161)
بِلَادَ الرُّومِ، وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَيْضًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: غَزَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا بِلَادَ مَلَطْيَةَ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ أو من باللَّه مُخْلِصًا. وَقِيلَ كَانَ نَقْشُهُ يَا وَلِيدُ إِنَّكَ مَيِّتٌ، وَيُقَالُ إِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّه وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ قَالَ لِي الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمًا:
فِي كَمْ تَخْتِمُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ فِي كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى شُغْلِهِ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ فِي كُلِّ سَبْعٍ، قَالَ: وَكَانَ يَقْرَأُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ خَتْمَةً. قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَلِيدُ وَأَيْنَ مِثْلُهُ؟ بَنَى مَسْجِدَ دِمَشْقَ، وَكَانَ يُعْطِينِي قطع الْفِضَّةِ فَأُقَسِّمُهَا عَلَى قُرَّاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
خَرَجَ الْوَلِيدُ يَوْمًا مِنَ الْبَابِ الْأَصْغَرِ فَرَأَى رَجُلًا عِنْدَ الْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ يَأْكُلُ شَيْئًا، فَأَتَاهُ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَأْكُلُ خُبْزًا وَتُرَابًا، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: الْقُنُوعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَذَهَبَ إِلَى مَجْلِسِهِ ثُمَّ اسْتَدْعَى بِهِ فَقَالَ: إِنْ لَكَ لَشَأْنًا فَأَخْبِرْنِي بِهِ وَإِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ، فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كنت رجلا حمالا، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مِنْ مَرْجِ الصُّفَّرِ قَاصِدًا إلى الكسوة، إذ زرمنى الْبَوْلُ فَعَدَلْتُ إِلَى خَرِبَةٍ لِأَبُولَ، فَإِذَا سَرَبٌ فَحَفَرْتُهُ فَإِذَا مَالٌ صَبِيبٌ، فَمَلَأْتُ مِنْهُ غَرَائِرِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَقُودُ بِرَوَاحِلِي وَإِذَا بِمِخْلَاةٍ مَعِي فِيهَا طَعَامٌ فَأَلْقَيْتُهُ مِنْهَا، وَقُلْتُ: إِنِّي سَآتِي الْكُسْوَةَ، وَرَجَعْتُ إِلَى الْخَرِبَةِ لِأَمْلَأَ تِلْكَ الْمِخْلَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَلَمْ أَهْتَدِ إِلَى الْمَكَانِ بَعْدَ الْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ، فَلَمَّا أَيِسْتُ رَجَعْتُ إِلَى الرَّوَاحِلِ فَلَمْ أَجِدْهَا وَلَمْ أَجِدِ الطَّعَامَ، فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنِّي لَا آكُلُ إِلَّا خُبْزًا وَتُرَابًا. قَالَ: فَهَلْ لَكَ عِيَالٌ؟ قَالَ نَعَمْ، فَفَرَضَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
قَالَ ابن جرير: وَبَلَغَنَا أَنَّ تِلْكَ الرَّوَاحِلَ سَارَتْ حَتَّى أَتَتْ بيت المال فتسلمها حارسه فوضعها في بيت المال، وقيل إن الوليد قال له: ذلك المال وصل إلينا واذهب إلى إبلك فخذها، وقيل إنه دفع إليه شيئا من ذلك المال يقيته وعياله. وقال نمير بن عبد الله الشعناني عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَوْمَ لُوطٍ في القرآن ما ظننت أن ذكرا يفعل هذا بذكر.
[قلت: فنفى عن نفسه هذه الخصلة القبيحة الشنيعة، والفاحشة المذمومة، التي عذب الله أهلها بأنواع العقوبات، وأحل بهم أنواعا من المثلات، التي لم يعاقب بها أحدا من الأمم السالفات، وهي فاحشة اللواط التي قد ابتلى بها غالب الملوك والأمراء، والتجار والعوام والكتاب، والفقهاء والقضاة ونحوهم، إلا من عصم الله منهم، فان في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد، ولهذا تنوعت عقوبات فاعليه، ولأن يقتل المفعول به خير من أن يؤتى في دبره، فإنه يفسد فسادا لا يرجى له بعده صلاح أبدا، إلا أن يشاء الله، ويذهب خبر المفعول به. فعلى الرجل حفظ ولده في حال صغره وبعد بلوغه، وأن يجنبه مخالطة هؤلاء الملاعين، الذين لعنهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/162)
وقد اختلف الناس: هل يدخل الجنة مفعول به؟ على قولين، والصحيح في المسألة أن يقال إن المفعول به إذا تاب توبة صحيحة نصوحا، ورزق إنابة إلى الله وصلاحا، وبدل سيئاته بحسنات، وغسل عنه ذلك بأنواع الطاعات، وغض بصره وحفظ فرجه، وأخلص معاملته لربه، فهذا إن شاء الله مغفور له، وهو من أهل الجنة، فان الله يغفر الذنوب للتائبين إليه وَمن لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 49: 11 فَمَنْ تابَ 5: 39 ... وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ 5: 39. وأما مفعول به صار في كبره شرا منه في صغره، فهذا توبته متعذرة، وبعيد أن يؤهل لتوبة صحيحة، أو لعمل صالح يمحو به ما قد سلف، ويخشى عليه من سوء الخاتمة، كما قد وقع ذلك لخلق كثير ماتوا بأدرانهم وأوساخهم، لم يتطهروا منها قبل الخروج من الدنيا، وبعضهم ختم له بشر خاتمة، حتى أوقعه عشق الصور في الشرك الّذي لا يغفره الله. وفي هذا الباب حكايات كثيرة وقعت للوطية وغيرهم من أصحاب الشهوات يطول هذا الفصل بذكرها.
والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الايمان. فيقع في سوء الخاتمة. قال الله تعالى وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا 25: 29 بل قد وقع سوء الخاتمة لخلق لم يفعلوا فاحشة اللواط، وقد كانوا متلبسين بذنوب أهون منها. وسوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله، وأعماله، فان هذا لم يسمع به كما ذكره عبد الحق الإشبيلي، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقدا، وظاهره عملا، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة.
والمقصود أن مفسدة اللواط من أعظم المفاسد، وكانت لا تعرف بين العرب قديما كما قد ذكر ذلك غير واحد منهم. فلهذا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: لَوْلَا أَنَّ الله عز وجل قص علينا قصة قَوْمَ لُوطٍ فِي الْقُرْآنِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ ذكرا يعلو ذكرا. وفي حديث ابن عباس رضى الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الفاعل والمفعول به» . رواه أهل السنن وصححه ابن حبان وغيره. وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من عمل عمل قوم لوط ثلاث مرات، ولم يلعن على ذنب ثلاث مرات إلا عليه، وإنما أمر بقتل الفاعل والمفعول به لأنه لا خير في بقائهما بين الناس، لفساد طويتهما، وخبث بواطنهما، فمن كان بهذه المثابة فلا خير للخلق في بقائه، فإذا أراح الله الخلق منهما صلح لهم أمر معاشهم ودينهم. وأما اللعنة فهي الطرد والبعد، ومن كان مطرودا مبعدا عن الله وعن رسوله وعن كتابه وعن صالح عباده فلا خير فيه ولا في قربه، ومن رزقه الله تعالى توسما وفراسة، ونورا وفرقانا عرف من سحن الناس ووجوههم أعمالهم، فان أعمال العمال بائنة ولائحة على وجوههم وفي أعينهم وكلامهم.(9/163)
وقد ذكر الله اللوطية وجعل ذلك آيات للمتوسمين فقال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ، فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ 15: 73- 75 وما بعدها. وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ الله أَضْغانَهُمْ، وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ وَالله يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ 47: 29- 31 ونحو ذلك من الآيات والأحاديث. فاللوطى قد عكس الفطرة، وقلب الأمر، فأتى ذكرا فقلب الله قلبه، وعكس عليه أمره، بعد صلاحه وفلاحه، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وخصال التائب قد ذكرها الله في آخر سورة براءة، فقال: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ 9: 112 فلا بد للتائب من العبادة والاشتغال بالعمل للآخرة، وإلا فالنفس همامة متحركة، إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، فلا بد للتائب من أن يبدل تلك الأوقات التي مرت له في المعاصي بأوقات الطاعات، وأن يتدارك ما فرط فيها وأن يبدل تلك الخطوات بخطوات إلى الخير، ويحفظ لحظاته وخطواته، ولفظاته وخطراته. قال رجل للجنيد: أوصني، قال: توبة تحل الإصرار، وخوف يزيل العزة، ورجاء مزعج إلى طرق الخيرات، ومراقبة الله في خواطر القلب. فهذه صفات التائب. ثم قال الله تعالى: الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ 9: 112 الآية فهذه خصال التائب كما قال تعالى: التَّائِبُونَ 9: 112 فكأن قائلا يقول: من هم؟ قيل هم العابدون السائحون إلى آخر الآية، وإلا فكل تائب لم يتلبس بعد توبته بما يقربه إلى من تاب إليه فهو في بعد وإدبار، لا في قرب وإقبال، كما يفعل من اغتر باللَّه من المعاصي المحظورات، ويدع الطاعات، فان ترك الطاعات وفعل المعاصي أشد وأعظم من ارتكاب المحرمات بالشهوة النفسية. فالتائب هو من اتقى المحذورات، وفعل المأمورات، وصبر على المقدورات، والله سبحانه وتعالى هو المعين الموفق، وهو عليم بذات الصدور] [1] قَالُوا: وَكَانَ الْوَلِيدُ لَحَّانًا كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ الْوَلِيدَ خَطَبَ يَوْمًا فَقَرَأَ في خطبته (يا ليتها كانت القاضية) فَضَمَّ التَّاءَ مِنْ لَيْتَهَا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا لَيْتَهَا كَانَتْ عَلَيْكَ وَأَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْكَ، وَكَانَ يَقُولُ: يَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: إِنَّكَ لَرَجُلٌ لَوْلَا أَنَّكَ تَلْحَنُ، فَقَالَ: وَهَذَا ابْنُكَ الْوَلِيدُ يَلْحَنُ، فَقَالَ: لَكِنَّ ابْنِي سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَخِي أَبُو فُلَانٍ لا يلحن. وقال ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ ثَنَا عَلِيٌّ- يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيَّ- قَالَ: كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ أَفْضَلَ خَلَائِفِهِمْ، بنى المساجد بدمشق، ووضع المنائر، وَأَعْطَى النَّاسَ، وَأَعْطَى الْمَجْذُومِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ، وَأَعْطَى كُلَّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وَكُلَّ ضَرِيرٍ قَائِدًا، وَفَتَحَ فِي وِلَايَتِهِ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً عظاما، وكان يرسل بنيه في كل غزوة إلى بلاد الروم، ففتح الهند والسند
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/164)
والأندلس وأقاليم بلاد العجم، حتى دخلت جيوشه إلى الصين وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا يَمُرُّ بِالْبَقَّالِ فَيَأْخُذُ حُزْمَةَ الْبَقْلِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: بِكَمْ تَبِيعُ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِفَلْسٍ، فَيَقُولُ: زِدْ فِيهَا فَإِنَّكَ تَرْبَحُ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَبَرُّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ وَيُكْرِمُهُمْ وَيَقْضِي عَنْهُمْ دُيُونَهُمْ، قَالُوا: وَكَانَتْ هِمَّةُ الْوَلِيدِ فِي الْبِنَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: مَاذَا بَنَيْتَ؟ مَاذَا عَمَرْتَ؟ وَكَانَتْ هِمَّةُ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ فِي النِّسَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: كَمْ تَزَوَّجْتَ؟ مَاذَا عِنْدَكَ مِنَ السَّرَارِيِّ؟ وَكَانَتْ هِمَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قِرَاءَةِ القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: كَمْ وِرْدُكَ؟ كَمْ تَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ؟ مَاذَا صليت البارحة؟
[والناس يقولون: الناس على دين مليكهم، إن كان خمارا كثير الخمر، وإن كان لوطيا فكذلك وإن كان شحيحا حريصا كان الناس كذلك، وإن كان جوادا كريما شجاعا كان الناس كذلك، وإن كان طماعا ظلوما غشوما فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك.
وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص، والله أعلم] [1] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الْوَلِيدُ جَبَّارًا ذَا سَطْوَةٍ شَدِيدَةٍ لَا يَتَوَقَّفُ إِذَا غَضِبَ، لَجُوجًا كَثِيرَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ مِطْلَاقًا، يُقَالُ إِنَّهُ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا وستين امرأة غير الإماء. قلت: يُرَادُ بِهَذَا الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْفَاسِقُ لَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي الْجَامِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: بَنَى الْوَلِيدُ الْجَامِعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ، وَبَنَى صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَقَدَ عَلَيْهَا الْقُبَّةَ، وَبَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَسَّعَهُ حَتَّى دَخَلَتِ الْحُجْرَةُ الَّتِي فِيهَا الْقَبْرُ فِيهِ، وَلَهُ آثَارٌ حِسَانٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابن جرير: هذا قول جميع أهل السير، وقال عمر بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ وَجَمَاعَةٌ: كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سِتٍّ وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَقِيلَ تِسْعٍ وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَيْرِ مُرَّانَ، فَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ حَتَّى دُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وَقِيلَ بِمَقَابِرِ بَابِ الْفَرَادِيسِ، حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ [لِأَنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ كَانَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَقِيلَ صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ] [2] . وَقِيلَ بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ، وَالصَّحِيحُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى قَبْرِهِ وَقَالَ حين أنزله: لننزلنه غير موسد ولا ممهد، قد خلفت الأسلاب وَفَارَقْتَ الْأَحْبَابَ، وَسَكَنْتَ التُّرَابَ، وَوَاجَهْتَ الْحِسَابَ، فَقِيرًا إلى ما قدمت، غنيا عما أخرت. وجاء من غير وجه عن عمر أنه أخبره أنه لما وضعه- يعنى الْوَلِيدَ- فِي لَحْدِهِ ارْتَكَضَ فِي أَكْفَانِهِ، وَجُمِعَتْ رِجْلَاهُ إِلَى عُنُقِهِ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وثمانية أشهر على المشهور والله أعلم.
__________
[1] ، (2) زيادة من المصرية.(9/165)
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا، وَهُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْعَبَّاسُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَتَمَّامٌ وَخَالِدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُبَشِّرٌ وَمَسْرُورٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَصَدَقَةُ وَمَنْصُورٌ وَمَرْوَانُ وَعَنْبَسَةُ وَعُمَرُ وَرَوْحٌ وَبِشْرٌ وَيَزِيدُ وَيَحْيَى. فَأُمُّ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدٍ أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ عَمِّهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأُمُّ أَبِي عُبَيْدَةَ فَزَارِيَّةٌ، وَسَائِرُهُمْ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَقَدْ رَثَاهُ جَرِيرٌ فَقَالَ: -
يَا عَيْنُ جُودِي بِدَمْعٍ هَاجَهُ الذِّكَرُ ... فَمَا لِدَمْعِكِ بَعْدَ الْيَوْمِ مُدَّخَرُ
إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ وَارَتْ شَمَائِلَهُ ... غَبْرَاءُ مُلْحَدَةٌ فِي جَوْلِهَا زَوَرُ
أَضْحَى بَنُوهُ وَقَدْ جَلَّتْ مُصِيبَتُهُمْ ... مِثْلَ النُّجُومِ هَوَى مِنْ بَيْنِهَا الْقَمَرُ
كَانُوا جَمِيعًا فَلَمْ يَدْفَعْ مَنِيَّتَهُ ... عَبْدُ الْعَزِيزِ وَلَا رَوْحٌ وَلَا عُمْرَ
وَمِمَّنْ هَلَكَ أَيَّامَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ (زِيَادُ بْنُ حارثة التَّمِيمِيُّ) الدِّمَشْقِيُّ، كَانَتْ دَارُهُ غَرْبِيَّ قَصْرِ الثَّقَفِيِّينَ، رَوَى عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِمَنْ لَهُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ، وَفِي النَّفْلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ. رَوَى عَنْهُ عطية بن قيس ومكحول ويونس ابن مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، وَمَعَ هَذَا قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ: شَيْخٌ مَجْهُولٌ، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حبان، روى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَقَدْ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَكُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ هَذَا الْوَقْتَ، قَالَ: فَأُخِذَ فَأُدْخِلَ الْخَضْرَاءَ فَقُطِعَ رَأْسُهُ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
عبد الله بن عمر بْنِ عُثْمَانَ
أَبُو مُحَمَّدٍ، كَانَ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ شَرِيفًا كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ جَوَادًا مُمَدَّحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ يَوْمَ مَاتَ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بِالرَّمْلَةِ، وَكَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ عَنْ وَصِيَّةِ أَبِيهِمَا عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَدْ كَانَ الْوَلِيدُ قَدْ عَزَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى خَلْعِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ، وَأَنْ يَجْعَلَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ الحجاج طاوعه على ذلك وأمره به، وكذلك قتيبة بن مسلم وجماعة، وَقَدْ أَنْشَدَ فِي ذَلِكَ جَرِيرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ قَصَائِدَ، فَلَمْ يَنْتَظِمْ ذَلِكَ لَهُ حَتَّى مَاتَ، وَانْعَقَدَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَخَافَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يُبَايِعَهُ، فَعَزَلَهُ سُلَيْمَانُ وَوَلَّى عَلَى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ ثُمَّ خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، فَأَعَادَهُ إِلَى إِمْرَتِهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، وَأَمَرَهُ بِمُعَاقَبَةِ آلِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ هُوَ الَّذِي عَزَلَ يَزِيدَ عَنْ خُرَاسَانَ. وَلِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ سُلَيْمَانُ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ حَيَّانَ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَبَا بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ(9/166)
كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ حِينَ بَلَغَهُ وِلَايَةُ سُلَيْمَانَ الْخِلَافَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يُعَزِّيهِ فِي أخيه، ويهنئه بولايته، ويذكر فيه بلاءه وعناه وَقِتَالَهُ وَهَيْبَتَهُ فِي صُدُورِ الْأَعْدَاءِ، وَمَا فَتَحَ اللَّهُ مِنَ الْبِلَادِ وَالْمُدُنِ وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ لَهُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ للوليد مِنَ الطَّاعَةِ وَالنَّصِيحَةِ، إِنْ لَمْ يَعْزِلْهُ عَنْ خُرَاسَانَ، وَنَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، ثُمَّ كَتَبَ كِتَابًا ثَانِيًا يَذْكُرُ مَا فَعَلَ مِنَ الْقِتَالِ وَالْفُتُوحَاتِ وَهَيْبَتَهُ فِي صُدُورِ الْمُلُوكِ وَالْأَعَاجِمِ، وَيَذُمُّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَيْضًا، وَيُقْسِمُ فِيهِ لَئِنْ عَزَلَهُ وَوَلَّى يَزِيدَ لَيَخْلَعَنَّ سُلَيْمَانَ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَكَتَبَ كِتَابًا ثَالِثًا فِيهِ خَلْعُ سُلَيْمَانَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ الْبَرِيدِ وَقَالَ لَهُ: ادْفَعْ إِلَيْهِ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، فَإِنْ قَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَادْفَعْ إِلَيْهِ الثَّانِيَ، فَإِنْ قَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى يزيد ابن المهلب فَادْفَعْ إِلَيْهِ الثَّالِثَ، فَلَمَّا قَرَأَ سُلَيْمَانُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ- وَاتَّفَقَ حُضُورُ يَزِيدَ عِنْدَ سُلَيْمَانَ- دَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ فَقَرَأَهُ، فَنَاوَلَهُ الْبَرِيدُ الْكِتَابَ الثَّانِيَ فَقَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَنَاوَلَهُ الْبَرِيدُ الْكِتَابَ الثَّالِثَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِعَزْلِهِ وَخَلْعِهِ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ خَتَمَهُ وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ إِلَى يَزِيدَ، وَأَمَرَ بِإِنْزَالِ الْبَرِيدِ فِي دَارِ الضِّيَافَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ بَعَثَ إِلَى الْبَرِيدِ فَأَحْضَرَهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ ذَهَبًا وَكِتَابًا فِيهِ وِلَايَةُ قُتَيْبَةَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَأَرْسَلَ مَعَ ذَلِكَ الْبَرِيدِ بَرِيدًا آخَرَ مِنْ جِهَتِهِ لِيُقَرِّرَهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَا بِلَادَ خُرَاسَانَ بَلَغَهُمَا أَنَّ قُتَيْبَةَ قَدْ خَلَعَ الْخَلِيفَةَ، فَدَفَعَ بَرِيدُ سُلَيْمَانَ الْكِتَابَ الَّذِي مَعَهُ إِلَى بَرِيدِ قُتَيْبَةَ، ثُمَّ بَلَغَهُمَا مَقْتَلُ قُتَيْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ بَرِيدُ سُلَيْمَانَ.
ذِكْرُ سَبَبِ مَقْتَلِ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ رحمه الله
وَذَلِكَ أَنَّهُ جَمَعَ الْجُنْدَ وَالْجُيُوشَ وَعَزَمَ عَلَى خلع سليمان بن عبد الملك من الخلافة وَتَركِ طَاعَتِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ هِمَّتَهُ وَفُتُوحَهُ وَعَدْلَهُ فِيهِمْ، وَدَفْعَهُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَقَالَتِهِ، فَشَرَعَ فِي تَأْنِيبِهِمْ وَذَمِّهِمْ، قَبِيلَةً قَبِيلَةً، وَطَائِفَةً طَائِفَةً، فَغَضِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَتَفَرَّقُوا، وَعَمِلُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَسَعَوْا فِي قَتْلِهِ، وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، ثُمَّ نَاهَضَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلَ مَعَهُ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ إِخْوَتِهِ وَأَبْنَاءِ إِخْوَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ سِوَى ضِرَارِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ الْغَرَّاءَ بِنْتَ ضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، فحمته أخواله، وعمرو بن مسلم كان عَامِلَ الْجَوْزَجَانِ وَقُتِلَ قُتَيْبَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ الله وعبيد الله وصالح ويسار، وَهَؤُلَاءِ أَبْنَاءُ مُسْلِمٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ أَبْنَائِهِمْ فَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ وَكِيعُ بْنُ سُودٍ.
وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُصَيْنِ بْنِ رَبِيعَةَ أَبُو حَفْصٍ الْبَاهِلِيُّ، مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ وَخِيَارِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْقَادَةِ النُّجَبَاءِ الْكُبَرَاءِ، وَالشُّجْعَانِ وَذَوِي الْحُرُوبِ وَالْفُتُوحَاتِ السَّعِيدَةِ، وَالْآرَاءِ الْحَمِيدَةِ، وَقَدْ هَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، فَأَسْلَمُوا وَدَانُوا للَّه عَزَّ وَجَلَّ،(9/167)
وَفَتَحَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ وَالْمُدُنِ الْعِظَامِ شَيْئًا كَثِيرًا كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُضِيعُ سَعْيَهُ وَلَا يُخَيِّبُ تَعَبَهُ وَجِهَادَهُ.
وَلَكِنْ زَلَّ زَلَّةً كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، وَفَعَلَ فَعْلَةً رَغِمَ فِيهَا أَنْفُهُ، وَخَلَعَ الطاعة فبادرت المنية إليه، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، لَكِنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا قَدْ يُكَفِّرُ الله به سيئاته، ويضاعف به حسناته، وَاللَّهُ يُسَامِحُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَتَقَبَّلُ مِنْهُ مَا كَانَ يُكَابِدُهُ مِنْ مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِفَرْغَانَةَ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ خُرَاسَانَ، فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ أَبُوهُ أَبُو صَالِحٍ مسلم فيمن قُتِلَ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى خُرَاسَانَ عَشْرَ سِنِينَ، وَاسْتَفَادَ وَأَفَادَ فِيهَا خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَدْ رَثَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُمَانَةَ الْبَاهِلِيُّ فَقَالَ: -
كَأَنَّ أَبَا حَفْصٍ قُتَيْبَةَ لَمْ يَسِرْ ... بِجَيْشٍ إِلَى جَيْشٍ وَلَمْ يَعْلُ مِنْبَرَا
وَلَمْ تَخْفِقِ الرَّايَاتُ وَالْقَوْمُ حَوْلَهُ ... وُقُوفٌ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ النَّاسُ عَسْكَرَا
دَعَتْهُ الْمَنَايَا فَاسْتَجَابَ لِرَبِّهِ ... وَرَاحَ إِلَى الْجَنَّاتِ عَفًّا مُطَهَّرَا
فَمَا رُزِئَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... بِمَثَلِ أَبِي حَفْصٍ فَبَكِّيهِ عَبْهَرَا
وَلَقَدْ بَالَغَ هَذَا الشَّاعِرُ في بيته الأخير. وعبهر وَلَدٍ لَهُ. وَقَالَ الطِّرْمَاحُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ التي قتل فيها على يد وكيع بن سُودٍ:
لَوْلَا فَوَارِسُ مَذْحِجِ ابْنَةِ مَذْحِجِ ... وَالْأَزْدُ زُعْزِعَ وَاسْتُبِيحَ الْعَسْكَرُ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْبِلَادُ وَلَمْ يَؤُبْ ... مِنْهُمْ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ مُخَبِّرُ
وَاسْتَضْلَعَتْ عُقَدُ الْجَمَاعَةِ وَازْدَرَى ... أَمْرُ الْخَلِيفَةِ وَاسْتُحِلَّ الْمُنْكَرُ
قوم همو قتلوا قتيبة عنوة ... والخيل جامحة عَلَيْهَا الْعِثْيَرُ
بِالْمَرْجِ مَرْجِ الصِّينِ حَيْثُ تَبَيَّنَتْ ... مُضَرُ الْعِرَاقِ مَنِ الْأَعَزُّ الْأَكْبَرُ
إِذْ حَالَفَتْ جَزَعًا رَبِيعَةُ كُلُّهَا ... وَتَفَرَّقَتْ مُضَرٌ وَمَنْ يَتَمَضَّرُ
وَتَقَدَّمَتْ أَزْدُ الْعِرَاقِ وَمَذْحِجٌ ... لِلْمَوْتِ يَجْمَعُهَا أَبُوهَا الْأَكْبَرُ
قَحْطَانُ تَضْرِبُ رَأْسَ كُلَّ مُدَجَّجٍ ... تَحْمِي بَصَائِرَهُنَّ إِذْ لَا تُبْصِرُ
وَالْأَزْدُ تَعْلَمُ أَنَّ تَحْتَ لِوَائِهَا ... مُلْكًا قُرَاسِيَةً وَمَوْتٌ أَحْمَرُ
فَبِعِزِّنَا نُصِرَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ... وَبِنَا تَثَبَّتَ فِي دِمَشْقَ المنبر
وقد بسط ابن جرير هذه القصيدة بَسَطًا كَثِيرًا وَذَكَرَ أَشْعَارًا كَثِيرَةً جِدًّا. وَقَالَ ابن خلكان وقال جرير يرثى قتيبة بن مسلم رحمه الله وسامحه، وأكرم مثواه وعفا عنه:
ندمتم على قتل الأمير ابْنِ مُسْلِمٍ ... وَأَنْتُمْ إِذَا لَاقَيْتُمُ اللَّهَ أَنْدَمُ(9/168)
لَقَدْ كُنْتُمُ مِنْ غَزْوِهِ فِي غَنِيمَةٍ ... وَأَنْتُمْ لِمَنْ لَاقَيْتُمُ الْيَوْمَ مَغْنَمُ
عَلَى أَنَّهُ أَفْضَى إِلَى حُورِ جَنَّةٍ ... وَتُطْبِقُ بِالْبَلْوَى عَلَيْكُمْ جَهَنَّمُ
قَالَ: وَقَدْ وَلِيَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَذُرِّيَّتِهِ جَمَاعَةٌ الإمرة في البلدان، فمنهم عمر بن سعيد بْنِ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ وَكَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا، رَثَاهُ حِينَ مَاتَ أَبُو عَمْرٍو أَشْجَعُ بْنُ عمرو السلمي المري نزيل البصرة يقول:
مضى ابن سعيد حيث لَمْ يَبْقَ مَشْرِقٌ ... وَلَا مَغْرِبٌ إِلَّا لَهُ فِيهِ مَادِحُ
وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا فَوَاضِلُ كَفِّهِ ... عَلَى النَّاسِ حَتَّى غَيَّبَتْهُ الصَّفَائِحُ
وَأَصْبَحَ فِي لَحْدٍ مِنَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ ... وَكَانَتْ بِهِ حيا تضيق الضحاضح
سَأُبْكِيكَ مَا فَاضَتْ دُمُوعِي فَإِنْ تَغِضْ ... فَحَسْبُكَ منى ما تجر النوائح
فما أنا من رزئى وَإِنْ جَلَّ جَازِعٌ ... وَلَا بِسُرُورٍ بَعْدَ مَوْتِكَ فَارِحُ
كَأَنْ لَمْ يَمُتْ حَيٌّ سِوَاكَ وَلَمْ تَقُمْ ... عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْكَ النَّوَائِحُ
لَئِنْ حَسُنَتْ فِيكَ الْمَرَاثِي وَذِكْرُهَا ... لَقَدْ حَسُنَتْ مِنْ قَبْلُ فِيكَ الْمَدَائِحُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاثِي وَهِيَ فِي الْحَمَاسَةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى بَاهِلَةَ وَأَنَّهَا قَبِيلَةٌ مَرْذُولَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمَجَامِيعِ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَتَكَافَأُ دِمَاؤُنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ! وَلَوْ قَتَلْتَ رجلا من باهلة لقتلتك» . وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعَرَبِ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَنْتَ بَاهِلِيٌّ؟ قَالَ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ. وَسَأَلَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ رَجُلًا مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ بَاهِلَةَ، فَجَعَلَ يَرْثِي له قال: وَأَزِيدُكَ أَنِّي لَسْتُ مِنَ الصَّمِيمِ وَإِنَّمَا أَنَا مِنْ مَوَالِيهِمْ.
فَجَعَلَ يُقَبِّلُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَالَ: وَلِمَ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ابْتَلَاكَ بِهَذِهِ الرَّزِيَّةِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِيُعَوِّضَكَ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ قُرَّةُ بْنُ شريك العبسيّ أمير مصر وحاكمها. قلت:
هو قرة بن شريك أمير مصر من جهة الوليد، وهو الّذي بنى جامع الفيوم. وفيها حج بالناس أبو بكر مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ هُوَ الأمير على المدينة، وكان على مَكَّةَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ وَصَلَاتِهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَعَلَى خَرَاجِهَا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَلَى نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى حرب خراسان وكيع بن سود وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سبع وتسعين
وَفِيهَا جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُيُوشَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَفِيهَا أَمَّرَ ابْنَهُ دَاوُدَ عَلَى الصائفة،(9/169)
فَفَتَحَ حِصْنَ الْمَرْأَةِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا غَزَا مسلمة بن عبد الملك أرض الوضاحية ففتح الحصن الّذي [بناه] الْوَضَّاحُ صَاحِبُ الْوَضَّاحِيَّةِ. وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ أَيْضًا برجمة ففتح حصونا وبرجمة وحصن الحديد وسررا، وَشَتَّى بِأَرْضِ الرُّومِ. وَفِيهَا غَزَا عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ فِي الْبَحْرِ أَرْضَ الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، وَقَدِمَ بِرَأْسِهِ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عبد الملك أمير المؤمنين، مع حَبِيبُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْفِهْرِيُّ، وَفِيهَا وَلَّى سُلَيْمَانُ نِيَابَةَ خُرَاسَانَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ وَكِيعَ بْنَ أَبِي سُودٍ لَمَّا قُتِلَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ وَذُرِّيَّتُهُ، بَعَثَ بِرَأْسِ قُتَيْبَةَ إِلَى سُلَيْمَانَ فَحَظِيَ عِنْدَهُ وَكَتَبَ لَهُ بِإِمْرَةِ خُرَاسَانَ، فَبَعَثَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عبد الرحمن ابن الْأَهْتَمِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِيُحَسِّنَ عِنْدَهُ أَمْرَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فِي إِمْرَةِ خراسان، وينتقص عنده وكيع بن سُودٍ، فَسَارَ ابْنُ الْأَهْتَمِ- وَكَانَ ذَا دَهَاءٍ وَمَكْرٍ- إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى عَزَلَ وَكِيعًا عَنْ خُرَاسَانَ وَوَلَّى عَلَيْهَا يَزِيدَ مَعَ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ، وَبَعَثَ بِعَهْدِهِ مَعَ ابْنِ الْأَهْتَمِ، فَسَارَ فِي سَبْعٍ حَتَّى جَاءَ يَزِيدَ، فَأَعْطَاهُ عَهْدَ خُرَاسَانَ مَعَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ يَزِيدُ وَعَدَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَلَمْ يف بِهَا، وَبَعَثَ يَزِيدُ ابْنَهُ مَخْلَدًا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى خُرَاسَانَ، وَمَعَهُ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَضْمُونُهُ أَنَّ قَيْسًا زَعَمُوا أَنَّ قُتَيْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ خَلَعَ الطَّاعَةَ، فَإِنْ كَانَ وَكِيعٌ قَدْ تَعَرَّضَ لَهُ وَثَارَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ خَلَعَ وَلَمْ يَكُنْ خَلَعَ فَقَيِّدْهُ وَابْعَثْ بِهِ إِلَيَّ، فَتَقَدَّمَ مَخْلَدٌ فَأَخَذَ وَكِيعًا فَعَاقَبَهُ وَحَبَسَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ أَبُوهُ، فَكَانَتْ إِمْرَةُ وَكِيعِ بن أبى سود الّذي قتل قتيبة تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، أَوْ عَشْرَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَدِمَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَتَسَلَّمَ خُرَاسَانَ وَأَقَامَ بِهَا، وَاسْتَنَابَ فِي الْبِلَادِ نُوَّابًا ذَكَرَهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قال: ثم سار يزيد بن المهلب فغزا جرجان، ولم يكن يومئذ مدينة بأبواب وصور، وإنما هي جبال وأودية، وكان ملكها يقال له صول، فتحول عنها إلى قلعة هناك، وقيل إلى جزيرة في بحيرة هناك، ثم أخذوه من البحيرة وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وأسروا وغنموا. قَالَ: وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ خُرَاسَانَ عُزِلَ عَنْهَا وَكِيعُ بن سُودٍ، وَوَلِيَهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صفرة مع العراق.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «مَنْ عَالَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ، وَعَنْ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، وَعَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجَمَاعَةٌ، وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَأَكْرَمَهُ وَنَصَرَهُ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَأَقَرَّهُ وَحْدَهُ عَلَى وِلَايَةِ صَدَقَةِ على، وقد ترجمه ابْنُ عَسَاكِرَ فَأَحْسَنَ، وَذَكَرَ عَنْهُ آثَارًا تَدُلُّ على سيادته، قيل إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْمَدِينَةِ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ الْحَسَنِ كَاتَبَ(9/170)
أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَاجْلِدْهُ مائة ضربة، وقفه للناس، ولا تراني إِلَّا قَاتِلَهُ. فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ فَعَلَّمَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ [1] كَلِمَاتِ الْكَرْبِ فَقَالَهَا حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَهِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السموات السَّبْعِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ خَوْلَةَ بِنْتَ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ. وَقَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنَ الرَّافِضَةِ: وَاللَّهِ إِنَّ قَتْلَكَ لَقُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّكَ تَمْزَحُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا مِنِّي بِمَزْحٍ وَلَكِنَّهُ الْجِدُّ. وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» ؟. فَقَالَ: بَلَى، وَلَوْ أَرَادَ الْخِلَافَةَ لَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا ولى أمركم من بعدي، وهو القائم عليكم، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اخْتَارَ عَلِيًّا لِهَذَا الْأَمْرِ ثُمَّ تَرَكَهُ عَلِيٌّ لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَرَكَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: وَاللَّهِ لَئِنْ وُلِّينَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا لَنُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ، ثُمَّ لَا نَقْبَلُ لَكُمْ تَوْبَةً، وَيْلَكُمْ غَرَرْتُمُونَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَيَلْكُمْ لَوْ كَانَتِ الْقَرَابَةُ تنفع بلا عمل لنفعت أباه وأمه، لو كَانَ مَا تَقُولُونَ فِينَا حَقًّا لَكَانَ آبَاؤُنَا إِذْ لَمْ يُعْلِمُونَا بِذَلِكَ قَدْ ظَلَمُونَا وَكَتَمُوا عَنَّا أَفْضَلَ الْأُمُورِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَى أَنْ يضاعف العذاب للعاصي منا ضعفين، كما أتى لَأَرْجُوَ لِلْمُحْسِنِ مِنَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَجْرُ مرتين، ويلكم أحبونا إن أطعنا الله على طاعته، وأبغضونا إن عصينا الله على معصيته.
مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ اللَّخْمِيُّ رحمه الله
مَوْلَاهُمْ، كَانَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْهُمْ، وَقِيلَ كَانَ مَوْلًى لِبَنِي أُمَيَّةَ، افْتَتَحَ بِلَادَ الْمَغْرِبِ، وَغَنِمَ مِنْهَا أَمْوَالًا لَا تُعَدُّ وَلَا تُوصَفُ، وَلَهُ بِهَا مَقَامَاتٌ مَشْهُورَةٌ هَائِلَةٌ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ أعرج، ويقال إنه ولد في سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ إِرَاشَةَ مِنْ بَلِيٍّ، سُبِيَ أَبُوهُ مِنْ جَبَلِ الْخَلِيلِ مِنَ الشَّامِ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ اسْمُ أَبِيهِ نَصْرًا فَصُغِّرَ، رَوَى عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَيَزِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْيَحْصُبِيُّ، وَوَلِيَ غَزْوَ الْبَحْرِ لِمُعَاوِيَةَ، فَغَزَا قُبْرُصَ، وَبَنَى هُنَالِكَ حصونا كما لما غوصة وحصن بانس وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُصُونِ الَّتِي بَنَاهَا بِقُبْرُصَ، وَكَانَ نَائِبَ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا مُعَاوِيَةُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَشَهِدَ مَرْجَ رَاهِطٍ مَعَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَلَمَّا قُتِلَ الضحاك لجأ موسى بن نصير لعبد الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَ مَرْوَانُ بِلَادَ مِصْرَ كَانَ مَعَهُ فَتَرَكَهُ عِنْدَ ابْنِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ لَمَّا أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِلَادَ الْعِرَاقِ جَعَلَهُ وَزِيرًا عِنْدَ أَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَكَانَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ هَذَا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَحَزْمٍ وَخِبْرَةٍ بِالْحَرْبِ، قَالَ البغوي [2] . ولى موسى ابن نُصَيْرٍ إِمْرَةَ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ فافتتح بلادا كثيرة جدا مدنا وأقاليم، وقد ذكرنا أنه
__________
[1] كذا بالأصول وقد تقدمت وفاة على بن الحسين قبل هذا.
[2] في المصرية الفسوي.(9/171)
افْتَتَحَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، وَهِيَ بِلَادٌ ذَاتُ مُدُنٍ وَقُرًى وَرِيفٍ، فَسَبَى مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا خَلْقًا كثيرا، وغنم أموالا كثيرة جزيلة، ومن الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ شَيْئًا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ، وَأَمَّا الْآلَاتُ وَالْمَتَاعُ وَالدَّوَابُّ فَشَيْءٌ لَا يُدْرَى مَا هُوَ، وَسَبَى مِنَ الْغِلْمَانِ الْحِسَانِ وَالنِّسَاءِ الْحِسَانِ شَيْئًا كَثِيرًا، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ لم يسلب أَحَدٌ مِثْلَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَأَسْلَمَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ عَلَى يَدَيْهِ، وَبَثَّ فِيهِمُ الدِّينَ وَالْقُرْآنَ، وَكَانَ إِذَا سَارَ إِلَى مَكَانٍ تُحْمَلُ الْأَمْوَالُ مَعَهُ عَلَى الْعَجَلِ لِكَثْرَتِهَا وَعَجْزِ الدَّوَابِّ عَنْهَا وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ هَذَا يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَقُتَيْبَةُ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ، فَجَزَاهُمَا اللَّهُ خَيْرًا، فَكِلَاهُمَا فَتَحَ مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَكِنَّ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ حَظِيَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَحْظَ بِهَا قُتَيْبَةُ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ لَمَّا فَتَحَ الْأَنْدَلُسَ جَاءَهُ رَجُلٌ فقال له: ابْعَثْ مَعِي رِجَالًا حَتَّى أَدُلَّكَ عَلَى كَنْزٍ عَظِيمٍ، فَبَعَثَ مَعَهُ رِجَالًا فَأَتَى بِهِمْ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: احْفِرُوا، فَحَفَرُوا فَأَفْضَى بِهِمُ الْحَفْرُ إِلَى قَاعَةٍ عَظِيمَةٍ ذَاتِ لَوَاوِينَ حَسَنَةٍ، فَوَجَدُوا هُنَاكَ مِنَ الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ وَالزَّبَرْجَدِ مَا أَبْهَتَهُمْ، وَأَمَّا الذَّهَبُ فَشَيْءٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وَوَجَدُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الطَّنَافِسَ، الطِّنْفِسَةُ مِنْهَا مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ، مَنْظُومَةٌ بِاللُّؤْلُؤِ الْغَالِي الْمُفْتَخِرِ، وَالطِّنْفِسَةُ مَنْظُومَةٌ بِالْجَوْهَرِ الْمُثَمَّنِ، وَالْيَوَاقِيتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي شَكْلِهَا وَحُسْنِهَا وَصِفَاتِهَا، وَلَقَدْ سُمِعَ يَوْمَئِذٍ مُنَادٍ يُنَادِي لَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ فُتِحَ عَلَيْكُمْ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. وَقِيلَ إِنَّهُمْ وَجَدُوا فِي هَذَا الْكَنْزِ مَائِدَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الَّتِي كَانَ يَأْكُلُ عَلَيْهَا. وَقَدْ جَمَعَ أَخْبَارَهُ وما جرى له في حر وبه وَغَزَوَاتِهِ رَجُلٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ مُعَارِكُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ النُّصَيْرِيُّ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ حِينَ قَدِمَ دِمَشْقَ أَيَّامَ الْوَلِيدِ عَنْ أَعْجَبِ شَيْءٍ رأيت فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: انْتَهَيْنَا مَرَّةً إِلَى جَزِيرَةٍ فيها ست عشرة جرة مختومة بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام، قال: فَأَمَرْتُ بِأَرْبَعَةٍ مِنْهَا فَأُخْرِجَتْ، وَأَمَرْتُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا فنقبت فإذا قد خرج منها شيطان ينفض رأسه ويقول: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالنُّبُوَّةِ لَا أَعُودُ بَعْدَهَا أُفْسِدُ في الأرض، قال: ثم إن ذلك الشيطان نظر فقال: إني لا أرى بهاء سُلَيْمَانَ وَمُلْكَهُ، فَانْسَاخَ فِي الْأَرْضِ فَذَهَبَ، قَالَ: فأمرت بالثلاث البواقي فرددن إلى مكانهن.
وقد ذكر السمعاني وغيره عنه أنه سار إلى مدينة النحاس التي بقرب البحر المحيط الأخضر، في أقصى بلاد المغرب، وأنهم لما أشرفوا عليها رأوا بريق شرفاتها وحيطانها من مسافة بعيدة، وأنهم لما أتوها نزلوا عندها، ثم أرسل رجلا من أصحابه ومعه مائة فارس من الأبطال، وأمره أن يدور حول سورها لينظر هل لها باب أو منفذ إلى داخلها، فقيل: إنه سار يوما وليلة حول سورها، ثم رجع إليه فأخبره أنه لم يجد بابا ولا منفذا إلى داخلها، فأمرهم فجمعوا ما معهم من المتاع بعضه على بعض، فلم(9/172)
يبلغوا أعلى سورها، فأمر فعمل سلالم فصعدوا عليها، وقيل إنه أمر رجلا فصعد على سورها، فلما رأى ما في داخلها لم يملك نفسه أن ألقاها في داخلها فكان آخر العهد به، ثم آخر فكذلك، ثم امتنع الناس من الصعود إليها، فلم يحط أحد منهم بما في داخلها علما، ثم ساروا عنها فقطعوها إلى بحيرة قريبة منها، فقيل: إن تلك الجرار المذكورة وجدها فيها، ووجد عليها رجلا قائما، فقال له:
ما أنت؟ قال: رجل من الجن وأبى محبوس في هذه البحيرة حبسه سليمان، فأنا أجيء إليه في كل سنة مرة أزوره. فقال له: هل رأيت أحدا خارجا من هذه المدينة أو داخلا إليها؟ قال: لا، إلا أن رجلا يأتى في كل سنة إلى هذه البحيرة يتعبد عليها أياما ثم يذهب فلا يعود إلى مثلها، والله أعلم ما هو.
ثم رجع إلى إفريقية، والله أعلم بصحة ذلك، والعهدة على من ذكر ذلك أولا.
وَقَدِ اسْتَسْقَى مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ حِينَ أَقْحَطُوا بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ بَيْنَ النَّاسِ وَمَيَّزَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وفرق بين البهائم وأولادها، ثم أمر بارتفاع الضَّجِيجِ وَالْبُكَاءِ، وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ نَزَلَ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا دَعَوْتَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا مَوْطِنٌ لَا يذكر فيه إلا الله عز وجل، فسقاهم عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ. وَقَدْ وَفَدَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَالْوَلِيدُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَدْ لَبِسَ موسى ثيابا حسنة وهيئة حسنة، فدخل ومعه ثلاثون غلاما من أبناء الملوك الذين أسرهم، والإسبان، وَقَدْ أَلْبَسَهُمْ تِيجَانَ الْمُلُوكِ مَعَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْأُبَّهَةِ الْعَظِيمَةِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ الْوَلِيدُ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ بُهِتَ إِلَيْهِمْ لِمَا رَأَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَرِيرِ وَالْجَوَاهِرِ وَالزِّينَةِ الْبَالِغَةِ، وَجَاءَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ فَسَلَّمَ عَلَى الْوَلِيدِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَمَرَ أُولَئِكَ فَوَقَفُوا عَنْ يَمِينِ الْمِنْبَرِ وَشِمَالِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ الْوَلِيدُ وَشَكَرَهُ عَلَى مَا أَيَّدَهُ بِهِ وَوَسَّعَ مُلْكَهُ، وَأَطَالَ الدُّعَاءَ وَالتَّحْمِيدَ وَالشُّكْرَ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِمُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ فأحسن جائزته وأعطاه شيئا كثيرا، وكذلك موسى بن نصير قدم معه بشيء كثير، من ذلك مائدة سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، الَّتِي كَانَ يَأْكُلُ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ مِنْ خَلِيطَيْنِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَعَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَطْوَاقِ لُؤْلُؤٍ وَجَوْهَرٍ لَمْ يُرَ مثله، وَجَدَهَا فِي مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مَعَ أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. وَقِيلَ إِنَّهُ بَعَثَ ابْنَهُ مَرْوَانَ عَلَى جَيْشٍ فَأَصَابَ مِنَ السَّبْيِ مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ، وَبَعَثَ ابْنَ أَخِيهِ فِي جَيْشٍ فأصاب من السبي مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ أَيْضًا مِنَ الْبَرْبَرِ، فَلَمَّا جَاءَ كِتَابُهُ إِلَى الْوَلِيدِ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ خُمُسَ الْغَنَائِمِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَأْسٍ قَالَ النَّاسُ: إِنَّ هَذَا أَحْمَقُ، مِنْ أَيْنَ لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَأْسٍ خُمُسُ الْغَنَائِمِ؟ فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَرْسَلَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ رَأْسٍ وَهِيَ خُمُسُ مَا غَنِمَ، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ سَبَايَا مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ أَمِيرِ الْمَغْرِبِ.(9/173)
وَقَدْ جَرَتْ لَهُ عَجَائِبُ فِي فَتْحِهِ بِلَادَ الأندلس وقال: ولو انْقَادَ النَّاسُ لِي لَقُدْتُهُمْ حَتَّى أَفْتَحَ بِهِمْ مَدِينَةَ رُومِيَّةَ- وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْعُظْمَى فِي بِلَادِ الفرنج- ثم ليفتحها اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى الْوَلِيدِ قَدِمَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ السَّبْيِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ خُمُسُ مَا كَانَ غَنِمَهُ فِي آخِرِ غَزَاةٍ غَزَاهَا بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَقَدِمَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ والتحف واللآلي وَالْجَوَاهِرِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِدِمَشْقَ حَتَّى مَاتَ الْوَلِيدُ وَتَوَلَّى سليمان، وكان سليمان عاتبا على موسى فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ وَطَالَبَهُ بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ في يده حتى حج بالناس سُلَيْمَانُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ بِوَادِي الْقُرَى، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وقيل توفى في سنة تسع وتسعين فاللَّه أعلم ورحمه الله وعفا عنه بمنه وفضله آمين.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
فَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَرَاءَ الْجَيْشِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ الْتَفَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْجَيْشُ الَّذِينَ هُمْ هُنَاكَ وَقَدْ أَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْجَيْشِ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا جَمَعُوا ذَلِكَ فَإِذَا هُوَ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فَقَالَ لَهُمْ مَسْلَمَةُ: اتْرُكُوا هَذَا الطَّعَامَ وَكُلُوا مِمَّا تَجِدُونَهُ فِي بِلَادِهِمْ، وَازْرَعُوا فِي أَمَاكِنِ الزَّرْعِ وَاسْتَغِلُّوهُ، وَابْنُوا لَكُمْ بُيُوتًا مِنْ خشب، فانا لا نرجع عن هذا البلد إلا أن نفتحها إن شاء الله. ثم إن مسلمة داخل رجلا مِنَ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُ إِلْيُونَ، وَوَاطَأَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَأْخُذَ لَهُ بِلَادَ الرُّومِ، فَظَهَرَ مِنْهُ نُصْحٌ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تُوُفِّيَ مَلِكُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَدَخَلَ إِلْيُونَ فِي رِسَالَةٍ مِنْ مَسْلَمَةَ وَقَدْ خَافَتْهُ الرُّومُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِمْ إِلْيُونُ قَالُوا لَهُ: رُدَّهُ عَنَّا وَنَحْنُ نُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا فَخَرَجَ فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي الْغَدْرِ وَالْمَكْرِ، وَلَمْ يَزَلْ قَبَّحَهُ اللَّهُ حَتَّى أحرق ذلك الطعام الّذي للمسلمين، وذلك أنه قَالَ لِمَسْلَمَةَ: إِنَّهُمْ مَا دَامُوا يَرَوْنَ هَذَا الطعام يَظُنُّونَ أَنَّكَ تُطَاوِلُهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَلَوْ أَحْرَقْتَهُ لتحققوا منك العزم، وسلموا إليك الْبَلَدَ سَرِيعًا، فَأَمَرَ مَسْلَمَةُ بِالطَّعَامِ فَأُحْرِقَ، ثُمَّ انْشَمَرَ إِلْيُونُ فِي السُّفُنِ وَأَخَذَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ أَمْتِعَةِ الْجَيْشِ فِي اللَّيْلِ، وَأَصْبَحَ وَهُوَ في البلد محاربا للمسلمين، وأظهر العداوة الأكيدة، وتحصن وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ، وَضَاقَ الْحَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَكَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا التُّرَابَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمْ حَتَّى جَاءَتْهُمْ وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَتَوْلِيَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز، فَكَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ جُهِدُوا جَهْدًا شَدِيدًا، لَكِنْ لَمْ يَرْجِعْ مَسْلَمَةُ حَتَّى بَنَى مَسْجِدًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ شَدِيدَ الْبِنَاءِ مُحْكَمًا، رَحْبَ الْفِنَاءِ شَاهِقًا فِي السَّمَاءِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا وَلِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرَادَ الْإِقَامَةَ بِبَيْتِ المقدس، ثم يرسل الْعَسَاكِرَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِأَنْ يَفْتَحَ مَا دُونَهَا مِنَ الْمُدُنِ والرساتيق والحصون،(9/174)
حَتَّى يَبْلُغَ الْمَدِينَةَ، فَلَا يَأْتِيَهَا إِلَّا وَقَدْ هُدِمَتْ حُصُونُهَا وَوَهَنَتْ قُوَّتُهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا مَانِعٌ، فَيُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ وَيُسَلِّمُوا لَكَ الْبَلَدَ، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدَعَ مَا دُونَهَا مِنَ الْبِلَادِ وَيَفْتَحَهَا عَنْوَةً، فَمَتَى مَا فُتِحَتْ فَإِنَّ بَاقِيَ مَا دُونَهَا مِنَ الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ بِيَدِكَ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ:
هَذَا هُوَ الرَّأْيُ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ مِنَ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ فَجَهَّزَ فِي الْبَرِّ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَفِي الْبَحْرِ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَأَخْرَجَ لَهُمُ الْأَعْطِيَةَ، وَأَنْفَقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ، وَأَعْلَمَهُمْ بِغَزْو القسطنطينية والاقامة إِلَى أَنْ يَفْتَحُوهَا، ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدَخَلَ دِمَشْقَ وَقَدِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الْعَسَاكِرُ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ وَالتَّنَاصُحِ وَالتَّنَاصُفِ. ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ حَتَّى نَزَلَ مَرْجَ دَابِقٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ أَيْضًا من المتطوعة الْمُحْتَسِبِينَ أُجُورَهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، ثُمَّ أَمَرَ مَسْلَمَةَ أَنْ يَرْحَلَ بِالْجُيُوشِ وَأَخَذَ مَعَهُ إِلْيُونَ الرُّومِيَّ الْمَرْعَشِيَّ، ثُمَّ سَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَحَاصَرَهَا إِلَى أَنْ بَرَّحَ بِهِمْ وَعَرَضَ أَهْلُهَا الْجِزْيَةَ عَلَى مَسْلَمَةَ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَفْتَحَهَا عَنْوَةً، قَالُوا: فَابْعَثْ إِلَيْنَا إِلْيُونَ نُشَاوِرْهُ، فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: رُدَّ هَذِهِ الْعَسَاكِرَ عَنَّا وَنَحْنُ نُعْطِيكَ وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَ إِلَى مَسْلَمَةَ:
فقال: قَدْ أَجَابُوا إِلَى فَتْحِهَا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يفتحونها حتى تتنحى عَنْهُمْ، فَقَالَ مَسْلَمَةُ: إِنِّي أَخْشَى غَدْرَكَ، فَحَلَفَ له أنه يَدْفَعَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَهَا وَمَا فِيهَا، فَلَمَّا تَنَحَّى عَنْهُمْ أَخَذُوا فِي تَرْمِيمِ مَا تَهَدَّمَ مِنْ أَسْوَارِهَا وَاسْتَعَدُّوا لِلْحِصَارِ، وَغَدَرَ إِلْيُونُ بِالْمُسْلِمِينَ قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَهْدَ لِوَلَدِهِ أيوب أنه الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مروان بن عبد الملك، فَعَدَلَ عَنْ وِلَايَةِ أَخِيهِ يَزِيدَ إِلَى وِلَايَةِ وَلَدِهِ أَيُّوبَ، وَتَرَبَّصَ بِأَخِيهِ الدَّوَائِرَ، فَمَاتَ أَيُّوبُ في حياة أبيه، فبايع سليمان إلى ابْنِ عَمِّهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَكُونَ الخليفة من بعده، ونعم مَا فَعَلَ. وَفِيهَا فُتِحَتْ مَدِينَةُ الصَّقَالِبَةِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
وَقَدْ أَغَارَتِ الْبُرْجَانُ عَلَى جَيْشِ مَسْلَمَةَ وَهُوَ فِي قِلَّةٍ مِنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ السنة. فبعث إليه سليمان جيشا فتماثل البرجان حتى هزمهم الله عز وجل. وفيها غزا يزيد بن المهلب قهستان مِنْ أَرْضِ الصِّينِ فَحَاصَرَهَا وَقَاتَلَ عِنْدَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى تَسَلَّمَهَا، وَقَتَلَ مِنَ التُّرْكِ الَّذِينَ بِهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ صَبْرًا، وَأَخَذَ مِنْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَقِيمَةً وَحُسْنًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى جُرْجَانَ فَاسْتَجَاشَ صَاحِبُهَا بِالدَّيْلَمِ، فَقَدِمُوا لِنَجْدَتِهِ فَقَاتَلَهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَقَاتَلُوهُ، فَحَمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعَفِيُّ- وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا بَاهِرًا- عَلَى ملك الديلم فقتله وهزمهم الله، وَلَقَدْ بَارَزَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ هَذَا يَوْمًا بَعْضَ فُرْسَانِ التُّرْكِ، فَضَرَبَهُ التُّرْكِيُّ بِالسَّيْفِ عَلَى الْبَيْضَةِ فَنَشِبَ فِيهَا، وَضَرَبَهُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَسَيْفُهُ يَقْطُرُ دما وسيف التركي ناشب في(9/175)
خودته، فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالُوا:
ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ. فَقَالَ: نِعْمَ الرجل لولا انهما كه في الشراب. ثم صمم يزيد عَلَى مُحَاصَرَةِ جُرْجَانَ، وَمَا زَالَ يُضَيِّقُ عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى صَالَحَهُ عَلَى سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ ثَوْبٍ، وَأَرْبَعِمِائَةِ حِمَارٍ مُوَقَّرَةٍ زَعْفَرَانًا، وَأَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَجُلٍ تُرْسٌ، عَلَى التُّرْسِ طَيْلَسَانُ وَجَامٌ مِنْ فِضَّةٍ وَسَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ، وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ كان سعيد بن العاص فيها فتحها صلحا على أن يحملوا الخراج فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفٍ، وَفِي سَنَةٍ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَفِي بَعْضِ السِّنِينَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، وَيَمْنَعُونَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، ثُمَّ امْتَنَعُوا جُمْلَةً وَكَفَرُوا، فَغَزَاهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَرَدَّهَا صُلْحًا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. قَالُوا: وَأَصَابَ يَزِيدُ بْنُ المهلب من غيرها أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، فَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَاجٌ فِيهِ جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ، فَقَالَ: أَتَرَوْنَ أَحَدًا يَزْهَدُ في هذا؟ قالوا:
لا نعلمه، فقال: والله إني لأعلم رجلا لو عرض عليه هذا وأمثاله لزهد فيه، ثم دعا بِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسْعٍ- وَكَانَ فِي الْجَيْشِ مُغَازِيًا- فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَخْذَ التَّاجِ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَأْخُذَنَّهُ، فَأَخَذَهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَمَرَ يَزِيدُ رَجُلًا أَنْ يَتْبَعَهُ فَيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُ بِالتَّاجِ، فَمَرَّ بِسَائِلٍ فَطَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ [التَّاجَ] بِكَمَالِهِ وَانْصَرَفَ، فَبَعَثَ يَزِيدُ إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ فَأَخَذَ مِنْهُ التَّاجَ وَعَوَّضَهُ عَنْهُ مَالًا كَثِيرًا وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ: كَانَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَلَى خَزَائِنِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ خَرِيطَةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: نَعَمْ وَأَحْضَرَهَا، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: هِيَ لَكَ، ثُمَّ اسْتَدْعَى الَّذِي وَشَى بِهِ فَشَتَمَهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْقُطَامِيُّ الْكَلْبِيُّ، وَيُقَالُ إِنَّهَا لِسِنَانِ بْنِ مُكَمَّلٍ النُّمَيْرِيِّ
لَقَدْ بَاعَ شَهْرٌ دِينَهُ بِخَرِيطَةٍ ... فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ
أَخَذْتَ بِهِ شَيْئًا طَفِيفًا وَبِعْتَهُ ... مِنِ ابْنِ جونبوذان هذا هو الغدر
وقال مرة بن النَّخَعِيُّ:
يَا ابْنَ الْمُهَلَّبِ مَا أَرَدْتَ إِلَى امْرِئٍ ... لَوْلَاكَ كَانَ كَصَالِحِ الْقُرَّاءِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُقَالُ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ كَانَ فِي غَزْوَةِ جُرْجَانَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، مِنْهُمْ سِتُّونَ أَلْفًا مِنْ جَيْشِ الشَّامِ أَثَابَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ تَمَهَّدَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ بِفَتْحِ جُرْجَانَ وَسَلَكَتِ الطُّرُقُ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مُخَوِّفَةً جِدًّا، ثُمَّ عَزَمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى خوزستان، وَقَدِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةٌ هِيَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سُرَاةِ النَّاسِ، فَلَمَّا الْتَقَوُا اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ أَرْبَعَةُ آلاف إنا للَّه وإنا إليه راجعون. ثم إن يزيد عزم عَلَى فَتْحِ الْبِلَادِ لَا مَحَالَةَ، وَمَا زَالَ حَتَّى صَالَحَهُ صَاحِبُهَا- وَهُوَ الْإِصْبَهْبَذُ- بِمَالٍ كَثِيرٍ، سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الأعيان:(9/176)
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
كَانَ إِمَامًا حُجَّةً، وَكَانَ مُؤَدِّبَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
أَبُو الْحَفْصِ النَّخَعِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بن محمد بن الْحَنَفِيَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي التَّكْمِيلِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
. ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وتسعين
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ، وَقِيلَ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْهَا، عَنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ عَنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ الْأَرْبَعِينَ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَزَعَمَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ يوم الجمعة لثلاث عشر بَقِيَتْ مِنْ رَمَضَانَ مِنْهَا، وَأَنَّهُ اسْتَكْمَلَ فِي خلافته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالصَّحِيحُ قول الجمهور وهو الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَبُو أَيُّوبَ. كَانَ مَوْلِدُهُ بِالْمَدِينَةِ فِي بنى جذيلة، وَنَشَأَ بِالشَّامِ عِنْدَ أَبِيهِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طريق ابنه عبد الواحد ابن سُلَيْمَانَ عَنْهُ، وَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُنَيْدَةَ أَنَّهُ صَحِبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ إِلَى الْغَابَةِ قَالَ فَسَكَتُّ فَقَالَ لِي ابْنُ عمر: مالك؟ فقال: إني كنت أتمنى. فقال ابن عمر: فما تتمنى يا أبا عبد الرحمن؟ فقال لي: لَوْ أَنَّ لِي أُحُدًا هَذَا ذَهَبًا أَعْلَمُ عَدَدَهُ وَأُخْرِجُ زَكَاتَهُ مَا كَرِهْتُ ذَلِكَ، أَوْ قال: ما خشيت أن يضرّبى. رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ مَوْضِعَ مِيضَأَةِ جيرون الآن في تلك المساحة جَمِيعِهَا، وَبَنَى دَارًا كَبِيرَةً مِمَّا يَلِي بَابَ الصَّغِيرِ، مَوْضِعَ الدَّرْبِ الْمَعْرُوفِ بِدَرْبِ مُحْرِزٍ، وَجَعَلَهَا دَارَ الْإِمَارَةِ، وَعَمِلَ فِيهَا قُبَّةً صَفْرَاءَ تَشْبِيهًا بِالْقُبَّةِ الْخَضْرَاءِ، قَالَ: وَكَانَ فَصِيحًا مُؤْثِرًا لِلْعَدْلِ مُحِبًّا لِلْغَزْوِ، وَقَدْ أَنْفَذَ الْجَيْشَ لِحِصَارِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ حَتَّى صَالَحُوهُمْ عَلَى بِنَاءِ الْجَامِعِ بِهَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ جَمَعَ بَنِيهِ، الْوَلِيدَ وَسُلَيْمَانَ وَمَسْلَمَةَ، بَيْنَ يَدَيْهِ فَاسْتَقْرَأَهُمُ الْقُرْآنَ فَأَجَادُوا الْقِرَاءَةَ، ثُمَّ اسْتَنْشَدَهُمُ الشِّعْرَ فَأَجَادُوا، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُكْمِلُوا أَوْ يُحْكِمُوا شِعْرَ الْأَعْشَى، فَلَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: لِيُنْشِدْنِي كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ أَرَقَّ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ وَلَا يُفْحِشُ، هَاتِ يَا وَلِيدُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ:
مَا مَرْكَبٌ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ يُعْجِبُنِي ... كَمَرْكَبٍ بَيْنَ دُمْلُوجٍ وَخَلْخَالِ
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَهَلْ يكون من الشعر أرق مِنْ هَذَا؟ هَاتِ يَا سُلَيْمَانَ، فَقَالَ:(9/177)
حَبَّذَا رَجْعُهَا يَدَيْهَا إِلَيْهَا ... فِي يَدِى دِرْعُهَا تَحُلُّ الْإِزَارَا
فَقَالَ: لَمْ تُصِبْ، هَاتِ يَا مَسْلَمَةُ، فَأَنْشَدَهُ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلَّا لِتَضْرِبِي ... بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
فَقَالَ: كَذَبَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَلَمْ يُصِبْ، إِذَا ذَرَفَتْ عَيْنَاهَا بِالْوَجْدِ فَمَا بَقِيَ إِلَّا اللقاء، وإنما ينبغي للعاشق أن يغتضى [1] مِنْهَا الْجَفَاءَ وَيَكْسُوَهَا الْمَوَدَّةَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا مُؤَجِّلُكُمْ فِي هَذَا الْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَنْ أَتَانِي بِهِ فَلَهُ حُكْمُهُ، أَيْ مَهْمَا طَلَبَ أَعْطَيْتُهُ، فَنَهَضُوا مِنْ عِنْدِهِ فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ فِي مَوْكِبٍ إِذَا هُوَ بِأَعْرَابِيٍّ يَسُوقُ إِبِلَهُ وَهُوَ يقول:
لو ضربوا بِالسَّيْفِ رَأْسِي فِي مَوَدَّتِهَا ... لَمَالَ يَهْوِي سَرِيعًا نَحْوَهَا رَأْسِي
فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ بِالْأَعْرَابِيِّ فَاعْتُقِلَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى أَبِيهِ فَقَالَ: قَدْ جِئْتُكَ بِمَا سَأَلْتَ، فَقَالَ: هَاتِ، فَأَنْشَدَهُ الْبَيْتَ فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، وَأَنَّى لَكَ هَذَا؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ وَلَا تَنْسَ صَاحِبَكَ. فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين إنك عَهِدْتَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِكَ لِلْوَلِيدِ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَجَابَهُ إلى ذلك، وبعثه على الحج في إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهَا سُلَيْمَانُ لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْبَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَصَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَخِيهِ الْوَلِيدِ، كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالْوَزِيرِ وَالْمُشِيرِ، وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَحِثَّ عَلَى عِمَارَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ الْوَلِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخرة سنة ست وتسعين، كان سُلَيْمَانُ بِالرَّمْلَةِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ تَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ سَارُوا إِلَيْهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَايَعُوهُ هُنَاكَ، وَعَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِالْقُدْسِ، وَأَتَتْهُ الْوُفُودُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمْ يَرَوْا وفادة هناك، وكان يَجْلِسُ فِي قُبَّةٍ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الصَّخْرَةَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ، وَتَجْلِسُ أَكَابِرُ النَّاسِ عَلَى الْكَرَاسِيِّ، وَتُقَسَّمُ فِيهِمُ الْأَمْوَالُ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَى دِمَشْقَ. فَدَخَلَهَا وَكَمَّلَ عِمَارَةَ الْجَامِعِ.
وَفِي أَيَّامِهِ جُدِّدَتِ الْمَقْصُورَةُ وَاتَّخَذَ ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُسْتَشَارًا وَوَزِيرًا، وَقَالَ لَهُ:
إِنَّا قَدْ وُلِّينَا مَا تَرَى وَلَيْسَ لَنَا عِلْمٌ بِتَدْبِيرِهِ، فَمَا رَأَيْتَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فَمُرْ بِهِ فَلْيُكْتَبْ، وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ عَزْلُ نُوَّابِ الْحَجَّاجِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِ السجون منها، وإطلاق الأسراء، وبدل الْأَعْطِيَةِ بِالْعِرَاقِ، وَرَدُّ الصَّلَاةِ إِلَى مِيقَاتِهَا الْأَوَّلِ، بعد أن كانوا يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى آخَرِ وَقْتِهَا، مَعَ أُمُورٍ حَسَنَةٍ كَانَ يَسْمَعُهَا مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَمَرَ بِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ فِي الْبَرِّ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَبَعَثَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ أَلْفَ مَرْكَبٍ فِي الْبَحْرِ، عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى جَمَاعَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَخُوهُ مَسْلَمَةُ، وَمَعَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ بْنُ سليمان بن عبد الملك
__________
[1] يغتضى الجفاء أي يغضى عنه. ولعله «ينتضى» بمعنى يخلع، في مقابل قوله «ويكسوها»(9/178)
فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ مَشُورَةِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَدِمَ فِي أَيَّامِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَوْنٍ الْأَسَدِيِّ. قَالَ:
أَوَّلُ كَلَامٍ تَكَلَّمَ بِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حِينَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي مَا شَاءَ صَنَعَ وَمَا شَاءَ رَفَعَ وَمَا شَاءَ وَضَعَ، وَمَنْ شَاءَ أَعْطَى وَمَنْ شَاءَ مَنَعَ. إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ غُرُورٍ، وَمَنْزِلُ بَاطِلٍ، وَزِينَةُ تَقَلُّبٍ، تُضْحِكُ بَاكِيًا وَتُبْكِي ضَاحِكًا، وَتُخِيفُ آمِنًا وَتُؤَمِّنُ خَائِفًا، تُفْقِرُ مُثْرِيهَا، وَتُثْرِي فَقِيرَهَا، مَيَّالَةٌ لَاعِبَةٌ بِأَهْلِهَا. يَا عِبَادَ اللَّهِ اتَّخِذُوا كِتَابَ اللَّهِ إِمَامًا، وَارْضَوْا بِهِ حَكَمًا، وَاجْعَلُوهُ لَكُمْ قَائِدًا، فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَلَنْ يَنْسَخْهُ كِتَابٌ بَعْدَهُ. اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَجْلُو كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَضَغَائِنَهُ كَمَا يَجْلُو ضَوْءُ الصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِدْبَارَ اللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ. قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَخْطُبُنَا كُلَّ جُمُعَةٍ لَا يَدَعُ أَنْ يَقُولَ فِي خُطْبَتِهِ: وَإِنَّمَا أهل الدنيا على رحيل، لم تمض لهم نية ولم تطمئن بهم حتى يأتى أمر الله ووعده وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَذَلِكَ لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا، ولا تؤمن فجائعها ولا تبقى مِنْ شَرِّ أَهْلِهَا ثُمَّ يَتْلُو أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ 26: 205- 207 وروى الأصمعي أن نقش خاتم سليمان [كان] : آمَنْتُ باللَّه مُخْلِصًا، وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ سَلَمَةَ بْنِ الْعَيَّارِ الْفَزَارِيِّ. قَالَ: كان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول:
افتتح خلافته بخير وختمها بخير، افتتحها بإجابة الصَّلَاةَ لِمَوَاقِيتِهَا، وَخَتَمَهَا بِاسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيز.
وقد أجمع علماء الناس وَالتَّوَارِيخِ أَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وتسعين وهو خليفة، قال الهيثم ابن عَدِيٍّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ بِالْمَوْسِمِ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
أَلَا تَرَى هَذَا الْخَلْقَ الّذي لا يحصى عددها إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَسَعُ رِزْقَهُمْ غِيْرُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَؤُلَاءِ رَعِيَّتُكَ الْيَوْمَ، وَهُمْ غدا خصماؤك عند الله، فَبَكَى سُلَيْمَانُ بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: باللَّه أَسْتَعِينُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ. قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سَفَرٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فأصابهم السَّمَاءُ بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَظُلْمَةٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ، حَتَّى فَزِعُوا لِذَلِكَ، وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يضحك، فقال له سليمان: ما يضحكك يَا عُمَرُ؟ أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ آثَارُ رحمته فيها شَدَائِدُ مَا تَرَى، فَكَيْفَ بِآثَارِ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ؟
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ: الصَّمْتُ مَنَامُ الْعَقْلِ وَالنُّطْقُ يَقَظَتُهُ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا بِهَذَا. وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَأَعْجَبَهُ مَنْطِقُهُ ثُمَّ فَتَّشَهُ فَلَمْ يَحْمَدْ عَقْلَهُ، فَقَالَ: فَضْلُ مَنْطِقِ الرَّجُلِ عَلَى عَقْلِهِ خُدْعَةٌ،(9/179)
وَفَضْلُ عَقْلِهِ عَلَى مَنْطِقِهِ هُجْنَةٌ، وَخَيْرُ ذَلِكَ مَا أَشْبَهَ بَعْضُهُ بَعْضًا وَقَالَ: الْعَاقِلُ أَحْرَصُ عَلَى إِقَامَةِ لِسَانِهِ مِنْهُ عَلَى طَلَبِ مَعَاشِهِ، وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ فَيُحْسِنَ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَكَتَ فَأَحْسَنَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيُحْسِنَ. وَمِنْ شِعْرِهِ يَتَسَلَّى عَنْ صَدِيقٍ لَهُ مَاتَ فقال:
وَهَوَّنَ وَجْدِي فِي شَرَاحِيلَ أَنَّنِي ... مَتَى شِئْتُ لاقيت امرأ مات صاحبه
ومن شعره أيضا:
ومن شيمى ألّا أُفَارِقَ صَاحِبِي ... وَإِنْ مَلَّنِي إِلَّا سَأَلْتُ لَهُ رُشْدَا
وَإِنْ دَامَ لِي بِالْوُدِّ دُمْتُ وَلَمْ أَكُنْ ... كَآخَرِ لَا يَرْعَى ذِمَامًا وَلَا عَهْدَا
وَسَمِعَ سُلَيْمَانُ لَيْلَةً صَوْتَ غِنَاءٍ فِي مُعَسْكَرِهِ فَلَمْ يَزَلْ يَفْحَصُ حَتَّى أَتَى بِهِمْ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ الْفَرَسَ لَيَصْهَلُ فَتَسْتَوْدِقُ لَهُ الرَّمَكَةُ، وإن الجمل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينبّ فتستخذى لَهُ الْعَنْزُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَغَنَّى فَتَشْتَاقُ لَهُ المرأة، ثم أمر بهم فقال: اخصوهم، فَيُقَالُ إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: يا أمير المؤمنين إنها مثلة، ولكن انفهم، فنفاهم. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ خَصَى أَحَدَهُمْ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَصْلِ الْغِنَاءِ فَقِيلَ إِنَّهُ بِالْمَدِينَةِ، فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِهَا وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ محمد بْنِ حَزْمٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَخْصِيَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُغَنِّينَ الْمُخَنَّثِينَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى سُلَيْمَانَ فَدَعَاهُ إِلَى أَكْلِ الْفَالُوذَجِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَكْلَهَا يَزِيدُ فِي الدِّمَاغِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَأْسُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ [رَأْسِ] الْبَغْلِ.
وَذَكَرُوا أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَهِمًا فِي الْأَكْلِ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْهُ أَشْيَاءَ فِي ذَلِكَ غَرِيبَةً، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اصْطَبَحَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بِأَرْبَعِينَ دَجَاجَةً مَشْوِيَّةً، وَأَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ كُلْوَةً بِشَحْمِهَا، وَثَمَانِينَ جَرْدَقَةً، ثُمَّ أَكَلَ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْعَادَةِ فِي السِّمَاطِ الْعَامِّ [1] . وَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ بستانا له وكان قد أمر قيمه أن يجثى ثماره، فدخله ومعه أصحابه فأكل القوم حتى ملوا، وَاسْتَمَرَّ هُوَ يَأْكُلُ أَكْلًا ذَرِيعًا مِنْ تِلْكَ الْفَوَاكِهِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِشَاةٍ مَشْوِيَّةٍ فَأَكَلَهَا ثُمَّ أقبل على أكل الْفَاكِهَةِ، ثُمَّ أُتِيَ بِدَجَاجَتَيْنِ فَأَكَلَهُمَا، ثُمَّ عَادَ إلى الفاكهة فأكل منها، ثُمَّ أُتِيَ بِقَعْبٍ يَقْعُدُ فِيهِ الرَّجُلُ مَمْلُوءًا سويقا وسمنا وسكرا فَأَكَلَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأُتِيَ بالسماط فما فقدوا مِنْ أَكْلِهِ شَيْئًا [2] . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَرَضَتْ له حمى عقب هذا الأكل أَدَّتْهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَبَبَ مَرَضِهِ كَانَ مِنْ أَكْلِ أَرْبَعِمِائَةِ بَيْضَةٍ وَسَلَّتَيْنِ تينا فاللَّه أعلم.
وذكر الفضل بن أبى المهلب أَنَّهُ لَبِسَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حُلَّةً صَفْرَاءَ ثم نزعها ولبس بدلها حلة خضراء
__________
[1] هذا وأمثاله من مبالغات الأعاجم التي كانوا يتقربون بها إلى بنى العباس. وسيأتي في ص 183 أن سليمان رحمه الله أنه كان نحيفا جميلا، وهي صفة لا تتفق مع ما نسبوه اليه
[2] الّذي اخترع هذه الأكاذيب نسي أن المعدة لا تقبل زيادة على حجمها، وقد قيل إذا كنت كذوبا فكن ذكورا(9/180)
وَاعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ خَضْرَاءَ وَجَلَسَ عَلَى فِرَاشٍ أَخْضَرَ وَقَدْ بُسِطَ مَا حَوْلَهُ بِالْخُضْرَةِ، ثُمَّ نَظَرَ في المرآة فأعجب؟
حُسْنُهُ، وَشَمَّرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَقَالَ: أَنَا الْخَلِيفَةُ الشَّابُّ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ وَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِيهَا ويقول: كان محمد نبيا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ صِدِّيقًا وَكَانَ عُمَرُ فَارُوقًا، وكان عثمان حبيا، وَكَانَ عَلِيٌّ شُجَاعًا، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ حَلِيمًا، وَكَانَ يَزِيدُ صَبُورًا، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ سَائِسًا، وَكَانَ الْوَلِيدُ جَبَّارًا، وَأَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ. قَالُوا: فَمَا حال عليه بعد ذلك شَهْرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ جُمُعَةٌ، حَتَّى مَاتَ. قَالُوا: وَلَمَّا حُمَّ شَرَعَ يَتَوَضَّأُ فَدَعَا بِجَارِيَةٍ فَصَبَّتْ عَلَيْهِ مَاءَ الْوُضُوءِ ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ:
أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى ... غَيْرَ أَنْ لَا بقاء للإنسان
أنت خلو من العيوب ومما ... يكره النَّاسِ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِ
قَالُوا: فَصَاحَ بِهَا وقال: عزتنى في نفسي، ثم أمر خاله الوليد بن العباس الْقَعْقَاعِ الْعَنْسِيَّ [1] أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ وَقَالَ:
قَرِّبْ وضوءك يا وليد فإنما ... دنياك هذي بلغة ومتاع
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ صَالِحًا ... فَالدَّهْرُ فِيهِ فُرْقَةٌ وَجِمَاعُ
وَيُرْوَى أَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا جَاءَتْهُ بِالطَّسْتِ جَعَلَتْ تَضْطَرِبُ مِنَ الْحُمَّى، فَقَالَ: أَيْنَ فلانة؟ فقالت:
محمومة، قال: فلانة؟ قَالَتْ: مَحْمُومَةٌ، وَكَانَ بِمَرْجِ دَابِقٍ مِنْ أَرْضِ قِنَّسْرِينَ، فَأَمَرَ خَالَهُ فَوَضَّأَهُ ثُمَّ خَرَجَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ فِي الْخُطْبَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وقد أصابته الحمى فمات فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَصَابَهُ ذَاتُ الْجَنْبِ فَمَاتَ بِهَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ قَدْ أقسم أنه لا يبرح بمرج دابق حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ بِفَتْحِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، قَالُوا: وَجَعَلَ يَلْهَجُ فِي مرضه ويقول:
إن بنىّ صِغَارُ ... أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ كِبَارُ
فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَقُولُ:
إِنَّ بنىّ صبية صيفيون ... قد أفلح من كان له ربعيون
وَيُرْوَى أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: أَسْأَلُكَ مُنْقَلَبًا كَرِيمًا، ثُمَّ قَضَى. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ- وَكَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ- قَالَ: اسْتَشَارَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَنْ يُوَلِّيَ له ابنا صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، فَقُلْتُ: إِنَّ مِمَّا يَحْفَظُ الْخَلِيفَةَ فِي قَبْرِهِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى المسلمين الرَّجُلَ الصَّالِحَ، ثُمَّ شَاوَرَنِي فِي وِلَايَةِ ابْنِهِ داود، فقلت: إِنَّهُ غَائِبٌ عَنْكَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَلَا تَدْرِي أَحَيٌّ هو أو ميت، فقال: من ترى؟ فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين،
__________
[1] في المصرية العبسيّ.(9/181)
قال: فكيف تَرَى فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟ فَقُلْتُ: أعلمه والله خيرا فاضلا مسلما يحب الخير وأهله، ولكن أتخوف عليه إخوتك أن لا يرضوا بذلك، فقال: هو والله على ذلك وأشار رجال [1] أَنْ يَجْعَلَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ليرضى بذلك بنو مَرْوَانَ، فَكَتَبَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1، هَذَا كِتَابٌ من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليته الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي وَمِنْ بَعْدِهِ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تختلفوا فيطمع فيكم عدوكم. وَخَتَمَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ حَامِدٍ الْعَبْسِيِّ صَاحِبِ الشُّرَطَةِ، فَقَالَ لَهُ:
اجْمَعْ أَهْلَ بَيْتِي فَمُرْهُمْ فَلْيُبَايِعُوا عَلَى مَا فِي هَذَا الكتاب مختوما، فمن أبى منهم ضرب عُنُقَهُ. فَاجْتَمَعُوا وَدَخَلَ رِجَالٌ مِنْهُمْ فَسَلَّمُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الْكِتَابُ عَهْدِي إِلَيْكُمْ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا وَبَايِعُوا مَنْ وَلَّيْتُ فيه، فبايعوا لذلك رَجُلًا رَجُلًا، قَالَ رَجَاءٌ: فَلَمَّا تَفَرَّقُوا جَاءَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَحُرْمَتِي وَمَوَدَّتِي إِلَّا أَعْلَمْتَنِي إِنْ كَانَ كَتَبَ لِي ذَلِكَ حَتَّى أَسْتَعْفِيَهُ الْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ حَالٌ لَا أَقْدِرُ فِيهَا عَلَى مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ السَّاعَةَ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُخْبِرُكَ حرفا واحدا. قال:
ولقيه هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: يَا رَجَاءُ إِنَّ لِي بِكَ حُرْمَةً وَمَوَدَّةً قَدِيمَةً، فَأَخْبِرْنِي هذا الأمر إن كان إليّ علمت، وإن كان لغيري فما مثلي قصّر به عن هذا. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُخْبِرُكَ حَرْفًا وَاحِدًا مِمَّا أسرّه إليّ أمير المؤمنين، قَالَ رَجَاءٌ: وَدَخَلْتُ عَلَى سُلَيْمَانَ فَإِذَا هُوَ يَمُوتُ، فَجَعَلْتُ إِذَا أَخَذَتْهُ السَّكْرَةُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ أَحُرِّفُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَفَاقَ يَقُولُ: لم يأن لذلك بعد يا رجاء، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ قَالَ: مِنَ الْآنَ يَا رَجَاءُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَيْئًا، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، قال: فحرفته إلى القبلة فمات رحمه الله. قال: فَغَطَّيْتُهُ بِقَطِيفَةٍ خَضْرَاءَ وَأَغْلَقْتُ الْبَابَ عَلَيْهِ وَأَرْسَلْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ حَامِدٍ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ دَابِقٍ، فَقُلْتُ: بَايِعُوا لِمَنْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَقَالُوا: قَدْ بَايَعْنَا، فَقُلْتُ: بَايِعُوا ثَانِيَةً، فَفَعَلُوا، ثُمَّ قُلْتُ: قُومُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَقَدْ مَاتَ، وَقَرَأْتُ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى ذِكْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَغَيَّرَتْ وُجُوهُ بنى مروان، فلما قرأت وإن هشام [2] بن عبد الملك بَعْدِهِ، تَرَاجَعُوا بَعْضَ الشَّيْءِ. وَنَادَى هِشَامٌ لَا نبايعه أبدا، فقلت: أضرب عنقك والله، قُمْ فَبَايِعْ، وَنَهَضَ النَّاسُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَمْ تَحْمِلْهُ رِجْلَاهُ حَتَّى أَخَذُوا بِضَبْعَيْهِ فَأَصْعَدُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَسَكَتَ حِينًا، فَقَالَ: رَجَاءُ بن حيوة: ألا تقوموا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَتُبَايِعُوهُ، فَنَهَضَ الْقَوْمُ فَبَايَعُوهُ، ثم أتى هِشَامٌ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيُبَايِعَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 الَّذِي صِرْتُ أنا وأنت
__________
[1] في المصرية: وأشار سليمان بن رجاء. ولعله: وأشار رجاء
[2] كذا بالأصول، والّذي تقدم في كتاب العهد وما قبله أنه يزيد بن عبد الملك.(9/182)
نَتَنَازَعُ هَذَا الْأَمْرَ. ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً بَلِيغَةً وَبَايَعُوهُ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِي خطبته: أيها الناس، إني لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ، وَإِنَّ مَنْ حَوْلَكُمْ من الأمصار والمدن إن أَطَاعُوا كَمَا أَطَعْتُمْ فَأَنَا وَالِيكُمْ، وَإِنْ هُمْ أبوا فلست لكم بوال، ثم نزل، فأخذوا فِي جِهَازِ سُلَيْمَانَ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ، فَصَلَّى عُمَرُ بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى سُلَيْمَانَ وَدُفِنَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عُمَرُ أُتِيَ بمراكب الخلافة [فأبى أن يركبها] وركب دابته وانصرف مَعَ النَّاسِ حَتَّى أَتَوْا دِمَشْقَ، فَمَالُوا بِهِ نَحْوَ دَارِ الْخِلَافَةِ فَقَالَ: لَا أَنْزِلُ إِلَّا فِي مَنْزِلِي [1] حَتَّى تَفْرُغَ دَارُ أَبِي أَيُّوبَ، فاستحسنوا ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالْكَاتِبِ فَجَعَلَ يُمْلِي عَلَيْهِ نُسْخَةَ الْكِتَابِ الَّذِي يُبَايِعُ عَلَيْهِ الْأَمْصَارَ، قَالَ رَجَاءٌ: فَمَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْهُ.
قَالَ محمد بن إسحاق: وكانت وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِدَابِقٍ مِنْ أَرْضِ قِنَّسْرِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، عَلَى رَأْسِ سَنَتَيْنِ وَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ مُتَوَفَّى الْوَلِيدِ، وَكَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ فِي تَارِيخِ وَفَاتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَقَالُوا: كَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، زَادَ بَعْضُهُمْ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ الْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لثلاث عشر بقين من رمضان سنة تسع وتسعين، حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ فَقِيلَ بِثَلَاثٍ وَقِيلَ بِخَمْسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَكَانَ طَوِيلًا جَمِيلًا أَبْيَضَ نَحِيفًا، حَسَنَ الْوَجْهِ، مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا، يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَيَرْجِعُ إِلَى دِينٍ وَخَيْرٍ وَمَحَبَّةٍ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِظْهَارِ الشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ آلَى عَلَى نَفْسِهِ حِينَ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مَرْجِ دَابِقٍ- وَدَابِقٌ قَرِيبَةٌ مِنْ بلاد حلب- لما جهز الْجُيُوشُ إِلَى مَدِينَةِ الرُّومِ الْعُظْمَى الْمُسَمَّاةُ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى دِمَشْقَ حَتَّى تُفْتَحَ أَوْ يَمُوتَ، فَمَاتَ هُنَالِكَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَحَصَلَ لَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَجْرُ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِمَّنْ يُجْرَى لَهُ ثَوَابُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شَرَاحِيلَ بْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ قَيْسٍ الْعُقَيْلِيِّ مَا مضمونه: إن مسلمة ابن عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا ضَيَّقَ بِمُحَاصَرَتِهِ عَلَى أَهْلِ القسطنطينية، وتتبع المسالك واستحوذ على مَا هُنَالِكَ مِنَ الْمَمَالِكِ، كَتَبَ إِلْيُونُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى مَلِكِ الْبُرْجَانِ [2] يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى مَسْلَمَةَ، ويقول له: ليس لهم
__________
[1] كان منزله في موضع مدرسة السميساطية الآن مما يلي باب مسجد بنى أمية الشمالي. أما قصر الخلافة الّذي يسمى (الدار الخضراء) فكان وراء الجدار القبلي من مسجد بنى أمية. ويسمى موضعه الآن (المصبغة الخضراء)
[2] الأرجح أنهم أمة البلغار، وهم أقرب الأمم النصرانية إلى القسطنطينية.(9/183)
هِمَّةٌ إِلَّا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِمْ، الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، وَإِنَّهُمْ مَتَى فَرَغُوا مِنِّي خَلَصُوا إِلَيْكَ، فَمَهْمَا كُنْتَ صَانِعًا حِينَئِذٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ شَرَعَ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، فَكَتَبَ إِلَى مَسْلَمَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ إِلْيُونَ كَتَبَ إِلَيَّ يَسْتَنْصِرُنِي عَلَيْكَ، وَأَنَا مَعَكَ فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَسْلَمَةُ:
إِنِّي لَا أُرِيدُ مِنْكَ رِجَالًا وَلَا عُدَدًا، وَلَكِنْ أرسل إلينا بِالْمِيرَةِ فَقَدْ قَلَّ مَا عِنْدَنَا مِنَ الْأَزْوَادِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ بِسُوقٍ عَظِيمَةٍ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسِلْ مَنْ يَتَسَلَّمُهَا وَيَشْتَرِي مِنْهَا.
فَأَذِنَ مَسْلَمَةُ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْجَيْشِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ فَيَشْتَرِي لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَوَجَدُوا هُنَالِكَ سُوقًا هَائِلَةً، فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَضَائِعِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَطْعِمَةِ، فَأَقْبَلُوا يَشْتَرُونَ، وَاشْتَغَلُوا بِذَلِكَ، وَلَا يَشْعُرُونَ بِمَا أَرْصَدَ لَهُمُ الْخَبِيثُ مِنَ الْكَمَائِنِ بَيْنَ تِلْكَ الْجِبَالِ الَّتِي هُنَالِكَ، فَخَرَجُوا عليهم بغتة واحدة فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَسَرُوا آخَرِينَ، وَمَا رَجَعَ إِلَى مَسْلَمَةَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، فَإِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَكَتَبَ مَسْلَمَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَخِيهِ سُلَيْمَانَ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ جَيْشًا كَثِيفًا صُحْبَةَ شَرَاحِيلَ بْنِ عُبَيْدَةَ هَذَا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُرُوا خَلِيجَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَوَّلًا فَيُقَاتِلُوا مَلِكَ الْبُرْجَانِ، ثُمَّ يَعُودُوا إِلَى مَسْلَمَةَ، فَذَهَبُوا إِلَى بِلَادِ الْبُرْجَانِ وَقَطَعُوا إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْخُلْجَانِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَسَبَوْا وَأَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَخَلَّصُوا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَحَيَّزُوا إِلَى مَسْلَمَةَ فَكَانُوا عِنْدَهُ حَتَّى اسْتَقْدَمَ الْجَمِيعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَائِلَةِ الرُّومِ وَبِلَادِهِمْ، وَمِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مدة طويلة أثابهم الله.
وهذه خلافة عمر بن عبد العزيز أشجّ بنى مروان رضى الله عنه وأكرمه
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الجمعة لعشر مضين، وقد قيل بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ- يَوْمَ مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَهْدٍ مِنْهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْ عُمَرَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ مَخَايِلُ الْوَرَعِ وَالدِّينِ وَالتَّقَشُّفِ وَالصِّيَانَةِ وَالنَّزَاهَةِ، مِنْ أَوَّلِ حَرَكَةٍ بَدَتْ مِنْهُ، حَيْثُ أَعْرَضَ عَنْ رُكُوبِ مَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ، وَهِيَ الْخُيُولُ الْحِسَانُ الْجِيَادُ الْمُعَدَّةُ لَهَا، وَالِاجْتِزَاءُ بِمَرْكُوبِهِ الَّذِي كَانَ يَرْكَبُهُ، وَسُكْنَى مَنْزِلِهِ رَغْبَةً عَنْ مَنْزِلِ الْخِلَافَةِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً لَا تُعْطَى شَيْئًا إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَإِنِّي لَمَّا أُعْطِيتُ الْخِلَافَةَ تَاقَتْ نَفْسِي إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَأَعِينُونِي عَلَيْهَا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ. وَسَتَأْتِي ترجمته عند وفاته إن شاء الله، وَكَانَ مِمَّا بَادَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْ بَعَثَ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بِأَرْضِ الروم محاضر والقسطنطينية، وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحَالُ وَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْمَجَالُ، لِأَنَّهُمْ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشَّامِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ وَخُيُولٍ كَثِيرَةٍ عِتَاقٍ، يُقَالُ خَمْسُمِائَةِ فَرَسٍ، ففرح الناس بذلك،(9/184)
وفيها أَغَارَتِ التُّرْكُ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا من المسلمين، فوجه إليهم عمر حَاتِمَ بْنَ النُّعْمَانِ الْبَاهِلِيَّ فَقَتَلَ أُولَئِكَ الْأَتْرَاكَ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَبَعَثَ مِنْهُمْ أُسَارَى إِلَى عُمَرَ وَهُوَ بِخُنَاصِرَةَ. وَقَدْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ يُذَكِّرُونَهُ بَعْدَ أَذَانِهِمْ بِاقْتِرَابِ الْوَقْتِ وَضِيقِهِ لئلا يؤخرها كما كان يؤخرها من قَبْلَهُ، لِكَثْرَةِ الْأَشْغَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِهِ لهم بذلك والله أعلم. فروى ابن عساكر في ترجمة جرير بْنِ عُثْمَانَ الرَّحْبِيِّ الْحِمْصِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ مُؤَذِّنِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةُ قَدْ قَارَبَتْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَنْ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ وَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ الْفَزَارِيَّ عَلَى إِمْرَةِ البصرة، فاستقضى عليها الحسن البصري، ثم استعفاه فَأَعْفَاهُ، وَاسْتَقْضَى مَكَانَهُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الذَّكِيَّ الْمَشْهُورَ، وَبَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا عَبْدَ الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الْخَطَّابِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ أَبَا الزِّنَادِ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْضَى عَلَيْهَا عَامِرًا الشَّعْبِيَّ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَلَمْ يَزَلْ قَاضِيًا عَلَيْهَا مُدَّةَ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَعَلَ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ، وَكَانَ نَائِبَ مَكَّةَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَلَى إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَعَزَلَ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أبى وداعة وَوَلَّى عَلَيْهَا أَيُّوبَ بْنَ شُرَحْبِيلَ، وَجَعَلَ الْفُتْيَا إِلَى جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُفْتُونَ النَّاسَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، وَأَسْلَمَ فِي وِلَايَتِهِ عَلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ محمد بن الْحَنَفِيَّةِ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، يُقَالُ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ قَالَ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَذَكَرَ خَلِيفَةُ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ فِي الأعلام أنه توفى هذا العام، والله أعلم.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزِ بْنِ جُنَادَةَ بْنِ عبيد
الْقُرَشِيُّ الْجُمَحِيُّ الْمَكِّيُّ، نَزِيلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تَابِعِيٌّ جليل، روى عن زوج أم أَبِي مَحْذُورَةَ الْمُؤَذِّنِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَمَكْحُولٌ، وَحَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَآخَرُونَ. وَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: إِنْ يَفْخَرَ عَلَيْنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِعَابِدِهِمْ ابْنِ عُمَرَ، فانا نفخر عليهم بعابدنا عبد الله ابن مُحَيْرِيزٍ. وَقَالَ بَعْضُ وَلَدِهِ: كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ جُمُعَةٍ، وَكَانَ يُفْرَشُ لَهُ الْفِرَاشُ فَلَا ينام عليه،(9/185)
قالوا: وكان صمونا مُعْتَزِلًا لِلْفِتَنِ، وَكَانَ لَا يَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ، وَرَأَى عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَلْبَسُهَا مِنْ أَجْلِ هَؤُلَاءِ- وَأَشَارَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ- فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: لَا تَعْدِلْ بِخَوْفِكَ مِنَ اللَّهِ خَوْفَ أحد من المخلوقين. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَلْيَقْتَدِ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ أُمَّةً فِيهَا مِثْلُهُ. قال بَعْضُهُمْ: تُوُفِّيَ أَيَّامَ الْوَلِيدِ، وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: تُوُفِّيَ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي الْأَعْلَامِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هذا العام، والله سبحانه أعلم.
دخل ابن محيريز مرة حانوت بزاز ليشترى منه ثوبا فرفع في السوم، فقال له جاره: ويحك هذا ابن محيريز ضع له، فأخذ ابن محيريز بيد غلامه وقال: اذهب بنا، إنما جئت لنشترى بأموالنا لا بأدياننا، فذهب وتركه
. مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدِ بْنِ عُقْبَةَ
أَبُو نُعَيْمٍ الأنصاري الأشهلي وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه أحاديث لكن حكمها حكم الْإِرْسَالُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عبد البر: هو أحسن مِنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ. قِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَقِيلَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي الْأَعْلَامِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْيَقِينِ
نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
ابْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيُّ النَّوْفَلِيُّ الْمَدَنِيُّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ثِقَةً عَابِدًا يَحُجُّ مَاشِيًا وَمَرْكُوبُهُ يُقَادُ مَعَهُ، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: توفى سنة تسع وتسعين بالمدينة.
كُرَيْبُ بْنُ مُسْلِمٍ
مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ عِنْدَهُ حِمْلُ كُتُبٍ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ بِالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهَا، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرةٌ، وَكَانَ يَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً بِالْمَدِينَةِ.
مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، الْفَقِيهُ الزاهد، له روايات كثيرة، كَانَ لَا يُفَضَّلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي زَمَانِهِ، وكان عابدا ورعا زاهدا كثير الصلاة كَثِيرَ الْخُشُوعِ، وَقِيلَ إِنَّهُ وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ فَأَطْفَئُوهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: وَانْهَدَمَتْ مَرَّةً نَاحِيَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَفَزِعَ أَهْلُ السُّوقِ لِهَدَّتِهَا، وَإِنَّهُ لَفِي الْمَسْجِدِ فِي صَلَاتِهِ فَمَا الْتَفَتَ. وَقَالَ ابْنُهُ: رَأَيْتُهُ سَاجِدًا وَهُوَ يَقُولُ: مَتَى أَلْقَاكَ(9/186)
وَأَنْتَ عَنِّي رَاضٍ، ثُمَّ يَذْهَبُ فِي الدُّعَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: مَتَى أَلْقَاكَ وَأَنْتَ عَنِّي رَاضٍ، وَكَانَ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ كَأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ
حَنَشُ بْنُ عمرو الصنعائى
كَانَ وَالِيَ إِفْرِيقِيَّةَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَبِإِفْرِيقِيَّةَ تُوَفِّيَ غَازِيًا، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصحابة.
خارجة بن زيد
ابن الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ الْفَقِيهُ، كَانَ يُفْتِي بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَائِهَا الْمَعْدُودِينَ، كَانَ عَالِمًا بِالْفَرَائِضِ وَتَقْسِيمِ الْمَوَارِيثِ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ مَدَارُ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمْ.
سَنَةُ مِائَةٍ مِنَ الهجرة النبويّة
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ أَنْبَأَ وَرْقَاءُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ نُعَيْمِ بْنِ دَجَاجَةَ قَالَ: دَخَلَ ابن مَسْعُودٍ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ» ؟ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ مِمَّنْ هُوَ حَيٌّ، وَإِنَّ رَخَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْمِائَةِ» . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: يَا فَرُّوخُ أَنْتَ الْقَائِلُ لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ مِمَّنْ هو حي اليوم، وإنما رخاء هذه الأمة وفرحها بعد المائة؟ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ، أَخْطَأَتِ اسْتُكَ الْحُفْرَةَ، وإنما أراد ممن هو اليوم حي» تَفَرَّدَ بِهِ [1] وَهَكَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنُ عُمَرَ، فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ وَفِيهَا خَرَجَتْ خَارِجَةٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ بِالْعِرَاقِ فَبَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ نَائِبِ الْكُوفَةِ، يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَيَتَلَطَّفَ بِهِمْ، وَلَا يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَكَسَرَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ، فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَيْهِ يَلُومُهُ عَلَى جَيْشِهِ، وَأَرْسَلَ عُمَرُ ابْنَ عَمِّهِ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ الْجَزِيرَةِ إِلَى حَرْبِهِمْ، فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَقَدْ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى كَبِيرِ الْخَوَارِجِ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ بِسْطَامُ- يَقُولُ لَهُ: مَا أَخْرَجَكَ عَلَيَّ؟ فَإِنْ كُنْتَ خَرَجْتَ غَضَبًا للَّه فَأَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكَ، وَلَسْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي، وَهَلُمَّ أُنَاظِرْكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ حَقًّا اتَّبَعْتَهُ، وَإِنْ أَبْدَيْتَ حَقًّا نَظَرْنَا فِيهِ. فَبَعَثَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ عُمَرُ رَجُلَيْنِ فَسَأَلَهُمَا: مَاذَا تَنْقِمُونَ؟ فَقَالَا:
جَعْلَكَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ [2] مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَجْعَلْهُ أَبَدًا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ غَيْرِي. قَالَا: فَكَيْفَ تَرْضَى به أمينا للأمة من بعدك؟ فقال: أنظرانى ثَلَاثَةً، فَيُقَالُ إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ دَسَّتْ إِلَيْهِ سُمًّا فَقَتَلُوهُ خَشْيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْأَمْرُ مِنْ أيديهم ويمنعهم الأموال والله أعلم.
__________
[1] كذا بالأصول. ولعله سقط منه لفظ «عبد الله بن أحمد»
[2] نسخة: هشام بن عبد الملك(9/187)
وفيها غَزَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، الصَّائِفَةِ وَفِيهَا وَلَّى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ الْجَزِيرَةَ فَسَارَ إِلَيْهَا. وَفِيهَا حمل يزيد بن المهلب إلى عمر ابن عبد العزيز من العراق، فأرسله عدي بن أرطاة نائب البصرة مَعَ مُوسَى بْنِ وَجِيهٍ، وَكَانَ عُمَرُ يُبْغِضُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ جَبَابِرَةٌ وَلَا أُحِبُّ مِثْلَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ طَالَبَهُ بِمَا قِبَلَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ لِأُرْهِبَ الْأَعْدَاءَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ شَيْءٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَكَانَتِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا أَسْمَعُ مِنْكَ هَذَا، وَلَسْتُ أُطْلِقُكَ حَتَّى تُؤَدِّيَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ. وَكَانَ عُمَرُ قَدْ بَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عِوَضَهُ، وَقَدِمَ وَلَدُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ مَنَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِوِلَايَتِكَ عَلَيْهَا، فَلَا نكونن نحن أَشْقَى النَّاسِ بِكَ فَعَلَامَ تَحْبِسُ هَذَا الشَّيْخَ وأنا أقوم له أتصالحني عَنْهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُصَالِحُكَ عَنْهُ إِلَّا أن تقوم بجميع ما يطلب منه، ولا آخذ منه إلا جميع ما عنده من مال المسلمين. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ لَكَ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِمَا تَقُولُ وَإِلَّا فَاقْبَلْ يَمِينَهُ أَوْ فَصَالِحْنِي عَنْهُ، فَقَالَ: لَا آخُذُ مِنْهُ إِلَّا جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ.
فَخَرَجَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مات مخلد. وكان عُمَرُ يَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِأَنْ يَلْبَسَ يَزِيدُ بْنُ المهلب جبة صوف ويركب على بعير إِلَى جَزِيرَةِ دَهْلَكَ الَّتِي كَانَ يُنْفَى إِلَيْهَا الْفُسَّاقُ، فَشَفَعُوا فِيهِ فَرَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَرِضَ عُمَرُ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَهَرَبَ مِنَ السِّجْنِ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ كَتَبَ إِلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي [1] ، وَأَظُنُّهُ كَانَ عَالِمًا أن عمر قد سقى سما.
وفيها فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ، بَعْدَ سَنَةٍ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنَّمَا عَزَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَقُولُ: أَنْتُمْ إِنَّمَا تُسْلِمُونَ فِرَارًا مِنْهَا. فَامْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا. وَعَزَلَهُ وَوَلَّى بَدَلَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيَّ عَلَى الْحَرْبِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْخَرَاجِ. وَفِيهَا كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُمَّالِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ وَيُوَضِّحُهُ لَهُمْ وَيَعِظُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَيُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ الله وانتقامه، وكان فِيمَا كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيِّ:
أَمَّا بَعْدُ فَكُنْ عَبْدًا للَّه نَاصِحًا للَّه فِي عِبَادِهِ، وَلَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِكَ مِنَ النَّاسِ، وَحَقَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ، وَلَا تُوَلِّيَنَّ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الْمَعْرُوفَ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ،
__________
[1] في صفحة 191 في هذه الملزمة(9/188)
والتوفير عليهم. وأدّى الْأَمَانَةِ فِيمَا اسْتُرْعِيَ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ مَيْلُكَ مَيْلًا إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا تَذْهَبَنَّ عَنِ اللَّهِ مَذْهَبًا، فَإِنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ. وَكَتَبَ مِثْلَ ذَلِكَ مَوَاعِظَ كَثِيرَةً إِلَى الْعُمَّالِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، مَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وفيها كَانَ بُدُوُّ دَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ
وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- وَكَانَ مُقِيمًا بِأَرْضِ الشُّرَاةِ- بَعَثَ مِنْ جِهَتِهِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ، إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَرْسَلَ طَائِفَةً أُخْرَى وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خُنَيْسٍ وَأَبُو عِكْرِمَةَ السَّرَّاجُ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، وَحَيَّانُ الْعَطَّارُ- خَالُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ- إِلَى خراسان، وعليها يومئذ الجراح ابن عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ قَبْلَ أَنْ يُعْزَلَ فِي رَمَضَانَ، وَأَمَرَهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، فَلَقُوا مَنْ لَقُوا ثُمَّ انْصَرَفُوا بِكُتُبِ مَنِ اسْتَجَابَ مِنْهُمْ إِلَى مَيْسَرَةَ الَّذِي بِالْعِرَاقِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَفَرِحَ بِهَا واستبشر وسره أن ذلك أول مَبَادِئَ أَمْرٍ قَدْ كَتَبَ اللَّهُ إِتْمَامَهُ، وَأَوَّلَ رأى قد أحكم الله إبرامه، أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ قَدْ بَانَ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَدِ اخْتَارَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، وَهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ الْخُزَاعِيُّ، وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ التَّمِيمِيُّ، وَقَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ الطَّائِيُّ، وَمُوسَى بْنُ كَعْبٍ التَّمِيمِيُّ، وَخَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ بَنِي عمرو بن شيبان بن ذهل، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيُّ، وَعِمْرَانُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو النَّجْمِ- مَوْلًى لِآلِ أَبِي مُعَيْطٍ- وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ زُرَيْقٍ الْخُزَاعِيُّ، وعمرو ابن أَعْيَنَ أَبُو حَمْزَةَ- مَوْلًى لِخُزَاعَةَ-، وَشِبْلُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ- مَوْلًى لِبَنِي حَنِيفَةَ- وعيسى ابن أعين مولى لخزاعة أيضا. واختار سَبْعِينَ رَجُلًا أَيْضًا. وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا يَكُونُ مِثَالًا وَسِيرَةً يَقْتَدُونَ بِهَا وَيَسِيرُونَ بِهَا.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَالنُّوَّابُ عَلَى الْأَمْصَارِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى مَنْ ذكرنا ممن عزل وتولى عيره والله أعلم. ولم يحج عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ لِشُغْلِهِ بِالْأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَقُولُ لَهُ: سَلِّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي، وَسَيَأْتِي بِإِسْنَادِهِ إِنْ شَاءَ الله.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ الْأَشْجَعِيُّ
مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ. أَخُو زِيَادٍ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَعِمْرَانُ(9/189)
وَمُسْلِمٌ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ ثَوْبَانَ [1] وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو، والنعمان ابن بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ وَآخَرُونَ، وَكَانَ ثقة نبيلا جليلا.
أبو أمامة سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ
الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ الْمَدَنِيُّ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَآهُ وَحَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَازِمٍ وَجَمَاعَةٌ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مِنْ عِلْيَةِ الْأَنْصَارِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِنْ أَبْنَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: آخِرُ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا عُثْمَانُ بن عفان إِلَى الْجُمُعَةِ حَصَبَهُ النَّاسُ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصلاة، فصلى بالناس يومئذ أبو أمامة سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. قَالُوا: تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو الزَّاهِرِيَّةِ حُدَيْرُ بْنُ كُرَيْبٍ الْحِمْصِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ صَدَى بْنَ عَجْلَانَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ، وَيُقَالُ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْهُ وَعَنْ حُذَيْفَةَ مُرْسَلَةٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا رُوِيَ عَنْهُ قَوْلُ قُتَيْبَةَ: ثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ عَنْ حميد عن أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ: أَغْفَيْتُ فِي صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَجَاءَتِ السَّدَنَةُ فَأَغْلَقُوا عَلَيَّ الْبَابَ، فَمَا انْتَبَهْتُ إِلَّا بِتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ فَوَثَبْتُ مَذْعُورًا فَإِذَا الْمَلَائِكَةُ صُفُوفٌ، فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ. قَالَ أبو عبيدة وَغَيْرُهُ:
مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ
. أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ
ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ، صَحَابِيٌّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاةً بِالْإِجْمَاعِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ، وَذَكَرَ صِفَةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ أَنْصَارِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، شَهِدَ مَعَهُ حُرُوبَهُ كُلَّهَا، لَكِنْ نَقِمَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ كَوْنَهُ كَانَ مَعَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ حَامِلَ رَايَتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى معاوية فقال:
مَا أَبْقَى لَكَ الدَّهْرُ مِنْ ثَكْلِكَ عَلِيًّا؟ فقال: ثكل العجوز المقلاة والشيخ الرقوب، فقال: كَيْفَ حُبُّكَ لَهُ؟ قَالَ حُبُّ أُمِّ مُوسَى لِمُوسَى، وَإِلَى اللَّهِ أَشْكُو التَّقْصِيرَ. قِيلَ إِنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانَ سِنِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَقِيلَ سنة سبع ومائة فاللَّه أعلم. قال مسلمة بْنُ الْحَجَّاجِ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ.
أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ
وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلٍّ الْبَصْرِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَحَجَّ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَيْنِ، وأسلم في حياة
__________
[1] في خلاصة تذهيب الكمال «قال أحمد: لم يلق ثوبان. وقال البخاري: لم يسمع منه»(9/190)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَأَدَّى فِي زَمَانِهِ الزَّكَاةَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى عُمَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مُخَضْرَمًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَسَمِعَ مِنْهُ وَمِنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَخَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَصَحِبَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى دَفَنَهُ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ، وَقَالَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَدْرَكْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَغُوثَ صَنَمًا مِنْ رَصَاصٍ يُحْمَلُ عَلَى جَمَلٍ أَجْرَدَ، فَإِذَا بَلَغَ وَادِيَا بَرَكَ فِيهِ فَيَقُولُونَ: قَدْ رِضَى رَبُّكُمْ لَكُمْ هَذَا الْوَادِيَ فَيَنْزِلُونَ فِيهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ وَقَدْ قِيلَ لَهُ أَدْرَكْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ! أَسْلَمْتُ عَلَى عَهْدِهِ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ الزَّكَاةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ أَلْقَهُ، وَشَهِدْتُ اليرموك والقادسية وجلولاء ونهاوند. كان أَبُو عُثْمَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ لَا يَتْرُكُهُ، وَكَانَ يُصَلِّي حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، وَحَجَّ سِتِّينَ مَرَّةً مَا بَيْنَ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ لَا يصيب ذنبا، لأنه لَيْلَهُ قَائِمًا وَنَهَارَهُ صَائِمًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ يَقُولُ: أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ وَمَا مِنِّي شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ أَنْكَرْتُهُ خَلَا أَمَلِي فَإِنِّي أَجِدُهُ كَمَا هُوَ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ. قَالَ: إني لأعلم حين يذكرني ربى عز وجل، قال فيقول: مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ قَالَ اللَّهُ تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ 2: 152 فَإِذَا ذَكَرْتُ اللَّهَ ذَكَرَنِي. قَالَ: وَكُنَّا إِذَا دَعَوْنَا اللَّهَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ 40: 60 قالوا: وعاش مائة وثلاثين سَنَةً، قَالَهُ هُشَيْمٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَقَالَ الْفَلَّاسُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَالصَّحِيحُ سَنَةَ مِائَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ يَفْضُلُ عَلَى وَالِدِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ، وَلَهُ كَلِمَاتٌ حِسَانٌ مَعَ أَبِيهِ وَوَعْظِهِ إِيَّاهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى ومائة
فِيهَا كَانَ هَرَبُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنَ السِّجْنِ حِينَ بَلَغَهُ مَرَضُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَوَاعَدَ غِلْمَانِهِ يَلْقَوْنَهُ بِالْخَيْلِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، وَقِيلَ بِإِبِلٍ لَهُ، ثُمَّ نَزَلَ مِنْ مَحْبَسِهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ وَامْرَأَتُهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْفُرَاتِ العامرية، فلما جاء غِلْمَانُهُ رَكِبَ رَوَاحِلَهُ وَسَارَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْ سِجْنِكَ إِلَّا حِينَ بَلَغَنِي مَرَضُكَ، وَلَوْ رَجَوْتُ حَيَاتَكَ مَا خَرَجْتُ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِنَّهُ يَتَوَعَّدُنِي بِالْقَتْلِ، وكان يزيد يَقُولُ: لَئِنْ وُلِّيتُ لَأَقْطَعَنَّ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ طَائِفَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِّيَ الْعِرَاقَ عاقب أصهاره آل عَقِيلٍ، وَهُمْ بَيْتُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مُزَوَّجًا بِبِنْتِ محمد بن يوسف، وله ابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْفَاسِقُ الْمَقْتُولُ كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ هَرَبَ مِنَ السِّجْنِ قَالَ: اللَّهمّ إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ(9/191)
سُوءًا فَاكْفِهِمْ شَرَّهُ وَارْدُدْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَرَضُ يَتَزَايَدُ بِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ بِخُنَاصِرَةَ، مِنْ دَيْرِ سَمْعَانَ بَيْنَ حَمَاةَ وَحَلَبَ، فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ- عَنْ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ بِأَشْهُرٍ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ حَكَمًا مُقْسِطًا، وإماما عادلا وورعا دَيِّنًا، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ رحمه الله تعالى.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيِّ الامام المعروف الْمَشْهُورِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ
هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَبُو حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ الأموي المعروف أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمُّهُ أُمُّ عَاصِمٍ لَيْلَى بِنْتُ عاصم بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَيُقَالُ لَهُ أَشَجُّ بَنِي مَرْوَانَ، وَكَانَ يُقَالُ: الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ. فَهَذَا هُوَ الْأَشَجُّ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ النَّاقِصِ. كَانَ عُمَرُ تَابِعِيًّا جَلِيلًا، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَيُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَيُوسُفُ صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ. وَرَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. قال الإمام أحمد بن حنبل: لا أدرى قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ حُجَّةً إِلَّا قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ ابْنِ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَهْدٍ مِنْهُ لَهُ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُقَالُ: كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْحُسَيْنُ بْنُ على بِمِصْرَ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، فاللَّه أَعْلَمُ.
وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ وَلَكِنِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبَوَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ. قَالَ: بلغني أن عمران بن عبد الرحمن ابن شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي الْمَنَامِ لَيْلَةَ وُلِدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ- أَوْ لَيْلَةَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ شَكَّ أَبُو بَكْرٍ- أَنَّ مُنَادِيًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يُنَادِي: أَتَاكُمُ اللِّينُ وَالدِّينُ وَإِظْهَارُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْمُصَلِّينَ، فَقُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ فَنَزَلَ فَكَتَبَ في الأرض ع م ر. وقال آدم بن إياس: ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ ثَرْوَانُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز إلى اصطبل أبيه فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ أَشَجَّ بَنِي أُمَيَّةَ إِنَّكَ إِذًا لَسَعِيدٌ. رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ ضَمْرَةَ، وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: ثَنَا ضِمَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيز بكى وهو غلام صغير، فبلغ أُمَّهُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: ذَكَرْتُ الْمَوْتَ، فَبَكَتْ أُمُّهُ. وَكَانَ قَدْ جَمَعَ القرآن وهو صغير، وقال الضحاك بن عثمان الخزامي: كَانَ أَبُوهُ قَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ يُؤَدِّبُهُ، فَلَمَّا حَجَّ أَبُوهُ اجْتَازَ بِهِ في(9/192)
الْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا خَبَرْتُ أَحَدًا اللَّهُ أَعْظَمُ فِي صَدْرِهِ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ يَوْمًا فَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: مَا شَغَلَكَ؟ فَقَالَ:
كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ شَعْرِي، فَقَالَ لَهُ: قدّمت ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ؟ وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عَلَى مِصْرَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ أَبُوهُ رَسُولًا فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى حَلَقَ رَأْسَهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْتَلِفُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَسْمَعُ مِنْهُ، فَبَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ يَنْتَقِصُ عَلِيًّا، فَلَمَّا أَتَاهُ عُمَرُ أَعْرَضَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْهُ وَقَامَ يُصَلِّي، فَجَلَسَ عُمَرُ يَنْتَظِرُهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ مُغْضَبًا وَقَالَ لَهُ: مَتَى بَلَغَكَ أَنَّ اللَّهَ سَخِطَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ بَعْدَ أَنْ رَضِيَ عَنْهُمْ؟ قَالَ فَفَهِمَهَا عُمَرُ وَقَالَ: مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ ثُمَّ إِلَيْكَ، وَاللَّهِ لَا أَعُودُ، قَالَ: فَمَا سُمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ عَلِيًّا إِلَّا بِخَيْرٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبِي ثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ. قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ هذا الباب- وأشار إلى باب مِنْ أَبْوَابِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ القوم: بعث الفاسق لنا بِابْنِهِ هَذَا يَتَعَلَّمُ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لن يموت حتى يكون خليفة، ويسير سيرة عمر بن الخطاب. قال داود: والله مَا مَاتَ حَتَّى رَأَيْنَا ذَلِكَ فِيهِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي الْعُتْبِيُّ قَالَ: إِنَّ أول ما استبين من رشد عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِرْصُهُ عَلَى الْعِلْمِ وَرَغْبَتُهُ فِي الْأَدَبِ، أَنَّ أَبَاهُ وَلِيَ مِصْرَ وَهُوَ حَدِيثُ السِّنِّ يُشَكُّ فِي بُلُوغِهِ، فَأَرَادَ أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام، فَقَالَ: يَا أَبَهْ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَعَلَّهُ يكون أنفع لي ولك؟ قال: وما هو؟
قال: ترحّلنى إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها وأتأدب بآدابهم، فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسل معه الخدام، فَقَعَدَ مَعَ مَشَايِخِ قُرَيْشٍ، وَتَجَنَّبَ شَبَابَهُمْ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَخَذَهُ عَمُّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَخَلَطَهُ بِوَلَدِهِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَهِيَ الَّتِي يقول الشاعر فيها:
بِنْتُ الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا ... أُخْتُ الْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةُ زَوْجُهَا
قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ امْرَأَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا سِوَاهَا.
قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ حَاسِدُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَنْقِمُ عَلَيْهِ شَيْئًا سِوَى مُتَابَعَتِهِ فِي النِّعْمَةِ، وَالِاخْتِيَالِ فِي الْمِشْيَةِ، وَقَدْ قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: الْكَامِلُ مَنْ عُدَّتْ هَفَوَاتُهُ وَلَا تُعَدُّ إِلَّا من قلة. وقد ورث عمر من أبيه من الأموال والمتاع والدواب هو وإخوته ما لم يرثه غيره فيما نعلم، كما تقدم ذلك، وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَمِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ يتجانف في مشيته فقال: يَا عُمَرُ مَا لَكَ تَمْشِي غَيْرَ مِشْيَتِكَ؟ قَالَ: إِنَّ فِيَّ جُرْحًا، فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ مِنْ جَسَدِكَ؟ قَالَ: بَيْنَ الرَّانِفَةِ وَالصَّفَنِ- يَعْنِي بَيْنَ طَرَفِ الْأَلْيَةِ وَجِلْدَةِ الْخِصْيَةِ- فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ: باللَّه لَوْ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِكَ سُئِلَ عَنْ هَذَا مَا أَجَابَ بمثل(9/193)
هَذَا الْجَوَابَ. قَالُوا: وَلَمَّا مَاتَ عَمُّهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حَزِنَ عَلَيْهِ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ تَحْتَ ثِيَابِهِ سَبْعِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ عَامَلَهُ بِمَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ، وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ وثمانين، وسنة تسعين، وحج الوليد بالناس سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، ثُمَّ حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ سنة ثنتين أو ثلاث وَتِسْعِينَ.
وَبَنَى فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ هَذِهِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَسَّعَهُ عَنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ لَهُ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ فِيهِ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ مُعَاشَرَةً، وَأَعْدَلِهِمْ سِيرَةً، كَانَ إِذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ جَمَعَ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَيَّنَ عَشَرَةً مِنْهُمْ، وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا بِدُونِهِمْ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، وَهُمْ عُرْوَةُ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وأبو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وأبو بكر بن سليمان بن خَيْثَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن حزم، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَكَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَأْتِي أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَكَانَ يَأْتِي إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، وقال إبراهيم بن عَبْلَةَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَبِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ، وقد ندبهم عمر يوما إلى رأى وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي قَادِمٌ الْبَرْبَرِيُّ أَنَّهُ ذَاكَرَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرحمن يوما شَيْئًا مِنْ قَضَايَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إذ كان بالمدينة، فقال له الربيع: كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَخْطَأَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْطَأَ قَطُّ. وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إمام أشبه بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذَا الْفَتَى- يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ- حِينَ كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ. قَالُوا:
وَكَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيُخَفِّفُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَشْرًا عَشْرًا، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عن أبى النضر المديني، قال: رأيت سليمان ابن يَسَارٍ [1] خَارِجًا مِنْ عِنْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ عِنْدِ عُمَرَ خَرَجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قُلْتُ:
تُعَلِّمُونَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: هو والله أعلمكم. وقال مجاهد: أتينا عمر نُعَلِّمُهُ فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى تَعَلَّمْنَا مِنْهُ.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: كَانَتِ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَلَامِذَةً، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مَيْمُونٌ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعَلِّمَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ قَدْ صحب ابن عمرو ابن عَبَّاسٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْجَزِيرَةِ، قَالَ: مَا الْتَمَسْنَا عِلْمَ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْنَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، وَمَا كَانَ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَّا تَلَامِذَةً. وَقَالَ عبد الله بن طاووس: رَأَيْتُ أَبِي تَوَاقَفَ هُوَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا قُلْتُ: يَا أَبَهْ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وهو من صالحي هذا البيت-
__________
[1] نسخة: سيار.(9/194)
يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ- وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ بَدْءُ إِنَابَتِكَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ ضَرْبَ غُلَامٍ لِي فَقَالَ لِي: اذْكُرْ لَيْلَةً صَبِيحَتُهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ [1] وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لَمَّا عُزِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الْمَدِينَةِ- يَعْنِي فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ- وَخَرَجَ مِنْهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا وَبَكَى وَقَالَ لِمَوْلَاهُ: يَا مُزَاحِمُ، نَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ- يَعْنِي أَنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ- وينصع طِيبَهَا. قُلْتُ: خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهُ السُّوَيْدَاءُ حِينًا [2] ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ عَلَى بَنِي عَمِّهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ. قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنِّي، فَلَمَّا قَدِمْتُ الشَّامَ نَسِيتُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثَنَا حَمَّادٌ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
سَهِرْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: كُلُّ مَا حَدَّثْتَ فَقَدْ سَمِعْتُهُ وَلَكِنْ حَفِظْتَ وَنَسِيتُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: بَعَثَ إِلَيَّ الْوَلِيدُ ذَاتَ سَاعَةٍ مِنَ الظَّهِيرَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عابس، فأشار إلى أن اجلس، فجلست فَقَالَ:
مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَسُبُّ الْخُلَفَاءَ أَيُقْتَلُ؟ فَسَكَتُّ، ثُمَّ عَادَ فَسَكَتُّ، ثُمَّ عَادَ فَقُلْتُ: أَقَتَلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: لَا، وَلَكِنْ سَبَّ، فَقُلْتُ: يُنَكَّلُ بِهِ، فَغَضِبَ وَانْصَرَفَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَالَ لِي ابْنُ الرَّيَّانِ السَّيَّافُ:
اذْهَبْ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَمَا تَهُبُّ رِيحٌ إِلَّا وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولٌ يَرُدُّنِي إِلَيْهِ. وقال عثمان بن زبر: أَقْبَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى مُعَسْكَرِ سُلَيْمَانَ، وَفِيهِ تِلْكَ الْخُيُولُ وَالْجِمَالُ وَالْبِغَالُ وَالْأَثْقَالُ وَالرِّجَالُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا تَقُولُ يَا عُمَرُ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: أَرَى دُنْيَا يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَنْتَ الْمَسْئُولُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمُعَسْكَرِ إِذَا غُرَابٌ قَدْ أَخَذَ لُقْمَةً فِي فِيهِ مِنْ فُسْطَاطِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ طَائِرٌ بِهَا، وَنَعَبَ نَعْبَةً، فَقَالَ لَهُ سليمان: ما هَذَا يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ:
لَا أَدْرِي، فَقَالَ: ما ظنك أنه يقول؟ قلت: كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ أَيْنَ جَاءَتْ وَأَيْنَ يُذْهَبُ بِهَا؟ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا أَعْجَبَكَ؟ فَقَالَ عمر: اعجب ممن عَرَفَ اللَّهَ فَعَصَاهُ، وَمَنْ عَرَفَ الشَّيْطَانَ فَأَطَاعَهُ، ومن عرف الدنيا فركن إليها.
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ سُلَيْمَانُ وَعُمَرُ بِعَرَفَةَ ورأى سليمان كَثْرَةِ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَؤُلَاءِ رَعِيَّتُكَ
__________
[1] بالأصول «يوما صبيحتها يعنى يوم القيامة» وصححناه من سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صفحة 149
[2] السويداء أرض كان يملكها عمر بن عبد العزيز، واستنبط فيها من عطائه عين ماء، وله فيها قصر مبنى. ولما تنازل لبيت المال عن جميع ما ورثه عن آبائه أبقى (السويداء) و (خيبر) لأنه اطمأنّ إلى أنهما حلال خالص ليس فيه أية شبهة. وكان هو خليفة يأكل من غلّتها وينفق ما يزيد عن الضرورة(9/195)
الْيَوْمَ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ غَدًا، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُمْ خُصَمَاؤُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَبَكَى سُلَيْمَانُ وَقَالَ: باللَّه نستعين.
وتقدم أنهم لما أصابهم ذلك المطر والرعد فزع سليمان وضحك عمر فقال له: أتضحك؟ فَقَالَ: نَعَمْ هَذِهِ آثَارُ رَحْمَتِهِ وَنَحْنُ فِي هذه الحال، فكيف بآثار غضبه وعقابه ونحن في تلك الحال؟ وَذَكَرَ الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَعُمَرَ تَقَاوَلَا مَرَّةً فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ: كذبت، فقال: تقول كَذَبْتَ؟ وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ مُنْذُ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَذِبَ يَضُرُّ أَهْلَهُ، ثُمَّ هَجَرَهُ عُمَرُ وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ فَصَالَحَهُ وَقَالَ لَهُ: مَا عَرَضَ لِي أَمْرٌ يَهُمُّنِي إِلَّا خَطَرْتَ عَلَى بالي. وقد ذكرنا أنه لما حضرته الْوَفَاةُ أَوْصَى بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَانْتَظَمَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وللَّه الحمد.
فصل
وقد كان منتظرا فيما يؤثر من الأخبار قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سلمة الماجشون ثنا عبد الله ابن دِينَارٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا عَجَبًا!! يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْقَضِي حَتَّى يَلِيَ رَجُلٌ مِنْ آلِ عُمَرَ يَعْمَلُ بِمِثْلِ عمل عمر، قال: وكانوا يَرَوْنَهُ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَكَانَ بِوَجْهِهِ أَثَرٌ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ، وَإِذَا هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأُمُّهُ ابنة عاصم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وقال البيهقي:
أنبأ الحاكم أنبأ أبو حامد بْنُ عَلِيٍّ الْمَقْرِيُّ ثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ثنا أحمد بن إبراهيم ثنا عفان ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ لَاحِقٍ عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ. قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:
إِنَّ من ولدى رجلا بوجهه شجان يَلِي فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا. قَالَ نَافِعٌ مِنْ قبله: ولا أحسبه إلا عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَرَوَاهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عبيد الله عن نافع. وقال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ هَذَا الَّذِي مِنْ وَلَدِ عُمَرَ فِي وَجْهِهِ علامة يملأ الأرض عدلا؟ قال وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ كَأَنَّ رَجُلًا دَخَلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! وُلِّيَ عَلَيْكُمْ كتاب الله.
فقلت: من؟ فأشار إلى ظفره فَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ عُ مَ رُ، قَالَ فَجَاءَتْ بَيْعَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ بَقِيَّةُ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي رَزِينٍ حَدَّثَنِي الْخُزَاعِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّكَ سَتَلِي أمر أمتى فزع عن الدم فَزَعْ عَنِ الدَّمِ [1] ، فَإِنَّ اسْمَكَ فِي النَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاسْمُكَ عِنْدَ اللَّهِ جَابِرٌ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِيِّ: ثَنَا أَبُو عَرُوبَةَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَوْدُودٍ الْحَرَّانِيُّ ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ ثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ثَنَا السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى عَنْ رِيَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ. قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الصَّلَاةِ وَشَيْخٌ مُتَوَكِّئٌ عَلَى يَدِهِ، فقلت في نفسي: إن
__________
[1] وزعه يزعه فاتّزع، أي كفّ عنه(9/196)
هَذَا الشَّيْخَ جَافٌّ، فَلَمَّا صَلَّى وَدَخَلَ لَحِقْتُهُ فقلت: أصلح الله الأمير، من هذا الشيخ الّذي أتكأته يدك؟ فقال: يا رياح رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: مَا أَحْسَبُكَ يَا رياح إِلَّا رَجُلًا صَالِحًا، ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ أَتَانِي فَأَعْلَمَنِي أَنِّي سَأَلِي أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنِّي سَأَعْدِلُ فِيهَا.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْرٍ ثَنَا ضَمْرَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ خولة عن أبى عنبس. قَالَ:
كُنْتُ جَالِسًا مَعَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَجَاءَ شَابٌّ عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ فَأَخَذَ بِيَدِ خَالِدٍ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْنَا مِنْ عَيْنٍ؟ فقال أبو عنبس: فَقُلْتُ عَلَيْكُمَا مِنَ اللَّهِ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ، وَأُذُنٌ سَمِيعَةٌ، قَالَ: فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا الْفَتَى. فَأَرْسَلَ يَدَهُ مِنْ يَدِ خَالِدٍ وَوَلَّى، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنُ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّهُ إِمَامَ هُدًى. قُلْتُ: قَدْ كَانَ عِنْدَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ جَيِّدٌ من أخبار الأوائل وأقوالهم، وكان ينظر في النجوم والطب. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الملك أنه لما حضرته الوفاة أراد أن يعهد إلى بعض أولاده، فصرفه وزيره الصالح رجاء بن حيوة عن ذلك، وما زال به حتى عهد إلى عمر بن عبد العزيز من بعده وصوّب ذلك رجاء فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ الْعَهْدَ فِي صَحِيفَةٍ وَخَتَمَهَا وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ عُمَرُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ سِوَى سُلَيْمَانَ وَرَجَاءٍ، ثُمَّ أَمَرَ صَاحِبَ الشُّرَطَةِ بِإِحْضَارِ الْأُمَرَاءِ وَرُءُوسِ النَّاسِ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ وَغَيْرِهِمْ، فَبَايَعُوا سُلَيْمَانَ عَلَى مَا فِي الصَّحِيفَةِ الْمَخْتُومَةِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ الْخَلِيفَةُ اسْتَدْعَاهُمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ فَبَايَعُوا ثَانِيَةً قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا مَوْتَ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ فَتَحَهَا فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا فِيهَا الْبَيْعَةُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَخَذُوهُ فَأَجْلَسُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَايَعُوهُ فَانْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا الصَّنِيعِ فِي الرَّجُلِ يُوصِي الْوَصِيَّةَ فِي كِتَابٍ وَيُشْهِدُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الشُّهُودِ. ثُمَّ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا فِيهِ فَيَنْفُذُ، فَسَوَّغَ ذَلِكَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ العافي بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ: أَجَازَ ذَلِكَ وَأَمْضَاهُ وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ وَمَكْحُولٍ، وَنُمَيْرِ بْنِ أَوْسٍ وَزُرْعَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ. وَحَكَى نَحْوَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ وَقُضَاةِ جُنْدِهِ، وهو قول الليث بن سعد فيمن وَافَقَهُ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُضَاتِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ قتادة وعن سوار ابن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبري فيمن سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَأَخَذَ بِهَذَا عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. قُلْتُ: وَقَدِ اعْتَنَى بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الْمُعَافَى: وَأَبَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ، مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَحَمَّادٌ وَالْحَسَنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ شَيْخِنَا أَبِي جَعْفَرٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بالعراق يذهب(9/197)
إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، قَالَ الْجَرِيرِيُّ: وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَذْهَبُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ جِنَازَةِ سُلَيْمَانَ أُتِيَ بِمَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ لِيَرْكَبَهَا فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: -
فَلَوْلَا التُّقَى ثُمَّ النُّهَى خَشْيَةَ الرَّدَى ... لَعَاصَيْتُ فِي حُبِّ الصِّبَا كُلَّ زَاجِرِ
قَضَى مَا قَضَى فِيمَا مَضَى ثُمَّ لَا تَرَى ... لَهُ صَبْوَةً أُخْرَى اللَّيَالِي الْغَوَابِرِ
ثُمَّ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه، قَدِّمُوا إِلَيَّ بَغْلَتِي، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْعِ تِلْكَ المراكب الخليفية فيمن يزيد، وَكَانَتْ مِنَ الْخُيُولِ الْجِيَادِ الْمُثَمَّنَةِ، فَبَاعَهَا وَجَعَلَ أثمانها في بيت المال. قالوا: ولما رَجَعَ مِنَ الْجِنَازَةِ وَقَدْ بَايَعَهُ النَّاسُ وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِهِ، انْقَلَبَ وَهُوَ مُغْتَمٌّ مَهْمُومٌ، فَقَالَ له مولاه: مالك هَكَذَا مُغْتَمًّا مَهْمُومًا وَلَيْسَ هَذَا بِوَقْتِ هَذَا؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ وَمَا لِي لَا أَغْتَمُّ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا وَهُوَ يُطَالِبُنِي بِحَقِّهِ أَنْ أُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكْتُبْ، طَلَبَهُ مِنِّي أَوْ لَمْ يَطْلُبْ. قَالُوا: ثُمَّ إِنَّهُ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاطِمَةَ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرَاغَ لَهُ إِلَيْهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَبَكَتْ وَبَكَى جَوَارِيهَا لِبُكَائِهَا، فَسُمِعَتْ ضَجَّةٌ فِي دَارِهِ، ثُمَّ اخْتَارَتْ مُقَامَهَا مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ رَحِمَهَا اللَّهُ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَفَرَّغْ لَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَدْ جَاءَ شُغْلٌ شَاغِلٌ ... وَعَدَلْتُ عَنْ طُرُقِ السَّلَامَهْ
ذَهَبَ الْفَرَاغُ فلا فراغ ... لَنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَهْ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَكَانَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ صَحِبَنَا فَلْيَصْحَبْنَا بِخَمْسٍ وَإِلَّا فَلْيُفَارِقْنَا، يَرْفَعُ إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رَفْعَهَا، وَيُعِينُنَا عَلَى الْخَيْرِ بِجُهْدِهِ، وَيَدُلُّنَا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى مَا لَا نَهْتَدِي إِلَيْهِ، وَلَا يغتابن عندنا أحدا، وَلَا يَعْرِضَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ. فَانْقَشَعَ عَنْهُ الشُّعَرَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَثَبَتَ مَعَهُ الْفُقَهَاءُ وَالزُّهَّادُ، وَقَالُوا: مَا يَسَعُنَا أَنْ نُفَارِقَ هَذَا الرَّجُلَ حَتَّى يخالف فعله قوله. وقال سفيان ابن عُيَيْنَةَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ تَرَوْنَ مَا ابْتُلِيتُ بِهِ وَمَا قَدْ نَزَلَ بِي، فَمَا عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: اجْعَلِ الشَّيْخَ أَبًا، وَالشَّابَّ أَخًا، وَالصَّغِيرَ ولدا، وبر أَبَاكَ وَصِلْ أَخَاكَ، وَتَعَطَّفْ عَلَى وَلَدِكَ. وَقَالَ رَجَاءٌ: ارْضَ لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ، وَمَا كَرِهْتَ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ فَلَا تَأْتِهِ إِلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ تَمُوتُ.
وَقَالَ سَالِمٌ: اجعل الأمر واحدا وصم فِيهِ عَنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَاجْعَلْ آخِرَ فِطْرِكَ فِيهِ الْمَوْتَ. فَكَأَنْ قَدْ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه.
وَقَالَ غَيْرُهُ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا النَّاسَ فَقَالَ- وَقَدْ خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ- أَيُّهَا النَّاسُ! أَصْلِحُوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم يصلح لَكُمْ عَلَانِيَتُكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّ عَبْدًا لَيْسَ(9/198)
بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ أَبٌ إِلَّا قَدْ مَاتَ، إِنَّهُ لَمُعْرَقٌ لَهُ فِي الْمَوْتِ. وَقَالَ فِي بعض خطبه: كم من عامر موثق عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرُبُ، وَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ مُغْتَبِطٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَظْعَنُ. فَأَحْسِنُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الدنيا الرحلة بأحسن ما يحضر بكم مِنَ النَّقْلَةِ، بَيْنَمَا ابْنُ آدَمَ فِي الدُّنْيَا ينافس قرير العين فيها يانع، إذ دعاه الله بقدره، ورماه بسهم حتفه، فسلبه اثارة دنياه، وصير إلى قوم آخَرِينَ مَصَانِعَهُ وَمَغْنَاهُ، إِنَّ الدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ، تَسُرُّ قَلِيلًا وَتُحْزِنُ طَوِيلًا: وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَا كِتَابَ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنِّي لَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مُنْفِذٌ، وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ، إِنَّ الرَّجُلَ الْهَارِبَ مِنَ الْإِمَامِ الظَّالِمِ لَيْسَ بِظَالِمٍ أَلَا إِنَّ الْإِمَامَ الظَّالِمَ هُوَ الْعَاصِي، أَلَا لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَإِنِّي لَسْتُ بخير من أحد منكم، ولكنني أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا، أَلَا لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ حَدَّثَنِي ابْنٌ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ: كَانَ آخِرُ خُطْبَةً خَطَبَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ لم تخلقوا عبثا، ولم تُتْرَكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ لِلْحُكْمِ فِيكُمْ وَالْفَصْلِ بَيْنَكُمْ، فَخَابَ وَخَسِرَ من خرج من رحمة الله تعالى، وحرم جنة عرضها السموات وَالْأَرْضُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ غَدًا إِلَّا مَنْ حَذِرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَخَافَهُ، وَبَاعَ فانيا بباق، ونافدا بما لا نفاد له، وَقَلِيلًا بِكَثِيرٍ، وَخَوْفًا بِأَمَانٍ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ فِي أَسْلَابِ الْهَالِكِينَ، وَسَيَكُونُ مِنْ بَعْدِكُمْ لِلْبَاقِينَ، كذلك حتى ترد إِلَى خَيْرِ الْوَارِثِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ فِي كُلِّ يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله لا يرجع، قَدْ قَضَى نَحْبَهُ حَتَّى تُغَيِّبُوهُ فِي صَدْعٍ مِنَ الْأَرْضِ، فِي بَطْنِ صَدْعٍ غَيْرِ مُوَسَّدٍ ولا ممهد، قد فارق الأحباب، وواجه التراب والحساب، فَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِهِ، غَنِيٌّ عَمَّا تَرَكَ، فَقِيرٌ لما قدم، فاتقوا الله قبل القضاء، وراقبوه قبل نزول الْمَوْتِ بِكُمْ، أَمَا إِنِّي أَقُولُ هَذَا، ثُمَّ وَضَعَ طَرْفَ رِدَائِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَايْمِ اللَّهِ إِنِّي لأقول قولي هذا ولا أَعْلَمُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي، وَلَكِنَّهَا سُنَنٌ مِنَ اللَّهِ عَادِلَةٌ، أَمَرَ فِيهَا بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى فِيهَا عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَوَضَعَ كُمَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، فَمَا عَادَ لِمَجْلِسِهِ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ وَهُوَ يَقُولُ: «ادن يا عمر، فَدَنَوْتُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أُصِيبَهُ، فَقَالَ: إِذَا وليت فاعمل نحوا من عمل هذين، فإذا كَهْلَانِ قَدِ اكْتَنَفَاهُ، فَقُلْتُ: وَمَنْ هَذَانِ؟ قَالَ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا عُمَرُ» . وَرُوِّينَا أَنَّهُ قَالَ:
لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: اكْتُبْ لِي سِيرَةَ عُمَرَ حَتَّى أَعْمَلَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ،(9/199)
قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ عَمِلْتَ بِهَا كُنْتَ أَفْضَلَ مِنْ عُمَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا، وَأَنْتَ لَا تَجِدُ مَنْ يُعِينُكَ عَلَى الْخَيْرِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ آمَنْتُ باللَّه، وَفِي رِوَايَةٍ الْوَفَاءُ عَزِيزٌ. وَقَدْ جَمَعَ يَوْمًا رُءُوسَ النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَذَلِكَ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَمَا أَدْرِي مَا قَالَ فِي عُثْمَانَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ أَقْطَعَهَا فَحَصَلَ لِي مِنْهَا نَصِيبٌ، وَوَهَبَنِي الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ نَصِيبَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِي شيء أرده أغلى مِنْهَا، وَقَدْ رَدَدْتُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَيَئِسَ النَّاسُ عند ذلك من المظالم، ثم أمر بأموال جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَرَدَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ وَسَمَّاهَا أَمْوَالُ الْمَظَالِمِ، فَاسْتَشْفَعُوا إِلَيْهِ بِالنَّاسِ، وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِعَمَّتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ مَرْوَانَ فَلَمْ ينجع فيه شيء، وقال لهم: لَتَدَعُنِّي وَإِلَّا ذَهَبْتُ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ لِأَحَقِّ النَّاسِ بِهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتُ فِيكُمْ خَمْسِينَ عَامًا مَا أَقَمْتُ فيكم إلا مَا أُرِيدُ مِنَ الْعَدْلِ، وَإِنِّي لَأُرِيدُ الْأَمْرَ فَمَا أُنْفِذُهُ إِلَّا مَعَ طَمَعٍ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَهْدِيٌّ فَهُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَنَحْوَ هَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وغير واحد. وقال طاووس:
هُوَ مَهْدِيٌّ وَلَيْسَ بِهِ، إِنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلِ العدل كله، إذا كان المهدي ثبت عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ إِسَاءَتِهِ، وَزِيدَ الْمُحْسِنُ فِي إِحْسَانِهِ، سَمْحٌ بِالْمَالِ شَدِيدٌ عَلَى الْعُمَّالِ رَحِيمٌ بِالْمَسَاكِينِ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: الْخُلَفَاءُ أَبُو بَكْرٍ وَالْعُمَرَانِ، فَقِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَدْ عَرَفْنَاهُمَا فَمَنْ عُمَرُ الْآخَرُ؟ قَالَ: يُوشِكُ إِنْ عِشْتَ أَنْ تَعْرِفَهُ، يُرِيدُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَشَجُّ بَنِي مَرْوَانَ. وَقَالَ عَبَّادٌ السَّمَّاكُ وَكَانَ يُجَالِسُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ-: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: الْخُلَفَاءُ خَمْسَةٌ، أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَأَحَدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ. وَذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ:
«لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى يكون فيهم اثنى عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» .
وَقَدِ اجْتَهَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ- مَعَ قِصَرِهَا- حَتَّى رَدَّ الْمَظَالِمَ، وَصَرَفَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَكَانَ مُنَادِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُنَادِي: أَيْنَ الْغَارِمُونَ؟ أَيْنَ النَّاكِحُونَ؟ أَيْنَ الْمَسَاكِينُ؟ أَيْنَ الْيَتَامَى؟
حَتَّى أَغْنَى كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ. وقد اختلف العلماء أيهم أَفْضَلُ هُوَ أَوْ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ؟ فَفَضَّلَ بَعْضُهُمْ عُمَرَ لِسِيرَتِهِ وَمَعْدَلَتِهِ وَزُهْدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَفَضَّلَ آخَرُونَ مُعَاوِيَةَ لِسَابِقَتِهِ وَصُحْبَتِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ:
لَيَوْمٌ شَهِدَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَيَّامِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. وَذَكَرَ ابن(9/200)
عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يُعْجِبُهُ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِي زَوْجَتِهِ فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إِيَّاهَا إِمَّا بَيْعًا أَوْ هِبَةً، فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَلْبَسَتْهَا وَطَيَّبَتْهَا وأهدتها إليه ووهبتها منه، فَلَمَّا أَخْلَتْهَا بِهِ أَعْرَضَ عَنْهَا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَصَدَفَ عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدِي فَأَيْنَ مَا كَانَ يَظْهَرُ لِي مِنْ مَحَبَّتِكَ إِيَّايَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَحَبَّتَكِ لَبَاقِيَةٌ كَمَا هِيَ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ، فَقَدْ جَاءَنِي أَمْرٌ شَغَلَنِي عَنْكِ وَعَنْ غَيْرِكِ، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ أَصْلِهَا وَمِنْ أَيْنَ جَلَبُوهَا، فَقَالَتْ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَبِي أَصَابَ جِنَايَةً بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ فَصَادَرَهُ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ فَأُخِذْتُ فِي الْجِنَايَةِ، وَبَعَثَ بِي إِلَى الْوَلِيدِ فَوَهَبَنِي الوليد إلى أخته فَاطِمَةَ زَوْجَتِكَ، فَأَهْدَتْنِي إِلَيْكَ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، كِدْنَا وَاللَّهِ نَفْتَضِحُ وَنَهْلَكُ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَدِّهَا مُكَرَّمَةً إِلَى بِلَادِهَا وَأَهْلِهَا.
وَقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قَدْ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وُلِّيتُ، فَتَفَكَّرْتُ فِي الْفَقِيرِ الْجَائِعِ، وَالْمَرِيضِ الضَّائِعِ، وَالْعَارِي الْمَجْهُودِ، وَالْيَتِيمِ الْمَكْسُورِ، وَالْأَرْمَلَةِ الْوَحِيدَةِ وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ. وَالْغَرِيبِ وَالْأَسِيرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَذِي الْعِيَالِ الْكَثِيرِ، وَالْمَالِ الْقَلِيلِ، وَأَشْبَاهِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْبِلَادِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ سَيَسْأَلُنِي عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ خَصْمِي دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَشِيتُ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِي حُجَّةٌ عِنْدَ خُصُومَتِهِ، فَرَحِمْتُ نَفْسِي فَبَكَيْتُ.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَلَّانِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِمَالَةً ثُمَّ قَالَ لِي: إِذَا جَاءَكَ كِتَابٌ مِنِّي عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَاضْرِبْ بِهِ الْأَرْضَ. وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: إِذَا دَعَتْكَ قُدْرَتُكَ عَلَى النَّاسِ إِلَى مظلمة، فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ وَنَفَادَ مَا تَأْتِي إِلَيْهِمْ، وَبَقَاءَ مَا يَأْتُونَ إِلَيْكَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إن للإسلام سننا وفرائض وشرائع، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ أُبَيِّنْهَا لَكُمْ لتعملوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ.
وَذَكَرَ الصُّولِيُّ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي لَا يُقْبَلُ غَيْرُهَا وَلَا يُرْحَمُ إِلَّا أَهْلُهَا، وَلَا يُثَابُ إِلَّا عَلَيْهَا، وَإِنَّ الْوَاعِظِينَ بها كثير، والعاملين بها قليل. وقال: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ اجْتَزَأَ مِنَ الدُّنْيَا باليسير.
وقال: مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ. وَكَلَّمَهُ رَجُلٌ يَوْمًا حَتَّى أَغْضَبَهُ فَهَمَّ بِهِ عُمَرُ ثُمَّ أَمْسَكَ نَفْسَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: أَرَدْتَ أَنْ يَسْتَفِزَّنِي الشَّيْطَانُ بِعِزَّةِ السُّلْطَانِ فَأَنَالَ مِنْكَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا؟ قُمْ عَافَاكَ اللَّهُ لَا حَاجَةَ لَنَا فِي مُقَاوَلَتِكَ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ الْقَصْدُ فِي الْجِدِّ، وَالْعَفْوُ فِي الْمَقْدِرَةِ، وَالرِّفْقُ فِي الْوِلَايَةِ، وَمَا رفق عبد(9/201)
بِعَبْدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا رَفَقَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَخَرَجَ ابْنٌ لَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَشَجَّهُ صَبِيٌّ مِنْهُمْ، فَاحْتَمَلُوا الصَّبِيَّ الَّذِي شَجَّ ابْنَهُ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَسَمِعَ الْجَلَبَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا مُرَيْئَةٌ تَقُولُ: إِنَّهُ ابْنِي وَإِنَّهُ يَتِيمٌ، فَقَالَ لَهَا عمر: هوني عليك، ثم قال لَهَا عُمَرُ: أَلَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ؟ قَالَتْ: لَا! قَالَ:
فَاكْتُبُوهُ فِي الذُّرِّيَّةِ. فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك؟ فعل الله به وفعل، المرة الأخرى يشج ابنك ثانية. فقال: ويحك، إنه يتيم وقد أَفْزَعْتُمُوهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَقُولُونَ مَالِكٌ زَاهِدٌ، أَيُّ زُهْدٍ عِنْدِي؟ إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَاغِرَةً فَاهَا فتركها جملة.
قَالُوا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَكَانَ إِذَا غَسَلُوهُ جَلَسَ فِي الْمَنْزِلِ حَتَّى يَيْبَسَ، وَقَدْ وَقَفَ مَرَّةً عَلَى رَاهِبٍ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ عِظْنِي، فَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: -
تَجَرَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ... خَرَجْتَ إلى الدنيا وأنت مجرد
قال: وكان يُعْجِبُهُ وَيُكَرِّرُهُ وَعَمِلَ بِهِ حَقَّ الْعَمَلِ. قَالُوا: وَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ يَوْمًا فَسَأَلَهَا أَنْ تُقْرِضَهُ دِرْهَمًا أَوْ فُلُوسًا يَشْتَرِي لَهُ بِهَا عِنَبًا، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ فِي خِزَانَتِكَ مَا تَشْتَرِي بِهِ عِنَبًا؟ فَقَالَ: هَذَا أَيْسَرُ مِنْ مُعَالَجَةِ الْأَغْلَالِ وَالْأَنْكَالِ غَدًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
قَالُوا: وَكَانَ سِرَاجُ بَيْتِهِ عَلَى ثَلَاثِ قَصَبَاتٍ فِي رَأْسِهِنَّ طِينٌ، قَالُوا: وَبَعَثَ [يَوْمًا غُلَامَهُ لِيَشْوِيَ لَهُ لَحْمَةً فَجَاءَهُ بِهَا سَرِيعًا مَشْوِيَّةً، فَقَالَ: أَيْنَ شَوَيْتَهَا؟ قَالَ: فِي الْمَطْبَخِ، فَقَالَ: فِي مَطْبَخِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ:
نَعَمْ. فَقَالَ: كُلْهَا فَإِنِّي لم أرزقها، هي رزقك. وسخنوا له الماء فِي الْمَطْبَخِ الْعَامِّ فَرَدَّ بَدَلَ ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ حَطَبًا. وَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: مَا جَامَعَ وَلَا احْتَلَمَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ. قَالُوا: وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يُحَدِّثُ عن ثوبان بحديث الْحَوْضِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَأَحْضَرَهُ عَلَى الْبَرِيدِ وَقَالَ له، كالمتوجع له: يا أبا سلام ما أردنا المشقة عليك، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تُشَافِهَنِي بِالْحَدِيثِ مُشَافَهَةً، فَقَالَ: سَمِعْتُ ثَوْبَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَوْضِي مَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقَاءِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَأَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، الشُّعْثُ رُءُوسًا، الدُّنْسُ ثِيَابًا، الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ، وَلَا تُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ» . فَقَالَ عُمَرُ: لَكِنِّي نَكَحْتُ الْمُتَنَعِّمَاتِ، فَاطِمَةَ بنت عبد الملك، فَلَا جَرَمَ لَا أَغْسِلُ رَأْسِي حَتَّى يَشْعَثَ، وَلَا أُلْقِى ثَوْبِي حَتَّى يَتَّسِخَ. قَالُوا: وَكَانَ لَهُ سِرَاجٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ حَوَائِجَهُ، وَسِرَاجٌ لِبَيْتِ الْمَالِ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَكْتُبُ عَلَى ضَوْئِهِ لِنَفْسِهِ حَرْفًا. وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ كُلَّ يَوْمٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَلَا يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ شُرَطِيٍّ، وَثَلَاثُمِائَةِ حَرَسِيٍّ، وَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ تُفَّاحًا فَاشْتَمَّهُ ثُمَّ رَدَّهُ مَعَ الرَّسُولِ، وَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُ قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَقَالَ: إِنَّ الهدية(9/202)
كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً، فَأَمَّا نَحْنُ فَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ. قَالُوا: وَكَانَ يُوَسِّعُ عَلَى عُمَّالِهِ فِي النَّفَقَةِ، يُعْطِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَمِائَتَيْ دِينَارٍ، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي كِفَايَةٍ تَفَرَّغُوا لِأَشْغَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ عَلَى عِيَالِكَ كَمَا تُنْفِقُ عَلَى عُمَّالِكَ؟ فَقَالَ: لَا أَمْنَعُهُمْ حَقًّا لَهُمْ، وَلَا أُعْطِيهِمْ حَقَّ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ بَقُوا فِي جَهْدٍ عَظِيمٍ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ مَعَهُمْ سَلَفًا كَثِيرًا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ تَقِفَ بِبَابِي وَلَا يُؤْذَنُ لَكَ، وَقَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ:
إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ وَأَرْغَبُ بِكَ أَنْ أُدَنِّسَكَ بِالدُّنْيَا لِمَا أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: كُنَّا نَحْنُ وَبَنُو عَمِّنَا بَنُو هَاشِمٍ مَرَّةً لَنَا وَمَرَّةً عَلَيْنَا، نَلْجَأُ إِلَيْهِمْ وَيَلْجَئُونَ إِلَيْنَا، حَتَّى طَلَعَتْ شَمْسُ الرِّسَالَةِ فَأَكْسَدَتْ كُلَّ نَافِقٍ، وَأَخْرَسَتْ كُلَّ مُنَافِقٍ، وَأَسْكَتَتْ كُلَّ نَاطِقٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: ثَنَا أَبُو بكر ابن أخى خَطَّابٍ ثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ ثَنَا حَمَّادُ بن زيد عن موسى بن أيمن الراعي- وكان يرعى الغنم لمحمد بن عيينة- قال: كانت الأسد والغنم وَالْوَحْشُ تَرْعَى فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لِشَاةٍ مِنْهَا ذِئْبٌ فَقُلْتُ: إِنَّا للَّه، مَا أَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ إِلَّا قَدْ هَلَكَ. قَالَ فَحَسَبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ هَلَكَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ حَمَّادٍ فَقَالَ: كَانَ يَرْعَى الشَّاةَ بِكَرْمَانَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَمِنْ دُعَائِهِ: اللَّهمّ إِنْ رِجَالًا أَطَاعُوكَ فِيمَا أَمَرْتَهُمْ وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَيْتَهُمْ، اللَّهمّ وَإِنَّ تَوْفِيقَكَ إِيَّاهُمْ كَانَ قَبْلَ طَاعَتِهِمْ إِيَّاكَ، فَوَفِّقْنِي.
وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ إِنَّ عُمَرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ تَنَالَهُ رَحْمَتُكَ، وَلَكِنَّ رَحْمَتَكَ أَهْلٌ أَنْ تَنَالَ عُمَرَ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:
أَبْقَاكَ اللَّهُ مَا كَانَ الْبَقَاءُ خَيْرًا لَكَ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَلَكِنْ قُلْ: أَحْيَاكَ اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَتَوَفَّاكَ مَعَ الْأَبْرَارِ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ بَطِيئًا بَطِينًا، مُتَلَوِّثًا بِالْخَطَايَا، أَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ [1] فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ كَانَتِ الْخِلَافَةُ لَهُمْ زَيْنٌ، وَأَنْتَ زَيْنُ الْخِلَافَةِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ [2]
وَإِذَا الدُّرُّ زَانَ حُسْنَ وُجُوهٍ ... كَانَ لِلدُّرِّ حُسْنُ وَجْهِكَ زَيْنَا
قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ. وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: سَمَرْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فعشى السراج فقلت: يا أمير المؤمنين: أَلَا أُنَبِّهُ هَذَا الْغُلَامَ يُصْلِحُهُ؟ فَقَالَ: لَا! دعه ينام، لا أحب أن أجمع عليه عملين. فَقُلْتُ: أَفَلَا أَقُومُ أُصْلِحُهُ؟ فَقَالَ: لَا! لَيْسَ من المروءة استخدام الضيف، ثُمَّ قَامَ بِنَفْسِهِ فَأَصْلَحَهُ وَصَبَّ فِيهِ زَيْتًا ثُمَّ جَاءَ وَقَالَ: قُمْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عبد العزيز، وجلست وأنا عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ النِّعَمِ فَإِنَّ ذِكْرَهَا شُكْرُهَا. وَقَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي مِنْ كَثْرَةِ ذكرها مَخَافَةَ الْمُبَاهَاةِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ تُوُفِّيَ، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ لِيُعَزِّيَهُمْ فِيهِ، فَصَرَخُوا في وجهه
__________
[1] هو بلال بن أبى بردة حفيد بن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه
[2] هو مالك بن أسماء.(9/203)
بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَمْ يَكُنْ يَرْزُقُكُمْ، وَإِنَّ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا] [1] لَمْ يَسُدَّ شَيْئًا من حفركم، وإنما سد حفرة نفسه، ألا وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْكُمْ حُفْرَةً لَا بُدَّ وَاللَّهِ أَنْ يَسُدَّهَا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالْخَرَابِ، وَعَلَى أهلها بالفناء، وما امتلأت دار خبرة إِلَّا امْتَلَأَتْ عَبْرَةً، وَلَا اجْتَمَعُوا إِلَّا تَفَرَّقُوا، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُكُمْ كل الناس يصيرون إِلَيْهِ غَدًا.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ إِلَى الْقُبُورِ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا أَيُّوبَ! هَذِهِ قُبُورُ آبَائِي بَنِي أُمَيَّةَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهِمْ وعيشهم، أما تراهم صرعى قد خلت بهم الْمَثُلَاتُ، وَاسْتَحْكَمَ فِيهِمُ الْبَلَاءُ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِنَا فو الله لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْعَمَ مِمَّنْ صَارَ إِلَى هَذِهِ الْقُبُورِ، وَقَدْ أَمِنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ينتظر ثواب اللَّهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا دُفِنَتْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قِفُوا حَتَّى آتِيَ قُبُورَ الْأَحِبَّةِ، فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَدْعُو، إِذْ هَتَفَ بِهِ التُّرَابُ فَقَالَ: يَا عُمَرُ أَلَا تَسْأَلُنِي مَا فَعَلْتُ فِي الْأَحِبَّةِ؟ قَالَ قُلْتُ: وَمَا فَعَلْتَ بِهِمْ؟
قَالَ: مَزَّقْتُ الْأَكْفَانَ، وَأَكَلْتُ اللُّحُومَ، وَشَدَخْتُ الْمُقْلَتَيْنِ، وَأَكَلْتُ الْحَدَقَتَيْنِ، وَنَزَعْتُ الْكَفَّيْنِ مِنَ السَّاعِدَيْنِ، وَالسَّاعِدَيْنِ مِنَ الْعَضُدَيْنِ، وَالْعَضُدَيْنِ مِنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَالْمَنْكِبَيْنِ مِنَ الصُّلْبِ، وَالْقَدَمَيْنِ مِنَ السَّاقَيْنِ، وَالسَّاقَيْنِ مِنَ الْفَخْذَيْنِ، وَالْفَخْذَيْنِ من الورك، والورك من الصلب. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ قَالَ لَهُ: يَا عمر أَدُلُّكَ عَلَى أَكْفَانٍ لَا تَبْلَى؟ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَقَالَ مَرَّةً لِرَجُلٍ مِنْ جُلَسَائِهِ: لَقَدْ أَرِقْتُ اللَّيْلَةَ مُفَكِّرًا، قَالَ: وَفِيمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: فِي الْقَبْرِ وَسَاكِنِهِ، إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ الْمَيِّتَ بعد ثلاث في قبره، وما صار إليه، لَاسْتَوْحَشْتَ مِنْ قُرْبِهِ بَعْدَ طُولِ الْأُنْسِ مِنْكَ بناحيته، ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام، وتخترق فيه الديدان، ويجرى فيه الصديد، مَعَ تَغَيُّرِ الرِّيحِ، وَبِلَى الْأَكْفَانِ بَعْدَ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَطِيبِ الرِّيحِ، وَنَقَاءِ الثَّوْبِ، قَالَ: ثُمَّ شَهِقَ شَهْقَةً خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز فقرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ 37: 24 فجعل يكررها وما يستطيع أن يتجاوزها. وَقَالَتِ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْهُ، وَلَا أَحَدًا أَشَدَّ فَرَقًا مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ، كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يجلس يبكى حتى تغلبه عيناه، ثُمَّ يَنْتَبِهُ فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى تَغْلِبَهُ عيناه، قَالَتْ: وَلَقَدْ كَانَ يَكُونُ مَعِي فِي الْفِرَاشِ فَيَذْكُرُ الشَّيْءَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَيَنْتَفِضُ كَمَا يَنْتَفِضُ الْعُصْفُورُ فِي الْمَاءِ، وَيَجْلِسُ يَبْكِي، فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ اللِّحَافَ رَحْمَةً لَهُ، وَأَنَا أَقُولُ:
يَا لَيْتَ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخِلَافَةِ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، فو الله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها.
__________
[1] سقط من المصرية.(9/204)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ: مَا رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُمَا مِثْلَ الْحَسَنِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ يَبْكِي حَتَّى بَكَى دَمًا، قَالُوا: وَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَرَأَ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ 10: 3 الْآيَةَ، وَيَقْرَأُ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ 7: 97 وَنَحْوَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَلَا يَذْكُرُونَ إِلَّا الْمَوْتَ وَالْآخِرَةَ، ثُمَّ يَبْكُونَ حَتَّى كَأَنَّ بَيْنَهُمْ جنازة، وقال أبو بكر الصولي: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
بِأَيِّمَا بَلَدٍ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ ... إِنْ لَا يَسِرْ طَائِعًا فِي قَصْدِهَا يُسَقِ
وَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ فِي جِنَازَةٍ إِلَى قَوْمٍ قَدْ تَلَثَّمُوا مِنَ الْغُبَارِ وَالشَّمْسِ وَانْحَازُوا إِلَى الظِّلِّ فَبَكَى وَأَنْشَدَ:
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ ... أَوِ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشنة ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثًا
فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ غَبْرَاءَ مُوحِشَةٍ ... يُطِيلُ فِي قَعْرِهَا تَحْتَ الثرى اللبثا
تَجَهَّزِي بِجَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الردى لم تخلقى عبثا
[هذه الأبيات ذكرها الآجري في أدب النفوس بزيادة فيها فقال: أخبرنا أبو بكر أنبأنا أبو حفص عمر بن سعد القراطيسي حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الدنيا حدثني محمد بن صالح القرشي أخبرنى عمر بن الخطاب الأزدي حدثني ابن لعبد الصمد بن عبد الأعلى بن أبى عمرة قال:
أراد عمر بن عبد العزيز أن يبعثه رسولا إلى اليون طاغية الروم يدعوه إلى الإسلام، فقال له عبد الأعلى: يا أمير المؤمنين! ائذن لي في بعض بنى يخرج معى- وكان عبد الأعلى له عشرة من الذكور- فقال له: انظر من يخرج معك من ولدك. فقال: عبد الله، فقال له عمر: إني رأيت ابنك عبد الله يمشى مشية كرهتها منه ومقته عليها، وبلغني أنه يقول الشعر. فقال عبد الأعلى: أما مشيته تلك فغريزة فيه، وأما الشعر فإنما هو نواحة ينوح بها على نفسه، فقال له: مر عبد الله يأتينى وخذ معك غيره، فراح عبد الأعلى بابنه عبد الله إليه، فاستنشده فأنشده ذلك الشعر المتقدم:
تَجَهَّزِي بِجَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الردى لم تخلقى عبثا
ولا تكدى لمن يبقى وتفتقرى ... إن الردى وارث الباقي وما ورثا
وأخشى حوادث صرف الدهر في مهل ... واستيقظى لا تكوني كالذي بحثا
عن مدية كان فيها قطع مدته ... فوافت الحرث موفورا كما حرثا(9/205)
لا تأمنى فجمع دهر مترف ختل ... قد استوى عنده من طاب أو خبثا
يا رب ذي أمل فيه على وجل ... أضحى به آمنا امسى وقد حدثا
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ ... أَوِ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تبقى بشاشته ... فكيف يسكن يوما راغما جدثا
قفراء موحشة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرى من قعرها اللبثا
وقد ذكرها ابن أبى الدنيا فعمر أنشدها عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان عمر يتمثل بها كثيرا ويبكى] [1] وقال الفضل بن عباس الحلبي: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا يَجِفُّ فُوهُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ:
وَلَا خَيْرَ فِي عَيْشِ امْرِئٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ... مِنَ اللَّهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ نَصِيبُ
وَزَادَ غَيْرُهُ مَعَهُ بَيْتًا حَسَنًا وَهُوَ قَوْلُهُ:
فَإِنْ تُعْجِبُ الدُّنْيَا أُنَاسًا فَإِنَّهَا ... مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالزَّوَالُ قَرِيبُ
وَمِنْ شَعْرِهِ الَّذِي أَنْشَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
أَنَا مَيْتٌ وَعَزَّ مَنْ لَا يَمُوتُ ... قَدْ تَيَقَّنْتُ أَنَّنِي سَأَمُوتُ
لَيْسَ مُلْكٌ يُزِيلُهُ الْمَوْتُ مُلْكًا ... إِنَّمَا الْمُلْكُ مُلْكُ مَنْ لَا يَمُوتُ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز يقول [2] : -
تسر بما يفنى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى ... كَمَا اغْتَرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
وَسَعْيكُ فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز يلوم نفسه:
أَيَقِظَانُ أَنْتَ الْيَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ ... وَكَيْفَ يُطِيقُ النَّوْمَ حَيْرَانُ هَائِمُ
فَلَوْ كَنْتَ يَقْظَانَ الغداة لحرّقت ... محاجر عينيك الدموع السواجم
بَلَ اصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَتْ ... إليك أمور مفظعات عظائم
وتكدح فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تعيش البهائم
فلا أنت في النوام يوما بسالم ... ولا أنت في الإيقاظ يقظان حازم
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدِهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَتْ: انْتَبَهَ عُمَرُ ذَاتَ ليلة وهو يقول:
لقد رأيت الليلة رؤيا عجيبة، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهَا، فَقَالَ: حَتَّى نُصْبِحَ، فَلَمَّا صلى بالمسلمين دخل
__________
[1] سقط من نسخة الاستانة
[2] وهي من نظم عبد الله بن عبد الأعلى.(9/206)
فسألته فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي دُفِعْتُ إِلَى أَرْضٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ كَأَنَّهَا بِسَاطٌ أَخْضَرُ وَإِذَا فِيهَا قَصْرٌ كَأَنَّهُ الْفِضَّةُ فَخَرَجَ مِنْهُ خَارِجٌ فَنَادَى أَيْنَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ؟ إِذْ أَقْبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى دَخَلَ ذَلِكَ الْقَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى أَيْنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى أَيْنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟
فَقُمْتُ فَدَخَلْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى جَانِبِ أَبِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ عَنْ يَسَارِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقُلْتُ: لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ سَمِعْتُ هَاتِفًا يَهْتِفُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نُورٌ لَا أَرَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا عُمَرُ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَمَسَّكْ بِمَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَاثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عليه، ثُمَّ كَأَنَّهُ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَخَرَجْتُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْقَصْرِ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي نَصَرَنِي رَبِّي، وَإِذَا عَلِيٌّ فِي إِثْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي غَفَرَ لِي رَبِّي.
فصل
وقد ذِكْرُنَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا» . فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَوْلَى مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ وَأَحَقَّ، لِإِمَامَتِهِ وَعُمُومِ وِلَايَتِهِ، وقيامه واجتهاده فِي تَنْفِيذِ الْحَقِّ، فَقَدْ كَانَتْ سِيرَتُهُ شَبِيهَةً، بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا تشبه بِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الجوزي سيرة لعمر بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ أَفْرَدْنَا سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مُجَلَّدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَمُسْنَدَهُ فِي مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ، وَأَمَّا سِيرَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا هُنَا، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْطِي مَنِ انْقَطَعَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنْ بَلَدِهِ وَغَيْرِهَا، لِلْفِقْهِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يأخذوا بِالسُّنَّةِ، وَيَقُولَ: إِنْ لَمْ تُصْلِحْهُمُ السُّنَّةُ فَلَا أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ أَنْ لَا يَرْكَبَ ذِمِّيٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ عَلَى سَرْجٍ، وَلَا يَلْبَسُ قَبَاءً وَلَا طَيْلَسَانًا لا السَّرَاوِيلَ. وَلَا يَمْشِيَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِزُنَّارٍ مِنْ جِلْدٍ، وَهُوَ مَقْرُونُ النَّاصِيَةِ، وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ فِي مَنْزِلِهِ سِلَاحٌ أُخِذَ مِنْهُ. وَكَتَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَعْمَالِ إِلَّا أَهْلُ الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ خَيْرٌ فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ خَيْرٌ. وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ: اجْتَنِبُوا الْأَشْغَالَ عِنْدَ حضور الصلاة، فَإِنَّ مَنْ أَضَاعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا(9/207)
مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَشَدُّ تَضْيِيعًا. وَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ الْمَوْعِظَةَ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ عُمَّالِهِ فَيَنْخَلِعُ منها، وربما عزل بعضهم نفسه عن العمالة وطوى البلاد مِنْ شِدَّةِ مَا تَقَعُ مَوْعِظَتُهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قَلْبِ الْوَاعِظِ دَخَلَتْ قَلْبَ الْمَوْعُوظِ. وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثِقَةٌ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِمَوَاعِظَ حِسَانٍ وَلَوْ تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ لَطَالَ هَذَا الْفَصْلُ، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أذكر لَيْلَةً تَمَخَّضُ بِالسَّاعَةِ فَصَبَاحُهَا الْقِيَامَةُ، فَيَا لَهَا مِنْ لَيْلَةٍ وَيَا لَهُ مِنْ صَبَاحٍ، وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا. وَكَتَبَ إِلَى آخَرَ: أُذَكِّرُكَ طُولَ سَهَرِ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ مَعَ خُلُودِ الْأَبَدِ، وَإِيَّاكَ أَنْ يُنْصَرَفَ بِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِكَ، وَانْقِطَاعَ الرَّجَاءِ مِنْكَ، قَالُوا: فَخَلَعَ هَذَا الْعَامِلُ نَفْسَهُ مِنَ الْعِمَالَةِ وَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ له: مالك؟
فَقَالَ: خَلَعْتَ قَلْبِي بِكِتَابِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، والله لا أعود إلى ولاية أبدا.
فصل
وَقَدْ رَدَّ جَمِيعَ الْمَظَالِمِ كَمَا قَدَّمْنَا، حَتَّى إِنَّهُ رَدَّ فَصَّ خَاتَمٍ كَانَ فِي يَدِهِ، قَالَ: أَعْطَانِيهِ الْوَلِيدُ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ، وَخَرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَأْكَلِ وَالْمَتَاعِ، حَتَّى إِنَّهُ تَرَكَ التمتع بزوجته الحسناء، فاطمة بن عَبْدِ الْمَلِكِ، يُقَالُ كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، ويقال إنه رد جهازها إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ دَخْلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ دَخْلٌ سِوَى أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَكَانَ حَاصِلُهُ فِي خِلَافَتِهِ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ أَجَلَّهُمْ، فَمَاتَ فِي حَيَاتِهِ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَبِيهِ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ حُزْنٌ، وَقَالَ: أَمْرٌ رَضِيَهُ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُهُ، وَكَانَ قَبْلَ الْخِلَافَةِ يُؤْتَى بِالْقَمِيصِ الرَّفِيعِ اللَّيِّنِ جِدًّا فَيَقُولُ: مَا أَحْسَنَهُ لَوْلَا خُشُونَةٌ فِيهِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ بعد ذلك بلبس الْقَمِيصَ الْغَلِيظَ الْمَرْقُوعَ وَلَا يَغْسِلُهُ حَتَّى يَتَّسِخَ جِدًّا، وَيَقُولُ: مَا أَحْسَنَهُ لَوْلَا لِينُهُ. وَكَانَ يَلْبَسُ الْفَرْوَةَ الْغَلِيظَةَ، وَكَانَ سِرَاجُهُ عَلَى ثَلَاثِ قَصَبَاتٍ فِي رَأْسِهِنَّ طِينٌ، وَلَمْ يَبْنِ شَيْئًا فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَ يَخْدِمُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا عَوَّضَنِي اللَّهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَكَانَ يأكل الغليظ وَلَا يُبَالِي بِشَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ، وَلَا يُتْبِعُهُ نَفْسَهُ وَلَا يَوَدُّهُ، حَتَّى قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَزْهَدَ مِنْ أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ، لِأَنَّ عُمَرَ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا وَزَهِدَ فِيهَا، وَلَا نَدْرِي حَالَ أُوَيْسٍ لَوْ مَلَكَ مَا مَلَكَهُ عُمَرُ كَيْفَ يَكُونُ؟ لَيْسَ مَنْ جَرَّبَ كَمَنْ لَمْ يُجَرِّبْ. وَتَقَدَّمَ قول مالك بن دينار: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: لَمْ يَكُنْ عُمَرُ يَرْتَزِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا، وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَمَرَ جَارِيَةً تُرَوِّحُهُ حَتَّى يَنَامَ فَرَوَّحَتْهُ، فَنَامَتْ هِيَ، فَأَخَذَ الْمِرْوَحَةَ مِنْ يَدِهَا وَجَعَلَ(9/208)
يُرَوِّحُهَا وَيَقُولُ: أَصَابَكِ مِنَ الْحَرِّ مَا أَصَابَنِي. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا. فَقَالَ:
بَلْ جَزَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَنِّي خَيْرًا. وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ تَحْتَ ثِيَابِهِ مِسْحًا غَلِيظًا مِنْ شَعْرٍ، وَيَضَعُ فِي رَقَبَتِهِ غُلًّا إِذَا قَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ إِذَا أَصْبَحَ وَضَعَهُ فِي مَكَانٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ أَحَدٌ، وَكَانُوا يَظُنُّونَهُ مَالًا أَوْ جَوْهَرًا مِنْ حِرْصِهِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ فَإِذَا فِيهِ غُلٌّ وَمَسْحٌ.
وكان يبكى حتى يبكى الدَّمَ مِنَ الدُّمُوعِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ بَكَى فَوْقَ سَطْحٍ حَتَّى سَالَ دَمْعُهُ مِنَ الْمِيزَابِ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنَ الْعَدَسِ لِيَرِقَّ قَلْبُهُ وَتَغْزُرُ دَمْعَتُهُ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ اضْطَرَبَتْ أَوْصَالُهُ، وَقَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَهُ وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ 25: 13 الْآيَةَ، فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهمّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهمّ أَصْلِحْ مَنْ كَانَ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلَاكِهِ صَلَاحُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ. وَقَالَ: لَوْ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حتى يحكم أمر نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَقَلَّ الْوَاعِظُونَ وَالسَّاعُونَ للَّه بِالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ: الدُّنْيَا عَدُوَّةُ أَوْلِيَاءِ الله، وولية أعداء الله، أما الأولياء فغمتهم وأحزنتهم، وأما الأعداء فغرتهم وشتتهم وأبعدتهم عن الله. وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ عُصِمَ مِنَ الْمِرَاءِ وَالْغَضَبِ وَالطَّمَعِ. وَقَالَ لِرَجُلٍ: مَنْ سَيِّدُ قَوْمِكَ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: لَوْ كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تَقُلْهُ. وَقَالَ: أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ: لَقَدْ بُورِكَ لِعَبْدٍ في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أُعْطِيَ أَوْ مُنِعَ. وَقَالَ: قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ، وَقَالَ لِرَجُلٍ: عَلِّمْ وَلَدَكَ الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ: الْقَنَاعَةَ وَكَفَّ الْأَذَى.
وَتَكَلَّمَ رَجُلٌ عِنْدَهُ فَأَحْسَنَ فَقَالَ: هَذَا هُوَ السِّحْرُ الْحَلَّالُ. وَقِصَّتُهُ مَعَ أَبِي حَازِمٍ مُطَوَّلَةٌ حِينَ رَآهُ خَلِيفَةً وَقَدْ شَحَبَ وَجْهُهُ مِنَ التَّقَشُّفِ، وَتَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَكُنْ ثَوْبُكَ نَقِيًّا؟ وَوَجْهُكَ وَضِيًّا؟ وَطَعَامُكَ شَهِيًّا؟ وَمَرْكَبُكَ وَطِيًّا؟ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تُخْبِرْنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا لَا يَجُوزُهَا إِلَّا كُلُّ ضَامِرٍ مَهْزُولٍ» ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أفاق فذكر أنه لقي فِي غَشْيَتِهِ تِلْكَ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، وَقَدِ اسْتُدْعِيَ بِكُلٍّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَأُمِرَ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ ذُكِرَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَمْ يَدْرِ مَا صُنِعَ بِهِمْ، ثُمَّ دُعِيَ هُوَ فَأُمِرَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا انْفَصَلَ لَقِيَهُ سَائِلٌ فَسَأَلَهُ عَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلسَّائِلِ: فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، قَتَلَنِي رَبِّي بِكُلِّ قَتْلَةٍ قَتْلَةً، ثُمَّ هَا أَنَا أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُهُ الْمُوَحِّدُونَ. وَفَضَائِلُهُ وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَهُوَ حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة لنا إلا به.
ذِكْرُ سَبَبِ وَفَاتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَانَ سَبَبُهَا السُّلَّ، وَقِيلَ سَبَبُهَا أَنَّ مَوْلًى لَهُ سَمَّهُ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَأُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ ألف(9/209)
دِينَارٍ، فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَرَضٌ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مَسْمُومٌ، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ يَوْمَ سُقِيتُ السُّمَّ، ثُمَّ اسْتَدْعَى مَوْلَاهُ الَّذِي سَقَاهُ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ!! مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ أُعْطِيتُهَا. فَقَالَ: هَاتِهَا، فَأَحْضَرَهَا فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَتَهْلَكَ. ثُمَّ قِيلَ لِعُمَرَ: تَدَارَكْ نَفْسَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أن شفائى أن أمسّ شَحْمَةَ أُذُنِي أَوْ أُوتَى بِطِيبٍ فَأَشُمَّهُ مَا فَعَلْتُ، فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ بَنُوكَ- وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ- أَلَا تُوصِي لَهُمْ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُمْ فُقَرَاءُ؟ فَقَالَ: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يتولى الصالحين) والله لا أعطيتهم حَقَّ أَحَدٍ وَهُمْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِمَّا صَالِحٌ فاللَّه يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ فَمَا كُنْتُ لِأُعِينَهُ عَلَى فِسْقِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا أُبَالِي فِي أَيِّ وَادٍ هَلَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَفَأَدَعُ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَأَكُونَ شَرِيكَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى بِأَوْلَادِهِ فَوَدَّعَهُمْ وَعَزَّاهُمْ بِهَذَا، وَأَوْصَاهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ قَالَ: انْصَرِفُوا عَصَمَكُمُ اللَّهُ وَأَحْسَنَ الْخِلَافَةَ عَلَيْكُمْ. قَالَ: لقد رأينا بعض أولاد عمر ابن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُ أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ- مَعَ كَثْرَةِ مَا تَرَكَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ- يَتَعَاطَى وَيَسْأَلُ مِنْ أَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّ عُمَرَ وَكَلَ وَلَدَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُلَيْمَانُ وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يَكِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إِلَى مَا يَدَعُونَ لَهُمْ، فَيَضِيعُونَ وَتَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ فِي شَهَوَاتِ أَوْلَادِهِمْ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَتَيْتَ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ قَضَى اللَّهُ مَوْتًا دفنت في القبر الرابع مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بكر وعمر، فقال: والله لأن يعذبني اللَّهُ بِكُلِّ عَذَابٍ، إِلَّا النَّارَ فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَيْهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِي أَنِّي لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَهْلٌ. قَالُوا: وَكَانَ مَرَضُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ قُرَى حِمْصَ وَكَانَتْ مُدَّةُ مَرَضِهِ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا احْتُضِرَ قَالَ: أَجْلِسُونِي فَأَجْلَسُوهُ فَقَالَ: إِلَهِي أَنَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْتُ، وَنَهَيْتَنِي فَعَصَيْتُ، ثَلَاثًا، وَلَكِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَحَدَّ النَّظَرَ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى حَضَرَةً مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ، ثُمَّ قُبِضَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِهِ: اخْرُجُوا عَنِّي، فَخَرَجُوا وَجَلَسَ عَلَى الْبَابِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأُخْتُهُ فَاطِمَةُ، فَسَمِعُوهُ يَقُولُ: مَرْحَبًا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوُجُوهِ إِنْسٍ وَلَا جَانٍّ ثُمَّ قَرَأَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 28: 83 ثُمَّ هَدَأَ الصَّوْتُ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ غُمِّضَ وَسُوِّيَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَقُبِضَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الدراوَرْديّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُضِعَ عِنْدَ قَبْرِهِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَسَقَطَتْ صَحِيفَةٌ بِأَحْسَنِ كِتَابٍ(9/210)
فَقَرَءُوهَا فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ النَّارِ. فَأَدْخَلُوهَا بَيْنَ أَكْفَانِهِ وَدَفَنُوهَا مَعَهُ.
وروى نحو هذا من وجه آخر ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ إسماعيل بسنده عن عمير ابن حبيب السُّلَمِيِّ، قَالَ: أُسِرْتُ أَنَا وَثَمَانِيَةٌ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَأَمَرَ مَلِكُ الرُّومِ بِضَرْبِ رِقَابِنَا، فَقُتِلَ أَصْحَابِي وَشَفَعَ فِيَّ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الْمَلِكِ، فَأَطْلَقَنِي لَهُ، فَأَخَذَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ، وَإِذَا له ابنة مثل الشمس، فعرضها عليّ على أَنْ يُقَاسِمَنِي نِعْمَتَهُ وَأَدْخُلَ مَعَهُ فِي دِينِهِ فَأَبَيْتُ، وَخَلَتْ بِي ابْنَتُهُ فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيَّ فَامْتَنَعْتُ، فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: يَمْنَعُنِي دِينِي، فَلَا أَتْرُكُ دِينِي لِامْرَأَةٍ وَلَا لِشَيْءٍ. فَقَالَتْ: تُرِيدُ الذَّهَابَ إِلَى بِلَادِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: سِرْ عَلَى هَذَا النَّجْمِ بِاللَّيْلِ وَاكْمُنْ بِالنَّهَارِ، فَإِنَّهُ يُلْقِيكَ إِلَى بِلَادِكَ، قَالَ: فَسِرْتُ كَذَلِكَ، قَالَ فَبَيْنَا أَنَا فِي الْيَوْمِ الرابع مكمن إذا بِخَيْلٍ مُقْبِلَةٍ فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ فِي طَلَبِي، فَإِذَا أَنَا بِأَصْحَابِي الَّذِينَ قُتِلُوا وَمَعَهُمْ آخَرُونَ عَلَى دَوَابَّ شُهْبٍ، فَقَالُوا: عُمَيْرٌ؟ فَقُلْتُ: عُمَيْرٌ. فقلت: لهم أو ليس قَدْ قُتِلْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَشَرَ الشُّهَدَاءَ وَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا جِنَازَةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي بَعْضُهُمْ: نَاوِلْنِي يَدَكَ يَا عُمَيْرُ، فأردفتى فَسِرْنَا يَسِيرًا ثُمَّ قَذَفَ بِي قَذْفَةً وَقَعْتُ قُرْبَ مَنْزِلِي بِالْجَزِيرَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَحِقَنِي شَرٌّ.
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ أَوْصَى إِلَيَّ أن أغسله وأكفنه، فَإِذَا حَلَلْتُ عُقْدَةَ الْكَفَنِ أَنْ أَنْظُرَ فِي وجهه فأدلى، ففعلت فإذا وجهه مثل القراطيس بياضا، وكان قد أخبرنى أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء وكان يحل عَنْ وُجُوهِهِمْ فَإِذَا هِيَ مُسْوَدَّةٌ. وَرَوَى ابْنُ عساكر في ترجمة يوسف ابن مَاهِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُسَوِّي التُّرَابَ عَلَى قَبْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ سَقَطَ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ كِتَابٌ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَانٌ مِنَ اللَّهِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ النَّارِ. سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَصْرِيِّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، لَا سِيَّمَا الْعُلَمَاءُ وَالزُّهَّادُ وَالْعُبَّادُ. وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ يَرْثِي عُمَرَ: -
عَمَّتْ صَنَائِعُهُ فَعَمَّ هَلَاكُهُ ... فَالنَّاسُ فِيهِ كُلُّهُمْ مَأْجُورُ
وَالنَّاسُ مَأْتَمُهُمْ عَلَيْهِ وَاحِدٌ ... فِي كُلِّ دَارٍ رَنَّةٌ وَزَفِيرُ
يُثْنِي عَلَيْكَ لِسَانُ مَنْ لَمْ تُولِهِ ... خَيْرًا لِأَنَّكَ بِالثَّنَاءِ جَدِيرُ
رَدَّتْ صَنَائِعُهُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ ... فَكَأَنَّهُ مِنْ نَشْرِهَا مَنْشُورُ
وَقَالَ جَرِيرٌ يَرْثِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله: -
يَنْعَى النُّعَاةُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَنَا ... يَا خَيْرَ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ وَاعْتَمَرَا(9/211)
حملت أمرا عظيما فاضطلعت به ... وسرت فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ يَا عُمْرَا
الشَّمْسُ كَاسِفَةٌ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ ... تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومُ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا
وَقَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْثِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: -
لَوْ أَعْظَمَ الْمَوْتُ خَلْقًا أَنْ يُوَاقِعَهُ ... لِعَدْلِهِ لَمْ يُصِبْكَ الْمَوْتُ يَا عُمَرُ
كَمْ مِنْ شَرِيعَةِ عَدْلٍ قَدْ نَعَشْتَ لَهُمْ ... كَادَتْ تَمُوتُ وَأُخْرَى مِنْكَ تُنْتَظَرُ
يَا لَهَفَ نَفْسِي وَلَهَفَ الْوَاجِدِينَ مَعِي ... عَلَى الْعُدُولِ الَّتِي تَغْتَالُهَا الْحَفْرُ
ثَلَاثَةٌ مَا رَأَتْ عَيْنِي لَهُمْ شَبَهًا ... تَضُمُّ أَعْظُمَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحُفَرُ
وَأَنْتَ تَتْبَعُهُمْ لَمْ تَأْلُ مُجْتَهِدًا ... سُقْيًا لَهَا سُنَنٌ بِالْحَقِّ تَفْتَقِرُ
لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ ... تَأْتِي رَوَاحًا وَتِبْيَانًا وَتَبْتَكِرُ
صَرَفْتُ عَنْ عُمَرَ الْخَيْرَاتِ مَصْرَعَهُ ... بِدَيْرِ سَمْعَانَ لَكِنْ يَغْلِبُ الْقَدْرُ
قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ، يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ، وَقِيلَ بَقِينَ من رجب، وقيل لعشر بقين منه، سنة إحدى وقيل ثِنْتَيْنِ وَمِائَةٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ مَسْلَمَةُ ابن عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ صَلَّى عَلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقِيلَ إِنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ بِأَشْهُرٍ، وَقِيلَ بِسَنَةٍ، وَقِيلَ بِأَكْثَرَ، وقيل إنه عاش ثلاثا وستين سَنَةً، وَقِيلَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ، وقيل ثمانيا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الأربعين ولم يبلغها. وَقَالَ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: مات على رأس خمس وأربعين وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا وَهْمٌ، والصحيح الأول تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل أربعة عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ.
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَسْمَرَ دَقِيقَ الْوَجْهِ حَسَنَهُ نَحِيفَ الْجِسْمِ حَسَنَ اللِّحْيَةِ غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، بِجَبْهَتِهِ أَثَرُ شَجَّةٍ وَكَانَ قَدْ شَابَ وَخَضَّبَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ سبحانه أعلم.
[فصل
لما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر: ما لي ولك؟ تنح عنى، إنما أنا رجل من المسلمين. ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه فقال: أيها الناس! إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأى كان منى فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون. فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك(9/212)
لأنفسنا وأمرنا، ورضينا كلنا بك. فلما هدأت أصواتهم حمد الله وأثنى عليه وقال: أوصيكم بتقوى الله، فان تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، وأكثروا من ذكر الموت فإنه هادم اللذات، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطى أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا، ثم رفع صوته فقال: أيها الناس! من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعونى ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت والثياب التي كانت تبسط للخلفاء أمر بها فبيعت، وأدخل أثمانها في بيت المال، ثم ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع؟ قال: يا بنى أقيل، قال: تقيل ولا ترد المظالم إلى أهلها؟ فقال: إني سهرت البارحة في أمر سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم. فقال له ابنه: ومن لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن منى أي بنى، فدنا منه فقبل بين عينيه وقال: الحمد للَّه الّذي أخرج من صلبى من يعينني على ديني. ثم قام وخرج وترك القائلة وأمر مناديه فنادى: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص [1] فقال:
يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: ما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبنى أرضى. والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول؟ قال: نعم! أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلا، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى.
فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته، فردها عليه.
ثم تتابع الناس في رفع المظالم إليه، فما رفعت إليه مظلمة إلا ردها، سواء كانت في يده أو في يد غيره حتى أخذ أموال بنى مروان وغيرهم، مما كان في أيديهم بغير استحقاق، فاستغاث بنو مروان بكل واحد من أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئا، فأتوا عمتهم فاطمة بنت مروان- وكانت عمته- فشكوا إليها ما لقوا من عمر، وأنه قد أخذ أموالهم ويستنقصون عنده، وأنه لا يرفع بهم رأسا، وكانت هذه المرأة لا تحجب عن الخلفاء، ولا ترد لها حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل الخلافة، وقامت فركبت إليه، فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها، لأنها أخت أبيه، وألقى لها وسادة، وشرع يحادثها، فرآها غضبى وهي على غير العادة، فقال لها عمر: يا عمه مالك؟
فقالت: بنو أخى عبد الملك وأولادهم يهانون في زمانك وولايتك؟ وتأخذ أموالهم فتعطيها لغيرهم، ويسبون عندك فلا تنكر؟ فضحك عمر وعلم أنها متحملة، وأن عقلها قد كبر، ثم شرع يحادثها والغضب لا يتحيز عنها، فلما رأى ذلك أخذ معها في الجد، فقال: يا عمه! اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
[1] في الأصل «من أهل خضر» وصححناه من سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صفحة 104(9/213)
مات وترك الناس على نهر مورود، فولى ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقص منه شيئا حتى مات، ثم ولى ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر فلم يستنقص منه شيئا حتى مات، ثم ولى ذلك النهر رجل آخر فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس بعده يكرون السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه، وايم الله لئن أبقانى الله لأردنه إلى مجراه الأول، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وإذا كان الظلم من الأقارب الذين هم بطانة الوالي، والوالي لا يزيل ذلك، فكيف يستطيع أن يزيل ما هو ناء عنه في غيرهم؟ فقالت: فلا يسبوا عندك؟ قال: ومن يسبهم؟ إنما يرفع الرجل مظلمته فآخذ له بها. ذكر ذلك ابن أبى الدنيا وأبو نعيم وغيرهما، وقد أشار إليه المؤلف إشارة خفية.
وقال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر في مرضه فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة: ألا تغسلوا قميص أمير المؤمنين؟ فقالت: والله ما له قميص غيره، وبكى فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدرى هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلت عنهم العبرة قالت فاطمة: ما أبكاك يا أمير المؤمنين؟
فقال: إني ذكرت منصرف الخلائق من بين يدي الله، فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه.
وعرض عليه مرة مسك من بيت المال فسدّ أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك فقال: وهل ينتفع من المسك إلا بريحة؟ ولما احتضر دعا بأولاده وكانوا بضعة عشر ذكرا، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال: بنفسي الفتية. وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيرا بهذه الأبيات: -
يرى مستكينا وهو للقول ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئا كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش فارعوى ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
وروى ابن أبى الدنيا عن ميمون بن مهران قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وعنده سابق البربري وهو ينشده شعرا، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات: -
فكم من صحيح بات للموت آمنا ... أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ... فرارا ولا منه بقوّته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعا ... ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنىّ لماله ... ولا معدما في المال ذا حاجة يدع
وقال رجا بن حيوة: لما مات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقام يزيد بن عبد الملك بعده(9/214)
في الخلافة، أتاه عمر بن الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد يا أمير المؤمنين! إن هذا المرائي- يعنى عمر ابن عبد العزيز- قد خان من المسلمين كل ما قدر عليه من جوهر نفيس ودر ثمين، في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر والجوهر. فأرسل يزيد إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر: بلغني أن عمر خلف جوهرا ودرا في بيتين مقفولين. فأرسلت إليه: يا أخى ما ترك عمر من سبد ولا لبد، إلا ما في هذا المنديل. وأرسلت إليه به، فحله فوجد فيه قميصا غليظا مرقوعا، ورداء قشبا، وجبة محشوة غليظة واهية البطانة. فقال يزيد للرسول: قل لها: ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل عما في البيتين. فأرسلت تقول له: والّذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلت هذين البيتين منذ ولى الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحهما فتعال فحول ما فيهما لبيت مالك. فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين فإذا فيه كرسي من أدم وأربع آجرّات مبسوطات عند الكرسي، وقمقم. فقال عمر بن الوليد: أستغفر الله، ثم فتح البيت الثاني فوجد فيه مسجدا مفروشا بالحصى، وسلسلة معلقة بسقف البيت، فيها كهيئة الطوق بقدر ما يدخل الإنسان رأسه فيها إلى أن تبلغ العنق، كان إذا فتر عن العبادة أو ذكر بعض ذنوبه وضعها في رقبته، وربما كان يضعها إذا نعس لئلا ينام، ووجدوا صندوقا مقفلا ففتح فوجدوا فيه سفطا ففتحه فإذا فيه دراعة وتبان، كل ذلك من مسوح غليظ، فبكى يزيد ومن معه وقال: يرحمك الله يا أخى، إن كنت لنقى السريرة، نقى العلانية. وخرج عمر بن الوليد وهو مخذول وهو يقول:
أستغفر الله، إنما قلت ما قيل لي.
وقال رجاء: لما احتضر جعل يقول: اللَّهمّ رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب لما عجلت تأخيرا، ولا لما أخرت تعجيلا. فلا زال يقول ذلك حتى مات. وكان يقول: لقد أصبحت وما لي في الأمور هوى إلا في مواضع قضاء الله فيها.
وقال شعيب بن صفوان: كتب سَالِمُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلى عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة: أما بعد يا عمر فإنه قد ولى الخلافة والملك قبلك أقوام، فماتوا على ما قد رأيت، ولقوا الله فرادى بعد الجموع والحفدة والحشم، وعالجوا نزع الموت الّذي كانوا منه يفرون، فانفقأت أعينهم التي كانت لا تفتأ تنظر لذاتها، واندفنت رقابهم غير موسدين بعد لين الوسائد، وتظاهر الفرش والمرافق والسرر والخدم، وانشقت بطونهم التي كانت لا تشبع من كل نوع ولون من الأموال والأطعمة، وصاروا جيفا بعد طيب الروائح العطرة، حتى لو كانوا إلى جانب مسكين ممن كانوا يحقرونه وهم أحياء لتأذى بهم، ولنفر منهم، بعد إنفاق الأموال على أغراضهم من الطيب والثياب الفاخرة اللينة، كانوا ينفقون الأموال إسرافا في أغراضهم وأهوائهم، ويقترون في حق(9/215)
الله وأمره، فان استطعت أن تلقاهم يوم القيامة وهم محبوسون مرتهنون بما عليهم، وأنت غير محبوس ولامرتهن بشيء فافعل، واستعن باللَّه ولا قوة إلا باللَّه سبحانه.
وما ملك عما قليل بسالم ... ولو كثرت أحراسه ومواكبه
ومن كان ذا باب شديد وحاجب ... فعما قليل يهجر الباب حاجبه
وما كان غير الموت حتى تفرقت ... إلى غيره أعوانه وحبائبه
فأصبح مسرورا به كل حاسد ... وأسلمه أصحابه وحبائبه
وقيل إن هذه الأبيات لغيره.
وقال ابن أبى الدنيا في كتاب الإخلاص: حدثنا عاصم بن عامر حدثنا أبى عن عبد ربه بن أبى هلال عن ميمون بن مهران قال: تكلم عمر بن عبد العزيز ذات يوم وعنده رهط من إخوانه ففتح له منطق وموعظة حسنة، فنظر إلى رجل من جلسائه وقد ذرفت عيناه بالدموع، فلما رأى ذلك عمر قطع منطقه، فقلت له: يا أمير المؤمنين امض في موعظتك فانى أرجو أن يمنّ الله به على من سمعه أو بلغه، فقال:
إليك عنى يا أبا أيوب، فان في القول على الناس فتنة لا يخلص من شرها متكلم عليهم، والفعال أولى بالمؤمنين من المقال. وروى ابن أبى الدنيا عنه أنه قال: استعملنا أقواما كنا نرى أنهم أبرار أخيار، فلما استعملناهم إذا هم يعملون أعمال الفجار، قاتلهم الله، أما كانوا يمشون على القبور!! وروى عبد الرزاق قال: سمعت معمرا يذكر قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عدي بن أرطاة- وبلغه عنه بعض ما يكره-: أما بعد فإنه غرني بك مجالستك القراء، وعمامتك السوداء، وإرسالك إياها من وراء ظهرك، وإنك أحسنت العلانية فأحسنا بك الظن، وقد أطلعنا الله على كثير مما تعملون.
وروى الطبراني والدارقطنيّ وغير واحد من أهل العلم بأسانيدهم إلى عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له: أما بعد فانى أوصيك بتقوى الله واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما أحدث المحدثون بعده، ممن قد حارب سنته، وكفوا مؤنته، ثم اعلم أنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل على بطلانها- أو قال دليل عليها- فعليك لزوم السنة، فإنه إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزيغ والزلل، والحمق والخطأ والتعمق، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وعلى العمل الشديد أشد، وإنما كان عملهم على الأسد، ولو كان فيما تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لأنهم السابقون إلى كل خير، فان قلت: قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه من قد اتبع غير سبيل المؤمنين، وحاد عن طريقهم، ورغبت نفسه عنهم، ولقد تكلموا منه ما يكفى، ووصفوا منه ما يشفى، فأين لا أين، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم غير محسن، ولقد(9/216)
قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، فرحم الله ابن عبد العزيز. ما أحسن هذا القول الّذي ما يخرج إلا من قلب قد امتلأ بالمتابعة ومحبة ما كان عليه الصحابة، فمن الّذي يستطيع أن يقول مثل هذا من الفقهاء وغيرهم؟ فرحمه الله وعفا عنه.
وروى الخطيب البغدادي من طريق يعقوب بن سفيان الحافظ عن سعيد بن أبى مريم عن رشيد بن سعيد قال: حدثني عقيل عن شهاب عن عمر بن عبد العزيز. قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأى من خالفها، فمن اقتدى بما سبق هدى، ومن استبصر بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
وأمر عمر بن عبد العزيز مناديه ذات يوم فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم فقال في خطبته: إني لم أجمعكم إلا أن المصدق منكم بما بين يديه من لقاء الله والدار الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعد له أحمق، والمكذب له كافر. ثم تلا قوله تعالى أَلا إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ من لِقاءِ رَبِّهِمْ 41: 54 وقوله تعالى وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ 12: 106 وروى ابن أبى الدنيا عنه أنه أرسل أولاده مع مؤدب لهم إلى الطائف يعلمهم هناك، فكتب إليه عمر: بئس ما علّمت، إذ قدّمت إمام المسلمين صبيا لم يعرف النية [1]- أو لم تدخله النية- ذكره في كتاب النية له. وروى ابن أبى الدنيا في كتاب الرقة والبكاء، عن مولى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له: يا بنى ليس الخير أن يسمع لك وتطاع، وإنما الخير أن تكون قد غفلت عن ربك عز وجل ثم أطعته، يا بنى لا تأذن اليوم لأحد على حتى أصبح ويرتفع النهار، فانى أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون عنى، فقال له مولاه: رأيتك البارحة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله، قال فبكى ثم قال: يا بنى إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله عز وجل. قال: ثم غشي عليه فلم يفق حتى علا النهار، قال: فما رأيته بعد ذلك متبسما حتى مات.
وقرأ ذات يوم وَما تَكُونُ في شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ من قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ من عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً 10: 61 الآية، فبكى بكاء شديدا حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكى لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال، فقال له: يا أبة ما يبكيك؟ فقال: يا بنى خير، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بنى لقد خشيت أن أهلك وأن أكون من أهل النار.
وروى ابن أبى الدنيا عن عبد الأعلى بن أبى عبد الله العنبري. قال: رأيت عمر بن عبد العزيز
__________
[1] كذا بالأصول والظاهر أن فيه نقصا.(9/217)
خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي يمشى، فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر فخطب فقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ 81: 1 فقال: وما شأن الشمس وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ 81: 12- 13 فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت حيطان المسجد تبكى معه، ودخل عليه أعرابى فقال: يا أمير المؤمنين جاءت بى إليك الحاجة، وانتهيت إلى الغاية، والله سائلك عنى. فبكى عمر وقال له: كم أنتم؟ فقال:
أنا وثلاث بنات. ففرض له على ثلاثمائة، وفرض لبناته مائة مائة، وأعطاه مائة درهم من ماله، وقال له: اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم.
وجاءه رجل من أهل أذربيجان فقام بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين اذكر بمقامي هذا بين يديك مقامك غدا بين يدي الله، حيث لا يشغل الله عنك فيه كثرة من يخاصم من الخلائق، من يوم تلقاه بلا ثقة من العمل، ولا براءة من الذنب، قال: فبكى عمر بكاء شديدا ثم قال له: ما حاجتك؟
فقال: إن عملك بأذربيجان عدا عليّ فأخذ منى اثنى عشر ألف درهم فجعلها في بيت المال. فقال عمر: اكتبوا له الساعة إلى عاملها، فليرد عليه، ثم أرسله مع البريد. وعن زياد مولى ابن عياش قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ في ليلة باردة شاتية، فجعلت أصطلى على كانون هناك، فجاء عمر وهو أمير المؤمنين فجعل يصطلى معى على ذلك الكانون، فقال لي: يا زياد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قصّ على، قلت ما أنا بقاصّ، فقال: تكلم، فقلت زياد، فقال: ما له؟
فقلت: لا ينفعه من دخل الجنة إذا دخل النار، ولا يضره من دخل النار إذا دخل الجنة، فقال:
صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الّذي في الكانون.
وقال له زياد العبديّ: يا أمير المؤمنين لا تعمل نفسك في الوصف وأعملها في المخرج مما وقعت فيه، فلو أن كل شعرة فيك نطقت بحمد الله وشكره والثناء عليه ما بلغت كنه ما أنت فيه، ثم قال له زياد: يا أمير المؤمنين أخبرنى عن رجل له خصم ألد ما حاله؟ قال: سيء الحال، قال: فان كانا خصمين ألدّين؟ قال: فهو أسوأ حالا، قال: فان كانوا ثلاثة؟ قال: ذاك حيث لا يهنئه عيش. قال:
فو الله يا أمير المؤمنين ما أحد مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهو خصمك، قال: فبكى عمر حتى تمنيت أنى لم أكن حدثته ذلك. وكتب عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أرطاة وأهل البصرة: أما بعد فان من الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أمورا انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدم الحرام، وارتكبوا فيه الفروج الحرام، والمال الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحة من أشربة حلال، فمن انتبذ فلا ينتبذ إلا من أسقية الأدم، واستغنوا بما أحل الله عما حرم، فانا من وجدناه شرب شيئا مما حرم الله بعد ما تقدمنا إليه، جعلنا له عقوبة شديدة،(9/218)
[ومن استخف بما حرم الله عليه فاللَّه أشد عقوبة له وأشد تنكيلا] [1] .
خِلَافَةُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بُويِعَ لَهُ بِعَهْدٍ مِنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أن يكون ولى الأمر مِنْ بَعْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ- بَايَعَهُ النَّاسُ الْبَيْعَةَ الْعَامَّةَ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَعَزَلَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ أَبَا بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ مُنَافَسَاتٌ وَضَغَائِنُ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنِ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ حُكُومَةً فَحَدَّهُ حَدَّيْنِ فِيهَا وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْخَوَارِجِ، وَهُمْ أَصْحَابُ بِسِطَامٍ الْخَارِجِيِّ، وَبَيْنَ جُنْدِ الْكُوفَةِ، وَكَانَتِ الْخَوَارِجُ جَمَاعَةً قَلِيلَةً، وَكَانَ جَيْشُ الْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَكَادَتِ الْخَوَارِجُ أَنْ تكسرهم، فتذامروا بَيْنَهُمْ فَطَحَنُوا الْخَوَارِجَ طَحْنًا عَظِيمًا، وَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخرهم، فلم يبقوا منهم ثائرة.
وَفِيهَا خَرَجَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَخَلَعَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَقِتَالٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا بَسَطَ الْعَدْلَ فِي أَهْلِهَا، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ، وحبس عاملها عدي ابن أَرْطَاةَ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ حَبَسَ آلَ الْمُهَلَّبِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْبَصْرَةِ، حِينَ هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ مِنْ مَحْبَسِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كما ذكرنا، ولما ظَهَرَ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ أَتَى بِعَدِيِّ بْنِ أرطاة فدخل عليه وهو يضحك، فقال يزيد بن المهلب: إني لأعجب مِنْ ضَحِكِكَ، لِأَنَّكَ هَرَبْتَ مِنَ الْقِتَالِ كَمَا تَهْرُبُ النِّسَاءُ، وَإِنَّكَ جِئْتَنِي وَأَنْتَ تُتَلُّ كَمَا يُتَلُّ الْعَبْدُ. فَقَالَ عَدِيٌّ: إِنِّي لَأَضْحَكُ لِأَنَّ بَقَائِي بَقَاءٌ لَكَ:
وَإِنَّ مِنْ وَرَائِي طَالِبًا لَا يَتْرُكُنِي، قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: جُنُودُ بنى أمية بالشام، ولا يتركونك، فدارك نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ إِلَيْكَ الْبَحْرُ بِأَمْوَاجِهِ، فَتَطْلُبَ الْإِقَالَةَ فَلَا تُقَالُ. فَرَدَّ عَلَيْهِ يَزِيدُ جَوَابَ مَا قَالَ، ثُمَّ سَجَنَهُ كَمَا سَجَنَ أهله، واستقر أمر يزيد بن المهلب على البصرة، وَبَعَثَ نُوَّابَهُ فِي النَّوَاحِي وَالْجِهَاتِ، وَاسْتَنَابَ فِي الْأَهْوَازِ، وَأَرْسَلَ أَخَاهُ مُدْرِكَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ الْخَلِيفَةَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ جَهَّزَ ابْنَ أَخِيهِ الْعَبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، مُقَدَّمَةً بَيْنَ يَدَيْ عَمِّهِ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ فِي جُنُودِ الشَّامِ، قَاصِدِينَ الْبَصْرَةَ لِقِتَالِهِ، وَلَمَّا بلغ يزيد بن المهلب مخرج الجيوش إِلَيْهِ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا أَخَاهُ مروان بن المهلب، وجاء حتى نزل واسط، واستشار من معه من الأمراء فيما ذا يَعْتَمِدُهُ؟ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الرَّأْيِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ يَسِيرَ إِلَى الْأَهْوَازِ لِيَتَحَصَّنَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَقَالَ: إِنَّمَا تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُونِي طَائِرًا فِي رَأْسِ جَبَلٍ؟ وَأَشَارَ عَلَيْهِ رِجَالُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْجَزِيرَةِ فَيَنْزِلَهَا بأحصن حصن فيها، ويجتمع
__________
[1] من أول الفصل إلى هنا زيادة من المصرية.(9/219)
عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ فَيُقَاتِلُ بِهِمْ أَهْلَ الشَّامِ، وَانْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ نَازِلٌ بِوَاسِطٍ وَجَيْشُ الشَّامِ قَاصِدُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ أَمِيرُ المدينة، وعلى مكة عبد العزيز ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ. قَدِ اسْتَحْوَذَ عليها وخلع أمير المؤمنين يزيد ابن عبد الملك. وفيها توفى عمر بن عبد العزيز، وربعي بن حراش، وَأَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ وَكَانَ عَابِدًا صَادِقًا ثَبْتًا، وقد ترجمناه في كتابنا التكميل والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين ومائة
فيها كَانَ اجْتِمَاعُ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَذَلِكَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ رَكِبَ مِنْ وَاسِطٍ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ، وَسَارَ هُوَ فِي جَيْشٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمُهَلَّبِ، حَتَّى بَلَغَ مَكَانًا يُقَالُ لَهُ الْعَقْرُ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي جُنُودٍ لَا قِبَلَ لِيَزِيدَ بِهَا، وَقَدِ الْتَقَتِ الْمُقَدَّمَتَانِ أَوَّلًا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَهْلَ الشَّامِ، ثُمَّ تَذَامَرَ أَهْلُ الشَّامِ فَحَمَلُوا عَلَى أَهْلِ البصرة فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنَ الشُّجْعَانِ، مِنْهُمُ الْمَنْتُوفُ، وَكَانَ شُجَاعًا مَشْهُورًا، وَكَانَ مِنْ مَوَالِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْفَرَزْدَقُ: -
تُبَكِّي عَلَى الْمَنْتُوفِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... وَتَنْهَى عَنِ ابْنَيْ مَسْمَعٍ مَنْ بَكَاهُمَا
فَأَجَابَهُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ مَوْلَى الثَّوْرِيِّينَ مِنْ هَمْدَانَ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَوَّلُ الْجَهْمِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَبَحَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى فَقَالَ الْجَعْدُ: -
نُبَكِّي عَلَى الْمَنْتُوفِ فِي نصر قومه ... وليتنا نبكي الشائدين أباهما
أرادا فِنَاءَ الْحَيِّ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ... فَعِزُّ تَمِيمٍ لَوْ أُصِيبَ فِنَاهُمَا
فَلَا لَقِيَا رَوْحًا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً ... وَلَا رَقَأَتْ عَيْنَا شَجِيٍّ بَكَاهُمَا
أَفِي الْغِشِّ نَبْكِي إِنْ بَكَيْنَا عَلَيْهِمَا ... وَقَدْ لَقِيَا بِالْغِشِّ فِينَا رَدَاهُمَا
وَلَمَّا اقْتَرَبَ مَسْلَمَةُ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، خَطَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ الناس وحرضهم على القتال- يعنى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ- وَكَانَ مَعَ يَزِيدَ نَحْوٌ من مائة ألف، وعشرين ألفا، وقد بَايَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَلَى كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أن لا يطأ الْجُنُودُ بِلَادَهُمْ، وَعَلَى أَنْ لَا تُعَادَ عَلَيْهِمْ سِيرَةُ الْفَاسِقِ الْحَجَّاجِ، وَمَنْ بَايَعْنَا عَلَى ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ، وَمَنْ خَالَفَنَا قَاتَلْنَاهُ.
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْكَفِّ وَتَرْكِ الدُّخُولِ فِي الْفِتْنَةِ، وَيَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النهى، وذلك لما وقع من القتال الطَّوِيلِ الْعَرِيضِ فِي أَيَّامِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَمَا قتل بسبب(9/220)
ذَلِكَ مِنَ النُّفُوسِ الْعَدِيدَةِ، وَجَعَلَ الْحَسَنُ يَخْطُبُ الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبد الملك بْنَ الْمُهَلَّبِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَأَمَرَهُمْ بالجد والجهاد، والنفر إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ هَذَا الشَّيْخَ الضَّالَّ الْمُرَائِيَ- وَلَمْ يُسَمِّهِ- يُثَبِّطُ الناس، أَمَا وَاللَّهِ لَيَكُفَنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ، وَتَوَعَّدَ الْحَسَنَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَسَنَ قَوْلُهُ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أَكْرَهُ أَنْ يُكْرِمَنِي اللَّهُ بِهَوَانِهِ، فَسَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى زَالَتْ دَوْلَتُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجُيُوشَ لَمَّا تَوَاجَهَتْ تَبَارَزَ الناس قليلا، ولم ينشب الحرب شديدا حتى فر أهل العراق سَرِيعًا، وَبَلَغَهُمْ أَنَّ الْجِسْرَ الَّذِي جَاءُوا عَلَيْهِ حُرِقَ فَانْهَزَمُوا، فَقَالَ: يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَمْرِ مَا يُفَرُّ مِنْ مِثْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْجِسْرَ الَّذِي جَاءُوا عَلَيْهِ قَدْ حُرِقَ. فَقَالَ: قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ رَامَ أَنْ يَرُدَّ المنهزمين فلم يمكنه، فَثَبَتَ فِي عِصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يتسللون منه حتى بقي في شرذمة قَلِيلَةٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَسِيرُ قُدُمًا لَا يمر بخيل إلا هزمهم، وأهل الشام يتجاوزون عنه يمينا وشمالا، وقد قتل أخوه حبيب بن المهلب، فازداد حنقا وغيظا، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْهَبَ، ثُمَّ قَصَدَ نَحْوَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ، فَلَمَّا وَاجَهَهُ حَمَلَتْ عَلَيْهِ خُيُولُ الشَّامِ فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا مَعَهُ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَقَتَلُوا السَّمَيْدَعَ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْقَحْلُ بْنُ عَيَّاشٍ، فَقُتِلَ إِلَى جَانِبِ يَزِيدَ ابن المهلب، وجاءوا برأس يزيد إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَرْسَلَهُ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيطٍ إِلَى أَخِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاسْتَحْوَذَ مَسْلَمَةُ عَلَى مَا فِي مُعَسْكَرِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْكُوفَةِ، وَبَعَثَ إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، فسار مسلمة فنزل الحيرة ولما انتهت هزيمة ابن الْمُهَلَّبِ إِلَى ابْنِهِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ، عَمَدَ إِلَى نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَسِيرًا فِي يَدِهِ فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَابْنُهُ، وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ ابْنَا مَسْمَعٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى الْبَصْرَةَ وَمَعَهُ الْخَزَائِنُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَجَاءَ معه عمه المفضل بن المهلب إليه، فَاجْتَمَعَ آلُ الْمُهَلَّبِ بِالْبَصْرَةِ فَأَعَدُّوا السُّفُنَ وَتَجَهَّزُوا أَتَمَّ الْجِهَازِ وَاسْتَعَدُّوا لِلْهَرَبِ، فَسَارُوا بِعِيَالِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ حَتَّى أَتَوْا جِبَالَ كَرْمَانَ فَنَزَلُوهَا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ جماعة ممن فل من الجيش الّذي كَانَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَقَدْ أَمَّرُوا عليهم المفضل بن المهلب، فأرسل مسلمة جيشا عليهم هلال بن ماجور المحاربي فِي طَلَبِ آلِ الْمُهَلَّبِ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُدْرِكُ بْنُ ضَبٍّ الْكَلْبِيُّ، فَلَحِقَهُمْ بِجِبَالِ كَرْمَانَ فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُفَضَّلِ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ، ثُمَّ لَحِقُوا الْمُفَضَّلَ فَقَتَلُوهُ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَأَخَذُوا لَهُمْ أَمَانًا مِنْ أَمِيرِ الشام(9/221)
مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ، ثُمَّ أَرْسَلُوا بِالْأَثْقَالِ وَالْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فَوَرَدَتْ عَلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَعَهُمْ رَأْسُ المفضل ورأس عبد الملك بن الْمُهَلَّبِ، فَبَعَثَ مَسْلَمَةُ بِالرُّءُوسِ وَتِسْعَةٍ مِنَ الصِّبْيَانِ الْحِسَانِ إِلَى أَخِيهِ يَزِيدَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ أُولَئِكَ، وَنُصِبَتْ رُءُوسُهُمْ بِدِمَشْقَ ثُمَّ أَرْسَلَهَا إِلَى حَلَبَ فَنُصِبَتْ بِهَا، وَحَلَفَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَيَبِيعَنَّ ذَرَارِيَّ آلِ الْمُهَلَّبِ، فَاشْتَرَاهُمْ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِبْرَارًا لِقَسَمِهِ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَأَعْتَقَهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَسْلَمَةُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمِيرِ شيئا وقد رثى الشُّعَرَاءُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ بِقَصَائِدَ ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ.
وِلَايَةُ مَسْلَمَةَ عَلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ حَرْبِ آلِ الْمُهَلَّبِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِوِلَايَةِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَنَابَ عَلَى الْكُوفَةِ وَعَلَى الْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ إلى خُرَاسَانَ خَتَنَهُ- زَوْجَ ابْنَتِهِ- سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعاصِ، الْمُلَقَّبِ بِخُذَيْنَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَحَرَّضَ أَهْلَهَا عَلَى الصَّبْرِ وَالشَّجَاعَةِ، وَعَاقَبَ عُمَّالًا مِمَّنْ كَانَ ينوب لآل الْمُهَلَّبِ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَمَاتَ بَعْضُهُمْ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ.
ذِكْرُ وَقْعَةٍ جَرَتْ بَيْنَ التُّرْكِ وَالْمُسْلِمِينَ
وَذَلِكَ أَنَّ خَاقَانَ الْمَلِكَ الْأَعْظَمَ مَلِكَ التُّرْكِ، بَعَثَ جَيْشًا إِلَى الصُّغْدِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ كُورْصُولُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى قَصْرِ الْبَاهِلِيِّ، فَحَصَرَهُ وَفِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَالَحَهُمْ نَائِبُ سَمَرْقَنْدَ- وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطَرِّفٍ- عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ سَبْعَةَ عَشَرَ دِهْقَانًا رَهَائِنَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ نَدَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْمُسَيَّبُ بْنُ بِشْرٍ الرِّيَاحِيُّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَسَارُوا نَحْوَ التُّرْكِ، فَلَمَّا كان في بعض الطريق [خطبهم] فَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ ذَاهِبٌ إِلَى الْأَعْدَاءِ لِطَلَبِ الشَّهَادَةِ، فَرَجَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ يَخْطُبُهُمْ وَيَرْجِعُ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، حَتَّى بَقِيَ فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى غَالَقَ جَيْشَ الأتراك، وهم محاصر وذلك الْقَصْرِ، وَقَدْ عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ عَلَى قَتْلِ نِسَائِهِمْ وَذَبْحِ أَوْلَادِهِمْ أَمَامَهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُونَ فَيُقَاتِلُونَ حَتَّى يُقْتَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ الْمُسَيَّبُ يُثَبِّتُهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، فَثَبَتُوا وَمَكَثَ المسيب حتى إذا كان وقت السحر فكبر وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، وَقَدْ جَعَلُوا شِعَارَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَى التُّرْكِ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَقَرُوا دَوَابَّ كَثِيرَةً، وَنَهَضَ إِلَيْهِمُ التُّرْكُ فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى فَرَّ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَضُرِبَتْ دَابَّةُ الْمُسَيَّبِ فِي عَجُزِهَا فترجل وَتَرَجَّلَ مَعَهُ الشُّجْعَانُ، فَقَاتَلُوا وَهُمْ كَذَلِكَ قِتَالًا عظيما، والتف الْجَمَاعَةُ بِالْمُسَيَّبِ وَصَبَرُوا حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَفَرَّ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ هَارِبِينَ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَتْرَاكُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، فَنَادَى مُنَادِي الْمُسَيَّبِ:(9/222)
أن لا تتبعوا أحدا، وَعَلَيْكُمْ بِالْقَصْرِ وَأَهْلِهِ، فَاحْتَمَلُوهُمْ وَحَازُوا مَا فِي مُعَسْكَرِ أُولَئِكَ الْأَتْرَاكِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ وَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ سَالِمِينَ بِمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَحْصُورِينَ، وَجَاءَتِ التُّرْكُ مِنَ الْغَدِ فَلَمْ يَجِدُوا بِهِ دَاعِيًا وَلَا مُجِيبًا، فَقَالُوا في أنفسهم: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَقُونَا بِالْأَمْسِ لَمْ يَكُونُوا إِنْسًا، إنما كانوا جنا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالسَّادَةِ:
الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْهِلَالِيُّ
أَبُو الْقَاسِمِ، وَيُقَالُ أَبُو مُحَمَّدٍ، الْخُرَاسَانِيُّ، كَانَ يَكُونُ بِبَلْخٍ وَسَمَرْقَنْدَ وَنَيْسَابُورَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ رَوَى عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ حتى ولا من ابن عباس سماع، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَاوَرَهُ سَبْعَ سِنِينَ، وَكَانَ الضَّحَّاكُ إِمَامًا فِي التَّفْسِيرِ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: خُذُوا التَّفْسِيرَ عَنْ أَرْبَعَةٍ، مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد: هو ثِقَةٌ، وَأَنْكَرَ شُعْبَةُ سَمَاعَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: كَانَ ضَعِيفًا. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ: لَمْ يُشَافِهْ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَدْ وَهِمَ، وَحَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ سَنَتَيْنِ، وَوَضَعَتْهُ وَلَهُ أَسْنَانٌ، وَكَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ حِسْبَةً، وَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَقِيلَ سَنَةَ ست ومائة والله أعلم.
أبو المتوكل الناجي
اسمه على بن البصري، تابعي جليل، ثقة، رفيع القدر، مات وقد بلغ الثمانين رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ ومائة
فِيهَا عَزَلَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ وَهُوَ عُمَرُ بْنُ هبيرة سعيد- الْمُلَقَّبُ خُذَيْنَةَ- عَنْ نِيَابَةِ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا سعيد بن عمرو الجريشى، بِإِذْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا مِنَ الْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ، انْزَعَجَ لَهُ التُّرْكُ وَخَافُوهُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَتَقَهْقَرُوا مِنْ بِلَادِ الصُّغْدِ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، مِنْ بِلَادِ الصِّينِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهَا جَمَعَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ بَيْنَ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وإمرة مكة، وولى عبد الرحمن الْوَاحِدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيَّ نِيَابَةَ الطَّائِفِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابن الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ
أَبُو الْعَلَاءِ الْمَدَنِيُّ. عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ الْهِلَالِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاصُّ الْمَدَنِيُّ، مَوْلَى مَيْمُونَةَ، وَهُوَ أَخُو سُلَيْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ الملك، وكلهم تَابِعِيٌّ. وَرَوَى هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَوَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ تُوفِيَ قَبْلَ الْمِائَةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ والله سبحانه أعلم.(9/223)
مجاهد بن جبير الْمَكِّيُّ
أَبُو الْحَجَّاجِ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، مَوْلَى السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ كَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالتَّفْسِيرِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُرِيدُ بِالْعِلْمِ وَجْهَ الله إلا مجاهد وطاووس، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخَذَ ابْنُ عُمَرَ بِرِكَابِي وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ابْنِي سَالِمًا وَغُلَامِي نَافِعًا يَحْفَظَانِ حِفْظَكَ. وَقِيلَ إِنَّهُ عَرَضَ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عباس ثلاثين مرة، وقيل مَرَّتَيْنِ، أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا، مَاتَ مُجَاهِدٌ وَهُوَ سَاجِدٌ سَنَةَ مِائَةٍ، وَقِيلَ إِحْدَى وَقِيلَ ثِنْتَيْنِ وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فصل
أسند مجاهد عن أعلام الصحابة وعلمائهم، عن ابن عمر وابن عباس وأبى هريرة وابن عمر وأبى سعيد ورافع بن خديج. وعنه خلق من التابعين. قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ثنا عبد الرزاق عن أبى بكر بن عياش قال: أخبرنى أبو يحيى أنه سمع مجاهدا يقول: قال لي ابن عباس: لا تنامنّ إلا على وضوء فان الأرواح تبعث على ما قبضت عليه.
وروى الطبراني عنه أنه قال في قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ 23: 96 قال: يسلم عليه إذا لقيه وقيل هي المصافحة. وروى عمرو بن مرة عنه أنه قال: أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام:
اتّق لا يأخذك الله على ذنب لا ينظر فيه إليك فتلقاه حين تلقاه وليست لك حاجة. وروى ابن أبى شيبة عن أبى أمامة عن الأعمش عن مجاهد. قال: كان بالمدينة أهل بيت ذوى حاجة، عندهم رأس شاة فأصابوا شيئا، فقالوا: لو بعثنا بهذا الرأس إلى من هو أحوج إليه منا، فبعثوا به فلم يزل يدور بالمدينة حتى رجع إلى أصحابه الذين خرج من عندهم أولا. وروى ابن أبى شيبة عن أبى الأحوص عن منصور عن مجاهد قال: ما من مؤمن يموت إلا بكى عليه السماء والأرض أربعين صباحا. وقال: فلأنفسهم يمهدون. قال: في القبر. وروى الأوزاعي عن عبدة بن أبى لبانة عن مجاهد قال: كان يحج من بنى إسرائيل مائة ألف، فإذا بلغوا أرصاف الحرم خلعوا نعالهم ثم دخلوا الحرم حفاة. وقال يحيى بن سعيد القطان قال مجاهد في قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ 3: 43 قال:
اطلبى الركود. وفي قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ من اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ 17: 64 قال المزامير. وقال في قوله تعالى أَنْكالًا وَجَحِيماً 73: 12 قال: قيود. وقال في قوله: لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ 42: 15 قال لا خصومة.
وقال: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ 102: 8 قال: عن كل لذة في الدنيا. وروى أبو الديبع عن جرير ابن عبد الحسيب عن منصور عن مجاهد. قال: رن إبليس أَرْبَعَ رَنَّاتٍ، حِينَ لُعِنَ، وَحِينَ أُهْبِطَ،(9/224)
وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 1: 2 وأنزلت بالمدينة. وكان يقال: الرنة والنخرة من الشيطان، فلعن من رن أو نخر. وروى ابن نجيح عنه في قوله تعالى أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 26: 128 قال: بروج الحمام. وقال في قوله تعالى أَنْفِقُوا من طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ 2: 267 قال:
التجارة. وروى ليث عن مجاهد قال إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقامُوا 41: 30 قال: استقاموا فلم يشركوا حتى ماتوا. وروى يحيى بن سعيد عن سفيان عن ابن أبجر عن طلحة بن مصرف عن مجاهد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 4 قال: صاحبة. وقال ليث عن مجاهد قال: النملة التي كلمت سليمان كانت مثل الذئب العظيم وروى الطبراني عن أبى نجيح عن مجاهد. قال: كان الغلام من قوم عاد لا يحتلم حتى يبلغ مائتي سنة. وقال: (سأل سائل) دعا داع. وفي قوله ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ 72: 16- 17 حتى يرجعوا إلى علمي فيه لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً 24: 55 قال لا يحبون غيري الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ 35: 10 قال هم المراءون.
وفي قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله 45: 14 قال هم الذين لا يدرون أنعم الله عليهم أم لم ينعم. ثم قرأ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله 14: 5 قال: أيامه نعمه ونقمه. فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ 4: 59 فردوه إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيا، فإذا مات فإلى سنته. وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً 31: 20 قال: أما الظاهرة فالإسلام والقرآن والرسول والرزق، وأما الباطنة فما ستر من العيوب والذنوب. وروى الحكم عن مجاهد قال: لما قدمت مكة نساء على سليمان عليه السلام رأت حطبا جزلا فقالت لغلام سليمان: هل يعرف مولاك كم وزن دخان هذا الحطب؟ فقال الغلام: دعي مولاي أنا أعرف كم وزن دخانه، فكيف مولاي؟ قالت: فكم وزنه؟ فقال الغلام: يوزن الحطب ثم يحرق الحطب ويوزن رماده فما نقص فهو دخانه. وقال في قوله تعالى: وَمن لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 49: 11 قال: من لم يتب إذا أصبح وإذا أمسى فهو من الظالمين. وقال ما من يوم ينقضي من الدنيا إلا قال ذلك اليوم: الحمد للَّه الّذي أراحنى من الدنيا وأهلها، ثم يطوى عليه فيختم إلى يوم القيامة، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يفض خاتمه. وقال في قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ من يَشاءُ 2: 269 قال: العلم والفقه، وقال إذا ولى الأمر منكم الفقهاء. وفي قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ 6: 153 قال: البدع والشبهات. وقال: أفضل العبادة الرأى الحسن- يعنى اتباع السنة- وقال: ما أدرى أي النعمتين أفضل، أن هداني للإسلام، أو عافاني من الأهواء؟. وقال في رواية: أولو الأمر منكم، أصحاب محمد، وربما قال: أولو العقل والفضل في دين الله عز وجل بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ 13: 31 قال السرية.
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ 16: 8. قال: السوس في الثياب. وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي 19: 4 قال: الأضراس. (حفيا) قال رحيما. وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت في كتاب محمد بن أبى حاتم بخط يده: حدثنا(9/225)
بشر بن الحارث حدثنا يحيى بن يمان عن عثمان بن الأسود عن مجاهد. قال: لو أن رجلا أنفق مثل أحد في طاعة الله عز وجل لم يكن من المسرفين. وفي قوله تعالى وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ 13: 13 قال: العداوة بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ 55: 20 قال: بينهما حاجز من الله فلا يبغى الحلو على المالح ولا المالح على الحلو.
وقال ابن مندة: ذكر محمد بن حميد: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنِ الْأَعْمَشِ قال: كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب فنظر إليها، قال: وذهب إلى حضرموت إلى بئر برهوت. قال:
وذهب إلى بابل، قال: وعليها وال صديق لمجاهد: فقال مجاهد: تعرض على هاروت وماروت، قال: فدعا رجلا من السحرة فقال: اذهب بهذا فاعرض عليه هاروت وماروت. فقال اليهودي:
بشرط أن لا تدعو الله عندهما، قال مجاهد: فذهب بى إلى قلعة فقطع منها حجرا ثم قال: خذ برجلي، فهوى بى حتى انتهى إلى حوبة، فإذا هما معلقين منكسين كالجبلين العظيمين، فلما رأيتهما قلت: سبحان الله خالقكما، قال: فاضطربا فكأن جبال الدنيا قد تدكدت، قال: فغشى على وعلى اليهودي، ثم أفاق اليهودي قبلي، فقال: قم! كدت أن تهلك نفسك وتهلكني.
وروى ابن فضيل عن ليث عن مجاهد قال: يؤتى يوم القيامة بثلاثة نفر، بالغنى، والمريض، والعبد المملوك. قال: فيقول الله عز وجل للغنى: ما شغلك عن عبادتي التي إنما خلقتك لها؟ فيقول يا رب أكثرت لي من المال فطغيت. فيؤتى بسليمان عليه السلام في ملكه فيقول لذا: أنت كنت أكثر مالا وأشد شغلا أم هذا؟ قال: فيقول: بل هذا يا رب، فيقول الله له: فان هذا لم يمنعه ما أوتى من الملك والمال والشغل عن عبادتي. قال: ويؤتى بالمريض فيقول: ما منعك عن عبادتي التي خلقتك لها؟ فيقول: يا رب شغلني عن هذا مرض جسدي، فيؤتى بأيوب عليه السلام في ضره وبلائه، فيقول له: أنت كنت أشد ضرا ومرضا أم هذا؟ فيقول: بل هذا، فيقول: إن هذا لم يشغله ضره ومرضه عن عبادتي. ثم يؤتى بالمملوك فيقول الله له: ما منعك من عبادتي التي خلقتك لها؟
فيقول ربّ فضلت عليّ أربابا فملكونى وشغلونى عن عبادتك. فيؤتى بيوسف عليه السلام في رقه وعبوديته فيقول الله له: أنت كنت أشد في رقك وعبوديتك أم هذا؟ فيقول: بل هذا يا رب، فيقول الله: فان هذا لم يشغله ما كان فيه من الرق عن عبادتي. وروى حميد عن الأعرج عن مجاهد. قال: كنت أصحب ابن عمر في السفر فإذا أردت أن أركب مسك ركابي، فإذا ركبت سوى عليّ ثيابي فرآني مرة كأنى كرهت ذلك فىّ، فقال: يا مجاهد إنك لضيق الخلق، وفي رواية: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا الثوري عن رجل عن مجاهد. قال: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول منها حيث شاء، وجعل له أعوان يتوفون الأنفس ثم يقبضها(9/226)
منهم. وقال: لما هبط آدم إلى الأرض قال له: ابن للخراب ولد للفناء. وروى قتيبة عن جرير عن منصور عن مجاهد. وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ 2: 159 قال: تلعن عصاة بنى آدم دواب الأرض وما شاء الله حتى الحيات والعقارب، يقولون: منعنا القطر بذنوب بنى آدم. وقال غيره: تسلط الحشرات على العصاة في قبورهم، لما كان ينالهم من الشدة بسبب ذنوبهم، فتلك الحشرات من العقارب والحيات هي السيئات التي كانوا يعملونها في الدنيا ويستلذونها، صارت عذابا عليهم. نسأل الله العافية. وقال:
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ 100: 6 لكفور. وقال الامام أحمد: حدثنا عمر بن سليمان حدثني مسلم أبو عبد الله عن ليث عن مجاهد قال: من لم يستحى من الحلال خفت مؤنته وأراح نفسه. وقال عمرو بن زروق حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ 21: 87 أن لن نعاقبه بذنبه. وبهذا الاسناد قال: لم أكن أحسن ما الزخرف حتى سمعتها في قراءة عبد الله بيتا من ذهب. وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا خلف بن خليفة عن ليث عن مجاهد: إن الله عز وجل ليصلح بصلاح العبد ولده.
قال: وبلغني أن عيسى عليه السلام كان يقول: طوبى للمؤمن كيف يخلفه الله فيمن ترك بخير. وقال الفضيل بن عياض عن عبيد المكتب عن مجاهد في قوله تعالى وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ 2: 166 الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا. وروى سفيان بن عيينة عن سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً 9: 10 قال: الالّ الله عز وجل. وقال في قوله تعالى بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَكُمْ 11: 86 طاعة الله عز وجل. وفي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ 55: 46 قال: هو الّذي يذكر الله عند الهمّ بالمعاصي. وقال الفضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد: سِيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ 48: 29 الخشوع. وفي قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ 2: 238 قال القنوت الركود والخشوع وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله. وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن أن يشد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصا، أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من الدنيا. إلا خاشعا ما دام في صلاته.
وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أبو عمرو حدثنا ابن إدريس حدثني عقبة بن إسحاق- وأثنى عليه خيرا- حدثنا ليث عن مجاهد. قال: كنت إذا رأيت العرب استخفيتها وجدتها من وراء دينها، فإذا دخلوا في الصلاة فكأنما أجساد ليست فيها أرواح. وروى الأعمش عنه قال:
إنما القلب منزلة الكف، فإذا أذنب الرجل ذنبا قبض هكذا- وضم الخنصر حتى ضم أصابعه كلها إصبعا إصبعا- قال: ثم يطبع، فكانوا يرون ذلك الران: قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 83: 14 وروى قبيصة عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد: بَلى من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ به خَطِيئَتُهُ 2: 81 قال: الذنوب تحيط بالقلوب كالحائط المبنى على الشيء المحيط، كلما عمل ذنبا ارتفعت حتى تغشى القلب حتى تكون هكذا- ثم قبض يده- ثم قال: هو الران. وفي قوله: بِما(9/227)
قَدَّمَ وَأَخَّرَ 75: 13 قال: أول عمل العبد وآخره وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ 94: 8 قال: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فاجعل رغبتك إليه، ونيتك له.
وعن منصور عن مجاهد النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ 89: 27 قال: هي النفس التي قد أيقنت أن الله ربها وضربت حاشا لأمره وطاعته. وروى عبد الله بن المبارك عن ليث عن مجاهد: قال: ما من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه، إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر، وإن كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو. وقال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا محمد بن طلحة عن زبيد عن مجاهد. قال: قال إبليس: إن يعجزنى ابن آدم فلن يعجزنى من ثلاث خصال: أخذ مال بغير حق، وإنفاقه في غير حقه [1] وقال أحمد: حدثنا ابن نمير قال قال الأعمش: كنت إذا رأيت مجاهدا ظننت أنه حر مندح قد ضل حماره فهو مهتم. وعن ليث عن مجاهد قال: من أكرم نفسه وأعزها أذل دينه، ومن أذل نفسه أعز دينه. وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد قال قال لي: يا أبا الغازي كم لبث نوح في الأرض؟
قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاما، قال: فان الناس لم يزدادوا في أعمارهم وأجسادهم وأخلاقهم إلا نقصا. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي علية عن ليث عن مجاهد قال: ذهبت العلماء فما بقي إلا المتعلمون، وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم. وروى ابن أبى شيبة أيضا عن ابن إدريس عن ليث عن مجاهد قال: لو لم يصب المسلم من أخيه إلا أن حياء منه يمنعه من المعاصي لكان في ذلك خير. وقال: الفقيه من يخاف الله وإن قل علمه، والجاهل من عصى الله وإن كثر علمه. وقال: إن العبد إذا أقبل على الله بقلبه أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه. وقال في قوله تعالى:
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ 74: 4 قال: عملك فأصلح. وَسْئَلُوا الله من فَضْلِهِ 4: 32 قال: ليس من عرض الدنيا. وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ به 39: 33 قال: هم الذين يجيئون بالقرآن قد اتبعوه وعملوا بما فيه. وقال: يقول القرآن للعبد إني معك ما اتبعتنى، فإذا لم تعمل بى اتبعتك. وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيا 28: 77 قال: خذ من دنياك لآخرتك، وذلك أن تعمل فيها بطاعة الله عز وجل. وقال داود بن المحبر عن عباد بن كثير عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ مجاهد بن جبير قال: قلت لابن عمر: أي حجاج بيت الله أفضل وأعظم أجرا؟ قال: من جمع ثلاث خصال، نية صادقة، وعقلا وافرا، ونفقة من حلال، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: صدق. فقلت: إذا صدقت نيته وكانت نفقته من حلال فماذا يضره قلة عقله؟ فقال: يا أبا حجاج، سألتني عما سألت عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «والّذي نفسي بيده ما أطاع العبد الله بشيء أفضل من حسن العقل، ولا يقبل الله صوم عبد ولا صلاته، ولا شيئا مما يكون من عمله من أنواع الخير إن لم يعمل بعقل. ولو أن جاهلا فاق المجتهدين في العبادة، كان ما يفسد أكثر
__________
[1] كذا بالأصل ...(9/228)
مما يصلح» . قلت: ذكر العقل في هذا الحديث ورفعه إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ المنكرات والموضوعات، والثلاث الخصال موقوفة على ابن عمر، من قوله من جمع ثلاث خصال، إلى قوله: قال ابن عباس صدق، والباقي لا يصح رفعه ولا وقفه، وداود بن المحبر كنيته أبو سليمان، قال الحاكم: حدث ببغداد عن جماعة من الثقات بأحاديث موضوعة، حدث بها عنه الحارث بن أبى أسامة، وله كتاب العقل، وأكثر ما أودع ذلك الكتاب موضوع عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر العقل مرفوعا في هذه الرواية لعله من جملتها، والله أعلم. وقد كذبه أحمد بن حنبل] [1]
مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ. مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله التميمي، كَانَ يُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ لِصَلَاحِهِ، كَانَ تَابِعِيًّا جَلِيلَ القدر من سادات المسلمين رحمه الله
ثم دخلت سنة أربع ومائة
فِيهَا قَاتَلَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْحَرَشِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ أَهْلَ الصُّغْدِ وَحَاصَرَ أَهْلَ خُجَنْدَةَ وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَسَرَ رَقِيقًا كَثِيرًا جِدًّا، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عبد الملك، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلَّاهُ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ إمرة الحرمين عبد الرحمن ابن الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ فَامْتَنَعَتْ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا وَتَوَعَّدَهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى يَزِيدَ تَشْكُوهُ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيِّ نَائِبِ الطَّائِفِ فَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ، وَأَنْ يَضْرِبَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الضَّحَّاكِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى فِرَاشِهِ بِدِمَشْقَ، وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ رَكِبَ إِلَى دمشق واستجار بِمَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَدَخَلَ عَلَى أَخِيهِ فَقَالَ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: كُلُّ حَاجَةٍ تَقُولُهَا فَهِيَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ابْنَ الضَّحَّاكِ، فَقَالَ: هُوَ وَاللَّهِ حَاجَتِي، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْفُو عَنْهُ، فَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَسَلَّمَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ فَضَرَبَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ حَتَّى تَرَكَهُ فِي جُبَّةِ صُوفٍ، فَسَأَلَ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَدْ بَاشَرَ نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِرَأْيٍ سَدِيدٍ، وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَبْغَضَهُ النَّاسُ وَذَمَّهُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ كَانَ هَذَا آخِرَ أَمْرِهِ وَفِيهَا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ سَعِيدَ بْنَ عَمْرٍو الْحَرَشِيَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَخِفُّ بِأَمْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا عَزَلَهُ أَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَاقَبَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَوَلَّى عَلَى خُرَاسَانَ مُسْلِمَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ زُرْعَةَ الْكِلَابِيَّ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَاسْتَخْلَصَ أَمْوَالًا كانت منكسرة في
__________
[1] من أول الفصل إلى هنا زيادة من المصرية وفيه بعض تحريف لم نهتد الى صوابه(9/229)
أَيَّامِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْحَرَشِيَّ. وَفِيهَا غَزَا الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ نَائِبُ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، أَرْضَ التُّرْكِ، فَفَتَحَ بَلَنْجَرَ وَهَزَمَ التُّرْكَ وَغَرَّقَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ فِي الْمَاءِ، وَسَبَى مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَافْتَتَحَ عَامَّةَ الْحُصُونِ الَّتِي تَلِي بَلَنْجَرَ، وأجلى عامة أهلها، والتقى هو والخاقان الملك فجرت بينهم وقعة هائلة آل الأمر فيها إلى أن انهزم خاقان، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، قتل فيها خلق كثير لا يحصون. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيُّ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ، وعلى نيابة العراق وخراسان عمر، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ يَوْمَئِذٍ. وفي هذه السنة ولد السَّفَّاحِ وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْمُلَقَّبِ بِالسَّفَّاحِ، أَوَّلُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَقَدْ بَايَعَ أَبَاهُ فِي الْبَاطِنِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وفيها توفى من الأعيان:
خالد بن سعدان الكلاعي
[له روايات عن جماعة من الصحابة، وكان تابعيا جليلا، وكان من العلماء وأئمة الدين المعدودين المشهورين، وكان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة وهو صائم، وكان إمام أهل حمص، وكان يصلى التراويح في شهر رمضان، فكان يقرأ فيها في كل ليلة ثلث القرآن، وروى الجوزجاني عنه أنه قال: من اجترأ على الملاوم في مراد الحق، قلب الله تلك المحامد عليه ذما. وروى ابن أبى الدنيا عنه قال: ما من عبد إلا وله أربعة أعين. عينان في وجهه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بالعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما أمر آخرته وهما غيب، فأمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بالعبد خلاف ذلك ترك العبد القلب على ما هو عليه، فتراه ينظر فلا ينتفع، فإذا نظر بقلبه نفع، وقال: بصر القلب من الآخرة، وبصر العينين من الدنيا وله فضائل كثيرة رحمه الله تعالى] [1]
عامر بن سعد بن أبى وقاص الليثي
لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ تابعي جليل، ثقة مشهور
عامر بن شراحيل الشعبي
توفى فيها في قول [كان الشعبي من شعب همدان، كنيته أبو عمرو، وكان علامة أهل الكوفة، كان إماما حافظا، ذا فنون، وقد أدرك خلقا من الصحابة وروى عنهم وعن جماعة من التابعين، وعنه أيضا روى جماعة من التابعين، قال أبو مجلز: ما رأيت أفقه من الشعبي. وقال مكحول:
ما رأيت أحدا أعلم بسنة ماضية منه. وقال داود الأودي: قال لي الشعبي: قم معى هاهنا حتى أفيدك علما، بل هو رأس العلم. قلت: أي شيء تفيدني؟ قال: إذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم، فإنه
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/230)
علم حسن. وقال: لو أن رجلا سافر من أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره ما رأيت سفره ضائعا، ولو سافر في طلب الدنيا أو الشهوات إلى خارج هذا المسجد، لرأيت سفره عقوبة وضياعا وقال: العلم أكثر من عدد الشعر، فخذ من كل شيء أحسنه] [1] .
أبو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ
تَوَلَّى قَضَاءَ الْكُوفَةِ قَبْلَ الشَّعْبِيِّ، فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ تَوَلَّى فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاسْتَمَرَّ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَأَمَّا أَبُو بُرْدَةَ فَإِنَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ عَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بُرْدَةَ فَقِيهًا حَافِظًا عَالِمًا، لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ.
أَبُو قلابة الجرمي
[عبد الله بن يزيد البصري، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان من كبار الأئمة والفقهاء، وطلب للقضاء فهرب منه وتغرب، قدم الشام فنزل داريّا وبها مات رحمه الله. قال أبو قلابة: إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة، ولم يكن همك ما تحدث به الناس، فلعل غيرك ينتفع ويستغنى وأنت في الظلمة تتعثر، وإني لأرى هذه المجالس إنما هي مناخ البطالين.
وقال: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له عذرا جهدك، فان لم تجد له عذرا فقل: لعل لأخى عذرا لا أعلمه] [2]
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ بِلَادَ اللَّانِ، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَبِلَادًا مُتَّسِعَةَ الْأَكْنَافِ مِنْ وَرَاءِ بَلَنْجَرَ، وَأَصَابَ غَنَائِمَ جَمَّةً، وَسَبَى خَلْقًا مِنْ أَوْلَادِ الْأَتْرَاكِ. وَفِيهَا غَزَا مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ بِلَادَ التُّرْكِ وَحَاصَرَ مَدِينَةً عَظِيمَةً مِنْ بِلَادِ الصُّغْدِ، فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ. وَفِيهَا غَزَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِلَادَ الرُّومِ، فَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ سِرِّيَّةً أَلْفَ فَارِسٍ، فَأُصِيبُوا جَمِيعًا وَفِيهَا لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِأَرْبَدَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعُمْرُهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ، وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ يزيد بن عبد الملك بن مروان أَبُو خَالِدٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمُّهُ عاتكة بنت يزيد بن معاوية، قيل إنها دفنت بقبر عاتكة فنسبت المحلة إليها [3] والله أعلم. بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَمِائَةٍ بِعَهْدٍ مِنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ، أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ بعد عمر ابن عبد العزيز، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ ثَنَا جعفر ابن بُرْقَانَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: كَانَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بكر وعمر وعثمان وعلى، فلما ولى الخلافة مُعَاوِيَةُ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ. وَلَمْ يُورِّثِ الكافر من
__________
[1، 2] زيادة من المصرية
[3] قبر عاتكة محلة من محلات دمشق معروفة. بهذا الأسلم إلى اليوم(9/231)
الْمُسْلِمِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَاجَعَ السُّنَّةَ الْأُولَى، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا قَامَ هِشَامٌ أَخَذَ بِسُّنَّةِ الْخُلَفَاءِ- يَعْنِي أَنَّهُ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ- وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ مَكْحُولٍ إِذْ أَقْبَلَ يَزِيدُ بن عبد الملك فهممنا أن توسع لَهُ، فَقَالَ مَكْحُولٌ: دَعُوهُ يَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، يَتَعَلَّمُ التَّوَاضُعَ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ هَذَا يُكْثِرُ مِنْ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ قَبْلَ أَنْ يلي الخلافة، فلما ولى عزم على أَنْ يَتَأَسَّى بِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَمَا تركه قرناء السوء، وحسنوا له الظلم، قَالَ حَرْمَلَةُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: لَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ سِيرُوا بِسِيرَةِ عُمَرَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَأُتِيَ بِأَرْبَعِينَ شَيْخًا فَشَهِدُوا لَهُ أَنَّهُ مَا عَلَى الْخُلَفَاءِ مِنْ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَقَدِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِنَّمَا ذَاكَ وَلَدُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ كَمَا سَيَأْتِي، أَمَّا هَذَا فَمَا كَانَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمَّا بَعْدُ فأتى لا أرانى إلا ملمّا بِي، وَمَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا سَيُفْضِي إِلَيْكَ، فاللَّه الله في أمة محمد، فإنك عما قليل ميت فتدع الدنيا إِلَى مَنْ لَا يَعْذِرُكَ، وَالسَّلَامُ. وَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى أَخِيهِ هِشَامٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّكَ اسْتَبْطَأْتَ حَيَاتَهُ وَتَمَنَّيْتَ وَفَاتَهُ وَرُمْتَ الْخِلَافَةَ، وَكَتَبَ فِي آخِرِهِ.
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
وَقَدْ عَلِمُوا لَوْ يَنْفَعُ الْعِلْمُ عِنْدَهُمْ ... مَتَى مِتُّ مَا الْبَاغِي عَلَيَّ بِمُخْلَدِ
مَنِيَّتُهُ تَجْرِي لِوَقْتٍ وَحَتْفُهُ ... يُصَادِفُهُ يَوْمًا عَلَى غَيْرِ مَوْعِدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلَافَ الَّذِي مَضَى ... تَهَيَّأْ لأخرى مثلها وكأن قَدِ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ: جَعَلَ اللَّهُ يَوْمِي قَبْلَ يَوْمِكَ، وَوَلَدِي قَبْلَ وَلَدِكَ، فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَكَ وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ هَذَا يُحِبُّ حَظِيَّةً مِنْ حَظَايَاهُ يُقَالُ لَهَا حَبَّابَةُ- بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْأُولَى- وَالصَّحِيحُ تَخْفِيفُهَا- وَاسْمُهَا الْعَالِيَةُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً جِدًّا، وَكَانَ قَدِ اشْتَرَاهَا فِي زمن أخيه بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، مِنْ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بن حنيف، فقال له أخوه سليمان: لقد هممت أحجر على يديك، فباعها، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ سَعْدَةُ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ بَقِيَ فِي نَفْسِكَ مَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْءٌ؟ قَالَ:
نَعَمْ، حَبَّابَةُ، فَبَعَثَتِ امْرَأَتُهُ فَاشْتَرَتْهَا لَهُ وَلَبَّسَتْهَا وَصَنَّعَتْهَا وَأَجْلَسَتْهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتَارَةِ، وَقَالَتْ لَهُ أَيْضًا:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ بَقِيَ فِي نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال: أو ما أَخْبَرْتُكِ؟ فَقَالَتْ: هَذِهِ حَبَّابَةُ- وَأَبْرَزَتْهَا لَهُ وَأَخْلَتْهُ بِهَا وَتَرَكَتْهُ وَإِيَّاهَا- فَحَظِيَتِ الْجَارِيَةُ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ أَيْضًا، فَقَالَ يَوْمًا أَشْتَهِي أَنْ أَخْلُوَ بِحَبَّابَةَ فِي قَصْرٍ مُدَّةً مِنَ الدَّهْرِ، لَا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك، وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة،(9/232)
فبينما هو معها في ذلك القصر على أسرّ حال وأنعم بال، وبين يديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وَهِيَ تَضْحَكُ فَشَرِقَتْ بِهَا فَمَاتَتْ، فَمَكَثَ أَيَّامًا يُقَبِّلُهَا وَيَرْشُفُهَا وَهِيَ مَيِّتَةٌ حَتَّى أَنْتَنَتْ وَجَيَّفَتْ فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أياما عندها على قَبْرِهَا هَائِمًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَنْزِلِ ثُمَّ عَادَ إِلَى قَبْرِهَا فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ:
فَإِنْ تَسْلُ عَنْكِ النَّفْسُ أَوْ تَدَعِ الصَّبَا ... فَبِالْيَأْسِ تَسْلُو عَنْكِ لَا بِالتَّجَلُّدِ
وَكُلُّ خَلِيلٍ زَارَنِي فَهُوَ قَائِلٌ ... مِنْ أَجْلِكِ هَذَا هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ
ثُمَّ رَجَعَ فَمَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى خُرِجَ بِنَعْشِهِ وَكَانَ مَرَضُهُ بِالسُّلِّ. وَذَلِكَ بِالسَّوَادِ سَوَادِ الْأُرْدُنِّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ- وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَشَهْرًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ خَمْسًا وَقِيلَ سِتًّا وَقِيلَ ثَمَانِيًا وَقِيلَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ إِنَّهُ بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا أَبْيَضَ مُدَوَّرَ الْوَجْهِ أَفْقَمَ الْفَمِ لَمْ يَشِبْ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ بِالْجَوْلَانِ، وَقِيلَ بِحَوْرَانَ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَقِيلَ بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ حَتَّى دَفُنِ بَيْنَ بَابِ الْجَابِيَةِ وَبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ هِشَامٍ، وَمِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَبَايَعَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ هِشَامًا
خِلَافَةُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ- وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَأَشْهَرٌ، لِأَنَّهُ وُلِدَ لَمَّا قَتَلَ أَبُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ، فَسَمَّاهُ مَنْصُورًا تَفَاؤُلًا، ثُمَّ قَدِمَ فَوَجَدَ أُمَّهُ قَدْ أَسْمَتْهُ بِاسْمِ أَبِيهَا هِشَامٍ، فَأَقَرَّهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَتَتْهُ الْخِلَافَةُ وهو بالديثونة فِي مَنْزِلٍ لَهُ، فَجَاءَهُ الْبَرِيدُ بِالْعَصَا وَالْخَاتَمِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ فَرَكِبَ مِنَ الرَّصَافَةِ حَتَّى أَتَى دِمَشْقَ، فَقَامَ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ أَتَمَّ الْقِيَامِ، فَعَزَلَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ، وَقِيلَ إِنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْعِرَاقِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَمِائَةٍ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ خَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَخُو أُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سِوَاهُ حَتَّى طَلَّقَهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمْقَاءَ. وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ دَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ فِي السِّرِّ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، وَحَصَلَ لِدُعَاتِهِمْ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى أَمْرِهِمْ، وما هم بصدده.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بن عفان
تقدم ذكر وفاته سنة خمس وثمانين، كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، قَالَ عَمْرُو بن شعيب(9/233)
مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ عَشْرَةٌ، فَذَكَرَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ أَحَدَهُمْ، وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَسَالِمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدَ بْنِ المسيب، وسليمان بن يسار، وعبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَعُرْوَةَ، وَالْقَاسِمَ، وَقَبِيصَةَ بن ذؤيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن. قال محمد ابن سَعْدٍ: كَانَ بِهِ صَمَمٌ وَوَضَحٌ، وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِسَنَةٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ ومائة. أبو رجاء العطاردي. عامر الشَّعْبِيُّ. فِي قَوْلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَكُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي قَوْلٍ. وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا كَمَا سيأتي:
ثم دخلت سنة ست وَمِائَةٍ
فَفِيهَا عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيَّ، وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ كله ابن خَالَهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ، وَفِيهَا غَزَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ، وَفِيهَا غَزَا مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ مَدِينَةَ فَرْغَانَةَ ومعاملتها، فلقيه عندها الترك، وكانت بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ، قُتِلَ فِيهَا الْخَاقَانُ وَطَائِفَةٌ كبيرة مِنَ التُّرْكِ، وَفِيهَا أَوْغَلَ الْجَرَّاحُ الْحَكَمِيُّ فِي أَرْضِ الْخَزْرِ، فَصَالَحُوهُ وَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ. وَفِيهَا غَزَا الْحَجَّاجُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ اللَّانَ، فَقَتَلَ خلقا كثيرا وغنم وسلم. وفيها عزا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ مُسْلِمَ بْنَ سَعِيدٍ، وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامُ بْنُ الْمَلِكِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي الزِّنَادِ قَبْلَ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ لِيَتَلَقَّاهُ وَيَكْتُبَ لَهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، فَفَعَلَ، فتلقاه النَّاسُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَفِيهِمْ أَبُو الزِّنَادِ قَدِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَتَلَقَّاهُ فِيمَنْ تَلْقَّاهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابن الْوَلِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَهْلَ بَيْتِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الصَّالِحَةِ لَمْ يَزَالُوا يَلْعَنُونَ أَبَا تُرَابٍ، فَالْعَنْهُ أَنْتَ أَيْضًا، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى هِشَامٍ وَاسْتَثْقَلَهُ، وَقَالَ:
ما قدمت لشتم أحد، ولا لعنة أحد، إنما قدمنا حجاجا. ثم أعرض عنه وقطع كَلَامَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي الزِّنَادِ يُحَادِثُهُ وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ عَرَضَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَلْحَةَ فَتَظَلَّمَ إِلَيْهِ فِي أَرْضٍ، فَقَالَهُ لَهُ: أَيْنَ كُنْتَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالَ: ظَلَمَنِي، قَالَ: فَالْوَلِيدِ؟ قَالَ: ظَلَمَنِي، قَالَ: فَسُلَيْمَانَ؟ قَالَ: ظلمني، قال فعمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ؟ قَالَ رَدَّهَا عَلَيَّ، قَالَ: فَيَزِيدَ؟ قَالَ: انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِي، وَهِيَ الْآنَ فِي يَدِكَ، فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: أَمَا لَوْ كَانَ فِيكَ مَضْرِبٌ لَضَرَبْتُكَ، فَقَالَ: بَلَى فِيَّ مَضْرِبٌ بالسوط والسيف، فانصرف عنه هشام وهو يقول لمن مَعَهُ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْ هَذَا. وَفِيهَا كَانَ الْعَامِلَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ خالد القسري والله سبحانه أعلم.
وَمِمَّنْ تَوَفِّيَ فِيهَا
سَالِمُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
أبو عمرو الفقيه، أحد الفقهاء وأحد العلماء [وله روايات عن أبيه وغيره، وكان من العباد الزهاد، ولما حج هشام بن عبد الملك دخل(9/234)
الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: سالم؟ [1] سلني حاجة، فقال: إني لأستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرج سالم خرج هشام في أثره فقال له: الآن قد خرجت من بيت الله فسلني حاجة، فقال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا، فقال سالم: إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟ وكان سالم خشن العيش، يلبس الصوف الخشن، وكان يعالج بيده أرضاله وغيرها من الأعمال، ولا يقبل من الخلفاء، وكان متواضعا وكان شديد الأدمة وله من الزهد والورع شيء كثير.
وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ الْيَمَانِيُّ
مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ ابن عباس وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ وللَّه الْحَمْدُ انتهى وقد زدنا هنا في ترجمة سَالِمُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ زيادة حسنة. فأما طاوس فهو أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان اليماني، فهو أول طبقة أهل اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن.
أدرك طاوس جماعة من الصحابة وروى عنهم، وكان أحد الأئمة الأعلام، قد جمع العبادة والزهادة، والعلم النافع، والعمل الصالح، وقد أدرك خمسين من الصحابة، وأكثر روايته عن ابن عباس، وروى عنه خلق من التابعين وأعلامهم، منهم مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، وإبراهيم ابن ميسرة، وأبو الزبير ومحمد بن المنكدر، والزهري وحبيب بن أبى ثابت، وليث بن أبى سليم، والضحاك بن مزاحم. وعبد الملك بن ميسرة، وعبد الكريم بن المخارق ووهب بن منبه، والمغيرة ابن حكيم الصنعاني، وعبد الله بن طاوس، وغير هؤلاء.
توفى طاوس بمكة حاجا، وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك، ودفن بها رحمه الله تعالى.
قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ قَالَ أبى: مات طاوس بمكة فلم يصلوا عليه حتى بعث هشام ابنه بالحرس، قال فلقد رأيت عبد الله بن الحسن واضعا السرير على كاهله، قال: ولقد سقطت قلنسوة كانت عليه ومزق رداؤه من خلفه- يعنى من كثرة الزحام- فكيف لا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الايمان يمان» وقد خرج من اليمن خلق من هؤلاء المشار إليهم في هذا وغيره، منهم أبو مسلم، وأبو إدريس، ووهب وكعب وطاوس وغير هؤلاء كثير. وروى ضمرة عن ابن شوذب قال: شهدت جنازة طاوس بمكة سنة خمس ومائة، فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حج أربعين حجة.
وقال عبد الرزاق: حدثنا أبى قال: توفى طاوس بالمزدلفة- أو بمنى- حاجا، فلما حمل أخذ عبد الله بن الحسن بن على بقائمة سريره. فما زايله حتى بلغ القبر. وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق
__________
[1] كذا بالأصل ولعل المراد يا سالم.(9/235)
قال: قدم طاوس بمكة، فقدم أمير المؤمنين، فقيل لطاوس: إن من فضله ومن، ومن، فلو أتيته قال: ما لي إليه حاجة، فقالوا: إنا نخاف عليك، قال: فما هو إذا كما تقولون: وقال ابن جرير قال لي عطاء: جاءني طاوس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وجعل دونه حجابه. وعليك بطلب من بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك الاجابة. وقال ابن جريج عن مجاهد عن طاوس أُولئِكَ يُنادَوْنَ من مَكانٍ بَعِيدٍ 41: 44 قال: بعيد من قلوبهم، وروى الأحجرى عن سفيان عن ليث قال قال لي طاوس: ما تعلمت من العلم فتعلمه لنفسك، فان الأمانة والصدق قد ذهبا من الناس. وقال عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زيد عن الصلت بن راشد. قال: كنا عند طاوس فجاءه مسلم بن قتيبة بن مسلم، صاحب خراسان، فسأله عن شيء فانتهره طاوس، فقلت: هذا مسلم بن قتيبة بن مسلم صاحب خراسان، قال: ذاك أهون له على. وقال لطاوس: إن منزلك قد استرم، فقال: أمسينا.
وَرَوَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ في قوله تعالى وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً 4: 28 قال: في أمور النساء، وليس يكون في شيء أضعف منه في النساء. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يحيى بن بكير حدثنا إبراهيم بن نافع عن ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَقِيَ عِيسَى بن مريم عليه السلام إبليس فقال إبليس لعيسى: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَكَ إِلَّا مَا كتب الله لك؟ قال: نعم، قال إبليس: فأوف بذروة هذا الجبل فتردّ منه. فانظر أتعيش أم لا. قال عيسى: أما علمت أن الله تعالى قَالَ: لَا يُجَرِّبُنِي عَبْدِي، فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا شئت. وفي رواية عن الزهري عنه قال قال عيسى: إن العبد لا يختبر ربه، ولكن الرب يختبر عبده، وفي رواية أخرى: إن العبد لا يبتلى ربه، ولكن الرب يبتلى عبده.
قال: فخصمه عيسى عليه السلام. وقال فضيل بن عياض عن ليث عن طاوس قال: حج الأبرار على الرحال، رواه عبد الله بن أحمد عنه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو ثميلة عن ابن أبى داود. قال: رأيت طاوسا وأصحابا له إذا صلوا العصر استقبلوا القبلة ولم يكلموا أحدا، وابتهلوا إلى الله تعالى في الدعاء. وقال: من لم يبخل ولم يل مال يتيم لم ينله جهد البلاء. روى عنه أبو داود الطيالسي، وقد رواه الطبراني عن محمد بن يحيى بن المنذر عن موسى بن إسماعيل عن أبى داود فذكره. وقال لابنه: يا بنى صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شيء غاية، وغاية المرء حسن عقله. وسأله رجل عن مسألة فانتهره، فقال: - يا أبا عبد الرحمن إني أخوك، قال: أخى من دون الناس؟. وفي رواية أن رجلا من الخوارج سأله فانتهره، فقال:
إني أخوك، قال: أمن بين المسلمين كلهم؟. وقال عفان عن حماد بن زيد عن أيوب قال: سأل(9/236)
رجل طاوسا عن شيء فانتهره، ثم قال: تريد أن تجعل في عنقي حبلا ثم يطاف بى؟ ورأى طاوس رجلا مسكينا في عينه عمش وفي ثوبه وسخ، فقال له: عدّ! إن الفقر من الله، فأين أنت من الماء؟
وروى الطبراني عنه قال: إقرار ببعض الظلم خير من القيام فيه، وعن عبد الرزاق عن داود ابن إبراهيم أن الأسد حبس الناس ليلة في طريق الحج، فدق الناس بعضهم بعضا، فلما كان السحر ذهب عنهم الأسد، فنزل الناس يمينا وشمالا فألقوا أنفسهم، وقام طاووس يصلى، فقال له رجل- وفي رواية فقال ابنه-: ألا تنام فإنك قد سهرت ونصبت هذه الليلة؟ فقال: وهل ينام السحر أحد؟ وفي رواية: ما كنت أظن أحدا ينام السحر. وروى الطبراني من طريق عبد الرزاق عن أبى جريج وابن عيينة. قالا: حدثنا ابن طاوس قال: قلت لأبى: ما أفضل ما يقال على الميت؟
قال الاستغفار.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الرزاق قال سمعت النعمان بن الزبير الصنعاني يحدث أن محمد بن يوسف- أو أيوب بن يحيى- بعث إلى طاوس بسبعمائة دينار وقال للرسول: إن أخذها منك فان الأمير سيكسوك ويحسن إليك. فقال: فخرج بها حتى قدم على طاوس الجند، فقال: يا أبا عبد الرحمن نفقة بعث بها الأمير إليك. فقال: ما لي بها من حاجة، فأراده على أخذها بكل طريق فأبى أن يقبلها، فغفل طاوس فرمى بها الرجل من كوة في البيت ثم ذهب راجعا إلى الأمير، وقال: قد أخذها، فمكثوا حينا ثم بلغهم عن طاوس ما يكرهون- أو شيء يكرهونه- فقالوا: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول فقال: المال الّذي بعثه إليك الأمير ردّه إلينا، فقال: ما قبضت منه شيئا، فرجع الرسول إليهم فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق، فقالوا: انظروا الّذي ذهب بها إليه، فأرسلوه إليه، فجاءه فقال: المال الّذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن، قال: هل قبضت منك شيئا؟
قال: لا! قال: فقام إلى المكان الّذي رمى به فيه فوجدها كما هي، وقد بنت عليها العنكبوت، فأخذها فذهب بها إليهم.
ولما حج سليمان بن عبد الملك قال: انظروا إليّ فقيها أسأله عن بعض المناسك، قال: فخرج الحاجب يلتمس له، فمر طاوس فقالوا: هذا طاوس اليماني، فأخذه الحاجب فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: اعفنى، فأبى، فأدخله عليه، قال طاوس: فلما وقفت بين يديه قلت: إن هذا المقام يسألنى الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين إن صخرة كانت على شفير جهنم هوت فيها سبعين خريفا حتى استقرت في قرارها، أتدري لمن أعدها الله؟ قال: لا!! ويلك لمن أعدها الله؟ قال:
لمن أشركه الله في حكمه فجار. وفي رواية ذكرها الزهري أن سليمان رأى رجلا يطوف بالبيت، له جمال وكمال، فقال: من هذا يا زهري؟ فقلت: هذا طاوس، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل(9/237)
إليه سليمان فأتاه فقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدثني أبو مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أهون الخلق على الله عز وجل من ولى من أمور المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم» . فتغير وجه سليمان فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه فقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدثني رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ابن شهاب: ظننت أنه أراد عليا- قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال: «إن لكم على قريش حقا، ولهم على الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدوا، فمن لم يفعل فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ الله منه صرفا ولا عدلا» . قال: فتغير وجه سليمان وأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه وقال: لو ما حدثتنا؟ فقال: حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت من كتاب الله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ 2: 281.
وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنِي أبو معمر عن ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة قال قال عمر بن عبد العزيز لطاوس: ارفع حاجتك إلى أمير المؤمنين- يعنى سليمان- فقال طاوس ما لي إليه من حاجة، فكأنه عجب من ذلك، قال: سفيان وحلف لنا إبراهيم وهو مستقبل الكعبة:
ورب هذا البيت ما رأيت أحدا الشريف والوضيع عنده بمنزلة واحدة إلا طاوس. قال: وجاء ابن لسليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاوس فلم يلتفت إليه، فقيل له: جلس إليك أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه؟ قال: أردت أن يعلم هو وأبوه أن للَّه عبادا يزهدون فيهم وفيما في أيديهم. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ ابن طاوس قال: خرجنا حجاجا فنزلنا في بعض القرى، وكنت أخاف أبى من الحكام لشدته وغلظه عليهم، قال: وكان في تلك القرية عامل لمحمد بن يوسف- أخى الحجاج بن يوسف- يقال له أيوب بن يحيى، وقيل يقال له ابن نجيح، وكان من أخبث عمالهم كبرا وتجبرا، قال: فشهدنا صلاة الصبح في المسجد، فإذا ابن نجيح قد أخبر بطاوس فجاء فقعد بين يدي طاوس، فسلم عليه فلم يجبه، ثم كلمه فأعرض عنه، ثم عدل إلى الشق الآخر فأعرض عنه، فلما رأيت ما به قمت إليه وأخذت بيده ثم قلت له: إن أبا عبد الرحمن لم يعرفك، فقال طاوس: بلى! إني به لعارف، فقال الأمير: إنه بى لعارف، ومعرفته بى فعلت بى ما رأيت.
ثم مضى وهو ساكت لا يقول شيئا، فلما دخلت المنزل قال لي أبى: يا لكع، بينما أنت تقول أريد أخرج عليهم بالسيف لم تستطع أن تحبس عنهم لسانك.
وقال أبو عبد الله الشامي: أتيت طاوسا فاستأذنت عليه فخرج إلى ابنه شيخ كبير، فقلت:
أنت طاوس؟ فقال: لا! أنا ابنه، فقلت: إن كنت أنت ابنه فان الشيخ قد خرف، فقال:
إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه فقال طاوس: سل فأوجز، فقلت: إن أوجزت أوجزت لك،(9/238)
فقال تريد أن أجمع لك في مجلسى هذا التوراة والإنجيل والفرقان؟ قال: قلت نعم! قال: خف الله مخافة لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما تحب لنفسك.
وقال الطبراني: حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ: يجاء يوم القيامة بالمال وصاحبه فيتحاجان، فيقول صاحب المال للمال: جمعتك في يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، فيقول المال: ألم أقض لك الحوائج؟ أنا الّذي حلت بينك وبين أن تصنع فيما أمرك الله عز وجل من حبك إياي، فيقول صاحب المال إن هذا الّذي نفد على حبال أوثق بها وأقيد، وقال عثمان بن أبى شيبة: حدثنا أبى حدثنا يحيى بن الضريس عن أبى سنان عن حبيب ابن أبى ثابت قال: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم قط، عطاء وطاووس، ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة. وَقَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يزيد: مع من كنت تدخل على ابن عباس؟ قال: مع عطاء والعامة، وكان طاوس يدخل مع الخاصة، وقال حبيب: قال لي طاوس إذا حدثتك حديثا قد أثبته فلا تسأل عنه أحدا- وفي رواية- فلا تسأل عنه غيري.
وقال أبو أسامة، حدثنا الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس قال: أدركت خمسين مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ أخبرنى ابن طاوس قال: قلت لأبى: أريد أن أتزوج فلانة، قال: اذهب فانظر إليها، قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي، وغسلت رأسي، وادهنت، فلما رآني في تلك الحال قال: اجلس فلا تذهب. وقال عبد الله بن طاوس: كان أبى إذا سار إلى مكة سار شهرا، وإذا رجع رجع في شهر، فقلت له في ذلك، فقال: بلغني أن الرجل إذا خرج في طاعة لا يزال في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله. وقال حمزة عن هلال بن كعب. قال: كان طاوس إذا خرج من اليمن لم يشرب إلا من تلك المياه القديمة الجاهلية، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
وقال الطبراني: حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: كان رجل فيما خلا من الزمان، وكان عاقلا لبيبا، فكبر فقعد في البيت، فقال لابنه يوما: إني قد اغتممت في البيت، فلو أدخلت على رجالا يكلموني؟ فذهب ابنه فجمع نفرا فقال: ادخلوا على أبى فحدثوه، فان سمعتم منه منكرا فاعذروه فإنه قد كبر، وإن سمعتم منه خيرا فاقبلوه. قال: فدخلوا عليه فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: إن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإذا تزوج الرجل فليتزوج من معدن صالح، فإذا اطلعتم على فجرة رجل فاحذروه فان لها أخوات(9/239)
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا أحمد بن نصر بن مالك حدثنا عبد الله بن عمر بن مسلم الجيرى عن أبيه قال قال طاوس لابنه: إذا قبرتنى فانظر في قبري، فان لم تجدني فاحمد الله تعالى، وإن وجدتني فانا للَّه وإنا إليه راجعون. قال عبد الله: فأخبرني بعض ولده أنه نظر فلم يره ولم يجد في قبره شيئا، ورئي في وجهه السرور، وقال قبيصة: حدثنا سفيان عن سعيد بن محمد قال: كان من دعاء طاوس يدعو: اللَّهمّ احرمنى كثرة المال والولد، وارزقني الايمان والعمل. وقال سفيان عن معمر حدثنا الزهري قال: لو رأيت طاوس بن كيسان علمت أنه لا يكذب.
وقال عون بن سلام: حدثنا جابر بن منصور- أخو إسحاق بن منصور- السلولي عن عمران ابن خالد الخزاعي. قال كنت جالسا عند عطاء فجاء رجل فقال: أبا محمد إن طاوسا يزعم أن من صلى العشاء ثم صلى بعدها ركعتين يقرأ في الأولى: ألم تنزيل السجدة، وفي الثانية تبارك الّذي بيده الملك كتب له مثل وقوف عرفة وليلة القدر. فقال عطاء: صدق طاوس ما تركتهما. وقال ابن أبى السري. حدثنا مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: كان رجل من بنى إسرائيل، وكان ربما داوى المجانين، وكانت امرأة جميلة، فأخذها الجنون، فجيء بها إليه، فنزلت عنده فأعجبته، فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال: إن علم بها افتضحت، فاقتلها وادفنها في بيتك، فقتلها ودفنها، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه عنها، قال: ماتت، فلم يتهموه لصلاحه ومنزلته، فجاءهم الشيطان فقال: إنها لم تمت، ولكن قد وقع عليها فحملت فقتلها ودفنها في بيته، في مكان كذا وكذا، فجاء أهلها فقالوا: ما نتهمك ولكن أخبرنا أين دفنتها، ومن كان معك؟ فنبشوا بيته فوجدوها حيث دفنها، فأخذوه فحبسوه وسجنوه، فجاءه الشيطان فقال: أنا صاحبك، فان كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فاكفر باللَّه فأطاع الشيطان فكفر باللَّه عز وجل، فقتل فتبرأ منه الشيطان حينئذ. وقال طاوس: ولا أعلم أن هذه الآية نزلت إلا فيه وفي مثله كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ 59: 16.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: كان رجل من بنى إسرائيل له أربعة بنين، فمرض، فقال أحدهم: إما أن تمرضوا أبانا وليس لكم من ميراثه شيء، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء، فمرضه حتى مات ودفنه ولم يأخذ من ميراثه شيئا، وكان فقيرا وله عيال، فأتى في النوم فقيل له: ايت مكان كذا وكذا فاحفره تجد فيه مائة دينار فخذها، فقال للآتى في المنام: ببركة أو بلا بركة؟ فقال: بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت: اذهب فخذها فان من بركتها أن تكسوني منها ونعيش منها. فأبى وقال: لا آخذ شيئا ليس فيه بركة. فلما أمسى أتى في منامه فقيل له: ايت مكان كذا وكذا فخذ(9/240)
منه عشرة دنانير، فقال: ببركة أو بلا بركة؟ قال: بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت له مثل ذلك فأبى أن يأخذها، ثم أتى في الليلة الثالثة فقيل له: ايت مكان كذا وكذا فخذ منه دينارا، فقال: ببركة أو بلا بركة؟ قال: ببركة، قال: نعم إذا، فلما أصبح ذهب إلى ذلك المكان الّذي أشير إليه في المنام فوجد الدينار فأخذه، فوجد صيادا يحمل حوتين فقال: بكم هما؟ قال: بدينار، فأخذهما منه بذلك الدينار ثم انطلق بهما إلى امرأته فقامت تصلحهما، فشقت بطن أحدهما فوجدت فيه درة لا يقوم بها شيء، ولم ير الناس مثلها، ثم شقت بطن الآخر فإذا فيه درة مثلها، قال: فاحتاج ملك ذلك الزمان درة فبعث يطلبها حيث كانت ليشتريها، فلم توجد إلا عنده، فقال الملك: ايت بها، فأتاه بها، فلما رآها حلّاها الله عز وجل في عينيه، فقال: بعنيها، فقال: لا أنقصها عن وقر ثلاثين بغلا ذهبا، فقال الملك: أرضوه، فخرجوا به فوقروا له ثلاثين بغلا ذهبا، ثم نظر إليها الملك فأعجبته إعجابا عظيما، فقال: ما تصلح هذه إلا بأختها، اطلبوا لي أختها، قال: فأتوه فقالوا له: هل عندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. فأتى الملك بها، فلما رآها أخذت بقلبه فقال أرضوه، فأضعفوا له ضعف أختها، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حدثنا وهيب بن الورد حدثنا عبد الجبار بن الورد قال حدثني داود ابن سابور قال قلنا لطاوس: أدع بدعوات، فقال: لا أجد لذلك حسبة. وقال ابن جرير عن ابن طاوس عن أبيه قال: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يحب أن له ما في أيدي الناس بالحرام لا يقنع: وقيل الشح هو ترك القناعة، وقيل: هو أن يشح بما في يد غيره، وهو مرض من أمراض القلب ينبغي للعبد أن يعزله عن نفسه وينفيه ما استطاع، وهو يأمرنا بالبخل كما في الحديث الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتقوا الشح فان الشح أهلك من كان قبلكم [أمرهم] بالبخل فبخلوا وبالقطيعة فقطعوا وهذا هو الحرص على الدنيا وحبها» وقال ابن أبى شيبة: حدثنا المحاربي عن ليث عن طاوس قال: ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل فيصبح قد كتب له مائة حسنة أو أكثر من ذلك، ومن زاد زيد في ثوابه، وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عن طاوس. قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج. وعن سفيان عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر بن الخطاب لأبى الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور. وقال طاوس: لا يحرز دين المؤمن إلا حفرته. وقال عبد الرزاق عن معمر بن طاوس وغيره أن رجلا كان يسير مع طاوس، فسمع الرجل غرابا ينعب، فقال: خير، فقال طاوس: أي خير عند هذا أو شر لا تصحبنى ولا تمش معى. وقال بشر بن موسى: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه. قال: إذا غدا الإنسان اتبعه الشيطان، فإذا أتى المنزل فسلم نكص الشيطان(9/241)
وقال: لا مقيل، فإذا أتى بغدائه فذكر اسم الله قال: ولا غداء ولا مقيل، فإذا دخل ولم يسلم قال الشيطان: أدركنا المقيل، فإذا أتى بغدائه ولم يذكر اسم الله عليه قال الشيطان: مقيل وغداء، وفي العشاء مثل ذلك. وقال: إن الملائكة ليكتبون صلاة بنى آدم: فلان زاد فيها كذا وكذا، وفلان نقص فيها كذا وكذا. وذلك في الركوع والخشوع والسجود.
وقال: لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة، فلما خلق آدم سكنت، وكان إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من سبحت له. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نجيح قال قال مجاهد لطاوس. يا أبا عبد الرّحمن! رأيتك تصلى في الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم على بابها يقول لك: اكشف قناعك، وبين قراءتك. فقال له: اسكت لا يسمع هذا منك أحد. ثم تخيل إلى أن انبسط في الحديث. وقال أحمد أيضا بهذا الإسناد: إن طاوسا قال لأبى نجيح: يا أبا نجيح!! من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى. وقال مسعر عن رجل إن طاوسا أتى رجلا في السحر فقالوا: هو نائم، فقال: ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر. وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا محمد بن يزيد حدثنا ابن يمان عن مسعود، فذكره. قال الثوري: كان طاوس يجلس في بيته، فقيل له في ذلك فقال: حيف الأئمة وفساد الناس.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنى أبى قال: كان طاوس يصلى في غداة باردة معتمة، فمر به محمد بن يوسف صاحب اليمن وحاجبها- وهو أخو الحجاج بن يوسف- وطاوس ساجد، والأمير راكب في مركبه، فأمر بساج أو طيلسان مرتفع القيمة فطرح على طاوس وهو ساجد، فلم يرفع رأسه حتى فرغ من حاجته، فلما سلم نظر فإذا الساج عليه فانتفض فألقاه عنه، ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله وتركه ملقى على الأرض. وقال نعيم بن حماد: حدثنا حماد بن عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في مرضه، فلما مرض الامام أحمد أنّ فقيل له: إن طاوسا كان يكره أنين المرض فتركه. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبيه عن داود بن شابور. قال:
قال رجل لطاوس: ادع الله لنا، فقال: ما أجد بقلبي خشية فأدعو لك. وقال ابن طالوت: حدثنا عبد السلام بن هاشم عن الحسن بن أبى الحصين العنبري. قال: مرّ طاوس برواس قد أخرج رءوسا فغشى عليه. وفي رواية كان إذا رأى الرءوس المشوية لم يتعش تلك الليلة.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا الأشجعي عن سفيان الثوري. قال قال طاوس إن الموتى يفتنون في قبورهم سغبا، وكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام. وقال ابن إدريس: سمعت ليثا يذكر عن طاوس وذكر النساء فقال: فيهن كفر من مضى وكفر من بقي. وقال(9/242)
أبو عاصم عن بقية عن سلمة ابن وهرام عن طاوس قال: كان يقال: اسجد للقرد في زمانه، أي أطعه في المعروف. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أسامة حدثنا نافع بن عمر عن بشر بن عاصم.
قال قال طاوس: ما رأيت مثل [1] أحد آمن على نفسه، ولقد رأيت رجلا لو قيل لي: من أفضل من تعرف؟ لقلت: فلان ذلك الرجل، فمكثت على ذلك حينا ثم أخذه وجع في بطنه، فأصاب منه شيئا استنضح بطنه عليه، فاشتهاه، فرأيته في نطع ما أدرى أي طرفيه أسرع حتى مات عرقا. وروى أحمد حدثنا هشيم قال أخبرنا أبو بشر عن طاوس أنه رأى فتية من قريش يرفلون في مشيتهم، فقال: إنكم لتلبسون لبسة ما كانت آباؤكم تلبسها، وتمشون مشية ما يحسن الزفافون أن يمشوها.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ أن طاوسا قام على رفيق له مرض حتى فاته الحج- لعله هو الرجل المتقدم قبل هذا استنضح بطنه- وقال مسعر بن كدام عن عبد الكبير المعلم قال طاوس قال ابن عباس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: من أحسن قراءة؟ قال: «من إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله عز وجل» . وقد روى هذا أيضا من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن طاوس قال قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به» . وعنه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى ثوبان معصفران فقال: «أمك أمرتك بهذا؟ قلت: أغسلهما؟ قال: بل أحدهما» رواه مسلم في صحيحه عن داود بن راشد عن عمر بن أيوب عن إبراهيم بن نافع عن سليمان الأحول عن طاوس به. وروى محمد بن مسلمة عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابن عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الجلاوزة والشرط وأعوان الظلمة كلاب النار» . انفرد به محمد بن مسلم الطالقى. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحسن الأنماطي البغدادي حدثنا عبد المنعم بن إدريس حدثنا أبى عن وهب بن منبه عن طاوس عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ بن أبى طالب: «يا على استكثر من المعارف من المؤمنين فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة» . فمضى على فأقام حينا لا يلقى أحدا إلا اتخذه للآخرة، ثم جاء من بعد ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فعلت فيما أمرتك به؟ قال: قد فعلت يا رسول الله، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اذهب فابل أخبارهم، فذهب ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ منكس رأسه، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب قابل أخبارهم، فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم تبسم [فقال] : ما أحسب يا على ثبت معك إلا أبناء الآخرة؟ فقال له على: لا والّذي بعثك بالحق، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الأخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف عليكم) يا على! أقبل على شأنك، وأملك لسانك، وأغفل من
__________
[1] كذا بالأصل، ولعلها: ما رأيت مثلي أحدا آمنا.(9/243)
تعاشر من أهل زمانك تكن سالما غانما» . لم يرو إلا من هذا الوجه فيما نعلم والله أعلم] [1] .
ثم دخلت سنة سبع ومائة
فِيهَا خَرَجَ بِالْيَمَنِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبَّادٌ الرُّعَيْنِيُّ فَدَعَا إِلَى مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ وَاتَّبَعَهُ فِرْقَةٌ من الناس وحلموا فَقَاتَلَهُمْ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وكانوا ثلاثمائة. وَفِيهَا وَقَعَ بِالشَّامِ طَاعُونٌ شَدِيدٌ، وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ وَعَلَى جَيْشِ أَهْلِ الشَّامِ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، فَقَطَعُوا الْبَحْرَ إِلَى قبرص وَغَزَا مَسْلَمَةُ فِي الْبَرِّ فِي جَيْشٍ آخَرَ. وَفِيهَا ظَفَرَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِجَمَاعَةٍ مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِخُرَاسَانَ فَصَلَبَهُمْ وأشهرهم. وفيها غزا أسد القسري جبال نمروذ، ملك القرقيسيان، مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمروذ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ. وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ الْغُورَ- وَهِيَ جِبَالُ هَرَاةَ- فَعَمَدَ أَهْلُهَا إِلَى حَوَاصِلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ فَجَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كَهْفٍ منيع، لا سبيل لأحد عليه، وهو مستعل جدا، فأمر أسد بالرجال فحملوا في توابيت ودلاهم إليه، وأمر بوضع ما هنالك فِي التَّوَابِيتِ وَرَفَعُوهُمْ فَسَلِمُوا وَغَنِمُوا، وَهَذَا رَأْيٌ سَدِيدٌ. وَفِيهَا أَمَرَ أَسَدٌ بِجَمْعِ مَا حَوْلَ بَلْخَ إِلَيْهَا. وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا بَرْمَكَ وَالِدَ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ وَبَنَاهَا بِنَاءً جَيِّدًا جَدِيدًا مُحْكَمًا وحصنها وجعلها معقدا لِلْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ أمير الحرمين.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُلَيْمَانُ بْنُ يسار أحد التابعين
[وهو أخو عطاء بن يسار، له روايات كثيرة، وكان من المجتهدين في العبادة، وكان من أحسن الناس وجها، توفى بالمدينة وعمره ثلاث وسبعون سنة، دخلت عليه امرأة من أحسن الناس وجها فأرادته على نفسها فأبى وتركها في منزله وخرج هاربا منها، فرأى يوسف عليه السلام في المنام.
فقال له: أنت يوسف؟ فقال: نعم أنا يوسف الّذي هممت، وأنت سليمان الّذي لم تهمّ. وقيل إن هذه الحكاية إنما وقعت في بعض منازل الحجاج، وكان معه صاحب له، فبعثه إلى سوق الحجاج ليشترى شيئا فانحطت على سليمان امرأة من الجبل حسناء فقالت له: هيت لك، فبكى واشتد بكاؤه فلما رأت ذلك منه ارتفعت في الجبل، وجاء صديقه فوجده يبكى فقال له: ما لك تبكى؟ فقال خير، فقال: لعلك ذكرت بعض ولدك أو بعض أهلك؟ فقال: لا [2] ! فقال: والله لتخبرني ما أبكاك أنت.
قال: أبكانى حزني على نفسي، لو كنت مكانك لم أصبر عنها، ثم ذكر أنه نام فرأى يوسف في منامه كما تقدم والله أعلم] [3]
. عكرمة مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
أَحَدُ التَّابِعِينَ، وَالْمُفَسِّرِينَ الْمُكْثِرِينَ والعلماء الربانيين، والرحالين الجوالين. [وهو أبو عبد الله، وقد روى عن خلق كثير من الصحابة، وكان أحد أوعية العلم، وقد أفتى في حياة مولاه ابن عباس،
__________
[1] زيادة من المصرية.
[2] كذا بالأصل وفيه نقص بظهر ببعض تأمل.
[3] زيادة من المصرية(9/244)
قال عكرمة: طلبت العلم أربعين سنة، وقد طاف عكرمة البلاد، ودخل إفريقية واليمن والشام والعراق وخراسان، وبث علمه هنالك، وأخذ الصلات وجوائز الأمراء، وقد روى ابن أبى شيبة عنه قال:
كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن والسنن، وقال حبيب بن أبى ثابت: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبدا، عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد فأقبل سعيد ومجاهد يلقيان على عكرمة التفسير فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، قال: ثم دخلوا الحمام ليلا. قال جابر بن زيد: عكرمة أعلم الناس وقال الشعبي، ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. وروى الإمام أحمد عن عبد الصمد عن سلام بن مسكين سمعت قتادة يقول: أعلمهم بالتفسير عكرمة. وقال سعيد بن جبير نحوه، وقال عكرمة: لقد فسرت ما بين اللوحتين. وقال ابن علية عن أيوب: سأل رجل عكرمة عن آية فقال:
نزلت في سفح ذلك الجبل- وأشار إلى سلع- وقال عبد الرزاق عن أبيه: لما قدم عكرمة الجند حمله طاوس على نجيب فقال: ابتعت علم هذا الرجل، وفي رواية أن طاوسا حمله على نجيب ثمنه ستون دينارا وقال: ألا نشتري علم هذا العبد بستين دينارا! ومات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد فأخرجت جنازتهما فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، وقال عكرمة: قال لي ابن عباس: انطلق فأفت الناس فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عنى ثلثي مؤنة الناس. وقال سفيان عن عمرو قال: كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصنعون ويقتتلون. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق قال سمعت معمرا يقول: سمعت أيوب يقول: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة إلى أفق من الآفاق، قال فانى لفي سوق البصرة فإذا رجل على حمار، فقيل: هذا عكرمة، قال: واجتمع الناس إليه فما قدرت أنا على شيء أسأله عنه، ذهبت منى المسائل، وشردت عنى فقمت إلى جنب حماره فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظه. وقال شعبة عن خالد الحذاء قال قال عكرمة لرجل وهو يسأله: مالك أخبلت؟ أي فتنت. وقال زياد بن أبى أيوب: حدثنا أبو ثميلة حدثنا عبد العزيز بن أبى رواد قال قلت لعكرمة بنيسابور: الرجل يريد الخلاء وفي إصبعه خاتم فيه اسم الله، قال: يجعل فصه في باطن يده ثم يقبض عليه.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ قال: سمعت شعبة يقول قال خالد الحذاء: كل شيء قال فيه محمد بن سيرين: ثبت عن ابن عباس، إنما سمعه من عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة. وقال سفيان الثوري: خذوا المناسك عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة. وقال أيضا: خذوا التفسير عن أربعة:
سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. وقال عكرمة: أدركت مائتين مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ(9/245)
صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد. وقال مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سعيد بن مسروق عن عكرمة: قال: كانت الخيل التي شغلت سليمان بن داود عليه السلام عشرين ألفا فعقرها، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا معمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن عكرمة: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ من قَرِيبٍ 4: 17 قال: الدنيا كلها قريب وكلها جهالة. وفي قوله: لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ 28: 83 قال: عند سلاطينها وملوكها. وَلا فَساداً 28: 83 لا يعلمون بمعاصي الله عز وجل.
وَالْعاقِبَةُ 28: 83 هي الجنة. وقال في قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا به 7: 165 أي تركوا ما وعظوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ 7: 165 أي شديد فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ 7: 166 أي تمادوا وأصرّوا. خاسِئِينَ 7: 166 صاغرين. فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها 2: 66 أي من الأمم الماضية وَما خَلْفَها 2: 66 من الأمم الآتية، من أهل زمانهم وغيرهم وَمَوْعِظَةً 2: 66 تقى من اتعظ بها الشرك والمعاصي.
وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة بعث الله الذين اعتدوا ويحاسب الذين تركوا الأمر والنهى كان المسخ لهم عقوبة في الدنيا حين تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقال عكرمة: قال ابن عباس: هلك والله القوم جميعا، قال ابن عباس فالذين أمروا ونهوا نجوا، والذين لم يأمروا ولم ينهوا هلكوا فيمن هلك من أهل المعاصي. قال: وذلك أهل ايلة- وهي قرية على شاطئ البحر- وكان الله قد أمر بنى إسرائيل أن يتفرغوا ليوم الجمعة فقالوا: بل نتفرغ ليوم السبت، لأن الله فرغ من الخلق يوم السبت، فأصبحت الأشياء مسبوتة. وذكروا قصة أصحاب السبت، وتحريم الصيد عليهم، وأن الحيتان كانت تأتيهم يوم السبت ولا تأتيهم في غيره من الأيام، وذكروا احتيالهم على صيدها في يوم السبت فقال قوم: لا ندعكم تصيدون في يوم السبت ووعظوهم، فجاء قوم آخرون مداهنون فقالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً؟ 7: 164 قال الناهون مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 7: 164 أي ينتهون عن الصيد في يوم السبت. وقد ذكر عكرمة أنه لما قال لابن عباس إن المداهنين هلكوا مع الغافلين، كساه ثوبين. وقال حوثرة عن مغيرة عن عكرمة قال: كانت القضاة ثلاثة- يعنى في بنى إسرائيل- فمات واحد فجعل الآخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا فبعث الله ملكا على فرس فمر على رجل يسقى بقرة معها عجل، فدعا الملك العجل فتبع العجل الفرس، فجاء صاحبه ليرده فقال: يا عبد الله! عجلي وابن بقرتي، فقال الملك: بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمه حتى أعيا، فقال: القاضي بيني وبينك، قال: لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة فتكلم صاحب العجل فقال له: مر بي على فرس فدعا عجلي فتبعه فأبى أن يرده. قال: ومع الملك ثلاث درأت لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة وقال: اقض لي، فقال: كيف يسوغ هذا؟ فقال:
نرسل العجل خلف الفرس والبقرة فأيهما تبعها فهو ابنها، ففعل ذلك فتبع الفرس فقضى له. فقال(9/246)
صاحب العجل: لا أرضى، بيني وبينك القاضي الآخر، ففعلا مثل ذلك، ثم أتيا الثالث فقصا عليه قصتهما، وناوله الملك الدرة الثالثة فلم يأخذها، وقال لا أقضى بينكما اليوم، فقالا: ولم لا تقضى بيننا؟
فقال: لأني حائض، فقال الملك: سبحان الله!! رجل يحيض!؟. فقال القاضي: سبحان الله! وهل تنتج الفرس عجلا؟ فقضى لصاحب البقرة. فقال الملك: إنكم إنما ابتليتم، وقد رضى الله عنك وسخط على صاحبيك.
وقال أبو بكر بن عياش عن أبى حمزة الثمالي عن عكرمة أن ملكا من الملوك نادى في مملكته:
إني إن وجدت أحدا يتصدق بصدقة قطعت يده، فجاء سائل إلى امرأة فقال: تصدقي علي بشيء فقالت: كيف أتصدق عليك والملك يقطع يد من يتصدق؟ قال: أسألك بوجه الله إلا تصدقت علي بشيء، فتصدقت عليه برغيفين، فبلغ ذلك الملك فأرسل إليها فقطع يديها، ثم إن الملك قال لأمه:
دلينى على امرأة جميلة لأتزوجها، فقالت: إن هاهنا امرأة ما رأيت مثلها، لولا عيب بها، قال:
أي عيب هو؟ قالت: مقطوعة اليدين، قال: فأرسلى إليها، فلما رآها أعجبته- وكان لها جمال- فقالت: إن الملك يريد أن يتزوجك: قالت: نعم إن شاء الله، فتزوجها وأكرمها، فنهد إلى الملك عدو فخرج إليهم، ثم كتب إلى أمه: انظري فلانة فاستوصى بها خيرا وافعلي وافعلي معها، فجاء الرسول فنزل على بعض ضرائرها فحسدنها فأخذن الكتاب فغيرنه وكتبن إلى أمه: انظري فلانة فقد بلغني أن رجالا يأتونها فأخرجيها من البيت وافعلي وافعلي، فكتب إليه الأم إنك قد كذبت، وإنها لامرأة صدق، فذهب الرسول إليهن فنزل بهن فأخذن الكتاب فغيرنه فكتبن إليه: إنها فاجرة وقد ولدت غلاما من الزنا، فكتب إلى أمه: انظري فلانة فاجعلي ولدها على رقبتها واضربى على جيبها واخرجيها. قال: فلما جاءها الكتاب قرأته عليها وقالت لها: اخرجى، فجعلت الصبى على رقبتها وذهبت، فمرت بنهر وهي عطشانة فنزلت لتشرب والصبى على رقبتها فوقع في الماء فغرق، فجلست تبكى على شاطئ النهر، فمر بها رجلان فقالا: ما يبكيك؟ فقالت: ابني كان على رقبتي وليس لي يدان فسقط في الماء فغرق. فقالا لها: أتحبين أن يرد الله عليك يديك كما كانتا؟ قالت: نعم! فدعوا الله ربهما لها فاستوت يداها، ثم قالا لها: أتدرين من نحن؟ قالت:
لا قالا: نحن الرغيفان اللذان تصدقت بهما. وقال في قوله: طَيْراً أَبابِيلَ 105: 3 قال: طير خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السباع فلم تزل ترميهم حتى جدرت جلودهم، وما رئي الجدري قبل يومئذ وما رئي الطير قبل يومئذ ولا بعد. وفي قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ 41: 6- 7 قال:
لا يقولون لا إله إلا الله، وفي قوله قَدْ أَفْلَحَ من تَزَكَّى 87: 14 قال: من يقول لا إله إلا الله، وفي قوله:
هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى 79: 18 إلى أن تقول لا إله إلا الله، وفي قوله: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا الله ثُمَ(9/247)
اسْتَقامُوا 41: 30 على شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَفِي قوله: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ 11: 78 أليس منكم من يقول: لا إله إلا الله، وفي قوله: وَقال صَواباً 78: 38 قال: لا إله إلا الله. وفي قوله: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ 3: 194 لمن قال: لا إله إلا الله. وفي قوله فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ 2: 193 على من لا يقول: لا إله إلا الله. وفي قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ 18: 24 قال: إذا غضبت سِيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ 48: 29 قال: السهر وقال: إن الشيطان ليزين للعبد الذنب، فإذا عمله تبرأ منه، فلا يزال يتضرع إلى ربه ويتمسكن له ويبكى حتى يغفر الله له ذلك وما قبله. وقال قال جبريل عليه السلام: إن ربى ليبعثنى إلى الشيء لا مضيه فأجد الكون قد سبقني إليه. وسئل عن الماعون قال: العارية. قلت: فان منع الرجل غربالا أو قدرا أو قصعة أو شيئا من متاع البيت فله الويل؟ قال: لا! ولكن إذا نهى عن الصلاة ومنع الماعون فله الويل. وقال: البضاعة المزجاة التي فيها تجوز. وقال: السائحون، هم طلبة العلم. وقال: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ من أَصْحابِ الْقُبُورِ 60: 13 قال: إذا دخل الكفار القبور وعاينوا ما أعد الله لهم من الخزي، يئسوا من نعمة الله. وقال غيره: يَئِسَ الْكُفَّارُ من أَصْحابِ الْقُبُورِ 60: 13 أي من حياتهم وبعثهم بعد موتهم. وقال: كان إبراهيم عليه السلام يدعى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد، وقال: أنكالا، أي قيودا. وقال في كاهن سبإ: إنه قال لقومه لما دنا منهم العذاب: من أراد سفرا بعيدا وحملا شديدا، فعليه بعمان، ومن أراد الخمر والخمير، وكذا وكذا والعصير، فعليه ببصرى- يعنى الشام- ومن أراد الراسخات في الوحل، والمقيمات في المحل فعليه بيثرب ذات النخل. فخرج قوم إلى عمان وقوم إلى الشام، وهم غسان، وخرج الأوس والخزرج- وهم بنو كعب بن عمرو- وخزاعة حتى نزلوا يثرب، ذات النخل، فلما كانوا ببطن مرّ قالت خزاعة: هذا موضع صالح لا نريد به بدلا، فنزلوا، فمن ثم سميت خزاعة، لأنهم تخزعوا من أصحابهم. وتقدمت الأوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب، فقال الله عز وجل ليوسف عليه السلام يا يوسف! بعفوك عن إخوتك رفعت لك ذكرك مع الذاكرين. وقال: قال لقمان لابنه:
قد ذقت المرار فلم أذق شيئا أمرّ من الفقر. وحملت كل حمل ثقيل فلم أحمل أثقل من جار السوء.
ولو أن الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب. رواه وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبيه عن عكرمة: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى 8: 17 قال: ما وقع شيء منها إلا في عين رجل منهم.
وقال: في قوله تعالى زَنِيمٍ 68: 13 هو اللئيم الّذي يعرف اللؤمة كما يعرف الشاة بزنمتها. وقال في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ 33: 57 قال: هم أصحاب التصاوير، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ 33: 10 قال: لو أن القلوب تحركت أو زالت لخرجت نفسه، وإنما هو الخوف والفزع. فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ 57: 14 أي بالشهوات وَتَرَبَّصْتُمْ 57: 14 بالتوبة وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ 57: 14 أي التسويف حَتَّى جاءَ أَمْرُ الله 57: 14 الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ 57: 14(9/248)
الشيطان. وقال: من قرأ يس والقرآن الحكيم لم يزل ذلك اليوم في سرور حتى يمسى.
قال سلمة بن شعيب: حدثنا إبراهيم بن الحكم عن أبان عن أبيه. قال: كنت جالسا مع عكرمة عند البحر فذكروا الذين يغرقون في البحر فقال عكرمة: الذين يغرقون في البحار تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقى منهم شيء إلا العظام، حتى تصير حائلا نخرة فتمر بها الإبل فتأكلها، ثم تسير الإبل فتبعرها، ثم يجيء بعدهم قوم فينزلون ذلك المنزل فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه ثم يصير رمادا فتجيء الريح فتأخذه فتذريه في كل مكان من الأرض حيث يشاء الله من بره وبحرة، فإذا جاءت النفخة- نفخة المبعث- فيخرج أولئك وأهل القبور المجموعين سواء. وبهذا الاسناد عنه قال: إن الله أخرج رجلين، رجلا من الجنة ورجلا من النار، فقال لصاحب الجنة: عبدي! كيف وجدت مقيلك؟ قال خير مقيل. ثم قال لصاحب النار: عبدي كيف وجدت مقيلك؟ فقال: شرّ مقيل قاله القائلون، ثم ذكر من عقاربها وحياتها وزنابيرها، ومن أنواع ما فيها من العذاب وألوانه، فيقول الله تعالى لصاحب النار: عبدي! ماذا تعطيني إن أنا أعفيتك من النار؟ فيقول العبد: إلهي وماذا عندي ما أعطيك، فقال له الرب تعالى: لو كان لك جبل من ذهب أكنت تعطيني فأعفيك من النار؟ فقال نعم، فقال له الرب: كذبت لقد سألتك في الدنيا ما هو أيسر من ذلك! تدعوني فأستجيب لك، وتستغفرنى فأغفر لك، وتسألنى فأعطيك، فكنت تتولى ذاهبا.
وبهذا الاسناد قال: ما من عبد يقربه الله عز وجل يوم القيامة للحساب إلا قام من عند الله بعفوه، وبه عنه: لكل شيء أساس، وأساس الإسلام الخلق الحسن. وبه عنه قال: شكا نبي من الأنبياء إلى ربه عز وجل الجوع والعرى، فأوحى الله إليه: أما ترضى أنى سددت عنك باب الشر الناشئ عنها؟. وبه عنه قال: إن في السماء ملكا يقال له إسماعيل لو أذن الله له بفتح أذن من آذانه يسبح الرحمن عز وجل لمات من في السموات والأرض. وبه عنه قال: سعة الشمس سعة الأرض وزيادة ثلاث مرات، وسعة القمر سعة الأرض مرة، وإن الشمس إذا غربت دخلت بحرا تحت العرش تسبح الله حتى إذا أصبحت استعفت ربها تعالى من الطلوع فيقول لها: ولم ذاك- وهو أعلم- فتقول: لئلا أعبد من دونك، فيقول لها: اطلعى فليس عليك شيء من ذلك، حسبهم جهنم أبعثها إليهم مع ثلاث عشرة ألف ملك تقودها حتى يدخلوهم: وهذا خلاف ما ثبت في الحديث الصحيح «إن جهنم يؤتى بها تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سبعون ألف ملك» . وقال مندل عن أسد ابن عطاء عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. «لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلما فان اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه. ولا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلما فان اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه» . لم يرفعه إلا مندل هذا.(9/249)
وروى شعبة عن عمارة بن حفصة عن عكرمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «كان إذا عطس غطى وجهه بثوبه، ووضع يديه على حاجبيه» ، هذا حديث عال من حديث شعبة. وروى بقية عن إسحاق بن مالك الخضرى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «من حلف على أحد يمينا، وهو يرى أنه سيبره فلم يفعل، فإنما إثمه على الّذي لم يبره» . تفرد به بقية بن الوليد مرفوعا. وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا عبيد بن عمر القواريري حدثنا يزيد بن ربيع حدثنا عمارة بن أبى حفصة حدثنا عكرمة حدثتنا عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عليه بردان قطريان خشنان غليظان، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن ثوبيك هذين غليظان خشنان، ترشح فيهما فيثقلان عليك، فأرسل إلى فلان فقد أتاه برد من الشام فاشتر منه ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فأتاه الرسول فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إليك لتبيعه ثوبين إلى ميسرة. فقال: قد علمت والله، ما يريد نبي الله إلا أن يذهب بثوبي ويمطلنى بثمنهما، فرجع الرسول إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: كذب! قد علموا أنى أتقاهم للَّه، وآداهم للأمانة» . وفي هذا اليوم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يلبس أحدكم من رقاع شتى خير له من أن يستدين ما ليس عنده» والله سبحانه أعلم] [1]
. الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
كَانَ أحد الفقهاء المشهورين، له روايات كثيرة، عن الصحابة وغيرهم، وكان من أفضل أهل المدينة، وأعلم أهل زمانه، قتل أبوه بمصر وهو صغير، فأخذته خالته فنشأ عندها، وساد وله مناقب كثيرة. أبو رجاء العطاردي.
وفيها توفى كثير عَزَّةَ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ
وَهُوَ كُثَيِّرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ، أَبُو صَخْرٍ الْخُزَاعِيُّ الْحِجَازِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي جُمُعَةِ، وَعَزَّةُ هَذِهِ الْمَشْهُورُ بِهَا الْمَنْسُوبُ إِلَيْهَا، لِتَغَزُّلِهِ فِيهَا، هِيَ أُمُّ عَمْرٍو عَزَّةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، بِنْتُ جَمِيلِ بْنِ حَفْصٍ، مِنْ بَنِي حَاجِبِ بْنِ غِفَارٍ، وَإِنَّمَا صُغِّرَ اسْمُهُ فَقِيلَ كُثَيِّرٌ، لِأَنَّهُ كَانَ دَمِيمَ الْخَلْقِ قَصِيرًا، طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ. قال ابن خلكان: كان يقال له رب الدبان، وَكَانَ إِذَا مَشَى يُظَنُّ أَنَّهُ صَغِيرٌ مِنْ قَصْرِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَقُولُ لَهُ: طَأْطِئْ رَأْسَكَ لَا يؤذيك السَّقْفُ، وَكَانَ يَضْحَكُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَفِدُ عَلَى عبد الملك، ووفد على عبد الملك بن مروان مرات، وَوَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ يُقَالُ إِنَّهُ أَشْعَرَ الْإِسْلَامِيِّينَ، عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ، وَرُبَّمَا نَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى مَذْهَبِ التَّنَاسُخِيَّةِ، وَكَانَ يَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِ وقلة عقله إن صح النقل عنه، في قوله تَعَالَى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ 82: 8 وَقَدِ اسْتَأْذَنَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا دخل عليه قال عبد الملك: لأن
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/250)
تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، فَقَالَ: حيّهلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، إِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِبَيَانٍ، وَإِنْ قَاتَلَ قَاتَلَ بِجَنَانٍ، وَأَنَا الَّذِي أَقُولُ
وَجَرَّبْتُ الْأُمُورَ وَجَرَّبَتْنِي ... وَقَدْ أَبْدَتْ عَرِيكَتِيَ الْأُمُورُ
وَمَا تَخْفَى الرجال على أنى ... بهم لأخو مثاقفة خَبِيرُ
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ ... وَفِي أَثْوَابِهِ أسد زئير
ويعجبك الطرير فتختبره ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما هام الرجال لها بزين ... ولكن زينها دين وَخِيرُ
بُغَاثُ الطَّيْرِ أَطْولُهَا جُسُومًا ... وَلَمْ تُطُلِ الْبُزَاةُ وَلَا الصُّقُورُ
وَقَدْ عَظُمَ الْبَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ ... فَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالْعِظَمِ الْبَعِيرُ
فَيُرْكَبُ ثُمَّ يُضْرَبُ بِالْهَرَاوَى ... وَلَا عُرْفٌ لَدَيْهِ وَلَا نَكِيرُ
وعود النبع ينبت مستمرا ... وليس يطول والعضباء حور
وَقَدْ تَكَلَّمَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ عَلَى غَرِيبِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ وَشِعْرِهَا بِكَلَامٍ طَوِيلٍ، قَالُوا: وَدَخَلَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَامْتَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: -
عَلَى ابْنِ أَبِي الْعَاصِي دُرُوعٌ حَصِينَةٌ ... أَجَادَ المسدى سردها وأدالها
قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَفَلَا قُلْتَ كَمَا قال الأعشى لقيس بن معديكرب: -
وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... شهبا يخشى الذائدون صيالها
كنت المقدم غير لابس جبة ... بالسيف يضرب مُعْلِمًا أَبْطَالَهَا
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَصَفَهُ بِالْخُرْقِ وَوَصَفْتُكَ بِالْحَزْمِ. وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ لِلْخُرُوجِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كُثَيِّرُ، ذَكَرْتُكَ الْآنَ بِشِعْرِكَ فَإِنْ أَصَبْتَهُ أَعْطَيْتُكَ حُكْمَكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنَّكَ لَمَّا وَدَّعْتَ عَاتِكَةَ بِنْتَ يَزِيدَ بَكَتْ لِفِرَاقِكَ فَبَكَى لِبُكَائِهَا حَشَمُهَا فَذَكَرْتَ قَوْلِي:
إِذَا مَا أَرَادَ الْغَزْوَ لَمْ تَثْنِ عَزْمَهُ ... حَصَانٌ عَلَيْهَا نَظْمُ دُرٍّ يُزَيِّنُهَا
نَهَتْهُ فلما لم تر النهى عافه ... بَكَتْ فَبَكَى مِمَّا عَرَّاهَا قَطِينُهَا
قَالَ: أَصَبْتَ فَاحْتَكِمْ، قَالَ: مِائَةُ نَاقَةٍ مِنْ نُوقِكَ الْمُخْتَارَةِ، قَالَ: هِيَ لَكَ، فَلَمَّا سَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْعِرَاقِ نَظَرَ يَوْمًا إِلَى كُثَيِّرِ عَزَّةَ وَهُوَ مُفَكِّرٌ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِمَا كُنْتَ تُفَكِّرُ بِهِ تُعْطِينِي حُكْمِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَاللَّهِ؟ قَالَ: وَاللَّهِ، قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِنَّكَ تَقُولُ فِي نَفْسِكَ: هَذَا رَجُلٌ لَيْسَ هُوَ عَلَى مَذْهَبِي، وَهُوَ ذاهب إلى قتال رجل لَيْسَ هُوَ عَلَى(9/251)
مَذْهَبِي، فَإِنْ أَصَابَنِي سَهْمٌ غَرْبٌ مِنْ بَيْنِهِمَا خَسِرْتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا أمير المؤمنين، فاحتكم، قال: أحتكم حُكْمِي أَنْ أَرُدَّكَ إِلَى أَهْلِكَ وَأُحْسِنَ جَائِزَتَكَ، فأعطاه مالا وأذن له بالانصراف.
وَقَالَ حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ عَنْ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: وَفَدْتُ أَنَا وَالْأَحْوَصُ وَنُصَيْبٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز حين ولى الخلافة، ونحن نمتّ بِصُحْبَتِنَا إِيَّاهُ وَمُعَاشَرَتِنَا لَهُ، لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وكل مِنَّا يَظُنُّ أَنَّهُ سَيُشْرِكُهُ فِي الْخِلَافَةِ، فَنَحْنُ نَسِيرُ وَنَخْتَالُ فِي رِحَالِنَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى خُنَاصِرَةَ وَلَاحَتْ لَنَا أَعْلَامُهَا، تَلَقَّانَا مَسْلَمَةُ بْنُ عبد الملك فقال: ما أقدمكم؟ أو ما علمتم أن صاحبكم لا يحب الشعر ولا الشعراء؟ قَالَ: فَوَجَمْنَا لِذَلِكَ، فَأَنْزَلَنَا مَسْلَمَةُ عِنْدَهُ وَأَجْرَى عَلَيْنَا النَّفَقَاتِ وَعَلَفَ دَوَابَّنَا، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَنَا عَلَى عُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْجُمَعِ دَنَوْتُ مِنْهُ لِأَسْمَعَ خُطْبَتَهُ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: لِكُلِّ سَفَرٍ زَادٌ، فَتُزَوَّدُوا لِسَفَرِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى، وَكُونُوا كَمَنْ عَايَنَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَثَوَابِهِ فَتَرْغَبُوا وَتَرْهَبُوا، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ وَتَنْقَادُوا لِعَدُوِّكُمْ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بُسِطَ أَمَلُ مَنْ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ لَا يُمْسِي بَعْدَ إِصْبَاحِهِ وَلَا يُصْبِحُ بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وَإِنَّمَا يَطَمْئِنُّ مَنْ وَثِقَ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُدَاوِي مِنَ الدُّنْيَا كَلْمًا إِلَّا أَصَابَهُ جَارِحٌ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ، أَعُوذُ باللَّه أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَنْهَى عَنْهُ نَفْسِي فَتَخْسَرُ صَفْقَتِي وَتَبْدُو مَسْكَنَتِي فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، ثُمَّ بَكَّى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَاضٍ نَحْبَهُ، وَارْتَجَّ الْمَسْجِدُ وَمَا حَوْلَهُ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ: قَالَ: فَانْصَرَفْتُ إِلَى صَاحِبَيَّ فقلت: خذ سرحا مِنَ الشِّعْرِ غَيْرَ مَا كُنَّا نَقُولُ لِعُمَرَ وَآبَائِهِ فَإِنَّهُ رَجُلٌ آخِرِيٌّ لَيْسَ بِرَجُلِ دُنْيَا. قَالَ:
ثُمَّ اسْتَأْذَنَ لَنَا مَسْلَمَةُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ طَالَ الثَّوَاءُ وَقَلَّتِ! الْفَائِدَةُ، وَتَحَدَّثَ بِجَفَائِكَ إِيَّانَا وُفُودُ الْعَرَبِ. فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ 9: 60 وقرأ الآية، فان كنتم من هؤلاء أعطيتم وَإِلَّا فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهَا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي مِسْكِينٌ وَعَابِرُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ؟ - يَعْنِي مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ- فَقُلْنَا: بَلَى! فَقَالَ: إنه لا ثواب عَلَى مَنْ هُوَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ، فَقُلْتُ: ائذن لي يا أمير المؤمنين بالإنشاد، قَالَ:
نَعَمْ وَلَا تَقُلْ إِلَّا حَقًّا، فَأَنْشَدْتُهُ قَصِيدَةً فِيهِ:
وَلَيْتَ فَلَمْ تَشْتِمْ عَلِيًّا وَلَمْ تخف ... بريئا وَلَمْ تَقْبَلْ إِشَارَةَ مُجْرِمِ
وَصَدَّقْتَ بِالْفِعْلِ الْمَقَالَ مَعَ الَّذِي ... أَتَيْتَ فَأَمْسَى رَاضِيًا كُلُّ مُسْلِمِ
ألا إنما يكفى الفتى بعد ريعه ... من الأود النادي ثِقَافُ الْمُقَوِّمِ
وَقَدْ لَبِسَتْ تَسْعَى إِلَيْكَ ثِيَابُهَا ... تَرَاءَى لَكَ الدُّنْيَا بِكَفٍّ وَمِعْصَمِ
وَتُومِضُ أَحْيَانًا بِعَيْنٍ مَرِيضَةٍ ... وَتَبْسِمُ عَنْ مِثْلِ الْجُمَانِ الْمُنَظَّمِ(9/252)
فأعرضت عنها مشمئزا كأنما ... سقتك مذوقا من سمام وعلقم
وقد كنت من أحبالها فِي مُمَنَّعٍ ... وَمِنْ بَحْرِهَا فِي مُزْبِدِ الْمَوْجِ مُفْعَمِ
وَمَا زِلْتَ تَوَّاقًا إِلَى كُلِّ غَايَةٍ ... بَلَغْتَ بِهَا أَعْلَى الْبِنَاءِ الْمُقَدَّمِ
فَلَمَّا أَتَاكَ الْمَلِكُ عَفْوًا وَلَمْ تَكُنْ ... لِطَالِبِ دُنْيَا بَعْدَهُ فِي تَكَلُّمِ
تَرَكْتَ الَّذِي يَفْنَى وَإِنْ كَانَ مُونِقًا ... وَآثَرْتَ مَا يَبْقَى بِرَأْيِ مُصَمِّمِ
وَأَضْرَرْتَ بِالْفَانِي وَشَمَّرْتَ لِلَّذِي ... أَمَامَكَ فِي يَوْمٍ مِنَ الشر مظلم
ومالك إِذْ كُنْتَ الْخَلِيفَةَ مَانِعٌ ... سِوَى اللَّهِ مِنْ مال رعيت وَلَا دَمِ
سَمَا لَكَ هَمٌّ فِي الْفُؤَادِ مُؤَرِّقٌ ... بَلَغْتَ بِهِ أَعْلَى الْمَعَالِي بِسُلَّمِ
فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الْأَرْضِ وَالْغَرْبِ كُلِّهَا ... مُنَادٍ يُنَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ
يَقُولُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ظَلَمْتَنِي ... بأخذك ديناري وأخذك دِرْهَمِي
وَلَا بَسْطِ كَفٍّ لِامْرِئٍ غَيْرِ مُجْرِمٍ ... وَلَا السَّفْكِ مِنْهُ ظَالِمًا مِلْءَ مِحْجَمِ
وَلَوْ يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ لَقَسَّمُوا ... لَكَ الشَّطْرَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ غَيْرَ نُدَّمِ
فَعِشْتَ بِهَا مَا حَجَّ للَّه رَاكِبٌ ... مُلَبٍّ مَطِيفٌ بِالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ
فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ لِمُبَايِعٍ ... وَأَعْظِمْ بِهَا أَعْظِمْ بِهَا ثُمَّ أَعْظِمِ
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ: إِنَّكَ تُسْأَلُ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ الْأَحْوَصُ فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً أُخْرَى فَقَالَ: إِنَّكَ تُسْأَلُ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ نُصَيْبٌ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَأَغْزَى نُصَيْبًا إِلَى مَرَجِ دَابِقٍ. وَقَدْ وَفَدَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَامْتَدَحَهُ بِقَصَائِدَ فَأَعْطَاهُ سَبْعَمِائَةِ دِينَارٍ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ كُثِّيرُ عَزَّةَ شيعيا خبيثا يَرَى الرَّجْعَةَ، وَكَانَ يَرَى التَّنَاسُخَ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ 82: 8 وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ هُوِّلَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ لَيْلَةً فِي مَنَامِهِ فَأَصْبَحَ يَمْتَدِحُ آلَ الزُّبَيْرِ وَيَرْثِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يُسِيءُ الرأى فيه:
بمفتضح البطحا تأول انَّهُ ... أَقَامَ بِهَا مَا لَمْ تَرُمْهَا الْأَخْاشِبُ
سَرِحْنَا سُرُوبًا آمِنِينَ وَمَنْ يَخَفْ ... بَوَائِقَ مَا يَخْشَى تَنُبْهُ النَّوَائِبُ
تَبَرَّأْتُ مِنْ عَيْبِ ابْنِ أَسْمَاءَ إِنَّنِي ... إِلَى اللَّهِ مِنْ عَيْبِ ابْنِ أسماء تائب
هو المرء لا ترزى بِهِ أُمَّهَاتُهُ ... وَآبَاؤُهُ فِينَا الْكِرَامُ الْأَطَايِبُ
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّبَيْرِيُّ: قَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ: مَا الَّذِي يَدْعُوكَ إِلَى مَا تَقُولُ مِنَ الشِّعْرِ فِي عَزَّةَ وليست على نصف مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ؟ فَلَوْ قُلْتَ ذَلِكَ فِيَّ وفي أمثالى فانا(9/253)
أشرف وأفضل وأحسن منها- وكانت عائشة بنت طلحة قد فاقت النساء حسنا وجمالا وأصالة- وإنما قالت له ذلك لتختبره وتبلوه فقال:
ضحى قَلْبُهُ يَا عَزُّ أَوْ كَادَ يَذْهَلُ ... وَأَضْحَى يُرِيدُ الصَّوْمَ أَوْ يَتَبَدَّلُ
وَكَيْفَ يُرِيدُ الصَّوْمَ مَنْ هُوَ وَامِقٌ ... لِعَزَّةَ لَا قَالٍ وَلَا متبذل
إذا واصلتنا خلة كي تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أول
سَنُولِيكِ عُرْفًا إِنْ أَرَدْتِ وِصَالَنَا ... وَنَحْنُ لِتِيكَ الْحَاجِبِيَّةِ أَوْصَلُ
وَحَدَّثَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي هَجَرْتُهَا ... فَحَمَلَهَا غيظا عليّ المحمل
فقالت له عائشة: قد جَعَلَتْنِي خُلَّةً وَلَسْتُ لَكَ بِخُلَّةٍ، وَهَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ جَمِيلٌ فَهُوَ وَاللَّهِ أَشْعَرُ مِنْكَ حَيْثُ يَقُولُ:
يَا رُبَّ عَارِضَةٍ عَلَيْنَا وَصْلَهَا ... بِالْجِدِّ تَخْلِطُهُ بِقَوْلِ الْهَازِلِ
فَأَجَبْتُهَا بِالْقَوْلِ بَعْدَ تَسَتُّرٍ ... حُبِّي بُثَيْنَةَ عَنْ وِصَالِكِ شَاغِلِي
لَوْ كَانَ فِي قَلْبِي بِقَدْرِ قُلَامَةٍ ... فَضْلٌ وَصَلْتُكِ أَوْ أَتَتْكِ رَسَائِلِي
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُنْكِرُ فَضْلَ جَمِيلٍ، وَمَا أَنَا إِلَّا حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَاسْتَحْيَا. وَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ:
بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتِ مِنْ مَعْشُوقَةٍ ... طَبِنَ الْعَدُوُّ لَهَا فَغَيَّرَ حَالَهَا
وَمَشَى إِلَيَّ بِعَيْبِ عَزَّةَ نِسْوَةٌ ... جَعَلَ الْإِلَهَ خُدُودَهُنَّ نِعَالَهَا
اللَّهُ يعلم لو جمعن ومثلت ... لأخذت قَبْلَ تَأَمُّلٍ تِمْثَالَهَا
وَلَوَ انَّ عَزَّةَ خَاصَمَتْ شَمْسَ الضُّحَى ... فِي الْحُسْنِ عِنْدَ مُوَفَّقٍ لَقَضَى لَهَا
وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ:
فَمَا أَحْدَثَ النَّأْيُ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا ... سُلُوًّا وَلَا طُولُ اجْتِمَاعٍ تَقَالِيَا
وَمَا زَادَنِي الْوَاشُونَ إِلَّا صَبَابَةً ... ولا كثرة الناهين إلا تماديا
غيره له: فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ ... إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
وَقَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ أَيْضًا وَفِيهِ حِكْمَةٌ أيضا:
وَمَنْ لَا يُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهُوَ عَاتِبُ
وَمَنْ يتتبع جاهدا كل عثرة ... يجدها ولا يبقى لَهُ الدَّهْرُ صَاحِبُ
وَذَكَرُوا أَنَّ عَزَّةَ بِنْتَ جَمِيلِ بْنِ حَفْصٍ أَحَدِ بَنِي حَاجِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غِفَارٍ أُمَّ عَمْرِو الضَّمْرِيَّةَ(9/254)
وَفَدَتْ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ تَشْكُو إليه ظلامة فقال: لَا أَقْضِيهَا لَكِ حَتَّى تُنْشِدِينِي شَيْئًا مِنْ شعره، فقالت: لا أحفظ لكثير شعرا، لَكِنِّي سَمِعْتُهُمْ يَحْكُونَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيَّ هذه الأبيات:
قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ عَلِمْتُ غَرِيمَهُ ... وَعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى غَرِيمُهَا
فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكِ وَلَكِنْ أَنْشِدِينِي قَوْلَهُ:
وَقَدْ زَعَمَتْ أَنِّي تَغَيَّرْتُ بَعْدَهَا ... وَمَنْ ذَا الَّذِي يَا عَزُّ لا يتغير
تغير جسمي والمحبة كالذي ... عهدت ولم يخبر بذاك مخبر
قال فاستحيت وقالت: أما هذا فلا أحفظه ولكن سَمِعْتُهُمْ يَحْكُونَهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ أَحْفَظُ لَهُ قَوْلَهُ:
كأنى أنادى صخرة حين أعرضت ... من الظلم لَوْ تَمْشِي بِهَا الْعُصْمُ زَلَّتِ
صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكِ إِلَّا بَخِيلَةً ... وَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ مَلَّتِ
قَالَ فَقَضَى لَهَا حَاجَتَهَا وَرَدَّهَا ورد عليها ظلامتها وقال: أدخلوها الْحُرَمِ لِيَتَعَلَّمُوا مَنْ أَدَبِهَا. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ نِسَاءِ الْعَرَبِ قَالَتْ: اجْتَازَتْ بِنَا عَزَّةُ فَاجْتَمَعَ نِسَاءُ الْحَاضِرِ إِلَيْهَا لِيَنْظُرْنَ حُسْنَهَا، فَإِذَا هِيَ حُمَيْرَاءُ حُلْوَةٌ لَطِيفَةٌ، فَلَمْ تَقَعْ مِنَ النِّسَاءِ بذاك الموقع حتى تكلمت فإذا هي أبرع النساء وأحلاهن حَدِيثًا، فَمَا بَقِيَ فِي أَعْيُنَنَا امْرَأَةً تَفُوقُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا وَحَلَاوَةً. وَذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: دَخَلَتْ عَزَّةُ عَلَى سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ فَقَالَتْ لَهَا: إِنِّي أَسْأَلُكِ عَنْ شَيْءٍ فَاصْدُقِينِي، مَا الَّذِي أَرَادَ كُثَيِّرُ فِي قَوْلِهِ لَكِ:
قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ فَوَفَى غَرِيمَهُ ... وَعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى غَرِيمُهَا
فَقَالَتْ: كُنْتُ وعدته قبلة فمطلته بِهَا، فَقَالَتْ: أَنْجِزِيهَا لَهُ وَإِثْمُهَا عَلَيَّ، وَقَدْ كانت سكينة بنت الحسين من أحسن النساء حتى كان يضرب بحسنها المثل. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ كُثَيِّرًا مِنْ عَزَّةَ فَأَبَتْ عَلَيْهِ وقالت: يا أمير المؤمنين أبعد ما فَضَحَنِي بَيْنَ النَّاسِ وَشَهَّرَنِي فِي الْعَرَبِ؟ وَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ الِامْتِنَاعِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَرُوِيَ أَنَّهَا اجْتَازَتْ مَرَّةً بِكُثَيِّرٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا فَتَنَكَّرَتْ عَلَيْهِ وَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَبِرَ مَا عنده، فتعرض لها فقالت: فَأَيْنَ حُبُّكَ عَزَّةَ؟ فَقَالَ: أَنَا لَكِ الْفِدَاءُ لو أن عزة أمة لو لَوَهَبْتُهَا لَكَ، فَقَالَتْ: وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ أَلَسْتَ الْقَائِلَ:
إِذَا وَصَلَتْنَا خُلَّةٌ كَيْ تُزِيلَنَا ... أَبَيْنَا وَقُلْنَا الْحَاجِبِيَّةُ أَوَّلُ؟
فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتِ وَأُمِّي، أقصرى عن ذكرها واسمعي ما أقول:
هَلْ وَصْلُ عَزَّةَ إِلَّا وَصْلُ غَانِيَةٍ ... فِي وَصْلِ غَانِيَةٍ مِنْ وَصْلِهَا بَدَلُ
قَالَتْ: فَهَلْ لَكَ فِي الْمُجَالَسَةِ؟ قَالَ: وَمَنْ لِي بِذَلِكَ؟ قالت: فكيف بما قلت في عزة؟ قال:
أُقْلِبُهُ فَيَتَحَوَّلُ لَكِ، قَالَ فَسَفَرَتْ عَنْ وَجْهِهَا وقالت: أغدرا وتناكثا يَا فَاسِقُ، وَإِنَّكَ لَهَاهُنَا يَا عَدُوَّ(9/255)
اللَّهِ، فَبُهِتَ وَأَبْلَسَ وَلَمْ يَنْطِقْ وَتَحَيَّرَ وَخَجِلَ، ثُمَّ قَالَتْ: قَاتَلَ اللَّهُ جَمِيلًا حَيْثُ يَقُولُ: -
محا اللَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعُ الْوُدُّ عِنْدَهُ ... وَمَنْ حبله إن صد غَيْرُ مَتِينِ
وَمَنْ هُوَ ذُو وَجْهَيْنِ لَيْسَ بدائم ... على العهد حلافا بِكُلِّ يَمِينِ
ثُمَّ شَرَعَ كُثَيِّرٌ يَعْتَذِرُ وَيَتَنَصَّلُ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ وَيَقُولُ فِي ذَلِكَ الْأَشْعَارَ ذَاكِرًا وَآثِرًا. وَقَدْ مَاتَتْ عَزَّةُ بِمِصْرَ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، وَزَارَ كُثَيِّرٌ قَبْرَهَا وَرَثَاهَا وَتَغَيَّرَ شِعْرُهُ بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ:
مَا بَالُ شِعْرِكَ تَغَيَّرَ وَقَدْ قَصَّرَتْ فيه؟ فقال: ماتت عزة ولا أَطْرَبُ، وَذَهَبَ الشَّبَابُ فَلَا أَعْجَبُ، وَمَاتَ عَبْدُ العزيز بن مروان فلا أرغب، وإنما ينشأ الشِّعْرُ عَنْ هَذِهِ الْخِلَالِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ وَوَفَاةُ عِكْرِمَةَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَمِائَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ- وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَمِائَةٍ
[فَفِيهَا افْتَتَحَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَفَتَحَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حِصْنًا مِنْ حصون الروم أيضا، وفيها غزا أسيد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَمِيرُ خُرَاسَانَ فَكَسَرَ الأتراك كسرة فاضحة. وفيها زحف خاقان إلى أذربيجان وحاصر مدينة وارثان ورماها بالمناجيق، فسار إليه أمير تلك الناحية الحارث بن عمرو نائب مسلمة بن عبد الملك، فالتقى مع خاقان ملك الترك فهزمه وقتل من جيشه خلق كثير، وهرب الخاقان بعد أن كان قتل في جملة من قتل من جيشه، وقتل الحارث بن عمرو شهيدا، وذلك بعد أن قتلوا من الأتراك خلقا كثيرا. وفيها غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك أرض الروم، وبعث البطال على جيش كثيف فافتتح جنجرة وغنم منها شيئا كثيرا] [1]
وفيها توفى من الأعيان
بكر بن عبد الله المزني البصري.
[كان عالما عابدا زاهدا متواضعا قليل الكلام، وله روايات كثيرة عن خلق من الصحابة والتابعين. قال بكر بن عبد الله: إذا رأيت من هو أكبر منك من المسلمين فقل: سبقته إلى المعاصي فهو خير منى، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا من فضل ربى، وإذا رأيت منهم تقصيرا فقل: هذا بذنب أحدثته. وقال:
من مثلك يا ابن آدم؟ خلى بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب. وقال: لا يكون العبد تقيا حتى يكون تقى الطمع تقى الغضب.
وقال: إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به. وقال: كان الرجل من بنى إسرائيل إذا بلغ المبلغ الصالح من العمل فمشى في الناس تظلله غمامة، قال: فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه لما رآه مما آتاه الله، فاحتقره صاحب الغمامة فأمرها الله أن تتحول
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/256)
عن رأسه إلى رأس الّذي احتقره، وهو الّذي عظم أمر الله عز وجل. وقال: ما سبقتم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء قرّ في صدره. وله كلام حسن كثير يطول ذكره] [1]
راشد بن سعد المقرئي الحمصي
عمّر دهرا، وروى عن جماعة من الصحابة، وقد كان عابدا صالحا زاهدا.
رحمه الله تعالى، وله ترجمة طويلة
محمد بن كعب القرظي
توفى فيها في قول [وهو أبو حمزة، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان عالما بتفسير القرآن، صالحا عابدا، قال الأصمعي: حدثنا أبو المقدام- هشام بْنِ زِيَادٍ- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أنه سئل: ما علامة الخذلان؟ قال: أن يقبح الرجل ما كان يستحسن، ويستحسن ما كان قبيحا.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن موهب قال: سمعت ابن كعب يقول: لأن أقرأ في ليلة حتى أصبح إذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأردد فيهما الفكر، أحب إلى من أن أهدّ القرآن هدا- أو قال أنثره نثرا-. وقال: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه السلام، قال تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ 3: 41 فلو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص له، ولرخص للذين يقاتلون في سبيل الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 8: 45 وقال في قوله تعالى: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا 3: 200 قال: اصبروا على دينكم وصابروا لوعدكم الّذي وعدتم، ورابطوا عدوّكم الظاهر والباطن، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون إذا لقيتمونى. وقال في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ 12: 24: علم ما أحل القرآن مما حرّم مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ 11: 100 قال: القائم ما كان من بنائهم قائما، والحصيد ما حصد فهدم. إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً 25: 65 قال: غرموا ما نعموا به من النعم في الدنيا، وفي رواية سألهم ثمن نعمة فلم يقدروا عليها ولم يؤدوها، فأغرمهم ثمنها. فأدخلهم النار.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا عبد الرحمن بن أبى الموالي قال: سمعت محمد بن كعب في هذه الآية وَما آتَيْتُمْ من رِباً لِيَرْبُوَا في أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ الله 30: 39 قال: هو الرجل يعطى الآخر من ماله ليكافئه به أو يزداد، فهذا الّذي لا يربو عند الله، والمضعفون هم الذين يعطون لوجه الله لا يبتغى مكافأة أحد. وفي قوله تعالى: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ 17: 80 قال: اجعل سريرتي وعلانيتي حسنة. وقيل: أدخلنى مدخل صدق في العمل الصالح، أي الإخلاص، وأخرجني مخرج صدق أي سالما. أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ 50: 37 أي يسمع القرآن وقلبه معه [2] في مكان آخر.
فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ الله 62: 9 قال: السعي العمل ليس بالشد. وقال: الكبائر ثلاثة، أن تأمن مكر الله، وأن تقنط من رحمة الله، وأن تيأس من روح الله.
__________
[1] زيادة من المصرية.
[2] كذا بالأصل ولعله سقط منه كلمة (فليس) .(9/257)
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال، فقها في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصرا بعيوب نفسه. وقال:
الدنيا دار قلق، رغب عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الأشقياء، فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها، وأزهد الناس فيها أسعد الناس بها، هي الغاوية لمن أضاعها، المهلكة لمن اتبعها، الخائنة لمن انقاد لها، علمها جهل، وغناؤها فقر، وزيادتها نقصان، وأيامها دول. وروى ابن المبارك عن داود بن قيس قال سمعت محمد بن كعب يقول: إن الأرض لتبكى من رجل وتبكى على رجل، تبكى على من كان يعمل على ظهرها بطاعة الله، وتبكى ممن كان يعمل على ظهرها بمعصية الله، قد أثقلها. ثم قرأ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ 44: 29 وقال في قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 99: 7- 8: من يعمل مثقال ذرة خيرا من كافر يرى ثوابها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له خير. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، من مؤمن يرى عقوبتها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له شر. وقال: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع عليّ في بعض ما يكره فمقتنى، وقال: اذهب لا أغفر لك، مع أن عجائب القرآن تردني على أمور حتى أنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب يسأله أن يبيعه غلامه سالما- وكان عابدا خيرا زاهدا- فكتب إليه: - إني قد دبرته، قال: فازدد فيه، فأتاه سالم فقال له عمر: إني قد ابتليت بما ترى، وأنا والله أتخوف أن لا أنجو، فقال له سالم: إن كنت كما تقول فهذا نجاته، وإلا فهو الأمر الّذي يخاف. قال: يا سالم عظني، قال: آدم عليه السلام أخطأ خطيئة واحدة خرج بها من الجنة، وأنتم مع عمل الخطايا ترجون دخول الجنة، ثم سكت. قلت: والأمر كما قيل في بعض كتب الله:
تزرعون السيئات وترجون الحسنات، لا يجتنى من الشوك العنب.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى ... درج الجنان وطيب عيش العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد
وقال: من قرأ القرآن متع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة. وقال له رجل: ما تقول في التوبة؟
قال: لا أحسنها، قال: أفرأيت إن أعطيت الله عهدا أن لا تعصيه أبدا؟ قال: فمن أعظم جرما منك، تتألى على الله أن لا ينفذ فيك أمره.
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني: حدثنا ابن عبد العزيز حدثنا أبو عبيد القاسم ابن سلام حدثنا عباد بن عباد عن هشام بن زياد أبى المقدام. قالوا كلهم: حدثنا محمد بن كعب القرظي قال: حدثنا ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن(9/258)
بما في يد الله أوثق مما في يده، ألا أنبئكم بشراركم؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده، أفأنبئكم بشر من هذا؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنبا، ثم قال: ألا أنبئكم بشر من هذا؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
مَنْ لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، إن عيسى بن مريم قام في بنى إسرائيل خطيبا فقال: يا بنى إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموها- وقال مرة فتظلموهم- ولا تظلموا ظالما، ولا تطاولوا ظالما فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بنى إسرائيل الأمور ثَلَاثَةٌ، أَمْرٌ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ، وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غيه فاجتنبوه، وامر اختلف فيه فردوه إلى الله» . وهذه الألفاظ لا تحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس، وقد روى أول الحديث إلى ذكر عيسى من غير طريقه، وسيأتي أن هذا الحديث تفرد به الطبراني بطوله وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ] [1] وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو نَضْرَةَ الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قِطْعَةَ الْعَبْدِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَمِائَةٍ
فَفِيهَا عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْدَمَ إِلَى الْحَجِّ، فَأَقْبَلَ مِنْهَا فِي رَمَضَانَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ الْحَكَمَ بْنَ عَوَانَةَ الْكَلْبِيَّ، وَاسْتَنَابَ هِشَامٌ عَلَى خُرَاسَانَ أَشْرَسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ، وَكَانَ أَشْرَسُ فَاضِلًا خَيِّرًا، وَكَانَ سمى الْكَامِلَ لِذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الْمُرَابِطَةَ بخراسان، واستعمل المرابطة عبد الملك بن زياد الْبَاهِلِيَّ، وَتَوَلَّى هُوَ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ كَبِيرَهَا وَصَغِيرَهَا، ففرح بها أَهْلُهَا. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ أمير الحرمين.
سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا قَاتَلَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَلِكَ التُّرْكِ الأعظم خاقان، فزحف إلى مسلمة فِي جُمُوعٍ عَظِيمَةٍ فَتَوَاقَفُوا نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، ثم هزم الله خاقان زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَرَجَعَ مَسْلَمَةُ سَالِمًا غَانِمًا، فَسَلَكَ عَلَى مَسْلَكِ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الشام، وتسمى هذه الغزاة غُزَاةُ الطِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَلَكُوا عَلَى مَغَارِقَ وَمَوَاضِعَ غَرَقٍ فِيهَا دَوَابُّ كَثِيرَةٌ، وَتَوَحَّلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَمَا نَجَوْا حَتَّى قَاسَوْا شَدَائِدَ وأهوالا صعابا وشدائد عِظَامًا، وَفِيهَا دَعَا أَشْرَسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِسَمَرْقَنْدَ وَمَنْ وراء النهر إلى الدخول في الإسلام، ويضع عنهم الجزية فأجابوه إلى ذلك، وأسلم غالبهم، ثم طالبهم
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/259)
بِالْجِزْيَةِ فَنَصَبُوا لَهُ الْحَرْبَ وَقَاتَلُوهُ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرْكِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، أَطَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَسْطَهَا وَشَرْحَهَا فَوْقَ الْحَاجَةِ. وَفِيهَا أَرْسَلَ أمير المؤمنين هشام بن عُبَيْدَةَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ مُتَوَلِّيًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ جَهَّزَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ فِي جَيْشٍ فَالْتَقَوْا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا بِطْرِيقَهُمْ وَانْهَزَمَ بِاقِيهِمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا. وفيها افتتح مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ حِصْنَيْنِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَغَنِمَ غَنَائِمَ جَمَّةً. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَلَى الْعِرَاقِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ، وَعَلَى خراسان أشرس السُّلَمِيُّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَرِيرٌ الشَّاعِرُ
وَهُوَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفَى وَيُقَالُ ابن عَطِيَّةَ بْنِ الْخَطَفَى وَاسْمُ الْخَطَفَى حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ طابخة بن الياس ابن مضر بن نزار، أبو حرزة الشَّاعِرُ الْبَصْرِيُّ، قَدِمَ دِمَشْقَ مِرَارًا، وَامْتَدَحَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ وَوَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ فِي عَصْرِهِ من الشعراء الذين يقارنونه الْفَرَزْدَقُ وَالْأَخْطَلُ، وَكَانَ جَرِيرٌ أَشْعَرَهُمْ وَأَخْيَرَهُمْ، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَشْعَرُ الثَّلَاثَةِ، قَالَ ابْنُ دريد ثنا الاشناندانى ثنا الثوري عن أبى عبيدة عن عثمان البنيّ قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرًا وَمَا تُضَمُّ شَفَتَاهُ مِنَ التسبيح، فقلت: وما ينفعك هذا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّه وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وللَّه الْحَمْدُ إِنَّ الحسنات يذهبن السيئات، وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخْلُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَمْتَدِحُهُ بِقَصِيدَةٍ وَعِنْدَهُ الشُّعَرَاءُ الثَّلَاثَةُ، جَرِيرٌ وَالْفَرَزْدَقُ وَالْأَخْطَلُ، فَلَمْ يَعْرِفْهُمُ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ عَبْدُ الملك للأعرابى: هل تعرف أهجى بيت قالته العرب فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَوْلُ جَرِيرٍ:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ أَمْدَحَ بَيْتٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحٍ
فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ أَرَقَّ بَيْتٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَوْلُ جَرِيرٍ:
إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا مَرَضٌ ... قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلَانَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ بِهِ ... وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكَانًا
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ جَرِيرًا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَإِنِّي إِلَى رُؤْيَتِهِ لَمُشْتَاقٌ، قَالَ: فَهَذَا جَرِيرٌ وَهَذَا الفرزدق وهذا الأخطل، فَأَنْشَأَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: -(9/260)
فَحَيَّا الْإِلَهُ أَبَا حَرْزَةٍ ... وَأَرْغَمَ أَنْفَكَ يَا أخطل
وجدّ الفرزدق اتعس به ... ورق خَيَاشِيمَهُ الْجَنْدَلُ
فَأَنْشَأَ الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
يَا أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفًا أَنْتَ حَامِلُهُ ... يَا ذَا الْخَنَا وَمَقَالِ الزُّورِ وَالْخَطَلِ
مَا أَنْتَ بِالْحَكَمِ التُّرْضَى حُكُومَتُهُ ... وَلَا الْأَصِيلِ وَلَا ذِي الرَّأْيِ وَالْجَدَلِ
ثُمَّ أَنْشَأَ الْأَخْطَلُ يَقُولُ: -
يَا شَرَّ مَنْ حَمَلَتْ سَاقٌ عَلَى قَدَمٍ ... مَا مِثْلُ قَوْلِكَ فِي الْأَقْوَامِ يُحْتَمَلُ
إِنَّ الْحُكُومَةَ لَيْسَتْ فِي أَبِيكَ وَلَا ... فِي مَعْشَرٍ أَنْتَ مِنْهُمْ إِنَّهُمْ سفل
فقام جرير مغضبا وقال: -
أَتَشْتُمَانِ سَفَاهًا خَيْرَكُمْ حَسَبًا ... فَفِيكُمَا- وَإِلَهِي- الزُّورُ وَالْخَطَلُ
شَتَمْتُمَاهُ عَلَى رَفْعِي وَوَضْعِكُمَا ... لَا زِلْتُمَا فِي سَفَالٍ أَيُّهَا السَّفَلُ
ثُمَّ وَثَبَ جَرِيرٌ فَقَبَّلَ رَأْسَ الْأَعْرَابِيِّ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جائزتي له، وكانت خمسة آلاف، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَلَهُ مِثْلُهَا مِنْ مَالِي، فَقَبَضَ الْأَعْرَابِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَخَرَجَ. وَحَكَى يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ أَنَّ جَرِيرًا دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ وَفْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ فَأَنْشَدَهُ مَدِيحَهُ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ نَاقَةٍ وَثَمَانِيَةً مِنَ الرعاء أَرْبَعَةً مِنَ النُّوبَةِ وَأَرْبَعَةً مِنَ السَّبْيِ الَّذِينَ قَدِمَ بِهِمْ مِنَ الصُّغْدِ قَالَ جَرِيرٌ: وَبَيْنَ يدي عبد الملك جامان مِنْ فِضَّةٍ قَدْ أُهْدِيَتْ لَهُ، وَهُوَ لَا يَعْبَأُ بِهَا شَيْئًا، فَهُوَ يَقْرَعُهَا بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَحْلَبَ، فَأَلْقَى إلى واحدا مِنْ تِلْكَ الْجَامَاتِ، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْحَجَّاجِ أعجبه إكرام أمير المؤمنين له فأطلق الحجاج لَهُ خَمْسِينَ نَاقَةً تَحْمِلُ طَعَامًا لِأَهْلِهِ.
وَحَكَى نِفْطَوَيْهِ أَنَّ جَرِيرًا دَخَلَ يَوْمًا عَلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ وَعِنْدَهُ الْأَخْطَلُ، فَقَالَ بِشْرٌ لِجَرِيرٍ:
أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: لَا، وَمَنْ هَذَا أَيُّهَا الْأَمِيرُ؟ فَقَالَ: هَذَا الْأَخْطَلُ، فَقَالَ الْأَخْطَلُ: أَنَا الّذي قذفت عِرْضَكَ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَآذَيْتُ قَوْمَكَ، فَقَالَ جَرِيرٌ: أَمَّا قَوْلُكَ شَتَمْتُ عِرْضَكَ فَمَا ضَرَّ الْبَحْرَ أَنْ يَشْتُمَهُ مَنْ غَرِقَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، فَلَوْ تَرَكْتَنِي أَنَامُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ، وَأَمَّا قَوْلُكَ وَآذَيْتُ قَوْمَكَ فَكَيْفَ تُؤْذِي قَوْمًا أَنْتَ تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ إِلَيْهِمْ؟ وَكَانَ الْأَخْطَلُ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَ مثواه، وهو الّذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سيف ودم مهراق(9/261)
وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا، فإنه إنما يقال استوى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نفسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفَدَ إِلَيْهِ الشُّعَرَاءُ فَمَكَثُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ، فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ: -
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ ... هَذَا زَمَانُكَ فَاسْتَأْذِنْ لنا عمرا
فدخل ولم يذكر لعمر مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا، فَمَرَّ بِهِمْ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ مُنْشِدًا:
يَا أَيُّهَا الراكب المرخى مَطِيَّتَهُ ... هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ مَضَى زَمَنِي
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إِنْ كُنْتَ لَاقِيَهُ ... أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
لَا تَنْسَ حَاجَتَنَا لَاقَيْتَ مَغْفِرَةً ... قَدْ طَالَ مُكْثِيَ عَنْ أَهْلِي وَعَنْ وَطَنِي
فَدَخَلَ عَدِيٌّ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الشُّعَرَاءُ بِبَابِكَ وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ وَأَقْوَالُهُمْ نَافِذَةٌ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يا عدي، ما لي وَلِلشُّعَرَاءِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَسْمَعُ الشِّعْرَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ مَدْحَهُ فَأَعْطَاهُ حُلَّةً، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَرْوِي مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَنْشَدَهُ: -
رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا ... نَشَرْتَ كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلَمَا
شَرَعْتَ لَنَا دِينَ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا ... عَنِ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا
وَنَوَّرْتَ بِالْبُرْهَانِ أَمْرًا مُدَلَّسًا ... وَأَطْفَأْتَ بِالْقُرْآنِ نَارًا تَضَرَّمَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا كَانَ قَدَّمَا
أَقَمْتَ سَبِيلَ الْحَقِّ بَعْدَ اعْوِجَاجِهِ ... وَكَانَ قَدِيمًا رُكْنُهُ قَدْ تَهَدَّمَا
تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إِلَهُنَا ... وكان مكان الله أعلا وأعظما
فقال عمر: مَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، فَقَالَ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
ثُمَّ نَبَّهْتُهَا فَهَبَّتْ كِعَابًا ... طَفْلَةٌ مَا تَبِينُ رَجْعَ الكلام(9/262)
ساعة ثم إنها بعد قالت ... ويلنا قَدْ عَجِلْتَ يَا ابْنَ الْكِرَامِ
أَعَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ جِئْتَ تُسْرِي ... تَتَخَطَّى إِلَى رُءُوسِ النِّيَامِ
ما تجشمت ما تريد من الأمر ... ولا حيت طَارِقًا لِخِصَامِ
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ إِذْ فَجَرَ كَتَمَ وَسَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَدْخُلُ وَاللَّهِ أَبَدًا، فَمَنْ بِالْبَابِ سِوَاهُ؟ قَالَ:
هَمَّامُ بن غالب- يعنى الفرزدق- فقال عمر: أو ليس هو الّذي يقول في شعره:
هما دليانى مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً ... كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ
فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ بِالْأَرْضِ قَالَتَا ... أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ
لَا يَطَأُ وَاللَّهِ بِسَاطِي وَهُوَ كَاذِبٌ، فَمَنْ سِوَاهُ بِالْبَابِ؟ قال: الأخطل، قال: أو ليس هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانَ طَوْعًا ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيسا بكور ... إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْتُ بِزَائِرٍ بَيْتًا بَعِيدًا ... بِمَكَّةَ أَبْتَغِي فِيهِ صَلَاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كَالْعَيْرِ أَدْعُو ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا ... وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ كَافِرٌ أَبَدًا، فَهَلْ بِالْبَابِ سِوَى مَنْ ذَكَرْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ الْأَحْوَصُ، قَالَ:
أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا ... يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتْبَعُهُ
فَمَا هُوَ دُونَ مَنْ ذَكَرْتَ، فَمَنْ هَاهُنَا غَيْرُهُ؟ قَالَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: الَّذِي يَقُولُ: -
أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ ... يوافق في الموتى خريجى خريجها
فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ ... إِذَا قِيلَ قَدْ سُوِّيَ عَلَيْهَا صَفِيحُهَا
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا لِيَعْمَلَ بذلك صالحا ويتوب، وَاللَّهِ لَا يُدْخِلُ عَلَيَّ أَبَدًا، فَهَلْ بِالْبَابِ أحد سوى ذلك؟ قلت: جَرِيرٌ، قَالَ أَمَا إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ:
طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا ... حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَأْذَنْ لِجَرِيرٍ، فأذن له فدخل على عمر وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ
وَسِعَ الْخَلَائِقَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ ... حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ
إِنِّي لَأَرْجُوَ مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلًا ... وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ العاجل
فقال له: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ، اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَقُولُ، ثُمَّ إِنَّ جَرِيرًا اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْإِنْشَادِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَلَمْ(9/263)
يَنْهَهُ، فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً طَوِيلَةً يَمْدَحُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ لَا أَرَى لَكَ فيما هَاهُنَا حَقًّا، فَقَالَ: إِنِّي مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، قال: إنا ولينا هذا الأمر ونحن لا تملك إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَخَذَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ مِائَةً وَابْنُهَا مِائَةً وَقَدْ بَقِيَتْ مِائَةٌ، فَأَمَرَ له بها، فخرج عَلَى الشُّعَرَاءِ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا جَرِيرُ؟ فَقَالَ:
مَا يَسُوءُكُمْ، خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ ... وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الْجِنِّ رَاقِيَا
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَا حَكَاهُ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ قَالَتْ جَارِيَةٌ لِلْحَجَّاجِ بْنِ يوسف: إِنَّكَ تُدْخِلُ هَذَا عَلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّهُ مَا علمت عَفِيفًا، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَلَيْتِنِي وَإِيَّاهُ سَتَرَى مَا يَصْنَعُ، فَأَمَرَ بِإِخْلَائِهَا مَعَ جَرِيرٍ في مكان يراهما الحجاج ولا يريانه، وَلَا يَشْعُرُ جَرِيرٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ:
يَا جَرِيرُ، فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: هَا أَنَا ذَا، فَقَالَتْ: أَنْشِدْنِي مِنْ قَوْلِكَ كَذَا وكذا- لشعر فيه رقة- فَقَالَ:
لَسْتُ أَحْفَظُهُ وَلَكِنْ أَحْفَظُ كَذَا وَكَذَا- وَيُعْرِضُ عَنْ ذَاكَ وَيُنْشِدُهَا شِعْرًا فِي مَدْحِ الحجاج- فقالت:
لست أريد هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا- فَيُعْرِضُ عَنْ ذَاكَ وَيُنْشِدُهَا شِعْرًا فِي مَدْحِ الْحَجَّاجِ- فَقَالَتْ:
لست أريد هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا فَيُعْرِضُ عَنْ ذاك وينشدها في الْحَجَّاجِ- حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: للَّه دَرُّكَ، أَبَيْتَ إِلَّا كَرَمًا وَتَكَرُّمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَنْشَدْتُ أَعْرَابِيًّا بَيْتًا لِجَرِيرٍ الْخَطَفَى:
أَبُدِّلَ اللَّيْلُ لَا تَجْرِي كَوَاكِبُهُ ... أَوْ طَالَ حَتَّى حَسِبْتُ النَّجْمَ حَيْرَانَا
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنَّ هَذَا حَسَنٌ فِي مَعْنَاهُ وَأَعُوذُ باللَّه مِنْ مِثْلِهِ، وَلَكِنِّي أَنْشُدُكَ فِي ضِدِّهِ مِنْ قَوْلِي
وَلَيْلٍ لَمْ يُقَصِّرْهُ رُقَادٌ ... وَقَصَّرَهُ لَنَا وَصْلُ الْحَبِيبِ
نَعِيمُ الْحُبِّ أَوْرَقَ فِيهِ ... حَتَّى تَنَاوَلْنَا جَنَاهُ مِنْ قِرِيبِ
بِمَجْلِسِ لَذَّةٍ لَمْ نَقْفِ فِيهِ ... عَلَى شكوى ولا عيب الذنوب
فخشينا أَنْ نُقَطِّعَهُ بِلَفْظٍ ... فَتَرْجَمَتِ الْعُيونُ عَنِ الْقُلُوبِ [1]
فَقُلْتُ لَهُ: زِدْنِي، قَالَ: أَمَّا مِنْ هَذَا فَحَسْبُكَ وَلَكِنْ أُنْشِدُكَ غَيْرَهُ فَأَنْشَدَنِي:
وَكُنْتُ إِذَا عَقَدْتُ حِبَالَ قَوْمٍ ... صَحِبْتُهُمْ وَشِيمَتِيَ الْوَفَاءُ
فَأُحْسِنُ حِينَ يُحْسِنُ مُحْسِنُوهُمْ ... وَأَجْتَنِبُ الْإِسَاءَةَ إِنْ أَسَاءُوا
أَشَاءُ سِوَى مَشِيئَتِهِمْ فَآتِي ... مَشِيئَتَهُمْ وَأَتْرُكُ مَا أَشَاءُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ جَرِيرٌ أَشْعَرَ مِنَ الْفَرَزْدَقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَهُ جَرِيرٌ:
إِذَا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ حَسِبْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ غِضَابَا قَالَ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ: مَنْ أَشْعَرُ النَّاسِ؟ فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَدْخَلَهُ عَلَى ابنه، وإذا هو يرتضع من ثدي
__________
[1] في هذه الأبيات تحريف، ولم نقف عليها في مرجع آخر.(9/264)
عَنْزٍ، فَاسْتَدْعَاهُ فَنَهَضَ وَاللَّبَنُ يَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ جَرِيرٌ لِلَّذِي سَأَلَهُ: أَتُبْصِرُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
أَتَعْرِفُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَذَا أَبِي، وَإِنَّمَا يَشْرَبُ مِنْ ضَرْعِ الْعَنْزِ لِئَلَّا يَحْلِبَهَا فَيَسْمَعَ جِيرَانُهُ حِسَّ الْحَلْبِ فَيَطْلُبُوا مِنْهُ لَبَنًا، فَأَشْعُرُ النَّاسِ مَنْ فَاخَرَ بِهَذَا ثَمَانِينَ شَاعِرًا فَغَلَبَهُمْ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ جَرِيرٍ وَالْفَرَزْدَقِ مُقَاوَلَاتٌ وَمُهَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ مَاتَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، قَالَهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ خَلِيفَةُ: مَاتَ الْفَرَزْدَقُ وَجَرِيرٌ بَعْدَهُ بِأَشْهُرٍ، وَقَالَ الصُّولِيُّ: مَاتَا فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ الْفَرَزْدَقُ قبل جرير بأربعين يوما، وقال الكريمي عَنِ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَى رَجُلٌ جَرِيرًا فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي، فَقِيلَ: بِمَاذَا؟ قَالَ بِتَكْبِيرَةٍ كَبَّرْتُهَا بِالْبَادِيَةِ، قِيلَ لَهُ: فَمَا فَعَلَ الْفَرَزْدَقُ؟ قَالَ أَيْهَاتِ أَهْلَكَهُ قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ لَمْ يَدَعْهُ فِي الحياة ولا في الممات
وأما الفرزدق
واسمه هَمَّامُ بْنُ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنُ نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مجاشع بن دارم بن حنظلة بن زيد بن مناة بْنِ مُرِّ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ أَبُو فِرَاسِ بْنُ أَبِي خَطَلٍ التَّمِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْفَرَزْدَقِ، وَجَدُّهُ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ صَحَابِيٌّ، وَفْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَدَّثَ الفرزدق عن على أنه ورد مَعَ أَبِيهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ ابني وهو شاعر، قال علمه القراءة فهو خير له من الشعر. وسمع الفرزدق الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَرَآهُ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْعِرَاقِ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَعَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ، وَزُرَارَةَ بْنَ كَرْبٍ، وَالطِّرَمَّاحَ بْنَ عَدِيٍّ الشَّاعِرَ، وَرَوَى عَنْهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ وَمَرْوَانُ الأصغر وَحَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ الْأَحْوَلُ، وَجَمَاعَةٌ، وَقَدْ وَفَدَ على معاوية يطلب ميراث عنه الحباب، وَعَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَلَى أَخِيهِ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، وَقَالَ أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الله عَنِ الْفَرَزْدَقِ قَالَ نَظَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى قَدَمِي فَقَالَ: يَا فَرَزْدَقُ إِنِّي أَرَى قَدَمَيْكَ صغيرين فَاطْلُبْ لَهُمَا مَوْضِعًا فِي الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ: إِنَّ ذنوبي كثيرة، فقال: لا بأس فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْفَرَزْدَقِ فَتَحَرَّكَ فَإِذَا فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ:
حَلَفْتُ أَنْ لَا أَنْزِعَهُ حَتَّى أَحْفَظَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْتُ بَدَوِيًّا أَقَامَ بِالْحَضَرِ إِلَّا فَسَدَ لِسَانُهُ إِلَّا رُؤْبَةَ بْنَ الْعَجَّاجِ وَالْفَرَزْدَقَ فَإِنَّهُمَا زَادَا عَلَى طُولِ الاقامة جدة وحدة، وقال راويته أبو شفعل طَلَّقَ الْفَرَزْدَقُ امْرَأَتَهُ النَّوَارَ ثَلَاثًا ثُمَّ جَاءَ فَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى طَلَاقِهَا وَإِشْهَادِهِ الْحَسَنَ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْشَأَ يقول: -
فَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ يَدِي وَقَلْبِي ... لَكَانَ عَلَيَّ للقدر الخيار(9/265)
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا ... غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ
وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا ... كَآدَمَ حِينَ أخرجه الضرار
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمَّا مَاتَتِ النَّوَارُ بِنْتُ أَعْيَنَ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْمُجَاشِعِيُّ امْرَأَةُ الْفَرَزْدَقِ- وَكَانَتْ قَدْ أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا الْحَسَنُ البصري- فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فَقَالَ الْحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ: مَاذَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ شَهِدَ هَذِهِ الْجِنَازَةَ الْيَوْمَ خَيْرُ النَّاسِ- يعنونك- وشر النَّاسِ- يَعْنُونِي- فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا فِرَاسٍ لست أنا بخير الناس ولست أنت بِشَرِّ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَةً، فَلَمَّا أَنْ صَلَّى عَلَيْهَا الْحَسَنُ مَالُوا إِلَى قَبْرِهَا فَأَنْشَأَ الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِي ... أَشَدَّ مِنَ الْقَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا
إِذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ ... عَنِيفٌ وَسَوَّاقٌ يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد دارم مَنْ مَشَى ... إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلَادَةِ أَزْرَقَا
يساق إلى نار الجحيم مسر بلا ... سَرَابِيلَ قَطْرَانٍ لِبَاسًا مُخَرَّقَا
إِذَا شَرِبُوا فِيهَا الصَّدِيدَ رَأَيْتَهُمْ ... يَذُوبُونَ مِنْ حَرِّ الصَّدِيدِ تَمَزُّقَا
قَالَ: فَبَكَى الْحَسَنُ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى ثُمَّ الْتَزَمَ الْفَرَزْدَقَ، وَقَالَ: لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إلى. وقال له بعض الناس: أَلَا تَخَافُ مِنَ اللَّهِ فِي قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ للَّه أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أُبْصِرُ بِهِمَا، فَكَيْفَ يُعَذِّبُنِي؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ قَبْلَ جَرِيرٍ بأربعين يوما، وقيل بأشهر فاللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْحَسَنُ وَابْنُ سَيْرَيْنَ فَقَدْ ذَكَرْنَا ترجمة كل منهما في كتابنا التكميل مبسوطة وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
فَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ أبى الحسن
فاسم أبيه يسار وأبرد هو أَبُو سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَيُقَالُ مَوْلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ غير ذلك، وأمه خيرة مولاة لأم سلمة كانت تخدمها، وربما أَرْسَلَتْهَا فِي الْحَاجَةِ فَتَشْتَغِلُ عَنْ وَلَدِهَا الْحَسَنِ وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها فيدران عليه فيرتضع منهما، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ وَالْعُلُومَ الَّتِي أُوتِيَهَا الْحَسَنُ مِنْ بَرَكَةِ تِلْكَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الثَّدْيِ الْمَنْسُوبِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَانَ وَهُوَ صَغِيرٌ تُخْرِجُهُ أُمُّهُ إِلَى الصَّحَابَةِ فَيَدْعُونَ لَهُ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَدْعُو لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: اللَّهمّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَحَبِّبْهُ إِلَى النَّاسِ. وَسُئِلَ مَرَّةً أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهَا مَوْلَانَا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا، وقال أنس مُرَّةَ: إِنِّي لَأَغْبِطُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بِهَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ- الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ- وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا جَالَسْتُ رَجُلًا فَقِيهًا إِلَّا رَأَيْتُ فَضْلَ الْحَسَنِ عَلَيْهِ،(9/266)
وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَتْ عَيْنَايَ أَفْقَهَ مِنَ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَيُّوبُ: كَانَ الرَّجُلُ يُجَالِسُ الْحَسَنَ ثَلَاثَ حِجَجٍ مَا يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ هَيْبَةً لَهُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لِرَجُلٍ يُرِيدُ قُدُومَ الْبَصْرَةِ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَى رَجُلٍ أَجْمَلِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وأهيبهم فهو الحسن، فأقرأه مِنِّي السَّلَامَ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْحَسَنِ انْتَفَعَ بِهِ وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه، وَقَالَ الْأَعْمَشُ: مَا زَالَ الْحَسَنُ يَعِي الْحِكْمَةَ حَتَّى نَطَقَ بِهَا، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ: ذَاكَ الَّذِي يُشْبِهُ كَلَامُهُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: قَالُوا كَانَ الْحَسَنُ جَامِعًا لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، عَالِمًا رَفِيعًا فَقِيهًا ثقة مأمونا عابدا زاهدا نَاسِكًا كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَصِيحًا جَمِيلًا وَسِيمًا، وقدم مكة فأجلس على سرير، وجلس العلماء حوله، واجتمع الناس إليه فحدثهم. قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: مَاتَ الْحَسَنُ عَنْ ثَمَانٍ وثمانين سنة، عام عشر ومائة في رَجَبٍ مِنْهَا، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِائَةُ يَوْمٍ.
وَأَمَّا ابْنُ سِيرِينَ
فَهُوَ مُحَمَّدُ بن سيرين أبو بكر بن أبى عمرو الْأَنْصَارِيُّ مَوْلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ النَّضْرِيِّ، كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ، أَسَرَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي جُمْلَةِ السَّبْيِ، فَاشْتَرَاهُ أَنَسٌ ثُمَّ كَاتَبَهُ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ الْأَخْيَارِ جَمَاعَةٌ، مُحَمَّدٌ هَذَا، وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، وَمَعْبَدٌ وَيَحْيَى وَحَفْصَةُ وَكَرِيمَةُ، وَكُلُّهُمْ تَابِعِيُّونَ ثقات أَجِلَّاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وُلِدَ مُحَمَّدٌ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: هُوَ أَصْدَقُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْبَشَرِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا عَالِمًا رَفِيعًا فَقِيهًا إِمَامًا كَثِيرَ الْعِلْمِ ورعا، وكان به صمم، وقال مؤرق الْعِجْلِيُّ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَفْقَهَ فِي وَرَعِهِ، وأورع في فقهه منه، قال ابْنُ عَوْنٍ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَرْجَى الناس لهذه الأمة، وأشد الناس إزارا على نفسه، وأشدهم خوفا عليها. قال ابن عون: ما بكى فِي الدُّنْيَا مِثْلَ ثَلَاثَةٍ، مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ في العراق، والقاسم بن محمد في الحجاز، وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ بِالشَّامِ. وَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى حُرُوفِهِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِذَاكَ الْأَصَمِّ- يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ- وَقَالَ ابْنُ شوذب: ما رأيت أحدا أجرأ على تعبير الرؤيا مِنْهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَمْ يَكُنْ بِالْبَصْرَةِ أَعْلَمُ بِالْقَضَاءِ مِنْهُ. قَالُوا: وَمَاتَ فِي تَاسِعِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الْحَسَنِ بِمِائَةِ يوم
فصل
كان اللائق، بالمؤلف أن يذكر تراجم هؤلاء العلماء الأخيار قبل تراجم الشعراء المتقدم ذكرهم فيبدأ بهم ثم يأتى بتراجم الشعراء، وأيضا فإنه أطال القول في تراجم الشعراء واختصر تراجم العلماء، ولو كان فيها حسن وحكم جمة ينتفع بها من وقف عليها، ولعلها أفيد من مدحهم والثناء عليهم، ولا سيما(9/267)
كلام الحسن وابن سيرين ووهب بن منبه- كما ذكره بعد وكما سيأتي ذكر ترجمته في هذه الزيادة- فإنه قد اختصرها جدا وإن المؤلف أقدر وأوسع علما، فما ينبغي أن يخل ببعض كلامهم وحكمهم، فان النفوس مستشرفة إلى معرفة ذلك والنظر فيه، فان أقوال السلف لها موقع من القلوب، والمؤلف غالبا في التراجم يحيل على ما ذكره في التكميل الّذي صنفه في أسماء الرجال، وهذا الكتاب لم نقف عليه نحن ولا من سألناه عنه من العلماء، فانا قد سألنا عنه جماعة من أهل الفن فلم يذكر غير واحد أنه اطلع عليه، فكيف حال غيرهم.؟ وقد ذكرت في غالب التراجم زيادات على ما ذكره المؤلف مما وصلت إليه معرفتي وأطلعنا عليه، ولو كان عندي كتب لأشبعت القول في ذلك، إذ الحكمة هي ضالة المؤمن. ولعل أن يقف على هذا راغب في الآخرة، طالب ما عند الله عز وجل فينتفع به أعظم مما ينتفع به من تراجم الخلف والملوك والأمراء، وإن كانت تلك أيضا نافعة لمتعير ومزدجر، فان ذكر أئمة العدل والجور بعد موتهم فيها فضل أولئك، وغم هؤلاء، ليعلم الظالم أنه وإن مات لم يمت ما كان متلبسا به من الفساد والظلم، بل هو مدون في الكتب عند العلماء. وكذلك أهل العدل والصلاح والخير، فان الله قد قص في القرآن أخبار الملوك والفراعنة والكفار والمفسدين، تحذيرا من أحوالهم وما كانوا يعملون، وقص أيضا أخبار الأتقياء والمحسنين والأبرار والأخيار والمؤمنين، للاقتداء والتأسي بهم والله سبحانه أعلم. فنقول وباللَّه التوفيق:
أما الحسن
فهو أبو سعيد البصري الامام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الأجلاء علما وعملا وإخلاصا فروى ابن أبى الدنيا عنه قال: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم يصلى ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره، وإن كان القوم ليجتمعون فيتذاكرون فتجيء الرجل عبرته فيردها ما استطاع، فان غلب قام عنهم. وقال الحسن: تنفس رجل عند عمر بن عبد العزيز فلكزه عمر- أو قال: لكمه- وقال: إن في هذا لفتنة. وقد ذكره ابن أبى الدنيا عن الحسن عن عمر بن الخطاب. وروى الطبراني عنه أنه قال: إن قوما ألهتهم أمانى المغفرة ورجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة، يقول أحدهم: إني لحسن الظن باللَّه، وأرجو رحمة الله، وكذب، لو أحسن الظن باللَّه لأحسن العمل للَّه، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة من غير زاد ولا ماء أن يهلك. وروى ابن أبى الدنيا عنه قال: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقذعوا هذه لأنفس فإنها تنزع إلى شر غاية.
وقال مالك بن دينار: قلت للحسن: ما عقوبة العالم إذا أحب الدنيا؟ قال: موت القلب، فإذا أحب الدنيا طلبها بعمل الآخرة، فعند ذلك ترحل عنه بركات العلم ويبقى عليه رسمه. وروى الفتنى.
عن أبيه قال: عاد الحسن عليلا فوجده قد شفى من علته، فقال: أيها الرجل إن الله قد ذكرك(9/268)
فاذكره، وقد أقالك فاشكره، ثم قال الحسن: إنما المرض ضربة سوط من ملك كريم، فأما أن يكون العليل بعد المرض فرسا جوادا، وإما أن يكون حمارا عثورا معقورا. وروى العتبى عن أبيه أيضا قال: كتب الحسن إلى فرقد:
أما بعد فانى أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله، والاستعداد لما وعد الله، مما لا حيلة لأحد في دفعه، ولا ينفع الندم عند نزوله، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الجاهلين، وشمر الساق، فان الدنيا ميدان مسابقة، والغاية الجنة أو النار، فان لي ولك من الله مقاما يسألنى وإياك فيه عن الحقير والدقيق، والجليل والخافى، ولا آمن أن يكون فيما يسألنى وإياك عنه وساوس الصدور، ولحظ العيون، وإصغاء الأسماع. وما أعجز عنه.
وروى ابن قتيبة عنه أنه مر على باب ابن هبيرة فرأى القراء- وكانوا هم الفقهاء- جلوسا على باب ابن هبيرة فقال: طفحتم نعالكم، وبيضتم ثيابكم. ثم أتيتم إلى أبوابهم تسعون؟ ثم قال لأصحابه:
ما ظنكم بهؤلاء الحذاء؟ ليست مجالسهم من مجالس الأتقياء، وإنما مجالسهم مجالس الشرط.
وروى الخرائطى عن الحسن أنه كان إذا اشترى شيئا وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه. ومر الحسن بقوم يقولون: نقص دانق أي عن الدرهم الكامل والدينار الكامل- إما أن يكون درهما ينقص نصفا أو ربعا، والعشرة تسعة ونصف، وقس على هذا، فكان الحسن يستحب جبران هذه الأشياء، وإن كان اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقا كمله درهما، أو بتسعة ونصف كملها عشرة، مروءة وكرما. وقال عبد الأعلى السمسار، قال الحسن: يا عبد الأعلى! أما يبيع أحدكم الثوب لأخيه فينقص درهمين أو ثلاثة؟ قلت لا والله ولا دانق واحد، فقال الحسن: إن هذه الأخلاق فما بقي من المروءة إذا؟. قال: وكان الحسن يقول: لا دين إلا بمروءة. وباع بغلة له فقال له المشترى: أما تحط لي شيئا يا أبا سعيد؟ قال لك خمسون درهما، أزيدك؟ قال: لا! رضيت، قال: بارك الله لك.
وروى ابن أبى الدنيا عن حمزة الأعمى قال: ذهبت بى أمى إلى الحسن فقالت: يا أبا سعيد:
ابني هذا قد أحببت أن يلزمك فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنت أختلف إليه، فقال لي يوما:
يا بنى أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابك في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين، قال: وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكى، وربما جئت إليه وهو يصلى فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوما: إنك تكثر البكاء فقال يا بنى! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبك؟ يا بنى إن البكاء داع إلى الرحمة، فان استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار، وقال: ما هو إلا حلول الدار إما الجنة وإما النار، ما هناك منزل ثالث. وقال: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر من دموعه(9/269)
قطرة حتى تعتق رقبته من النار. وقال: لو أن باكيا بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعا، وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوّم الله بالدمعة منه شيئا. وقال: ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب.
وروى ابن أبى الدنيا عنه في كتاب اليقين قال: من علامات المسلم قوة دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحبس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة، لا ترديه رغبته، ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يغلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته. كذا ذكر هذه الألفاظ عنه [1] . قال: حدثنا عبد الرحمن ابن صالح عن الحكم بن ظهير عن يحيى بن المختار عن الحسن فذكره، وقال فيه أيضا عنه: يا ابن آدم إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يدي الله عز وجل وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إبراهيم اليشكري حدثنا موسى بن إسماعيل الجيلي حدثنا حفص بن سليمان أبو مقاتل عن عون بن أبى شداد عن الحسن قال قال لقمان لابنه: يا بنى!! العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله. وقال: يا بنى إذا جاءك الشيطان من قبل الشك والريب فاغلبه باليقين والنصيحة، وإذا جاءك من قبل الكسل والسآمة فاغلبه بذكر القبر والقيامة، وإذا جاءك من قبل الرغبة والرهبة فأخبره أن الدنيا مفارقة متروكة. وقال الحسن: ما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا خشع وذبل واستقام واقتصد حتى يأتيه الموت. وقال: باليقين طلبت الجنة، وباليقين هربت من النار، وباليقين أديت الفرائض على أكمل وجهها، وباليقين أصبر على الحق وفي معافاة الله خير كثير، قد والله رأيناهم يتعاونون في العافية، فإذا نزل البلاء تفارقوا. وقال:
الناس في العافية سواء، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال. وفي رواية: فإذا نزل البلاء تبين من يعبد الله وغيره، وفي رواية فإذا نزل البلاء سكن المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه.
وقال الفريابي في فضائل القرآن: حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، لم يأتوا الأمر من قبل أوله، قال الله عز وجل: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ 38: 29 وما تدبر آياته إلا أتباعه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقط منه حرفا واحدا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى ان أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة في نفس، لا والله ما هؤلاء بالقراءة ولا بالعلماء ولا الحكماء
__________
[1] كذا بالأصل ولم يعين اسم الذاكر.(9/270)
ولا الورعة، ومتى كانت القراءة هكذا أو يقول مثل هذا، لا أكثر الله في الناس، مثل هؤلاء. ثم روى الحسن عن جندب قال: قال لنا حذيفة: هل تخافون من شيء؟ قال: قلت والله إنك وأصحابك لأهون الناس عندنا، فقال: أما والّذي نفسي بيده لا تؤتون إلا من قبلنا، ومع ذلك نشئ آخر يقرءون القرآن يكونون في آخر هذه الأمة ينثرونه نثر الدقل، لا يجاوز تراقيهم، تسبق قراءتهم إيمانهم.
وروى ابن أبى الدنيا عنه في ذم الغيبة له قال: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده. وكان يقول: ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الايمان حتى لا تصيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان ذلك شغلك في طاعة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا. وقال الحسن: ليس بينك وبين الفاسق حرمة. وقال:
ليس لمبتدع غيبة. وقال أصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلن بفجوره، ذكرى له بما فيه غيبة؟ قال: لا ولا كرامة. وقال: إذا ظهر فجوره فلا غيبة له. وقال: ثلاثة لا تحرم عليك غيبتهم: المجاهر بالفسق، والامام الجائر، والمبتدع. وقال له رجل: إن قوما يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلا، فقال: هون عليك يا هذا فانى أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلا، فان الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟ وقال: كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يصيب ذلك الذنب. وقال الحسن: قال لقمان لابنه: يا بنى إياك والكذب فإنه شهى كلحم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه. وقال الحسن: اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فان الله عز وجل لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه، فان سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه، فان وافق قول عملا فنعم ونعمت عين أخته وأخيه، وإذا خالف قول عملا فماذا يشبه عليك منه، أم ماذا يخفى عليك منه؟ إياك وإياه لا يخدعنك كما خدع ابن آدم، إن لك قولا وعملا، فعملك أحق بك من قولك، وإن لك سريرة وعلانية، فسريرتك أحق بك من علانيتك، وإن لك عاجلة وعاقبة، فعاقبتك أحق بك من عاجلتك.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ العباس أنبأ عبدان بن عثمان أنبأ معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: إذا شبت لقيت الرجل أبيض حديد اللسان حديد النظر ميت القلب والعمل، أنت أبصر به من نفسه، ترى أبدانا ولا قلوبا، وتسمع الصوت ولا أنيس، أخصب ألسنة وأجدب قلوبا، يأكل أحدهم من غير ماله ويبكى على عماله، فإذا كهضته البطنة قال: يا جارية أو يا غلام ايتني بهاضم، وهل هضمت يا مسكين إلا دينك؟. وقال: من رق ثوبه رق دينه، ومن سمن جسده هزل دينه، ومن طاب طعامه أنتن كسبه. وقال فيما رواه عنه الآجري: رأس مال المؤمن(9/271)
دين حيث ما زال زال معه، لا يخلفه في الرحال، ولا يأتمن عليه الرجال. وقال في قوله تعالى:
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ 75: 2 قال: لا تلقى المؤمن إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمة كذا، ما أردت بأكلة كذا، ما أردت بمجلس كذا، وأما الفاجر فيمضى قدما قدما لا يلوم نفسه. وقال: تصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم، وإنما يصبر على هذا الحق من عرف فضله وعاقبته. وقال: لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته.
وقال ابن أبى الدنيا في محاسبة النفس: حدثنا عبد الله حدثنا إسماعيل بن زكريا حدثنا عبد الله ابن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه للَّه عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على أقوام أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول: والله إنك لمن حاجتي وإني لأشتهيك، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا أبدا إن شاء الله: إن المؤمنين قوم قد أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه، وفي جوارحه كلها. وقال: الرضا صعب شديد، وإنما معول المؤمن الصبر. وقال: ابن آدم عن نفسك فكايس، فإنك إن دخلت النار لم تجبر بعدها أبدا. وقال ابن أبى الدنيا: أنبأ إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت حماد بن زيد يذكر عن الحسن قال: المؤمن في الدنيا كالغريب لا ينافس في غيرها ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل. وقال: لولا البلاء ما كان في أيام قلائل ما يهلك المرء نفسه. وقال: أدركت صدر هذه الأمة وخيارها وطال عمري فيهم، فو الله إنهم كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم للَّه عليكم، أدركتهم عاملين بكتاب ربهم، متبعين سنة نبيهم، ما طوى أحدهم ثوبا، ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا، ولا أمر أهله بصنع طعام، كان أحدهم يدخل منزله فان قرب اليه شيء أكل وإلا سكت فلا يتكلم في ذلك. وقال إن المنافق إذا صلى صلى رياء أو حياء من الناس أو خوفا، وإذا صلى صلى فقرأهم الدنيا، وإن فاتته الصلاة لم يندم عليها ولم يحزنه فواتها.
وقال الحسن فيما رواه عنه صاحب كتاب النكت: من جعل الحمد للَّه على النعم حصنا وحابسا وجعل أداء الزكاة على المال سياجا وحارسا، وجعل العلم له دليلا وسائسا، أمن العطب، وبلغ أعلى الرتب. ومن كان للمال قانصا، وله عن الحقوق حابسا، وشغله وألهاه عن طاعة الله كان لنفسه ظالما(9/272)
ولقلبه بما جنت يداه كالما، وسلط الله على ماله سالبا وخالسا، ولم يأمل العطب في سائر وجوه الطلب وقيل: إن هذا لغيره، والله أعلم.
وقال الحسن: أربع من كنّ فيه ألقى الله عليه محبته. ونشر عليه رحمته: من رق لوالديه، ورق لمملوكه، وكفل اليتيم، وأعان الضعيف. وسئل الحسن عن النفاق فقال: هو اختلاف السر والعلانية والمدخل والمخرج، وقال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق- يعنى النفاق- وحلف الحسن:
ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، وفي رواية: إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: كيف حبك الدينار والدرهم؟ قال: لا أحبهما، فكتب إليه: تولّ فإنك تعدل. وقال إبراهيم بن عيسى: ما رأيت أطول حزنا من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة، وقال مسمع: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق. وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما. وقال ابن أسباط: مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وأربعين سنة لم يمزح. وقال: ما سمع الخلائق بعورة بادية، وعين باكية مثل يوم القيامة. وقال:
ابن آدم! إنك ناظر غدا إلى عملك يوزن خيره وشره، فلا تحقرن شيئا من الشر أن تتقيه، فإنك إذا رأيته غدا في ميزانك سرك [1] مكانه. وقال: ذهبت الدنيا وبقيت أعمالكم قلائد في أعناقكم وقال: ابن آدم! بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا، وهذا مأثور عن لقمان أنه قاله لولده.
وقال الحسن: تجد الرجل قد لبس الأحمر والأبيض وقال: هلموا فانظروا إلى، قال الحسن:
قد رأيناك يا أفسق الفاسقين فلا أهلا بك ولا سهلا، فأما أهل الدنيا فقد اكتسبوا بنظرهم إليك مزيد حرص على دنياهم، وجرأة على شهوات الغنى في بطونهم وظهورهم. وأما أهل الآخرة فقد كرهوك ومقتوك. وقال: إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وزفرت بهم البغال، ووطئت أعقابهم الرجال، إن ذل المعاصي لا يفارق رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وقال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد: ألا يعجبك من محمد بن الأهتم؟ فقال: ما له؟
فقلنا: دخلنا عليه آنفا وهو يجود بنفسه فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق- وأومأ إلى صندوق في جانب بيته- فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار- أو قال: درهم- لم أؤد منها زكاة، ولم أصل منها رحما، ولم يأكل منها [محتاج] . فقلنا: يا أبا عبد الله، فلمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الأقران، وجفوة السلطان. فقال: انظروا من أين أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه،
__________
[1] كذا بالأصل وفيه نقص يظهر بالتأمل.(9/273)
ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه؟ ثم قال: أيها الوارث: لا تخدعن كما خدع صويحبك بالأمس، جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعا منوعا، من باطل جمعه، من حق منعه، ثم قال الحسن: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره فيرزقه الله فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البر، فيجد ماله في ميزان غيره. وكان الحسن يتمثل بهذا البيت في أول النهار يقول:
وما الدنيا بباقية لحي ... ولا حي على الدنيا بباق
وبهذا البيت في آخر النهار:
يسر الفتى ما كان قدم من تقى ... إذا عرف الداء الّذي هو قاتله
ولد الحسن في خلافة عمر بن الخطاب وأتى به إليه فدعا له وحنكه. ومات بالبصرة في سنة عشر ومائة والله سبحانه وتعالى أعلم.
مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عمرو الْأَنْصَارِيُّ، مَوْلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ النَّضْرِيِّ، كَانَ أبوه من سبى عين التمر أسره في جملة السبي خالد بن الوليد فاشتراه أنس ثم كاتبه. وقد ولد له من الْأَخْيَارِ جَمَاعَةٌ، مُحَمَّدٌ هَذَا، وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وكريمة، وكلهم تابعيون ثقات أجلاء، رحمهم الله تعالى.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وُلِدَ مُحَمَّدٌ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: هُوَ أصدق من أدركت من البشر. وقد تقدم هذا كله فيما ذكره المؤلف.
كان ابن سيرين إذا ذكر عنده رجل بسوء ذكره بأحسن ما يعلم. وقال خلف بن هشام: كان محمد بن سيرين قد أعطى هديا وسمتا وخشوعا، وكان الناس إذا رأوه ذكروا الله. ولما مات أنس بن مالك أوصى أن يغسله محمد بن سيرين- وكان محمد محبوسا- فقالوا له في ذلك، فقال: أنا محبوس فقالوا: قد استأذنا الأمير في إخراجك، قال: إن الأمير لم يحبسني، إنما حبسني من له الحق، فأذن له صاحب الحق فغسله. وقال يونس: ما عرض لمحمد بن سيرين أمران إلا أخذ بأوثقهما في دينه، وقال: إني لأعلم الذنب الّذي حملت بسببه، إني قلت يوما لرجل: يا مفلس، فذكر هذا لأبى سليمان الدارانيّ فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا. ومثلنا قد كثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتى، ولا بأي ذنب نؤخذ. وكان إذا دعي إلى وليمة يدخل منزله فيقول: ايتوني بشربة سويق فيشربها ويقول: إني أكره أن أحمل جوعي إلى موائدهم وطعامهم: وكان يدخل السوق نصف النهار فيكبر الله ويسبحه ويذكره ويقول: إنها ساعة غفلة الناس، وقال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا(9/274)
من قلبه يأمره وينهاه. وقال: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم منه وتكتم خيره.
وقال: العزلة عبادة، وكان إذا ذكر الموت مات منه كل عضو على حدته. وفي رواية كان يتغير لونه وينكر حاله، حتى كأنه ليس بالذي كان، وكان إذا سئل عن الرؤيا قال للسائل: اتّق الله في اليقظة ولا يغرك ما رأيت في المنام. وقال له رجل: رأيت كأنى أصب الزيت في الزيتون، فقال: فتش على امرأتك فإنها أمك، ففتش فإذا هي أمه. وذلك أن الرجل أخذ من بلاده صغيرا سبيا ثم مكث في بلاد الإسلام إلى أن كبر، ثم سبيت أمه فاشتراها جاهلا أنها أمه، فلما رأى هذه الرؤيا وذكرها لابن سيرين فأمره أن يفتش على ذلك، ففتش فوجد الأمر على ما ذكره. وقال له آخر: رأيت كأنى دست- أو قال وطئت- تمرة فخرجت منها فأرة. فقال له: تتزوج امرأة- أو قال: تطأ امرأة- صالحة تلد بنتا فاسقة، فكان كما قال. وقال له آخر: رأيت كأن على سطح بيتي حبات شعير فجاء ديك فلقطها، فقال له: إن سرق لك شيء في هذه الأيام فأتنى. فوضعوا بساطا على سطحهم فسرق، فجاء إليه فأخبره، فقال: اذهب إلى مؤذن محلتك فخذه منه، فجاء إلى المؤذن فأخذ البساط منه. وقال له رجل: رأيت الحمام تلقط الياسمين. فقال: مات علماء البصرة. وأتاه رجل فقال: رأيت رجلا عريانا واقفا على مزبلة وبيده طنبور يضرب به، فقال له ابن سيرين: لا تصلح هذه الرؤيا في زماننا هذا إلا للحسن البصري، فقال: الحسن هو والله الّذي رأيت. فقال: نعم، لأن المزبلة الدنيا وقد جعلها تحت رجليه، وعريه تجرده عنها، والطنبور يضرب به هي المواعظ التي يقرع بها آذان الناس.
وقال له آخر: رأيت كأنى أستاك والدم يسيل. فقال له: أنت رجل تقع في أعراض الناس وتأكل لحومهم وتخرج في بابه وتأتيه [1] .
وقال له آخر: رأيت كأنى أرى اللؤلؤ في الحمأة، فقال له: أنت رجل تضع القرآن والعلم عند غير أهله ومن لا ينتفع به. وجاءته امرأة فقالت: رأيت كأن سنورا أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال لها ابن سيرين: سرق لزوجك ثلاثمائة درهم، وستة عشر درهما، فقالت: صدقت من أين أخذته؟ فقال: من هجاء حروفه وهي حساب الجمل، فالسين ستون، والنون خمسون، والواو ستة والراء مائتان، وذلك ثلاثمائة وستة عشر، وذكرت السنور أسود فقال: هو عبد في جواركم، فالزموا عبدا أسود كان في جوارهم وضرب فأقر بالمال المذكور. وقال له رجل: رأيت لحيتي قد طالت وأنا انظر إليها. فقال له أمؤذن أنت؟ قال: نعم! قال له: اتّق الله ولا تنظر إلى دور الجيران. وقال له آخر: رأيت كأن لحيتي قد طالت حتى جززتها ونسجتها كساء وبعته في السوق. فقال له: اتّق الله فإنك شاهد زور. وقال له آخر: رأيت كأنى آكل أصابعى، فقال له تأكل من عمل يدك. وقال لرجل
__________
[1] كذا الأصل، وفيه تحريف.(9/275)
انظر هل ترى في المسجد أحدا؟ فذهب فنظر ثم رجع إليه فقال: ليس في المسجد أحد، فقال:
أليس أمرتك أن تنظر هل ترى أحدا قد يكون في المسجد من الأمراء [1] ؟. وقال عن رجل ذكر له ذلك الأسود، ثم قال: أستغفر الله! ما أرانى إلا قد اغتبت الرجل- وكان الرجل أسود- وقال:
اشترك سبعة في قتل امرأة فقتلهم عمر، فقال لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتلها لأبدت خضراءهم.
وهب بن منبه اليماني
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِكُتُبِ الْأَوَائِلِ، وَهُوَ يشبه كعب الأحبار، وله صَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَقْوَالٌ حَسَنَةٌ وَحِكَمٌ وَمَوَاعِظُ، وَقَدْ بَسَطْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ وللَّه الْحَمْدُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوفِّيَ بِصَنْعَاءَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ، وَقِيلَ بِأَكْثَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قبره غربي بُصْرَى بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا عُصْمٌ، وَلَمْ أَجِدْ لذلك أصلا، والله أعلم.
انتهى ما ذكره المؤلف.
فصل
أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن ابن عباس وجابر والنعمان بن بشير.
وروى عن معاذ بن جبل وأبى هريرة، وعن طاوس. وعنه من التابعين عدة. وقال وهب: مثل من تعلم علما لا يعمل به كمثل طبيب معه شفاء لا يتداوى به. وعن منير مولى الفضل بن أبى عياش قال: كنت جالسا مع وهب بن منبه فأتاه رجل فقال له: إني مررت بفلان وهو يشتمك، فغضب وقال: ما وجد الشيطان رسولا غيرك؟ فما برحت من عنده حتى جاءه ذلك الشاتم فسلم على وهب فرد عليه السلام، ومد يده إليه وصافحه وأجلسه إلى جنبه. وقال ابن طاوس: سمعت وهبا يقول: ابن آدم احتل لدينك فان رزقك سيأتيك. وقال وهب: كسى أهل النار والعرى كان خيرا لهم، وطعموا والجوع كان خيرا لهم، وأعطوا الحياة والموت كان خيرا لهم. وقال: قال داود عليه السلام: اللَّهمّ أيما فقير سأل غنيا فتصامّ عنه، فأسألك إذا دعاك فلا تجبه، وإذا سألك فلا تعطه. وقال: قرأت في بعض كتب الله: ابن آدم، لَا خَيْرَ لَكَ فِي أَنْ تَعْلَمَ مَا لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت، فان مثلك كمثل رجل احتطب حطبا فحزم حزمة فذهب يَحْمِلَهَا فَعَجَزَ عَنْهَا فَضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى. وَقَالَ: إن للَّه ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء.
وروى الطبراني عنه أنه قال: إذا أردت أن تعمل بطاعة الله عز وجل فاجتهد في نصحك وعملك للَّه، فان العمل لا يقبل ممن ليس بناصح، والنصح للَّه لا يكمل إلا بطاعة الله، كمثل الثمرة الطيبة ريحها وطعمها، كذلك مثل طاعة الله، النصح ريحها، والعمل طعمها، ثم زين طاعتك بالحلم
__________
[1] كذا الأصل، وفيه تحريف.(9/276)
والعقل، والفقه والعمل، ثم أكبر نفسك عن أخلاق السفهاء وعبيد الدنيا، وعبّدها على أخلاق الأنبياء والعلماء العاملين، وعوّدها فعل الحكماء، وأمنعها عمل الأشقياء، وألزمها سيرة الأتقياء، وأعز بها عن سبل الخبثاء، وما كان لك من فضل فأعن به من دونك، وما كان فيمن دونك من نقص فأعنه عليه حتى يبلغه، فان الحكيم من جمع فواضله وعاد بها على من دونه، وينظر في نقائص من دونه فيقويها ويرجيها حتى يبلغه، إن كان فقيها حمل من لا فقه له إذا رأى أنه يريد صحابته ومعونته وإذا كان له مال أعطى منه من لا مال له، وإذا كان مصلحا استغفر للمذنب ورجا توبته، وإذا كان محسنا أحسن إلى من أساء إليه واستوجب بذلك أجره، ولا يغتر بالقول حتى يحسن منه الفعل، فإذا أحسن الفعل نظر إلى فضل الله وإحسانه إليه، ولا يتمنى الفعل حتى يفعله، فإذا بلغ من طاعة الله مبلغا حمد الله على ما بلغ منها ثم طلب ما لم يبلغ منها، وإذا ذكر خطيئة سترها عن الناس واستغفر الله الّذي هو قادر على أن يغفرها، وإذا علم من الحكمة شيئا لم يشبعه بل يطلب ما لم يبلغ منها، ثم لا يستعين بشيء من الكذب، فان الكذب كالأكلة في الجسد تكاد تأكله، أو كالأكلة في الخشب، يرى ظهرها حسنا وجوفها نخر تغر من يراها حتى تنكسر على ما فيها وتهلك من اغتر بها.
وكذلك الكذب في الحديث لا يزال صاحبه يغتر به، يظن أنه معينة على حاجته ورائد له في رغبته، حتى يعرف ذلك منه، ويتبين لذوي العقول غروره، فتستنبط الفقهاء ما كان يستخفى به عنه، فإذا اطلعوا على ذلك من أمره وتبين لهم، كذبوا خبره، وأباروا شهادته، واتهموا صدقه، وحقروا شأنه، وأبغضوا مجلسه، واستخفوا منه بسرائرهم، وكتموه حديثهم، وصرفوا عنه أماناتهم، وغيبوا عنه أمرهم، وحذروه على دينهم ومعيشتهم، ولم يحضروه شيئا من محاضرتهم، ولم يأمنوه على شيء من سرّهم، ولم يحكموه فيما شجر بينهم.
وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب قال: قال لقمان لابنه: إن مثل أهل الذكر والغفلة كمثل النور والظلمة. وقال: قرأت في التوراة أربعة أسطر متواليات: من قرأ كتاب الله فظن أنه لا يغفر له فهو من المستهزءين بآيات الله، ومن شكا مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه عز وجل، ومن أسف على ما فاته من الدنيا سخط قضاء ربه عز وجل، ومن تضعضع لغني ذهب ثلث دينه.
وقال وهب: قرأت في التوراة: أيما دار بنيت بقوة الضعفاء جعلت عاقبتها إلى الخراب، وأيما مال جمع من غير حله أسرع الفقر إلى أهله.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا معمر عن محمد بن عمرو قال: سمعت وهب بن منبه يقول:
وجدت في بعض الكتب: يقول الله تعالى: إذا أطاعنى عبدي استجبت له من قبل أن يدعوني، وأعطيته من قبل أن يسألنى، وإن عبدي إذا أطاعنى لو أن أهل السموات وأهل الأرض أجلبوا(9/277)
عليه جعلت له المخرج من ذلك، وإن عبدي إذا عصاني قطعت يديه من أبواب السماء، وجعلته في الهواء فلا يمتنع من شيء أراده من خلقي. وقال ابن المبارك أيضا: حدثنا بكار بن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يقول: قال الله تعالى فيما يعيب به أحبار بنى إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، وتلبسون جلود الضأن، وتحملون نفس الذباب، وتتغذون الغذاء من شرابكم، وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال، ثم لا تعينوهم برفع الخناصر، تطيلون الصلاة وتبيضون الثياب، تنتقصون بذلك مال اليتيم والأرملة، فبعزتي حلفت لأضربنكم بفتنة يضل فيها رأى ذي الرأى وحكمة الحكيم.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد الصنعاني حدثنا همام بن مسلمة حدثنا غوث بن جابر حدثنا عقيل بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله ليس يحمد أحدا على طاعة، ولا ينال أحد من الله خيرا إلا برحمته، وليس يرجو الله خير الناس ولا يخاف شرهم، ولا يعطف الله على الناس إلا برحمته إياهم، إن مكروا به أباد مكرهم، وإن خادعوه رد عليهم خداعهم، وإن كاذبوه كذب بهم، وإن أدبر واقطع دابرهم، وإن أقبلوا قبل منهم ولا يقبل منهم شيئا من حيلة، ولا مكر ولا خداع ولا سخط ولا مشادة، وإنما يأتى بالخير من الله تعالى رحمته، ومن لم يبتغ الخير من قبل رحمته لا يجد بابا غير ذلك يدخل منه، فان الله تعالى لا ينال الخير منه إلا بطاعته، ولا يعطف الله على الناس شيء إلا تعبدهم له، وتضرعهم إليه حتى يرحمهم، فإذا رحمهم استخرجت رحمته منه حاجتهم، وليس ينال الخير من الله من وجه غير ذلك، وليس إلى رحمة الله سبيل تؤتى من قبله إلا تعبد العباد له وتضرعهم إليه، فان رحمة الله عز وجل باب كل خير يبتغى من قبله، وإن مفتاح ذلك الباب التضرع إلى الله عز وجل والتعبد له، فمن ترك المفتاح لم يفتح له، ومن جاء بالمفتاح فتح له به، وكيف يفتح الباب بغير مفتاح، وللَّه خزائن الخير كله، وباب خزائن الله رحمته، ومفتاح رحمة الله التذلل والتضرع والافتقار إلى الله، فمن حفظ ذلك المفتاح فتحت له الخزائن ودخل، فله فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وفيها ما تشاءون وما تدعون في مقام أمين، لا يحولون عنه ولا يخافون ولا ينصبون ولا يهرمون ولا يفتقرون ولا يموتون، في نعيم مقيم، وأجر عظيم، وثواب كريم، نزلا من غفور رحيم.
وقال سفيان بن عيينة: قال وهب: أعون الأخلاق على الدين الزهادة في الدنيا، وأسرعها ردا اتباع الهوى وحب المال والشرف، ومن حب المال والشرف تنتهك المحارم، ومن انتهاك المحارم يغضب الرب، وغضب الله ليس له دواء. وقال: يقول الله تعالى في بعض كتبه يعتب به بنى إسرائيل: إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية. وإذا عصيت غضبت وإذا غضبت لعنت، وإن اللعنة منى تبلغ السابع من الولد. وقال: كان في بنى إسرائيل رجل(9/278)
عصى الله عز وجل مائتي سنة، ثم مات فأخذوا برجله فألقوه على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى: أن صل عليه، فقال: يا رب إن بنى إسرائيل شهدوا أنه قد عصاك مائتي سنة، قال الله له: نعم هكذا كان، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ورأى أسم محمد صلى الله عليه وسلم قبّله ووضعه على عينيه وصلى عليه، فشكرت ذلك له فغفرت له ذنوبه وزوجته سبعين حوراء. كذا روى وفيه علل، ولا يصح مثله، وفي إسناده غرابة وفي متنه نكارة شديدة. وروى ابن إدريس عن أبيه عن وهب قال: قال موسى: يا رب احبس عنى كلام الناس، فقال الله له: يا موسى ما فعلت هذا بنفسي، وقال لما دعي يوسف إلى الملك وقف بالباب وقال: حسبي ديني من دنياي، حسبي ربى من خلقه، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك ثم دخل على الملك، فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره وخر له ساجدا ثم أقعده الملك معه على السرير، وقال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ 12: 54 فقال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ 12: 55 حفيظ بهذه السنين وما استودعتني فيها، عليم بلغة من يأتينى.
وقال الإمام أحمد: حدثنا منذر بن النعمان الأفطس أنه سمع وهبا يقول: لما أمر الله الحوت أن لا يضره ولا يكلمه- يعنى يونس- قال: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 37: 143- 144 قال: من العابدين قبل ذلك، فذكره الله بعبادته المتقدمة، فلما خرج من البحر نام فأنبت الله شجرة من يقطين- وهو الدباء- فلما رآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته، ثم نام فاستيقظ فإذا هي قد يبست، فجعل يتحزن عليها، فقيل له: أنت لم تخلق ولم تسق ولم تنبت وتحزن عليها، وأنا الّذي خلقت مائة ألف من النار أو يزيدون ثم رحمتهم فشق ذلك عليك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد الغساني حدثنا رباح حدثني عبد الملك بن عبد المجيد ابن خشك عن وهب قال: لما أمر نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين، قال: يا رب كيف أصنع بالأسد والبقر؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب؟ وكيف أصنع بالحمام والهر؟ قال: من ألقى بينهم العداوة؟ قال: أنت يا رب، قال: فانى أؤلف بينهم حتى لا يتضررون.
وقال وهب لعطاء الخراساني: ويحك يا عطاء، ألم أخبر أنك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا، وأبواب الأمراء؟ ويحك يا عطاء، أتأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويوارى عنك غناه، وتترك باب من يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ 40: 60؟ ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك فأوهى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يكفيك، ويحك يا عطاء، إنما بطنك بحر من البحور، وواد من الأودية، لا يملؤه شيء إلا التراب.
وسئل وهب عن رجلين يصليان، أحدهما أطول قنوتا وصمتا، والآخر أطول سجودا، فأيهما أفضل؟ فقال: أنصحهما للَّه عز وجل. وقال: من خصال المنافق أن يحب الحمد ويكره الذم، أي(9/279)
يحب أن يحمد على ما لم يفعل، ويكره أن يذم بما فيه. قال: وقال لقمان لابنه: يا بنى اعقل عن الله فان أعقل الناس من عقل عن الله، وإن الشيطان ليفر من العاقل ما يستطيع أن يكايده. وقال لرجل من جلسائه: ألا أعلمك طبا لا يتعايا فيه الأطباء، وفقها لا يتعايا فيه الفقهاء، وحلما لا يتعايا فيه الحلماء، قال: بلى يا أبا عبد الله، قال: أما الطب فلا تأكل طعاما إلا سميت الله على أوله وحمدته على آخره، وأما الفقه فان سئلت عن شيء عندك فيه علم فأخبر بما تعلم وإلا فقل: لا أدرى، وأما الحلم فأكثر الصمت إلا أن تسأل عن شيء. وقال: إذا كان في الصبى خلقان، الحياء والرهبة، طمع في رشده.
وقال: لما بلغ ذو القرنين مطلع الشمس قال له ملك هناك: صف لي الناس، فقال محادثتك من لا يعقل كمن يغنى الموتى، ومحادثتك من لا يعقل كمن يبل الصخر الأصم كي يلبن، وكمن يطبخ الحديد يلتمس أدمه، ومحادثتك من لا يعقل كمن يضع المائدة لأهل القبور، ونقل الحجارة من رءوس الجبال أيسر من محادثة من لا يعقل. وقال: قرأت في بعض الكتب أن مناديا ينادى من السماء الرابعة كل صباح: أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده، أبناء الخمسين ماذا قدمتم؟ أبناء الستين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم. وقال: قال دانيال: يا لهفي على زمن يلتمس فيه الصالحون فلا يوجد منهم أحد، إلا كالسنبلة في أثر الحاصد، أو كالخصلة في أثر القاطف، يوشك نوائح أولئك وبواكيهم أن تبكيهم.
وروى عبد الرزاق عن عبد الصمد بن معقل. قال: سمعت وهبا يقول فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ 21: 47 قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبد خيرا ختم له بخير عمله، وإذا أراد الله بعبد شرا ختم له بشر عمله. وقال وهب: إن الله تعالى لما فرغ من الخلق نظر إليهم حين مشوا على وجه الأرض فقال: أنا الله لا إله إلا أنا الّذي خلقتكم وأفنيكم بحكمي حق قضائي ونافذ أمرى، أنا أعيدكم كما خلقتكم، وأفنيكم حتى أبقى وحدي، فان الملك والخلود لا يحق إلا لي، أدعو خلقي وأجمعهم بقضائي، يوم أحشر أعدائى، وتجل القلوب من هيبتي، وتتبرأ الآلهة ممن عبدها دوني.
قال: وذكر وهب أن الله لما فرغ من خلقه يوم الجمعة أقبل يوم السبت فمدح نفسه بما هو أهله وذكر عصمته وجبروته وكبرياءه، وسلطانه وقدرته وملكه وربوبيته، فأنصت كل شيء وأطرق له.
فقال: أنا الملك لا إله إلا أنا ذو الرحمة الواسعة والأسماء الحسنى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو العرش المجيد والأمثال العلا، أنا الله لا إله إلا أنا ذو الطول والمن والآلاء والكبرياء، أنا الله لا إله إلا أنا بديع السموات والأرض، ملأت كل شيء عظمتي، وقهر كل شيء ملكي، وأحاطت بكل شيء قدرتي، وأحصى كل شيء علمي، ووسعت كل شيء رحمتي، وبلغ كل شيء لطفي، فأنا الله يا معشر الخلائق(9/280)
فاعرفوا مكاني، فليس شيء في السموات والأرضين إلا أنا، وخلقي كلهم لا يقوم ولا يدوم إلا بى، ويتقلب في قبضتي، ويعيش برزقي، وحياته وموته وبقاؤه وفناؤه بيدي، فليس له محيص ولا ملجأ غيري، لو تخليت عنه طرفة عين لدمر كله، وكنت أنا على حالي لا ينقصني ذلك شيئا، ولا ينقص ذلك ملكي شيئا، وأنا مستغن بالعز كله في جبروتي وملكي، وبرهان نوري، وشديد بطشي، وعلو مكاني، وعظمة شأنى، فلا شيء مثلي، ولا إله غيري، وليس ينبغي لشيء خلقته أن يعدل بى ولا ينكرنى، وكيف ينكرنى من خلقته يوم خلقته على معرفتي؟، أم كيف يكابرنى من قهر قهره ملكي؟ أم كيف يعجزنى من ناصيته بيدي؟ أم كيف يعدل بى من أعمره وأسقم جسمه وأنقص عقله وأتوفى نفسه وأخلقه وأهرمه فلا يمتنع منى؟ أم كيف يستنكف عن عبادتي عبدي وابن عبدي وابن أمتى، ومن لا ينسب إلى خالق ولا وارث غيري؟ أم كيف يعبد دوني من تخلقه الأيام، ويفنى أجله اختلاف الليل والنهار؟ وهما شعبة يسيرة من سلطاني؟ فإليّ إلى يا أهل الموت والفناء، لا إلى غيري، فانى كتبت الرحمة على نفسي وقضيت العفو والمغفرة لمن استغفرني، أغفر الذنوب جميعا، صغيرها وكبيرها لمن استغفرني، ولا يكبر ذلك على ولا يتعاظمني، فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تقنطوا من رحمتي، فان رحمتي سبقت غضبى، وخزائن الخير كلها بيدي، ولم أخلق شيئا مما خلقت لحاجة كانت منى إليه، ولكن لأبين به قدرتي، ولينظر الناظرون في ملكي، ويتدبروا حكمتى، وليسبحوا بحمدي ويعبدوني لا يشركوا بى شيئا، ولتعنو الوجوه كلها إلى.
وقال أشرس عن وهب قال قال داود: إلهي أين أجدك؟ قال عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي.
وقال كان رجل من بنى إسرائيل صام سبعين أسبوعا يفطر في كل أسبوع يوما وهو يسأل الله أن يريه كيف يغوى الشيطان الناس، فلما أن طال ذلك عليه ولم يجب، قال في نفسه: لو أقبلت على خطيئتي وعلى ذنوبي وما بيني وبين ربى لكان خيرا من هذا الأمر الّذي أطلب، ثم أقبل على نفسه فقال:
يا نفس من قبلك أتيت، لو علم الله فيك خيرا لقضي حاجتك. فأرسل الله ملكا إلى نبيهم: أن قل لفلان العابد: إزراؤك على نفسك وكلامك الّذي تكلمت به، أعجب إلى مما مضى من عبادتك، وقد أجاب الله سؤالك، وفتح بصرك فانظر الآن، فنظر فإذا أحبولة لإبليس قد أحاطت بالأرض، وإذا ليس أحد من بنى آدم إلا وحوله شياطين مثل الذباب، فقال: إي رب، ومن ينجو من هؤلاء؟
قال صاحب القلب الوادع اللين.
وقال وهب: كان رجل من السائحين فأتى على أرض فيها قثاء فدعته نفسه إلى أخذ شيء منه، فعاقبها فقام مكانه يصلى ثلاثة أيام، فمرّ به رجل وقد لوّحته الشمس والريح، فلما نظر إليه قال:(9/281)
سبحان الله!! لكأنما أحرق هذا الإنسان بالنار، فقال السائح: هكذا بلغ منى ما ترى خوف النار، فكيف بى لو قد دخلتها؟! وقال: كان رجل من الأولين أصاب ذنبا فقال: للَّه عليّ أن لا يظلني سقف بيت أبدا حتى تأتينى براءة من النار، فكان بالصحراء في الحر والقر، فمر به رجل فرأى شدة حاله فقال: يا عبد الله ما بلغ بك ما أرى؟ فقال: بلغ ما ترى ذكر جهنم، فكيف بى إذا أنا وقعت فيها!؟. وقال: لا يكون البطال من الحكماء أبدا، ولا يرث الزناة من ملكوت السماء، وقال وهب في موعظته: اليوم يعظ السعيد، ويستكثر من منافعه اللبيب، يا ابن آدم إنما جمعت من منافع هذا اليوم لدفع ضرر الجهالة عنك، وإنما أوقدت فيه مصابيح الهدى لتنبه لحزبك، فلم أر كاليوم ضل مع نوره متحير داع لمداواة سليم، يا ابن آدم! إنه لا أقوى من خالق، ولا أضعف من مخلوق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه، يا ابن آدم إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك، وأقام عندك ما سيذهب، فما الجزع مما لا بدّ منه؟ وما الطمع فيما لا يرتجى؟ وما الحيلة في بقاء ما سيذهب؟ يا ابن آدم اقصر عن طلب ما لا تدرك، وعن تناول ما لا تناله، وعن ابتغاء ما لا يوجد، واقطع الرجاء عنك كما قعدت به عنك الأشياء، واعلم أنه ربّ مطلوب هو شر لطالبه، يا ابن آدم إنما الصبر عند المصيبة، وأعظم من المصيبة سوء الخلق منها، يا ابن آدم أي أيام الدهر ترتجى؟ يوم يجيء في عتم أو يوم تستأخر عاقبته عن أوان مجيئه؟ فانظر إلى الدهر تجده ثلاثة أيام، يوم مضى لا ترجوه، ويوم لا بد منه، ويوم يجيء لا تأمنه، فأمس شاهد عليك مقبول، وأمين مؤد، وحكيم مؤدب، قد فجعك بنفسه، وخلف فيك حكمته. واليوم صديق مودع، كان طويل الغيبة عنك، وهو سريع الظعن إياك ولم يأته، وقد مضى قبله شاهد عدل، فان كان ما فيه لك فاشفعه بمثله أوثق لك باجتماع شهادتهما عليك.
يا ابن آدم إنما أهل الدنيا سفر لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها، وإنما يتبلغون بالعواري فما أحسنه- يعنى الشكر- للمنعم والتسليم للمعاد، يا ابن آدم إنما الشيء من مثله وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله؟! إنما يقر الفرع بعد الأصل. يا ابن آدم إنه لا أعظم رزية في عقله ممن ضيع اليقين وأخطأ العمل. أيها الناس! إنما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نكن، وسنبلى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم والهنات غدا، ألا وإنه قد تقارب منا سلب فاحش، أو عطاء جزيل، فأصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه. أيها الناس!! إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، وإن ما أنتم فيه من دنياكم نهب للمصائب، لا تنالون فيها نعمة إلا بفراق الأخرى، ولا يستقبل منكم معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا يتخذ له زيادة في ماله إلا بنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر. نسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيما مضى من هذه العظة.(9/282)
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام حدثنا جعفر بن مروان عن وهب بن منبه. عن الطريق ولم تستقم [1] لسائقها، وإن فتر سائقها حزنت، ولم تتبع قائدها: فإذا اجتمعا استقامت طوعا أو كرها، ولا تستطيع الدين إلا بالطوع والكره، وإن كان كلما كره الإنسان شيئا من دينه تركه، أوشك أن لا يبقى معه من دينه شيء. وقال وهب: إن من حكمة الله عز وجل أنه خلق الخلق مختلفا خلقه ومقاديره، فمنه خلق يدوم ما دامت الدنيا، لا تنقصه الأيام ولا تهرمه وتبليه ويموت، ومنه خلق لا يطعم ولا يرزق، ومنه خلق يطعم ويرزق، خلقه الله وخلق معه رزقه، ثم خلق الله من ذلك خلقا في البر وخلقا في البحر، ثم جعل رزق ما خلق في البحر وفي البحر، ولا ينفع رزق دواب البر دواب البحر، ولا رزق دواب البحر دواب البر، لو خرج ما في البحر إلى البر هلك، ولو دخل ما في البر إلى البحر هلك، ففي ذلك ممن خلق الله في البر والبحر عبرة لمن أهمته قسمة الأرزاق والمعيشة فليعتبر ابن آدم فيما قسم الله من الأرزاق، فإنه لا يكون فيها شيء إلا كما قسمه سبحانه بين خلقه، لا يستطيع أحد أن يغيرها ولا أن يخلطها، كما لا نستطيع دواب البر أن تعيش بأرزاق دواب البحر، ولا دواب البحر بأرزاق دواب البر، ولو اضطرت اليه هلكت كلها، فإذا استقرت كل دابة منها فيما رزقت أصلحها ذلك وأحياها، وكذلك ابن آدم إذا استقر وقنع بما قسم الله له من رزقه أحياه ذلك وأصلحه، فإذا تعاطى رزق غيره نقصه ذلك وضره وفضحه.
وقال لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلكم قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا، ولا إلى ما في أيديهم، فكان أهل الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في الدنيا، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم، فإياك يا عطاء وأبواب السلطان فان عند أبوابهم فتنا كمبارك الإبل، لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله.
وقال إبراهيم الجنيد: حدثنا عبد الله بن أبى بكر المقدمي حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عمر بن عبد الرحمن الصنعاني قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم، فقال: كيف صلاتك؟ فقال: ما أحسب أحدا سمع بذكر الجنة والنار يأتى عليه ساعة لا يصلى فيها، قال: فكيف ذكرك للموت؟ قال: ما أرفع قدما ولا أضع أخرى إلا رأيت أنى ميت. فقال: فكيف صلاتك أنت أيها الرجل؟ فقال: إني لأصلى وأبكى حتى ينبت العشب من دموعي، فقال العالم: أما إنك إن تضحك وأنت معترف بخطيئتك خير لك من أن تبكى وأنت مدل بعلمك، فان المدل لا يرفع له عمل فقال: أوصني فانى أراك حكيما، فقال ازهد في الدنيا ولا تنازع أهلها فيها، وكن فيها كالنخلة، إن
__________
[1] كذا بالأصل وفيه نقص أو تحريف فليحرر.(9/283)
أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عدو لم تكسره، وأنصح للَّه نصح الكلب لأهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه ويضربونه وهو يأبى إلا أن يحوطهم ويحفظهم، وينصح لهم. فكان وهب إذا ذكر هذا الحديث قال: وا سوأتاه إذا كان الكلب أنصح لأهله منك يا ابن آدم للَّه عز وجل. وفي رواية أنه قال: إني لأصلى حتى ترم قدماي، فقال له: إنك إن تبت تائبا، وتصبح نادما، خير لك من أن تبيت قائما وتصبح معجبا، إلى آخره. وروى سفيان عن رجل من أهل صنعاء عن وهب فذكر الحديث كما تقدم.
وقال عثمان بن أبى شيبة: حدثنا محمد بن عمران بن أبى ليلى حدثنا الصلت بن عاصم المرادي عن أبيه عن وهب قال: لما أهبط آدم من الجنة استوحش لفقد أصوات الملائكة، فهبط عليه جبريل فقال: يا آدم ألا أعلمك شيئا تنتفع به في الدنيا والآخرة؟ قال: بلى. قال قل: اللَّهمّ تمم لي النعمة حتى تهنيني المعيشة، اللَّهمّ اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللَّهمّ اكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة في عافية.
وقال عبد الرزاق: حدثني بكار بن عبد الله عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت الله تعالى يقول: يا ابن آدم ما أنصفتنى، تذكر بى وتنساني، وتدعو إلى وتفر منى، خيرى إليك نازل، وشرك إلى صاعد، ولا يزال ملك كريم قد نزل إليك من أجلك، يا ابن آدم إن أحب ما تكون إلى وأقرب ما تكون منى إذا رضيت بما قسمت لك، وأبغض ما تكون إليّ، وأبعد ما تكون منى إذا سخطت بما قسمت لك. يا ابن آدم أطعنى فيما أمرتك، ولا تعلمني بما يصلحك، إني عالم بخلقي، وأنا أعلم بحاجتك التي ترفعك من نفسك، إني إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي، وَأُهِينَ مَنْ هَانَ عليه أمرى، لست بناظر في حق عبدي حتى ينظر العبد في حقي. وقال وهب: قرأت نيفا وتسعين كتابا من كتب الله تعالى فوجدت في جميعها: ان من وكل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وقال: لا يسكن ابن آدم، إن الله هو قسم الأرزاق متفاضلة ومختلفة، فان تقلل ابن آدم شيئا من رزقه فليزدد إلى الله رغبة، ولا يقولن: لو اطلع الله على هذا من حالي، أو شعر به غيره؟ فكيف لا يطلع على شيء الّذي خلقه وقدره؟ أو يعتبر ابن آدم في غير ذلك مما يتفاضل فيه الناس، كأن الله فاضل بينهم في الأجسام والأموال والألوان والعقول والأحلام، فلا يكبر على ابن آدم أن يفضل عليه في الرزق والمعيشة، ولا يكبر عليه أن يفضل عليه في الحلم والعلم والعقل والدين، أو لا يعلم ابن آدم أن الّذي رزقه في ثلاثة أزمان من عمره لم يكن له في واحد منها كسب ولا حيلة، أنه سوف يرزقه في الزمن الرابع. أول زمان من أزمانه حين كان في بطن أمه، يخلق فيه ويرزق من غير مال كسبه، وهو في قرار مكين، لا يؤذيه فيه حرّ ولا برد، ولا شيء ولا همّ ولا حزن، وليس له هناك يد تبطش،(9/284)
ولا رجل تسعى، ولا لسان ينطق. فساق الله عز وجل إليه رزقه هناك على أتم الوجوه وأهناها وأمراها، ثم إن الله عز وجل أراد أن يحوله من تلك المنزلة إلى غيرها. ويحدث له في الزمن الثاني رزقا من أمه يكفيه ويغنيه، من غير حول منه ولا قوة، ولا بطش ولا سعى، بل تفضلا من الله وجودا، ورزقا أجراه وساقه إليه، ثم أراد الله سبحانه أن ينقله من الزمن الثاني إلى الزمن الثالث من ذلك اللبن إلى رزق يحدثه له من كسب أبويه، بأن يجعل له الرحمة في قلوبهما حتى يؤثراه على نفسهما بكسبهما، ويغنياه ويغذياه بأطيب ما يقدران عليه من الأغذية، وهو لا يعينهما على شيء من ذلك بكسب ولا حيلة، حتى إذا عقل حدث نفسه بأنه إنما يرزق بحيلته ومكسبه وسعيه، ثم يدخل عليه في الزمن الرابع إساءة الظن بربه عز وجل، فيضيع أوامر الله في طلب المعاش وزيادة المال وكثرته، وينظر إلى أبناء الجنس وما عليه من التنافس في طلب الدنيا، فيكسب بذلك ضعف اليقين والايمان، ويمتلئ قلبه فقرا وخوفا منه مع المتاع، ويبتلى بموت القلب وعدم العقل، ولو نظر ابن آدم نظر معرفة وعقل لعلم أنه لن يغنيه في الزمن الرابع إلا من أغناه ورزقه في الأزمان الثلاثة قبل، فلا مقال له ولا معذرة مما سلط عليه في الزمان الرابع إلا برحمة الله، فان ابن آدم كثير الشك يقصر به حكمه وعلمه عن علم الله والتفكر في أمره، ولو تفكر حتى يفهم، وتفهم حتى يعلم، علم أن علامة الله التي بها يعرف، خلقه الّذي خلق، ثم رزقه لما خلق، وقدره لما قدر.
وقال عطاء الخراساني: لقيت وهبا في الطريق فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز. فقال: أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: يا داود، أما وعزتي وعظمتي لا ينتصر بى عبد من عبادي دون خلقي أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الأرض من تحته ولا أبالى في أي واد هلك.
وقال أبو بلال الأشعري عن أبى هشام الصنعاني قال: حدثني عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: كفاني للعبد مآلا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيته قبل أن يسألنى، وأستجيب له من قبل أن يدعوني، فانى أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه. وقال: قرأت في بعض الكتب أن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل لأنه إذا كان مؤمنا عاقلا ذا بصيرة فهو أثقل على الشيطان من الجبال الصم، إنه ليزالل المؤمن العاقل فلا يستطيعه، فيتحول عنه إلى الجاهل فيستأمره ويتمكن من قياده. وقال: قام موسى عليه السلام فلما رأته بنو إسرائيل قاموا، فقال: على مكانكم، ثم ذهب إلى الطور فإذا هو بنهر أبيض(9/285)
فيه مثل رءوس الكثبان كافور محفوف بالرياحين، فلما رآه أعجبه فدخل عليه فاغتسل وغسل ثوبه، ثم خرج وجفف ثوبه، ثم رجع إلى الماء فاستنضح فيه إلى أن جف ثوبه، فلبسه ثم أخذ نحو الكثيب الآخر الّذي فوق الطور، فإذا هو برجلين يحفران قبرا، فقام عليهما فقال: ألا أعينكما؟ قالا: بلى فنزل فحفر، فقال لهما: لتحدثانى مثل من الرجل؟ فقالا: على طولك وهيئتك، فاضطجع فيه لينظروا فالتأمت عليه الأرض، فلم ينظر إلى قبر موسى عليه السلام إلا الرخم، فأصمها الله وأبكمها.
وقال: يقول الله عز وجل: لولا أنى كتبت النتن على الميت لحبسه الناس في بيوتهم، ولولا أنى كتبت الفساد على اللحم لحرمة الأغنياء على الفقراء.
وقال: مرّ عابد براهب فقال له: منذ كم أنت في هذه الصومعة؟ قال: منذ ستين سنة، قال:
وكيف صبرت فيها ستين سنة؟ قال: مر فإن الزمان يمر، وإن الدنيا تمر، ثم قال له: يا راهب كيف ذكرك للموت؟ قال: ما أحسب عبدا يعرف الله تأتى عليه ساعة إلا يذكر الموت فيها، وما أرفع قدما إلا وأنا أظن أن لا أضعها حتى أموت، وما أضع قدما إلا وأنا أظن أن لا أرفعها حتى أموت، فجعل العابد يبكى، فقال له الراهب: هذا بكاؤك إذا خلوت؟ - أو قال: كيف أنت إذا خلوت؟ - فقال العابد: إني لأبكى عند إفطاري فأشرب شرابي بدموعى، ويصرعني النوم فأبل متاعي بدموعى، فقال له الراهب: إنك إن تضحك وأنت معترف بذنبك خير لك من أن تبكى وأنت مدل على الله بعلمك. فقال: أوصني بوصية، قال: كن في الدنيا بمنزلة النخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن سقطت على شيء لم تضره، ولا تكن في الدنيا بمنزلة الحمار إنما همته أن يشبع ثم يرمى بنفسه في التراب، وأنصح للَّه نصح الكلب لأهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه، وهو يأبى إلا أن يحرسهم ويحفظهم. قال أبو عبد الرحمن أشرس: وكان طاوس إذا ذكر هذا الحديث بكى وقال: عز علينا أن تكون الكلاب أنصح لأهلها منا لمولانا عز وجل. وقد تقدم نحو هذا المتن.
وقال وهب: تخلى راهب في صومعته في زمن المسيح: فأراد إبليس أن يكيده فلم يقدر عليه، فأتاه بكل مراد فلم يقدر عليه، فأتاه متشبها بالمسيح فناداه: أيها الراهب أشرف عليّ أكلمك فأنا المسيح، فقال: إن كنت المسيح فما لى إليك من حاجة، أليس قد أمرتنا بالعبادة؟ ووعدتنا القيامة؟ انطلق لشأنك فلا حاجة لي فيك. قال: فذهب عنه الشيطان خاسئا وهو حسير، فلم يعد إليه. ومن طريق أخرى عنه قال: أتى إبليس راهبا في صومعته فاستفتح عليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا المسيح، فقال الراهب: والله لئن كنت إبليس لأخلون بك، ولئن كنت المسيح فما عسى أن أصنع بك اليوم شيئا، لقد بلغتنا رسالة ربك عز وجل فقبلناها عنك، وشرعت لنا الدين(9/286)
فنحن عليه، فاذهب فلست بفاتح لك فقال: صدقت، أنا إبليس ولا أريد إضلالك بعد اليوم أبدا فسلني عما بدا لك أخبرك به. قال: وأنت صادق؟ قال: لا تسألنى عن شيء إلا صدقتك فيه. قال:
فأخبرني أي أخلاق بنى آدم أوثق في أنفسكم أن تضلوهم به؟ قال ثلاثة أشياء: الجدة، والشح، والشكر وقال وهب: قال موسى: يا رب أي عبادك [1] قال: من لا تنفعه موعظة، ولا يذكرني إذا خلا، قال: إلهي فما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه؟ قال: يا موسى أظله يوم القيامة بظل عرشي، وأجعله في كنفى. وقال وهب: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له: رحمك الله ما هذا البناء الّذي لا إسراف فيه؟ قال: ما سترك من الشمس، وأكنك من الغيث. قال: فما هذا الطعام الّذي لا إسراف فيه؟ قال: فوق الجوع ودون الشبع من غير تكلف. قال: فما هذا اللباس الّذي لا إسراف فيه؟ قال: هو ما ستر العورة ومنع الحر والبرد من غير تنوع ولا تلون. قال: فما هذا الضحك الّذي لا إسراف فيه؟ قال: هو ما أسفر وجهك ولا يسمع صوتك. قال: فما هذا البكاء الّذي لا إسراف فيه؟ قال: لا تمل من البكاء من خشية الله عز وجل، ولا تبك على شيء من الدنيا.
قال: كم أخفى من عملي؟ قال: ما أظن بك أنك لم تعمل حسنة. قال: ما أعلن من عملي؟ قال:
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما يأتم بك الحريص، واحذر النظر إلى الناس. وقال: لكل شيء طرفان ووسط، فإذا أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسكت بالوسط اعتدلا، فعليكم بالوسط من الأشياء. وقال: أربعة أحرف في التوراة: من لم يشاور يندم، ومن استغنى استأثر، والفقر الموت الأحمر، وكما تدين تدان، ومن تجر فجر.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار فيعظهم، فاجتمعوا إليه ذات يوم فقال: إنا قد خرجنا عن الدنيا وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان، وقد خفنا أن يكون قد دخل علينا في حالنا هذه من الطغيان أعظم وأكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم، وعلى الملوك في ملكهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له الحاجة، وإذا اشترى شيئا أن يحابي لمكان دينه، وأن يعظم إذا لقي الناس لمكان دينه، وجعل يعدد آفات العلماء والعباد الذين يدخل عليهم في دينهم من حب الشرف والتعظيم.
قال: فشاع ذلك الكلام عنه حتى بلغ ملك تلك البلاد، فعجب منه الملك وقال لرءوس دولته: ينبغي لهذا أن يزار، ثم اتعدوا لزيارته يوما، فركب إليه الملك ليسلم عليه، فأشرف العابد- وكان عالما جيد العلم بآفات العلوم والأعمال ودسائس النفوس- فرأى الأرض التي تحت مكانه قد سدت بالخيل والفرسان، فقال ما هذا؟ فقيل له: هذا الملك قاصد إليك يسلم عليك لما بلغه من حسن كلامك،
__________
[1] كذا بالأصل.(9/287)
فقال: إنا للَّه، وما أصنع به؟ هلكنا والله إن لم نلقن الحجة من عند الله مع هذا الرجل، وينصرف عنا وهو ماقت لنا، ثم سأل خادمه: هل عندك طعام؟ قال: نعم. قال: فأت به فضعه بين أيدينا، قال: هو شيء من ثمر الشجر، وهو شيء من بقل وزيتون، قال: فأت به، فأتى به، ثم أمر بجماعته فاجتمعوا حول ذلك الطعام، فقال: إذا دخل عليكم هذا الرجل فلا يلتفت أحد منكم إليه، ولا يقم له أحد، وأقبلوا على الأكل العنيف، ولا يرفع أحد منكم رأسه، لعل الله أن يصرفه عنا وهو كاره لنا فانى أخاف الفتنة والشهرة وامتلاء القلب منهما، فلا نخلص إلا بنار جهنم. قال: فبكى القوم وبكى ذلك الرجل العالم، فلما اقترب الملك من جبلهم الّذي هم فيه، ترجل الملك ومن معه من أعيان دولته وصعد في الجبل، فلما وصل إلى قرب مكانهم أخذوا في الأكل العنيف، فدخل عليهم الملك وهم يأكلون فلم يرفعوا رءوسهم إليه، وجعل ذلك العالم الفاضل يلف البقل مع الزيتون مع الكسرة الكبيرة من الخبز ويدخلها في فمه، فسلم عليهم الملك وقال: أيكم العابد؟ فأشاورا إليه، فقال له الملك: كيف أنت أيها الرجل؟ فقال له: كالناس- وهو يأكل ذلك الأكل العنيف- فقال الملك: ليس عند هذا خير، ثم أدبر الملك خارجا عنه، وقال: ما عند هذا من علم. فلما نزل الملك من الجبل نظر إليه العابد من كوة وقال: أيها الملك! الحمد للَّه الّذي صرفك عنى وأنت لي كاره- أو قال: الحمد للَّه الّذي صرفك عنى بما صرفك به- وفي رواية ذكر ابن المبارك أنه قال: الحمد للَّه الّذي صرفه عنى وهو لي لائم.
وفي رواية أن هذا العابد كان ملكا، وكان قد زهد في الدنيا وتركها، لأنه كان قد دخل عليه رجل من بقايا أهل الجنة والعمل الصالح فوعظه، فاتعد معه أن يصحبه، وأنه يخرج عن الملك طلبا لما عنده في الدار الآخرة، وأنه وافقه جماعة من بنيه وأهله ورءوس دولته، فخرجوا برّمتهم، لا يدرى أحد أين ذهبوا، وكان هذا الملك من أهل العدل والخير والخوف من الله عز وجلّ، وكان متسع الملك والمملكة، كثير الأموال والرجال، فساروا حتى أتوا جبلا في أطراف مملكته، كثير الشجر والمياه، فأقاموا به حينا، فقال الملك: إن نحن طال أمرنا ومقامنا في هذا الجبل، سمع بنا الناس من أهل مملكتنا فلا يدعونا، وإني أرى أن نذهب إلى غير مملكتنا فننزل مكانا بعيدا عن الناس، لعل أن نسلم منهم ويسلموا منا، فساروا من ذلك الجبل طالبين بلادا لا يعرفون، فوجدوا بها جبلا نائيا عن الناس، كثير الأشجار والمياه، قليل الطوارق، وإذا في ذروته عين ماء جارية وأرض متسعة، تزرع لمن أراد الزرع بها، فنزلوا به وبنوا به أماكن للعبادة والسكنى، وزرعوا لهم على ماء تلك العين بعض بقول يأتدمون بها، وأشجار زيتون، وجعلوا يزرعون بأيديهم ويأكلون ثم شاع أمرهم في بعض تلك البلاد القريبة من جبلهم، فجعلوا يأتونهم ويزورونهم، إلى أن شاع(9/288)
ذلك الكلام المتقدم عن ذلك العالم، فبلغ ملك تلك البلاد فقصدهم للزيارة، فذكر القصة كما تقدم، والله أعلم.
وقال وهب: أزهد الناس في الدنيا- وإن كان عليها حريصا- من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب، مع حفظ الأمانات، وأرغب الناس فيها وإن كان عنها معرضا، من لم يبال من أين كسبه منها حلالا كان أو حراما، وإن أجود الناس في الدنيا من جاد بحقوق الله عز وجل، وإن رآه الناس بخيلا فيما سوى ذلك، وإن أبخل الناس في الدنيا من بخل بحقوق الله عز وجل وإن رآه الناس جوادا فيما سوى ذلك.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا على بن المديني حدثنا محمد بن عمرو بن مقسم قال سمعت عطاء بن مسلم يقول: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام في ألف مقام، وكان إذا كلمه رئي النور على وجه موسى ثلاثة أيام، ولم يمس موسى امرأة منذ كلمه ربه عز وجل. وقال عثمان بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عامر بن زرارة حدثنا عبد الله بن الأجلح عن محمد بن إسحاق قال: حدثني رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ ابن منبه اليماني يقول: إن للنبوة أثقالا ومؤنة لا يحملها إلا القوى، وإن يونس بن متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فرفضها من يده وخرج هاربا، فقال اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ من الرُّسُلِ 46: 35 وقال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ 68: 48 الآية، وقال يونس بن بكير عن أبى إسحاق بن وهب بن منبه عن أبيه قال: أمر الله الريح أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء في الأرض إلا ألقته في أذن سليمان، فلذلك سمع كلام النملة.
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن وهب قال: كان الرجل من بنى إسرائيل إذا ساح أربعين سنة أرى شيئا، كأن يرى علامة القبول، قال: فساح رجل من ولد ربيعة أربعين سنة فلم ير شيئا، فقال: يا رب إذ أحسنت وأساء والداي فما ذنبي؟ قال: فأرى ما كان يرى غيره. وفي رواية أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أكلا أضرس أنا؟ وفي رواية عنه أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أساءا أحرم أنا إحسانك وبرك؟ فأظلته غمامة.
وروى عبد الله بن المبارك عن رباح بن زيد عن عبد العزيز بن مروان. قال: سمعت وهب ابن منبه يقول: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وقال: إن أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك باللَّه السحر. وروى عبد الرزاق قال: أخبرنى أبى عن وهب قال: إذا صام الإنسان زاغ بصره، فإذا أفطر على حلاوة عاد بصره. وقال ابن المبارك(9/289)
عن بكر بن عبد الله قال سمعت وهبا يقول: مرّ رجل عابد على رجل عابد فرآه مفكرا، فقال له:
مالك؟ فقال له: أعجب من فلان، إنه كان قد بلغ من عبادته ما بلغ، ثم مالت به الدنيا. فقال:
لا تعجب ممن مال كيف مال، ولكن اعجب ممن استقام كيف استقام.
وقال عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثني أبى حدثنا عبد الرزاق حدثنا بكار بن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يقول: إن بنى إسرائيل أصابتهم عقوبة وشدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا أن نعلم ما الّذي يرضى ربنا فنتبعه، فأوحى الله عز وجل إليه: إن قومك يقولون:
إذا أرضوهم رضيت، وإذا أسخطوهم أسخطت. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أبى حدثنا إبراهيم بن خالد حدثني عمر بن عبد الرحمن قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن عيسى عليه السلام كان واقفا على قبر ومعه الحواريون- أو نفر من أصحابه- قال: وصاحب القبر يدلّى فيه، قال:
فذكروا من ظلمة القبر وضيقه، فقال عيسى: قد كنتم فيما هو أضيق من ذلك، فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يوسع وسع، أو كما قال.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يقول: كان رجل عابد من السياح أراده الشيطان من قبل الشهوة والرغبة والغضب، فلم يستطع منه شيئا من ذلك، فتمثل له حية وهو يصلى، فمضى ولم يلتفت إليه، فالتوى على قدميه فلم يلتفت إليه، فدخل ثيابه وأخرج رأسه من عند رأسه فلم يلتفت ولم يستأخر، فلما أراد أن يسجد التوى في موضع سجوده، فلما وضع رأسه ليسجد فتح فاه ليلتقم رأسه، فوضع رأسه فجعل يعركه حتى استمكن من السجود على الأرض. ثم جاءه على صورة رجل فقال له: أنا صاحبك الّذي أخوفك، أتيتك من قبل الشهوة والغضب والرغبة، وأنا الّذي كنت أتمثل لك بالسباع والحيات فلم أستطع منك شيئا، وقد بدا لي أن أصادقك ولا آتيك في صلاتك بعد اليوم. فقال له العابد: لا يوم خوفتني خفتك، ولا اليوم بى حاجة في مصادقتك. قال: سلني عما شئت أخبرك، قال فما عسيت أن أسألك؟ قال: ألا تسألنى عن مالك ما فعل به بعدك؟ قال: لو أردت ذلك ما فارقته. قال:
أفلا تسألنى عن أهلك من مات منهم ومن بقي؟ قال: أنا مت قبلهم. قال أفلا تسألنى عما أضل به الناس؟ قال: أنت أضلهم. فأخبرني عن أوثق ما في نفسك تضل به بنى آدم. قال: ثلاثة أخلاق، الشح، والحدة، والسكر. فان الرجل إذا كان شحيحا قللنا ماله في عينه ورغبناه في أموال الناس، وإذا كان حديدا تداولناه بيننا كما يتداول الصبيان الكرة، ولو كان يحيى الموتى بدعوته لم نيأس منه، وكل ما يبنيه نهدمه، لنا كلمة واحدة. وإذا سكر قدناه إلى كل شر وفضيحة وخزي وهو ان كما تقاد القط إذا أخذ بأذنها كيف شئنا.(9/290)
وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، ومسخ بخت نصّر في السباع سبع سنين. وسئل وهب عن الدنانير والدراهم فقال: هي خواتيم رب العالمين، فالأرض لمعايش بنى آدم لا تؤكل ولا تشرب، فأينما ذهبت بخاتم رب العالمين قضيت حاجتك، وهي أزمة المنافقين بها يقادون إلى الشهوات. وروى داود بن عمر الضبي عن ابن المبارك عن معمر عن سماك ابن المفضل عن وهب قال: مثل الّذي يدعو بغير عمل مثل الّذي يرمى بغير وتر. وقال ابن المبارك:
أخبرنى عمر بن عبد الرحمن بن مهرب قال: سمعت وهبا يقول: قال حكيم من الحكماء: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أعبده رجاء ثواب الجنة فقط، فأكون كالأجير السوء، إن أعطى عمل وإن لم يعط لم يعمل، وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار فقط، فأكون كالعبد السوء إن رهب عمل وإن ترك لم يعمل، وإني ليستخرج منى حب الله ما لا يستخرج مني غيره.
وقال السري بن يحيى: كتب وهب إلى مكحول: إنك قد أصبت بما ظهر من علم الإسلام عند الناس محبة وشرفا، فاطلب بما بطن من علم الإنسان عند الله محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين تمنع الأخرى- أو قال: سوف تمنعك الأخرى- وقال زافر بن سليمان عن أبى سنان الشيباني قال:
بلغنا أن وهب بن منبه قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ اتَّخِذْ طاعة الله تجارة تريد بها ربح الدنيا والآخرة، والايمان سفينتك التي تحمل عليها، والتوكل على الله شراعها، والدنيا بحرك، والأيام موجك، والأعمال الصالحة تجارتك التي ترجو ربحها، والنافلة هي هديتك التي ترجو بها كرامتك، والحرص عليها يسيرها ويزجيها، ورد النفس عن هواها مراسيها، والموت ساحلها، والله ملكها وإليه مصيرها. وأحب التجار إلى الله وأفضلهم وأقربهم منه أكثرهم بضاعة وأصفاهم نية، وأخلصهم هدية. وأبغضهم إليه أقلهم بضاعة، وأرد أهم هدية، وأخبثهم طوية، فكلما حسنت تجارتك ازداد ربحك، وكلما خلصت هديتك تكرم. وفي رواية عنه أنه قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ اتَّخِذْ طاعة الله بضاعة تأتك الأرباح من كل مكان، واجعل سفينتك تقوى الله، وحشوها التوكل على الله، وشراعها الايمان باللَّه، وبحرك العلم النافع والعمل الصالح لعلك أن تنجو، وما أراك بناج. وقال عبد الله بن المبارك عن رباح بن زيد عن رجل قال: إن للعلم طغيانا كطغيان المال.
وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الصنعاني حدثنا أبو قدامة همام بن مسلمة بن عقبة حدثنا غوث بن جابر حدثنا عقيل بن منبه قال: سمعت عمى وهب بن منبه يقول: الأجر من الله عز وجل معروض، ولكن لا يستوجبه من لا يعمل، ولا يجده من لا يبتغيه، ولا يبصره من لا ينظر إليه، وطاعة الله قريبة ممن يرغب فيها، بعيدة ممن زهد فيها، ومن يحرص عليها يصل إليها، ومن لا يحبها لا يجدها، لا تسبق من سعى إليها، ولا يدركها من أبطأ عنها، وطاعة الله تشرف من أكرمها،(9/291)
وتهين من أضاعها، وكتاب الله يدل عليها، والايمان باللَّه يحض عليها.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا عمر بن عبد الرحمن سمعت وهب بن منبه يقول قال داود عليه السلام: يا رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: مؤمن حسن الصورة حسن العمل.
قال: يا رب أي عبادك أبغض إليك؟ قال: كافر حسن الصورة كفر أو شكر، هذان. وفي رواية ذكرها أحمد بن حنبل: أي عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارنى في أمر فخرت له فلم يرض به.
وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثني إبراهيم بن سعيد عن عبد المنعم بن إدريس حدثنا عبد الصمد ابن معقل عن وهب بن منبه قال: كان سائح يعبد الله تعالى، فجاءه إبليس أو شيطان فتمثل بإنسان فجعل يريه أنه يعبد الله تعالى، وجعل يزيد عليه في العبادة، فأحبه ذلك السائح لما رأى من اجتهاده وعبادته، فقال له الشيطان- والسائح في مصلاه-: لو دخلنا إلى المدينة فخالطنا الناس وصبرنا على أذاهم وأمرنا ونهينا، كان أعظم لأجرنا، فأجابه السائح إلى ذلك، فلما أخرج السائح إحدى رجليه من باب مكانه لينطلق معه، هتف به هاتف فقال: إن هذا شيطان أراد أن يفتنك. فقال السائح:
رجل خرجت في معصية الله وطاعة الشيطان لا تدخل معى، فما حولها من موضعها ذلك حتى فارق الدنيا، فأنزل الله تعالى ذكره في بعض كتبه فقال: وذو الرّجل.
وقال وهب: أتى رجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، فأعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، فقال له صاحب شرطة الملك- سرا بينه وبينه-: أيها العالم، اذبح جديا مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلى حتى أصنعه لك على حدته، فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع بين يديك، فتأكل منه حلالا ويرى الملك والناس أنك إنما أكلت لحم الخنزير، فذبح ذلك العالم جديا، ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له، وأمر الطباخين إذا أمر الملك بأن يقدم إلى هذا العالم لحم الخنزير [أن يضعوا بين يديه لحم هذا الجدي واجتمع الناس] لينظروا أمر هذا العالم فيه أيأكل أم لا، وقالوا إن أكل أكلنا وإن امتنع امتنعنا، فجاء الملك فدعا لهم بلحوم الخنازير فوضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكى، فألهم الله ذلك العالم فألقى في روعه وفكره، فقال: هب أنى أكلت لحم الجدي الّذي أعلم حله أنا، فماذا أصنع بمن لا يعلم؟ والناس إنما ينتظرون أكلى ليقتدوا بى، وهم لا يعلمون إلا أنى إنما أكلت لحم الخنزير فيأكلون اقتداء بى، فأكون ممن يحمل أو زارهم يوم القيامة، لا أفعل والله وإن قتلت وحرقت بالنار، وأبى أن يأكل، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه ويومى إليه ويأمره بأكله، أي إنما هو لحم الجدي، فأبى أن يأكل، ثم أمره الملك أن يأكل فأبى، فألحوا عليه فأبى، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله، فلما ذهبوا به ليقتلوه، قال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل من اللحم الّذي ذكيته أنت ودفعته(9/292)
إلى؟ أظننت أنى أتيتك بغيره وخنتك فيما ائتمنتني عليه؟ ما كنت لأفعل والله. فقال له العالم:
قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يتأسى الناس بى، وهم إنما ينتظرون أكلى منه، ولا يعلمون إلا أنى إنما أكلت لحم الخنزير، وكذلك كل من أريد على أكله فيما يأتى من الزمان يقول: قد أكله فلان، فأكون فتنة لهم. فقتل رحمه الله. فينبغي للعالم أن يحذر المعايب، ويجتنب المحذورات، فان زلته وناقصته منظورة يقتدى بها الجاهل. وقال معاذ بن جبل: اتقوا زيغة الحكيم، وقال غيره:
اتقوا زلة العالم، فإنه إذا زل زل بزلته عالم كبير. ولا ينبغي له أن يستهين بالزلة وإن صغرت، ولا يفعل الرخص التي اختلف فيها العلماء، فان العالم هو عصاة كل أعمى من العوام، بها يصول على الحق ليدحضه، ويقول: رأيت فلانا العالم، وفلانا وفلانا يفعلون ويفعلون. وليجتنب العوائد النفسية، فإنه قد يفعل أشياء على حكم العادة فيظنها الجاهل جائزة أو سنة أو واجبة، كما قيل: سل العالم يصدقك ولا تقتد بفعله الغريب، ولكن سله عنه يصدقك إن كان ذا دين، وكم أفسد النظر إلى غالب علماء زمانك هذا من خلق، فما الظن بمخالطتهم ومجالستهم ولكن مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً 18: 17.
وقال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عبد الرزاق عن أبيه قال: قلت لوهب بن منبه:
كنت ترى الرؤيا فتخبرنا بها، فلا نلبث أن نراها كما رأيتها، قال: ذهب ذلك عنى منذ وليت القضاء. قال عبد الرزاق: فحدثت به معمرا فقال: والحسن بعد ما ولى القضاء لم يحمدوا فهمه، فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟ فكيف حال من قد غرق في قاذورات الدنيا من علماء زمانك هذا، ولا سيما من بعد فتنة تمرلنك؟ فان القلوب قد امتلأت بحب الدنيا، فلا يجد العلم فيها موضعا، فجالس من شئت منهم لتنظر مبادئ مجالستهم وغاياتها، ولا تستخفك البدوات، فإنما الأمور بعواقبها وخواتيمها ونتائجها، وغاياتها. وَمن يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ من حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ 65: 2- 3 وقال وهب: البلاء للمؤمن كالشكال للدابة. وقال أبو بلال الأشعري عن أبى شهاب الصنعاني عن عبد الصمد عن وهب قال: من أصيب بشيء من البلاء فقد سلك به طريق الأنبياء. وقال عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ:
حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا منذر قال: سمعت وهبا يقول: قرأت في كتاب رجل من الحواريين:
إذا سلك بك طريق- أو قال سبيل- أهل البلاء فطب نفسا، فقد سلك بك طريق الأنبياء والصالحين وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن خالد حدثني أمية بن شبل عن عثمان بن بزدويه قال: كنت مع وهب وسعيد بن جبير يوم عرفة تحت نخيل ابن عامر، فقال وهب لسعيد:
يا أبا عبد الله! كم لك منذ خفت من الحجاج؟ قال: خرجت عن امرأتي وهي حامل فجاءني الّذي في بطنها وقد خرج [شعر] وجهه، فقال له وهب: إن من كان قبلكم كان إذا أصابه بلاء عده رجاء،(9/293)
وإذا أصابه رجاء عده بلاء. وروى عبد الله بن أحمد بسنده عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب: ليس من عبادي من سحر أو سحر له، أو تكهن أو تكهن له، أو تطير أو تطير له، فمن كان كذلك فليدع غيري، فإنما هو أنا وخلقي كلهم لي. وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا رباح عن جعفر بن محمد عن التيمي عن وهب أنه قال: دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الأغنياء الجنة. قلت: هذا إنما هو لشدة الحساب وطول وقوف الأغنياء في الكرب، كما قد ضربت الأمثال للشدائد. والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا بكار قال سمعت وهبا يقول: ترك المكافأة من التطفيف. وقال الامام أحمد: حدثنا الحجاج وأبو النصر قالا: حدثنا محمد بن طلحة عن محمد بن جحادة عن وهب قال: من يتعبد يزدد قوة، ومن يتكسل يزدد فترة. وقد قال غيره: إن حوراء جاءته في المنام في ليلة باردة فقالت له: قم إلى صلاتك فهي خير لك من نومة توهن بدنك. ورأيت في ذلك حديثا لم يحضرني الآن. وهذا أمر مجرب أن العبادة تنشط البدن وتلينه، وأن النوم يكسل البدن فيقسيه، وقد قال بعض السلف لما تبع ضلة ابن أشيم حين دخل تلك الغيضة، وأنه قام ليلته إلى أن أصبح، قال فأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت ولى من الكسل والفتور مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ قيل للحسن: ما بال المتعبدين أحسن الناس وجوها؟ قال: لأنهم خلوا بالجليل فألبسهم نورا من نوره. وقال يحيى بن أبى كثير: والله ما رجل يخلو بأهله عروسا أقر ما كانت نفسه وآنس، بأشد سرورا منهم بمناجاة ربهم تعالى إذا خلوا به. وقال عطاء الخراساني: قيام الليل محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والأعضاء كلها، وإن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحا مسرورا، وإذا نام عن حزبه أصبح حزينا مكسور القلب كأنه قد فقد شيئا، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا.
وقال ابن أبى الدنيا، حدثنا أبو جعفر أحمد بن منيع حدثنا هاشم بن القاسم أبو النصر حدثنا بكر بن حبيش عن محمد القرشي عَنْ رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عن بلال قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير عن السيئات، ومطردة للشيطان عن الجسد» وقد رواه غيره من طرق: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم» ويكفى في هذا الباب ما رواه أهل الصحيح والمسانيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قافية أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد. فإذا استيقظ وذكر الله انحلت(9/294)
عقدة، وإذا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النفس كسلان» . وهذا باب واسع. وقد قال هود فيما أخبر الله عنه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ 7: 59 ثم قال: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ 11: 52 وهذه القوة تشمل جميع القوى، فيزيد الله عابديه قوة في إيمانهم ويقينهم ودينهم وتوكلهم، وغير ذلك مما هو من جنس ذلك، ويزدهم قوة في أسماعهم وأبصارهم وأجسادهم وأموالهم وأولادهم وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصمد أنه سمع وهبا يقول:
تصدق صدقة رجل يعلم أنه إنما قدم بين يديه ماله وما خلف مال غيره.
قلت: وهذا كما في الحديث «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ فقالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، فقال: إن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر» . قال: وسمعت وهبا على المنبر يقول:
احفظوا عنى ثلاثا، إياكم وهوى متبعا، وقرين سوء، وإعجاب المرء بنفسه. وقد رويت هذه الألفاظ في حديث. وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن عبد الصمد بن معقل حدثنا إبراهيم بن الحجاج قال: سمعت وهبا يقول: أحب بنى آدم إلى الشيطان النؤوم الأكول.
وقال الامام أحمد: حدثنا غوث بن جابر حدثنا عمران بن عبد الرحمن أبو الهذيل أنه سمع وهبا يقول: إن الله عز وجل يحفظ بالعبد الصالح القيل من الناس. وقال أحمد أيضا: حدثنا إبراهيم بن عقيل حدثنا عمران أبو الهذيل من الأنباء عن وهب بن منبه قال: ليس من الآدميين أحد إلا ومعه شيطان موكل به، فأما الكافر فيأكل معه ويشرب معه، وينام معه على فراشه. وأما المؤمن فهو مجانب له ينتظر متى يصيب منه غفلة أو غرة. وأحب الآدميين إلى الشيطان الأكول النؤوم. وقال محمد بن غالب: حدثنا أبو المعتمر ابن أخى بشر بن منصور عن داود بن أبى هند عن وهب. قال:
قرأت في بعض الكتب الّذي أنزلت من السماء على بعض الأنبياء: أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: أتدري لم اتخذتك خليلا؟ قال: لا يا رب، قال: لذل مقامك بين يدي في الصلاة.
وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا محمد بن أيوب حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس ابن وهب بن منبه قال: حدثني أبى قال: كان لسليمان بن داود ألف بيت أعلاه قوارير وأسفله حديد فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فاستعظم ما أوتى سليمان من الملك، فقال: لقد أوتى آل داود ملكا عظيما، فحملت الريح كلام الحراث فألقته في أذن سليمان، قال: فأمر الريح فوقفت، ثم نزل يمشى حتى أتى الحراث فقال له: إني قد سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه مما أقدرنى الله عليه تفضلا وإحسانا منه على، لأنه هو الّذي أقامنى لهذا وأعاننى. ثم قال:
والله لتسبيحة واحدة يقبلها الله عز وجل منك أو من مؤمن خير مما أوتى آل داود من الملك، لأن(9/295)
ما أوتى آل داود من ملك الدنيا يفنى، والتسبيحة تبقى، وما يبقى خير مما يفنى. فقال الحراث:
أذهب الله همك كما أذهبت همي.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن عقيل بن معقل حدثني أبى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. قَالَ:
إِنَّ اللَّهَ عز وجل أعطى موسى عليه السلام نورا، فقال له هارون: هبه لي يا أخى، فوهبه له، فأعطاه هارون ابنه، وكان في بيت المقدس آنية تعظمها الأنبياء والملوك، فكان ابنا هارون يسقيان في تلك الآنية الخمر، فنزلت نار من السماء فاختطفت ابني هارون فصعدت بهما، ففزع هارون لذلك فقام مستغيثا متوجها بوجهه إلى السماء بالدعاء والتضرع، فأوحى الله إليه: يا هارون هكذا أفعل بمن عصاني من أهل طاعتي، فكيف فعلى بمن عصاني من أهل معصيتي؟. وقال الحكم بن أبان: نزل بى ضيف من أهل صنعاء فقال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن للَّه عز وجل في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء يجمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم. وقال: من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظلمه، فمن غلب علمه هواه فذلك العالم الغلاب. وقال فضيل بن عياض: أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلى، وما يكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم إذا صاروا إلى داري، وتبحبحوا في رياض نعمتي؟ هنالك فليبشر المضعفون للَّه أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب، أتراني أنسى لهم عملا؟ وكيف وأنا ذو الفضل العظيم أجود على المولين المعرضين عنى، فكيف بالمقبلين على؟ وما غضبت على شيء كغضبى على من أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي، ولو تعاجلت بالعقوبة أحدا، أو كانت العجلة من شأنى، لعاجلت القانطين من رحمتي. ولو رآني عبادي المؤمنون كيف أستوهبهم ممن اعتدوا عليه، ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم، اتهموا فضلي وكرمي، أنا الديان الّذي لا تحل معصيتي، والّذي أطاعنى أطاعنى برحمتي، ولا حاجة لي بهوان من خاف مقامي. ولو رآني عبادي يوم القيامة كيف أرفع قصورا تحار فيها الأبصار فيسألونى: لمن ذا؟ فأقول: لمن وهب لي ذنبا ما لم يوجب على نفسه معصيتي والقنوط من رحمتي، وإني مكافئ على المدح فامدحونى.
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا سلمة بْنِ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن عقبة حدثنا عبد الرحمن أبو طالوت حدثني مهاجر الأسدي عن وهب. قال: مرّ عيسى بن مريم ومعه الحواريون بقرية قد مات أهلها، إنسها وجنها، وهوامها وأنعامها وطيورها، فقام عليها ينظر إليها ساعة ثم أقبل على أصحابه فقال: إنما مات هؤلاء بعذاب من عند الله، ولولا ذلك لماتوا متفرقين. ثم ناداهم عيسى:
يا أهل القرية، فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله، فقال: ما كانت جنايتكم وسبب هلاككم؟ قال(9/296)
عبادة الطاغوت وحب الدنيا، قال: وما كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: طاعة أهل المعاصي هي عبادة الطاغوت. قال: وما كان حبكم للدنيا؟ قال: كحب الصبىّ لأمه، كنا إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت حزنا، مع أمل بعيد، وإدبار عن طاعة الله، وإقبال على مساخطه. قال: فكيف كان هلاككم؟ قال: بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في هاوية، قال: وما الهاوية؟ قال: سجين، قال:
وما السجين؟ قال: جمرة من نار مثل أطباق الدنيا كلها دفنت أرواحنا فيها، قال: فما بال أصحابك لا يتكلمون؟ قال: لا يستطيعون أن يتكلموا. قال: وكيف ذلك؟ قال: هم ملجمون بلجم من نار. قال: وكيف كلمتنى أنت من بينهم؟ قال: كنت فيهم لما أصلبهم العذاب ولم أكن منهم ولا على أعمالهم، فلما جاء البلاء عمني معهم، وأنا معلق بشعرة في الهاوية لا أدرى أكردس فيها أم أنجو. فقال عيسى عليه السلام عند ذلك لأصحابه: بحق أقول لكم: لخبز الشعير وشرب الماء القراح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة وروى الطبراني عنه أنه قال: لا يكون المرء حكيما حتى يطيع الله عز وجل، وما عصى الله حكيم، ولا يعصى الله إلا أحمق، وكما لا يكمل النهار إلا بالشمس، ولا يعرف الليل إلا بالظلام، كذلك لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله عز وجل، ولا يعصى الله حكيم، كما لا يطير الطير إلا بجناحين، ولا يستطيع من لا جناح له أن يطير، كذلك لا يطيع الله من لا يعمل له، ولا يطيق عمل الله من لا يطيعه. وكما لا مكث للنار في الماء حتى تطفأ، كذلك لا مكث لعمل الرياء حتى يبور. وكما يبدي سرّ الزانية وفضيحتها فعلها، كذلك يفتضح بالفعل السيئ من كان يقرأ لجليسه بالقول الحسن ولم يعمل به. وكما تكذب معذرة السارق بالسرقة إذا ظهر عليها عنده، كذلك تكذب معصية القارئ للَّه قراءته إذا كان يقرؤها لغير الله تعالى.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن النضر حدثنا على بن بحر بن بري حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم حدثنا عبد الصمد بن معقل. قال سمعت وهبا يقول: في مزامير آل داود: طوبى لمن يسلك سبيل الحطابين ولا يجالس البطالين، وطوبى لمن يسلك طريق الأئمة ويستقيم على عبادة ربه، فمثله كمثل شجرة نابتة على ساقية لا تزال فيها الحياة، ولا تزال خضراء. وروى الطبراني أيضا عنه قال: إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء، وقطرت العضاة دما. وروى عنه أنه قال:
ما من شيء إلا يبدو صغيرا ثم يكبر، إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر. وروى عنه أيضا أنه قال: وقف سائل على باب داود عليه السلام، فقال: يا أهل بيت النبوة تصدقوا علينا بشيء رزقكم الله رزق التاجر المقيم في أهله. فقال داود: أعطوه، فو الّذي نفسي بيده إنها لفي الزبور.
وقال: من عرف بالكذب لم يجز صدقه، ومن عرف بالصدق ائتمن على حديثه، ومن أكثر الغيبة(9/297)
والبغضاء لم يوثق منه بالنصيحة، ومن عرف بالفجور والخديعة لم يؤمن إليه في المحنة، ومن انتحل فوق قدره جحد قدره، ولا تستحسن فيك ما تستقبح في غيرك. هذه الآثار رواها الطبراني عنه من طرق.
وروى داود بن عمرو عَنْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عثمان بن خيثم. قال: قدم علينا وهب مكة فطفق لا يشرب ولا يتوضأ إلا من زمزم، فقيل له: مالك في الماء العذب؟ فقال:
ما أنا بالذي أشرب وأتوضأ إلا من زمزم حتى أخرج منها، إنكم لا تدرون ما ماء زمزم، والّذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله طعام طعم، وشفاء سقم، ولا يعمد أحد إليها يتضلع منها ريا، ابتغاء بركتها، إلا نزعت منه داء وأحدثت له شفاء. وقال: النظر في زمزم عبادة. وقال: النظر فيها يحط الخطايا حطا. وقال وهب: مسخ بخت نصّر أسدا فكان ملك السباع، ثم مسخ نسرا فكان ملك الطيور، ثم مسخ ثورا فكان ملك الدواب، وهو في كل ذلك يعقل عقل الإنسان، وكان ملكه قائما يدبر، ثم رد الله عليه روحه إلى حالة الإنسان، فدعا إلى توحيد الله وقال: كل إله باطل إلا إله السماء. فقيل له: أمات مؤمنا؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: آمن قبل أن يموت، وقال بعضهم: قتل الأنبياء، وحرق الكتب، وحرق بيت المقدس، فلم يقبل منه التوبة. هكذا رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن الفرج عن عباس بن يزيد عن عبد الرزاق عن بكار بن عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يقول، فذكره.
وقال وهب: كان رجل بمصر فسألهم ثلاثة أيام أن يطعموه فلم يطعموه، فمات في اليوم الرابع فكفنوه ودفنوه، فأصبحوا فوجدوا الكفن في محرابهم مكتوب عليه: قتلتموه حيا وبررتموه ميتا؟
قال يحيى: فأنا رأيت القرية التي مات فيها ذلك الرجل، وما بها أحد إلا وله بيت ضيافة، لا غنى ولا فقير هكذا رواه يحيى بن عبد الباقي عن على بن الحسن عن عبد الله بن أخى وهب، قال: حدثني عمى وهب بن منبه فذكره. قال: وأهل القرية يعترفون بذلك، فمن ثم اتخذوا بيوتا للضيفان والفقراء خوفا من ذلك. وقال عبد الرزاق عن بكار عن وهب. قال: إذا دخلت الهدية من الباب خرج الحق من الكوة. وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثنا إبراهيم بن سعيد عن عبد المنعم بن إدريس عن عبد الصمد عن وهب بن منبه قال: مر نبي من الأنبياء على عابد في كهف جبل، فمال إليه فسلم عليه وقال له: يا عبد الله منذ كم أنت هاهنا؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قال: من أين معيشتك؟ قال:
من ورق الشجر، قال: فمن أين شرابك؟ قال: من ماء العيون، قال: فأين تكون في الشتاء؟
قال: تحت هذا الجبل، قال: فكيف صبرك على العبادة؟ قال: وكيف لا أصبر وإنما هو يومى إلى الليل، وأما أمس فقد مضى بما فيه، وأما غد فلم يأت بعد. قال: فعجب النبي من قوله: إنما هو(9/298)
يومى إلى الليل. وبهذا الاسناد أن رجلا من العباد قال لمعلمه: قطعت الهوى فلست أهوى من الدنيا شيئا. فقال له معلمه: أتفرق بين النساء والدواب إذا رأيتهن معا؟ قال: نعم، قال أتفرق بين الدنانير والدراهم والحصا؟ قال نعم، قال: يا بنى إنك لم تقطع الهوى عنك ولكنك قد أوثقته فاحذر انفلاته وانقلابه.
وقال غوث بن جابر بن غيلان بن منبه: حدثني عقيل بن معقل عن وهب قال: اعمل في نواحي الدين الثلاث، فان للدين نواحي ثلاثا، هن جماع الأعمال الصالحة لمن أراد جمع الصالحات «أولاهن» تعمل شكرا للَّه على الأنعم الكثيرات الغاديات الرائحات، الظاهرات الباطنات، الحادثات القديمات، يعمل المؤمن شكرا لهن ورجاء تمامهن «والناحية الثانية من الدين» رغبة في الجنة التي ليس لها ثمن وليس لها مثل، ولا يزهد فيها وفي العمل لها إلا سفيه فاجر، أو منافق كافر «والناحية الثالثة من الدين» أن يعمل المؤمن فرارا من النار التي ليس لأحد عليها صبر، ولا لأحد بها طاقة ولا يدان، وليست مصيبتها كالمصيبات، ولا حزن أهلها كالأحزان، نبأها عظيم، وشأنها شديد، والآخرة وحزنها فظيع، ولا يغفل عن الفرار والتعوذ باللَّه منها إلا سفيه أحمق خاسر، قد خسر الدنيا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ 22: 11.
وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الملك بن محمد الدمادى قال أخبرنى محمد بن سعيد بن رمانة قال أخبرنى أبى قال قيل لوهب: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان، فمن أتى الباب بمفتاح بأسنانه فتح له، ومن لم يأت الباب بمفتاح بأسنانه لم يفتح له. وقال محمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم حدثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا يقول: ركب ابن ملك في جند من قومه وهو شاب، فصرع عن فرسه فدق عنقه فمات في أرض قريبة من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم، وأن يطأهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى الأفيال والخيل الخمر وقال: طأوهم بالأفيال، وإلا فما أبقت الأفيال فلتطأه الخيل، فما أخطأته الخيل فلتطأه الرجال فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله سبحانه وعجوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم، وما قصده من هلاكهم.
فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الأفيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال، فقتل الملك ومن معه وطأ بالأفيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم.
وروى عبد الرزاق عن المنذر بن النعمان أنه سمع وهبا يقول: قال الله تعالى لصخرة بيت(9/299)
المقدس: لأضعنّ عليك عرشي، ولأحشرن عليك خلقي، وليأتينك داود يومئذ راكبا. وروى سماك بن المفضل عن وهب قال: إني لأتفقد أخلاقى وما فيها شيء يعجبني. وروى عبد الرزاق عن أبيه قال قال وهب: ربما صليت الصبح بوضوء العتمة. وقال بقية بن الوليد: حدثنا زيد بن خالد عن خالد بن معدان عن وهب قال: كان نوح عليه السلام من أجمل أهل زمانه، وكان يلبس البرقع فأصابهم مجاعة في السفينة، فكان نوح إذا تجلى لهم شبعوا. وقال قال عيسى: الحق أقول لكم:
إن أشدكم جزعا على المصيبة أشدكم حبا للدنيا. وقال جعفر بن برقان: بلغنا أن وهبا كان يقول:
طوبى لمن نظر في عيبه عن عيب غيره، وطوبى لمن تواضع للَّه من غير مسكنة، ورحم أهل الذل والمسكنة، وتصدق من مال جمعه من غير معصية، وجالس أهل العلم والحلم والحكمة، ووسعته السنة ولم يتعدها إلى البدعة. وروى سيار عن جعفر عن عبد الصمد بن معقل عن وهب قال: وجدت في زبور داود: يا داود هل تدري من أسرع الناس مرّا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي، وألسنتهم رطبة بذكري. وقيل إن عابدا عبد الله تعالى خمسين سنة فأوحى الله إلى نبيهم: إني قد غفرت له، فأخبره ذلك النبي، فقال: أي رب، وأي ذنب تغفر لي؟ فأمر عرقا في عنقه فضرب عليه، فلم ينم ولم يهدأ ولم يصل ليلته، ثم سكن العرق، فشكا ذلك إلى النبي، فقال: ما لاقيت من عرق ضرب على في عنقي ثم سكن. فقال له النبي: إن الله يقول: إن عبادتك خمسين سنة ما تعدل سكون هذا العرق. وقال وهب: رءوس النعم ثلاثة «إحداها» نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها. «والثانية» نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها. «والثالثة» نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها. ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح وهو يقول: الحمد للَّه على نعمه، فقال له رجل كان مع وهب: أي شيء بقي عليك من النعمة تحمد الله عليه؟ فقال المبتلى: أدم بصرك إلى أهل المدينة وانظر إلى كثرة أهلها، أو لا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري؟.
وقال وهب: المؤمن يخالط ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم ليفقههم، ويخلو ليقيم. وقال: المؤمن مفكر مذكر مدخر، تذكر فغلبته السكينة، سكن فتواضع فلم يتهم، رفض الشهوات فصار حرا، ألقى عنه الحسد فظهرت له المحبة، زهد في كل فان فاستكمل العقل، رغب في كل باق فعقل المعرفة، قلبه متعلق بهمه، وهمه موكل بمعاده، لا يفرح إذا فرح أهل الدنيا، بل حزنه عليه سرمد، وفرحه إذا نامت العيون يتلو كتاب الله ويردده على قلبه، فمرة يفزع قلبه ومرة تدمع عينه، يقطع عنه الليل بالتلاوة، ويقطع عنه النهار بالخلوة والعزلة، مفكرا في ذنوبه، مستصغرا لأعماله. وقال وهب: فهذا ينادى يوم القيامة في ذلك الجمع العظيم على رءوس الخلائق: قم أيها الكريم فادخل الجنة.
وقال إبراهيم بن سعيد عن عبد الرحمن بن مسعود عن ثور بن يزيد. قال قال وهب بن منبه:(9/300)
الويل لكم إذا سماكم الناس صالحين، وأكرموكم على ذلك. وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الكشوري حدثنا همام بن سلمة بن عقبة حدثنا غوث بن جابر حدثنا عقيل بن معقل بن منبه قال: سمعت عمى وهب بن منبه يقول: يا بنى! أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق بها فعلك في العلانية، فان من فعل خيرا ثم أسره إلى الله فقد أصاب مواضعه، وأبلغه قراره، ووضعه عند حافظه وإن من أسر عملا صالحا لم يطلع عليه إلا الله، فقد أطلع عليه من هو حسبه، واستحفظه واستودعه حفيظا لا يضيع أجره، فلا تخافن يا بنى على من عمل صالحا أسره إلى الله عز وجل ضياعا، ولا تخافن ظلمة ولا هضمة، ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فان مثل العلانية مع السريرة كمثل ورق الشجرة مع عرقها، العلانية ورقها والسريرة أصلها، إن يحرق العرق هلكت الشجرة كلها، وإن صلح الأصل صلحت الشجرة، ثمرها وورقها، والورق يأتى عليه حين يجف ويصير هباء تذروه الرياح، بخلاف العرق، فإنه لا يزال ما ظهر من الشجرة في خير وعافية ما كان عرقها مستخفيا لا يرى منه شيء، كذلك الدين والعلم والعمل، لا يزال صالحا ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانية العبد، فان العلانية تنفع مع السريرة الصالحة، ولا تنفع العلانية مع السريرة الفاسدة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياته من قبل عرقها، فان فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فان العلانية معها تزين الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل.
وقال الهيثم بن جميل: حدثنا صالح المري عن أبان عن وهب قال: قرأت في الحكمة: الكفر أربعة أركان، ركن منه الغضبة، وركن منه الشهوة، وركن منه الطمع، وركن منه الخوف. وقال:
أوحى الله تعالى إلى موسى: إذا دعوتني فكن خائفا مشفقا وجلا، وعفر خدك بالتراب، واسجد لي بمكارم وجهك ويديك، وسلني حين تسألنى بخشية من قلبك ووجل، واخشنى أيام الحياة، وعلم الجهال آلائي، وقل لعبادي لا يتمادوا في غى ما هم فيه فان أخذى أليم شديد. وقال وهب: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به دخل النقص على أهل مملكته، وقلت البركات في التجارات والزراعات والضروع والمواشي، ودخل المحق في ذلك، وأدخل الله عليه الذل في ذاته وفي ملكه. وإذا هم بالعدل والخير كان عكس ذلك، من كثرة الخير ونمو البركات. وقال وهب: كان في مصحف إبراهيم عليه السلام أيها الملك المبتلى، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولا لتبنى البنيان، وإنما بعثتك لترفع لي دعوة المظلوم فانى لا أردها ولو كانت من كافر.
وروى ابن أبى الدنيا عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أن ذا القرنين قال لبعض الملوك:
ما بال ملتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة؟ قال: من قبل أنا لا نخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا. وروى(9/301)
ابن أبى الدنيا عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه أصاب البر، سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام. وقال ابن أبى الدنيا: حدثني سلمة بن شبيب حدثنا سهل بن عاصم عن سلمة بن ميمون عن المعافى بن عمران عن إدريس قال: سمعت وهبا يقول: كان في بنى إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أنهما مشيا على الماء، فبينما هما يمشيان على البحر إذا هما برجل يمشى في الهواء، فقالا له: يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة؟ قال: بيسير من البر فعلته، ويسير من الشر تركته، فطمت نفسي عن الشهوات، وكففت لساني عما لا يعنيني، ورغبت فيما دعاني إليه خالقي، ولزمت الصمت فان أقسمت على الله عز وجل أبر قسمي، وإن سألته أعطانى. وقال: حدثني أبو العباس البصري الأزدي عن شيخ من الأزد. قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: علمني شيئا ينفعني الله به، قال: أكثر من ذكر الموت، واقصر أملك، وخصلة ثالثة إن أنت أصبتها بلغت الغاية القصوى، وظفرت بالعبادة الكبرى قال: وما هي؟ قال: التوكل.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
سُلَيْمَانُ بْنُ سعد
كان جميلا فصيحا عالما بالعربية، وكان يعلمها الناس هو وصالح بن عبد الرحمن الكاتب، وتوفى صالح بعده بقليل، وكان صالح فصيحا جميلا عارفا بكتابة الديوان، وبه يخرج أهل العراق من كتابة الديوان وقد ولاه سليمان بن عبد الملك خراج العراق.
أم الهذيل
لها روايات كثيرة، وقد قرأت القرآن وعمرها اثنتي عشر سنة، وكانت فقيهة عالمة، من خيار النساء، عاشت سبعين سنة.
عائشة بنت طلحة بن عبد الله التميمي
أمها أم كلثوم بنت أبى بكر، تزوجت بابن خالها عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بكر، ثم تزوجت بعده بمصعب بن الزبير، وأصدقها مائة ألف دينار، وكانت بارعة الجمال، عظيمة الحسن لم يكن في زمانها أجمل منها. توفيت بالمدينة.
عبد الله بن سعيد بن جبير
له روايات كثيرة، وكان من أفضل أهل زمانه،
عبد الرحمن بن أبان
ابن عثمان بن عفان. له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة] [1]
__________
[1] من أول الفصل الّذي في ص 267 إلى هنا زيادة من المصرية.(9/302)
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى [1] ، وَغَزَا سَعِيدُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى [2] ، حَتَّى بَلَغَ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ. وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَشْرَسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَوَلَّى عَلَيْهَا الْجُنَيْدَ بن عبد الرحمن، فلما قدم خراسان تَلَقَّتْهُ خُيُولُ الْأَتْرَاكِ مُنْهَزِمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ فَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَطَمِعُوا فِيهِ وَفِيمَنْ مَعَهُ لِقِلَّتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، ومعهم ملكهم خاقان، وكاد الْجُنَيْدُ أَنْ يَهْلَكَ، ثُمَّ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ فَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَأَسَرَ ابْنَ أَخِي مَلِكِهِمْ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ، وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ، وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ الْجُنَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرِّيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ فَافْتَتَحَ حُصُونًا مِنْ نَاحِيَةِ ملاطية. وَفِيهَا سَارَتِ التُّرْكُ مِنَ اللَّانِ فَلَقِيَهُمُ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَاقْتَتَلُوا قَبْلَ أَنْ يَتَكَامَلَ إِلَيْهِ جَيْشُهُ، فَاسْتُشْهِدَ الْجَرَّاحُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ بِمَرْجِ أَرْدَبِيلَ، وَأَخَذَ الْعَدُوُّ أَرْدَبِيلَ.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعَثَ سعيد بن عمرو الجرشى بجيش وأمره بالإسراع إليهم، فلحق الترك وهم يسيرون بأسارى المسلمين نحو ملكهم خاقان، فاستنقذ منهم الأسارى ومن كان معهم من نساء المسلمين، ومن أهل الذمة أيضا، وقتل من التُّرْكِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا فَقَتَلَهُمْ صَبْرًا، وَشَفَى مَا كَانَ تَغَلَّثَ من القلوب، ولم يكتف الخليفة بِذَلِكَ حَتَّى أَرْسَلَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أَثَرِ التُّرْكِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَشِتَاءٍ عَظِيمٍ، فَوَصَلَ إِلَى بَابِ الأبواب واستخلف عنه أَمِيرًا وَسَارَ هُوَ بِمَنْ مَعَهُ فِي طَلَبِ الْأَتْرَاكِ وَمَلِكِهِمْ خَاقَانَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَنَهَضَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ فِي طَلَبِ الْأَتْرَاكِ أَيْضًا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَوَصَلَ إِلَى نَهْرِ بَلْخَ وَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ سِرِّيَّةً ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأُخْرَى عَشَرَةَ آلَافٍ يُمْنَةً وَيُسْرَةً، وَجَاشَتِ الترك وجيشت، فأتوا سمرقند فكتب أميرها إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ بِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى صَوْنِ سَمَرْقَنْدَ مِنْهُمْ، وَمَعَهُمْ مِلْكُهُمُ الْأَعْظَمُ خَاقَانُ، فَالْغَوْثَ الْغَوْثَ. فَسَارَ الْجُنَيْدُ مُسْرِعًا فِي جَيْشٍ كثيف هو نَحْوَ سَمَرْقَنْدَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى شِعْبِ سَمَرْقَنْدَ وَبَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، فَصَبَّحَهُ خَاقَانُ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَحَمَلَ خَاقَانُ عَلَى مُقَدِّمَةِ الجنيد فانجازوا إِلَى الْعَسْكَرِ وَالتُّرْكُ تَتْبَعُهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَالْمُسْلِمُونَ يَتَغَدَّوْنَ وَلَا يَشْعُرُونَ بِانْهِزَامِ مُقَدِّمَتِهِمْ وَانْحِيَازِهَا إِلَيْهِمْ، فَنَهَضُوا إِلَى السِّلَاحِ وَاصْطَفَوْا عَلَى مَنَازِلِهِمْ، وَذَلِكَ فِي مَجَالٍ وَاسِعٍ، وَمَكَانٍ بارز، فالتقوا وحملت الترك على ميمنة المسلمين وفيها بنو تميم والأزد، فقتل منهم ومن غيرهم خلق
__________
[1] أي البلاد الواقعة في ساحل بلاد الأناضول.
[2] أي بر الاناضول من جهة البلاد الداخلية(9/303)
كَثِيرٌ، مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ بَرَزَ بَعْضُ شُجْعَانِ الْمُسْلِمِينَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ شُجْعَانِ الترك فقتلهم، فناداه منادى خاقان: إن صرت إلينا جعلناك ممن يرقص الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ فَنَعْبُدُكَ. فَقَالَ:
وَيْحَكُمْ، إِنَّمَا أُقَاتِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ تَنَاخَى الْمُسْلِمُونَ وَتَدَاعَتِ الْأَبْطَالُ وَالشُّجْعَانُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَصَبَرُوا وَصَابَرُوا، وَحَمَلُوا عَلَى التُّرْكِ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ عَطَفَتِ التُّرْكُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا حَتَّى لَمْ يَبْقَ سِوَى أَلْفَيْنِ، فَإِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ سَوْدَةُ بْنُ أَبْجَرَ وَاسْتَأْسَرُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً فَحَمَلُوهُمْ إِلَى الْمَلِكِ خَاقَانَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَإِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَهَذِهِ الْوَقْعَةُ يُقَالُ لَهَا وَقْعَةُ الشِّعْبِ. وَقَدْ بَسَطَهَا ابْنُ جَرِيرٍ جَدًّا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ الْكِنْدِيُّ
أَبُو الْمِقْدَامِ، وَيُقَالُ أَبُو نَصْرٍ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، كَبِيرُ الْقَدْرِ، ثِقَةٌ فَاضِلٌ عَادِلٌ، وَزِيرُ صِدْقٍ لِخُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ مَكْحُولٌ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: سَلُوا شَيْخَنَا وَسَيِّدَنَا رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَوَثَّقُوهُ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ وَكَلَامٌ حَسَنٌ رَحِمَهُ اللَّهُ.
شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيُّ الْحِمْصِيُّ
وَيُقَالُ إِنَّهُ دِمَشْقِيٌّ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ مَوْلَاتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ وَغَيْرِهَا، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ عَالِمًا عَابِدًا نَاسِكًا، لَكِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ بِسَبَبِ أَخْذِهِ خَرِيطَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، فَعَابُوهُ وتركوه عِرْضَهُ، وَتَرَكُوا حَدِيثَهُ وَأَنْشَدُوا فِيهِ الشِّعْرَ، مِنْهُمْ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ سَرَقَ غَيْرَهَا فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ وَثَّقَهُ جَمَاعَاتٌ آخَرُونَ وَقَبِلُوا رِوَايَتَهُ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ وَعَلَى عِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَقَالُوا: لَا يَقْدَحُ فِي رِوَايَتِهِ مَا أَخَذَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ صَحَّ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِ مُتَصَرِّفًا فِيهِ فاللَّه أَعْلَمُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ شَهْرٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ- وَقِيلَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ وَقِيلَ سَنَةَ مِائَةٍ فاللَّه أَعْلَمُ
. ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثلاث عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ أَرْضَ الرُّومِ مِنْ نَاحِيَةِ مَرْعَشَ، وَفِيهَا صَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ إِلَى خُرَاسَانَ وَانْتَشَرُوا فِيهَا، وَقَدْ أَخَذَ أَمِيرُهُمْ رَجُلًا مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ وَتَوَعَّدَ غَيْرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَفِيهَا وَغَلَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي بِلَادِ التُّرْكِ فقتل منهم خلقا كثيرا، وَدَانَتْ لَهُ تِلْكَ الْمَمَالِكُ مِنْ نَاحِيَةِ بَلَنْجَرَ وأعمالها. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هاشم المخزومي، فاللَّه أعلم. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
فِيهَا كَانَ مَهْلِكُ
الْأَمِيرِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ
وَهُوَ مَعَ الْبَطَّالِ عَبْدِ اللَّهِ بِأَرْضِ الرُّومِ قُتِلَ شَهِيدًا وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ(9/304)
هُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ أَبُو عُبَيْدَةَ وَيُقَالُ أَبُو بَكْرٍ، مَوْلَى آلِ مَرْوَانَ مَكِّيٌّ، سَكَنَ الشَّامَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَعَنْهُ خَلْقٌ مِنْهُمْ أَيُّوبُ وَمَالِكُ ابن أَنَسٍ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، حَدِيثُهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَوَعَاهَا ثُمَّ بَلَّغَهَا غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُؤْمِنٍ، إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للَّه، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ، ولزوم جماعة المسلمين، كأن دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» . وَرَوَى عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» . وَقَدْ وَثَّقَ عَبْدَ الْوَهَّابِ هَذَا جَمَاعَاتٌ مِنْ أئمة العلماء. وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ كَثِيرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْغَزْوِ، حَتَّى اسْتُشْهِدَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِمَا فِي رَحْلِهِ مِنْ رُفَقَائِهِ، وَكَانَ سَمْحًا جَوَادًا، اسْتُشْهِدَ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ الْأَمِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله البطال، ودفن هناك رَحِمَهُ اللَّهُ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَالَهُ خَلِيفَةُ وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَفَرَّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ يُنَادِي وَيَرْكُضُ فَرَسَهُ نَحْوَ الْعَدُوِّ: أَنْ هَلُمُّوا إلى الجنة، ويحكم أفرارا من الجنة؟
أتفرون من الجنة؟ إلى أين ويحكم لا مقام لكم في الدنيا ولا بقاء؟ ثم قاتل حتى قتل حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ
تَابِعِيٌّ جليل الْقَدْرِ، إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ هُذَيْلٍ، وَقِيلَ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنْ آلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَكَانَ نُوبِيًّا، وَقِيلَ مِنْ سَبْيِ كَابُلَ، وَقِيلَ كَانَ مِنَ الْأَبْنَاءِ مِنْ سُلَالَةِ الْأَكَاسِرَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا نَسَبَهُ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: طُفْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ: وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ، سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْحِجَازِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ قُلْ، وَإِنَّمَا يَقُولُ كُلْ وَكَانَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، مَهْمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ يُفْعَلْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: كَانَ أَفْقَهَ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنَ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ فِي هذه السنة، وقيل بعدها فاللَّه أعلم:
[مكحول الشامي هو ابن أبى مسلم، واسم أبى مسلم شهزاب بن شاذل. كذا نقلته من خط عبد الهادي، وروى ابن أبى الدنيا عنه أنه قال: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زيد في عقله. وقال مكحول في قوله تعالى ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ 102: 8 قال: بارد الشراب، وظلال المساكن وشبع البطون، واعتدال الخلق، ولذاذة النوم. وقال: إذا وضع المجاهدون أثقالهم عن دوابهم أتتها الملائكة، فمسحت ظهورها ودعت لها بالبركة، إلا دابة في عنقها جرس] [1] .
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/305)
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى وَعَلَى الْيُمْنَى سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام: وَفِيهَا الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ الْبَطَّالُ وَمَلِكُ الرُّومِ الْمُسَمَّى فِيهِمْ قُسْطَنْطِينَ، وَهُوَ ابْنُ هِرَقْلَ الْأَوَّلِ الَّذِي كَتَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسَرَهُ الْبَطَّالُ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ، فَسَارَ بِهِ إِلَى أَبِيهِ. وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ عَنْ إِمْرَةِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي قَوْلٍ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: إنما حج بالناس خَالِدُ بْنُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ
الْفِهْرِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ، أَحَدُ كِبَارِ التَّابِعِينَ الثِّقَاتِ الرُّفَعَاءِ، يُقَالُ إِنَّهُ أَدْرَكَ مِائَتَيْ صَحَابِيٍّ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: كَانَ عَطَاءٌ أُسُودَ أَعْوَرَ أَفْطَسَ أَشَلَّ أَعْرَجَ، ثُمَّ عَمِيَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ ثِقَةً فَقِيهًا عَالِمًا كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ فِي زَمَانِهِ أَعْلَمَ بِالْمَنَاسِكِ مِنْهُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ، وَكَانَ قَدْ حَجَّ سَبْعِينَ حِجَّةً، وَعَمَّرَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ وَيَفْدِي عَنْ إِفْطَارِهِ، وَيَتَأَوَّلَ الْآيَةَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ 2: 184 وَكَانَ يُنَادِي مُنَادِي بَنِي أُمَيَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى: لَا يُفْتِي النَّاسُ فِي الْحَجِّ إِلَّا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: مَا رَأَيْتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
مَاتَ عَطَاءٌ يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ أَرْضَى أَهْلِ الْأَرْضِ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كان في الْمَسْجِدُ فِرَاشَ عَطَاءٍ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أحسن الناس به صَلَاةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةَ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ عَطَاءٌ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحَدِّثُنِي بِالْحَدِيثِ فَأُنْصِتُ لَهُ كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أن يولد، فأريه أنى إنما سمعته الآن منه. وفي رواية: أنا أحفظ منه له فأريه أتى لم أسمعه. الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أعلم.
[فصل
أسند أبو محمد عطاء بن أبى رباح- واسم أبى رباح أسلم- عن عدد كثير من الصحابة، منهم ابن عمرو ابن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وأبو هريرة، وزيد بن خالد الجهنيّ، وأبو سعيد. وسمع من ابن عباس التفسير وغيره. وروى عنه من التابعين عدة، منهم الزهري، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، وقتادة، ويحيى بن كثير، ومالك بن دينار، وحبيب بن أبى ثابت، والأعمش، وأيوب السختياني، وغيرهم من الأئمة والأعلام كثير. قال أبو هزان: سمعت عطاء بن أبى رباح يقول:(9/306)
من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشر مجالس من مجالس الباطل. قال أبو هزان:
قلت لعطاء: ما مجلس الذكر؟ قال: مجالس الحلال والحرام، كيف تصلى، كيف تصوم، كيف تنكح وتطلق وتبيع وتشترى.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة الصنعاني.
قال: سمعت عطاء بن أبى رباح يقول فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ 27: 48 قال: كانوا يقرضون الدراهم، قيل كانوا يقصون منها ويقطعونها. وقال الثوري عن عبد الله بن الوليد- يعنى الوصافي- قال: قلت لعطاء: ما ترى في صاحب قلم إن هو كتب به عاش هو وعياله في سعة، وإن هو تركه افتقر؟ قال: من الرأس؟ قلت القسري لخالد.
قال عطاء: قال العبد الصالح رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ 28: 17. وقال: أفضل ما أوتى العباد العقل عن الله وهو الدين. وقال عطاء: ما قال العبد: يا رب، يا رب، ثلاث مرات إلا نظر الله إليه، قال: فذكرت ذلك للحسن فقال: أما تقرءون القرآن رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا 3: 193 إلى قوله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ 3: 195 الآيات.
وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أبو عبد الله السلمي حدثنا ضمرة عن عمر بن الورد قال قال عطاء: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة فافعل. وقال سعيد بن سلام البصري: سمعت أبا حنيفة النعمان يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شيء فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة. قال: أنت من أهل القرية الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا؟ قلت: نعم! قال: فمن أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب:
فقال عطاء: عرفت فالزم. وقال عطاء: ما اجتمعت عليه الأمة أقوى عندنا من الاسناد. وقيل لعطاء: إن هاهنا قوما يقولون: الايمان لا يزيد ولا ينقص، فقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً 47: 17 فما هذا الهدى الّذي زادهم؟ قلت: ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله، فقال: قال تعالى:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ 98: 5 فجعل ذلك دينا. وقال يعلى بن عبيد: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: ألا أحدثكم بحديث لعله أن ينفعكم، فإنه نفعني، قال لي عطاء بن أبى رباح: يا ابن أخى إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام إنما، ما عدا كتاب الله أن يقرأ، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر، أو ينطق العبد بحاجته في معيشته التي لا بد له منها، أتنكرون: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ 82: 10- 11 و: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ 50: 17- 18 أما يستحى أحدكم(9/307)
لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره فرأى أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه؟.
وقال: إذا أنت خفت الحر من الليل فاقرأ: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم.
وروى الطبراني وغيره أن الحلقة في المسجد الحرام كانت لابن عباس، فلما مات ابن عباس كانت لعطاء بن أبى رباح. وروى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الفضل بن دكين عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: ما رأيت أحدا يطلب بعمله ما عند الله تعالى إلا ثلاثة، عطاء، وطاوس، ومجاهد. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عمر بن ذر قال: ما رأيت مثل عطاء قط، وما رأيت على عطاء قميصا قط، ولا رأيت عليه ثوبا يساوى خمسة دراهم. وقال أبو بلال الأشعري:
حدثنا قيس عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: أن يعلى بن أمية كانت له صحبة، وكان يقعد في المسجد ساعة ينوى فيها الاعتكاف. وروى الأوزاعي عن عطاء قال: إن كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتعجن، وإن كانت قصتها لتضرب بالجفنة. وعن الأوزاعي عنه قال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ الله 24: 2 قال: ذلك في إقامة الحد عليهما.
وقال الأوزاعي: كنت باليمامة وعليها رجل وال يمتحن النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ منافق وما هو بمؤمن، ويأخذ عليهم بالطلاق والعتاق أن يسمى المسيء منافقا وما يسميه مؤمنا، فأطاعوه على ذلك وجعلوه له، قال: فلقيت عطاء فيما بعد فسألته عن ذلك فقال: ما أرى بذلك بأسا يقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً 3: 28.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حدثنا إسماعيل بن أمية قال: كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم تخيل إلينا أنه يؤيد. وقال في قوله تعالى: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله 24: 37 قال:
لا يلهيهم بيع ولا شراء عن مواضع حقوق الله تعالى التي افترضها عليهم أن يؤدوها في أوقاتها وأوائلها. وقال ابن جرير: رأيت عطاء يطوف بالبيت فقال لقائده: أمسكوا احفظوا عنى خمسا:
القدر خيره وشره، حلوه ومره من الله عز وجل، وليس للعباد فيه مشيئة ولا تفويض. وأهل قبلتنا مؤمنون حرام دماؤهم وأموالهم إلا بحقها. وقتال الفئة الباغية بالأيدي والنعال والسلاح، والشهادة على الخوارج بالضلالة. وقال ابن عمر: تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء بن أبى رباح.
وقال معاذ بن سعد: كنت جالسا عند عطاء فحدث بحديث، فعرض رجل له في حديثه فغضب عطاء وقال: ما هذه الأخلاق؟ وما هذه الطبائع؟ والله إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه أنى لا أحسن شيئا منه. وكان عطاء يقول: لأن أرى في بيتي شيطانا خير من أن أرى فيه وسادة، لأنها تدعو إلى النوم. وروى عثمان بن أبى شيبة عن عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عن ابن جرير قال: كان عطاء بعد ما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من سورة البقرة(9/308)
وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك. وقال ابن عيينة: قلت لابن جرير: ما رأيت مصليا مثلك.
فقال: لو رأيت عطاء؟. وقال عطاء: إن الله لا يحب الفتى يلبس الثوب المشهور، فيعرض الله عنه حتى يضع ذلك الثوب. وكان يقال: ينبغي للعبد أن يكون كالمريض لا بد له من قوت، وليس كل الطعام يوافقه. وكان يقال: الدعوة تعمى عين الحكيم فكيف بالجاهل؟ ولا تغبطن ذا نعمة بما هو فيه فإنك لا تدري إلى ماذا يصير بعد الموت] [1]
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة
فَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ بِالشَّامِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ. وَالنُّوَّابُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ هُمُ المذكورون في التي قَبْلَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبي طالب الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَأُمُّهُ أُمُّ عبد الله بنت الحسن بن على، وهو تابعي جليل، كبير القدر كثيرا، أحد أعلام هذه الأمة علما وعملا وسيادة وَشَرَفًا، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ تَدَّعِي فِيهِ طَائِفَةُ الشِّيعَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ عَلَى طَرِيقِهِمْ وَلَا عَلَى مِنْوَالِهِمْ، وَلَا يَدَيْنُ بِمَا وَقَعَ فِي أَذْهَانِهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ وَخَيَالِهِمْ، بَلْ كَانَ مِمَّنْ يُقَدِّمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ فِي الْأَثَرِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي إلا وهو يتولاهما رضى الله عنهما. وَقَدْ رَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. فَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، وَالْحَكَمُ بن عتيبة، وربيعة، والأعمش، وأبو إسحاق السبيعي، والأوزاعي والأعرج، وهو أسن منه، وابن جريج وعطاء وعمرو بن دينار والزهري.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ قال: حدثني أبى وكان خير محمدي يومئذ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: هُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي قَوْلٍ وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا أَوْ فِي الَّتِي هي بعدها وبعد بعدها والله أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ وَقِيلَ لَمْ يُجَاوِزِ الستين فاللَّه أعلم.
[فصل
أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبى طالب، كان أبوه على زين العابدين، وجده الحسين قتلا شهيدين بالعراق. وسمى الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم، كان ذاكرا خاشعا صابرا وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب عالى الحسب، وكان عارفا بالخطرات، كثير البكاء والعبرات معرضا عن الجدال والخصومات.
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/309)
قال أبو بلال الأشعري: حدثنا محمد بن مروان عن ثابت عن محمد بن على بن الحسين في قوله تعالى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا 25: 75 قال: الغرفة الجنة بما صبروا على الفقر في الدنيا. وقال عبد السلام بن حرب عن زيد بن خيثمة عن أبى جعفر قال: الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر. قلت: وقد روى نحو هذا عن ابن عباس قال: لو نزل من السماء صواعق عدد النجوم لم تصب الذاكر. وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن على: يا جابر إني لمحزون، وإني لمشتغل القلب. قلت: وما حزنك وشغل قلبك؟ قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافى دين الله عز وجل شغله عما سواه، يا جابر ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون؟ هل هي إلا مركبا ركبته؟ أو ثوبا لبسته؟ أو امرأة أصبتها؟ يا جابر! إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم، ولم يصمهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم عن نور الله ما رأوا بأعينهم من الزينة ففازوا بثواب الأبرار. إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة، وأكثرهم لك معونة، إن نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك، قوالين بحق الله، قوامين بأمر الله، قطعوا لمحبة ربهم عز وجل، ونظروا إلى الله وإلى محبته بقلوبهم، وتوحشوا من الدنيا لطاعة محبوبهم، وعلموا أن ذلك من أمر خالقهم، فأنزلوا الدنيا حيث أنزلها مليكهم كمنزل نزلوه ثم ارتحلوا عنه وتركوه، وكماء أصبته في منامك فلما استيقظت إذا ليس في يدك منه شيء، فاحفظ الله فيما استرعاك من دينه وحكمته. وقال خالد بن يزيد: سمعت محمد بن على يقول: قال عمر بن الخطاب: إذا رأيتم القارئ يحب الأغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان فهو لص. وكان أبو جعفر يصلى كل يوم وليلة بالمكتوبة. وروى ابن أبى الدنيا عنه قال: سلاح اللئام قبيح الكلام. وروى أبو الأحوص عن منصور عنه قال: لكل شيء آفة، وآفة العلم النسيان. وقال لابنه: إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل خبيثة، إنك إذا كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق. وقال: أشد الأعمال ثلاثة ذكر الله على كل حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الأخ في المال. وقال خلف بن حوشب: قال أبو جعفر: الايمان ثابت في القلب، واليقين خطرات، فيمر اليقين بالقلب فيصير كأنه زبر الحديد، ويخرج منه فيصير كأنه خرقة بالية، وما دخل قلب عبد شيء من الكبر إلا نقص من عقله بقدره أو أكثر منه. وقال لجابر الجعفي: ما يقول فقهاء العراق في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ 12: 24؟ قال: رأى يعقوب عاضا على إبهامه. فقال: لا! حدثني أبى عن جدي على بن أبى طالب أن البرهان الّذي رآه أنها حين همت به وهم بها أي طمع فيها، قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها، أو استحياء منه. فقال لها يوسف: ما هذا؟ فقالت إلهي أستحى(9/310)
منه أن يراني على هذه الصورة. فقال يوسف: تستحين من صنم لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، أفلا أستحى أنا من إلهي الّذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: والله لا تنالين منى أبدا. فهو البرهان. وقال بشر بن الحارث الحافى: سمعت سفيان الثوري يقول: سمعت منصورا يقول: سمعت محمد بن على يقول: الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكل أوطناه. وقال: إن الله يلقى في قلوب شيعتنا الرعب، فإذا قام قائمنا، وظهر مهديننا كان الرجل منهم أجرأ من ليث وأمضى من سيف. وقال: شيعتنا من أطاع الله عز وجل واتقاه. وقال: إياكم والخصومة فإنها تفسد القلب، وتورث النفاق، وقال: الذين يخوضون في آيات الله هم أصحاب الخصومات. وقال عروة بن عبد الله: سألت أبا جعفر محمد بن على عن حلية السيف فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه. قال: قلت: وتقول الصديق؟ قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة. وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن على: يا جابر! بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر ويزعمون أنى أمرتهم بذلك، فأبلغهم عنى أنى إلى الله منهم بريء، والّذي نفس محمد بيده- يعنى نفسه- لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لَا نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن لم أكن أستغفر لهما، وأترحم عليهما، إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما وسابقتهما، فأبلغهم أنى بريء منهم وممن تبرأ من أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ: من لم يعرف فضل أبى بكر وعمر فقد جهل السنة. وقال في قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا 5: 55 الآية، قال: هم أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قُلْتُ: يقولون: هو على قال: على مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبى جعفر محمد بن على، قال: رأيت الحكم عنده كأنه متعلم، وقال: كان لي أخ في عيني عظيم، وكان الّذي عَظَّمَهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وقال جعفر بن محمد: ذهبت بغلة أبى فقال: لئن ردها الله علي لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما كان بأسرع من أن أتى بها بسرجها لم يفقد منها شيء، فقام فركبها، فلما استوى عليها وجمع إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد للَّه، لم يزد على ذلك، فقيل له في ذلك، فقال:
فهل تركت أو أبقيت شيئا؟ جعلت الحمد كله للَّه عز وجل. وقال عبد الله بن المبارك: قال محمد بن على: من أعطى الخلق والرّفق فقد أعطى الخير والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا إلى كل شر وبلية، إلا من عصمه الله. وقال: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد تاما إلا قال: فلستم إخوانا كما تزعمون، وقال: اعرف مودة أخيك لك بماله في قلبك من المودة(9/311)
فان القلوب تتكافأ. وسمع عصافير يصحن فقال: أتدري ماذا يقلن؟ قلت: لا!! قال: يسبحن الله ويسألنه رزقهن يوما بيوم. وقال: تدعو الله بما تحب، وإذا وقع الّذي تكره لم تخالف الله عز وجل فيما أحب. وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شيء أحب إلى الله عز وجل من أن يسأل. وما يدفع القضاء إلا الدعاء. وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه، وأن يؤذى جليسه بما لا يعنيه. هذه كلمات جوامع موانع لا ينبغي لعاقل أن يفعلها. وقال القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق. وقال أبو جعفر: صحب عمر بن الخطاب رجل إلى مكة فمات في الطريق، فاحتبس عليه عمر حتى صلى عليه ودفنه، فقل يوم إلا كان عمر يتمثل بهذا البيت:
وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومختلج من دون ما كان يأمل
وقال أبو جعفر: والله لموت عالم أحب إلى إبليس من موت ألف عابد. وقال: ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار، فان سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فان الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمة رحم الله تلك الأمة. وقال: بئس الأخ أخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا. قلت: البيت الّذي كان يتمثل به قبله بيتان وهو ثالثهما، وهذه الأبيات تتضمن حكما وزهدا في الدنيا قال:
لقد غرت الدنيا رجالا فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحول
فساخط أمر لا يبدل غيره ... وراض بأمر غيره سيبدل
وبالغ أمر كان يأمل دونه ... ومختلج من دون ما كان يأمل] [1]
ثم دخلت سنة ست عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصائفة، وفيها وقع طاعون عظيم بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَكَانَ مُعْظَمُ ذَلِكَ فِي وَاسِطَ. وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْجُنَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرِّيُّ أَمِيرُ خُرَاسَانَ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ فِي بَطْنِهِ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ الْفَاضِلَةَ بِنْتَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَتَغْضَّبَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَعَزَلَهُ وَوَلَّى مَكَانَهُ عَاصِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى خُرَاسَانَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ أَدْرَكْتَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَأَزْهِقْ رُوحَهُ. فَمَا قَدِمَ عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ حَتَّى مَاتَ الْجُنَيْدُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا بمرو، وقال فيه أبو الجرير عيسى بن عصمة يَرْثِيهِ:
هَلَكَ الْجُودُ وَالْجُنَيْدُ جَمِيعًا ... فَعَلَى الْجُودِ والجنيد السلام
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/312)
أَصْبَحَا ثَاوِيَيْنِ فِي بَطْنِ مَرْوَ ... مَا تَغَنَّى عَلىَ الْغُصُونِ الْحَمَامُ
كُنْتُمَا نُزْهَةَ الْكِرَامِ فَلَمَّا ... مِتَّ مَاتَ النَّدَى وَمَاتَ الْكِرَامُ
وَلَمَّا قَدِمَ عاصم خُرَاسَانَ أَخَذَ نُوَّابَ الْجُنَيْدِ بِالضَّرْبِ الْبَلِيغِ وَأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَعَسَفَهُمْ فِي الْمُصَادَرَاتِ وَالْجِنَايَاتِ، فَخَرَجَ عَنْ طاعته الحارث بن شريح فبارزه بالحرب، وجرت بينهما أمور يطول ذكرها، ثم آل الأمر إلى أن انكسر الحارث بن شريح وَظَهَرَ عَاصِمٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
وَفِيهَا حَجَّ بالناس الوليد بن يزيد وَهُوَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ عَمِّهِ هِشَامِ بن عبد الملك أمير المؤمنين كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سبع عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى، وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام. وفيها بعث مروان بن محمد- وهو مروان الحمار- وَهُوَ عَلَى إِرْمِينِيَّةَ بَعْثَيْنِ فَفَتَحَ حُصُونًا مِنْ بِلَادِ اللَّانِ، وَنَزَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ: وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ عَاصِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الهلالي الّذي ولاه في السنة قبلها خراسان مكان الجنيد، فعزله عنها وضمها إلى عبد الله بن خالد الْقَسْرِيِّ مَعَ الْعِرَاقِ مُعَادَةً إِلَيْهِ جَرْيًا عَلَى مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ الْعَادَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ كِتَابِ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهِلَالِيِّ المعزول عنها، وذلك أنه كتب إلى أمير المؤمنين هشام: إِنَّ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا مَعَ ولاية العراق، رجاء أن يضيفها إليه، فانعكس الأمر عليه فأجابه هشام إلى ذلك قبولا إلى نصيحته، وأضافها إلى خالد القسري.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ.
قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ
أَبُو الْخَطَّابِ الْبَصْرِيُّ الْأَعْمَى، أَحَدُ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْعَامِلِينَ، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ من التابعين، منهم سعيد بن المسيب، والبصري، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَمَسْرُوقٌ، وَأَبُو مِجْلَزٍ وَغَيْرُهُمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْكِبَارِ كَأَيُّوبَ وَحَمَّادِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عروبة، والأعمش، وشعبة، والأوزاعي، وَمِسْعَرٍ، وَمَعْمَرٍ، وَهَمَّامٍ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: مَا جَاءَنِي عِرَاقِيٌّ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَالَ بَكْرٌ الْمُزْنِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَحْفَظَ مِنْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: هُوَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ، وَقَالَ مَطَرٌ: كَانَ قَتَادَةُ إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يَأْخُذُهُ الْعَوِيلُ وَالزَّوِيلُ حَتَّى يَحْفَظَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ أَعْلَمُ مِنْ مَكْحُولٍ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَحَمَّادٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا سَمِعْتُ شَيْئًا إِلَّا وَعَاهُ قَلْبِي. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ أَحْفَظُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا حَفِظَهُ. وَقُرِئَ عَلَيْهِ صَحِيفَةُ جابر مرة واحدة فحفظها. وَذُكِرَ يَوْمًا فَأَثْنَى عَلَى عِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بالاختلاف والتفسير وغير ذلك، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِوَاسِطَ(9/313)
فِي الطَّاعُونِ- يَعْنِي فِي هَذِهِ السَّنَةِ- وَعُمْرُهُ ست أو سبع وخمسون سنة.
[قال قتادة: من وثق باللَّه كان الله معه، ومن يكن الله معه تكن معه الفئة التي لا تغلب، والحارس الّذي لا ينام، والهادي الّذي لا يضل، والعالم الّذي لا ينسى. وقال. في الجنة كوة إلى النار فيقولون: ما بال الأشقياء دخلوا النار، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم، فقالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر، وننهاكم ولا ننتهي. وقال: باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح دينه وصلاح الناس، أفضل من عبادة حول كامل. وقال قتادة: لو كان يكتفى من العلم بشيء لا كتفي موسى عليه السلام بما عنده، ولكنه طلب الزيادة] [1] وَفِيهَا تُوُفِّيَ: أَبُو الْحُبَابِ سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبى زكريا الخزاعي، وميمون بن مهران بن موسى بن وردان
[فصل
فأما سعيد بن يسار فكان من العباد الزهاد، روى عن جماعة من الصحابة، وكذلك الأعرج وابن أبى مليكة. وأما ميمون بن مهران فهو من أجلاء علماء التابعين وزهادهم وعبادهم وأئمتهم. كان ميمون إمام أهل الجزيرة. روى الطبراني عنه أنه قيل له: مالك لا يفارقك أخ لك عن قلى؟ قال:
لأني لا أماريه ولا أشاريه. قال عمر بن ميمون: ما كان أبى يكثر الصلاة ولا الصيام، ولكن كان يكره أن يعصى الله عز وجل. وروى ابن أبى عدي عن يونس عنه قال: لا تمارين عالما ولا جاهلا، فإنك إن ماريت عالما خزن عنك علمه، وإن ماريت جاهلا خشن بصدرك. وقال عمر بن ميمون:
خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررنا بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده. ثم دفعنا إلى منزل الحسن فطرقت الباب فخرجت إلينا جارية سداسية، فقالت: من هذا؟ فقلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فقالت: كاتب عمر بن عبد العزيز؟ قلت لها: نعم! قالت: يا شقي ما بقاؤك إلى هذا الزمان السوء؟:
قال: فبكى الشيخ فسمع الحسن بكاءه فخرج إليه فاعتنقا ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد! إني قد أنست من قلبي غلظة فاستكن لي منه، فقرأ الحسن: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ 26: 205- 207 فسقط الشيخ مغشيا عليه، فرأيته يفحص برجليه كما تفحص الشاة إذا ذبحت، فأقام طويلا ثم جاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا، فأخذت بيد أبى فخرجت فقلت: يا أبت أهذا هو الحسن؟ قال: نعم. قلت: قد كنت أحسب في
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/314)
نفسي أنه أكبر من هذا، قال: فوكز في صدري وكزة ثم قال: يا بنى لقد قرأ علينا آية لو فهمتها بقلبك لألفيت لها فيه كلوما.
وروى الطبراني عنه أنه قال: ما أحب أنى أعطيت درهما في لهو وأنى لي مكانه مائة ألف، أخشى أن تصيبني هذه الآية: وَمن النَّاسِ من يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله 31: 6 الآية وقال جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فلما قمت قال عمر:
إذا ذهب هذا وأضرابه لم يبق من الناس إلا مجاجة وروى الامام أحمد عن معمر بن سليمان الرقى عن فرات بن سليمان عن ميمون بن مهران قال:
ثلاث لا تبلون نفسك بهن: لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك من هواه. وروى عبد الله بن أحمد عنه في قوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً 78: 21 وإِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ 89: 14 فقال: التمسوا لهذين المرصادين جوازا. وفي قوله تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ 14: 42 فيها وعيد شديد للظالم، وتعزية للمظلوم. وقال: لو أن أهل القرآن صلحوا لصلح الناس. وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا عيسى بن سالم الشاشي حدثنا أبو المليح قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: لا خير في الدنيا إلا رجلين، رجل تائب- أو قال: يتوب- من الخطيئات، ورجل يعمل في الدرجات، فلا خير في العيش والبقاء في الدنيا إلا لهذين الرجلين، رجل يعمل في الكفارات ورجل يعمل في الدرجات، وبقاء ما سواهما وبال عليه. وقال جعفر بن برقان: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن هذا القرآن قد خلق في صدور كثير من الناس فالتمسوا ما سواه من الأحاديث، وإن فيمن يتبع هذا العلم قوما يتخذونه بضاعة يلتمس بها الدنيا، ومنهم من يريد أن يمارى به، وخيرهم من يتعلمه ويطيع الله عز وجل به. وقال: من اتبع القرآن قاده القرآن حتى يحل به الجنة، ومن ترك القرآن لم يدعه القرآن يتبعه حتى يقذفه في النار.
وقال الإمام أحمد: حدثنا خالد بن حيان حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال:
لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال. وقال ميمون: من كان يريد أن يعلم ما منزلته عند الله فلينظر في عمله فإنه قادم عليه كائنا ما كان. وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ:
حَدَّثَنَا يحيى بن عثمان الحربي حدثنا أبو المليح عن ميمون بن مهران. قال: نظر رجل من المهاجرين إلى رجل يصلى فأخفى الصلاة فعاتبه، فقال: إني ذكرت ضيعة لي. فقال: أكبر الضيعة أضعته.
وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد الدسعنى حدثنا أبو جعفر النفيلى حدثنا عثمان ابن عبد الرحمن عن طلحة بن زيد قال قال ميمون: لا تعرف الأمير ولا تعرف من يعرفه. وروى(9/315)
عبد الله بن أحمد عنه أيضا قال: لأن أوتمن على بيت مال أحب إلى من أن أؤتمن على امرأة.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا هاشم بن الحارث حدثنا أبو المليح الرقى عن حبيب بن أبى مرزوق قال قال ميمون: وددت أن إحدى عيني ذهبت وبقيت الأخرى أتمتع بها، وأنى لم أل عملا قط.
قلت: ولا لعمر بن عبد العزيز؟ قال: ولا لعمر بن عبد العزيز، لا خير في العمل لا لعمر ولا لغيره.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا سفيان حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: ما عرضت قولي على عملي إلا وجدت من نفسي اعتراضا. وقال الطبراني: حدثنا المقدام بن داود حدثنا على بن معبد حدثنا خالد بن حيان حدثنا جعفر عن ميمون قال: قال لي ميمون: قل لي في وجهي ما أكره، فان الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره. وروى عبد الله ابن أحمد عنه في قوله تعالى: خافِضَةٌ رافِعَةٌ 56: 3 قال: تخفض أقواما وترفع آخرين. وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنِي عيسى بن سالم حدثنا أبو المليح حدثنا بعض أصحابى قال: كنت أمشى مع ميمون فنظر فرأى علي ثوب كتان فقال: أما بلغك أنه لا يلبس الكتان إلا غنى أو غاو؟ وبهذا الاسناد سمعت ميمون بن مهران يقول: أول من مشت الرجال معه وهو راكب الأشعث بن قيس الكندي، ولقد أدركت السلف وهم إذا نظروا إلى رجل راكب ورجل يحضر معه، قالوا: قاتله جبار.
وقال عبد الله بن أحمد: بلغني عن عبد الله بن كريم بن حبان- وقد رأيته- حدثنا أبو المليح قال قال ميمون: ما أحب أن لي ما بين باب الرّها إلى حوران بخمسة دراهم. وقال ميمون: يقول أحدهم: اجلس في بيتك وأغلق عليك بابك وانظر هل يأتيك رزقك؟ نعم والله لو كان له مثل يقين مريم وإبراهيم عليهما السلام، وأغلق عليه بابه، وأرخى عليه ستره، لجاءه رزقه. وقال: لو أن كل إنسان منا يتعاهد كسبه فلم يكسب إلا طيبا، فأخرج ما عليه، ما احتيج إلى الأغنياء، ولا احتاج الفقراء. وقال أبو المليح عن ميمون قال: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا كان إسقاط المكروه عنه أحب إلى من تخفيفه عليه، فان قال: لم أقل، كان قوله لم أقل أحب إلى من ثمانية يشهدون عليه، فان قال: قلت ولم يعتذر، أبغضته من حيث أحببته. وقال: سمعت ابن عباس يقول: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل، إن كان فوقى عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به. هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فان أرض الله واسعة.
وقال أبان بن أبى راشد القشيري: كنت إذا أردت الصائفة أتيت ميمون بن مهران أو دعه، فما يزيدني على كلمتين. اتّق الله ولا يغرنك طمع ولا غضب. وقال أبو المليح عن ميمون قال: العلماء هم ضالتي في كل بلدة، وهم أحبتى في كل مصر، ووجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء. وقال في قوله(9/316)
تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ 39: 10 قال: عزقا. وقال: لأن أتصدق بدرهم في حياتي أحب إلى من أن أتصدق بمائة درهم بعد موتى. وقال: كان يقال: الذكر ذكران، ذكر الله باللسان، وأفضل من ذلك أن تذكره عند ما أحل وحرم، وعند المعصية فتكف عنها وقد أشرفت.
وقال: ثلاث الكافر والمؤمن فيهن سواء، الأمانة تؤديها إلى من ائتمنك عليها من مسلم وكافر، وبر الوالدين وإن كانا كافرين، والعهد تفي به للمؤمن والكافر. وقال صفوان عن خلف بن حوشب عن ميمون قال: أدركت من لم يكن يملأ عينيه من السماء فرقا من ربه عز وجل.
وقال أحمد بن بزيغ: حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا هارون أبو محمد البربري أن عمر بن عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة وعلى قضائها وخراجها، فمكث حينا ثم كتب إلى عمر يستعفيه عن ذلك، وقال: كلفتني ما لا أطيق، أقضى بين الناس وأنا شيخ كبير ضعيف رقيق فكتب إليه عمر: أجب من الخراج الطيب، واقض بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر فارفعه إليّ، فان الناس لو كان إذا كبر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام حدثنا جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجليا مثل المرآة، ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الّذي يتتابع في الذنوب فإنه كلما أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من أين يأتيه. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ حدثنا جعفر عن ميمون قال: ما أقل أكياس الناس: ألا يبصر الرجل أمره حتى ينظر إلى الناس وإلى ما أدوا به، وإلى ما قد أكبوا عليه من الدنيا، فيقول: ما هؤلاء إلا أمثال الأباعر، لا هم لها إلا ما تجعل في أجوافها، حتى إذا أبصر غفلتهم نظر إلى نفسه فقال:
والله إني لأرانى من شرهم بعيرا واحدا. وبهذا الإسناد عنه: ما من صدقة أفضل من كلمة حق عند إمام جائر. وقال: لا تعذب المملوك ولا تضربه على كل ذنب، ولكن احفظ ذلك له، فإذا عصى الله عز وجل فعاقبه على معصية الله وذكره الذنوب التي أذنب بينك وبينه. وقال قتيبة: حدثنا جعفر بن برقان سمعت ميمون بن مهران يقول: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، أمن حلال ذلك أم من حرام؟.
وقال أبو زرعة الدارميّ: حدثنا سعيد بن حفص النفيلى حدثنا أبو المليح عن ميمون قال: الفاسق بمنزلة السبع فإذا كلمت فيه فخليت سبيله فقد خليت سبعا على المسلمين. وقال جعفر بن برقان:
قلت لميمون بن مهران: إن فلانا يستبطئ نفسه في زيارتك، قال: إذا ثبتت المودة في القلوب فلا(9/317)
بأس وإن طال المكث. وقال أحمد: حدثنا ميمون الرقى حدثنا الحسن أبو المليح عن ميمون قال:
لا تجد غريما أهون عليك من بطنك أو ظهرك. وقال الامام أحمد أيضا: حدثنا عبد الله بن ميمون حدثنا الحسن عن حبيب بن أبى مرزوق قال: رأيت على ميمون جبة صوف تحت ثيابه فقلت له:
ما هذا؟ قال: نعم! فلا تخبر به أحدا. وقال عبد الله بن أحمد: حدثني يحيى بن عثمان حدثنا أبو المليح عن ميمون قال: من أساء سرا فليتب سرا، ومن أساء علانية فليتب علانية، فان الله يغفر ولا يعير، وإن الناس يعيرون ولا يغفرون.
وقال جعفر قال ميمون: في المال ثلاث آفات، إن نجا صاحبه من واحدة لم ينج من اثنتين، وإن نجا من اثنتين كان قمينا أن لا ينجو من الثالثة، ينبغي أن يكون حلالا طيبا، فأيكم الّذي يسلم كسبه فلم يدخله إلا طيبا؟ فان سلم من هذه فينبغي أن يؤدى الحقوق التي تلزمه في ماله، فان سلم من هذه فينبغي أن يكون في نفقته ليس بمسرف ولا مقتر. وقال: سمعت ميمونا يقول: أهون الصوم ترك الطعام والشراب. وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي حدثنا أبو المليح عن ميمون ابن مهران قال: ما نال رجل من جسيم الخير نبي أو غيره إلا بالصبر. وبهذا الاسناد قال: الدنيا حلوة خضرة قد حفت بالشهوات، والشيطان عدو حاضر، فيظن أن أمر الآخرة آجل، وأمر الدنيا عاجل.
وقال يونس بن عبيدة: كان طاعون قبل بلاد ميمون بن مهران، فكتبت إليه أسأله عن أهله، فكتب إلى: بلغني كتابك تسألنى عن أهلي، وانه مات من أهلي وخاصتي سبعة عشر إنسانا، وإني أكره البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر لم يسرني أنه لم يكن، وأما أنت فعليك بكتاب الله، فان الناس قد بهتوا عنه- يعنى أيسوا- واختاروا الأحاديث، أحاديث الرجال، وإياك والمرائي في الدين. قال أبو عبيد في الغريب بهئوا به مهموزا، ومعناه: أنسوا به.
وقال عمر بن ميمون: كنت مع أبى ونحن نطوف بالكعبة فلقى أبى شيخ فعانقه، ومع الشيخ فتى نحو منى، فقال له أبى: من هذا؟ قال: ابني. فقال: كيف رضاك عنه؟ فقال: ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه، إلا واحدة. قال: وما هي؟ قال: أن يموت فأوجر فيه- أو قال فأحتسبه- ثم فارقه أبى، فقلت: من هذا الشيخ؟ فقال: مكحول. وقال: شر الناس العيابون، ولا يلبس الكتان إلا غنى أو غوى.
وروى الامام أحمد عنه قال: يا ابن آدم خفف عن ظهرك فان ظهرك لا يطيق كل هذا الّذي يحمل، من ظلم هذا، وأكل مال هذا، وغشم هذا، وكل هذا على ظهرك تحمله، فخفف عن ظهرك.
وقال: إن أعمالكم قليلة فأخلصوا هذا القليل. وقال: ما أتى قوم في ناديهم المنكر إلا حق هلاكهم.
وروى عبد الله بن أحمد عنه أنه قرأ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ 36: 59 ثم فارق حتى بكى، ثم قال:(9/318)
ما سمع الخلائق بنعت قط أشد منه. وقال أبو عوانة: حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا خالد عن حصين بن عبد الرحمن عن ميمون قال: أربع لا تكلم فيهم: على، وعثمان، والقدر، والنجوم. وقال: احذروا كل هوى يسمى بغير الإسلام.
وروى شبابة عن فرات بن السائب قال: سألت ميمون أعلى أفضل عندك أم أبو بكر وعمر؟
فارتعد حتى سقطت عصاه من يده ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى الى زمان يعدل بهما غيرهما، إنهما كانا رداءي الإسلام، ورأس الإسلام، ورأس الجماعة. فقلت: فأبو بكر كان أول إسلاما أم على؟
فقال: والله لقد آمن أبو بكر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم زمن بحيرا الراهب حين مر به، وكان أبو بكر هو الّذي يختلف بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد على، وكان صاحبه وصديقه قبل ذلك. وروى ميمون بن مهران عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قل ما يوجد في آخر الزمان درهم من حلال، أو أخ يوثق به» . وروى عن ابن عمر أيضا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «شر المال في آخر الزمان المماليك» . وروى ابن أبى الدنيا عنه قال: من طلب مرضاة الاخوان بلا شيء فليصادق أهل القبور. وقال: من ظلم أحدا ففاته أن يخرج من مظلمته فاستغفر له دبر كل صلاة خرج من مظلمته. وهذا إن شاء الله يدخل فيه الأعراض والأموال وسائر المظالم. وقال ميمون: القاتل والآمر والمأمور والظالم والراضي بالظلم، كلهم في الوزر سواء. وقال: أفضل الصبر الصبر على ما تكره نفسك. من طاعة الله عز وجل.
روى ميمون عن جماعة من الصحابة، وكان يسكن الرقة، رحمه الله تعالى] [1]
[نافع مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ أَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَقِيلَ مِنْ نَيْسَابُورَ، وَقِيلَ مِنْ كَابُلَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
رَوَى عَنْ مَوْلَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِثْلَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ: وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ النُّبَلَاءِ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَجِلَّاءِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ غَيْرُهُ. كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى مِصْرَ يُعَلِّمُ النَّاسَ السُّنَنَ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَوَثَّقُوهُ وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى المشهور] [2]
ذو الرمة الشاعر
واسمه غيلان بن عتبة بن بهيس، مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، أَبُو الْحَارِثِ أَحَدُ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ، وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَكَانَ يتغزل في مى بنت مقاتل بن طلبة بن قيس
__________
[1] زيادة من المصرية.
[2] سقط من المصرية.(9/319)
ابن عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، وَكَانَ هُوَ دَمِيمَ الْخَلْقِ أَسْوَدَ اللَّوْنَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فُحْشٌ وَلَا خَنَا وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا قَطُّ وَلَا رَأَتْهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَسْمَعُ بِهِ وَيَسْمَعُ بِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ تَنْذُرُ إِنْ هِيَ رَأَتْهُ أن تذبح جزورا، فلما رأته قالت: وا سوأتاه وا سوأتاه، وَلَمْ تُبْدِ لَهُ وَجْهَهَا قَطُّ إِلَّا مَرَّةً واحدة، فأنشأ
يقول: على وجه مى لمحة مِنْ حَلَاوَةٍ ... وَتَحْتَ الثِّيَابِ الْعَارُ لَوْ كَانَ باديا
قال فانسلخت من ثيابها فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَاءَ يَخْبُثُ طَعْمُهُ ... وَإِنْ كَانَ لَوْنُ الْمَاءِ أَبْيَضَ صَافِيَا
فَقَالَتْ: تُرِيدُ أَنْ تَذُوقَ طَعْمَهُ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، فَقَالَتْ: تَذُوقُ الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ تَذُوقَهُ.
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فوا ضيعة الشعر الّذي راح وَانْقَضَى ... بِمَيٍّ وَلَمْ أَمْلِكْ ضَلَالَ فُؤَادِيَا
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَمِنْ شَعْرِهِ السَّائِرِ بَيْنَ النَّاسِ ما أنشده:
إذا هبت الأرياح مِنْ نَحْوِ جَانِبٍ ... بِهِ أَهْلُ مَيٍّ هَاجَ شوقي هُبُوبُهَا
هَوًى تَذْرِفُ الْعَيْنَانِ مِنْهُ وَإِنَّمَا ... هَوَى كُلِّ نَفْسٍ أَيْنَ حَلَّ حَبِيبُهَا
وَأَنْشَدَ عِنْدَ الموت:
يا قابض الأرواح في جسمي إِذَا احْتُضِرَتْ ... وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ وَسُلَيْمَانُ ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ، وَفِيهَا قَصَدَ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ: عَمَّارُ بْنُ يَزِيدَ، ثُمَّ سمى بخداش، إلى بلاد خراسان ودعا النَّاسَ إِلَى خِلَافَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَاسْتَجَابَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا الْتَفُّوا عَلَيْهِ دَعَاهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الحزمية الزَّنَادِقَةِ، وَأَبَاحَ لَهُمْ نِسَاءَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَزَعَمَ لَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَأَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الدَّوْلَةَ فَأُخِذَ فَجِيءَ بِهِ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ أَمِيرِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَسُلَّ لِسَانُهُ ثُمَّ صُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بن إسماعيل أمير المدينة، وَقِيلَ إِنَّ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ مَعَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كان قد عزل وولى مكانه محمد بن هشام بن إسماعيل، وكان أمير العراق الْقَسْرِيُّ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الله بن عباس
ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ أَبُو الْحَسَنِ، وَيُقَالُ أبو محمد، وأمه زرعة بنت مسرح بن معديكرب الكندي، أحد الملوك الأربعة الأقيال المذكورين في الحديث الّذي رواه أحمد، وهم مسرح،؟ وحمل، ومخولس، وَأَبْضَعَةُ: وَأُخْتُهُمُ الْعَمَرَّدَةُ وَكَانَ مَوْلِدُ عَلِيٍّ هَذَا يَوْمَ قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي(9/320)
طَالِبٍ، فَسَمَّاهُ أَبُوهُ بِاسْمِهِ، وَكَنَّاهُ بِكُنْيَتِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاةِ عَلِيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ وَكَنَّاهُ وَلَقَّبَهُ بِأَبِي الْأَمْلَاكِ، فَلَمَّا وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ وَسَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ وَلَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَأَجْزَلَ عَطِيَّتَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ هَذَا فِي غَايَةِ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَحُسْنِ الشَّكْلِ وَالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ كَانَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ: كَانَ مِنْ خيار الناس، وكانت وفاته بالجهمة مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ لُبَابَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فطلقها، وَكَانَ سَبَبُ طَلَاقِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ عَضَّ تُفَّاحَةً ثُمَّ رَمَى بِهَا إِلَيْهَا فَأَخَذَتِ السِّكِّينَ فَحَزَّتْ مِنَ التُّفَّاحَةِ مَا مَسَّ فَمَهُ مِنْهَا، فَقَالَ: وَلِمَ تَفْعَلِينَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: أُزِيلُ الْأَذَى عَنْهَا- وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَانَ أَبْخَرَ- فَطَلَّقَهَا عبد الملك، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ هَذَا نَقَمَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الملك لأجل ذَلِكَ، فَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ، وَقَالَ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تُذِلَّ بَنِيهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَضَرَبَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً لأنه اشتهر عنه أنه قال: الخلافة صائرة إلى بيته، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ أَنَّهُ دَخَلَ على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ وَهُمَا صَغِيرَانِ، فَأَكْرَمَهُ هِشَامٌ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُوصِيهِ بِابْنَيْهِ خَيْرًا، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا سَيَلِيَانِ الْأَمْرَ، فَجَعَلَ هِشَامٌ يَتَعَجَّبُ مِنْ سَلَامَةِ بَاطِنِهِ وَيَنْسُبُهُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْحُمْقِ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ. قَالُوا: وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَتَمَامِ الْقَامَةِ، كَانَ بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ رَاكِبٌ، وَكَانَ إِلَى مَنْكِبِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى مَنْكِبِ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ إِلَى مَنْكِبِ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ بَايَعَ كَثِيرٌ من الناس لابنه محمد بالخلافة قبل أن يموت على هذا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ بِسَنَوَاتٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَمْرُهُ حَتَّى مَاتَ فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ، وَكَانَ ظهوره في سنة اثنتين وثلاثين كما سيأتي إن شاء الله تعالى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ نَسِيٍّ، وَأَبُو صخرة جامع بن شداد، وأبو عياش الْمَعَافِرِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
ففيها غزا الوليد بن القعقاع بلاد الرُّومِ. وَفِيهَا قَتَلَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ خَاقَانَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرَ خُرَاسَانَ عَمِلَ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْعِرَاقِ، ثُمَّ سَارَ بِجُيُوشِهِ إِلَى مَدِينَةِ خُتَّلَ فَافْتَتَحَهَا، وَتَفَرَّقَتْ فِي أَرْضِهَا جُنُودُهُ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَغْنَمُونَ، فَجَاءَتِ الْعُيُونُ إِلَى مَلِكِ التُّرْكِ خَاقَانَ أَنَّ جَيْشَ أَسَدٍ قَدْ تَفَرَّقَ فِي بِلَادِ خُتَّلَ، فَاغْتَنَمَ خَاقَانُ هَذِهِ الْفُرْصَةَ فَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ فِي جُنُودِهِ قَاصِدًا إِلَى أَسَدٍ، وَتَزَوَّدَ خَاقَانُ وَأَصْحَابُهُ سِلَاحًا كَثِيرًا، وقديدا وملحا، وساروا في حنق عظيم، وجاء إِلَى أَسَدٍ فَأَعْلَمُوهُ بِقَصْدِ خَاقَانَ لَهُ فِي جيش عظيم(9/321)
كَثِيفٍ، فَتَجَهَّزَ لِذَلِكَ وَأَخَذَ أُهْبَتَهُ، فَأَرْسَلَ مِنْ فوره إلى أطراف جيشه، فلمها وَأَشَاعَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ خَاقَانَ قَدْ هَجَمَ عَلَى أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ، ليحصل بذلك خذلان لأصحابه فلا يجتمعون إِلَيْهِ، فَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَجَعَلَ تَدْمِيرَهُمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ أَخَذَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْإِسْلَامِ وَازْدَادُوا حَنَقًا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى الْأَخْذِ بِالثَّأْرِ، فَقَصَدُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ أَسَدٌ، فَإِذَا هُوَ حَيٌّ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وسار أسد نحو خافان حَتَّى أَتَى جَبَلَ الْمِلْحِ، وَأَرَادَ أَنْ يَخُوضَ نَهْرَ بَلْخَ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ، فَكَرِهَ أَسَدٌ أَنْ يَتْرُكَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَأَمَرَ كُلَّ فارس أن يحمل بين يديه شاة وعلى عنقه شاة، وَتَوعَّدَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَحَمَلَ هُوَ مَعَهُ شَاةً وَخَاضُوا النَّهْرَ، فَمَا خَلَصُوا مِنْهُ جِيدًا حَتَّى دَهَمَهُمْ خَاقَانُ مِنْ وَرَائِهِمْ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ، فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوهُ لَمْ يَقْطَعِ النَّهْرَ وَبَعْضَ الضَّعْفَةِ، فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ النَّهْرِ أَحْجَمُوا وَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ إِلَيْهِمُ النَّهْرَ، فَتَشَاوَرَ الْأَتْرَاكُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَحْمِلُوا حَمْلَةً واحدة- وكانوا خمسين ألفا- فيقتحمون النهر، فضربوا بكؤساتهم ضَرْبًا شَدِيدًا حَتَّى ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، ثُمَّ رَمَوْا بِأَنْفُسِهِمْ فِي النَّهْرِ رمية واحدة، فَجَعَلَتْ خُيُولُهُمْ تَنْخِرُ أَشَدَّ النَّخِيرِ، وَخَرَجُوا مِنْهُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمُسْلِمِينَ فَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَكَانُوا قَدْ خَنْدَقُوا حَوْلَهُمْ خَنْدَقًا لَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِمْ مِنْهُ، فَبَاتَ الْجَيْشَانِ تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مَالَ خَاقَانُ عَلَى بَعْضِ الْجَيْشِ الَّذِي للمسلمين فقتل منهم خلقا وأسر أمما وَإِبِلًا مُوْقَرَةً، ثُمَّ إِنَّ الْجَيْشَيْنِ تَوَاجَهُوا فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ حَتَّى خَافَ جَيْشُ أَسَدٍ أن لا يُصَلُّوا صَلَاةَ الْعِيدِ، فَمَا صَلَّوْهَا إِلَّا عَلَى وَجَلٍ، ثُمَّ سَارَ أَسَدٌ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ مَرْجَ بَلْخَ، حَتَّى انْقَضَى الشِّتَاءُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى خَطَبَ أَسَدٌ النَّاسَ واستشارهم في الذهاب إلى مرو أو في لقاء خاقان، أو في التحصن ببلخ. فمنهم من أشار بالتحصن، ومنهم من أشار بِمُلْتَقَاهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ رَأْيُ أَسَدِ الْأُسْدِ، فَقَصَدَ بِجَيْشِهِ نَحْوَ خَاقَانَ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا، ثُمَّ دَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ: نُصِرْتُمْ إِنْ شاء الله، ثُمَّ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْتَقَتْ مُقَدِّمَتُهُ بِمُقَدَّمَةِ خَاقَانَ، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا أَمِيرَهُمْ وَسَبْعَةَ أُمَرَاءَ مَعَهُ، ثُمَّ سَاقَ أسد فانتهى إلى أغنامهم فاستافها، فَإِذَا هِيَ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ شَاةٍ، ثم التقى معهم، وكان خاقان إِنَّمَا مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ أَوْ نَحْوُهَا، وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ خَامَرَ إِلَيْهِ، يُقَالُ له الحارث بن شريح، فهو يدلهم على عورات المسلمين، فلما أقبل النَّاسُ هَرَبَتِ الْأَتْرَاكُ فِي كُلِّ جَانِبٍ، وَانْهَزَمَ خاقان ومعه الحارث ابن شريح يحميه ويتبعه، فَتَبِعَهُمْ أَسَدٌ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ انْخَذَلَ خَاقَانُ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِمُ الْخَزُّ ومعهم الكئوسات، فلما أدركه المسلمون أمر بالكوسات فضربت ضربا شديدا ضَرْبَ الِانْصِرَافِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الِانْصِرَافَ، فَتَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ فَاحْتَاطُوا عَلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَاحْتَازُوهُ(9/322)
بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَوَانِي مِنَ الذهب والفضة، وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، مِنَ الْأَتْرَاكِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمَاتِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّا لَا يُحَدُّ ولا يوصف لكثرته وعظمه وقيمته وحسنه. غير أن خاقان لما أحس بالهلاك ضَرَبَ امْرَأَتَهُ بِخِنْجَرٍ فَقَتَلَهَا، فَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى المعسكر وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ تَتَحَرَّكُ، وَوَجَدُوا قُدُورَهُمْ تَغْلِي بِأَطْعِمَاتِهِمْ، وَهَرَبَ خَاقَانُ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ الْمُدُنِ فَتَحَصَّنَ بِهَا، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ لعب بالنرد مع بعض الأمراء فَغَلَبَهُ الْأَمِيرُ فَتَوَعَّدَهُ خَاقَانُ بِقَطْعِ الْيَدِ، فَحَنِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمِيرُ ثُمَّ عَمِلَ عَلَى قَتْلِهِ فقتله، وتفرقت الأتراك يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَبَعَثَ أَسَدٌ إِلَى أَخِيهِ خَالِدٍ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِخَاقَانَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بطبول خاقان- وكانت كبارا لها أصوات كالرعد- وبشيء كثير من حواصله وأمتعته، فأوفدها خَالِدٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامٍ فَفَرِحَ بِذَلِكَ فرحا شديدا، وَأَطْلَقَ لِلرُّسُلِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً كَثِيرَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي أَسَدٍ يَمْدَحُهُ عَلَى ذَلِكَ: -
لَوْ سِرْتَ فِي الْأَرْضِ تَقِيسُ الْأَرْضَا ... تَقِيسُ مِنْهَا طُولَهَا وَالْعَرْضَا
لَمْ تلق خيرا إمرة وَنَقْضَا ... مِنَ الْأَمِيرِ أَسَدٍ وَأَمْضَى
أَفْضَى إِلَيْنَا الخير حتى افضا ... وجمع الشمل وكان ارفضا
مَا فَاتَهُ خَاقَانُ إِلَّا رَكْضَا ... قَدْ فَضَّ من جموعه ما فضا
يا ابن شريح قد لقيت حمضا ... حمضا به تشفى صُدَاعُ الْمَرْضَى
وَفِيهَا قَتَلَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ تَابَعُوهُ عَلَى بَاطِلِهِ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ سَاحِرًا فَاجِرًا شِيعِيًّا خَبِيثًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: لو أراد أن يحيى عادا وثمودا وقرونا بين ذلك لأحياهم.
قال الأعمش: وكان المغيرة هذا يَخْرُجُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَيَتَكَلَّمُ فَيُرَى مِثْلُ الْجَرَادِ عَلَى الْقُبُورِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأشياء الَّتِي تَدُلُّ عَلَى سِحْرِهِ وَفُجُورِهِ. وَلَمَّا بَلَغَ خَالِدًا أَمْرُهُ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ فَجِيءَ بِهِ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ أَوْ سَبْعَةِ نَفَرٍ، فَأَمَرَ خَالِدٌ فأبرز سريره إلى المسجد، وأمر بإحضار أطناب الْقَصَبِ وَالنِّفْطِ فَصَبَّ فَوْقَهَا، وَأَمَرَ الْمُغِيرَةَ أَنْ يحتضن طنبا منها، فامتنع فضرب حتى احتضن منها طنبا وَاحِدًا وَصَبَّ فَوْقَ رَأْسِهِ النِّفْطَ، ثُمَّ أَضْرَمَ بالنار. وكذلك فعل ببقية أصحابه.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بُهْلُولُ بْنُ بِشْرٍ وَيُلَقَّبُ بِكُثَارَةَ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْخَوَارِجِ دُونَ الْمِائَةِ، وَقَصَدُوا قَتْلَ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْبُعُوثَ فَكَسَرُوا الْجُيُوشَ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ جِدًّا لِشَجَاعَتِهِمْ وَجَلَدِهِمْ، وَقِلَّةِ نُصْحِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنَ الْجُيُوشِ، فَرَدُّوا الْعَسَاكِرَ مِنَ الْأُلُوفِ المؤلفة، ذوات الأسلحة والخيل المسومة، هذا وهم لم يَبْلُغُوا الْمِائَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ رَامُوا قُدُومَ الشَّامِ لقتل الخليفة(9/323)
هِشَامٍ، فَقَصَدُوا نَحْوَهَا، فَاعْتَرَضَهُمْ جَيْشٌ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلُوا عَامَّةَ أَصْحَابِ بُهْلُولٍ الْخَارِجِيِّ. ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ جَدِيلَةَ يُكَنَّى أَبَا الْمَوْتِ ضَرَبَ بُهْلُولًا ضَرْبَةً فَصَرَعَهُ وتفرقت عنه بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا جَمِيعُهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَقَدْ رَثَاهُمْ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ [1] فَقَالَ: -
بُدِّلْتُ بَعْدَ أَبِي بِشْرٍ وَصُحْبَتِهِ ... قَوْمًا عَلَيَّ مَعَ الْأَحْزَابِ أَعْوَانَا
بَانُوا كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... وَلَمْ يَكُونُوا لَنَا بِالْأَمْسِ خُلَّانَا
يَا عَيْنُ أَذْرِي دُمُوعًا مِنْكِ تَهْتَانَا ... وَابْكِي لَنَا صُحْبَةً بَانُوا وجيرانا
خَلَّوْا لَنَا ظَاهِرَ الدُّنْيَا وَبَاطِنَهَا ... وَأَصْبَحُوا فِي جِنَانِ الْخُلْدِ جِيرَانَا
ثُمَّ تَجَمَّعَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أُخْرَى عَلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِمْ فَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا وَقَتَلُوا، وَجُهِّزَتْ إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرُ مِنْ عِنْدِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ لهم باقية. وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ الْقَسْرِيُّ بِلَادَ التُّرْكِ، فَعَرَضَ عليه ملكهم طرخان خان أَلْفَ أَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَخَذَهُ قَهْرًا فَقَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ مَدِينَتَهُ وَقَلْعَتَهُ وَحَوَاصِلَهُ وَنِسَاءَهُ وَأَمْوَالَهُ. وَفِيهَا خَرَجَ الصُّحَارِيُّ بْنُ شَبِيبٍ الْخَارِجِيُّ وَاتَّبَعَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ جُنْدًا فَقَتَلُوهُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْهُمْ رجلا واحدا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو شَاكِرٍ مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَحَجَّ مَعَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ لِيُعَلِّمَهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَكَانَ أَمِيرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدُ بْنُ هشام بن إسماعيل، وأمير العراق والمشرق وخراسان خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا أَخُوهُ أسد ابن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ فاللَّه أعلم. ونائب أرمينية وأذربيجان مروان الحمار وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فيها غزا سليمان بن هشام بِلَادَ الرُّومِ وَافْتَتَحَ فِيهَا حُصُونًا، وَفِيهَا غَزَا إسحاق بن مسلم العقيلي تومان شاه، وافتتحها وخرب أراضيها. وفيها غزا مروان بن محمد بلاد الترك، وفيها كانت وفاة أسد ابن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ أَمِيرَ خُرَاسَانَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ دُبَيْلَةٌ فِي جَوْفِهِ، فَلَمَّا كَانَ مَهْرَجَانُ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَتِ الدَّهَاقِينُ- وَهُمْ أُمَرَاءُ الْمُدُنِ الْكِبَارِ- مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بالهدايا والتحف على أسد، وكان فيمن قدم نائب هراة ودهقانها، واسم دهقانها خراسان شاه، فقدم بهدايا عظيمة وتحف عزيزة، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ قَصْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَصْرٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَبَارِيقُ مَنْ ذَهَبٍ، وَصِحَافٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَتَفَاصِيلُ مِنْ حَرِيرِ تِلْكَ الْبِلَادِ أَلْوَانٌ مُلَوَّنَةٌ، فَوَضَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ بَيْنَ يَدَيْ أَسَدٍ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَجْلِسُ، ثُمَّ قَامَ الدِّهْقَانُ خَطِيبًا فَامْتَدَحَ أَسَدًا بِخِصَالٍ حَسَنَةٍ، عَلَى عَقْلِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَعَدْلِهِ وَمَنْعِهِ أَهْلَهُ وَخَاصَّتَهُ أَنْ يَظْلِمُوا أَحَدًا مِنَ الرَّعَايَا بِشَيْءٍ قَلَّ أَوْ كثر، وأنه قهر الخان الأعظم، وكان في مائة ألف
__________
[1] هو الضحاك بن قيس. انظر الطبري (2: 1627) طبع أوربا(9/324)
فَكَسَرَهُ وَقَتَلَهُ، وَأَنَّهُ يَفْرَحُ بِمَا يَفِدُ إِلَيْهِ من الأموال، وهو بما خرج من يده أَفْرَحُ وَأَشَدُّ سُرُورًا، فَأَثْنَى عَلَيْهِ أَسَدٌ وَأَجْلَسَهُ، ثُمَّ فَرَّقَ أَسَدٌ جَمِيعَ تِلْكَ الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالِ وما هناك أَجْمَعُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَهُوَ عَلِيلٌ مِنْ تِلْكَ الدُّبَيْلَةِ، ثُمَّ أَفَاقَ إِفَاقَةً وَجِيءَ بِهَدِيَّةٍ كُمِّثْرَى فَجَعَلَ يُفَرِّقُهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَأَلْقَى إِلَى دِهْقَانِ خراسان واحدة فانفجرت دبيلته وكان فِيهَا حَتْفُهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ، فَمَكَثَ أَمِيرًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى جَاءَ عَهْدُ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ وَفَاةُ أَسَدٍ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ عِرْسٍ الْعَبْدِيُّ يَرْثِيهِ:
نَعَى أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَاعٍ ... فَرِيعَ الْقَلْبُ للْمَلِكِ الْمُطَاعِ
بِبَلْخٍ وَافَقَ الْمِقْدَارَ يَسْرِي ... وَمَا لِقَضَاءِ رَبِّكَ مِنْ دِفَاعِ
فَجُودِي عَيْنُ بِالْعَبَرَاتِ سَحًّا ... أَلَمْ يُحْزِنْكِ تَفْرِيقُ الْجِمَاعِ
أَتَاهُ حِمَامُهُ فِي جَوْفِ ضيع ... وكم بالضيع من بطال شجاع
أَتَاهُ حِمَامُهُ فِي جَوْفِ صِيغٍ ... وَكَمْ بِالصِّيغِ مِنْ بَطَلٍ شُجَاعِ
كَتَائِبُ قَدْ يُجِيبُونَ الْمُنَادِي ... عَلَى جُرْدٍ مُسَوَّمَةٍ سِرَاعِ
سُقِيتَ الْغَيْثَ إِنَّكَ كُنْتَ غَيْثًا ... مَرِيعًا عِنْدَ مُرْتَادِ النِّجَاعِ
وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ عَنْ نِيَابَةِ الْعِرَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ انْحَصَرَ مِنْهُ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُ مِنْ إِطْلَاقِ عِبَارَةٍ فِيهِ، وأنه كان يقول عنه ابْنُ الْحَمْقَاءِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ غِلْظَةٌ، فَرَدَّ عَلَيْهِ هِشَامٌ رَدًّا عَنِيفًا، وَيُقَالُ إِنَّهُ حَسَدَهُ عَلَى سَعَةِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ وَالْغَلَّاتِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ دَخْلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ دِرْهَمٌ، وَلِوَلَدِهِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ وَفَدَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَلْزَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ عَمْرٍو، فَلَمْ يُرَحِّبْ بِهِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ يُعَنِّفُهُ وَيُبَكِّتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ حَالَ وُصُولِ هذا الكتاب إليه يَقُومُ مِنْ فَوْرِهِ بِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ مَجْلِسِهِ فَيَنْطَلِقُ عَلَى قَدَمَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بَابَ ابْنِ عَمْرٍو صَاغِرًا ذَلِيلًا مُسْتَأْذِنًا عَلَيْهِ، مُتَنَصِّلًا إِلَيْهِ مِمَّا وَقَعَ، فَإِنْ أَذِنَ لَكَ وَإِلَّا فقف على بابه حولا غير متحلل مِنْ مَكَانِكَ وَلَا زَائِلٍ، ثُمَّ أَمْرُكَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ عَزْلَكَ وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاكَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَصَرَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا. وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ عَمْرٍو يُعْلِمُهُ بِمَا كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ، وَأَمَرَهُ إِنْ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ يَضْرِبَهُ عِشْرِينَ سَوْطًا عَلَى رَأْسِهِ، إِنْ رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً. ثُمَّ إِنَّ هِشَامًا عَزَلَ خَالِدًا وَأَخْفَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ الْبَرِيدَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى الْيَمَنِ وهو يوسف ابن عُمَرَ فَوَلَّاهُ إِمْرَةَ الْعِرَاقِ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا والقدوم عليها في ثلاثين راكبا، فَقَدِمُوا الْكُوفَةَ وَقْتَ السَّحَرِ، فَدَخَلُوهَا، فَلَمَّا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَمَرَهُ يُوسُفُ بِالْإِقَامَةِ: فَقَالَ: إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامُ- يَعْنِي خَالِدًا-(9/325)
فَانْتَهَرَهُ وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ وَتَقَدَّمَ يُوسُفُ فَصَلَّى وَقَرَأَ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ 56: 1 وسَأَلَ سائِلٌ 70: 1 ثُمَّ انْصَرَفَ فَبَعَثَ إِلَى خَالِدٍ وَطَارِقٍ وَأَصْحَابِهِمَا، فَأُحْضِرُوا فَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، صَادَرَ خَالِدًا بِمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ خَالِدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ، وَعُزِلَ عَنْهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ- وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قَدِمَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَلَى وِلَايَةِ الْعِرَاقِ مَكَانَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، وَاسْتَنَابَ عَلَى خُرَاسَانَ جُدَيْعَ بْنَ عَلِيِّ الْكَرْمَانِيَّ، وَعَزَلَ جَعْفَرَ بْنَ حَنْظَلَةَ الَّذِي كَانَ اسْتَنَابَهُ أَسَدٌ، ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ عَزَلَ جُدَيْعًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا نَصْرَ ابن سَيَّارٍ، وَذَهَبَ جَمِيعُ مَا كَانَ اقْتَنَاهُ وَحَصَّلَهُ خَالِدٌ مِنَ الْعَقَارِ وَالْأَمْلَاكِ وَهْلَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَمَّا بَلَغَهُمْ عَتْبُ هِشَامٍ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ يَعْرِضُ عَلَيْهِ بَعْضَ أَمْلَاكِهِ، فَمَا أَحَبَّ مِنْهَا أَخَذَهُ وَمَا شَاءَ تَرَكَ، وَقَالُوا لَهُ: لِأَنْ يَذْهَبَ الْبَعْضُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ الْجَمِيعُ مَعَ الْعَزْلِ وَالْإِخْرَاقِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَاغْتَرَّ بِالدُّنْيَا وَعَزَّتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَذِلَّ، فَفَجَأَهُ الْعَزْلُ، وَذَهَبَ مَا كَانَ حَصَّلَهُ وَجَمَعَهُ وَمَنَعَهُ، وَاسْتَقَرَّتْ وِلَايَةُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، واستقرت نيابة نصر بن سيار عَلَى خُرَاسَانَ، فَتَمَهَّدَتِ الْبِلَادُ وَأَمِنَ الْعِبَادُ وللَّه الحمد والمنة. وقد قال سوار بن الأشعري فِي ذَلِكَ:
أَضْحَتْ خُرَاسَانُ بَعْدَ الْخَوْفِ آمِنَةً ... مِنْ ظُلْمِ كُلِّ غَشُومِ الْحُكْمِ جَبَّارِ
لَمَّا أَتَى يُوسُفًا أَخْبَارُ مَا لَقِيَتْ ... اخْتَارَ نَصْرًا لَهَا نَصْرَ بْنَ سَيَّارِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَبْطَأَتْ شِيعَةُ آلِ الْعَبَّاسِ كِتَابَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ عَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ ذَلِكَ الزِّنْدِيقَ الْمُلَقَّبَ بِخِدَاشٍ، وَكَانَ خُرَّمِيًّا. وَهُوَ الَّذِي أَحَلَّ لَهُمُ الْمُنْكِرَاتِ وَدَنَّسَ الْمَحَارِمَ وَالْمُصَاهِرَاتِ، فَقَتَلَهُ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَعَتَبَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي تَصْدِيقِهِمْ لَهُ واتباعهم إياه على الباطل، فلما استبطئوا كِتَابَهُ إِلَيْهِمْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَخْبُرُ لَهُمْ أَمَرَهُ، وَبَعَثُوا هُمْ أَيْضًا رَسُولًا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُهُمْ أَعْلَمَهُ مُحَمَّدٌ بِمَاذَا عَتَبَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الخرّمى، ثُمَّ أَرْسَلَ مَعَ الرَّسُولِ كِتَابًا مَخْتُومًا، فَلَمَّا فتحوه لم يجدوا فِيهِ سِوَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، تَعْلَمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا عَتَبْنَا عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ الْخُرَّمِيُّ. ثُمَّ أرسل رَسُولًا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَهَمُّوا به، ثم جاءت من جهته عصى ملويا عَلَيْهَا حَدِيدٌ وَنُحَاسٌ، فَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا إِشَارَةً لَهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ عُصَاةٌ، وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ كَاخْتِلَافِ أَلْوَانِ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بالناس فيها محمد بن هشام الْمَخْزُومِيُّ فِيمَا قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ ابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ هِشَامٍ فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ،
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وعشرين ومائة
ففيها غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح مطامير وهو حصن، وافتتح مروان بن محمد بلاد صاحب الذهب، وأخذ قِلَاعَهُ وَخَرَّبَ أَرْضَهُ، فَأَذْعَنَ لَهُ بِالْجِزْيَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِأَلْفِ رَأْسٍ يُؤَدِّيهَا إِلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ(9/326)
رَهْنًا عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهَا فِي صَفَرٍ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أبى طالب، الّذي تنسب إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ الزَّيْدِيَّةُ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ، وَقَالَ هشام الْكَلْبِيِّ: إِنَّمَا قُتِلَ فِي صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ سَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ سَبَبَ مَقْتَلِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تبعا للواقدي، وهو أن زيدا هذا وفد عَلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ هَلْ أَوْدَعَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ عِنْدَكَ مَالًا؟ فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَيْفَ يُودِعُنِي مَالًا وَهُوَ يَشْتُمُ آبَائِي عَلَى مِنْبَرِهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ؟ فَأَحْلَفَهُ أَنَّهُ مَا أَوْدَعَ عِنْدَهُ شَيْئًا، فَأَمَرَ يُوسُفُ بن عمر بإحضار خالد مِنَ السِّجْنِ فَجِيءَ بِهِ فِي عَبَاءَةٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أَوْدَعْتَ هَذَا شَيْئًا نَسْتَخْلِصُهُ مِنْهُ؟
قَالَ: لا، وكيف وأنا أشتم أباه كل جمعة؟ فتركه عُمَرَ وَأَعْلَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فَعَفَا عَنْ ذَلِكَ، وَيُقَالُ بَلِ اسْتَحْضَرَهُمْ فَحَلَفُوا بِمَا حَلَفُوا. ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الشِّيعَةِ الْتَفَّتْ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَنَهَاهُ بَعْضُ النُّصَحَاءِ عَنِ الْخُرُوجِ، وَهُوَ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ لَهُ:
إِنَّ جَدَّكَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَقَدِ الْتَفَّتْ عَلَى بَيْعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، ثُمَّ خَانُوهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِمْ، وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَلَمْ يَقْبَلْ بَلِ اسْتَمَرَّ يُبَايِعُ النَّاسَ فِي الْبَاطِنِ في الكوفة، عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ حَتَّى اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ يَتَحَوَّلُ مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَكَانَ فِيهَا مَقْتَلُهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا. وَفِيهَا غَزَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ أَمِيرُ خُرَاسَانَ غَزَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِي الترك، وأسر ملكهم كور صول فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَلَمَّا تَيَقَّنَهُ وَتَحَقَّقَهُ، سَأَلَ مِنْهُ كُورْصُولُ أَنْ يُطْلِقَهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ لَهُ أَلْفَ بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ التُّرْكِ- وَهِيَ الْبَخَاتِيُّ- وَأَلْفَ بِرْذَوْنٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ جِدًّا، فَشَاوَرَ نَصْرٌ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ فِي ذَلِكَ، فمنهم من أشار بإطلاقه، ومنهم من أشار بقتله. ثُمَّ سَأَلَهُ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ كَمْ غَزَوْتَ مِنْ غَزْوَةٍ؟ فَقَالَ: ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ غَزْوَةً، فَقَالَ لَهُ نَصْرٌ: مَا مِثْلُكَ يُطْلَقُ، وَقَدْ شَهِدْتَ هَذَا كُلَّهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَصَلَبَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ جَيْشَهُ مِنْ قَتْلِهِ بَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَجْعَرُونَ وَيَبْكُونَ عَلَيْهِ، وَجَذُّوا لِحَاهُمْ وَشُعُورَهُمْ وَقَطَّعُوا آذَانَهُمْ وَحَرَّقُوا خِيَامًا كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا أَنْعَامًا كَثِيرَةً، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمَرَ نَصْرٌ بإحراقه لئلا يأخذوا جثته، فكان حريقه أَشُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلِهِ، وَانْصَرَفُوا خَائِبِينَ صَاغِرِينَ خاسرين، ثُمَّ كَرَّ نَصْرٌ عَلَى بِلَادِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خلقا وَأَسَرَ أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَانَ فِيمَنْ حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَوِ الْأَتْرَاكِ، وَهِيَ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ، فَقَالَتْ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ: كُلُّ مَلِكٍ لَا يكون عنده ستة أشياء فهو ليس بِمَلِكٍ، وَزِيرٌ صَادِقٌ يَفْصِلُ خُصُومَاتِ النَّاسِ وَيُشَاوِرُهُ وَيُنَاصِحُهُ، وَطَبَّاخٌ يَصْنَعُ لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُغْتَمًّا فَنَظَرَ إِلَيْهَا سُرَّتْهُ وَذَهَبَ غَمُّهُ، وَحِصْنٌ مَنِيعٌ إِذَا فَزِعَ رعاياه لجئوا إليه فيه، وَسَيْفٌ إِذَا قَارَعَ بِهِ الْأَقْرَانَ لَمْ يَخْشَ خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين ما وَقَعَ مِنَ الْأَرْضِ عَاشَ بِهَا.(9/327)
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ نَائِبُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَنَائِبُ الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَنَائِبُ خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سيار، وعلى أرمينية مروان بن محمد.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قُتِلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
مسلمة بن عبد الملك
ابن مروان الْقُرَشِيِّ الْأُمَوِيِّ، أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو الْأَصْبَغِ الدِّمَشْقِيُّ، قال ابن عساكر: وداره بدمشق في حجلة الْقِبَابِ عِنْدَ بَابِ الْجَامِعِ الْقِبْلِيِّ، وَلِيَ الْمَوْسِمَ أَيَّامَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ، وَغَزَا الرُّومَ غَزَوَاتٍ وَحَاصَرَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَوَلَّاهُ أَخُوهُ يَزِيدُ إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ، ثُمَّ عزله وتولى أرمينية. روى الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَزْعَةَ، وَعُيَيْنَةَ وَالِدُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَابْنُ أَبِي عِمْرَانَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ خَدِيجٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كان مسلمة مِنْ رِجَالِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْجَرَادَةِ الصَّفْرَاءِ، وَلَهُ آثَارٌ كَثِيرَةٌ، وَحُرُوبٌ وَنِكَايَةٌ فِي العدو من الروم وغيرهم. قُلْتُ: وَقَدْ فَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الرُّومِ. وَلَمَّا وَلِيَ إِرْمِينِيَّةَ غَزَا التُّرْكَ فَبَلَغَ بَابَ الْأَبْوَابِ فَهَدَمَ الْمَدِينَةَ الَّتِي عِنْدَهُ، ثُمَّ أَعَادَ بِنَاءَهَا بَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ. وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ غَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ فَحَاصَرَهَا وَافْتَتَحَ مَدِينَةَ الصَّقَالِبَةِ، وَكَسَرَ مَلِكَهُمُ الْبُرْجَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مُحَاصَرَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَأَخَذَهُ وَهُوَ يُغَازِيهِمْ صُدَاعٌ عَظِيمٌ فِي رَأْسِهِ، فَبَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَيْهِ بِقَلَنْسُوَةٍ وَقَالَ: ضَعْهَا عَلَى رَأْسِكَ يَذْهَبْ صُدَاعُكَ، فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ مَكِيدَةً فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِ بَهِيمَةٍ فَلَمْ يَرَ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى رَأْسِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا خَيْرًا، فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ فَذَهَبَ صُدَاعُهُ، ففتقها فإذا فيها سبعون سطرا هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا 35: 41 الآية مكررة لا غير، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَدْ لَقِيَ مَسْلَمَةُ فِي حِصَارِهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ شِدَّةً عَظِيمَةً، وَجَاعَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهَا جَوْعًا شَدِيدًا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْبَرِيدَ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشَّامِ، فَحَلَفَ مَسْلَمَةُ أَنْ لَا يُقْلِعَ عَنْهُمْ حَتَّى يَبْنُوا لَهُ جَامِعًا كَبِيرًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَبَنَوْا لَهُ جَامِعًا وَمَنَارَةً، فَهُوَ بِهَا إِلَى الْآنِ يُصَلِّي فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، قُلْتُ: وَهِيَ آخِرُ مَا يَفْتَحُهُ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا سَنُورِدُهُ فِي الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ، وَبِالْجُمْلَةِ كانت لمسلمة مواقف مشهورة، ومساعى مشكورة، وغزوات متتالية منثورة، وقد افتتح حصونا وقلاعا، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا، وكان في زمانه في الغزوات نَظِيرَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ(9/328)
فِي أَيَّامِهِ، فِي كَثْرَةِ مَغَازِيهِ، وَكَثْرَةِ فُتُوحِهِ، وَقُوَّةِ عَزْمِهِ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِ، وَجَوْدَةِ تَصَرُّفِهِ فِي نقضه وإبرامه، وهذا مع الكرم وَالْفَصَاحَةُ، وَقَالَ يَوْمًا لِنُصَيْبٍ الشَّاعِرِ: سَلْنِي، قَالَ: لَا، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ:
لِأَنَّ كَفَّكَ بِالْجَزِيلِ أَكْثَرُ مِنْ مَسْأَلَتِي بِاللِّسَانِ. فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ. وقال أيضا: الأنبياء لا يتنابون كما يتناب الناس ما ناب نَبِيٌّ قَطُّ وَقَدْ أَوْصَى بِثُلْثِ مَالِهِ لِأَهْلِ الأدب، وقال: إنها صنعة جحف أَهْلُهَا. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْحَانُوتُ، وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ:
أَقُولُ وَمَا الْبُعْدُ إِلَّا الرَّدَى ... أَمْسَلَمُ لَا تَبْعُدَنْ مَسْلَمَهْ
فَقَدْ كُنْتَ نُورًا لَنَا فِي الْبِلَادِ ... مُضِيئًا فَقَدْ أَصْبَحَتْ مُظْلِمَهْ
وَنَكْتُمُ مَوْتَكَ نَخْشَى اليقين ... فأبدى اليقين لنا الجمجمة
نمير بن قيس
الْأَشْعَرِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ حُذَيْفَةَ مُرْسَلًا وَأَبِي مُوسَى مُرْسَلًا وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ مُرْسَلًا وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ، مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ. وَلَّاهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ بَعْدَ عبد الرحمن ابن الخشخاش العذري، ثم استعفى هشاما فعفاه وولى مكانه بزيد بن عبد الرحمن بن أبى ملك.
وَكَانَ نُمَيْرٌ هَذَا لَا يَحْكُمُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشاهد، وكان يقول: الأدب مِنَ الْآبَاءِ، وَالصَّلَاحُ مِنَ اللَّهِ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: تُوَفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وعشرين ومائة
فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَيْعَةَ مِمَّنْ بَايَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَمَرَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْخُرُوجِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ، فَشَرَعُوا فِي أَخْذِ الْأُهْبَةِ لِذَلِكَ. فَانْطَلَقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ سُرَاقَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَأَخْبَرَهُ- وَهُوَ بِالْحِيرَةِ يَوْمَئِذٍ- خَبَرَ زيد بن على هذا ومن معه مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَبَعَثَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يتطلبه وَيُلِحُّ فِي طَلَبِهِ، فَلَمَّا عَلِمَتِ الشِّيعَةُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالُوا لَهُ: مَا قَوْلُكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا، مَا سَمِعْتُ أحدا من أهل بيتي تبرأ مِنْهُمَا، وَأَنَا لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا، قَالُوا: فَلِمَ تَطْلُبُ إِذًا بِدَمِ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْنَا بِهِ وَدَفَعُونَا عَنْهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِهِمْ كُفْرًا، قَدْ وَلُوا فَعَدَلُوا، وَعَمِلُوا بِالْكِتَابِ(9/329)
وَالسُّنَّةِ. قَالُوا: فَلِمَ تُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ إِذًا؟ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَأُولَئِكَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا النَّاسَ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنِّي أَدْعُو إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ، فَإِنْ تَسْمَعُوا يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ وَلِي، وَإِنْ تَأْبَوْا فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بوكيل. فرفضوه وَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَنَقَضُوا بَيْعَتَهُ وَتَرَكُوهُ، فَلِهَذَا سُمُّوا الرَّافِضَةَ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَى قَوْلِهِ سُمُّوا الزَّيْدِيَّةِ، وَغَالِبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْهُمْ رَافِضَةٌ، وَغَالِبُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى الْيَوْمِ على مذهب الزيدية، وفي مذهبهم حَقٌّ، وَهُوَ تَعْدِيلُ الشَّيْخَيْنِ، وَبَاطِلٌ وَهُوَ اعْتِقَادُ تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ عَلِيٌّ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمَا، بَلْ وَلَا عُثْمَانُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ أَهْلِ السنة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وعمر فيما تقدم. ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَاعَدَهُمْ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءَ من مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ يَأْمُرُهُ بِجَمْعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَجَمَعَ النَّاسَ لِذَلِكَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ، قَبْلَ خروج زيد بيوم، وخرج زيد لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ، وَرَفَعَ أَصْحَابَهُ النِّيرَانَ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ يَا مَنْصُورُ يَا مَنْصُورُ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ إِذَا قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةَ عَشْرَ رَجُلًا، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ!! أَيْنَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: هُمْ فِي المسجد محصورون. وكتب الحكم إلى يوسف يُعْلِمُهُ بِخُرُوجِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سِرِّيَّةً إِلَى الْكُوفَةِ، وَرَكِبَتِ الْجُيُوشُ مَعَ نَائِبِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَيْضًا فِي طائفة كبيرة من الناس، فالتقى بمن معه جرثومة منهم فيهن خمسمائة فارس، ثُمَّ أَتَى الْكُنَاسَةَ فَحَمَلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ اجْتَازَ بِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ وَاقِفٌ فَوْقَ تَلٍّ، وَزَيْدٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ وَلَوْ قَصَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ لقتله، ولكن أخذ ذات اليمين، وكلما لقي طائفة هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ أَصْحَابَهُ يُنَادُونَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ اخْرُجُوا إِلَى الدِّينِ وَالْعِزِّ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي دِينٍ وَلَا عِزٍّ وَلَا دُنْيَا، ثُمَّ لَمَّا أَمْسَوُا انْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي اقْتَتَلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَانْصَرَفُوا عَنْهُ بِشَرِّ حَالٍ، وَأَمْسَوْا فَعَبَّأَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ جَيْشَهُ جِدًّا، ثُمَّ أَصْبَحُوا فالتقوا مع زيد فَكَشَفَهُمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى السَّبْخَةِ، ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ تَبِعَهُمْ فِي خَيْلِهِ وَرَجِلِهِ حَتَّى أَخَذُوا عَلَى الساه، ثُمَّ اقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ رُمِيَ زَيْدٌ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ جَانِبَ جَبْهَتَهُ الْيُسْرَى، فَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ، فَرَجَعَ وَرَجَعَ أَصْحَابُهُ، وَلَا يَظُنُّ أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُمْ رجعوا إلا لأجل المساء وَاللَّيْلِ، وَأُدْخِلَ زَيْدٌ فِي دَارٍ فِي سِكَّةِ الْبَرِيدِ، وَجِيءَ بِطَبِيبٍ فَانْتَزَعَ ذَلِكَ السَّهْمَ مِنْ جَبْهَتِهِ، فَمَا عَدَا أَنِ انْتَزَعَهُ حَتَّى مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ أَيْنَ يدفنونه، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلْبِسُوهُ دِرْعَهُ وَأَلْقُوهُ فِي الْمَاءِ، وقال بعضهم:(9/330)
احْتَزُّوا رَأْسَهُ وَاتْرُكُوا جُثَّتَهُ فِي الْقَتْلَى، فَقَالَ ابْنُهُ: لَا وَاللَّهِ لَا تَأْكُلُ أَبِي الْكِلَابُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
ادْفِنُوهُ فِي الْعَبَّاسِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ادْفِنُوهُ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الطِّينُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَجْرَوْا عَلَى قَبْرِهِ الْمَاءَ لِئَلَّا يعرف، وانفتل أصحابه حيث لم يَبْقَ لَهُمْ رَأْسٌ يُقَاتِلُونَ بِهِ، فَمَا أَصْبَحَ الْفَجْرُ وَلَهُمْ قَائِمَةٌ يَنْهَضُونَ بِهَا، وَتَتَبَّعَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْجَرْحَى هَلْ يَجِدُ زَيْدًا بَيْنَهُمْ، وَجَاءَ مَوْلًى لِزَيْدٍ سِنْدِيٌّ قَدْ شَهِدَ دَفْنَهُ فَدَلَّ عَلَى قَبْرِهِ فَأُخِذَ مِنْ قَبْرِهِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِصُلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ بِالْكُنَاسَةِ، وَمَعَهُ نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَزِيَادٌ النَّهْدِيُّ، وَيُقَالُ إِنَّ زَيْدًا مَكَثَ مَصْلُوبًا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأُحْرِقَ فاللَّه أَعْلَمُ. وقد ذكر أبو جعفر ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ لَمْ يعلم بشيء من ذلك حَتَّى كَتَبَ لَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: إنك لغافل، وإن زيد ابن عَلِيٍّ غَارِزٌ ذَنَبَهُ بِالْكُوفَةِ يُبَايَعُ لَهُ، فَأَلِحَّ في طلبه وأعطه الأمان، وإن لم يقبل فقاتله، فتطلبه يوسف حتى كان من أمره ما تقدم، فلما ظهر على قبره حز رأسه وبعثه إلى هشام، وقام من بعده الوليد ابن يَزِيدَ فَأَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ وَحُرِّقَ فِي أَيَّامِهِ قبح الله الوليد بن يزيد. فأما ابْنُهُ يَحْيَى بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَاسْتَجَارَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَتَهَدَّدُهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ، فقال له عبد الملك ابن بشر: ما كنت لآوى مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ عَدُوُّنَا وَابْنُ عَدُوِّنَا. فَصَدَّقَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا هَدَأَ الطَّلَبُ عَنْهُ سَيَّرَهُ إِلَى خُرَاسَانَ فَخَرَجَ يَحْيَى بْنُ زَيْدٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ إِلَى خُرَاسَانَ فَأَقَامُوا بِهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ.
قَالَ أبو مخنف: ولما قتل زيد خطب يوسف بن عمر أهل الكوفة فنهددهم وتوعدهم وشتمهم وقال لهم فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَأْذَنْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَتْلِ خَلْقٍ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَذِنَ لِي لقتلت مقاتلتكم وسبيت ذراريكم، وما صعدت لهذا الْمِنْبَرَ إِلَّا لِأُسْمِعَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَطَّالُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ فَقَالَ:
عَبْدُ اللَّهِ أَبُو يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِالْبَطَّالِ
كَانَ يَنْزِلُ أَنْطَاكِيَةَ، حَكَى عَنْهُ أَبُو مَرْوَانَ الْأَنْطَاكِيُّ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ حِينَ عَقَدَ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ عَلَى غَزْوِ بِلَادِ الرُّومِ، وَلَّى عَلَى رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ الْبَطَّالَ، وَقَالَ لِابْنِهِ: سيره عَلَى طَلَائِعِكَ، وَأْمُرْهُ فَلْيُعَسَّ بِاللَّيْلِ الْعَسْكَرَ، فَإِنَّهُ أَمِينٌ ثِقَةٌ مِقْدَامٌ شُجَاعٌ. وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ يُشَيِّعُهُمْ إِلَى بَابِ دِمَشْقَ. قَالَ: فَقَدَّمَ مَسْلَمَةُ الْبَطَّالَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ يَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ تُرْسًا مِنَ الرُّومِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ: ثنا الوليد بن مسلمة حَدَّثَنِي أَبُو مَرْوَانَ- شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ- قال: كنت أغازى مع الْبَطَّالَ وَقَدْ أَوْطَأَ الرُّومَ ذُلًّا،(9/331)
قَالَ الْبَطَّالُ فَسَأَلَنِي بَعْضُ وُلَاةِ بَنِي أُمَيَّةَ عن أعجب ما كان من أمرى في مغازي فِيهِمْ، فَقُلْتُ لَهُ:
خَرَجْتُ فِي سِرِّيَّةٍ لَيْلًا فَدَفَعْنَا إِلَى قَرْيَةٍ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: أَرْخُوا لُجُمَ خيلكم ولا تحركوا أحدا بقتل ولا بشيء حتى تستمكنوا من القرية ومن سكانها، فَفَعَلُوا وَافْتَرَقُوا فِي أَزِقَّتِهَا، فَدَفَعْتُ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِي إِلَى بَيْتٍ يَزْهَرُ سِرَاجُهُ، وَإِذَا امْرَأَةٌ تُسَكِّتُ ابْنَهَا مِنْ بُكَائِهِ، وَهِيَ تَقُولُ له: لَتَسْكُتْنَّ أَوْ لَأَدْفَعَنَّكَ إِلَى الْبَطَّالِ يَذْهَبُ بِكَ، وانتشلته من سريره وقالت: خذه يَا بِطَّالُ، قَالَ: فَأَخَذْتُهُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَرْوَانَ الْأَنْطَاكِيِّ عَنِ الْبَطَّالِ قَالَ: انفردت مرة لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ، وَقَدْ سَمَّطْتُ خَلْفِي مِخْلَاةً فِيهَا شَعِيرٌ، وَمَعِي مَنْدِيلٌ فِيهِ خُبْزٌ وَشِوَاءٌ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ لَعَلِّي أَلْقَى أَحَدًا مُنْفَرِدًا، أَوْ أَطَّلِعُ عَلَى خَبَرٍ، إِذَا أَنَا بِبُسْتَانٍ فِيهِ بُقُولٌ حَسَنَةٌ، فَنَزَلْتُ وَأَكَلْتُ من ذلك البقل بالخبز والشواء مع النقل، فَأَخَذَنِي إِسْهَالٌ عَظِيمٌ قُمْتُ مِنْهُ مِرَارًا، فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ مِنْ كَثْرَةِ الْإِسْهَالِ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَالْإِسْهَالُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَجَعَلْتُ أَخْشَى إِنْ أَنَا نَزَلْتُ عَنْ فَرَسِي أَنْ أَضْعُفَ عَنِ الركوب، وأفرط بى الاسهال في السير حَتَّى خَشِيَتُ أَنْ أَسْقُطَ مِنَ الضَّعْفِ، فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْفَرَسِ وَنِمْتُ عَلَى وَجْهِي لَا أَدْرِي أَيْنَ يَسِيرُ الْفَرَسُ بِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا بِقَرْعِ نِعَالِهِ عَلَى بَلَاطٍ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَإِذَا دَيْرٌ، وَإِذَا قَدْ خَرَجَ مِنْهُ نِسْوَةٌ صُحْبَةَ امرأة حسناء جميلة جدا، فجعلت تقول بِلِسَانِهَا: أَنْزِلْنَهُ، فَأَنْزَلْنَنِي فَغَسَلْنَ عَنِّي ثِيَابِي وَسَرْجِي وَفَرَسِي، وَوَضَعْنَنِي عَلَى سَرِيرٍ وَعَمِلْنَ لِي طَعَامًا وشرابا، فمكثت يوما وليلة مستويا، ثم أقمت بقية ثلاثة أيام حتى ترد إلى حالي، فبينا أنا كذلك إذ أقبل البطريق وهو يريد أن يتزوجها، فأمرت بفرسي فحول وعلق عَلَيَّ الْبَابُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، وَإِذَا هُوَ بطريق كبير فيهم، وهو إنما جاء لخطبتها، فأخبره من كان هنالك بِأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ فِيهِ رَجُلٌ وَلَهُ فَرَسٌ، فَهَمَّ بِالْهُجُومِ عَلَيَّ فَمَنَعَتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَتْ تَقُولُ لَهُ: إِنْ فَتَحَ عَلَيْهِ الْبَابَ لَمْ أَقْضِ حَاجَتَهُ، فَثَنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْهُجُومِ على، وأقام البطريق إِلَى آخِرِ النَّهَارِ فِي ضِيَافَتِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ وَرَكِبَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ وَانْطَلَقَ. قَالَ الْبَطَّالُ: فَنَهَضْتُ فِي أَثَرِهِمْ فَهَمَّتْ أَنْ تَمْنَعَنِي خَوْفًا عَلَيَّ مِنْهُمْ فَلَمْ أَقْبَلْ، وَسُقْتُ حَتَّى لَحِقْتُهُمْ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَانْفَرَجَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَأَرَادَ الْفِرَارَ فَأَلْحَقُهُ فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ وَاسْتَلَبْتُهُ وَأَخَذْتُ رَأْسَهُ مُسَمَّطًا عَلَى فَرَسِي، وَرَجَعْتُ إِلَى الدَّيْرِ، فَخَرَجْنَ إِلَيَّ وَوَقَفْنَ بَيْنَ يَدَيَّ، فَقُلْتُ: ارْكَبْنَ، فَرَكِبْنَ مَا هُنَالِكَ مِنَ الدَّوَابِّ وَسُقْتُ بِهِنَّ حَتَّى أَتَيْتُ أَمِيرَ الْجَيْشِ فَدَفَعْتُهُنَّ إِلَيْهِ، فَنَفَّلَنِي مَا شِئْتُ مِنْهُنَّ، فَأَخَذْتُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ بِعَيْنِهَا، فَهِيَ أم أولادي. والبطريق في لغة الروم عبارة عن الأمير الكبير فيهم، وكان أبوها بطريقا كبيرا فيهم- يعنى تلك المرأة- وَكَانَ الْبَطَّالُ بَعْدَ ذَلِكَ يُكَاتِبُ أَبَاهَا وَيُهَادِيهِ.
وذكر أن عبد الملك بن مروان لَمَّا وَلَّاهُ الْمِصِّيصَةَ بَعَثَ الْبَطَّالُ سَرِيَّةً إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، فَغَابَ عَنْهُ خَبَرُهَا فَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعُوا، فَرَكِبَ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ عَلَى فَرَسٍ له وسار حتى وصل عَمُّورِيَّةَ، فَطَرَقَ بَابَهَا لَيْلًا(9/332)
فَقَالَ لَهُ الْبَوَّابُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ الْبَطَّالُ: فَقُلْتُ أَنَا سَيَّافُ الْمَلِكِ وَرَسُولُهُ إِلَى الْبِطْرِيقِ، فأخذ لِي طَرِيقًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسْتُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ إِلَى جَانِبِهِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ فِي رِسَالَةٍ فَمُرْ هَؤُلَاءِ فَلْيَنْصَرِفُوا، فَأَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ فَذَهَبُوا، قَالَ: ثُمَّ قَامَ فأغلق بَابَ الْكَنِيسَةِ عَلَيَّ وَعَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ مكانه، فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي وَضَرَبْتُ بِهِ رَأَسَهُ صَفْحًا وَقُلْتُ له: أنا البطال فأصدقنى عن السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا ضربت عنقك الساعة، فأخبرني مَا خَبَرُهَا، فَقَالَ: هُمْ فِي بِلَادِي يَنْتَهِبُونَ مَا تَهَيَّأَ لَهُمْ، وَهَذَا كِتَابٌ قَدْ جَاءَنِي يُخْبِرُ أَنَّهُمْ فِي وَادِي كَذَا وَكَذَا، وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُكَ. فَقُلْتُ: هَاتِ الْأَمَانَ، فَأَعْطَانِي الْأَمَانَ، فقلت: ايتني بِطَعَامٍ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَجَاءُوا بِطَعَامٍ فَوُضِعَ لِي، فأكلت فقمت لِأَنْصَرِفَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اخْرُجُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الْمَلِكِ، فَانْطَلَقُوا يَتَعَادُّونَ بَيْنَ يَدَيَّ، وَانْطَلَقْتُ إِلَى ذَلِكَ الْوَادِي الَّذِي ذُكِرَ فَإِذَا أَصْحَابِي هُنَالِكَ، فَأَخَذَتْهُمْ وَرَجَعْتُ إِلَى الْمِصِّيصَةِ. فَهَذَا أَغْرَبُ مَا جَرَى قَالَ الْوَلِيدُ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رَأَى الْبَطَّالَ وَهُوَ قَافِلٌ مَنْ حَجَّتِهِ، وَكَانَ قَدْ شُغِلَ بِالْجِهَادِ عَنِ الْحَجِّ، وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ دَائِمًا الْحَجَّ ثُمَّ الشَّهَادَةَ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا فِي السَّنَةِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ فِيهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ سَبَبُ شَهَادَتِهِ أَنَّ لِيُونَ مَلِكَ الرُّومِ خَرَجَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، فَبَعَثَ الْبِطْرِيقُ- الَّذِي الْبَطَّالُ مُتَزَوِّجٌ بِابْنَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَمْرَهَا- إِلَى الْبَطَّالِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَأَخْبَرَ الْبَطَّالُ أَمِيرَ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ مَالِكَ بْنَ شبيب، وقال له: الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ نَتَحَصَّنَ فِي مَدِينَةِ حَرَّانَ، فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْنَا سُلَيْمَانُ بْنُ هشام في الجيوش الإسلامية، فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَدَهَمَهُمُ الْجَيْشُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شديدا والأبطال تحوم بين يدي البطال وَلَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يُنَوِّهَ بِاسْمِهِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الرُّومِ، فَاتَّفَقَ أَنْ نَادَاهُ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَ اسْمَهُ غَلَطًا مِنْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ فُرْسَانُ الرُّومِ حَمَلُوا عَلَيْهِ حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَاقْتَلَعُوهُ من سرجه برماحهم فألقوه إلى الأرض، ورأى الناس يقتلون وَيَأْسِرُونَ، وَقُتِلَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مَالِكُ بْنُ شَبِيبٍ، وَانْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ وَانْطَلَقُوا إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْخَرَابِ فتحصنوا فيها، وأصبح اليون فَوَقَفَ عَلَى مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ فَإِذَا الْبَطَّالُ بِآخِرِ رَمَقٍ فَقَالَ لَهُ لِيُونُ: مَا هَذَا يَا أَبَا يَحْيَى؟ فَقَالَ: هَكَذَا تُقْتَلُ الْأَبْطَالُ، فَاسْتَدْعَى ليون بالأطباء ليداووه فإذا جراحة قد وصلت إِلَى مَقَاتِلِهِ، فَقَالَ لَهُ لِيُونُ: هَلْ مِنْ حاجة يا أبا يحيى؟ قال: نعم، فأمر من معك من الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلُوا غَسْلِيَ وَالصَّلَاةَ عَلَيَّ وَدَفْنِي، ففعل الملك ذلك وَأَطْلَقَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أُولَئِكَ الْأُسَارَى، وَانْطَلَقَ لِيُونُ إلى جيش المسلمين الذين تحصنوا فحاصرهم، فبينما هم في تلك الشدة والحصار إِذْ جَاءَتْهُمُ الْبُرُدُ بِقُدُومِ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ فِي الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَفَرَّ لِيُونُ فِي جَيْشِهِ الخبيث هاربا راجعا إلى بلاده، قبحه الله، فدخل القسطنطينية وتحصن بها.(9/333)
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: كَانَتْ وَفَاةُ الْبَطَّالِ وَمَقْتَلُهُ بِأَرْضِ الرُّومِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وعشرين ومائة، وقال ابن حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ: قُتِلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ومائة، قيل وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ قُتِلَ هُوَ وَالْأَمِيرُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فاللَّه أَعْلَمُ، وَلَكِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يُؤَرِّخْ وَفَاتَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فاللَّه أَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَهَذَا ملخص ابن عساكر في ترجمة البطال مع تفصيله لِلْأَخْبَارِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ الْعَامَّةُ عَنِ الْبَطَّالِ مِنَ السِّيرَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى دَلْهَمَةَ وَالْبَطَّالِ وَالْأَمِيرِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَالْقَاضِي عُقَبَةَ، فَكَذِبٌ وافتراء ووضع بارد، وجهل وتخبط فَاحِشٌ، لَا يَرُوجُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ أَوْ جَاهِلٍ رَدِيٍّ. كَمَا يَرُوجُ عَلَيْهِمْ سِيرَةُ عَنْتَرَةَ الْعَبْسِيِّ الْمَكْذُوبَةُ، وَكَذَلِكَ سِيرَةُ الْبَكْرِيِّ وَالدَّنَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ الْمُفْتَعَلُ فِي سِيرَةِ الْبَكْرِيِّ أَشَدُّ إِثْمًا وَأَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّ وَاضِعَهَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» .
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِيَاسٌ الذَّكِيُّ
وَهُوَ إِيَاسُ بن معاوية بن مرة بن إياس بن هلال بن رباب بن عبيد بن دريد بن أوس بن سواه ابن عَمْرِو بْنِ سَارِيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَوْسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ معد بن عَدْنَانَ، هَكَذَا نَسَبَهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، وَهُوَ أَبُو وَاثِلَةَ الْمُزَنِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ وَلِجَدِّهِ صُحْبَةٌ، وَكَانَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِذَكَائِهِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ مَرْفُوعًا فِي الْحَيَاءِ عَنْ أَنَسٍ وسعيد بن جبير وسعيد بن المسبب وَنَافِعٍ وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَعَنْهُ الْحَمَّادَانِ وَشُعْبَةُ وَالْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ لَفَهِمٌ إِنَّهُ لَفَهِمٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَالْعِجْلِيُّ وَابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ: ثِقَةٌ. زَادَ ابْنُ سَعْدٍ وَكَانَ عَاقِلًا مِنَ الرِّجَالِ فَطِنًا، وَزَادَ العجليّ وكان فقيها عفيفا. وقدم دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَوَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَرَّةً أُخْرَى حِينَ عَزَلَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: تَحَاكَمَ إِيَاسٌ وَهُوَ صَبِيٌّ شَابٌّ وَشَيْخٌ إِلَى قَاضِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِدِمَشْقَ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: إِنَّهُ شَيْخٌ وَأَنْتَ شَابٌّ فَلَا تُسَاوِهِ فِي الْكَلَامِ، فَقَالَ إِيَاسٌ: إِنْ كَانَ كَبِيرًا فَالْحَقُّ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: اسْكُتْ، فَقَالَ:
وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِي إِذَا سَكَتُّ؟ فَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَحْسَبُكَ تَنْطِقُ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِي هَذَا حَتَّى تَقُومَ، فَقَالَ إِيَاسٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، زَادَ غَيْرُهُ فَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَظُنُّكَ إِلَّا ظَالِمًا لَهُ، فَقَالَ: مَا عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي، فَقَامَ الْقَاضِي فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَالَ: اقْضِ حَاجَتَهُ وَأَخْرِجْهُ السَّاعَةَ مِنْ دِمَشْقَ لَا يُفْسِدُ عَلَيَّ النَّاسَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا عَزَلَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ فَرَّ مِنْهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز فوجده(9/334)
قَدْ مَاتَ، فَكَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةٍ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، فَتَكَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَرَدَّ عَلَيْهِ إِيَاسٌ، فَأَغْلَظَ لَهُ الْأُمَوِيُّ فَقَامَ إِيَاسٌ، فَقِيلَ لِلْأُمَوِيِّ: هَذَا إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ المزني، فلما عاد من الغد اعتذر له الْأُمَوِيُّ وَقَالَ: لَمْ أَعْرِفْكَ، وَقَدْ جَلَسَتْ إِلَيْنَا بثياب السوقة وكلمتنا بكلام الاشراف فلم تحتمل ذَلِكَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بن حماد ثنا ضمرة عن أبى شَوْذَبٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ يُولَدُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ رَجُلٌ تَامُّ الْعَقْلِ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: دَخَلَ عَلَى إِيَاسٍ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ فَلَمَّا رَآهُنَّ قَالَ: أَمَّا إِحْدَاهُنَّ فَمُرْضِعٌ، وَالْأُخْرَى بِكْرٌ، وَالْأُخْرَى ثَيِّبٌ، فَقِيلَ لَهُ بِمَ عَلِمَتْ هَذَا؟ فَقَالَ: أما المرضع فكلما قعدت أمسكت ثديها بيدها، وأما البكر فكلما دَخَلَتْ لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا الثَّيِّبُ فكلما دخلت نظرت ورمت بعينها. وقال يونس بن صعلب [1] :
ثَنَا الْأَحْنَفُ بْنُ حَكِيمٍ بِأَصْبَهَانَ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ سَمِعْتُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: أَعْرِفُ اللَّيْلَةَ الَّتِي وُلِدْتُ فِيهَا، وَضَعَتْ أُمِّي عَلَى رَأْسِي جَفْنَةً. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ قَالَ إِيَاسُ بن معاوية لأمه: ما شيء سمعتيه وَأَنْتِ حَامِلٌ بِي وَلَهُ جَلَبَةٌ شَدِيدَةٌ؟ قَالَتْ: ذاك طست من نحاس سقط من فوق الدار إلى أسفل، ففزعت فوضعتك تِلْكَ السَّاعَةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ عَنْ عمر بن شيبة النميري قال: بلغني أن إياسا قال: ما يسرني أن أكذب كذبة يطلع عليها أبى معاوية. وقال: مَا خَاصَمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِعَقْلِي كُلِّهِ إِلَّا الْقَدَرِيَّةَ، قَلْتُ لَهُمْ أَخْبِرُونِي عَنِ الظُّلْمِ مَا هُوَ؟ قَالُوا: أَخْذُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ لَهُ، قُلْتُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ إِيَاسٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْكُتَّابِ وَأَنَا صَبِيٌّ فَجَعَلَ أَوْلَادُ النَّصَارَى يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا فَضْلَةَ لِطَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لِلْفَقِيهِ- وكان نصرانيا-: ألست تزعم أن في الطَّعَامِ مَا يَنْصَرِفُ فِي غِذَاءِ الْبَدَنِ؟ قَالَ: بلى، قلت فما ينكر أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ طَعَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّهُ غِذَاءً لِأَبْدَانِهِمْ؟ فَقَالَ لَهُ مُعَلِّمُهُ: مَا أَنْتَ إِلَّا شَيْطَانٌ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِيَاسٌ وَهُوَ صَغِيرٌ بِعَقْلِهِ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ كما سنذكره إن شاء الله في أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّ طَعَامَهُمْ يَنْصَرِفُ جُشَاءً وَعَرَقًا كالمسك، فإذا البطن ضامر. وقال سفيان: وحين قدم إياس واسط فَجَاءَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ بِمَسَائِلَ قَدْ أَعَدَّهَا، فَقَالَ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَسْأَلَكَ؟ قَالَ: سَلْ وَقَدِ ارْتَبْتُ حِينَ اسْتَأْذَنْتَ، فَسَأَلَهُ عَنْ سَبْعِينَ مَسْأَلَةً يُجِيبُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ، رَدَّهُ إِيَاسٌ إِلَى قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ إِيَاسٌ: أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ أَتَحْفَظُ قَوْلَهُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ 5: 3؟
قال: نعم! قال: وما قبلها وما بعدها؟ قال: نعم! قَالَ: فَهَلْ أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِآلِ شُبْرُمَةَ رَأْيًا؟
وَقَالَ عَبَّاسٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: حدثنا سعيد بن عامر بن عمر بن على قال قال رجل لا ياس ابن مُعَاوِيَةَ: يَا أَبَا وَاثِلَةَ حَتَّى مَتَى يَبْقَى النَّاسُ؟ وَحَتَّى مَتَى يَتَوَالَدُ النَّاسُ وَيَمُوتُونَ؟ فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَجِيبُوهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ جَوَابٌ، فَقَالَ إياس: حتى تتكامل العدنان، عدة أهل الجنة، وعدة أهل النار.
__________
[1] كذا. ولم نجد له ترجمة(9/335)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اكْتَرَى إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنَ الشام قاصدا الحج، فركب معه في المحارة غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَكَثَا ثلاثا لا يكلم أحدهما الآخر، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ تَحَادَثَا فَتَعَارَفَا وَتَعَجَّبَ كل واحد منهما من اجتماعه مع صاحبه، لِمُبَايَنَةِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِقَادِ فِي الْقَدَرِ، فَقَالَ لَهُ إِيَاسٌ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43 وَيَقُولُ أَهْلُ النَّارِ رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا 23: 106 وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا 2: 32 ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَأَمْثَالِ الْعَجَمِ مَا فِيهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ ثُمَّ اجْتَمَعَ مَرَّةً أُخْرَى إِيَاسٌ وَغَيْلَانُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَنَاظَرَ بَيْنَهُمَا فَقَهَرَهُ إِيَاسٌ، وَمَا زَالَ يَحْصُرُهُ فِي الْكَلَامِ حَتَّى اعْتَرَفَ غَيْلَانُ بِالْعَجْزِ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، فَدَعَا عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ فَأُمْكِنَ مِنْ غَيْلَانَ فَقُتِلَ وَصُلِبَ بَعْدَ ذلك وللَّه الحمد والمنة.
ومن كلام إياس الْحَسَنِ: لَأَنْ يَكُونَ فِي فِعَالِ الرَّجُلِ فَضْلٌ عن مقاله خير من أن يكون في مقاله فَضْلٌ عَنْ فِعَالِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: ذَكَرْتُ رَجُلًا بِسُوءٍ عِنْدَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِي وَقَالَ:
أَغَزَوْتَ الرُّومَ؟ قُلْتُ: لا! قال: السند وَالْهِنْدَ وَالتُّرْكَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَفَسَلِمَ مِنْكَ الرُّومُ وَالسِّنْدُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْكَ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ؟ قَالَ: فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ: رَأَيْتُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي بَيْتِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ طويل الذراع غليظ الثياب، يلون عِمَامَتَهُ، وَهُوَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْكَلَامِ فَلَا يتكلم معه أحد إلا علاه، وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِيكَ عَيْبٌ سِوَى كَثْرَةِ كَلَامِكَ، فَقَالَ: بِحَقٍّ أَتَكَلَّمُ أَمْ بِبَاطِلٍ؟ فَقِيلَ بَلْ بِحَقٍّ، فَقَالَ: كُلَّمَا كَثُرَ الْحَقُّ فَهُوَ خَيْرٌ، وَلَامَهُ بَعْضُهُمْ فِي لِبَاسِهِ الثِّيَابَ الْغَلِيظَةَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَلْبَسُ ثَوْبًا يَخْدِمُنِي وَلَا أَلْبَسُ ثَوْبًا أَخْدِمُهُ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ قَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: إِنَّ أَشْرَفَ خِصَالِ الرَّجُلِ صَدَقُ اللِّسَانِ، وَمِنْ عَدِمَ فَضِيلَةَ الصِّدْقِ فَقَدْ فُجِعَ بِأَكْرَمِ أَخْلَاقِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَ رَجُلٌ إِيَاسًا عَنِ النَّبِيذِ فَقَالَ: هُوَ حَرَامٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ:
فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْمَاءِ فَقَالَ: حَلَالٌ، قَالَ: فالكسور، قَالَ: حَلَالٌ، قَالَ فَالتَّمْرُ قَالَ حَلَالٌ، قَالَ فما باله إذا اجتمع حرم؟ فَقَالَ إِيَاسٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ رَمَيْتُكَ بِهَذِهِ الْحَفْنَةِ مِنَ التُّرَابِ أَتُوجِعُكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَذِهِ الحفنة من التبن؟ قال لا توجعني، قَالَ: فَهَذِهِ الْغَرْفَةُ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ لَا توجعني شيئا، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ خَلَطْتُ هَذَا بِهَذَا وَهَذَا بهذا حتى صار طينا ثم تركته حتى اسْتَحْجَرَ ثُمَّ رَمَيْتُكَ أَيُوجِعُكَ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ وتقتلني، قَالَ: فَكَذَلِكَ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ إِذَا اجْتَمَعَتْ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَدِيَّ ابن أرطاة على الْبَصْرَةِ نَائِبًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِيَاسٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ الْجَوْشَنِيِّ، فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْقَهَ فَلْيُوَلِّهِ الْقَضَاءَ، فَقَالَ إِيَاسٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَتَوَلَّى: أَيُّهَا الرَّجُلُ سَلْ فَقِيهَيِ الْبَصْرَةِ، الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ، وَكَانَ إِيَاسٌ لَا يَأْتِيهِمَا، فَعَرَفَ الْقَاسِمُ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُمَا أَشَارَا بِهِ- يعنى بالقاسم- لأنه كان(9/336)
يأتيهما، فَقَالَ الْقَاسِمُ لِعَدِيٍّ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّ إِيَاسًا أَفْضَلُ مِنِّي وَأَفْقَهُ مِنِّي، وَأَعْلَمُ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَوَلِّهِ، وإن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولى كاذبا الْقَضَاءَ. فَقَالَ إِيَاسٌ: هَذَا رَجُلٌ أُوقِفَ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَافْتَدَى مِنْهَا بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَسْتَغْفِرُ الله، فقال عدي: أما إذا فَطِنَتْ إِلَى هَذَا فَقَدْ وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ. فَمَكَثَ سَنَةً يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ وَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ هَرَبَ إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق فاستعفاه الْقَضَاءِ، فَوَلَّى عَدِيٌّ بُعْدَهُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ.
قَالُوا: لَمَّا تَوَلَّى إِيَاسٌ الْقَضَاءَ بِالْبَصْرَةِ فَرِحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ: لَقَدْ رَمَوْهَا بِحَجَرِهَا، وَجَاءَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَبَكَى إياس وذكر الحديث «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الجنة» . فقال الحسن وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ في الْحَرْثِ 21: 78 إلى قوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً 21: 79 قَالُوا: ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ لِلْخُصُومَاتِ، فَمَا قَامَ حَتَّى فَصَلَ سَبْعِينَ قَضِيَّةً، حَتَّى كَانَ يُشَبَّهُ بِشُرَيْحٍ الْقَاضِي. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ بعث إلى محمد بن سيرين فسأله منه. وَقَالَ إِيَاسٌ: إِنِّي لَأُكَلِّمُ النَّاسَ بِنِصْفِ عَقْلِي، فإذا اختصم إلى اثنان جمعت لهما عَقْلِي كُلَّهُ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ لَتُعْجَبُ بِرَأْيِكَ، فَقَالَ: لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ أَقْضِ بِهِ، وَقَالَ لَهُ آخَرُ: إِنَّ فِيكَ خِصَالًا لَا تُعْجِبُنِي، فَقَالَ: مَا هِيَ؟ فَقَالَ: تَحْكُمُ قَبْلَ أن تفهم، ولا تجالس كُلَّ أَحَدٍ، وَتَلْبَسُ الثِّيَابَ الْغَلِيظَةَ. فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا أَكْثَرُ الثَّلَاثَةُ أَوِ الِاثْنَانِ؟ قَالَ: الثَّلَاثَةُ. فَقَالَ: مَا أَسْرَعَ مَا فَهِمْتَ وَأَجَبْتَ، فَقَالَ أَوَ يَجْهَلُ هَذَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ: وَكَذَلِكَ مَا أَحْكَمُ أَنَا بِهِ، وَأَمَّا مُجَالَسَتِي لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَأَنْ أَجْلِسَ مَعَ مَنْ يَعْرِفُ لِي قَدْرِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَجْلِسَ مَعَ مَنْ لا يعرف لي قدري، وأما الثياب الغلاظ فأنا أَلْبَسُ مِنْهَا مَا يَقِينِي لَا مَا أَقِيهِ أنا. قالوا، وتحاكم إليه اثنان فادعى أَحَدُهُمَا عِنْدَ الْآخَرِ مَالًا، وَجَحَدَهُ الْآخَرُ، فَقَالَ إِيَاسٌ لِلْمُودِعِ: أَيْنَ أَوْدَعْتَهُ؟ قَالَ: عِنْدَ شَجَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ. فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَيْهَا فَقِفْ عِنْدَهَا لعلك تتذكر، وفي رواية أنه قال له: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتى بورق منها؟ قال: نعم! قال فَانْطَلَقَ، وَجَلَسَ الْآخَرُ فَجَعَلَ إِيَاسٌ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ وَيُلَاحِظُهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَوْصَلَ صاحبك بعد إلى المكان؟ فَقَالَ: لَا بَعْدُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَأَدِّ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَإِلَّا جَعَلْتُكَ نَكَالًا. وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَامَ معه فدفع إليه وديعته بكمالها. وجاء آخر فقال له: إني أَوْدَعْتُ عِنْدَ فُلَانٍ مَالًا وَقَدْ جَحَدَنِي، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ الْآنَ وَائْتِنِي غَدًا. وَبَعَثَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الْجَاحِدِ فَقَالَ لَهُ: إنه قد اجتمع عندنا هاهنا مال فلم نر له أمينا نضعه عنده إلا أنت، فضعه عندك في مكان حريز. فقال له سَمْعًا وَطَاعَةً، فَقَالَ لَهُ اذْهَبِ الْآنَ وَائْتِنِي غَدًا، وَأَصْبَحَ ذَلِكَ الرَّجُلُ صَاحِبُ الْحَقِّ فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ الْآنَ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ أعطني حقي وإلا رفعتك إلى القاضي، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَخَافَ أَنْ لَا يُودِعَ إذا سمع الحاكم خبره، فدفع إليه ماله بكماله، فجاء إلى(9/337)
إِيَاسٍ فَأَعْلَمَهُ، ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ رَجَاءَ أَنْ يُودَعَ فَانْتَهَرَهُ إِيَاسٌ وَطَرَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ خَائِنٌ.
وَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ اثْنَانِ فِي جَارِيَةٍ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا ضَعِيفَةُ الْعَقْلِ، فَقَالَ لَهَا إِيَاسٌ: أَيُّ رِجْلَيْكِ أَطْوَلَ؟
فَقَالَتْ: هَذِهِ. فَقَالَ لَهَا: أَتَذْكُرِينَ لَيْلَةَ وُلِدْتِ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ. فَقَالَ لِلْبَائِعِ رُدَّ رُدَّ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ إِيَاسًا سَمِعَ صَوْتَ امْرَأَةٍ مِنْ بَيْتِهَا فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ حَامِلٌ بِصَبِيٍّ، فَلَمَّا وَلَدَتْ وَلَدَتْ كَمَا قَالَ، فَسُئِلَ بِمَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَهَا وَنَفَسُهَا مَعَهُ فَعَلِمْتُ أنها حامل، وفي صوتها ضحل فَعَلِمْتُ أَنَّهُ غُلَامٌ. قَالُوا ثُمَّ مَرَّ يَوْمًا بِبَعْضِ الْمَكَاتِبِ فَإِذَا صَبِيٌّ هُنَالِكَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ أَدْرِي شَيْئًا فَهَذَا الصَّبِيُّ ابْنُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا هُوَ ابْنُهَا. وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ إِيَاسٍ فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ أبو العنفر فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ:
دَعَوْنِي إِلَى إِيَاسٍ فَإِذَا رَجُلٌ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ حَدِيثٍ أَخَذَ فِي آخِرَ. وَقَالَ إِيَاسٌ: كُلُّ رَجُلٍ لَا يَعْرِفُ عَيْبَ نَفْسِهِ فَهُوَ أحمق، فقيل له: ما عيبك؟ فقال كَثْرَةُ الْكَلَامِ. قَالُوا: وَلَمَّا مَاتَتْ أُمُّهُ بَكَى عليها فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ لِي بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى الْجَنَّةِ فَغُلِقَ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ له أبوه: إن الناس يلدون أبناء وولدت أنا أَبًا. وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَهُ وَيَكْتُبُونَ عَنْهُ الْفِرَاسَةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ جُلُوسٌ إِذْ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ قَدْ جَاءَ فَجَلَسَ عَلَى دَكَّةِ حَانُوتٍ، وَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ أَحَدٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِ رَجُلٍ ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَذَا فَقِيهُ كُتَّابٍ قَدْ أَبَقَ لَهُ غُلَامٌ أَعْوَرُ فَهُوَ يَتَطَلَّبُهُ، فَقَامُوا إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَسَأَلُوهُ فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ إياس، فقالوا لا ياس: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَمَّا جَلَسَ عَلَى دَكَّةِ الْحَانُوتِ عَلِمْتُ أَنَّهُ ذُو وِلَايَةٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لفقهاء الْمَكْتَبِ، ثُمَّ جَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَنْ مر به فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ فَقَدَ غُلَامًا، ثُمَّ لَمَّا قَامَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، عَرَفْتُ أَنَّ غُلَامَهُ أَعْوَرُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فِي تَرْجَمَتِهِ، من ذلك أنه شهد عنده رجل في بستان فقال له: كم عدد أشجاره؟ فقال له: كَمْ عَدَدُ جُذُوعِ هَذَا الْمَجْلِسِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ مِنْ مُدَّةِ سِنِينَ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي وأقررت شهادته.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وَمِائَةٍ
ذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّ خَاقَانَ مِلْكَ التُّرْكِ لَمَّا قُتِلَ فِي وِلَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ عَلَى خُرَاسَانَ، تَفَرَّقَ شَمْلُ الْأَتْرَاكِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُغِيرُ عَلَى بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَتْ أَنْ تُخَرَّبَ بِلَادُهُمْ، وَاشْتَغَلُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهَا سَأَلَ أَهْلُ الصُّغْدِ مِنْ أَمِيرِ خُرَاسَانَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَسَأَلُوهُ شُرُوطًا أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ، مِنْهَا أَنْ لَا يُعَاقَبُ مَنِ ارْتَدَّ منهم عن الإسلام، ولا يؤخذ أسير الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِشِدَّةِ نِكَايَتِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَعَابَ عَلَيْهِ النَّاسُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى هِشَامٍ فِي ذَلِكَ فَتَوَقَّفَ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى(9/338)
مُعَانَدَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ ضَرَرُهُمْ أَشَدَّ، أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَعَثَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ وَفْدًا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ نِيَابَةَ خُرَاسَانَ، وَتَكَلَّمُوا فِي نصر بن سيار بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَبِرَ وَضَعُفَ بَصَرُهُ فَلَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ إِلَّا مِنْ قَرِيبٍ بِصَوْتِهِ، وَتَكَلَّمُوا فِيهِ كَلَامًا كَثِيرًا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ هِشَامٌ، وَاسْتَمَرَّ بِهِ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَوِلَايَتِهَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا يَزِيدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْعُمَّالُ فِيهَا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الْقَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دمشق، وأبو يونس سليمان بن جبير، وسماك بن حرب، ومحمد ابن واسع بن حيان، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ وللَّه الحمد.
[قال محمد بن واسع: أول من يدعى يوم القيامة إلى الحساب القضاة. وقال: خمس خصال تميت القلب: الذنب على الذنب، ومجالسة الموتى، قيل له: ومن الموتى؟ قال: كل غنى مترف، وسلطان جائر. وكثرة مشاقة النساء، وحديثهن، ومخالطة أهله. وقال مالك بن دينار: إني لأغبط الرجل يكون عيشه كفافا فيقنع به. فقال محمد بن واسع: أغبط منه والله عندي من يصبح جائعا وهو عن الله راض. وقال: ما آسى عن الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قومنى، وصلاة في جماعة يحمل عنى سهوها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة، ولا للَّه على فيه تبعة. وروى رواد بن الربيع قال: رأيت محمد بن واسع بسوق بزور وهو يعرض حمارا له للبيع، فقال له رجل:
أترضاه لي؟ فقال لو رضيته لم أبعه.
ولما ثقل محمد بن واسع كثر عليه الناس في العيادة، قال بعض أصحابه: فدخلت عليه فإذا قوم قعود وقوم قيام، فقال: ماذا يغنى هؤلاء عنى إذا أخذ بناصيتي وقدمي غدا وألقيت في النار؟! وبعث بعض الخلفاء مالا مستكثرا إلى البصرة ليفرق في فقراء أهلها، وأمر أن يدفع إلى محمد بن واسع منه فلم يقبله ولم يلتمس منه شيئا، وأما مالك بن دينار فإنه قبل ما أمر له به، واشترى به أرقاء وأعتقهم ولم يأخذ لنفسه منه شيئا، فجاءه محمد بن واسع يلومه على قبوله جوائز السلطان. فقال له: يا مالك قبلت جوائز السلطان؟ فقال له مالك: يا أبا عبد الله! سل أصحابى ماذا فعلت منه، فقالوا له: إنه اشترى به أرقاء وأعتقهم، فقال له: سألتك باللَّه أقلبك الآن لهم مثل ما كان قبل أن يصلوك. فقام مالك وحثا على رأسه التراب وقال: إنما يعرف الله محمد بن واسع، إنما مالك حمار إنما مالك حمار، وكلام محمد بن واسع كثير جدا رحمه الله] [1]
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بلاد الروم فلقى ملك الروم اليون فقاتله فسلم سليمان وغنم.
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/339)
وَفِيهَا قَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ قَاصِدِينَ إِلَى مَكَّةَ فَمَرُّوا بِالْكُوفَةِ فَبَلَغَهُمْ أَنَّ فِي السِّجْنِ جَمَاعَةً مِنَ الأمراء من نواب خالد الْقَسْرِيِّ، قَدْ حَبَسَهُمْ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، فَاجْتَمَعُوا بِهِمْ فِي السِّجْنِ فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ، وَإِذَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ جَانِبٌ كَبِيرٌ، فَقَبِلُوا مِنْهُمْ وَوَجَدُوا عِنْدَهُمْ فِي السِّجْنِ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ غُلَامٌ يَخْدِمُ عيسى بن مقبل الْعِجْلِيَّ، وَكَانَ مَحْبُوسًا فَأَعْجَبَهُمْ شَهَامَتُهُ وَقُوَّتُهُ وَاسْتِجَابَتُهُ مع مولاه إلى هذا الأمر، فاشتراه بكر بْنُ مَاهَانَ مِنْهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ فَاسْتَنْدَبُوهُ لِهَذَا الْأَمْرِ، فَكَانُوا لَا يُوَجِّهُونَهُ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا ذَهَبَ وَنَتَجَ مَا يُوَجِّهُونَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ إن شاء الله تعالى فيما بعد. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ دُعَاةُ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَقَامَ مَقَامَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنَّمَا تُوُفِّيَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا. قَالَ الواقدي وأبو معشر: وحج بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ عبد الملك، ومعه امرأته أم مسلم بن هشام بن عبد الملك، وقيل إنما حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قاله الواقدي، والأول ذكره ابن جرير والله أعلم. وكان نائب الحجاز مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ يَقِفُ عَلَى باب أم مسلم وَيَهْدِي إِلَيْهَا الْأَلْطَافَ وَالتُّحَفَ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهَا مِنَ التَّقْصِيرِ، وَهِيَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ، وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ [1]
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ الْقَارِئُ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَوَثَّقَهُ الْأَئِمَّةُ. توفى في هذه السنة في الصَّحِيحِ، وَقِيلَ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ فاللَّه أَعْلَمُ.
الزُّهْرِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ، أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، سَمِعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَصَابَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ جَهْدٌ شَدِيدٌ فَارْتَحَلْتُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ عِنْدِي عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، فَجِئْتُ جَامِعَهَا فَجَلَسْتُ فِي أَعْظَمِ حَلْقَةٍ، فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ خَرَجَ مِنْ عند أمير المؤمنين عبد الملك، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَسْأَلَةٌ- وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِيهَا شَيْئًا وَقَدْ شَذَّ عَنْهُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- فَقُلْتُ: إِنِّي أَحْفَظُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،: فَأَخَذَنِي فَأَدْخَلَنِي عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: فَسَأَلَنِي مِمَّنْ أَنْتَ؟
فَانْتَسَبْتُ لَهُ، وَذَكَرْتُ لَهُ حَاجَتِي وَعِيَالِي، فَسَأَلَنِي هَلْ تَحْفَظُ الْقُرْآنَ؟ قلت: نعم والفرائض والسنن،
__________
[1] في نسخة القسطنطينية: القاسم بن أبى يسرة. وفي المصرية: القاسم بن مرة. وصححناه من تذهيب الصفي الخزرجي.(9/340)
فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَأَجَبْتُهُ، فَقَضَى دَيْنِي وَأَمَرَ لِي بِجَائِزَةٍ، وَقَالَ لِي: اطْلُبِ الْعِلْمَ فَإِنِّي أَرَى لَكَ عَيْنًا حَافِظَةً وَقَلْبًا ذَكِيًّا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَطْلُبُ الْعِلْمَ وَأَتَتَبَّعُهُ، فَبَلَغَنِي أَنَّ امْرَأَةً بِقُبَاءَ رَأَتْ رُؤْيَا عَجِيبَةً، فَأَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّ بِعْلِي غاب وَتَرَكَ لَنَا خَادِمًا وَدَاجِنًا وَنُخَيْلَاتٍ، نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا، وَنَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا، فَبَيْنَمَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمَةِ وَالْيَقْظَى رَأَيْتُ كَأَنَّ ابْنِي الْكَبِيرَ- وَكَانَ مُشْتَدًّا- قَدْ أَقْبَلَ فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَ وَلَدَ الدَّاجِنِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يُضَيِّقُ عَلَيْنَا اللَّبَنَ، ثم نصب القدر وقطعها ووضعها فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَ بِهَا أَخَاهُ، وَأَخُوهُ صَغِيرٌ كَمَا قَدْ جَاءَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورَةً، فَدَخَلَ وَلَدِي الْكَبِيرُ فَقَالَ: أَيْنَ اللَّبَنُ؟ فقلت: يا بنى شَرِبَهُ وَلَدُ الدَّاجِنِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيْنَا اللَّبَنَ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَهُ وَقَطَّعَهُ فِي الْقِدْرِ، فَبَقِيتُ مُشْفِقَةً خَائِفَةً مِمَّا رَأَيْتُ، فَأَخَذْتُ وَلَدِي الصَّغِيرَ فَغَيَّبْتُهُ فِي بَعْضِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ وَأَنَا مُشْفِقَةٌ جِدًّا مِمَّا رَأَيْتُ، فَأَخَذَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: مَا لَكِ مُغْتَمَّةً؟ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُ مَنَامًا فَأَنَا أَحْذَرُ مِنْهُ فَقَالَ: يَا رُؤْيَا يَا رُؤْيَا، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ؟ قَالَتْ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ يَا أَحْلَامُ يَا أَحْلَامُ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ دُونَهَا فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ؟ فَقَالَتْ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَضْغَاثُ يا أضغاث، فأقبلت امرأة سوداء شنيعة فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ؟ فقالت إنها امرأة صالحة فأحببت أن أعلمها سَاعَةً، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَجَاءَ ابْنِي فَوَضَعَ الطَّعَامَ وقال: أين أخى؟ فقلت: دَرَجَ إِلَى بُيُوتِ الْجِيرَانِ، فَذَهَبَ وَرَاءَهُ فَكَأَنَّمَا هدى إليه، فأقبل به يقبله، ثم جاء فوضعه وَجَلَسْنَا جَمِيعًا فَأَكَلَنَا مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ.
وُلِدَ الزُّهْرِيُّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ قَصِيرًا قَلِيلَ اللِّحْيَةِ، لَهُ شَعَرَاتٌ طِوَالٌ خَفِيفُ الْعَارِضِينَ. قَالُوا: وَقَدْ قَرَأَ القرآن في نحو من ثمان وثمانين يَوْمًا، وَجَالَسَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ ثَمَانَ سِنِينَ، تَمَسُّ رُكْبَتُهُ رُكْبَتَهُ، وَكَانَ يَخْدِمُ عُبَيْدَ اللَّهِ بن عبد الله يستسقى لَهُ الْمَاءَ الْمَالِحَ، وَيَدُورُ عَلَى مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، ومعه ألواح يكتب عنهم فيها الْحَدِيثَ، وَيَكْتُبُ عَنْهُمْ كُلَّ مَا سَمِعَ مِنْهُمْ، حتى صار من أعلم الناس وأعلمهم فِي زَمَانِهِ، وَقَدِ احْتَاجَ أَهْلُ عَصْرِهِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ الْعِلْمِ حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءُ، فَرَأَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَهُ أحدا من المسلمين. وقال أبو إِسْحَاقَ: كَانَ الزُّهْرِيُّ يَرْجِعُ مِنْ عِنْدِ عُرْوَةَ فيقول لجارية عنده فيها لكنة: ثنا عُرْوَةُ ثَنَا فُلَانٌ، وَيَسْرُدُ عَلَيْهَا مَا سَمِعَهُ مِنْهُ، فَتَقُولُ لَهُ الْجَارِيَةُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، فَيَقُولُ لَهَا: اسْكُتِي لَكَاعِ، فَإِنِّي لَا أُرِيدُكِ، إِنَّمَا أُرِيدُ نَفْسِي. ثُمَّ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِدِمَشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَكْرَمَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ وَفَرَضَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ، الْوَلِيدِ وسليمان، وكذا عند عمر(9/341)
ابن عبد العزيز، وعند يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاسْتَقْضَاهُ يَزِيدُ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ، ثُمَّ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ هِشَامٍ، وَحَجَّ مَعَهُ وَجَعَلَهُ مُعَلِّمَ أَوْلَادِهِ إِلَى أَنْ تُوفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَبْلَ هِشَامٍ بِسَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ:
سَمِعْتُ اللَّيْثَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَا اسْتَوْدَعْتُ قَلْبِي شَيْئًا قَطُّ فَنَسِيتُهُ، قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ أَكْلَ التُّفَّاحِ وسؤر الفأرة، وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُنْسِي، وَكَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ وَيَقُولُ إنه يذكى، وفيه يقول فايد بن أقرم.
زر ذَا وَأَثْنِ عَلَى الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ ... وَاذْكُرْ فَوَاضِلَهُ عَلَى الْأَصْحَابِ
وَإِذَا يُقَالُ مَنِ الْجَوَادُ بِمَالِهِ ... قِيلَ الْجَوَادُ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابِ
أَهْلُ الْمَدَائِنِ يَعْرِفُونَ مَكَانَهُ ... وَرَبِيعُ نَادِيهِ عَلَى الْأَعْرَابِ
يَشْرِي وفاء جفانه ويمدها ... بكسور انتاج وَفَتْقِ لُبَابِ
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: حَدَّثَ الزُّهْرِيُّ يَوْمًا بِحَدِيثٍ فَلَمَّا قَامَ أخذت بلجام دابته فاستفهمته فقال: أتستفهمني؟ مَا اسْتَفْهَمْتُ عَالِمًا قَطُّ، وَلَا رَدَدْتُ عَلَى عَالِمٍ قَطُّ، ثُمَّ جَعَلَ ابْنُ مَهْدِيٍّ يَقُولُ فتلك الطِّوَالُ وَتِلْكَ الْمَغَازِي.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ السَّلَامِيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ- يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ- أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ أَنْ يَكْتُبَ لِبَنِيهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَمْلَى عَلَى كَاتِبِهِ أَرْبَعَمِائَةِ حَدِيثٍ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَهُمْ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ هِشَامًا قَالَ لِلزَّهْرِيِّ: إِنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ ضَاعَ، فَقَالَ: لَا عَلَيْكَ، فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ فأخرج هِشَامٌ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ فَإِذَا هُوَ لَمْ يُغَادِرْ حَرْفًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ هِشَامٌ امْتِحَانَ حِفْظِهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ سَوْقًا لِلْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ مِنَ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ:
مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنَصَّ لِلْحَدِيثِ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَلَا أَهْوَنَ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ عِنْدَهُ، وَمَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْبَعْرِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: وَلَقَدْ جَالَسْتُ جَابِرًا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزبير فما رأيت أحدا أسيق لِلْحَدِيثِ مِنَ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَحْسَنُ النَّاسِ حَدِيثًا وَأَجْوَدُهُمْ إِسْنَادًا الزُّهْرِيُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَحْسَنُ الْأَسَانِيدِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال سعيد عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَكَثْتُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً أَخْتَلِفُ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ، وَمِنَ الشَّامِ إِلَى الْحِجَازِ، فَمَا كُنْتُ أَسْمَعُ حَدِيثًا أَسْتَطْرِفُهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا رَأَيْتُ عَالِمًا قَطُّ أَجْمَعَ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ، وَلَوْ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَقُلْتَ: مَا يُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، وَإِنْ حَدَّثَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ قَلْتَ لَا يُحْسِنُ إِلَّا هَذَا، وَإِنْ حَدَّثَ عَنِ الْأَعْرَابِ وَالْأَنْسَابِ قُلْتَ: لَا يُحْسِنُ إِلَّا هَذَا، وَإِنْ حدث عن القرآن والسنة كان حديثه بدعا جامعا، وكان يَقُولُ: اللَّهمّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ أحاط به علمك(9/342)
وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَ الزهري أسخى من رأيت، يُعْطِي كُلَّ مَنْ جَاءَ وَسَأَلَهُ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ شَيْءٌ اسْتَسْلَفَ. وَكَانَ يُطْعِمُ الناس الثريد ويسقيهم العسل، وكان يستمر على شراب العسل كما يستمر أَهْلُ الشَّرَابِ عَلَى شَرَابِهِمْ، وَيَقُولُ اسْقُونَا وَحَدِّثُونَا، فَإِذَا نَعَسَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ لَهُ: مَا أَنْتَ مِنْ سُمَّارِ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ لَهُ قُبَّةٌ مُعَصْفَرَةٌ، وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، وَتَحْتُهُ بِسَاطٌ مُعَصْفَرٌ، وَقَالَ اللَّيْثُ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: مَا بَقِيَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعِلْمِ مَا بَقِيَ عِنْدَ ابْنِ شِهَابٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَ مَعْمَرٌ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَلَيْكُمْ بِابْنِ شِهَابٍ فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِسُنَّةٍ مَاضِيَةٍ مِنْهُ، وَكَذَا قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، فَقِيلَ لَهُ:
وَلَا الْحَسَنُ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَقِيلَ لِمَكْحُولٍ: مَنْ أَعْلَمُ مَنْ لَقِيتَ؟ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، قِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ الزُّهْرِيُّ، قِيلَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ الزُّهْرِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ الزُّهْرِيُّ إِذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ لَمْ يحدث بها أحدا حَتَّى يَخْرُجَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: مُحَدِّثُو أَهْلِ الْحِجَازِ ثَلَاثَةٌ، الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: الَّذِينَ أَفْتَوْا أَرْبَعَةٌ، الزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ وقتادة، والزهري أفقههم عندي. وقال الزهري: ثلاثة إِذَا كُنَّ فِي الْقَاضِي فَلَيْسَ بِقَاضٍ، إِذَا كره الملاوم وَأَحَبَّ الْمَحَامِدَ، وَكَرِهَ الْعَزْلَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: كَانَ يُقَالُ فُصَحَاءُ زَمَانِهِمُ الزُّهْرِيُّ وَعُمَرُ بن عبد العزيز وموسى بن طلحة وعبيد اللَّهِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الَّذِي أَدَّبَ الله بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدَّبَ رَسُولُ اللَّهِ بِهِ أَمَّتَهُ أَمَانَةُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى مَا أُدِّيَ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَمِعَ عِلْمًا فَلْيَجْعَلْهُ أَمَامَهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ يونس عن الزهري قال: الاعتصام بالستة نَجَاةٌ، وَقَالَ الْوَلِيدُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَمِرُّوا أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَتْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ مِنْ غَوَائِلِ الْعِلْمِ أن يترك العالم حتى يذهب علمه، وفي رواية أن يترك العالم العمل بالعلم حتى يذهب، فان من غوائله قلة انتفاع العالم بعلمه، ومن غوائله النسيان وَالْكَذِبَ، وَهُوَ أَشَدُّ الْغَوَائِلِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالَمِ وَالسَّمَاعُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِذَا طَالَ الْمَجْلِسُ كَانَ للشيطان فيه حظ ونصيب، وقد قضى عنه هشام مرة ثمانين ألف درهم، وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَفِي رِوَايَةٍ عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَتَبَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي الْإِسْرَافِ وَكَانَ يَسْتَدِينُ، فَقَالَ لَهُ: لَا آمَنُ أَنْ يَحْبِسَ هَؤُلَاءِ القوم ما بأيديهم عنك فتكون قد حملت على أمانيك، قَالَ: فَوَعَدَهُ الزُّهْرِيُّ أَنْ يُقْصِرَ،(9/343)
فَمَرَّ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ وَضَعَ الطَّعَامَ وَنَصَبَ مَوَائِدَ الْعَسَلِ، فَوَقَفَ بِهِ رَجَاءٌ وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا هَذَا بِالَّذِي فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الزُّهْرِيُّ: انْزِلْ فَإِنَّ السَّخِيَّ لَا تُؤَدِّبُهُ التَّجَارِبُ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى
لَهُ سَحَائِبُ جُودٍ فِي أَنَامِلِهِ ... أَمْطَارُهَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ وَالذَّهَبُ
يَقُولُ فِي الْعُسْرِ إِنْ أَيْسَرْتُ ثَانِيَةً ... أَقْصَرْتُ عَنْ بَعْضِ مَا أُعْطِي وَمَا أَهَبُ
حَتَّى إِذَا عَادَ أَيَامُ الْيَسَارِ لَهُ ... رَأَيْتَ أَمْوَالَهُ فِي النَّاسِ تُنْتَهَبُ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وُلِدَ الزُّهْرِيُّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقَدِمَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى أمواله بثلاث بشعب زبدا، فَأَقَامَ بِهَا فَمَرِضَ هُنَاكَ وَمَاتَ وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعَ عشرة من رمضان في هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، قَالُوا: وَكَانَ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ، فَقِيهًا جَامِعًا، وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْعَسْقَلَانِيُّ: رأيت قبر الزهري بشعب زبدا مِنْ فِلَسْطِينَ مُسَنَّمًا مُجَصَّصًا، وَقَدْ وَقَفَ الْأَوْزَاعِيُّ يوما على قبره فقال: يا قبركم فيك من علم ومن حلم يا قبركم فيك من علم ومن كرم وكم جمعت روايات وأحكاما. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: تُوفِّيَ الزُّهْرِيُّ بِأَمْوَالِهِ بشعب ثنين، ليلة الثلاثاء لسبع عشر لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ لِيَدْعُوَ لَهُ الْمَارَّةُ، وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ والله أعلم.
[فصل
وروى الطبراني عن إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ معمر قال: أخبرنى صالح بن كيسان قال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلنا: نحن نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لي: هلم فلنكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت: إنه ليس بسنة فلا نكتب، قال: فكتب ما جاء عنهم ولم أكتب، فأنحج وضيعت. وروى الامام أحمد عن معمر قال: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزانته يقول: من علم الزهري. وروى عن الليث بن سعد قال: وضع الطست بين يدي ابن شهاب فتذكر حديثا فلم تزل يده في الطست حتى طلع الفجر وصححه. وروى أصبغ بن الفرح عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قال: للعلم واد فإذا هبطت واديه فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطعه حتى يقطع بك.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى تغلب حدثنا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بن زبالة عن مالك بن أنس عن الزهري قال: خدمت عبيد الله بن عتبة، حتى أن كان خادمه ليخرج فيقول: من بالباب؟ فتقول الجارية: غلامك الأعيمش، فتظن أنى غلامه، وإن كنت لأخدمه(9/344)
حتى أستقى له وضوءه. وروى عبد الله بن أحمد عن محمد بن عباد عن الثوري عن مالك بن أنس أراه عن الزهري. قال: تبعت سعيد بن المسيب ثلاثة أيام في طلب حديث. وروى الأوزاعي عن الزهري قال: كنا نأتي العالم فما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه. وقال سفيان: كان الزهري يقول حدثني فلان، وكان من أوعية العلم، ولا يقول كان عالما. وقال مالك: أول من دون العلم ابن شهاب.
وقال أبو المليح: كان هشام هو الّذي أكره الزهري على كتابة الحديث، فكان الناس يكتبون بعد ذلك. وقال رشيد بن سعد قال الزهري: العلم خزائن وتفتحها المسائل. وقال الزهري: كان يصطاد العلم بالمسألة كما يصاد الوحش. وكان ابن شهاب ينزل بالأعراب يعلمهم لئلا ينسى العلم، وقال: إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة. وقال: إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة غلبك ولم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذا رفيقا تظفر به. وقال: ما أحدث الناس مروءة أعجب إلى من الفصاحة. وقال: العلم ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم. ومر الزهري على أبى حازم وهو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما لي أرى أحاديث ليس لها خطم ولا أزمة؟. وقال:
ما عبد الله بشيء أفضل من العلم. وقال ابن مسلم أَبِي عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا دُحَيْمٌ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مسلم عن القاسم بن هزان أنه سمع الزهري يقول: لا يوثق الناس علم عالم لا يعمل به، ولا يؤمن بقول عالم لا يرضى. وقال ضمرة عن يونس عن الزهري قال: إياك وغلول الكتب، قلت: وما غلولها؟ قال: حبسها عن أهلها. وروى الشافعيّ عن الزهري قال: حضور المجلس بلا نسخة ذل. وروى الأصمعي عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قال: جلست إلى ثعلبة بن أبى معين فقال: أراك تحب العلم؟ قلت: نعم! قال: فعليك بذاك الشيخ- يعنى سعيد بن المسيب- قال: فلزمت سعيدا سبع سنين ثم تحولت عنه إلى عروة ففجرت ثبج بحرة. وقال الليث: قال ابن شهاب: ما صبر أحد على العلم صبري، وما نشره أحد قط نشرى، فأما عروة بن الزبير فبئر لا تكدره الدلاء، وأما ابن المسيب فانتصب للناس فذهب اسمه كل مذهب.
وقال مكي بن عبدان: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عبد الله الأوسي حدثنا مالك بن أنس أن ابن شهاب سأله بعض بنى أمية عن سعيد بن المسيب فذكر علمه بخير وأخبره بحاله، فبلغ ذلك سعيدا فلما قدم ابن شهاب المدينة جاء فسلم على سعيد فلم يرد عليه ولم يكلمه، فلما انصرف سعيد مشى الزهري معه فقال: ما لي سلمت عليك فلم تكلمني؟ ماذا بلغك عنى وما قلت إلا خيرا؟. قال له: ذكرتني لبني مروان؟. وقال أبو حاتم: حدثنا مكي بن عبدان حدثنا محمد بن يحيى حدثني عطاف ابن خالد المخزومي عن عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ ابن شهاب قال: أصاب أهل المدينة حاجة زمان فتنة عبد الملك بن مروان، فعمت أهل البلد، وقد خيل إلى أنه قد أصابنا أهل(9/345)
البيت من ذلك ما لم يصب أحدا من أهل البلد، وذلك لخبرتى بأهلى، فتذكرت: هل من أحد أمت إليه برحم أو مودة أرجو إن خرجت إليه أن أصيب عنده شيئا؟ فما علمت من أحد أخرج إليه، ثم قلت: إن الرزق بيد الله عز وجل، ثم خرجت حتى قدمت دمشق فوضعت رجلي ثم أتيت المسجد فنظرت إلى أعظم حلقة رأيتها وأكبرها فجلست فيها، فبينا نحن على ذلك إذ خرج رجل من عند أمير المؤمنين عبد الملك، كأجسم الرجال وأجملهم وأحسنهم هيئة، فجاء إلى المجلس الّذي أنا فيه فتحثحثوا له- أي أوسعوا- فجلس فقال: لقد جاء أمير المؤمنين اليوم كتاب ما جاءه مثله منذ استخلفه الله، قالوا: ما هو؟ قال: كتب إليه عامله على المدينة هشام بن إسماعيل يذكر أن ابنا لمصعب بن الزبير من أم ولد مات، فأرادت أمه أن تأخذ ميراثا منه فمنعها عروة بن الزبير، وزعم أنه لا ميراث لها، فتوهم أمير المؤمنين حديثا في ذلك سمعه من سعيد بن المسيب يذكر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في أمهات الأولاد، ولا يحفظه الآن، وقد شذ عنه ذلك الحديث. قال ابن شهاب فقلت: أنا أحدثه به، فقام إلى قبيصة حتى أخذ بيدي ثم خرج حتى دخل الدار على عبد الملك فقال السلام عليك، فقال له عبد الملك مجيبا: وعليك السلام. فقال قبيصة: أندخل؟ فقال عبد الملك ادخل، فدخل قبيصة على عبد الملك وهو آخذ بيدي وقال: هذا يا أمير المؤمنين يحدثك بالحديث الّذي سمعته من ابن المسيب في أمهات الأولاد. فقال عبد الملك: إيه، قال الزهري فقلت: سمعت سعيد بن المسيب يذكر أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أمر بأمهات الأولاد أن يقوّمن في أموال أبنائهن بقيمة عدل ثم يعتقن، فكتب عمر بذلك صدرا من خلافته، ثم توفى رجل من قريش كان له ابن من أم ولد، وقد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمرّ ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر: ما فعلت يا ابن أخى في أمك؟ قال: فعلت يا أمير المؤمنين خيرا، خيروني بين أن يسترقوا أمى [1] فقال عمر: أولست إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل؟ ما أرى رأيا وما أمرت بأمر إلا قلتم فيه، ثم قام فجلس على المنبر فاجتمع الناس إليه حتى إذا رضى من جماعتهم قال:
أيها الناس! إني قد كنت أمرت في أمهات الأولاد بأمر قد علمتموه. ثم حدث رأى غير ذلك، فأيما امرئ كان عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات فهي حرة لا سبيل له عليها.
فقال لي عبد الملك: من أنت؟ قلت أنا محمد بن مسلم بن عبيد بن شهاب، فقال: أما والله إن كان أبوك لأبا نعارا في الفتنة مؤذيا لنا فيها. قال الزهري فقلت: يا أمير المؤمنين قل كما قال العبد الصالح: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ 12: 92 فقال: أجل! لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ 12: 92 قال فقلت: يا أمير المؤمنين افرض لي فانى منقطع من الديوان، فقال: إن بلدك ما فرضنا فيه
__________
[1] كذا بالأصل وهو ناقص.(9/346)
لأحد منذ كان هذا الأمر. ثم نظر إلى قبيصة وأنا وهو قائمان بين يديه، فكأنه أومأ إليه أن افرض له، فقال: قد فرض إليك أمير المؤمنين، فقلت: إني والله ما خرجت من عند أهلي إلا وهم في شدة وحاجة ما يعلمها إلا الله، وقد عمت الحاجة أهل البلد. قال: قد وصلك أمير المؤمنين. قال قلت:
يا أمير المؤمنين وخادم يخدمنا، فان أهلي ليس لهم خادم إلا أختى، فإنها الآن تعجن وتخبز وتطحن قال: قد أخدمك أمير المؤمنين.
وروى الأوزاعي عن الزهري أنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» . فقلت للزهري: ما هذا؟ فقال: من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، أَمِرُّوا أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جاءت. وعن ابن أخى ابن شهاب عن عمه قال: كان عمر بن الخطاب يأمر برواية قصيدة لبيد بن ربيعة التي يقول فيها:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وباذن الله ريثي والعجل
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وقال الزهري: دخلت على عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ منزله فإذا هو مغتاظ ينفخ، فقلت:
ما لي أراك هكذا؟ فقال: دخلت على أميركم آنفا- يعنى عمر بن عبد العزيز- ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان فسلمت عليهما فلم يردا على السلام، فقلت:
لا تعجبا أن تؤتيا فتكلما ... فما حشى الأقوام شرا من الكبر
ومسا تراب الأرض منه خلقتما ... وفيها المعاد والمصير إلى الحشر
فقلت: يرحمك الله!! مثلك في فقهك وفضلك وسنك تقول الشعر؟! فقال: إن المصدور إذا نفث برأ. وجاء شيخ إلى الزهري فقال: حدثني، فقال: إنك لا تعرف اللغة، فقال الشيخ: لعلى أعرفها، فقال: فما تقول في قول الشاعر:
صريع ندامى يرفع الشرب رأسه ... وقد مات منه كل عضو ومفصل؟
ما المفصل؟ قال: اللسان، قال: عد على أحدثك. وكان الزهري يتمثل كثيرا بهذا:
ذهب الشباب فلا يعود جمانا ... وكأن ما قد كان لم يك كانا
فطويت كفى يا جمان على العصا ... وكفى جمان بطيها حدثانا
وكان نقش خاتم الزهري: محمد يسأل الله العافية. وقيل لابن أخى الزهري: هل كان عمك يتطيب؟ قال: كنت أشم ريح المسك من سوط دابة الزهري. وقال: استكثروا من شيء لا تمسه النار، قيل: وما هو؟ قال: المعروف. وامتدحه رجل مرة فأعطاه قميصه، فقيل له: أتعطي على كلام(9/347)
الشيطان؟ فقال: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر. وقال سفيان: سئل الزهري عن الزاهد فقال: من لم يمنع الحلال شكره، ولم يغلب الحرام صبره. وقال سفيان: قالوا للزهري: لو أنك الآن في آخر عمرك أقمت بالمدينة، فقعدت إلى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودرجت وجلسنا إلى عمود من أعمدته فذكرت الناس وعلمتهم؟ فقال: لو أنى فعلت ذلك لوطئ عقبى، ولا ينبغي لي أن أفعل ذلك حتى أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة. وكان الزهري يحدث أنه هلك في جبال بيت المقدس بضعة وعشرون نبيا، ماتوا من الجوع والعمل. كانوا لا يأكلون إلا ما عرفوا، ولا يلبسون إلا ما عرفوا وكان يقول: العبادة هي الورع والزهد، والعلم هو الحسنة، والصبر هو احتمال المكاره، والدعوة إلى الله على العمل الصالح] [1]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ
بِلَالُ بْنُ سعد
ابن تميم السكونيّ أبو عمرو، وكان من الزُّهَّادِ الْكِبَارِ، وَالْعُبَّادِ الصُّوَّامِ الْقُوَّامِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَعَنْ جَابِرٍ وابن عمر وأبى الدرداء وغيرهم، وعنه جماعات مِنْهُمْ أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَكْتُبُ عَنْهُ مَا يَقُولُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ فِي قَصَصِهِ وَوَعْظِهِ، وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ وَاعِظًا قَطُّ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا بَلَغَنِي عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا بَلَغَنِي عَنْهُ، كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ وَهُوَ الْأَصْمَعِيُّ: كَانَ إِذَا نَعَسَ فِي لَيْلِ الشِّتَاءِ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي ثِيَابِهِ فِي الْبِرْكَةِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ ماء البركة أهون من عذاب جهنم. وقال الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ إِذَا كَبَّرَ فِي الْمِحْرَابِ سَمِعُوا تَكْبِيرَهُ مِنَ الْأَوْزَاعِ. قُلْتُ: وَهِيَ خارج بَابِ الْفَرَادِيسِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: هُوَ شَامِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ قَاصًّا حَسَنَ الْقِصَصِ، وَقَدِ اتَّهَمَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ بِالْقَدَرِ حتى قَالَ بِلَالٌ يَوْمًا فِي وَعْظِهِ: رُبَّ مَسْرُورٍ مغرور، ورب مغرور لا يشعر، فويل لمن له الويل وهو لا يَشْعُرُ، يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَضْحَكُ، وَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فيا ويل لك روحا، يا وَيْلٌ لَكَ جَسَدًا، فَلْتَبْكِ وَلْتَبْكِ عَلَيْكَ الْبَوَاكِي لطول الأبد.
وَقَدْ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ شَيْئًا حَسَنًا مِنْ كَلَامِهِ فِي مَوَاعِظِهِ الْبَلِيغَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَكَفَى بِهِ ذَنْبًا أَنَّ اللَّهَ يُزَهِّدُنَا فِي الدُّنْيَا وَنَحْنُ نَرْغَبُ فِيهَا، زَاهِدُكُمْ رَاغِبٌ، وَعَالِمُكُمْ جَاهِلٌ، وَمُجْتَهِدُكُمْ مُقَصِّرٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: أَخٌ لَكَ كُلَّمَا لَقِيَكَ ذَكَّرَكَ بِنَصِيبِكَ مِنَ اللَّهِ، وأخبرك بِعَيْبٍ فِيكَ، أَحَبُّ إِلَيْكَ، وَخَيْرٌ لَكَ مِنْ أَخٍ كُلَّمَا لَقِيَكَ وَضَعَ فِي كَفِّكَ دِينَارًا. وَقَالَ أَيْضًا: لَا تَكُنْ وَلِيًّا للَّه فِي العلانية وعدوه في السر ولا تكن عدو إبليس والنفس والشهوات في العلانية وصديقهم فِي السِّرِّ، وَلَا تَكُنْ ذَا وَجْهَيْنِ وَذَا لسانين
__________
[1] زيادة من المصرية.(9/348)
فَتُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّكَ تَخْشَى اللَّهَ لِيَحْمَدُوكَ وَقَلْبُكَ فَاجِرٌ. وَقَالَ أَيْضًا: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَمْ تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للبقاء، ولكنكم تنتقلون مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، كَمَا نُقِلْتُمْ مِنَ الْأَصْلَابِ إِلَى الْأَرْحَامِ، وَمِنَ الْأَرْحَامِ إِلَى الدُّنْيَا، وَمِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْقُبُورِ، وَمِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَمِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ.
وَقَالَ أَيْضًا: عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَّكُمْ تَعْمَلُونَ فِي أَيَّامٍ قِصَارٍ لِأَيَّامٍ طِوَالٍ، وَفِي دَارِ زَوَالٍ إلى دار مقام، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، فمن لم يعمل على يقين فلا تنفعن، عِبَادَ الرَّحْمَنِ لَوْ قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاكُمُ الْمَاضِيَةُ لكان فيما تستقبلون لكم شغلا، ولو عملتم بما تعلمون لكان لكم مقتدا وملتجا، عباد الرحمن إماما وكلتم بِهِ فَتُضَيِّعُونَهُ، وَأَمَّا مَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لَكُمْ بِهِ فَتَطْلُبُونَهُ، مَا هَكَذَا نَعَتَ اللَّهُ عِبَادَهُ الموقنين، أذوو عقول في الدنيا وبله في الآخرة، وعمى عما خلقتم له بصراء في أمر الدنيا؟ فَكَمَا تَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ بِمَا تُؤَدُّونَ مِنْ طَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ أَشْفِقُوا مِنْ عَذَابِهِ بِمَا تَنْتَهِكُونَ مِنْ مَعَاصِيهِ، عِبَادَ الرَّحْمَنِ! هَلْ جَاءَكُمْ مُخْبِرٌ يخبركم أن شيئا من أعمالكم قد تقبل منكم؟ أو شيئا من خطاياكم قد غُفِرَ لَكُمْ؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ 23: 115 وَاللَّهِ لَوْ عُجِّلَ لَكُمُ الثَّوَابُ فِي الدُّنْيَا لَاسْتَقْلَلْتُمْ مَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ.
أَتَرْغَبُونَ فِي طَاعَةِ الله لدار معمورة بِالْآفَاتِ؟ وَلَا تَرْغَبُونَ وَتَنَافِسُونَ فِي جَنَّةٍ أُكُلُهَا دائم وظلها، وعرضها عرض الأرض والسموات تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ 13: 35 وَقَالَ أَيْضًا: الذِّكْرُ ذِكْرَانِ ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ أَفْضَلُ. عِبَادُ الرَّحْمَنِ يُقَالُ لِأَحَدِنَا: تُحِبُّ أن تموت؟ فيقول: لا! فيقال له: لِمَ؟ فَيَقُولُ: حَتَّى أَعْمَلَ، فَيُقَالُ لَهُ: اعْمَلْ، فيقول سوف أعمل، فلا تحب أن تموت، ولا تحب أن تعمل، وأحب شيء إليه يحب أن يؤخر عمل الله، ولا يحب أن يؤخر الله عَنْهُ عَرَضُ دُنْيَاهُ. عِبَادَ الرَّحْمَنِ إِنَّ الْعَبْدَ ليعمل الفريضة الواحدة من فرائض الله وَقَدْ أَضَاعَ مَا سِوَاهَا، فَمَا يَزَالُ يُمَنِّيهِ الشيطان وَيُزَيِّنُ لَهُ حَتَّى مَا يَرَى شَيْئًا دُونَ الجنة، مع إقامته على معاصي الله. عباد الرحمن قبل أَنْ تَعْمَلُوا أَعْمَالَكُمْ فَانْظُرُوا مَاذَا تُرِيدُونَ بِهَا، فان كانت خالصة فَأَمْضُوهَا وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَشُقُّوا على أنفسكم، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، فَإِنَّهُ قَالَ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ 35: 10 وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ إِلَى عَذَابِكُمْ بالسريع، يقبل الْمُقْبِلَ وَيَدْعُو الْمُدْبِرَ، وَقَالَ أَيْضًا: إِذَا رَأَيْتَ الرجل متحرجا لحوحا مُمَارِيًا مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ. وَقَالَ الأوزاعي: خرج الناس بدمشق يستسقون فقام بهم بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ حضر! أَلَسْتُمْ مُقِرِّينَ بِالْإِسَاءَةِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهمّ إِنَّكَ قُلْتَ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ 9: 91 وقد أقررنا بالإساءة فاعف عنا واغفر لنا. قَالَ: فَسُقُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ: وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُهُ يقول: لقد أدركت أقواما يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا جثّهم اللَّيْلُ كَانُوا رُهْبَانًا. وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ:
لَا تنظر إلى صغر الذنب وانظر إلى مَنْ عَصَيْتَ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ بَادَأَكَ بِالْوُدِّ فقد استرقك بالشكر.(9/349)
وكان من دعاته: اللَّهمّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَيْغِ الْقُلُوبِ، وَمِنْ تَبِعَاتِ الذُّنُوبِ، وَمِنْ مُرْدِيَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُضِلَّاتِ العين. وقال الأوزاعي عنه أنه قال: عباد الرحمن لو أنتم لم تدعوا إلى الله طاعة إلا عملتموها ولا معصية إلا اجتنبتموها، إلا أنكم تحبون الدنيا لكفاكم ذلك عقوبة عند الله عز وجل. وقال:
إن الله يغفر الذنوب لمن تاب منها، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقف العبد عليها يوم القيامة.
ترجمة الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ
هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ، وَهُوَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ، آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ. كَانَ شَيْخُهُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، أَصْلُهُ من خراسان، وَيُقَالُ إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي بَنِي مَرْوَانَ، سَكَنَ الْجَعْدُ دِمَشْقَ، وَكَانَتْ لَهُ بِهَا دَارٌ بِالْقُرْبِ من القلاسيين إِلَى جَانِبِ الْكَنِيسَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قُلْتُ: وهي محلة مِنَ الْخَوَّاصِينَ الْيَوْمَ غَرْبِيَّهَا عِنْدَ حَمَّامِ الْقَطَّانِينَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ حَمَّامُ قُلَيْنِسَ.
قَالَ ابْنُ عساكر وغيره: وقد أخذ الجعد بِدْعَتَهُ عَنْ بَيَانِ بْنِ سَمْعَانَ، وَأَخَذَهَا بَيَانٌ عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، زوج ابنته، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الَّذِي سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ يهودي باليمن، وَأَخَذَ عَنِ الْجَعْدِ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ الْخَزَرِيُّ، وَقِيلَ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ أَقَامَ بِبَلْخَ، وَكَانَ يُصَلِّي مَعَ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ فِي مَسْجِدِهِ وَيَتَنَاظَرَانِ، حَتَّى نُفِيَ إِلَى تِرْمِذَ، ثُمَّ قُتِلَ الْجَهْمُ بِأَصْبَهَانَ، وَقِيلَ بِمَرْوَ، قَتَلَهُ نَائِبُهَا سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَزَاهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَأَخَذَ بِشْرُ الْمَرِيسِيُّ عَنِ الْجَهْمِ، وَأَخَذَ أَحْمَدُ بن أبى داود عن بشر، وأما الجعد فَإِنَّهُ أَقَامَ بِدِمَشْقَ حَتَّى أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَتَطَلَّبَهُ بَنُو أُمَيَّةَ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَسَكَنَ الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه، ثم إن خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى بِالْكُوفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ خَالِدًا خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ: أَيُّهَا الناس ضحوا يقبل اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فذبحه في أصل المنبر.
وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم البخاري وابن أبى حاتم والبيهقي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّارِيخِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَأَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا رَاحَ إِلَى وَهْبٍ يَغْتَسِلُ وَيَقُولُ: أَجْمَعُ لِلْعَقْلِ، وَكَانَ يَسْأَلُ وَهْبًا عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ لَهُ وَهْبٌ يَوْمًا:
وَيْلَكَ يَا جَعْدُ، اقصر المسألة عن ذلك، إِنِّي لَأَظُنُّكَ مِنَ الْهَالِكِينَ، لَوْ لَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ لَهُ يَدًا مَا قُلْنَا ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ عَيْنًا مَا قُلْنَا ذلك، وأن له نفسا ما قلنا ذلك، وأن له سمعا ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ الْجَعْدُ أَنْ صُلِبَ ثم قتل. ذكره ابن عساكر، وَذُكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَيُرْوَى لِعِمْرَانِ بْنِ حِطَّانَ:(9/350)
لَيْثٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخَاءُ تَجْفُلُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ
هَلَّا بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةَ فِي الْوَغَى ... بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا رِزْقُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُصْعَبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُرْفَعُ زِينَةُ الدُّنْيَا سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ أَبِي فديك عن عبد الملك بن سعيد بن زيد بْنِ نُفَيْلٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُصْعَبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ، ومصعب بن مصعب بن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ تُكُلِّمَ فِيهِ وَضَعَّفَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ: وَكَذَا تَكَلَّمَ فِي الرَّاوِي عَنْهُ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا غَزَا النُّعْمَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا تُوَفِّي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَتَرْجَمَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ
هُوَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَبُو الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّهُ أُمُّ هِشَامٍ بِنْتُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ، وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ عِنْدَ بَابِ الْخَوَّاصِينَ، وَبَعْضُهَا الْيَوْمَ مَدْرَسَةُ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا النُّورِيَّةُ الْكَبِيرَةُ، وَتُعْرَفُ بِدَارِ الْقَبَّابِينَ- يَعْنِي الَّذِينَ يَبِيعُونَ الْقِبَابَ وَهِيَ الخيام- فكانت تلك المحلة داره وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَهْدٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ جَمِيلًا أَبْيَضَ أَحْوَلَ يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَهُوَ الرَّابِعُ مِنْ ولد عبد الملك الَّذِينَ وُلُّوا الْخِلَافَةَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ بَالَ فِي الْمِحْرَابِ أربع مرات، فدس إلى سعيد بن المسبب مَنْ سَأَلَهُ عَنْهَا فَفَسَّرَهَا لَهُ بِأَنَّهُ يَلِي الْخِلَافَةَ مِنْ وَلَدِهِ أَرْبَعَةٌ، فَوَقَعَ ذَلِكَ، فَكَانَ هِشَامٌ آخِرَهُمْ، وَكَانَ فِي خِلَافَتِهِ حَازِمَ الرَّأْيِ جَمَّاعًا لِلْأَمْوَالِ يُبَخَّلُ، وَكَانَ ذَكِيًّا مُدَبِّرًا لَهُ بَصَرٌ بِالْأُمُورِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ، شَتَمَ مَرَّةً رَجُلًا مِنَ الْأَشْرَافِ فَقَالَ: أَتَشْتُمُنِي وَأَنْتَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؟ فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: اقْتَصَّ مِنِّي بَدَلَهَا أَوْ قَالَ بِمِثْلِهَا، فقال: إذا أكون سفيها مثلك، قال فخذ عوضا قَالَ: لَا أَفْعَلُ، قَالَ: فَاتْرُكْهَا للَّه، قَالَ:
هِيَ للَّه ثُمَّ لَكَ، فَقَالَ هِشَامٌ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهَا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَسْمَعَ رَجُلٌ هِشَامًا كَلَامًا فَقَالَ لَهُ: أَتَقُولُ لِي مِثْلَ هَذَا وَأَنَا خَلِيفَتُكَ؟ وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ وَإِلَّا ضَرَبْتُكَ سَوْطًا، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَدِ اقترض من مروان(9/351)
ابن الْحَكَمِ مَالًا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ، حَتَّى اسْتُخْلِفَ هِشَامٌ فَقَالَ:
مَا فَعَلَ حَقُّنَا قِبَلَكَ؟ قَالَ: موفور مشكور، فقال! هو لك.
[قلت: هذا الكلام فيه نظر، وذلك أن على بن الحسين مات سنة الفقهاء، وهي سنة أربع وتسعين، قبل أن يلي هشام الخلافة بإحدى عشرة سنة، فإنه إنما ولى الخلافة سنة خمس ومائة، فقول المؤلف: إن أحدا من خلفاء بنى مروان لم يتعرض لمطالبة على بن الحسين حتى ولى هشام فطالبه بالمال المذكور، فيه نظر ولا يصح، لتقدم موت على على خلافة هشام، والله سبحانه وتعالى أعلم] [1] وَكَانَ هِشَامٌ مِنْ أَكْرَهِ النَّاسِ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَقْتَلِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِهِ يَحْيَى أَمْرٌ شَدِيدٌ وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي افْتَدَيْتُهُمَا بِجَمِيعِ مَا أَمْلِكُ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عن رجل من حيي عَنْ بِشْرٍ مَوْلَى هِشَامٍ قَالَ: أُتِيَ هِشَامٌ برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطُّنْبُورَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَرْنِهِ، فَبَكَى الشَّيْخُ، قَالَ بشر: فضربه، قال أتراني أبكى للضرب، إنما أبكى لاحتقارك البربط حتى سميته طنبورا، وَأَغْلَظَ لِهِشَامٍ رَجُلٌ يَوْمًا فِي الْكَلَامِ فَقَالَ: ليس لك أن تقول هذا لامامك. وَتَفَقَّدَ أَحَدَ وَلَدِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ مالك لَمْ تَشْهَدِ الْجُمُعَةَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَغْلَتِي عَجَزَتْ عَنِّي، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَمَا كَانَ يُمْكِنُكَ الْمَشْيُ، ومنعه أن يركب سنة، وأن يشهد الجمعة ماشيا وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إِلَى هِشَامٍ طَيْرَيْنِ فَأَوْرَدَهُمَا السَّفِيرُ إِلَى هِشَامٍ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي وَسَطِ دَارِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَرْسِلْهُمَا فِي الدَّارِ، فَأَرْسَلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: جَائِزَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ:
وَيْحَكَ وَمَا جَائِزَتُكَ عَلَى هَدِيَّةٍ طَيْرَيْنِ؟ خُذْ أَحَدَهُمَا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يسعى خلف أحدهما، فقال:
ويحك ما بالك؟ فَقَالَ أَخْتَارُ أَجْوَدَهُمَا: قَالَ: وَتَخْتَارُ أَيْضًا الْجَيِّدَ وَتَتْرُكَ الرَّدِيءَ؟ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خمسين درهما. وذكر المدائني عن محرم [2] كَاتِبِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَنِي يُوسُفُ إلى هشام بياقوتة حمراء ولؤلؤة كانتا لرابعة، جَارِيَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، مُشْتَرَى الْيَاقُوتَةِ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ فَرْشٌ لَمْ أَرَ رَأْسَ هِشَامٍ مِنْ عُلُوِّ تِلْكَ الْفُرُشِ، فأوريتها له، فقال: كم زنتها؟ فَقُلْتُ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ لَا مِثْلَ لَهَا، فَسَكَتَ. قَالُوا: وَرَأَى قَوْمًا يَفْرِطُونَ الزَّيْتُونَ فَقَالَ الْقُطُوهُ لَقْطًا وَلَا تَنْفُضُوهُ نَفَضَا، فَتُفْقَأَ عُيُونُهُ وتكسر غُصُونُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ لَا يَضَعْنَ الشَّرِيفَ: تَعَاهُدُ الصَّنِيعَةِ، وَإِصْلَاحُ الْمَعِيشَةِ، وَطَلَبُ الْحَقِّ وَإِنْ قَلَّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ:
يُقَالُ إِنَّ هِشَامًا لَمْ يَقُلْ مِنَ الشِّعْرِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَكَ الْهَوَى ... إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْكَ مَقَالُ
وَقَدْ رُوِيَ لَهُ شِعْرٌ غَيْرُ هَذَا، وَقَالَ المدائني عن ابن يسار الأعرجي حدثني ابن أبى بجيلة عن عقال بن
__________
[1] زيادة من المصرية.
[2] كذا ولم نجد له مرجعا.(9/352)
شَبَّةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى هِشَامٍ وَعَلَيْهِ قَبَاءُ فتك أَخْضَرُ، فَوَجَّهَنِي إِلَى خُرَاسَانَ، ثُمَّ جَعَلَ يُوصِينِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْقَبَاءِ، فَفَطِنَ فَقَالَ: مَا لك؟ قلت: عليك قباء فتك أخضر، [وكنت رأيت عليك مثله] قَبْلَ أَنْ تَلِيَ الْخِلَافَةَ، فَجَعَلْتُ أَتَأَمَّلُ هَذَا هو ذاك أم غيره، قال: والله الّذي لا إله غيره هو ذاك، ما لي قباء غيره، وما ترون من جمعى لهذا المال وصونه إلا لكم. قال عقال: وكان هشام محشوا بخلا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَمِّ السَّفَّاحِ: جَمَعْتُ دَوَاوِينَ بَنِي أُمَيَّةَ فَلَمْ أَرَ أَصْلَحَ لِلْعَامَّةِ وَالسُّلْطَانِ مِنْ دِيوَانِ هِشَامٍ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عن هشام بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ بنى مروان أشد نظرا في أَصْحَابِهِ وَدَوَاوِينِهِ، وَلَا أَشَدَّ مُبَالَغَةً فِي الْفَحْصِ عَنْهُمْ مِنْ هِشَامٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ غَيْلَانَ القدري، ولما أحضر بنى يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ قُلْ مَا عِنْدَكَ، إِنْ كَانَ حَقًّا اتَّبَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا رَجَعْتَ عَنْهُ، فَنَاظَرَهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ فَقَالَ لميمون أشياء فقال له: أَيُعْصَى اللَّهُ كَارِهًا؟ فَسَكَتَ غَيْلَانُ فَقَيَّدَهُ حِينَئِذٍ هِشَامٌ وَقَتَلَهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ قَالَ: أَصَبْنَا فِي خَزَائِنِ هِشَامٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَمِيصٍ كُلُّهَا قَدْ أُثِرَ بِهَا. وَشَكَى هِشَامٌ إِلَى أبيه ثلاثا إحداهن أنه يهاب الصعود إلى الْمِنْبَرِ، وَالثَّانِيَةُ قِلَّةُ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ، وَالثَّالِثَةُ أَنَّ عنده في القصر مائة جارية من حسان النساء لَا يَكَادُ يَصِلُ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. فَكَتَبَ إليه أبوه: أما صعودك إلى الْمِنْبَرِ فَإِذَا عَلَوْتَ فَوْقَهُ فَارْمِ بِبَصَرِكَ إِلَى مُؤَخَّرِ النَّاسِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكَ، وَأَمَّا قِلَّةُ الطعام فمر الطباخ فليكثر الألوان فعلك أَنْ تَتَنَاوَلَ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ لُقْمَّةً، وَعَلَيْكَ بِكُلِّ بَيْضَاءَ بَضَّةٍ، ذَاتِ جَمَالٍ وَحُسْنٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا بَنَى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّصَافَةَ قَالَ: أُحِبَّ أَنْ أَخْلُوَ بِهَا يَوْمًا لَا يَأْتِينِي فِيهِ خَبَرُ غَمٍّ، فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى أَتَتْهُ رِيشَةُ دَمٍ مِنْ بَعْضِ الثُّغُورِ، فَقَالَ: وَلَا يَوْمًا وَاحِدًا؟! وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ هِشَامٌ لَا يُكْتَبُ إِلَيْهِ بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْرُ الْمَوْتِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا حسين ابن زَيْدٍ عَنْ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ مُحَمَّدِ بن على- يعنى ابن الحسين ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- إِلَى دَارِهِ عِنْدَ الْحَمَّامِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ طَالَ مُلْكُ هِشَامٍ وَسُلْطَانُهُ، وَقَدْ قَرُبَ مِنَ الْعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ زَعَمَ النَّاسُ أَنَّ سُلَيْمَانَ سَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَزَعَمَ النَّاسُ أَنَّهَا الْعِشْرُونَ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَحَادِيثُ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَنْ يُعَمِّرَ اللَّهُ مَلِكًا فِي أُمَّةِ نَبِيٍّ مَضَى قَبْلَهُ مَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ مِنَ الْعُمْرِ فِي أُمَّتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَمَّرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة» . وقال ابن أَبِي خَيْثَمَةَ: لَيْسَ حَدِيثٌ فِيهِ تَوْقِيتٌ غَيْرَ هَذَا، قَرَأَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَلَى كِتَابِي فَقَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهِ؟ فَقُلْتُ: إِبْرَاهِيمُ، فَتَلَهَّفَ أَنْ لَا يَكُونُ سَمِعَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ. وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنِي عباد بن المعرا الفتكى [1] عن عاصم بن
__________
[1] كذا الأصل.(9/353)
الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ: هَلَاكُ مُلْكِ بنى أمية على رَجُلٍ أَحْوَلَ يَعْنِي هِشَامًا-.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي مُعَاذٍ النُّمَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ كُلَيْعٍ عَنْ سَالِمٍ كَاتِبِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا هِشَامٌ وَعَلَيْهِ كَآبَةٌ وَقَدْ ظَهَرَ [عَلَيْهِ] الْحُزْنُ، فَاسْتَدْعَى الْأَبْرَشَ بْنَ الْوَلِيدِ فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا لِي أَرَاكَ هَكَذَا؟ فَقَالَ: مَا لِي لَا أَكُونُ وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنُّجُومِ أَنِّي أَمُوتُ إِلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ يَوْمِي هَذَا. قَالَ: فَكَتَبْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ جَاءَنِي رَسُولُهُ فِي اللَّيْلِ يقول: احضر معك دواء للذبحة، وكان قَدْ أَصَابَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَ مِنْهُ فَعُوفِيَ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ وَمَعِي ذَلِكَ الدَّوَاءُ فَتَنَاوَلَهُ وَهُوَ فِي وَجَعٍ شَدِيدٍ، وَاسْتَمَرَّ فِيهِ عَامَّةُ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَالِمُ اذْهَبْ إِلَى مَنْزِلِكَ فَقَدْ وَجَدْتُ خِفَّةً وَذَرِ الدَّوَاءَ عِنْدِي، فَذَهَبْتُ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَصَلْتُ إِلَى مَنْزِلِي حتى سمعت الصياح عليه، فجئت فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ هِشَامًا نَظَرَ إِلَى أَوْلَادِهِ وَهُمْ يَبْكُونَ حَوْلَهُ فَقَالَ: جَادَ لَكُمْ هِشَامٌ بِالدُّنْيَا وَجُدْتُمْ عَلَيْهِ بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ مُنْقَلَبَ هِشَامٍ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ. وَلَمَّا مَاتَ جَاءَتِ الْخَزَنَةُ فَخَتَمُوا عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَرَادُوا تَسْخِينَ الْمَاءِ فَلَمْ يَقْدِرُوا لَهُ عَلَى فحم حَتَّى اسْتَعَارُوا لَهُ، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ الْحُكْمُ لِلْحَكَمِ الْحَكِيمِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالرُّصَافَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ إِنَّهُ جَاوَزَ السِّتِّينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ، وَكَانَتْ خِلَافَةُ هِشَامٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أبي فديك: ثنا عبد الملك بن زيد عَنْ مُصْعَبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُرْفَعُ زِينَةُ الدُّنْيَا سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ» . قَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ: زِينَتُهَا نُورُ الْإِسْلَامِ وَبَهْجَتُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ- يَعْنِي الرِّجَالَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بنى أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله واضطرب أمرهم جدا، وإن كانت قَدْ تَأَخَّرَتْ أَيَّامُهُمْ بَعْدَهُ نَحْوًا مِنْ سَبْعِ سِنِينَ، وَلَكِنْ فِي اخْتِلَافٍ وَهَيْجٍ، وَمَا زَالُوا كذلك حَتَّى خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ بَنُو الْعَبَّاسِ فَاسْتَلَبُوهُمْ نِعْمَتَهُمْ وَمُلْكَهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَسَلَبُوهُمُ الْخِلَافَةَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا مقدرا في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بحمد الله قد تم الجزء التاسع من البداية والنهاية ويليه الجزء العاشر وأوله خِلَافَةُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.(9/354)
[المجلد العاشر]
[تتمة سنة خمس وعشرين ومائه]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
خِلَافَةُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الفاسق
قال الواقدي: بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ عَمُّهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: بُويِعَ لَهُ يَوْمَ السَّبْتِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَ سَبَبُ وِلَايَتِهِ أَنَّ أَبَاهُ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَ قَدْ جَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ هِشَامٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ هَذَا، فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامٌ أَكْرَمَ ابْنَ أَخِيهِ الْوَلِيدَ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّرَابِ وَخُلَطَاءِ السُّوءِ وَمَجَالِسِ اللَّهْوِ، فَأَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ فَأَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَأَخَذَ مَعَهُ كِلَابُ الصَّيْدِ خُفْيَةً مِنْ عَمِّهِ، حتى يقال إِنَّهُ جَعَلَهَا فِي صَنَادِيقَ فَسَقَطَ مِنْهَا صُنْدُوقٌ فِيهِ كَلْبٌ فَسَمِعَ صَوْتَهُ فَأَحَالُوا ذَلِكَ عَلَى الْجَمَّالِ فَضُرِبَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالُوا: وَاصْطَنَعَ الْوَلِيدُ قُبَّةً عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ، وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَنْصِبَ تِلْكَ الْقُبَّةَ فَوْقَ سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسَ هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهي وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ هَابَ أَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ، مِنَ الْجُلُوسِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ خَوْفًا مِنَ النَّاسِ وَمِنْ إِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ عَمُّهُ ذَلِكَ مِنْهُ نَهَاهُ مِرَارًا فَلَمْ يَنْتَهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ الْقَبِيحِ، وَعَلَى فِعْلِهِ الرَّدِيءِ، فَعَزَمَ عَمُّهُ عَلَى خَلْعِهِ مِنَ الْخِلَافَةِ- وَلَيْتَهُ فَعَلَ- وَأَنْ يُوَلِّيَ بَعْدَهُ مَسْلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَمِنْ أَخْوَالِهِ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَيْتَ ذَلِكَ تَمَّ. وَلَكِنْ لَمْ يَنْتَظِمْ حَتَّى قَالَ هِشَامٌ يَوْمًا لِلْوَلِيدِ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَعْلَى الْإِسْلَامِ أَنْتَ أَمْ لَا، فإنك لم تَدَعُ شَيْئًا مِنَ(10/2)
الْمُنْكَرَاتِ إِلَّا أَتَيْتَهُ غَيْرَ مُتَحَاشٍ وَلَا مُسْتَتِرٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ:
يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ ديننا ... ديني على دين أبى شاكر
نشر بها صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً ... بِالسُّخْنِ أَحْيَانًا وَبِالْفَاتِرِ
فَغَضِبِ هِشَامٌ على ابنه مسلمة، وكان يسمى أبا شاكر، وقال له: تشبه الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُرَقِّيَكَ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَبَعَثَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَهَ تِسْعَ عشرة ومائة فأظهر النسك والوقار، وَقَسَّمَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَمْوَالًا، فَقَالَ مَوْلًى لِأَهْلِ المدينة:
يا أيها السائل عن ديننا ... نحن عَلَى دِينِ أَبِي شَاكِرِ
الْوَاهِبِ الْجُرْدِ بِأَرْسَانِهَا ... لَيْسَ بِزِنْدِيقٍ وَلَا كَافِرِ
وَوَقَعَتْ بَيْنَ هِشَامٍ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَحْشَةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ تَعَاطِي الْوَلِيدِ مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَتَنَكَّرَ لَهُ هِشَامٌ وَعَزَمَ عَلَى خَلْعِهِ وَتَوْلِيَةِ وَلَدِهِ مَسْلَمَةَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ، فَفَرَّ مِنْهُ الْوَلِيدُ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَجَعَلَا يَتَرَاسَلَانِ بِأَقْبَحِ الْمُرَاسَلَاتِ، وَجَعَلَ هِشَامٌ يَتَوَعَّدُهُ وَعِيدًا شَدِيدًا، وَيَتَهَدَّدُهُ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ هِشَامٌ وَالْوَلِيدُ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي قَدِمَ فِي صَبِيحَتِهَا عَلَيْهِ الْبُرُدُ بِالْخِلَافَةِ، قَلِقَ الْوَلِيدُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَلَقًا شَدِيدًا، وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: وَيْحَكَ قَدْ أَخَذَنِي اللَّيْلَةَ قَلَقٌ عَظِيمٌ فَارْكَبْ لَعَلَّنَا نبسط، فَسَارَا مِيلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ فِي هِشَامٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، مِنْ كَتْبِهِ إِلَيْهِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، ثُمَّ رَأَيَا مِنْ بُعْدٍ رَهْجًا وَأَصْوَاتًا وَغُبَارًا، ثُمَّ انْكَشَفَ ذَلِكَ عَنْ بُرُدٍ يَقْصِدُونَهُ بِالْوِلَايَةِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: وَيْحَكَ! إِنَّ هَذِهِ رُسُلُ هِشَامٍ، اللَّهمّ أَعْطِنَا خَيْرَهَا، فَلَمَّا اقْتَرَبَتِ الْبَرُدُ مِنْهُ وَتَبَيَّنُوهُ تَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ وَجَاءُوا فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فبهت وقال: ويحك أَمَاتَ هِشَامٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَنْ بَعَثَكُمْ؟ قَالُوا: سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ، وَأَعْطَوْهُ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَكَيْفَ مَاتَ عَمُّهُ هِشَامٌ، فَأَخْبَرُوهُ. فَكَتَبَ مِنْ فَوْرِهِ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى أَمْوَالِ هِشَامٍ وَحَوَاصِلِهِ بِالرُّصَافَةِ وَقَالَ:
لَيْتَ هِشَامًا عَاشَ حَتَّى يرى ... مكياله الأوفر قد طبّعا
كلتاه بِالصَّاعِ الَّذِي كَالَهُ ... وَمَا ظَلَمْنَاهُ بِهِ إِصْبَعَا
وَمَا أَتَيْنَا ذَاكَ عَنْ بِدْعَةٍ ... أَحَلَّهُ الْفُرْقَانُ لي أجمعا
وقد كان الزهري يحث هشاما على خلع الوليد هذا ويستنهضه في ذلك، فيحجم هشام عن ذلك خوف الفضيحة من الناس، ولئلا تتنكر قلوب الأجناد من أجل ذلك، وكان الوليد يفهم ذلك من الزهري ويبغضه ويتوعده ويتهدده، فيقول له الزهري: ما كان الله ليسلطك عليّ يا فاسق، ثم مات الزهري قبل ولاية الوليد، ثم فر الوليد من عمه إلى البرية فلم يزل بها حتى مات، فاحتاط على أموال(10/3)
عمه ثم ركب من فوره من البرية وقصد دِمَشْقَ، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ وَجَاءَتْهُ الْبَيْعَةُ مِنَ الْآفَاقِ، وَجَاءَتْهُ الْوُفُودُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ- وهو إذ ذاك نائب أرمينية- يُبَارِكُ لَهُ فِي خِلَافَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَالتَّمْكِينِ فِي بِلَادِهِ، وَيُهَنِّئُهُ بِمَوْتِ هِشَامٍ وَظَفْرِهِ بِهِ، وَالتَّحَكُّمِ فِي أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ جَدَّدَ الْبَيْعَةَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَأَنَّهُمْ فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَلَوْلَا خَوْفُهُ مِنَ الثغر لاستناب عليه وركب بنفسه شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَرَغْبَةً فِي مُشَافَهَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ سَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً بَادِيَ الرَّأْيِ وَأَمَرَ بِإِعْطَاءِ الزَّمْنَى وَالْمَجْذُومِينَ وَالْعُمْيَانَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ خَادِمًا، وَأَخْرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الطِّيبَ وَالتُّحَفَ لِعِيَالَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَزَادَ فِي أُعْطِيَّاتِ النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ الشَّامِ وَالْوُفُودَ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا شَاعِرًا مُجِيدًا، لَا يُسْأَلُ شَيْئًا قط فيقول لا، ومن شعره قَوْلُهُ يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ:
ضَمِنْتُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَعُقْنِي عَوَائِقُ ... بِأَنَّ سَمَاءَ الضُّرِّ عَنْكُمْ سَتُقْلِعُ
سَيُوشِكُ إِلْحَاقٌ مَعًا وَزِيَادَةٌ ... وَأَعْطِيَةٌ مِنِّي إليكم تبرّع
محرّمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به يكتب الْكُتَّابُ شَهْرًا وَتَطْبَعُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ الْوَلِيدُ الْبَيْعَةَ لِابْنِهِ الْحَكَمِ ثُمَّ عُثْمَانَ، عَلَى أَنْ يَكُونَا وَلِيِّيِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَعَثَ الْبَيْعَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ أَمِيرِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَأَرْسَلَهَا إِلَى نَائِبِ خُرَاسَانَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَخَطَبَ بِذَلِكَ نَصْرٌ خُطْبَةً عَظِيمَةً بَلِيغَةً طويلة، ساقها ابن جرير بكمالها، واستوثق لِلْوَلِيدِ الْمَمَالِكُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَأَخَذَتِ الْبَيْعَةُ لِوَلَدَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْآفَاقِ، وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ بِالِاسْتِقْلَالِ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ وَفَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْوَلِيدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ فَرَدَّهَا إِلَيْهِ كَمَا كَانَتْ فِي أَيَّامِ هِشَامٍ، وَأَنْ يَكُونَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ وَنُوَّابُهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يَسْتَوْفِدُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ اسْتِصْحَابِ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ.
فَحَمَلَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ أَلْفَ مَمْلُوكٍ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَلْفَ وَصِيفَةٍ وَشَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَبَارِيقِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التُّحَفِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ يَسْتَحِثُّهُ سَرِيعًا وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ طَنَابِيرَ وَبَرَابِطَ وَمُغْنِيَاتٍ وبازات وبراذين فره، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الطَّرَبِ وَالْفِسْقِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَرِهُوهُ. وَقَالَ الْمُنَجِّمُونَ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ: إِنَّ الْفِتْنَةَ قَرِيبًا سَتَقَعُ بِالشَّامِ، فَجَعَلَ يَتَثَاقَلُ فِي سَيْرِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ جَاءَتْهُ الْبُرُدُ فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَلِيدَ قَدْ قُتِلَ وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ الْعَظِيمَةُ فِي النَّاسِ بِالشَّامِ، فَعَدَلَ بِمَا مَعَهُ إِلَى بَعْضِ الْمُدُنِ فَأَقَامَ بِهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الْعِرَاقِ وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ الْخَلِيفَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وباللَّه الْمُسْتَعَانِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْوَلِيدُ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ وِلَايَةَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَأَمَرَهَ أَنْ يُقِيمَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا ابْنِي هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ بِالْمَدِينَةِ مُهَانَيْنِ لِكَوْنِهِمَا خَالَيْ هِشَامٍ، ثُمَّ يَبْعَثُ(10/4)
بِهِمَا إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَبَعَثَهُمَا إِلَيْهِ. فَمَا زَالَ يُعَذِّبُهُمَا حَتَّى مَاتَا وَأَخَذَ مِنْهُمَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ولى يوسف بن محمد بن يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ، وَفِيهَا بعث الوليد بن يزيد إلى أهل قبرص جَيْشًا مَعَ أَخِيهِ وَقَالَ: خَيِّرْهُمْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الشَّامِ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الرُّومِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ جِوَارَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ، وَمِنْهُمْ مَنِ انْتَقَلَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا قَدِمَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ وَلَاهِزُ بن قريظ وقحطبة بن شبيب فلقوا- في قول بعض أَهْلِ السِّيَرِ- مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوهُ بِقِصَّةِ أبى مسلم فقال: أحر هو أم لا؟ فَقَالُوا:
أَمَّا هُوَ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ، وَأَمَّا مولاه فيزعم أنه عبده، فَاشْتَرَوْهُ فَأَعْتَقُوهُ، وَدَفَعُوا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُسْوَةً بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَالَ لَهُمْ: لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، فَإِنْ مُتُّ فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ- يَعْنِي ابْنَهُ- فَإِنَّهُ ابْنِي، فَأُوصِيكُمْ بِهِ. وَمَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ في هذه السنة بعد أبيه بسبع سنين. وفيها قتل يحيى بن زيد بْنِ عَلِيٍّ بِخُرَاسَانَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا يُوسُفُ ابن مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ. وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَهُوَ فِي هِمَّةِ الْوُفُودِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، فَقُتِلَ الْوَلِيدُ قَبْلَ أَنْ يجتمع به. وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ على
ابن عبد الله بن عباس أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، وَهُوَ أَبُو السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٍ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنَاهُ الْخَلِيفَتَانِ، أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ الْمَنْصُورُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الله بن محمد بن الْحَنَفِيَّةِ أَوْصَى إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالْأَخْبَارِ، فَبَشَّرَهُ بِأَنَّ الْخِلَافَةَ سَتَكُونُ في ولدك، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ يَتَزَايَدُ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مَنْ أَحْسَنِ النَّاسِ شَكْلًا، فَأَوْصَى بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَمَا أُبْرِمَ الْأَمْرُ إِلَّا لِوَلَدِهِ السَّفَّاحُ، فَاسْتَلَبَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ الْأَمْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وأما يحيى بن زيد
ابن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ زَيْدٌ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، لَمْ يَزَلْ يَحْيَى مُخْتَفِيًا فِي خُرَاسَانَ عِنْدَ الْحَرِيشِ بْنِ عَمْرِو بن داود ببلخ، حتى مات هشام، فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، فَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ إِلَى نَائِبِ بلخ مع عَقِيلِ بْنِ مَعْقِلِ الْعِجْلِيِّ، فَأَحْضَرَ الْحَرِيشَ فَعَاقَبَهُ سِتَّمِائَةِ سَوْطٍ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَجَاءَ وَلَدُ الْحَرِيشِ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فَحُبِسَ، فَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ إِلَى يُوسُفَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَى الْوَلِيدِ بن يزيد(10/5)
يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ مِنَ السِّجْنِ وَإِرْسَالِهِ إِلَيْهِ صحبة أصحابه، فأطلقهم وأطلق لهم وجهزهم إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ تَوَسَّمَ نَصْرٌ مِنْهُ غَدْرًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا عَشَرَةَ آلاف فكسرهم يحيى بن زيد، وإنما مَعَهُ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ وَاسْتَلَبَ مِنْهُمْ أموالا كثيرة، ثم جاءه جيش آخر فقتلوه واحترزوا رَأَسَهُ وَقَتَلُوا جَمِيعَ أَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
ثُمَّ دخلت سنة ست وعشرين ومائة
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يزيد بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْأُمَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ عَمِّهِ هِشَامٍ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمُّهُ أُمُّ الْحَجَّاجِ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ مولده سنة تسعين، وقيل ثنتين وتسعين، وقيل سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَقَتْلُ يَوْمَ الْخَمِيسَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا في جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَوَقَعَتْ بسبب ذلك فتنة عظيمة بين الناس بسبب قتله، ومع ذلك إنما قتل لِفِسْقِهِ، وَقِيلَ وَزَنْدَقَتِهِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ ثَنَا بن عَيَّاشٍ حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: وُلِدَ لِأَخِي أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامٌ فَسَمَّوْهُ الْوَلِيدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَمَّيْتُمُوهُ باسم فراعينكم، لَيَكُونَنَّ: فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ، لهو أشد فسادا لهذه الْأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ» . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عساكر: وقد رواه الوليد بن مسلم ومعقل بْنُ زِيَادٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فَلَمْ يَذْكُرُوا عُمَرَ فِي إِسْنَادِهِ وَأَرْسَلُوهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ كَثِيرٍ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ سَاقَ طُرُقَهُ هَذِهِ كُلَّهَا بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِهَا. وَحَكَى عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ حَسَنٌ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ محمد عن محمد بن عمر بْنِ عَطَاءٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عن أمها قالت: «دخل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي غُلَامٌ مِنْ آلِ الْمُغِيرَةِ اسْمُهُ الْوَلِيدُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ قَالَتْ: هَذَا الْوَلِيدُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
قد اتخذتم الوليد حنانا (حسانا) غَيِّرُوا اسْمَهُ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِرْعَوْنٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ» . وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ الْأَنْطَاكِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ ثَنَا صَدَقَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ابن الْجَرَّاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَثْلَمَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ» .
صِفَةُ مَقْتَلِهِ وَزَوَالِ دَوْلَتِهِ
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُجَاهِرًا بِالْفَوَاحِشِ مُصِرًّا عَلَيْهَا، مُنْتَهِكًا مَحَارِمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَتَحَاشَى مِنْ مَعْصِيَةٍ. وَرُبَّمَا اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِالزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ مِنَ الدِّينِ، فاللَّه أَعْلَمُ، لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا شَاعِرًا ما جنا متعاطيا للمعاصي، لا يتحاشاها مَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَسْتَحِي مَنْ أَحَدٍ، قَبْلَ أن يلي(10/6)
الْخِلَافَةَ وَبَعْدَ أَنْ وَلِيَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ سَعَى في قتله، قال: اشهد أنه كان شروبا للخمر ما جنا فَاسِقًا، وَلَقَدْ أَرَادَنِي عَلَى نَفَسِي الْفَاسِقُ. وَحَكَى الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا عَنِ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْعُتْبِيِّ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ نَظَرَ إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ مِنْ حِسَانِ نِسَاءِ النصارى اسمها سفري فأحبها، فبعث يُرَاوِدُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا وَعَشِقَهَا فَلَمْ تُطَاوِعْهُ، فَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُ النَّصَارَى فِي بَعْضِ كَنَائِسِهِمْ، لِعِيدٍ لَهُمْ، فَذَهَبَ الْوَلِيدُ إِلَى بُسْتَانٍ هُنَاكَ فَتَنَكَّرَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مُصَابٌ، فَخَرَجَ النساء من الكنيسة إلى ذلك البستان، فرأيناه فأحدقن به، فجعل يكلم سفيرى ويحادثها وَتُضَاحِكُهُ وَلَا تَعْرِفُهُ، حَتَّى اشْتَفَى مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ قِيلَ لَهَا: وَيْحَكِ أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَتْ: لَا! فَقِيلَ لَهَا هُوَ الْوَلِيدُ. فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ حَنَّتْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَتْ عَلَيْهِ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَيْهَا قبل أن تحن عليه. فقال الوليد في ذلك أبياتا:
أضحك فُؤَادُكَ يَا وَلِيدُ عَمِيدَا ... صَبًّا قَدِيمًا للْحِسَانِ صيودا
في حَبِّ وَاضِحَةِ الْعَوَارِضِ طِفْلَةٍ ... بَرَزَتْ لَنَا نَحْوَ الْكَنِيسَةِ عِيدَا
مَا زِلْتُ أَرْمُقُهَا بِعَيْنَيْ وَامِقٍ ... حَتَّى بَصُرْتُ بِهَا تُقَبِّلُ عُودَا
عُودَ الصَّلِيبِ فَوَيْحُ نَفْسِيَ مَنْ رَأَى ... مِنْكُمْ صَلِيبًا مِثْلَهُ مَعْبُودَا
فَسَأَلْتُ رَبِّيَ أَنْ أَكُونَ مَكَانَهُ ... وَأَكُونَ فِي لَهَبِ الْجَحِيمِ وَقُودَا
وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُ وَعَلِمَ بِحَالِهِ النَّاسُ. وَقِيلَ إِنَّ هَذَا وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ:
أَلَّا حَبَّذَا سَفْرَى وَإِنْ قِيلَ إِنَّنِي ... كَلِفْتُ بنصرانية تشرب الخمرا
يهون علينا أن نظل نهارنا ... الى الليل لا ظهرا نُصَلِّي وَلَا عَصْرَا
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طَرَارٍ النهرواني بعد إيراده هذه الأشياء: للوليد في نحو هذا مِنَ الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ وَسَخَافَةِ الدِّينِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَقَدْ نَاقَضْنَاهُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ مَنْظُومِ شِعْرِهِ الْمُتَضَمِّنِ رَكِيكَ ضَلَالِهِ وَكُفْرِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْوَلِيدَ سَمِعَ بِخِمَّارٍ صَلْفٍ بِالْحِيرَةِ فَقَصَدَهُ حَتَّى شَرِبَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنَ الْخَمْرِ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى فَرَسِهِ، وَمَعَهُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَمَرَ لِلْخَمَّارِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: أَخْبَارُ الْوَلِيدِ كَثِيرَةٌ قَدْ جَمَعَهَا الْأَخْبَارِيِّونَ مَجْمُوعَةً وَمُفْرَدَةً، وقد جمعت شيئا من سيرته وأخباره، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي ضَمَّنَهُ مَا فَجَرَ بِهِ من جرأته وَسَفَاهَتِهِ وَحُمْقِهِ وَهَزَلِهِ وَمُجُونِهِ وَسَخَافَةِ دِينِهِ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ مِنَ الْإِلْحَادِ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَالْكَفْرِ بِمَنْ أَنْزَلَهُ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَارَضْتُ شِعْرَهُ السَّخِيفَ بِشِعْرٍ حَصِيفٍ، وَبَاطِلَهُ بِحَقٍّ نَبِيهٍ شريف، وترجيت رِضَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتِيجَابَ مَغْفِرَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ ثَنَا صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قال: أراد الوليد(10/7)
ابن يزيد الحجاج وقال: أشرب فوق ظهر الكعبة الخمر، فهموا أَنْ يَفْتِكُوا بِهِ إِذَا خَرَجَ، فَجَاءُوا إِلَى خالد ابن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ فَأَبَى، فَقَالُوا لَهُ: فَاكْتُمْ عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَمَّا هذا فنعم، فجاء إلى الوليد فقال: لا تخرج فانى أخاف عليكم، فَقَالَ: وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَخَافُهُمْ عَلَيَّ؟ قَالَ: لَا أُخْبِرُكَ بِهِمْ. قَالَ: إِنْ لَمْ تُخْبِرْنِي بِهِمْ بَعَثْتُ بِكَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، قال: وإن بعثت بى إلى يوسف ابن عمر، فبعثه إلى يوسف فعاقبه حَتَّى قَتَلَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهِمْ سَجَنَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ يَسْتَخْلِصُ مِنْهُ أَمْوَالَ الْعِرَاقِ فَقَتَلَهُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا وَفَدَ إِلَى الْوَلِيدِ اشْتَرَى مِنْهُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ بِخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ يُخَلِّصُهَا مِنْهُ، فَمَا زَالَ يُعَاقِبُهُ وَيَسْتَخْلِصُ مِنْهُ حَتَّى قتله، فغضبت أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ قَتْلِهِ، وَخَرَجُوا عَلَى الْوَلِيدِ.
قال الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ فَذُكِرَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَانَ زِنْدِيقًا، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: خِلَافَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي زنديق. وقال أحمد بن عمير [1] بن حوصاء الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ ثَنَا الوليد ابن مُسْلِمٍ ثَنَا حُصَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ: إِذَا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الشَّابُّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بين الشام والعراق مظلوما لم يزل طاعة مستخف بها ودم مسفوك عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ:
ذِكْرُ قَتْلِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ النَّاقِصُ للوليد بن يزيد وكيف قتله
قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ أَمْرِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وخلاعته ومجانته وفسقه وما ذكر عن تهاونه بالصلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها. فإنه لم يزدد في الخلافة إلا شرا ولهوا ولذة وركوبا للصيد وشرب المسكر ومنادمة الفساق، فما زادته الخلافة على ما كان قبلها إلا تماديا وغرورا، فثقل ذلك على الأمراء والرعية والجند، وَكَرِهُوهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى أَوْرَثَهُ ذَلِكَ هَلَاكَهُ، إِفْسَادُهُ عَلَى نَفْسِهِ بَنِي عَمَّيْهِ هِشَامٍ وَالْوَلِيدِ بن عبد الملك مع إفساده اليمانية، وهي أعظم جُنْدِ خُرَاسَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى غَرِيمِهِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْعِرَاقِ إِذْ ذَاكَ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَاقِبُهُ حَتَّى هَلَكَ، انْقَلَبُوا عَلَيْهِ وَتَنَكَّرُوا لَهُ وَسَاءَهُمْ قَتْلُهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ. ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ ضَرَبَ ابْنَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةَ سَوْطٍ وَحَلَّقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَغَرَّبَهُ إِلَى عَمَّانَ فَحَبَسَهُ بِهَا، فَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى قُتِلَ الْوَلِيدُ، وَأَخَذَ جَارِيَةً كَانَتْ لِآلِ عَمِّهِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَلَّمَهُ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ: لا أردها، فقال: إذا تَكْثُرَ الصَّوَاهِلُ حَوْلَ عَسْكَرِكَ. وَحَبَسَ الْأَفْقَمَ يَزِيدَ بْنَ هِشَامٍ، وَبَايَعَ لِوَلَدَيْهِ الْحَكَمِ وَعُثْمَانَ، وَكَانَا دون
__________
[1] نسخة «ابن عمر» .(10/8)
الْبُلُوغِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ أَيْضًا وَنَصَحُوهُ فَلَمْ يَنْتَصِحْ، وَنَهَوْهُ فَلَمْ يَرْتَدِعْ وَلَمْ يَقْبَلْ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى الناس ورماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه، وباللواط وغيره، وَقَالُوا: قَدِ اتَّخَذَ مِائَةَ جَامِعَةٍ عَلَى كُلِّ جامعة اسم رجل من بنى هاشم لِيَقْتُلَهُ بِهَا، وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِيهِ قَوْلًا يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ النَّاسُ إِلَى قَوْلِهِ أَمْيَلُ، لِأَنَّهُ أَظْهَرَ النسك والتواضع، ويقول مَا يَسَعُنَا الرِّضَا بِالْوَلِيدِ حَتَّى حَمَلَ النَّاسَ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، قَالُوا: وَانْتُدِبَ لِلْقِيَامِ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ وَالْيَمَانِيَةِ وَخَلْقٌ مِنْ أَعْيَانِ الأمراء وآل الوليد بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ الْقَائِمَ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَالدَّاعِيَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، فَبَايَعَهُ الناس على ذلك، وقد نهاه أَخُوهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ فَلْمْ يَقْبَلُ، فَقَالَ: والله لولا أنى أخاف عليك لَقَيَّدْتُكَ وَأَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِ، وَاتَّفَقَ خُرُوجُ النَّاسِ مِنْ دِمَشْقَ مِنْ وَبَاءٍ وَقَعَ بِهَا، فَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ الْمِائَتَيْنِ، إِلَى نَاحِيَةِ مشارف دمشق، فانتظم إلى يزيد بْنِ الْوَلِيدِ أَمْرُهُ وَجَعَلَ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، فَلَا يَقْبَلُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ فِي ذَلِكَ:
إِنِّي أُعِيذُكُمُ باللَّه مِنْ فِتَنٍ ... مِثْلِ الْجِبَالِ تَسَامَى ثُمَّ تَنْدَفِعُ
إِنَّ الْبَرِيَّةَ قَدْ مَلَّتْ سِيَاسَتَكُمْ ... فَاسْتَمْسِكُوا بِعَمُودِ الدِّينِ وَارْتَدِعُوا
لَا تُلْحِمُنَّ ذِئَابَ النَّاسِ أَنْفُسَكُمْ ... إِنَّ الذباب إِذَا مَا أُلْحِمَتْ رَتَعُوا
لَا تَبْقُرُنَّ بِأَيْدِيكُمْ بُطُونَكُمُ ... فَثَمَّ لَا حَسْرَةٌ تُغْنِي وَلَا جَزَعُ
فلما استوثق لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَمْرُهُ، وَبَايَعَهُ مَنْ بَايَعَهُ مِنَ النَّاسِ، قَصَدَ دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا فِي غَيْبَةِ الْوَلِيدِ فَبَايَعَهُ أَكْثَرُ أَهْلِهَا فِي اللَّيْلِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْمِزَّةِ قَدْ بَايَعُوا كَبِيرَهُمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ مَصَادٍ، فَمَضَى إِلَيْهِ يَزِيدُ مَاشِيًا فِي نفر من أصحابه، فأصابهم في الطريق خطر شَدِيدٌ، فَأَتَوْهُ فَطَرَقُوا بَابَهُ لَيْلًا ثُمَّ دَخَلُوا فَكَلَّمَهُ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ فَبَايَعَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ مَصَادٍ، ثُمَّ رَجَعَ يَزِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى طَرِيقِ الْقَنَاةِ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ أَسْوَدَ، فَحَلَفَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دِمَشْقَ إِلَّا فِي السِّلَاحِ، فَلَبِسَ سِلَاحًا مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ فَدَخَلَهَا، وَكَانَ الْوَلِيدُ قَدِ اسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ فِي غَيْبَتِهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مُحَمَّدِ بن الحجاج بن يوسف الثقفي، وَعَلَى شُرْطَتِهَا أَبُو الْعَاجِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ يَزِيدَ بَيْنَ الْعِشَائَيْنِ عِنْدَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فلما أذن العشاء الْآخِرَةِ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُهُمْ بَعَثُوا إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَجَاءَهُمْ فَقَصَدُوا بَابَ الْمَقْصُورَةِ فَفَتَحَ لَهُمْ خَادِمٌ، فدخلوا فوجدوا أبا العاج وهو سكران، فأخذوا خزائن بَيْتِ الْمَالِ وَتَسَلَّمُوا الْحَوَاصِلَ، وَتَقْوَوْا بِالْأَسْلِحَةِ، وَأَمَرَ يَزِيدُ بِإِغْلَاقِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ، وَأَنْ لَا يَفْتَحَ إِلَّا لِمَنْ يَعْرِفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ قَدِمَ أَهْلُ الْحَوَاضِرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(10/9)
فَدَخَلُوا مِنْ سَائِرِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ، كُلُّ أَهْلِ مَحِلَّةٍ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِمْ، فَكَثُرَتِ الْجُيُوشُ حول يزيد ابن الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي نُصْرَتِهِ، وَكُلُّهُمْ قد بايعه بالخلافة. وقد قال فيه بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ: -
فَجَاءَتْهُمْ أَنْصَارُهُمْ حِينَ أَصْبَحُوا ... سَكَاسِكُهَا أَهْلُ الْبُيوُتِ الصَّنَادِدِ
وَكَلْبٌ فَجَاءُوهُمْ بِخَيْلٍ وَعِدَّةٍ ... مِنَ الْبِيضِ وَالْأَبْدَانِ ثُمَّ السَّوَاعِدِ
فَأَكْرِمْ بِهَا أَحْيَاءَ أَنْصَارِ سُنَّةٍ ... هُمْ مَنَعُوا حرماتها كل جاحد
وجاءتهم شيبان وَالْأَزْدُ شُرَّعًا ... وَعَبْسٌ وَلَخْمٌ بَيْنَ حَامٍ وَذَائِدِ
وَغَسَّانُ وَالْحَيَّانِ قَيْسٌ وَتَغْلِبٌ ... وَأَحْجَمَ عَنْهَا كُلُّ وَانٍ وَزَاهِدِ
فَمَا أَصْبَحُوا إِلَّا وَهُمْ أَهْلُ مُلْكِهَا ... قَدِ اسْتَوْثَقُوا مِنْ كُلِّ عَاتٍ وَمَارِدِ
وَبَعَثَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَصَادٍ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ إِلَى قَطَنَا لِيَأْتُوهُ بعبد الملك بن محمد ابن الْحَجَّاجِ نَائِبِ دِمَشْقَ وَلَهُ الْأَمَانُ، وَكَانَ قَدْ تحصن هناك، فدخلوه عَلَيْهِ فَوَجَدُوا عِنْدَهُ خُرْجَيْنِ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا مَرُّوا بِالْمِزَّةِ قَالَ أَصْحَابُ ابْنِ مَصَادٍ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فهو خير مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا تُحَدِّثُ الْعَرَبُ أَنِّي أَوَّلُ مَنْ خَانَ، ثُمَّ أَتَوْا بِهِ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَاسْتَخْدَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ جُنْدًا لِلْقِتَالِ قَرِيبًا مِنْ ألفى فارس، وبعث به مَعَ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ لِيَأْتُوا بِهِ، وَرَكِبَ بَعْضُ مَوَالِي الْوَلِيدِ فَرَسًا سَابِقًا فَسَاقَ بِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْلَاهُ مِنَ الليل، وقد نفق الفرس من السوق، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، ثُمَّ تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَاكَ إِلَى حِمْصَ فَإِنَّهَا حَصِينَةٌ. وَقَالَ الْأَبْرَشُ سَعِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكَلْبِيُّ: انْزِلْ عَلَى قَوْمِي بِتَدْمُرَ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ رَكِبَ بِمَنْ معه، وهو في مائتي فارس، وقصد أَصْحَابُ يَزِيدَ فَالْتَقَوْا بِثِقَلِهِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَأَخَذُوهُ، وَجَاءَ الْوَلِيدُ فَنَزَلَ حِصْنَ الْبَخْرَاءِ الَّذِي كَانَ لِلنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَجَاءَهُ رَسُولُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ إِنِّي آتِيكَ- وَكَانَ مِنْ أَنْصَارِهِ- فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِإِبْرَازِ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَقَالَ. أَعَلَيَّ يَتَوَثَّبُ الرِّجَالُ وَأَنَا أَثِبُ عَلَى الْأَسَدِ وأتحصّر الْأَفَاعِيَ؟ وَقَدِمَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ بِمَنْ مَعَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ خَلَصَ مَعَهُ مِنَ الْأَلْفَيْ فَارِسٍ ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ، فَتَصَافُّوا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ حُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ جَاءَ الْعَبَّاسُ بن الوليد لنصرة الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ العزيز فجيء به قَهْرًا حَتَّى بَايَعَ لِأَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ اجْتِمَاعَهُمْ فَرُّوا مِنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الْوَلِيدُ فِي ذُلٍّ وَقُلٍّ مِنَ النَّاسِ، فَلَجَأَ إِلَى الْحِصْنِ فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُحَاصِرُونَهُ، فَدَنَا الْوَلِيدُ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ فَنَادَى لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ شَرِيفٌ، فَكَلَّمَهُ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ السَّكْسَكِيُّ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَلَمْ أدفع الموت عنكم؟(10/10)