عِمْرَانَ أُمَّ عِيسَى هِيَ أُخْتُ هَارُونَ وَمُوسَى مع قوله يا أخت هارون وَقَدْ بَيَّنَّا غَلَطَهُ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ خَالَفَهُ فِيهِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا مَحْفُوظٌ فَهَذِهِ مَرْيَمُ بِنْتُ عمران أخت موسى وهارون عليها السَّلَامُ وَأُمُّ عِيسَى عَلَيْهَا السَّلَامُ وَافَقَتْهَا فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَاسْمِ الْأَخِ لِأَنَّهُمْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَمَّا سَأَلَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ عن قوله يا أخت هارون فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ لَهُمْ حَتَّى سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُمْ النَّبِيَّةُ كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ مَلِكَةٌ وَمِنْ بَيْتِ الْإِمْرَةِ أَمِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُبَاشِرَةً شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَكَذَا هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لَهَا لَا أَنَّهَا نَبِيَّةٌ حَقِيقَةً يُوحَى إِلَيْهَا وَضَرْبُهَا بِالدُّفِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْيَادِ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ضَرْبَ الدُّفِّ فِي الْعِيدِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ لَنَا أَيْضًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِحَدِيثِ الْجَارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَ عَائِشَةَ يضربان بِالدُّفِّ فِي أَيَّامِ مِنًى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم مضطجع مولى ظَهْرَهُ إِلَيْهِمْ وَوَجْهُهُ إِلَى الْحَائِطِ فَلَمَّا دَخَلَ أبو بكر زجرهن وقال أبمزمار الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا. وَهَكَذَا يُشْرَعُ عِنْدَنَا فِي الْأَعْرَاسِ وَلِقُدُومِ الْغُيَّابِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمَّا جَاوَزُوا الْبَحْرَ وَذَهَبُوا قَاصِدِينَ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَجِدُونَ مَاءً فَتَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَوَجَدُوا مَاءً زُعَاقًا أُجَاجًا لَمْ يَسْتَطِيعُوا شُرْبَهُ فامر الله موسى فَأَخَذَ خَشَبَةً فَوَضَعَهَا فِيهِ فَحَلَا وَسَاغَ شُرْبُهُ وَعَلَّمَهُ الرَّبُّ هُنَالِكَ فَرَائِضَ وَسُنَنًا وَوَصَّاهُ وَصَايَا كَثِيرَةً. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الْمُهَيْمِنِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 7: 138- 139. قَالُوا هَذَا الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ وَقَدْ عَايَنُوا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا قِيلَ كَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُمْ لِمَ يَعْبُدُونَهَا فَزَعَمُوا لَهُمْ أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ وَيَسْتَرْزِقُونَ بِهَا عِنْدَ الضَّرُورَاتِ فَكَأَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنْهُمْ صَدَّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمُ الْكَلِيمَ الْكَرِيمَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً كَمَا لِأُولَئِكَ آلِهَةٌ فَقَالَ لَهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَفْضِيلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى عَالِمِي زَمَانِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالشَّرْعِ وَالرَّسُولِ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَمَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْهِمْ وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ وَإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَتَوْرِيثِهِ إِيَّاهُمْ مَا كَانَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ يَجْمَعُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّعَادَةِ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا للَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْقَهَّارُ وَلَيْسَ كُلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ هذا السؤال بل هذا الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ(1/276)
عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ 7: 138 أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً 18: 47- 48 فَالَّذِينَ زَعَمُوا هَذَا بَعْضُ النَّاسِ لَا كُلُّهُمْ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل حنين فمررنا بسدرة فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ وَكَانَ الْكَفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَمَعْمَرٍ وَعَقِيلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الى خيبر قَالَ وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ قَالَ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ قَالَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ قَالَ قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 7: 138- 139. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْفَصَلَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ وَوَاجَهَ بِلَادَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَدَ فِيهَا قَوْمًا مِنَ الْجَبَّارِينَ مِنْ الْحَيْثَانِيِّينَ وَالْفَزَارِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ فَأَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَهُ لَهُمْ وَوَعَدَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمُوسَى الْكَلِيمِ الْجَلِيلِ فَأَبَوْا وَنَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ وَأَلْقَاهُمْ فِي التِّيهِ يَسِيرُونَ وَيَحِلُّونَ وَيَرْتَحِلُونَ وَيَذْهَبُونَ وَيَجِيئُونَ فِي مُدَّةٍ مِنَ السِّنِينَ طَوِيلَةٍ هِيَ مِنَ الْعَدَدِ أَرْبَعُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يَا مُوسى. إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. قَالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ 5: 20- 26. يُذَكِّرُهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِحْسَانَهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمُقَاتَلَةِ أَعْدَائِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ 5: 21 أَيْ تَنْكِصُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَتَنْكِلُوا عَلَى قِتَالِ أعدائكم(1/277)
فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ 5: 21 أَيْ فَتَخْسَرُوا بَعْدَ الرِّبْحِ وَتَنْقُصُوا بَعْدَ الْكَمَالِ قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ 5: 22 أَيْ عُتَاةً كَفَرَةً مُتَمَرِّدِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ 5: 22 خَافُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ وَقَدْ عَايَنُوا هَلَاكَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ أَجْبَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَشَدُّ بَأْسًا وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَأَعْظَمُ جُنْدًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلُومُونَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَمَذْمُومُونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الذِّلَّةِ عَنْ مُصَاوَلَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُقَاوَمَةِ الْمَرَدَةِ الْأَشْقِيَاءِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا آثَارًا فِيهَا مُجَازَفَاتٌ كَثِيرَةٌ بَاطِلَةٌ يَدُلُّ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ عَلَى خِلَافِهَا مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشْكَالًا هَائِلَةً ضِخَامًا جِدًّا حَتَّى إِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ رُسُلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ تَلَقَّاهُمْ رَجُلٌ مِنْ رُسُلِ الْجَبَّارِينَ فَجَعَلَ يأخذهم واحدا واحدا ويلفهم في أكمامه وحجرة سَرَاوِيلِهِ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِهِمْ فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الْجَبَّارِينَ فَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ حتى عرفوه وكل هذه هذيانات وخرفات لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَأَنَّ الْمَلِكَ بَعَثَ مَعَهُمْ عِنَبًا كُلُّ عِنَبَةٍ تَكْفِي الرَّجُلَ وَشَيْئًا مِنْ ثِمَارِهِمْ لِيَعْلَمُوا ضَخَامَةَ أَشْكَالِهِمْ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَذَكَرُوا هَاهُنَا أَنَّ عُوجَ بْنَ عُنُقَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الْجَبَّارِينَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُهْلِكَهُمْ وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلْثَ ذِرَاعٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ قَالُوا فَعَمَدَ عُوجُ إِلَى قِمَّةِ جَبَلٍ فَاقْتَلَعَهَا ثُمَّ أَخَذَهَا بِيَدَيْهِ لِيُلْقِيَهَا عَلَى جَيْشِ مُوسَى فَجَاءَ طَائِرٌ فَنَقَرَ تِلْكَ الصَّخْرَةَ فَخَرَقَهَا فَصَارَتْ طَوْقًا فِي عُنُقِ عُوجَ بْنِ عُنُقَ. ثُمَّ عَمَدَ مُوسَى إِلَيْهِ فَوَثَبَ فِي الْهَوَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ وَطُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ وَبِيَدِهِ عَصَاهُ وَطُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَصَلَ إِلَى كَعْبِ قَدَمِهِ فَقَتَلَهُ. يُرْوَى هذا عن عوف الْبِكَالِيِّ وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي إِسْنَادِهِ إِلَيْهِ نَظَرٌ ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَكُلُّ هَذِهِ مِنْ وَضْعِ جُهَّالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْكِذْبَةَ قد كثرت عندهم ولا تميز لهم بين صحتها وَبَاطِلِهَا. ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَعْذُورِينَ فِي النُّكُولِ عَنْ قِتَالِهِمْ وَقَدْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ عَلَى نُكُولِهِمْ وَعَاقَبَهُمْ بِالتِّيهِ عَلَى تَرْكِ جِهَادِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِنْهُمْ بِالْإِقْدَامِ وَنَهَيَاهُمْ عَنِ الْإِحْجَامِ وَيُقَالُ إِنَّهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالِبُ بن يوقنا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ رَجُلانِ من الَّذِينَ يَخافُونَ 5: 23 أَيْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ يُخَافُونَ أَيْ يهابون أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا 5: 23 أَيْ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالشَّجَاعَةِ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 5: 23 أَيْ إِذَا تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَاسْتَعَنْتُمْ بِهِ وَلَجَأْتُمْ إِلَيْهِ نَصَرَكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَأَيَّدَكُمْ عَلَيْهِمْ وأظفركم بهم.
قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ 5: 24 فصمم ملؤهم على النكول عَنِ الْجِهَادِ وَوَقَعَ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَوَهَنٌ كَبِيرٌ. فَيُقَالُ إِنَّ يُوشَعَ وَكَالِبَ لَمَّا سَمِعَا هَذَا(1/278)
الكلام شقا ثيابهما وإن موسى وهارون سَجَدَا إِعْظَامًا لِهَذَا الْكَلَامِ وَغَضَبًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ مِنْ وَبِيلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ 5: 25 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ 5: 26 عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض يسيرون إِلَى غَيْرِ مَقْصِدٍ لَيْلًا وَنَهَارًا وَصَبَاحًا وَمَسَاءً وَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ مِمَّنْ دَخَلَهُ بَلْ مَاتُوا كُلُّهُمْ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ذَرَّارِيُّهُمْ سِوَى يُوشَعَ وَكَالِبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. لَكِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَقُولُوا لَهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى بَلْ لَمَّا اسْتَشَارَهُمْ فِي الذَّهَابِ إِلَى النَّفِيرِ تَكَلَّمَ الصِّدِّيقُ فَأَحْسَنَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ أَشِيرُوا عَلَيَّ حَتَّى قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِنَا يَا رَسُولَ الله فو الّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ يَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللقاء لعل الله يريك منا ما تقربه عَيْنُكَ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَبَسَطَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عن مخارق ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَحْمَسِيِّ عَنْ طَارِقٍ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ 5: 24 وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى. قَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يدعو على المشركين قال وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ 5: 24 وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْرِقُ لِذَلِكَ وَسُرَّ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُخَارِقٍ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا إِذًا لَا نَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ 5: 24 والّذي بعثك بالحق إن ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ بِهِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ(1/279)
فَصْلٌ فِي دُخُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التِّيهَ وَمَا جَرَى لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ
قَدْ ذَكَرْنَا نُكُولَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ بِالتِّيهِ وَحَكَمَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ أَرَ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ قِصَّةَ نُكُولِهِمْ عَنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ وَلَكِنَّ فِيهَا أَنَّ يُوشَعَ جَهَّزَهُ مُوسَى لِقِتَالِ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ وَخُورَ جَلَسُوا عَلَى رَأْسِ أَكَمَةٍ وَرَفَعَ مُوسَى عَصَاهُ فَكُلَّمَا رَفَعَهَا انْتَصَرَ يُوشَعُ عَلَيْهِمْ وَكُلَّمَا مَالَتْ يَدُهُ بِهَا مِنْ تَعَبٍ أو نحوه غلبهم أُولَئِكَ وَجَعَلَ هَارُونُ وَخُورُ يُدَعِّمَانِ يَدَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَانْتَصَرَ حِزْبُ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ يثرون كلهن مَدْيَنَ وَخَتَنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى وَكَيْفَ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِعَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ فَقَدِمَ عَلَى مُوسَى مُسْلِمًا وَمَعَهُ ابْنَتُهُ صِفُّورَا زَوْجَةُ مُوسَى وَابْنَاهَا مِنْهُ جَرْشُونُ وَعَازِرُ فَتَلَقَّاهُ مُوسَى وَأَكْرَمَهُ وَاجْتَمَعَ بِهِ شُيُوخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَظَّمُوهُ وَأَجَلُّوهُ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ رَأَى كَثْرَةَ اجْتِمَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى فِي الْخُصُومَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَهُمْ فَأَشَارَ عَلَى مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَى النَّاسِ رِجَالًا أُمَنَاءَ أَتْقِيَاءَ أعفاء يبغضون الرشى وَالْخِيَانَةَ فَيَجْعَلُهُمْ عَلَى النَّاسِ رُءُوسَ أُلُوفٍ وَرُءُوسَ مئين ورءوس خمسين ورءوس عَشَرَةٍ فَيَقْضُوا بَيْنَ النَّاسِ فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ جَاءُوكَ فَفَصَلْتَ بَيْنَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا وَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَرِّيَّةَ عِنْدَ سَيْنَاءَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ وَكَانَ خُرُوجُهُمْ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهُمْ وَهِيَ أَوَّلُ فَصْلِ الرَّبِيعِ فَكَأَنَّهُمْ دَخَلُوا التِّيهَ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الصَّيْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا وَنَزَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ طُورِ سَيْنَاءَ وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ فَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُذَكِّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَكَيْفَ حَمَلَهُمْ عَلَى مِثْلِ جَنَاحَيْ نِسْرٍ مِنْ يَدِهِ وَقَبْضَتِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَتَطَهَّرُوا وَيَغْتَسِلُوا وَيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ وَلْيَسْتَعِدُّوا إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلْيَجْتَمِعُوا حَوْلَ الْجَبَلِ وَلَا يَقْتَرِبَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَمَنْ دَنَا مِنْهُ قُتِلَ حَتَّى وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْبَهَائِمِ مَا دَامُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْقَرْنِ فَإِذَا سَكَنَ الْقَرْنُ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَرْتَقُوهُ فَسَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ وَأَطَاعُوا وَاغْتَسَلُوا وَتَنَظَّفُوا وَتَطَيَّبُوا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ رَكِبَ الْجَبَلَ غَمَامَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِيهَا أَصْوَاتٌ وَبُرُوقٌ وَصَوْتُ الصُّورِ شَدِيدٌ جِدًّا فَفَزِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَخَرَجُوا فَقَامُوا فِي سَفْحِ الْجَبَلِ وَغَشِيَ الْجَبَلَ دُخَانٌ عَظِيمٌ فِي وَسَطِهِ عَمُودُ نُورٍ وَتَزَلْزَلَ الْجَبَلُ كُلُّهُ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً وَاسْتَمَرَّ صَوْتُ الصُّورِ وَهُوَ الْبُوقُ وَاشْتَدَّ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوْقَ الْجَبَلِ وَاللَّهِ يُكَلِّمُهُ وَيُنَاجِيهِ وَأَمَرَ الرب عز وجل موسى أن ينزل فأمر بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتَرِبُوا مِنَ الْجَبَلِ لِيَسْمَعُوا وصية الله ويأمر الأحبار وهم علمائهم أَنْ يَدْنُوا فَيَصْعَدُوا الْجَبَلَ لِيَتَقَدَّمُوا بِالْقُرْبِ وَهَذَا نَصٌّ فِي كِتَابِهِمْ عَلَى وُقُوعِ(1/280)
النَّسْخِ لَا مَحَالَةَ فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ إِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصْعَدُوهُ وَقَدْ نَهَيْتَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَذْهَبَ فَيَأْتِيَ مَعَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ وَلْيَكُنِ الْكَهَنَةُ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ وَالشَّعْبُ وَهُمْ بَقِيَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَفَعَلَ مُوسَى وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَمَرَهُ حِينَئِذٍ بِالْعَشْرِ كَلِمَاتٍ.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمُوا حَتَّى فَهَّمَهُمْ مُوسَى وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لِمُوسَى بَلِّغْنَا أنت عن الرب عز وجل فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ نَمُوتَ فَبَلَّغَهُمْ عَنْهُ فَقَالَ هَذِهِ الْعَشْرُ الْكَلِمَاتِ وَهِيَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْحَلِفِ باللَّه كَاذِبًا. وَالْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى السَّبْتِ. وَمَعْنَاهُ تَفَرُّغُ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ لِلْعِبَادَةِ وَهَذَا حَاصِلٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّذِي نَسَخَ اللَّهُ بِهِ السَّبْتَ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِيَطُولَ عُمْرُكَ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يُعْطِيكَ اللَّهُ رَبُّكَ. لَا تَقْتُلْ. لَا تَزْنِ لَا تَسْرِقْ. لَا تَشْهَدْ عَلَى صَاحِبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ لَا تَمُدَّ عَيْنَكَ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِكَ. وَلَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ صَاحِبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي لِصَاحِبِكَ. وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْحَسَدِ. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ مَضْمُونُ هَذِهِ الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ فِي آيَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ 6: 151- 153 الآية وَذَكَرُوا بَعْدَ الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ وَصَايَا كَثِيرَةً وَأَحْكَامًا متفرقة عزيزة كانت فزالت وعملت بِهَا حِينًا مِنَ الدَّهْرِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا عِصْيَانٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا ثُمَّ عَمَدُوا إِلَيْهَا فَبَدَّلُوهَا وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ سَلَبُوهَا فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً مُبَدَّلَةً بَعْدَ مَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً مُكَمِّلَةً فَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ ما يريد الإله الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى 20: 80- 82 يَذْكُرُ تَعَالَى مِنَّتَهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْجَاهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنَ الضِّيقِ والحرج وأنه وعدهم صحبة نبيهم إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أَيْ مِنْهُمْ لِيُنَزِّلَ عَلَيْهِ أَحْكَامًا عَظِيمَةً فِيهَا مُصْلِحَةٌ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ شِدَّتِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ فِي سَفَرِهِمْ فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ مِنَّا مِنَ السَّمَاءِ يُصْبِحُونَ فَيَجِدُونَهُ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْغَدِ وَمَنِ ادَّخَرَ مِنْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَ. وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ قَلِيلًا- كَفَاهُ أَوْ كَثِيرًا لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ فَيَصْنَعُونَ مِنْهُ مِثْلَ الْخُبْزِ وَهُوَ(1/281)
فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالْحَلَاوَةِ فَإِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ غَشِيَهُمْ طَيْرُ السَّلْوَى فَيَقْتَنِصُونَ مِنْهُ بِلَا كُلْفَةٍ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ حَسَبَ كِفَايَتِهِمْ لعشاهم وَإِذَا كَانَ فَصْلُ الصَّيْفِ ظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَهُوَ السَّحَابُ الَّذِي يَسْتُرُ عَنْهُمْ حَرَّ الشمس وضوأها الباهر. كما قال تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ 2: 40- 41 إِلَى أَنْ قَالَ وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَإِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا من طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 2: 49- 57 إِلَى أَنْ قَالَ وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ 2: 60- 61 فذكر تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى طَعَامَيْنِ شَهِيَّيْنِ بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا سَعْيٍ لَهُمْ فِيهِ بَلْ يُنَزِّلُ اللَّهُ الْمَنَّ بَاكِرًا وَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ طَيْرَ السَّلْوَى عَشِيًّا وَأَنْبَعَ الْمَاءَ لَهُمْ بِضَرْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَجَرًا كَانُوا يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ بِالْعَصَا فَتَفَجَّرَ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ منه تنبجس ثم تتفجر ماء زلالا فيستقون وَيَسْقُونَ دَوَابَّهُمْ وَيَدَّخِرُونَ كِفَايَتَهُمْ. وَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ مِنَ الْحَرِّ وَهَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَظِيمَةٌ وَعَطِيَّاتٌ جَسِيمَةٌ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَلَا قَامُوا بِشُكْرِهَا وَحَقِّ عِبَادَتِهَا ثُمَّ ضَجِرَ كَثِيرٌ مِنْهَا وَتَبَرَّمُوا بِهَا وَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَبْدِلُوا مِنْهَا بِبَدَلِهَا مِمَّا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا. فَقَرَّعَهُمُ الْكَلِيمُ وَوَبَّخَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَعَنَّفَهُمْ قَائِلًا أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ 2: 61 أَيْ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَتُرِيدُونَهُ بَدَلَ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا حَاصِلٌ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَوْجُودٌ بِهَا وَإِذَا هَبَطْتُمْ إِلَيْهَا أَيْ وَنَزَلْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُونَ لِمَنْصِبِهَا تَجِدُوا بِهَا مَا تَشْتَهُونَ وَمَا ترومون مما ذكرتم من المآكل الدنية(1/282)
والاغذية الردية ولكنى لست أجيبكم الى سؤال ذَلِكَ هَاهُنَا وَلَا أُبَلِّغُكُمْ مَا تَعَنَّتُّمْ بِهِ مِنَ الْمُنَى وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَنْهُمُ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى 20: 81 أَيْ فَقَدْ هَلَكَ وَحَقَّ لَهُ وَاللَّهِ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ وَقَدْ حَلَّ عَلَيْهِ غَضَبُ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَزَجَ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالرَّجَاءِ لِمَنْ أَنَابَ وَتَابَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ فَقَالَ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى 20: 82
سؤال الرؤية
قال تَعَالَى وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقال مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً. فَلَمَّا أَفاقَ قَالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ من كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ 7: 142- 147. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ الثَّلَاثُونَ لَيْلَةً هِيَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ بِكَمَالِهِ وَأُتِمَّتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ لَهُ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ وَفِي مِثْلِهِ أَكْمَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَهُ وَأَقَامَ حُجَّتَهُ وَبَرَاهِينَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الْمِيقَاتَ وَكَانَ فِيهِ صَائِمًا يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطْعِمِ الطَّعَامَ فَلَمَّا كَمَلَ الشَّهْرُ أَخَذَ لِحَا شَجَرَةٍ فَمَضَغَهُ لِيُطَيِّبَ رِيحَ فَمِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُمْسِكَ عَشْرًا أُخْرَى فَصَارَتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الحديث أن خلو فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ اسْتَخْلَفَ عَلَى شَعْبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَاهُ هَارُونَ الْمُحَبَّبَ الْمُبَجَّلَ الْجَلِيلَ وَهُوَ ابْنُ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَوَزِيرُهُ فِي الدعوة الى مصطفيه فوصاه وأمره وَلَيْسَ فِي هَذَا لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي نُبُوَّتِهِ مُنَافَاةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا 7: 143 أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِالْمَجِيءِ فِيهِ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ 7: 143 أَيْ كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ إِلَّا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ الْخِطَابَ فَنَادَاهُ وَنَاجَاهُ وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ وَهَذَا مَقَامٌ رَفِيعٌ وَمَعْقِلٌ مَنِيعٌ وَمَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَمَنْزِلٌ مُنِيفٌ فَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَتْرَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى وَلَمَّا أُعْطِيَ هَذِهِ المنزلة(1/283)
الْعَلِيَّةَ وَالْمَرْتَبَةَ السَّنِيَّةَ وَسَمِعَ الْخِطَابَ سَأَلَ رَفْعَ الْحِجَابِ فَقَالَ لِلْعَظِيمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ القوى البرهان رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرانِي 7: 143. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ تَجَلِّيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي هُوَ أَقْوَى وَأَكْبَرُ ذَاتًا وَأَشَدُّ ثَبَاتًا مِنَ الْإِنْسَانِ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ التَّجَلِّي مِنَ الرحمان وَلِهَذَا قَالَ وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي 7: 143 وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حِجَابُهُ النور. وفي رواية النار لو كشفه لا حرقت سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ 6: 103 ذَاكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قَالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ 7: 143. قَالَ مُجَاهِدٌ وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي 7: 143 فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ فَدُكَّ عَلَى أَوَّلِهِ وَرَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ الْجَبَلُ فَخَرَّ صَعِقَا وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ.
زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَيْثٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا 7: 143 قَالَ هَكَذَا بِأُصْبُعِهِ وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ فَسَاخَ الْجَبَلُ لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ السدي عن عكرمة وعن ابْنِ عَبَّاسٍ مَا تَجَلَّى يَعْنِي مِنَ الْعَظَمَةِ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا قَالَ ترابا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً 7: 143 أَيْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ وَقَالَ قَتَادَةُ مَيِّتًا. وَالصَّحِيحُ الأول لقوله فَلَمَّا أَفاقَ 7: 143 فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ غَشْيٍ قَالَ سُبْحانَكَ 7: 143 تَنْزِيهٌ وَتَعْظِيمٌ وَإِجْلَالٌ أَنْ يَرَاهُ بِعَظَمَتِهِ أحد تُبْتُ إِلَيْكَ 7: 143 أَيْ فَلَسْتُ أَسْأَلُ بَعْدَ هَذَا الرُّؤْيَةَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ 7: 143 أَنَّهُ لَا يَرَاكَ حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ الْمَازِنِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٍ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أدرى أفاق قبلي أو جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ) لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَفِي أَوَّلِهِ قِصَّةُ الْيَهُودِيِّ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَهُ الْأَنْصَارِيُّ حِينَ قَالَ لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فقال رسول الله (لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ وَفِيهِ (لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى) وَذَكَرَ تَمَامَهُ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ أَوْ نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَوْ لَيْسَ هَذَا إِلَيْكُمْ بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ وَلَيْسَ يُنَالُ هَذَا بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ ثُمَّ نُسِخَ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ(1/284)
عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ لَأَنَّ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا هاجر أبو هريرة إلا عام حنين مُتَأَخِّرًا فَيَبْعُدُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا إِلَّا بَعْدَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الْبَشَرِ بَلِ الْخَلِيقَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ 3: 110 وَمَا كَمُلُوا إِلَّا بِشَرَفِ نَبِيِّهِمْ وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ) ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ الَّذِي تَحِيدُ عَنْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ حَتَّى أُولُو الْعَزْمِ الْأَكْمَلُونَ نُوحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى بن مَرْيَمَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ) أَيْ آخِذًا بِهَا (فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّعْقَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْخَلَائِقِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ فَيُصْعَقُونَ مِنْ شِدَّةِ الْهَيْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ فَيَكُونُ أَوَّلَهُمْ إِفَاقَةً مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَمُصْطَفَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَيَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ (لَا أَدْرِي أَصُعِقُ فَأَفَاقَ قَبْلِي) أَيْ كَانَتْ صَعْقَتُهُ خَفِيفَةً لِأَنَّهُ قَدْ نَالَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي الدُّنْيَا صَعْقٌ أَوْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ يَعْنِي فَلَمْ يُصْعَقْ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا فِيهِ شرف كبير لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. وَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ بِهَا مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِهَذَا نَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضِيلَتِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَمَّا ضَرَبَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ (لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ) قَدْ يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ الْمُشَاهِدِينَ لِذَلِكَ هَضْمٌ بِجَنَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَتَهُ وَشَرَفَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى قَالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي 7: 144 أَيْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أَفْضَلُ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا كَمَا ظَهَرَ شَرَفُهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَكَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ سَأَقُومُ مَقَامًا يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ من الشَّاكِرِينَ 7: 144 أَيْ فَخُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامِ وَلَا تَسْأَلْ زِيَادَةً عَلَيْهِ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَتَبْنا لَهُ في الْأَلْواحِ من كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ 7: 145 وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ جَوْهَرٍ نَفِيسٍ فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَفِيهَا مَوَاعِظُ عَنِ الْآثَامِ وَتَفْصِيلٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إليه من الحلال والحرام فَخُذْها بِقُوَّةٍ 7: 145 أَيْ بِعَزْمٍ وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ قَوِيَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها 7: 145 أي يضعوهما على أحسن وجوهها وأجمل محاملها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ 7: 145 أَيْ سَتَرَوْا عَاقِبَةَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِي الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِي الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِي. سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ 7: 146 عَنْ فَهْمِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَعْقُّلِ مَعْنَاهَا الَّذِي أُرِيدَ مِنْهَا وَدَلَّ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهَا الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها 7: 146 أَيْ وَلَوْ شَاهَدُوا مَهْمَا شَاهَدُوا مِنَ الْخَوَارِقِ وَالْمُعْجِزَاتِ لَا يَنْقَادُوا لِاتِّبَاعِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا 7: 146 أَيْ لَا يَسْلُكُوهُ وَلَا يَتَّبِعُوهُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا 7: 146 أي صرفناهم(1/285)
عَنْ ذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِنَا وَتَغَافُلِهِمْ عَنْهَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَا وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعْنَاهَا وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ 7: 147.
قِصَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي غَيْبَةِ كَلِيمِ اللَّهِ عنهم
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ. وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ 7: 148- 154 وقال تَعَالَى وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي.
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى. قَالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قال يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قَالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي. قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً 20: 83- 98 يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ ذَهَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ فَمَكَثَ عَلَى الطُّورِ يُنَاجِيهِ رَبُّهُ وَيَسْأَلُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَهُوَ تَعَالَى يُجِيبُهُ عَنْهَا فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يقال له هارون السامري فاخذ ما كان استعاره مِنَ الْحُلِيِّ فَصَاغَ مِنْهُ عِجْلًا وَأَلْقَى فِيهِ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ كَانَ أَخَذَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ حِينَ رَآهُ يَوْمَ أَغْرَقَ اللَّهُ فرعون على يديه فلما ألقاها فيه خاركما(1/286)
يَخُورُ الْعِجْلُ الْحَقِيقِيُّ. وَيُقَالُ إِنَّهُ اسْتَحَالَ عِجْلًا جَسَدًا أَيْ لَحْمًا وَدَمًا حَيًّا يَخُورُ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ بَلْ كَانَتِ الرِّيحُ إِذَا دَخَلَتْ مِنْ دُبُرِهِ خَرَجَتْ مِنْ فَمِهِ فَيَخُورُ كَمَا تَخُورُ الْبَقَرَةُ فَيَرْقُصُونَ حَوْلَهُ وَيَفْرَحُونَ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ 20: 88 أَيْ فَنَسِيَ مُوسَى رَبَّهُ عِنْدَنَا وَذَهَبَ يَتَطَلَّبُهُ وَهُوَ هَاهُنَا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ وَتَضَاعَفَتْ آلَاؤُهُ وَعِدَاتُهُ. قال الله تعالى مبينا بُطْلَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَمَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ إِلَهِيَّةِ هَذَا الَّذِي قُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا بَهِيمًا وَشَيْطَانًا رَجِيمًا أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً 20: 89 وَقَالَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ 7: 148 فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَرُدُّ جَوَابًا وَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَهْدِي إِلَى رُشْدٍ اتَّخَذُوهُ وَهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَالِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ 7: 149 أَيْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ 7: 149. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ وَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَمَعَهُ الْأَلْوَاحُ الْمُتَضَمِّنَةُ التَّوْرَاةَ أَلْقَاهَا فَيُقَالُ إِنَّهُ كَسَرَهَا. وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَهُ غَيْرَهَا وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْقُرْآنِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ أَلْقَاهَا حِينَ عَايَنَ مَا عَايَنَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمَا كَانَا لَوْحَيْنِ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا أَلْوَاحٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَأَمَرَهُ بِمُعَايَنَةِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ) ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَعَنَّفَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ وَهَجَّنَهُمْ فِي صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحِ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيح قَالُوا إِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ 20: 87 تَحَرَّجُوا مِنْ تَمَلُّكِ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَخْذِهِ وَأَبَاحَهُ لَهُمْ وَلَمْ يَتَحَرَّجُوا بِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ الْجَسَدِ الَّذِي لَهُ خُوَارٌ مَعَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ الصَّمَدِ الْقَهَّارِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَائِلًا له يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ 20: 92- 93 أَيْ هَلَّا لَمَّا رَأَيْتَ مَا صَنَعُوا اتَّبَعْتَنِي فَأَعْلَمْتَنِي بِمَا فَعَلُوا فَقَالَ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ 20: 94 أَيْ تَرَكْتَهُمْ وَجِئْتَنِي وَأَنْتَ قَدِ اسْتَخْلَفْتَنِي فِيهِمْ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 7: 151 وَقَدْ كَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الْفَظِيعِ أَشَدَّ النَّهْيِ وَزَجَرَهُمْ عَنْهُ أَتَمَّ الزَّجْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ به 20: 90 أَيْ إِنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ أَمَرَ هَذَا الْعِجْلِ وَجَعَلَهُ يَخُورُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا لَكُمْ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ 20: 90 أي لا هذا فَاتَّبِعُونِي 20: 90 أَيْ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى 20: 90- 91 يَشْهَدُ اللَّهُ لِهَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً 4: 79 أَنَّهُ نَهَاهُمْ وَزَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يطيعوه ولم يتبعوه ثم أقبل موسى عَلَى السَّامِرِيِّ قَالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ 20: 95 أَيْ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا به 20: 96 أَيْ رَأَيْتُ جِبْرَائِيلَ وَهُوَ رَاكِبٌ(1/287)
فرسا فَقَبَضْتُ قَبْضَةً من أَثَرِ الرَّسُولِ 20: 96 أَيْ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ. وَقَدْ ذَكَرَ بعضهم أنه رآه وكلما وَطِئَتْ بِحَوَافِرِهَا عَلَى مَوْضِعٍ اخْضَرَّ وَأَعْشَبَ فَأَخَذَ مِنْ أَثَرِ حَافِرِهَا فَلَمَّا أَلْقَاهُ فِي هَذَا الْعِجْلِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الذَّهَبِ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ وَلِهَذَا قَالَ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي. قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ 20: 96- 97 وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَمَسَّ أَحَدًا مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى مَسِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسُّهُ. هَذَا مُعَاقَبَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فِي الْأُخْرَى فَقَالَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ 20: 97 وقرئ لَنْ نُخْلِفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً 20: 97 قَالَ فَعَمَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا العجل فحرقه بالنار كما قاله قتادة وغيره. وقيل بالبارد كَمَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ نَصُّ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْبَحْرِ وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَشَرِبُوا فَمَنْ كَانَ مِنْ عَابِدِيهِ عَلَّقَ عَلَى شِفَاهِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الرَّمَادِ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقِيلَ بَلِ اصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً 20: 98 وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ 7: 152 وَهَكَذَا وَقَعَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ 7: 152 مسجلة لكل صاحب بدعة الى يوم القيمة. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى عَبِيدِهِ فِي قَبُولِهِ تَوْبَةَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ بِتَوْبَتِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ من بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 7: 153 لَكِنْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَوْبَةَ عَابِدِي الْعِجْلِ إِلَّا بِالْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 2: 54 فَيُقَالُ إِنَّهُمْ أَصْبَحُوا يَوْمًا وَقَدْ أَخَذَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ فِي أَيْدِيهِمُ السُّيُوفَ وَأَلْقَى الله عليهم ضَبَابًا حَتَّى لَا يَعْرِفَ الْقَرِيبُ قَرِيبَهُ وَلَا النَّسِيبُ نَسِيبَهُ. ثُمَّ مَالُوا عَلَى عَابِدِيهِ فَقَتَلُوهُمْ وَحَصَدُوهُمْ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَتَلُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ 7: 154 استدل بعضهم بقوله وفي نسختها عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ كَانَتْ عَلَى أَثَرِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ 7: 138.
وَهَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ كَانَتْ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ بِلَادَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِقَتْلِ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ قَتَلُوا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ. ثُمَّ ذَهَبَ مُوسَى يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فَغُفِرَ لَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الْآخِرَةِ(1/288)
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قَالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 7: 155- 157 ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ كَانُوا عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَعَهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَيُوشَعُ وَنَادَابُ وَأَبِيهُو ذَهَبُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْتَذِرُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَتَطَيَّبُوا وَيَتَطَهَّرُوا وَيَغْتَسِلُوا فَلَمَّا ذَهَبُوا مَعَهُ وَاقْتَرَبُوا مِنَ الْجَبَلِ وَعَلَيْهِ الْغَمَامُ وَعَمُودُ النُّورِ سَاطِعٌ وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا قَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 2: 75 وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله 9: 6 أَيْ مُبَلَّغًا وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ سَمِعُوهُ مُبَلَّغًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزَعَمُوا أَيْضًا أَنَّ السَّبْعِينَ رَأَوُا اللَّهَ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الرُّؤْيَةَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 2: 55- 56 وَقَالَ هَاهُنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ من قَبْلُ وَإِيَّايَ 7: 155 الْآيَةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ. وَقَالَ انْطَلَقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ وَسَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبَّهُ وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ فَطَلَبَ مِنْهُ السَّبْعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ فَقَالَ أَفْعَلُ فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِي الْغَمَامِ وَقَالَ لِلْقَوْمِ ادْنُوا وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا فَسَمِعُوهُ وهو يكلم موسى يأمره وَيَنْهَاهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ وَانْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامَ أَقْبَلَ اليهم قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فاخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فالتقت أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعًا فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا 7: 155 أَيْ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنَّا فَإِنَّا بُرَآءُ مِمَّا عَمِلُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ إِنَّمَا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْهَوْا قَوْمَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَوْلُهُ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ 7: 155 أَيِ اخْتِبَارُكَ وَابْتِلَاؤُكَ وَامْتِحَانُكَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. يَعْنِي أَنْتَ الَّذِي قَدَّرْتَ هَذَا وَخَلَقْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ اخْتِبَارًا تَخْتَبِرُهُمْ(1/289)
بِهِ كَمَا قَالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ به 20: 90 أي أختبرتم وَلِهَذَا قَالَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي من تَشاءُ 7: 155 أَيْ مَنْ شِئْتَ أَضْلَلْتَهُ بِاخْتِبَارِكَ إِيَّاهُ وَمَنْ شئت هديته لك الحكم والمشيئة ولا مَانِعَ وَلَا رَادَّ لِمَا حَكَمْتَ وَقَضَيْتَ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ 7: 155- 156 أَيْ تُبْنَا إِلَيْكَ وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ. قَالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ 7: 156 أَيْ أَنَا أُعَذِّبُ مَنْ شِئْتُ بِمَا أَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَخْلُقُهَا وَأُقَدِّرُهَا وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ 7: 156 كَمًّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إِنَّ الله لما فرغ من خلق السموات وَالْأَرْضِ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ 7: 156 أي فسأوحيها حَتْمًا لِمَنْ يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ 7: 157 الْآيَةَ وَهَذَا فِيهِ تَنْوِيهٌ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم وأمته من الله لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جُمْلَةِ مَا نَاجَاهُ بِهِ وَأَعْلَمَهُ وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَجِدُّ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْآخِرُونَ فِي الْخَلْقِ السَّابِقُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً أَنَاجِيلُهُمْ فِي صدورهم يقرءونها وكان من قبلهم يقرءون كِتَابَهُمْ نَظَرًا حَتَّى إِذَا رَفَعُوهَا لَمْ يَحْفَظُوا شَيْئًا وَلَمْ يَعْرِفُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ مِنَ الْحِفْظِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا عن الْأُمَمِ قَالَ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَبِالْكِتَابِ الْآخِرِ ويقاتلون فصول الضَّلَالَةِ حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً صَدَقَاتُهُمْ يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَقُبِلَتْ مِنْهُ بَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكْلَتْهَا وَإِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ تُرِكَتْ فَتَأْكُلُهَا السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ وَإِنَّ اللَّهَ أَخَذَ صَدَقَاتِكُمْ مِنْ غَنِيِّكُمْ لِفَقِيرِكُمْ قَالَ رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ رَبِّ فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ قَالَ رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْمُشَفَّعُونَ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ قال قَتَادَةُ فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبَذَ الْأَلْوَاحَ وَقَالَ اللَّهمّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ مُنَاجَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَوْرَدُوا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا أَصْلَ لَهَا وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَحُسْنِ هِدَايَتِهِ وَمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ.(1/290)
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ذِكْرُ سُؤَالِ كَلِيمِ اللَّهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَرْفَعِهِمْ مَنْزِلَةً أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ الطَّائِيُّ بِمَنْبَجَ حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ شَيْخَانِ صَالِحَانِ سَمِعْنَا الشَّعْبِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً فَقَالَ رجل يحيى بعد ما يدخل أهل الْجَنَّةَ فَيُقَالُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ كَيْفَ أَدْخُلُ الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا إخاذاتهم فَيُقَالُ لَهُ تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْجَنَّةِ مِثْلُ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ فَيُقَالُ لَكَ هَذَا وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ رَضِيتُ فَيُقَالُ لَهُ لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ وَسَأَلَ رَبَّهُ أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً قَالَ سَأُحَدِّثُكَ عَنْهُمْ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الله عز وجل فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ 32: 17 الْآيَةَ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِهِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ (فَيُقَالُ لَهُ أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ مُلْكِ مَلِكٍ مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ رَضِيتُ رَبِّ فَيَقُولُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ فَيَقُولُ فِي الخامسة رضيت رب فيقال هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ فَيَقُولُ رَضِيتُ رَبِّ قَالَ رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غرس كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ قَالَ وَمِصْدَاقُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 32: 17 وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ فَلَمْ يَرْفَعْهُ وَالْمَرْفُوعُ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانِ (ذِكْرُ سُؤَالِ الْكَلِيمِ رَبَّهُ عَنْ خِصَالٍ سَبْعٍ) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن محمد بن مسلم بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سِتِّ خِصَالٍ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا لَهُ خَالِصَةٌ وَالسَّابِعَةُ لَمْ يَكُنْ مُوسَى يُحِبُّهَا. قَالَ يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَتْقَى. قَالَ الَّذِي يَذْكُرُ وَلَا يَنْسَى قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَهْدَى قَالَ الَّذِي يَتَّبِعُ الْهُدَى قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَحْكَمُ قَالَ الَّذِي يَحْكُمُ لِلنَّاسِ كَمَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ. قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ قَالَ عَالِمٌ لَا يَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ يَجْمَعُ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ. قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعَزُّ. قَالَ الَّذِي إِذَا قَدَرَ غَفَرَ قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَغْنَى قَالَ الَّذِي يَرْضَى بِمَا يُؤْتَى قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَفْقَرُ قَالَ صَاحِبٌ مَنْقُوصٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ ظَهْرٍ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فِي نَفْسِهِ وَتُقَاهُ فِي قَلْبِهِ. وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ قَوْلُهُ صَاحِبٌ مَنْقُوصٌ يُرِيدُ بِهِ مَنْقُوصَ حَالَتِهِ يَسْتَقِلُّ مَا أُوتِيَ وَيَطْلُبُ الْفَضْلَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابن حميد عن يعقوب التميمي عن هارون بن عبيرة عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ قَالَ (أَيْ رَبِّ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ قَالَ الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ(1/291)
الى علمه عسى أن يجد كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى. قَالَ أَيْ رَبِّ فَهَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنِّي قَالَ نَعَمْ الْخَضِرُ فَسَأَلَ السبيل الى لقيه فَكَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ
ذِكْرُ حَدِيثٍ آخَرَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ مُوسَى قَالَ أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ الْمُؤْمِنُ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ فَفُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ. فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَوْ كان مقطع الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لَمْ يَرَ بُؤْسًا قَطُّ قَالَ ثُمَّ قَالَ أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ الْكَافِرُ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ فَفُتِحَ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ فَقَالَ أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لَمْ يَرَ خَيْرًا قَطُّ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ (ذِكْرُ سُؤَالِ كَلِيمِ اللَّهِ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يُعَلِّمَهُ شَيْئًا يَذْكُرُهُ بِهِ) حَدَّثَنَا ابن سلمة حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ إِنَّ دَرَّاجًا حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ) قَالَ قُلْ يَا مُوسَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا. قَالَ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ. قَالَ يَا مُوسَى لَوْ أَنَّ أهل السموات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ. وَأَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى مَعْنَاهُ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَطِيَّةَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرحمن الدسكى حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ فَخُذْ زُجَاجَتَيْنِ فِي يَدَيْكَ فَقُمِ اللَّيْلَ فَفَعَلَ مُوسَى فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثُ نَعَسَ فَوَقَعَ لِرُكْبَتَيْهِ ثُمَّ انْتَعَشَ فَضَبَطَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ نَعَسَ فَسَقَطَتِ الزُّجَاجَتَانِ فَانْكَسَرَتَا.
فَقَالَ يَا مُوسَى لو كنت أنام لسقطت السموات وَالْأَرْضُ فَهَلَكْنَ كَمَا هَلَكَتِ الزُّجَاجَتَانِ فِي يَدَيْكَ. قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ شِبْلٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ يَنَامُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَرْسَلَ(1/292)
اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلِّ يَدِ قَارُورَةٌ وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا قَالَ فَجَعَلَ يَنَامُ وَكَادَتْ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ فَيَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى حَتَّى نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ قَالَ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا أَنْ لَوْ كَانَ ينام لم يستمسك السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَفْعُهُ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا. وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ إِسْرَائِيلِيًّا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ من الْخاسِرِينَ 2: 63- 64 وَقَالَ تَعَالَى وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 7: 171 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ لَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ أَمَرَهُمْ بِقَبُولِهَا وَالْأَخْذِ بِهَا بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ فَقَالُوا انْشُرْهَا عَلَيْنَا فَإِنْ كَانَتْ أَوَامِرُهَا وَنَوَاهِيهَا سَهْلَةً قَبِلْنَاهَا فَقَالَ بَلِ اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا فَرَاجَعُوهُ مِرَارًا فَأَمْرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَرَفَعُوا الْجَبَلَ عَلَى رُءُوسِهِمْ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أَيْ غَمَامَةٌ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ إِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا وَإِلَّا سَقَطَ هَذَا الْجَبَلُ عَلَيْكُمْ فَقَبِلُوا ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ بِشِقِّ وُجُوهِهِمْ فَصَارَتْ سُنَّةً لِلْيَهُودِ إِلَى الْيَوْمِ يَقُولُونَ لَا سَجْدَةَ أَعْظَمُ مِنْ سَجْدَةٍ رَفَعَتْ عَنَّا الْعَذَابَ. وَقَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فَلَمَّا نَشَرَهَا لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا اهْتَزَّ فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ تَقْرَأُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ إِلَّا اهْتَزَّ وَنَفَضَ لَهَا رَأْسَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ 2: 64 أَيْ ثُمَّ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ هَذَا الْمِيثَاقِ الْعَظِيمِ وَالْأَمْرِ الْجَسِيمِ نَكَثْتُمْ عُهُودَكُمْ وَمَوَاثِيقَكُمْ فَلَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ 2: 64 بان تدارككم بالإرسال إليكم وإنزال الكتب عليكم لَكُنْتُمْ من الْخاسِرِينَ 2: 64
قِصَّةُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَالله مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 2: 67- 73 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَ الْمَالِ وَكَانَ شيخا كبيرا وله(1/293)
بَنُو أَخٍ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ لِيَرِثُوهُ فَعَمَدَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ فِي اللَّيْلِ وَطَرْحَهُ فِي مَجْمَعِ الطُّرُقِ وَيُقَالُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ اخْتَصَمُوا فِيهِ وَجَاءَ ابْنُ أَخِيهِ فَجَعَلَ يَصْرُخُ وَيَتَظَلَّمُ فَقَالُوا مَا لَكُمْ تَخْتَصِمُونَ وَلَا تَأْتُونَ نَبِيَّ اللَّهِ فَجَاءَ ابْنُ أَخِيهِ فَشَكَى أَمْرَ عَمِّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْقَتِيلِ إِلَّا أَعْلَمَنَا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ علم منه وَسَأَلُوهُ أَنَّ يَسْأَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَسَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً 2: 67 يَعْنُونَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرِ هَذَا الْقَتِيلِ وَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ من الْجاهِلِينَ 2: 67 أَيْ أَعُوذُ باللَّه أَنْ أَقُولَ عَنْهُ غَيْرَ مَا أَوْحَى إِلَيَّ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجَابَنِي حِينَ سَأَلْتُهُ عَمَّا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ أَنْ أَسْأَلَهُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ فَلَوْ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى أَيِّ بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ منها ولكنهم شددوا فشدد عَلَيْهِمْ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ. وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ فَسَأَلُوا عَنْ صِفَتِهَا ثُمَّ عَنْ لَوْنِهَا ثُمَّ عَنْ سِنِّهَا فَأُجِيبُوا بِمَا عَزَّ وُجُودُهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ عَوَانٍ وَهِيَ الْوَسَطُ بَيْنَ النِّصْفِ الْفَارِضِ وَهِيَ الْكَبِيرَةُ وَالْبِكْرُ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ. ثُمَّ شَدَّدُوا وَضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَسَأَلُوا عَنْ لَوْنِهَا فَأُمِرُوا بِصَفْرَاءَ فَاقِعٍ لَوْنُهَا أَيْ مُشْرَبٍ بِحُمْرَةٍ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ وَهَذَا اللَّوْنُ عَزِيزٌ. ثم شددوا أيضا ف قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ الله لَمُهْتَدُونَ 2: 70 فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَثْنَوْا لَمَا أُعْطُوا وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ 2: 71 وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أَضْيَقُ مِمَّا تَقَدَّمَ حَيْثُ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ لَيْسَتْ بِالذَّلُولِ وَهِيَ الْمُذَلَّلَةُ بِالْحِرَاثَةِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ بِالسَّانِيَةِ مُسَلَّمَةٌ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا عَيْبَ فِيهَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ. وقوله لا شِيَةَ فِيها 2: 71 أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَهَا بَلْ هِيَ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ وَمِنْ مُخَالَطَةِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ غَيْرِ لَوْنِهَا فَلَمَّا حَدَّدَهَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَحَصَرَهَا بِهَذِهِ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ 2: 71 وَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَانَ بَارًّا بِأَبِيهِ فَطَلَبُوهَا مِنْهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَأَرْغَبُوهُ فِي ثمنها حتى أعطوه فيما ذكره السُّدِّيُّ بِوَزْنِهَا ذَهَبًا فَأَبَى عَلَيْهِمْ حَتَّى أَعْطَوْهُ بِوَزْنِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ فَبَاعَهَا مِنْهُمْ فَأَمَرَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى بِذَبْحِهَا فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ 2: 71 أَيْ وَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِهَا. ثُمَّ أَمَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَضْرِبُوا ذَلِكَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا. قِيلَ بِلَحْمِ فَخِذِهَا. وَقِيلَ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ. وَقِيلَ بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ فَلَمَّا ضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَامَ وَهُوَ يشخب أَوْدَاجُهُ فَسَأَلَهُ نَبِيُّ اللَّهِ مَنْ قَتَلَكَ قَالَ قَتَلَنِي ابْنُ أَخِي. ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كان قال الله تعالى(1/294)
كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 2: 73 أَيْ كَمَا شَاهَدْتُمْ إِحْيَاءَ هَذَا الْقَتِيلِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ كَذَلِكَ أَمْرُهُ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى إِذَا شَاءَ إِحْيَاءَهُمْ أَحْيَاهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالَ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ 31: 28 الآية
قصة موسى والخضر عليهما السلام
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً. فَلَمَّا جاوَزا قَالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً. قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً. قَالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً. قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً. قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها. قَالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قَالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قَالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً. وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً. وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً 18: 60- 82 قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِنَّ مُوسَى هَذَا الَّذِي رَحَلَ إِلَى الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ صُحُفِهِمْ وَيَنْقُلُ عَنْ كُتُبِهِمْ مِنْهُمْ نَوْفُ بْنُ فَضَالَةَ الْحِمْيَرِيُّ الشَّامِيُّ الْبِكَالِيُّ. وَيُقَالُ إِنَّهُ دِمَشْقِيٌّ وَكَانَتْ أُمُّهُ زَوْجَةَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ وَنَصُّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عمر بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ(1/295)
جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ. حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ وَكَيْفَ لِي بِهِ. قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ. فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ بِمِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتَ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا. وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الغد قَالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً 18: 62 وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ قَالَ لَهُ فَتَاهَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ عَجَباً 18: 63 قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً 18: 64 قَالَ فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً 18: 67 يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أعلمه فقال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً 18: 69 قال له الخضر فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً 18: 70 فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ. فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قَالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً 18: 71- 73 قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ على الساحل إذ بصر الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً 18: 74- 75 قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ 18: 76- 77 قَالَ مَائِلٌ فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقامَهُ 18: 77 فَقَالَ موسى قوم أتيناهم فلم يطمعونا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قَالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ(1/296)
ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً 18: 77- 78 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ 18: 79 صَالِحَةٍ غَصْباً 18: 79 وَكَانَ يَقْرَأُ؟ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ. 18: 80؟ ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ. وَفِيهِ فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَمَعَهُمَا الْحُوتُ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَنَزَلَا عِنْدَهَا قَالَ فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ فَنَامَ قَالَ سُفْيَانُ وَفِي حَدِيثِ غَيْرِ عَمْرٍو قَالَ وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ فَأَصَابَ الْحُوتُ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ قَالَ فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنَ الْمِكْتَلِ وَدَخَلَ الْبَحْرَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قال لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا 18: 62 وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ إِذْ قَالَ سَلُونِي فَقُلْتُ أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ نَوْفٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِي قَالَ قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ وَأَمَّا يَعْلَى فَقَالَ لِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ قَالَ ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ وَلَّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ لَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ قِيلَ بَلَى قَالَ أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ قَالَ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ قَالَ أَيْ رَبِّ اجْعَلْ لِي عِلْمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ قَالَ لِي عَمْرٌو قَالَ حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ وَقَالَ لِي يَعْلَى قَالَ خُذْ حُوتًا مَيِّتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ فَقَالَ لِفَتَاهُ لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ قَالَ مَا كَلَّفْتَ كَبِيرًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَإِذْ قَالَ مُوسى لِفَتاهُ 18: 60 يوشع بين نون. ليست عن سعيد ابن جُبَيْرٍ قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ فَقَالَ فَتَاهَ لَا أُوقِظُهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْبَحْرِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ قَالَ لِي عَمْرٌو هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ وَحَلَّقَ بين إبهاميه واللتين تليان لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً 18: 62 قَالَ وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ قَالَ سَعِيدٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ هَلْ بِأَرْضٍ مِنْ سَلَامٍ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا شَأْنُكَ قَالَ جئتك أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً 18: 66 قَالَ أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ يَا مُوسَى إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ(1/297)
فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ 18: 71 وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الْآخَرِ عَرَفُوهُ فَقَالُوا عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ. قَالَ فَقُلْنَا لِسَعِيدٍ (خَضِرٌ) قَالَ نَعَمْ. لَا نَحْمِلُهُ بأجر خَرَقَها 18: 71 وَوَتَّدَ فِيهَا وَتِدًا قَالَ مُوسَى أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً 18: 71 قَالَ مُجَاهِدٌ مُنْكَرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً 18: 72 كَانَتِ الْأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا قَالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ 18: 73- 74 قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بالسكين قال أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً 18: 74 لَمْ تَعْمَلْ بِالْخَبَثِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا زَكِيَّةً زَاكِيَةً مُسْلِمَةً كَقَوْلِكَ غُلَامًا زَكِيًّا فَانْطَلَقَا فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ 18: 77 قال بِيَدِهِ هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ قَالَ يَعْلَى حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً 18: 77 قَالَ سَعِيدٌ أَجْرًا نَأْكُلُهُ وَكانَ وَراءَهُمْ 18: 79 وَكَانَ أَمَامَهُمْ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ. مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ وَالْغُلَامُ الْمَقْتُولُ يَزْعُمُونَ جَيْسُورُ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً 18: 79 فَإِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ يَدَعُهَا بِعَيْبِهَا فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سدوها بقارورة ومنهم من يقول بالقار؟ كان أبواه مؤمنين وَكَانَ كَافِرًا فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا 18: 80؟ أَيْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً 18: 81 لقوله أقتلت نفسا زكية وَأَقْرَبَ رُحْماً 18: 81 هما به أرحم منهما بالأول الّذي قتل خضر وزعم سعيد بن جبير أنه ابن لا جَارِيَةً وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إِنَّهَا جَارِيَةٌ وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَبَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ باللَّه وَبِأَمْرِهِ مِنِّي فَأُمِرَ أَنْ يَلْقَى هَذَا الرَّجُلَ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْحَسَنِ بن عمارة عن الحكم بن عيينة عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ شَيْئًا قَالَ نَعَمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَصَّيْنَا طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَلْفَاظَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الكهف وللَّه الحمد. وَقَوْلُهُ وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ 18: 82 قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَهُمَا أَصْرَمُ وَصَرِيمُ ابْنَا كَاشِحَ. وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما 18: 82 قِيلَ كَانَ ذَهَبًا قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقِيلَ عِلْمًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبًا فِيهِ عِلْمٌ قَالَ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعيد الجوهري حدثنا بشر ابن المنذر حدثنا الحرث بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَحْصُبِيُّ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عباس الغساني عن بن حُجَيْرَةَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ قَالَ إِنَّ الْكَنْزَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لَوْحٌ من الذهب مُصْمَتٍ. عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ نَصِبَ وعجبت(1/298)
لمن ذكر النار لم ضحك وعجبت لمن ذكر الموت كيف غَفَلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عن الحسن البصري وعمر مولى عفرة وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ نَحْوُ هَذَا وَقَوْلُهُ وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً 18: 82 وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ الْأَبَ السَّابِعَ وَقِيلَ الْعَاشِرَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يُحْفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ فاللَّه الْمُسْتَعَانُ. وَقَوْلُهُ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ 18: 82 دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَأَنَّهُ مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ بِأَمْرِ رَبِّهِ فَهُوَ نَبِيٌّ وَقِيلَ رَسُولٌ وَقِيلَ وَلِيٌّ وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَنْ قَالَ كَانَ مَلَكًا قُلْتُ وَقَدْ أَغْرَبَ جِدًّا مَنْ قَالَ هُوَ ابْنُ فِرْعَوْنَ وَقِيلَ إِنَّهُ ابْنُ ضَحَّاكٍ الَّذِي مَلَكَ الدُّنْيَا أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ عَلَى مُقَدَّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ كَانَ أَفْرِيدُونَ وَذُو الْفَرَسِ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ. وَزَعَمُوا أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ فَخَلَدَ وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآنَ. وَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ وَقِيلَ اسْمُهُ مَلْكَانُ وَقِيلَ أرميا بن خلقيا وَقِيلَ كَانَ نَبِيًّا فِي زَمَنِ سَبَاسِبَ بْنِ لَهْرَاسِبَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ كَانَ بَيْنَ أَفْرِيدُونَ وَبَيْنَ سَبَاسِبَ دُهُورٌ طَوِيلَةٌ لَا يَجْهَلُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ وَاسْتَمَرَّ حَيًّا إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السلام وكانت نبوة موسى في زمن منو شهر الَّذِي هُوَ مِنْ وَلَدِ إِيرَجَ بْنِ أَفْرِيدُونَ أَحَدِ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَكَانَ إِلَيْهِ الْمُلْكُ بَعْدَ جَدِّهِ أَفْرِيدُونَ لِعَهْدِهِ وَكَانَ عَادِلًا وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَنْدَقَ الْخَنَادِقَ وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ دِهْقَانًا وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ قَرِيبًا مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَقَدْ ذُكِرَ عنه من الخطب الحسان والكليم الْبَلِيغِ النَّافِعِ الْفَصِيحِ مَا يُبْهِرُ الْعَقْلَ وَيُحَيِّرُ السَّامِعَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْخَلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قال أَأَقْرَرْتُمْ 3: 81 الآية فَأَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ كُلِّ نَبِيٍّ عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَنْصُرُهُ فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي زَمَانِهِ لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُ وَالِاجْتِمَاعُ بِهِ وَالْقِيَامُ بِنَصْرِهِ وَلَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَحْتَ لِوَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا كَانَ تَحْتَهَا جِبْرِيلُ وَسَادَاتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقُصَارَى الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَهُوَ الْحَقُّ أَوْ رَسُولًا كَمَا قِيلَ أَوْ مَلَكًا فِيمَا ذُكِرَ وَأَيًّا مَا كَانَ فَجِبْرِيلُ رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ وَمُوسَى أَشْرَفُ مِنَ الْخَضِرِ وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَنُصْرَتُهُ فَكَيْفَ إِنْ كَانَ الْخَضِرُ وَلِيًّا كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ فَأَوْلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْبَعْثَةِ وَأَحْرَى وَلَمْ يُنْقَلْ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ بَلْ وَلَا ضَعِيفٍ يُعْتَمَدُ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اجْتَمَعَ بِهِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ التَّعْزِيَةِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ رَوَاهُ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَسَنُفْرِدُ لِخَضِرٍ تَرْجَمَةً عَلَى حِدَةٍ بَعْدَ هَذَا(1/299)
ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمُلَقَّبِ بِحَدِيثِ الْفُتُونِ الْمُتَضَمِّنِ قِصَّةَ مُوسَى مَبْسُوطَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً 20: 40 (حَدِيثُ الْفُتُونِ) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بن عباس عن قول الله تعالى وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً 20: 40 فسأله عَنِ الْفُتُونِ مَا هُوَ فَقَالَ اسْتَأْنِفِ النَّهَارَ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنْتَجِزَ مِنْهُ مَا وَعَدَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ فَقَالَ تذكر فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ مَا يَشُكُّونَ فِيهِ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا لَيْسَ هَكَذَا كَانَ وَعْدُ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ فِرْعَوْنُ فَكَيْفَ ترون فأتمروا وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ وَالصِّغَارَ يُذْبَحُونَ قَالُوا تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ الَّذِي كَانُوا يَكْفُونَكُمْ فَاقْتُلُوا عَامًا كل مولود ذكر فتقل بناتهم وَدَعُوا عَامًا فَلَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا فَيَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إياكم ولن تفتنوا بِمَنْ تَقْتُلُونَ وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الّذي لا تقتل فِيهِ الْغِلْمَانُ فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً. فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حَمَلَتْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بطن أمه مما يراد فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَتُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ فَلَمَّا وَلَدَتْ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا مَا فَعَلْتُ بِابْنِي لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ إِلَى دَوَابِّ الْبَحْرِ وَحِيتَانِهِ فَانْتَهَى الْمَاءُ بِهِ حَتَّى أَوْفَى عِنْدَ فُرْضَةٍ تَسْتَقِي مِنْهَا جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَخَذْنَهُ فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ فَقَالَ بَعْضُهُنَّ إِنَّ فِي هَذَا مَالًا وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه فحملته كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُخْرِجْنَ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى دَفَعْنَهُ إِلَيْهَا فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ غُلَامًا فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةٌ لَمْ تُلْقَ مِنْهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا بِشِفَارِهِمْ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ لِيَذْبَحُوهُ وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَتْ لَهُمْ أَقِرُّوهُ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى آتِيَ فِرْعَوْنَ(1/300)
فاستوهبه منه فان وهبه منى كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لم ألمكم فأتت فرعون فقالت قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ 28: 9 فَقَالَ فِرْعَوْنُ يَكُونُ لَكِ فَأَمَّا لِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أقر فرعون أن يكون قرة عين له كَمَا أَقَرَّتِ امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا ولكن حَرَمَهُ ذَلِكَ) فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا إِلَى كل امرأة لها لأن تختار ظِئْرًا فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يُقْبِلْ عَلَى ثَدْيِهَا حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ فَأَحْزَنَهَا ذَلِكَ فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ الناس ترجو أن تجد له ضئرا يأخذه مِنْهَا فَلَمْ يَقْبَلْ وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهًا فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ هَلْ تَسْمَعِينَ له ذكرا أحىّ ابني أم قد أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ وَنَسِيَتْ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فيه فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون وَالْجُنُبُ أَنْ يَسْمُوَ بَصَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى شَيْءٍ بَعِيدٍ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ لَا يَشْعُرُ بِهِ فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وهم له ناصحون فقالوا ما يدريك ما نصحهم هل يعرفونه حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَتْ نُصْحُهُمْ لَهُ وَشَفَقَتُهُمْ عليه ورغبتهم فِي صِهْرِ الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَلِكِ فَأَرْسَلُوهَا فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا فَمَصَّهُ حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ رِيًّا وَانْطَلَقَ الْبَشِيرُ الى امرأة فرعون يبشرها أَنَّ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ ظِئْرًا فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ بِهَا وَبِهِ. فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا قَالَتِ امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا حُبَّهُ قَطُّ قَالَتْ أُمُّ مُوسَى لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتْرُكَ بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِينِيهِ فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي فَيَكُونَ مَعِي لَا آلُوهُ خَيْرًا فَعَلْتُ فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ مَوْعُودَهُ فَرَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا وأنبته الله نباتا حسنا وحفظ لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ مَا كَانَ فِيهِمْ فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِأُمِّ مُوسَى أَرِينِي ابْنِي فَوَعَدَتْهَا يَوْمًا تُرِيهَا إِيَّاهُ فِيهِ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فرعون لخزانها وظئورها وَقَهَارِمَتِهَا لَا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِيَ الْيَوْمَ بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ لِأَرَى ذَلِكَ فِيهِ وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينًا يُحْصِي كُلَّ مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ فَلَمْ تَزَلِ الْهَدَايَا وَالْكَرَامَةُ وَالنِّحَلُ تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينَ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنَّ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. فلما دخل عليها نحلته وأكرمته فرحت بِهِ وَنَحَلَتْ أُمَّهُ بِحُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَتْ لَآتِيَنَّ بِهِ فِرْعَوْنَ فَلَيَنْحِلَنَّهُ وَلَيُكْرِمَنَّهُ فَلَمَّا دخلت به وعليه جَعَلَهُ فِي حِجْرِهِ فَتَنَاوَلَ مُوسَى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ فَمَدَّهَا إِلَى الْأَرْضِ فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إبراهيم نبيه أنه زعم أن يرثك وَيَعْلُوكَ وَيَصْرَعُكَ فَأَرْسِلْ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيَذْبَحُوهُ. وَذَلِكَ من الفتون يا بن جُبَيْرٍ بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَأُرِيدَ به فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْعَى إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي وَهَبَتْهُ لِي فَقَالَ أَلَا تَرَيْنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي فَقَالَتِ اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا تَعْرِفُ فِيهِ الْحَقَّ ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ وَلُؤْلُؤَتَيْنِ فَقَرِّبْهُنَّ اليه فان بطش باللؤلؤتين(1/301)
وَاجْتَنَبَ الْجَمْرَتَيْنِ عَرَفْتَ أَنَّهُ يَعْقِلُ وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَهُوَ يَعْقِلُ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ فَانْتَزَعَهُمَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَحْرِقَا يَدَهُ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ أَلَّا تَرَى فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ الِامْتِنَاعِ. فَبَيْنَمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ وَالْآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَغَضِبَ مُوسَى غَضَبًا شَدِيدًا لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْ بَنِي إسرائيل وحفظه لهم مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ 28: 15 ثُمَّ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ في الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ 28: 16- 18 الاخبار فأتى فرعون فقيل له إن بنى إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم فقال ابغوني قاتله من يشهد عليه فان الملك وان كان صفوه مع قومه لا ينبغي له أن يقتل بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه وكره الّذي رأى فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني فقال للاسرائيلى لما فعل بالأمس واليوم إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ 28: 18 فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مَا قَالَ فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَقَالَ مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ فَتَتَارَكَا وَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ حِينَ يَقُولُ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى فَأَخَذَ رُسُلُ فِرْعَوْنَ الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ يَمْشُونَ عَلَى هِينَتِهِمْ يَطْلُبُونَ مُوسَى وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرَهُ. وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ لَمْ يَلْقَ بَلَاءً قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ إِلَّا حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ قَالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ 28: 22- 23 يَعْنِي بِذَلِكَ حَابِسَتَيْنِ غَنَمَهُمَا فَقَالَ لَهُمَا مَا خَطْبُكُما 28: 23 مُعْتَزِلَتَيْنِ لَا تَسْقِيَانِ مَعَ النَّاسِ قَالَتَا لَيْسَ لنا قوة تزاحم الْقَوْمَ وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ فُضُولَ حِيَاضِهِمْ فَسَقَى لَهُمَا فَجَعَلَ يَغْرِفُ مِنَ الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ وَانْصَرَفَتَا بِغَنَمِهِمَا إِلَى أَبِيهِمَا وانصرف موسى فاستظل بشجرة وَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 28: 23- 24 وَاسْتَنْكَرَ أَبُوهُمَا سُرْعَةَ صُدُورِهِمَا بِغَنَمِهِمَا حُفَّلًا بِطَانًا فَقَالَ إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا(1/302)
صَنَعَ مُوسَى فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ لَا تَخَفْ نجوت من القوم الظالمين ليس لفرعون ولا قومه عَلَيْنَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَسْنَا فِي مَمْلَكَتِهِ قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ من اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ 28: 26 فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهَا مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ وَمَا أَمَانَتُهُ فَقَالَتْ أَمَّا قُوَّتُهُ فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا لَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَيَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ فَلَمَّا عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ. ثُمَّ قَالَ لِي امْشِي خَلْفِي وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيقَ فَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا وَصَدَّقَهَا وَظَنَّ بِهِ الَّذِي قَالَتْ فَقَالَ لَهُ هَلْ لَكَ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ 28: 27 ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سِنِينَ وَاجِبَةً وَكَانَتِ السَّنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا. قَالَ سَعِيدُ هو ابن جُبَيْرٍ فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ قَالَ هَلْ تَدْرِي أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى قُلْتُ لَا وَأَنَا يَوْمَئِذٍ لَا أَدْرِي فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَمَا عَلِمَتْ أَنَّ ثَمَانِيَةً كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَاجِبَةً لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ لِيُنْقِصَ مِنْهَا شَيْئًا وَتَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدَتَهُ الَّتِي وَعَدَهُ فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ فَلَقِيتُ النَّصْرَانِيَّ فَأَخْبَرَتْهُ ذَلِكَ فَقَالَ الَّذِي سَأَلْتَهُ فَأَخْبَرَكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ قُلْتُ أَجَلْ وَأَوْلَى فَلَمَّا سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ كَانَ من أمر النار والعصي وَيَدِهِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يَتَخَوَّفُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الْقَتِيلِ وَعُقْدَةِ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هارون يكون لَهُ رَدْءًا وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ فَآتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحَلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ فَانْدَفَعَ مُوسَى بِعَصَاهُ حَتَّى لَقِيَ هَارُونَ فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَأَقَامَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمَا. ثُمَّ أُذِنَ لَهُمَا بَعْدَ حِجَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَقَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ فَمَا تُرِيدَانِ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُؤْمِنَ باللَّه وَتُرْسِلَ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ ائْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 26: 154 فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ 26: 32 عَظِيمَةٌ فَاغِرَةً فَاهَا مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمَّا رأى فرعون قاصدة اليه خافها واقتحم عَنْ سَرِيرِهِ وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ فَفَعَلَ ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ فَاسْتَشَارَ الْمَلَأَ حَوْلَهُ فِيمَا رَأَى فَقَالُوا لَهُ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى 20: 63 يَعْنِي مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْعَيْشَ وَأَبَوْا عَلَى مُوسَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مِمَّا طَلَبَ وَقَالُوا لَهُ اجْمَعِ السَّحَرَةَ فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا بِمَ يعمل السحر قَالُوا يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ قَالُوا فَلَا وَاللَّهِ مَا أحد من الأرض يعمل السحر بِالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ الَّذِي نَعْمَلُ وَمَا أَجْرُنَا إِنْ نَحْنُ غَلَبْنَا قَالَ لَهُمْ أَنْتُمْ أَقَارِبِي وخاصتي وأنا صانع(1/303)
إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ فَتَوَاعَدُوا يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى 20: 59 قَالَ سَعِيدٌ فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ يَوْمُ الزِّينَةِ 20: 59 الْيَوْمَ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَالسَّحَرَةِ هُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ قَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْطَلِقُوا فَلْنَحْضُرْ هَذَا الْأَمْرَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ 26: 40 يَعْنُونَ مُوسَى وَهَارُونَ اسْتِهْزَاءً بِهِمَا فَقَالُوا يا موسى بعد تريثهم بِسِحْرِهِمْ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ 7: 115. قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَرَأَى مُوسَى مِنْ سِحْرِهِمْ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا أَلْقَاهَا صَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا فَجَعَلَتِ الْعِصِيُّ تَلْتَبِسُ بِالْحِبَالِ حَتَّى صَارَتْ جرزا على الثعبان أن تَدْخُلُ فِيهِ حَتَّى مَا أَبْقَتْ عَصًا وَلَا حَبْلًا إِلَّا ابْتَلَعَتْهُ فَلَمَّا عَرَفَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ قالوا لو كان هذا سحرا لم تبلع مِنْ سِحْرِنَا كُلَّ هَذَا وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى آمَنَّا باللَّه وَبِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَنَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ فَكَسَرَ اللَّهُ ظَهَرَ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَأَشْيَاعِهِ وَظَهَرَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ 7: 118- 119 وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَارِزَةٌ مبتذلة تدعوا للَّه بِالنَّصْرِ لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ فَمَنْ رَآهَا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ظَنَّ أَنَّهَا إِنَّمَا ابْتُذِلَتْ لِلشَّفَقَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ وَإِنَّمَا كَانَ حُزْنُهَا وَهَمُّهَا لِمُوسَى فَلَمَّا طَالَ مُكْثُ مُوسَى بِمَوَاعِيدِ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةِ كُلَّمَا جَاءَ بِآيَةٍ وَعَدَهُ عِنْدَهَا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِذَا مضت أخلف من غده وَقَالَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ 5: 112 يَصْنَعَ غَيْرَ هَذَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يَشْكُو إِلَى مُوسَى وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ وَيُوَافِقَهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إسرائيل فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده وَنَكَثَ عَهْدَهُ حَتَّى أَمَرَ مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى البحر إذا ضربك موسى عبدي بِعَصَاهُ فَانْفَلِقِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى يَجُوزَ موسى ومن معه ثم التقى عَلَى مَنْ بَقِيَ بَعْدُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِالْعَصَا وَانْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ وَلَهُ قَصِيفٌ مَخَافَةَ أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَصِيرُ عَاصِيًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا قَالَ أصحاب موسى إنا لمدركون افْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ تَكْذِبْ قَالَ وَعَدَنِي رَبِّي إِذَا أَتَيْتُ الْبَحْرَ انْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى أجاوزه ثم ذكر بعد ذلك العصي فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ حِينَ دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَاخِرِ جُنْدِ مُوسَى فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَكَمَا وَعَدَ مُوسَى فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ الْتَقَى عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَ فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى قَالَ أَصْحَابُهُ إِنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرِقَ وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ فَدَعَا رَبَّهُ فَأَخْرَجَهُ لَهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 7: 138- 139 قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ الْعِبَرِ وَسَمِعْتُمْ مَا يَكْفِيكُمْ ومضى فأنزلهم موسى منزلا(1/304)
وقال أطيعوا هارون فان الله قد استخلفه عَلَيْكُمْ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فِيهَا فَلَمَّا أَتَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ صَامَهُنَّ لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ وَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فِيهِ رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ فَتَنَاوَلَ مُوسَى شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَضَغَهُ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ لِمَ أَفْطَرْتَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ قَالَ يَا رَبِّ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طيب الريح. قال أو ما عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ رِيحَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ارْجِعْ فَصُمْ عَشْرًا ثُمَّ ائْتِنِي فَفَعَلَ مُوسَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ فَلَمَّا رَأَى قَوْمُ مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ فِي الْأَجَلِ سَاءَهُمْ ذَلِكَ وَكَانَ هارون قد خطبهم فقال إِنَّكُمْ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عِنْدَكُمْ عَوَارِيُّ وَوَدَائِعُ وَلَكُمْ فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ وَأَنَا أَرَى أَنْ تَحْتَسِبُوا مَا لَكُمْ عِنْدَهُمْ وَلَا أُحِلُّ لَكُمْ وَدِيعَةً اسْتَوْدَعْتُمُوهَا وَلَا عَارِيَّةً وَلَسْنَا بِرَادِّينَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُمْسَكِيهِ لِأَنْفُسِنَا فَحَفَرَ حَفِيرًا وَأَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ من ذلك مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَنْ يَقْذِفُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَفِيرِ. ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهِ النَّارَ فَأَحْرَقَهُ فَقَالَ لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا لَهُمْ وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ جِيرَانٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاحْتَمَلَ مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ احْتَمَلُوا فَقُضِيَ لَهُ أَنْ رَأَى أَثَرًا فَقَبَضَ مِنْهُ قَبْضَةً فَمَرَّ بِهَارُونَ فَقَالَ لَهُ هَارُونُ يَا سَامِرِيُّ أَلَا تلقى ما في يديك وَهُوَ قَابِضٌ عَلَيْهِ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ طَوَالَ ذَلِكَ فَقَالَ هَذِهِ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاوَزَ بِكُمُ الْبَحْرَ وَلَا أُلْقِيهَا لِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ إِذَا أَلْقَيْتُهَا أَنْ يَكُونَ مَا أُرِيدُ فَأَلْقَاهَا وَدَعَا لَهُ هَارُونُ فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عِجْلًا فَاجْتَمَعَ مَا كَانَ فِي الْحُفْرَةِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ فَصَارَ عِجْلًا أَجْوَفَ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ لَهُ خُوَارٌ قَالَ ابْنُ عباس لا والله ما كان فيه صَوْتٌ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ مِنْ ذَلِكَ فَتَفَرَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا فَقَالَتْ فِرْقَةٌ يَا سَامِرِيُّ مَا هَذَا وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ قَالَ هَذَا رَبُّكُمْ وَلَكِنَّ مُوسَى أَضَلَّ الطَّرِيقَ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ لَا نُكَذِّبُ بِهَذَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى فَإِنْ كَانَ رَبُّنَا لَمْ نكن ضيعناه وعجزنا فيه حتى رَأَيْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبَّنَا فَإِنَّا نَتَّبِعُ قَوْلَ مُوسَى وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ بِرَبِّنَا وَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُصَدِّقُ وَأُشْرِبُ فِرْقَةٌ فِي قُلُوبِهِمُ الصِّدْقَ بِمَا قَالَ السَّامِرِيُّ فِي الْعِجْلِ وَأَعْلَنُوا التَّكْذِيبَ بِهِ فقال لهم هارون عليه السلام يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن لَيْسَ هَذَا قَالُوا فَمَا بَالُ مُوسَى وَعَدَنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَخْلَفَنَا. هَذِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَدْ مَضَتْ قَالَ سُفَهَاؤُهُمْ أَخْطَأَ رَبَّهُ فَهُوَ يَطْلُبُهُ وَيَبْتَغِيهِ فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ أَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسَفًا فَقَالَ لَهُمْ مَا سَمِعْتُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ 7: 150 وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَانْصَرَفَ إِلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ لَهُ ما حملك على ما صنعت قال قبضت قَبْضَةً من أَثَرِ الرَّسُولِ 20: 96 وفطنت لها وعميت عليكم فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ في الْيَمِّ نَسْفاً 20: 96- 97 ولو كان إلها لم يخلص إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ واغتبط(1/305)
الَّذِينَ كَانَ رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هَارُونَ فقالوا لجماعتهم يَا مُوسَى سَلْ لَنَا أَنْ يُفْتَحَ لَنَا باب توبة نصنعها فتكفر عَنَّا مَا عَمِلْنَا فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رجلا لذلك لا يألوا الْخَيْرَ خِيَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ في الحق فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ وَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فعل فقال لو شئت لأهلكتهم مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ منا وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ اللَّهُ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى مَا أُشْرِبَ قَلْبُهُ مِنْ حُبِّ الْعِجْلِ وَإِيمَانٍ به فلذلك رجفت بهم الأرض فقال رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ 7: 156- 157 فَقَالَ يَا رَبِّ سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي فَقُلْتَ إن رحمتي كَتَبْتَهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي فَلَيْتَكَ أَخَّرْتَنِي حَتَّى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم فَقَالَ لَهُ إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ فَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ لَا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ. وَتَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ خَفِيَ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَاطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِهَا وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا وَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا وَنَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يقع عليهم وأخذوا الكتاب بايمانهم وهم مصغون يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدو مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ خَلْقُهُمْ خَلْقٌ مُنْكَرٌ وذكر من ثمارهم أمرا عجبا مِنْ عِظَمِهَا فَقَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ. قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ قِيلَ لِيَزِيدَ هَكَذَا قَرَأَهُ قَالَ نَعَمْ مِنَ الجبارين آمنا بموسى وخرجنا إِلَيْهِ فَقَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِقَوْمِنَا إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ويقول أناس إنهم من قوم موسى فقال الذين يخافون من بنى إِسْرَائِيلَ قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ 5: 24 فَأَغْضَبُوا مُوسَى فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ فَاسْتَجَابَ الله لهم وَسَمَّاهُمْ كَمَا سَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَيَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً 2: 60 فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ مِنْهَا فَلَا يَرْتَحِلُونَ من محله إِلَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْحَجَرَ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بِالْأَمْسِ رَفَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِرْعَوْنِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَى مُوسَى أَمْرَ الْقَتِيلِ الَّذِي(1/306)
قَتَلَ فَقَالَ كَيْفَ يُفْشِي عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي حَضَرَ ذَلِكَ فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا إِسْحَاقَ هَلْ تَذْكُرُ يَوْمَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتِيلِ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَيْهِ أَمِ الْفِرْعَوْنِيُّ قَالَ إِنَّمَا أَفْشَى عَلَيْهِ الْفِرْعَوْنِيُّ بِمَا سَمِعَ الْإِسْرَائِيلِيَّ الَّذِي شَهِدَ ذَلِكَ وَحَضَرَهُ هَكَذَا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَكَوْنُهُ مَرْفُوعًا فِيهِ نَظَرٌ وَغَالِبُهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَفِيهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ مُصَرَّحٌ بِرَفْعِهِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَفِي بَعْضِ مَا فِيهِ نَظَرٌ وَنَكَارَةٌ وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يقول ذلك والله أَعْلَمُ
ذِكْرُ بِنَاءِ قُبَّةِ الزَّمَانِ
قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَمَلِ قُبَّةٍ مِنْ خَشَبِ الشَّمْشَارِ وَجُلُودِ الْأَنْعَامِ وَشَعْرِ الْأَغْنَامِ وَأَمَرَ بِزِينَتِهَا بِالْحَرِيرِ الْمُصَبَّغِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُفَصَّلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَهَا عَشْرُ سُرَادِقَاتٍ طُولُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ وَأَطْنَابٌ مِنْ حَرِيرٍ وَدِمَقْسٍ مُصَبَّغٍ وَفِيهَا رُفُوفٌ وَصَفَائِحُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَلِكُلِّ زَاوِيَةٍ بَابَانِ وَأَبْوَابٌ أُخَرُ كَبِيرَةٌ وَسُتُورٌ مِنْ حَرِيرٍ مُصَبَّغٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَبِعَمَلِ تَابُوتٍ مِنْ خَشَبِ الشَّمْشَارِ يَكُونُ طُولُهُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا وَعَرْضُهُ ذِرَاعَيْنِ وَارْتِفَاعُهُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا وَيَكُونُ مُضَبَّبًا بِذَهَبٍ خَالِصٍ مِنْ دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ وَلَهُ أَرْبَعُ حِلَقٍ فِي أَرْبَعِ زَوَايَاهُ وَيَكُونُ عَلَى حَافَّتَيْهِ كَرُوبِيَّانِ مِنْ ذَهَبٍ يَعْنُونَ صِفَةَ مَلِكَيْنِ باجنحة وهما متقابلان صفة رجل اسمه بصليال وأمراه أَنْ يَعْمَلَ مَائِدَةً مِنْ خَشَبِ الشَّمْشَارِ طُولُهَا ذراعا وَعَرْضُهَا ذِرَاعٌ وَنَصِفٌ لَهَا ضِبَابُ ذَهَبٍ وَإِكْلِيلُ ذَهَبٍ بِشَفَةٍ مُرْتَفِعَةٍ بِإِكْلِيلٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَرْبَعِ حلق من نواحيها من ذهب معزرة في مِثْلِ الرُّمَّانِ مِنْ خَشَبٍ مُلَبَّسٍ ذَهَبًا وَاعْمَلْ صِحَافًا وَمَصَافِيَ وَقِصَاعًا عَلَى الْمَائِدَةِ وَاصْنَعْ مَنَارَةً من الذهب دُلِيَّ فِيهَا سِتُّ قَصَبَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ كل جانب ثلاثة. عَلَى كُلِّ قَصَبَةٍ ثَلَاثُ سُرُجٍ وَلْيَكُنْ فِي الْمَنَارَةِ أَرْبَعُ قَنَادِيلَ وَلْتَكُنْ هِيَ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْآنِيَةِ مِنْ قِنْطَارٍ مِنْ ذَهَبٍ صَنَعَ ذَلِكَ بَصْلِيَالُ أَيْضًا وَهُوَ الَّذِي عَمِلَ الْمَذْبَحَ أَيْضًا وَنَصَبَ هَذِهِ الْقُبَّةَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ سَنَتِهِمْ وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الرَّبِيعِ وَنَصَبَ تَابُوتَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 2: 248 وَقَدْ بُسِطَ هَذَا الْفَصْلُ فِي كِتَابِهِمْ مُطَوَّلًا جِدًّا وَفِيهِ شَرَائِعُ لَهُمْ وَأَحْكَامٌ وَصِفَةُ قُرْبَانِهِمْ وَكَيْفِيَّتُهُ وَفِيهِ أَنَّ قُبَّةَ الزَّمَانِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ الَّذِي هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مجيء بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ كَالْكَعْبَةِ(1/307)
يُصَلُّونَ فِيهَا وَإِلَيْهَا وَيَتَقَرَّبُونَ عِنْدَهَا وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا دَخَلَهَا يَقِفُونَ عِنْدَهَا وَيُنْزِلُ عَمُودَ الْغَمَامِ عَلَى بَابِهَا فَيَخِرُّونَ عِنْدَ ذَلِكَ سُجَّدًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ وَيُكَلِّمُ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمُودِ الْغَمَامِ الَّذِي هُوَ نُورٌ وَيُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ التَّابُوتِ صَامِدٌ إِلَى مَا بين الكروبين فَإِذَا فُصِلَ الْخِطَابُ يُخْبِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ فِيهِ شَيْءٌ يَجِيءُ إِلَى قُبَّةِ الزَّمَانِ وَيَقِفُ عِنْدَ التَّابُوتِ وَيَصْمُدُ لِمَا بين ذينك الكروبين فَيَأْتِيهِ الْخِطَابُ بِمَا فِيهِ فَصْلُ تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَقَدْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَهُمْ فِي زَمَانِهِمْ أعنى استعمال الذهب والحرير المصبغ واللآلئ فِي مَعْبَدِهِمْ وَعِنْدَ مُصَلَّاهُمْ فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَلَا بَلْ قَدْ نُهِينَا عَنْ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَزْيِينِهَا لِئَلَّا تَشْغَلَ الْمُصَلِّينَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَسَّعَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي وَكَّلَهُ عَلَى عِمَارَتِهِ ابْنِ لِلنَّاسِ مَا يُكِنُّهُمْ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ الناس وقال ابن عباس لنزخرفنها كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَنَائِسَهُمْ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ غَيْرُ مُشَابِهَةٍ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ إِذْ جَمَعَ اللَّهُ هَمَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَصَانَ أَبْصَارَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ وَالتَّفَكُّرِ فِي غَيْرِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَقَدْ كَانَتْ قُبَّةُ الزَّمَانِ هَذِهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ يُصَلُّونَ إِلَيْهَا وَهِيَ قِبْلَتُهُمْ وَكَعْبَتُهُمْ وَإِمَامُهُمْ كَلِيمُ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُقَدِّمُ الْقُرْبَانِ أَخُوهُ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا مَاتَ هَارُونُ ثُمَّ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ اسْتَمَرَّتْ بَنُو هَارُونَ فِي الَّذِي كَانَ يَلِيهِ أَبُوهُمْ مِنْ أَمْرِ الْقُرْبَانِ وَهُوَ فِيهِمْ إِلَى الْآنَ وَقَامَ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ مُوسَى وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ فَتَاهَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ نَصَبَ هَذِهِ الْقُبَّةَ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا فَلَمَّا بَادَتْ صَلَّوْا إِلَى مَحِلَّتِهَا وَهِيَ الصَّخْرَةُ فَلِهَذَا كَانَتْ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ صَلَّى إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمَّا هَاجَرَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى إِلَيْهَا سِتَّةَ عَشَرَ وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقِيلَ الظُّهْرِ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الآيات(1/308)
قِصَّةُ قَارُونَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقال الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ. وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 28: 76- 83 قال الأعمش عن المنهال بن عمرو ابن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كان قارون بن عَمِّ مُوسَى وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَبْدُ الله ابن الحرث بْنِ نَوْفَلٍ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَقَتَادَةُ وَمَالِكُ ابن دِينَارٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَزَادَ فَقَالَ هُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنَ قَاهَثَ وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهَثَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى. وَرَدَّ قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ إِنَّهُ كَانَ عم موسى قال قتادة وكان يسمى النور لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ فَأَهْلَكَهُ الْبَغْيُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا تَرَفُّعًا عَلَى قَوْمِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَثْرَةَ كُنُوزِهِ حَتَّى إِنَّ مَفَاتِيحَهُ كان يثقل حملها على القيام مِنَ الرِّجَالِ الشِّدَادِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْجُلُودِ وَإِنَّهَا كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا فاللَّه أَعْلَمُ وَقَدْ وَعَظَهُ النُّصَحَاءُ مِنْ قومه قائلين لا تفرح أَيْ لَا تَبْطَرْ بِمَا أُعْطِيتَ وَتَفْخَرْ عَلَى غيرك إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ 28: 76- 77 يقولون لتكن همتك مسروفة لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ خير وأبقى ومع هذا لا تَنْسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيا 28: 77 أَيْ وَتَنَاوَلْ مِنْهَا بِمَالِكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ فَتَمَتَّعْ لِنَفْسِكَ بِالْمَلَاذِّ الطَّيِّبَةِ الْحَلَالِ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ 28: 77 أَيْ وَأَحْسِنْ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ خَالِقُهُمْ وَبَارِئُهُمْ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ في الْأَرْضِ 28: 77 أَيْ وَلَا تُسِئْ إِلَيْهِمْ وَلَا تُفْسِدْ فِيهِمْ فَتُقَابِلَهُمْ ضِدَّ مَا أُمِرْتَ فِيهِمْ فَيُعَاقِبَكَ وَيَسْلُبَكَ مَا وَهَبَكَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 28: 77 فما كان جواب قَوْمَهُ. لِهَذِهِ النَّصِيحَةِ الصَّحِيحَةِ الْفَصِيحَةِ إِلَّا أَنَّ قال إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي 28: 78 يَعْنِي أَنَا لَا أَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا ذَكَرْتُمْ وَلَا إِلَى مَا إِلَيْهِ أَشَرْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا لِعِلْمِهِ أَنِّي أَسْتَحِقُّهُ وَأَنِّي أَهْلٌ لَهُ وَلَوْلَا أَنِّي حَبِيبٌ إِلَيْهِ وَحَظِيٌّ عِنْدَهُ لَمَا(1/309)
أَعْطَانِي مَا أَعْطَانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ 28: 78 أَيْ قَدْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ قَارُونَ قُوَّةً وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَلَوْ كَانَ مَا قَالَ صَحِيحًا لَمْ نُعَاقِبْ أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ أَكْثَرَ ما لا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مَالُهُ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِنَا لَهُ وَاعْتِنَائِنَا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً 34: 37 وَقَالَ تَعَالَى أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ 23: 55- 56 وَهَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي 28: 78 وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ صَنْعَةَ الْكِيمْيَاءِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَاسْتَعْمَلَهُ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْكِيمْيَاءَ تَخْيِيلٌ وَصِبْغَةٌ لَا تُحِيلُ الْحَقَائِقَ وَلَا تُشَابِهُ صَنْعَةَ الْخَالِقِ وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ لَا يَصْعَدُ الدُّعَاءُ بِهِ مِنْ كَافِرٍ بِهِ وَقَارُونُ كَانَ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقًا فِي الظَّاهِرِ. ثُمَّ لَا يَصِحُّ جَوَابُهُ لَهُمْ بِهَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَلَا يَبْقَى بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَلَازُمٌ وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ وللَّه الْحَمْدُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ في زِينَتِهِ 28: 79 ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ مِنْ مَلَابِسَ وَمَرَاكِبَ وَخَدَمٍ وَحَشَمٍ فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُعَظِّمُ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُ وَغَبَطُوهُ بِمَا عَلَيْهِ وَلَهُ فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمُ الْعُلَمَاءُ ذَوُو الْفَهْمِ الصَّحِيحِ الزُّهَّادُ الْأَلِبَّاءُ قَالُوا لَهُمْ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً 28: 80 أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأَجَلُّ وَأَعْلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يلقاها إلا الصابرون أَيْ وَمَا يُلْقَى هَذِهِ النَّصِيحَةَ وَهَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهَذِهِ الْهِمَّةَ السَّامِيَةَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ الْعَلِيَّةِ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى زَهْرَةِ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ إِلَّا مِنْ هَدَى اللَّهُ قَلْبَهُ وَثَبَّتَ فُؤَادَهُ وَأَيَّدَ لُبَّهُ وَحَقَّقَ مُرَادَهُ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَالْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ. 28: 81 لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خُرُوجَهُ فِي زِينَتِهِ وَاخْتِيَالَهُ فِيهَا وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ بِهَا قَالَ فَخَسَفْنا به وَبِدارِهِ الْأَرْضَ 28: 81 كَمَّا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم نحوه. وقد ذكر ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ قَارُونَ أَعْطَى امْرَأَةً بَغِيًّا مَالًا عَلَى أَنْ تَقُولَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ إِنَّكَ فَعَلْتَ بِي كَذَا وَكَذَا فَيُقَالُ إِنَّهَا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَأَرْعَدَ مِنَ الْفَرَقِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك عَلَى ذَلِكَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ فَذَكَرَتْ أَنَّ قَارُونَ هُوَ الَّذِي حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَغْفَرَتِ اللَّهَ وَتَابَتْ إِلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَّ مُوسَى للَّه سَاجِدًا وَدَعَا اللَّهَ عَلَى قَارُونَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي قَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ فِيهِ فَأَمَرَ مُوسَى الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ وَدَارَهُ فَكَانَ ذَلِكَ فاللَّه أَعْلَمُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زينته مر(1/310)
بِجَحْفَلِهِ وَبِغَالِهِ وَمَلَابِسِهِ عَلَى مَجْلِسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يُذَكِّرُ قَوْمَهُ بِأَيَّامِ اللَّهِ فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ينظرون اليه فدعا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا فَقَالَ يَا مُوسَى أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلْتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ وَلَئِنْ شِئْتَ لَتَخْرُجَنَّ فَلَتَدْعُوَنَّ عَلَيَّ وَلَأَدْعُوَنَّ عَلَيْكَ فَخَرَجَ وَخَرَجَ قَارُونُ فِي قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى تَدْعُو أَوْ أَدْعُو قَالَ أَدْعُو أنا فدعى قَارُونُ فَلَمْ يُجَبْ فِي مُوسَى فَقَالَ مُوسَى أَدْعُو قَالَ نَعَمْ فَقَالَ مُوسَى اللَّهمّ مُرِ الأرض فلتطغى الْيَوْمَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ فَقَالَ مُوسَى يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ ثُمَّ قَالَ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ ثُمَّ إِلَى مَنَاكِبِهِمْ ثُمَّ قَالَ أَقْبِلِي بِكُنُوزِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَأَقْبَلَتْ بِهَا حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا ثُمَّ أَشَارَ مُوسَى بِيَدِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بَنِي لَاوِي فَاسْتَوَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ خُسِفَ بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا إِسْرَائِيلِيَّاتٍ كَثِيرَةً أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا وَتَرَكْنَاهَا قَصْدًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ من المُنْتَصِرِينَ 28: 81 لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاصِرٌ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) 86: 10 وَلَمَّا حَلَّ بِهِ مَا حَلَّ مِنَ الْخَسْفِ وذهاب الأموال وخراب الدار وإهلاك النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْعَقَارِ نَدِمَ مَنْ كَانَ تَمَنَّى مِثْلَ مَا أُوتِيَ وَشَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى الَّذِي يُدَبِّرُ عِبَادَهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ الْمَخْزُونِ وَلِهَذَا قَالُوا (لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) 28: 82 وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى لَفْظِ وَيْكَ فِي التَّفْسِيرِ وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ وَيْكَأَنَّ بِمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى والله أعلم. ثم أخبر تعالى (أن الدار الاخرة) وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي يُغْبَطُ مَنْ أُعْطِيَهَا وَيُعَزَّى مَنْ حُرِمَهَا إِنَّمَا هِيَ مُعَدَّةٌ لِلَّذِينِ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا. فَالْعُلُوُّ هُوَ التَّكَبُّرُ وَالْفَخْرُ وَالْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالْفَسَادُ هُوَ عَمَلُ الْمَعَاصِي اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِفْسَادِ مَعَايِشِهِمْ وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ وَعَدَمِ النُّصْحِ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 28: 83 وَقِصَّةُ قَارُونَ هَذِهِ قَدْ تَكُونُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ لِقَوْلِهِ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ 28: 81 فَإِنَّ الدَّارَ ظَاهِرَةٌ فِي الْبُنْيَانِ وَقَدْ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ وَتَكُونُ الدَّارُ عِبَارَةً عَنِ الْمَحِلَّةِ الَّتِي تُضْرَبُ فِيهَا الْخِيَامُ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ.
يَا دَارَ عَبْلَةَ بِالْجِوَاءِ تَكَلَّمِي ... وَعِمِي صَبَاحًا دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلِمِي
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَذَمَّةَ قَارُونَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ اللَّهُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ 40: 23- 24 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بَعْدَ ذِكْرِ عاد وثمود. وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءتهم رسلنا بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 29: 39- 40 فَالَّذِي خُسِفَ بِهِ(1/311)
الْأَرْضُ قَارُونُ كَمَا تَقَدَّمَ وَالَّذِي أُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَجُنُودُهُمَا إِنَّهُمْ كَانُوا خَاطِئِينَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
باب ذِكْرُ فَضَائِلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ ووفائه
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا 19: 51- 53. وَقَالَ تَعَالَى قَالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي 7: 144. وَتَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَصُعِقُ فَأَفَاقَ قَبْلِي أم جوزي بصعقة الطور. وقدمنا أَنَّهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ وَإِلَّا فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَطْعًا جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ. وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ 4: 163 إِلَى أَنْ قَالَ (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً) 4: 164 وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ الله وَجِيهاً 33: 69 قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا إسحاق بن إبراهيم بن رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلَاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يَرَى جِلْدَهُ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ أو أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أراد أن يبرأه مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجْرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلْقَ اللَّهُ وَبَرَّأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضربا بعصاه فو الله إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ الله وَجِيهاً 33: 69. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حديث عبد الرزاق من مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْهُ بِهِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ عنه(1/312)
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كَانَ مِنْ وَجَاهَتِهِ أَنَّهُ شَفَعَ فِي أَخِيهِ عِنْدَ اللَّهِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَزِيرًا فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَأَعْطَاهُ طَلِبَتَهُ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا كَمَا قَالَ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) 19: 53 ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إن هذه قسمة مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حجاج سمعت إسرائيل ابن يُونُسَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ مَوْلًى لِهَمْدَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي زَائِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ قَالَ وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالٌ فَقَسَمَهُ قَالَ فَمَرَرْتُ بِرَجُلَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِقِسْمَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَلَا الدَّارَ الْآخِرَةَ فَثَبَتُّ حَتَّى سَمِعْتُ مَا قَالَا. ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَنَا لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا وَإِنِّي مَرَرْتُ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَهُمَا يَقُولَانِ كَذَا وَكَذَا فَاحْمَرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَقَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ دَعْنَا مِنْكَ فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طريق ابن عبد عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنِ السُّدِّيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ ثبت في الصحيحين فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِمُوسَى فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ قَالَ أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ شَرِيكِ ابن أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَادَّةُ أَنَّ مُوسَى فِي السَّادِسَةِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ وَأَنَّهُ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَمَرَّ بِمُوسَى قَالَ ارجع الى ربك فسله التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَإِنِّي قَدْ عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَكَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ وَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُخَفِّفُ عَنْهُ فِي كل مرة حتى صارت الى خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ أَيْ بِالْمُضَاعَفَةِ فَجَزَى اللَّهُ عَنَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَجَزَى اللَّهُ عَنَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيْرًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حصين(1/313)
ابن نُمَيْرٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ عُرِضْتَ عَلَيَّ الْأُمَمُ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ. هَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هَاهُنَا مُخْتَصَرًا وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُطَوَّلًا فقال حدثنا شريح حدثنا هشام حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ قُلْتُ أنا ثم قلت إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنْ لُدِغْتُ. قَالَ وَكَيْفَ فَعَلْتَ قُلْتُ اسْتَرْقَيْتُ. قَالَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ قُلْتُ حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ فَقَالَ سَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ جُبَيْرٍ قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ومعه الرهط والنبي معه الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقُلْتُ هَذِهِ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ ثُمَّ قِيلَ انْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَانِبِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ هَذِهِ أُمَتُّكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ فَخَاضَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا باللَّه شَيْئًا قَطُّ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ تَخُوضُونَ فِيهِ فَأَخْبَرُوهُ بِمَقَالَتِهِمْ فَقَالَ هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بن محيصن الْأَسَدِيُّ فَقَالَ أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَغَيْرِهَا وَسَنُورِدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَأَوْرَدَ قِصَّتَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِرَارًا وَكَرَّرَهَا كَثِيرًا مُطَوَّلَةً وَمَبْسُوطَةً وَمُخْتَصَرَةً وَأَثْنَى عَلَيْهِ بَلِيغًا. وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُهُ اللَّهُ وَيَذْكُرُهُ وَيَذْكُرُ كِتَابَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابِهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ 2: 101 وَقَالَ تَعَالَى الم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ 3: 1- 4 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمن حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ 6: 91- 92 فَأَثْنَى تَعَالَى عَلَى التَّوْرَاةِ ثُمَّ مَدَحَ(1/314)
الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مَدْحًا عَظِيمًا وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِهَا ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 6: 154- 155 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمن لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ 5: 44 إِلَى أَنْ قَالَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمن لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ 5: 47- 48 الْآيَةَ فَجُعِلَ الْقُرْآنُ حَاكِمًا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لَهَا وَمُبَيِّنًا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اسْتُحْفِظُوا عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حِفْظِهَا وَلَا عَلَى ضَبْطِهَا وَصَوْنِهَا فَلِهَذَا دَخَلَهَا مَا دَخَلَهَا مِنْ تَغْيِيرِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ لسوء فهو منهم وَقُصُورِهِمْ فِي عُلُومِهِمْ وَرَدَاءَةِ قُصُودِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ لِمَعْبُودِهِمْ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ الْبَيِّنِ على الله وعلى رسوله مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ وَمَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ وَلَا يُعْرَفُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ. وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ 21: 48- 50 وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ. قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 28: 48- 49. فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْكِتَابَيْنِ وَعَلَى الرَّسُولَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَالَتِ الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى. وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ ما رأى من الأول الْوَحْيِ وَتَلَا عَلَيْهِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) 96: 1- 5 قَالَ سُبُّوحٌ سُبُّوحٌ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَشَرِيعَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ عَظِيمَةً وَأُمَّتُهُ كَانَتْ أُمَّةً كَثِيرَةً وَوُجِدَ فِيهَا أَنْبِيَاءُ وَعُلَمَاءُ وَعُبَّادٌ وَزُهَّادٌ وَأَلِبَّاءُ وَمُلُوكٌ وَأُمَرَاءُ وَسَادَاتٌ وَكُبَرَاءُ. لَكِنَّهُمْ كَانُوا فَبَادُوا وَتَبَدَّلُوا كَمَا بُدِّلَتْ شَرِيعَتُهُمْ وَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ مِلَّتُهُمْ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ خُطُوبٌ وَأُمُورٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَكِنْ سَنُورِدُ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يبلغه خبرها إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ(1/315)
ذكر حجته عليه السلام الى البيت العتيق
قال الامام احمد حدثنا هشام حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ فَقَالَ أَيُّ وَادٍ هَذَا. قَالُوا وَادِي الْأَزْرَقِ. قَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى وَهُوَ هَابِطٌ مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَاءَ. فَقَالَ أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ قَالُوا هَذِهِ ثَنِيَّةُ هَرْشَاءَ قَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ خِطَامُ نَاقَتُهُ خُلْبَةٌ.
قَالَ هُشَيْمٌ يَعْنِي ليفا وهو يلبى. أخرجه مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِنَّ مُوسَى حَجَّ عَلَى ثَوْرٍ أَحْمَرَ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (ك ف ر) قال ما يقولون قَالَ يَقُولُونَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (ك ف ر) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَلِكَ وَلَكِنْ. قَالَ أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صاحبكم. وأما موسى فرجل آدم جعد الشعر عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَقَدِ انْحَدَرَ مِنَ الْوَادِي يُلَبِّي قَالَ هُشَيْمٌ الْخُلْبَةُ اللِّيفُ ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْوَدَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ عيسى بن مَرْيَمَ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا عِيسَى فَأَبْيَضُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ. وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ. قَالُوا فَإِبْرَاهِيمُ قَالَ انْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ قَالَ حَدَّثَ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِي بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى بن مَرْيَمَ مَرْبُوعُ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى فَنَعَتَهُ فَقَالَ رَجُلٌ قَالَ حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. وَلَقِيتُ عِيسَى. فَنَعَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي حَمَّامًا قَالَ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وأنا أشبه ولد.
بِهِ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَالِبُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ في ترجمة الخليل
ذِكْرُ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (وَفَاةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) حَدَّثَنَا يَحْيَى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا جَاءَهُ(1/316)
صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ قَالَ فَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ. قَالَ وَأَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَسَيَأْتِي. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ يَعْنِي سُلَيْمَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَمْ يَرْفَعْهُ. قَالَ جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ أَجِبْ رَبَّكَ فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا. فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ إِنَّكَ بَعَثْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ. قَالَ وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي قَالَ فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ الْحَيَاةَ تُرِيدُ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَمَا وَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرِهِ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً قَالَ ثُمَّ مَهْ قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ يَا رَبِّ مِنْ قَرِيبٍ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَوْقُوفٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَعْمَرٌ وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ عن رسول الله فَذَكَرَهُ ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا قَالَ لَهُ هَذَا لَمْ يَعْرِفْهُ لِمَجِيئِهِ لَهُ عَلَى غَيْرِ صُورَةٍ يَعْرِفُهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا جاء جبريل فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَكَمَا وَرَدَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إبراهيم ولوط فِي صُورَةِ شَبَابٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَلَا لُوطٌ أَوَّلًا وَكَذَلِكَ مُوسَى لَعَلَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ لِذَلِكَ وَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِشَرِيعَتِنَا فِي جَوَازِ فَقْءِ عَيْنِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْكَ فِي دَارِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى لِيَقْبِضَ رُوحَهُ قَالَ لَهُ أَجِبْ رَبَّكَ فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَ يَدَهُ لِيَلْطِمَهُ قَالَ لَهُ أَجِبْ رَبَّكَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ اللَّفْظُ مِنْ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ أَجِبْ رَبَّكَ بِلَطْمِهِ وَلَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ لَتَمَشَّى لَهُ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَلَمْ يَحْمِلْ قوله هذا على أنه مطابق إذ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ أَنَّهُ مَلَكٌ كَرِيمٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو أُمُورًا كَثِيرَةً كَانَ يُحِبُّ وُقُوعَهَا فِي حَيَاتِهِ مِنْ خُرُوجِهِ مِنَ التِّيهِ وَدُخُولِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وَكَانَ قَدْ سَبَقَ في قدرة اللَّهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمُوتُ فِي التِّيهِ بَعْدَ هَارُونَ أَخِيهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ وَدَخَلَ بِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لَمَّا اخْتَارَ الْمَوْتَ رب أدننى الى الأرض المقدسة رمية حجر. وَلَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَهَا لَمْ يَسْأَلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعَ قَوْمِهِ بِالتِّيهِ وَحَانَتْ وفاته عليه(1/317)
السَّلَامُ أَحَبَّ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ رَمْيَةً بِحَجَرٍ وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدُ الْبَشَرِ. وَرَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ. فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الكثيب الأحمر. وقال الامام حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ وَقَالَ السدي عن أبي مالك وأبي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى إِنِّي مُتَوَفٍّ هَارُونَ فَائِتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَانْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونُ نَحْوَ ذَلِكَ الْجَبَلِ فَإِذَا هُمْ بِشَجَرَةٍ لَمْ تُرَ شَجَرَةٌ مِثْلُهَا وَإِذَا هُمْ بِبَيْتٍ مَبْنِيٍّ وَإِذَا هُمْ بِسَرِيرٍ عَلَيْهِ فُرُشٌ وَإِذَا فِيهِ رِيحٌ طَيِّبَةٌ فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ وَالْبَيْتِ وَمَا فِيهِ أَعْجَبَهُ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي أُحِبُّ أَنَّ أَنَامَ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ قَالَ لَهُ مُوسَى فَنَمْ عَلَيْهِ قَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَغْضَبَ عَلَيَّ قَالَ لَهُ لَا تَرْهَبْ أَنَا أَكْفِيكَ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ فَنَمْ. قال يا موسى نَمْ مَعِي فَإِنْ جَاءَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ غَضِبَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ جَمِيعًا. فَلَمَّا نَامَا أَخَذَ هَارُونَ الْمَوْتُ فَلَمَّا وَجَدَ حِسَّهُ قَالَ يَا مُوسَى خَدَعَتْنِي فَلَمَّا قُبِضَ رُفِعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ وَذَهَبَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ وَرُفِعَ السَّرِيرُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ وَلَيْسَ مَعَهُ هَارُونُ قَالُوا فَإِنَّ مُوسَى قَتَلَ هَارُونَ وَحَسَدَهُ حُبَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ وَكَانَ هَارُونُ أَكَفَّ عَنْهُمْ وَأَلْيَنَ لَهُمْ مِنْ مُوسَى وَكَانَ فِي مُوسَى بَعْضُ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ وَيْحَكُمْ كَانَ أَخِي أَفَتَرُونِي أَقْتُلُهُ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَنَزَلَ السَّرِيرُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي وَيُوشَعُ فَتَاهُ إِذْ أَقْبَلَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا يُوشَعُ ظَنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ فَالْتَزَمَ مُوسَى وَقَالَ تَقُومُ السَّاعَةُ وَأَنَا مُلْتَزِمٌ مُوسَى نَبِيَّ اللَّهِ فَاسْتَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ وَتَرَكَ الْقَمِيصَ فِي يَدَيْ يُوشَعَ. فَلَمَّا جَاءَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ أَخَذَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَالُوا قَتَلْتَ نَبِيَّ اللَّهِ. فَقَالَ لَا وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَلَّ مِنِّي فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ. قَالَ فَإِذَا لَمْ تُصَدِّقُونِي فَأَخِّرُونِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَدَعَا اللَّهَ فَأَتَى كُلُّ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ يَحْرُسُهُ فِي الْمَنَامِ فَأَخْبَرَ أَنَّ يُوشَعَ لَمْ يَقْتُلْ مُوسَى وَإِنَّا قَدْ رَفَعْنَاهُ إِلَيْنَا فَتَرَكُوهُ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ مَعَ مُوسَى إِلَّا مَاتَ وَلَمْ يَشْهَدِ الْفَتْحَ وَفِي بَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ نَكَارَةٌ وَغَرَابَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ مِمَّنْ كَانَ مَعَ مُوسَى سِوَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَكَالِبَ بْنِ يوقنا وَهُوَ زَوْجُ مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى وَهَارُونَ وَهُمَا الرَّجُلَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ اللَّذَانِ أَشَارَا عَلَى مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفِرُونَ قَبْرًا فَلَمْ يَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَنْضَرَ وَلَا أَبْهَجَ فَقَالَ يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ لِمَنْ تَحْفِرُونَ هَذَا الْقَبْرَ فَقَالُوا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَرِيمٍ فَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ هَذَا الْعَبْدَ فَادْخُلْ هَذَا الْقَبْرَ وَتَمَدَّدْ فِيهِ وَتَوَجَّهْ إِلَى رَبِّكَ وَتَنَفَّسْ أَسْهَلَ تَنَفُّسٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَمَاتَ صَلَوَاتُ الله(1/318)
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَصَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَدَفَنُوهُ وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مَاتَ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ وَيُونُسُ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عمار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُونُسُ رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا قَالَ فَأَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَأَتَى رَبَّهُ فَقَالَ يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى فقأ عيني ولولا كرامته عليك لعتبت عليه. وَقَالَ يُونُسُ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ. قَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى عَبْدِي. فَقُلْ لَهُ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ (أَوْ) مَسْكِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ فَقَالَ مَا بَعْدَ هَذَا قَالَ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ قَالَ فَشَمَّهُ شَمَّةً فَقَبَضَ رُوحَهُ. قَالَ يُونُسُ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ خُفْيَةً وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ حَمَّادِ بن سلمة به فرفعه أيضا
ذِكْرُ نُبُوَّةِ يُوشَعَ وَقِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد موسى وهارون عليهما السلام
هو يوشع بن نون بن أفراثيم يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ يُوشَعُ بْنُ عَمِّ هُودٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِاسْمِهِ فِي قِصَّةِ الخضر كما تقدم من قوله (وَإِذْ قال مُوسى لِفَتاهُ 18: 60 فَلَمَّا جاوَزا قال لِفَتاهُ 18: 62) وَقَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ أبى ابن كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ وَهُمُ السَّامِرَةُ لَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ بَعْدَ مُوسَى إِلَّا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فَعَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ حُوِّلَتْ مِنْ مُوسَى إِلَى يُوشَعَ فِي آخِرِ عُمْرِ مُوسَى فَكَانَ مُوسَى يَلْقَى يُوشَعَ فيسأله ما أحدث الله مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَتَّى قَالَ لَهُ يَا كَلِيمَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لَا أَسْأَلُكَ عَمَّا يُوحِي اللَّهُ إِلَيْكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي أَنْتَ ابْتِدَاءً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَرِهَ مُوسَى الْحَيَاةَ وَأَحَبَّ الْمَوْتَ فَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ وَالْوَحْيُ والتشريع والكلام من الله اليه من جَمِيعِ أَحْوَالِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَزَلْ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا مُدَلَّلًا وَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِصَّةِ فَقْئِهِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ اليه ان كان يريد لحياة فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ يَعِيشُهَا قَالَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ يَا رَبِّ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ وَقَدْ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ(1/319)
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَقُولُهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِي كِتَابِهِمُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ أَنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَزَلْ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى فِي كل حين يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ مُوسَى كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ سِيَاقِ كِتَابِهِمْ عِنْدَ تَابُوتِ الشَّهَادَةِ فِي قُبَّةِ الزَّمَانِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي السَّفَرِ الثَّالِثِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى وَهَارُونَ أن يعدّ ابني إِسْرَائِيلَ عَلَى أَسْبَاطِهِمْ وَأَنْ يَجْعَلَا عَلَى كُلِّ سِبْطٍ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَمِيرًا وَهُوَ النَّقِيبُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ وَكَانَ هَذَا عِنْدَ اقْتِرَابِ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا فَقَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي صُورَتِهِ تِلْكَ وَلِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِأَمْرٍ كَانَ يَرْتَجِي وُقُوعَهُ فِي زَمَانِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَدَرِ اللَّهِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ بَلْ فِي زَمَانِ فَتَاهَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَرَادَ غَزْوَ الرُّومِ بِالشَّامِ فَوَصَلَ إِلَى تَبُوكَ ثُمَّ رَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ. ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ عَشْرٍ ثُمَّ رَجَعَ فَجَهَّزَ. جَيْشَ أُسَامَةَ إِلَى الشَّامِ طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَانَ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ 9: 29 وَلَمَّا جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ جَيْشَ أُسَامَةَ تُوُفِّيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُسَامَةُ مُخَيِّمٌ بِالْجَرْفِ فَنَفَّذَهُ صَدِيقُهُ وَخَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عنه ثم لما لم أشعث جزيرة العرب وما كان دهى مِنْ أَمْرِ أَهْلِهَا وَعَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ جَهَّزَ الْجُيُوشَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً إِلَى الْعِرَاقِ أَصْحَابِ كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ وَإِلَى الشَّامِ أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ وَمَكَّنَ لَهُمْ وبهم وملكهم نواصي أعدائهم كما سنورده عليك فِي مَوْضِعِهِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَحُسْنِ إِرْشَادِهِ وَهَكَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُجَنِّدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ نُقَبَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً 5: 12 وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ 5: 12 يَقُولُ لَهُمْ لَئِنْ قُمْتُمْ بِمَا أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ وَلَمْ تَنْكِلُوا عَنِ الْقِتَالِ كَمَا نَكَلْتُمْ أَوَّلَ مرة لأجعلن ثواب هذه مكفرا لِمَا وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِ تِلْكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة الْحُدَيْبِيَةِ «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» 48: 16 وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ 5: 12 ثم ذمهم تَعَالَى عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَنَقْضِهِمْ مَوَاثِيقَهُمْ كَمَا ذَمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ النَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مُسْتَقْصًى وللَّه الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكْتُبَ أَسْمَاءَ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ يَحْمِلُ(1/320)
السِّلَاحَ وَيُقَاتِلُ مِمَّنْ بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا مِنْهُمْ. السِّبْطُ الْأَوَّلُ سِبْطُ رُوبِيلَ لِأَنَّهُ بِكْرُ يَعْقُوبَ كَانَ عِدَّةُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وخمسمائة. ونقيبهم منهم وهو اليصور ابن شَدَيْئُورَا. السِّبْطُ الثَّانِي سِبْطُ شَمْعُونَ وَكَانُوا تِسْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ. وَنَقِيبُهُمْ شَلُومِيئِيلُ بْنُ هُورِيشَدَّاي. السِّبْطُ الثَّالِثُ سِبْطُ يَهُوذَا وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ. وَنَقِيبُهُمْ نَحْشُوَنُ بْنُ عَمِّينَادَابَ.
السِّبْطُ الرَّابِعُ سِبْطُ إِيسَّاخَرَ وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ نَشَائِيلُ بْنُ صُوغَرَ. السِّبْطُ الْخَامِسُ سِبْطُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. السِّبْطُ السَّادِسُ سِبْطُ مِيشَا وَكَانُوا أَحَدًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَنَقِيبَهُمْ جَمْلِيئِيلُ بْنُ فَدَهْصُورَ. السِّبْطُ السَّابِعُ سِبْطُ بِنْيَامِينَ وَكَانُوا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ أبيدن بن جدعون. السبط الثامن سبط حاد وكانوا خمسة وأربعة أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا وَنَقِيبُهُمْ الْيَاسَافُ بْنُ رَعُوئِيلَ. السِّبْطُ التَّاسِعُ سِبْطُ أَشِيرَ وَكَانُوا أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ فَجْعِيئِيلُ بْنُ عُكْرَنَ. السِّبْطُ الْعَاشِرُ سِبْطُ دَانَ وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ الفا وسبعمائة ونقيبهم أخيعزر ابن عمشداى. السِّبْطُ الْحَادِي عَشَرَ سِبْطُ نِفْتَالِي وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ. وَنَقِيبُهُمْ أَخِيرَعُ بْنُ عِينَ السِّبْطُ الثَّانِي عَشَرَ سَبْطُ زَبُولُونَ وَكَانُوا سَبْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَنَقِيبُهُمْ أَلْبَابُ بْنُ حِيلُونَ. هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ مِنْهُمْ بَنُو لَاوِي فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ لَا يَعُدَّهُمْ مَعَهُمْ لِأَنَّهُمْ مُوَكَّلُونَ بِحَمْلِ قبة الشهادة وضربها ونصبها وحملها إِذَا ارْتَحَلُوا وَهُمْ سَبِطُ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفًا مِنِ ابْنِ شَهْرٍ فَمَا فَوْقُ ذَلِكَ وَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَبَائِلُ إِلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ طَائِفَةٌ مِنْ قُبَّةِ الزَّمَانِ يَحْرُسُونَهَا وَيَحْفَظُونَهَا وَيَقُومُونَ بِمَصَالِحِهَا وَنَصْبِهَا وَحَمْلِهَا وَهُمْ كُلُّهُمْ حَوْلَهَا يَنْزِلُونَ وَيَرْتَحِلُونَ أَمَامَهَا وَيَمِينَهَا وَشِمَالَهَا وَوَرَاءَهَا. وَجُمْلَةُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ غَيْرَ بَنِي لَاوِي خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ وَأَحَدٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ لَكِنْ قَالُوا فَكَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ عُمْرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِمَّنْ حَمَلَ السِّلَاحَ سِتَّمِائَةِ ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وَخَمْسِينَ رَجُلًا سِوَى بَنِي لَاوِي وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّ جَمِيعَ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنْ كَانَتْ كَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِهِمْ لَا تُطَابِقُ الْجُمْلَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَكَانَ بَنُو لَاوِي الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ قُبَّةِ الزَّمَانِ يَسِيرُونَ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْقَلْبُ وَرَأْسُ الْمَيْمَنَةِ بَنُو روبيل ورأس الميسرة بنوران وَبَنُو نِفْتَالِي يَكُونُونَ سَاقَةً وَقَرَّرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ الْكِهَانَةَ فِي بَنِي هَارُونَ كَمَا كَانَتْ لِأَبِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمْ نَادَابُ وَهُوَ بِكْرُهُ وَأَبِيهُو وَالْعَازَرُ وَيَثْمَرُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ نَكَلَ عَنْ دُخُولِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ قَالُوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) 5: 24 قَالَهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَرَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمَاتَ مُوسَى وَهَارُونُ قَبْلَهُ كِلَاهُمَا فِي التِّيهِ جَمِيعًا وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الَّذِي فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ(1/321)
هُوَ مُوسَى وَإِنَّمَا كَانَ يُوشَعُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ وَذَكَرَ فِي مُرُورِهِ إِلَيْهَا قِصَّةَ بِلْعَامَ بْنِ باعور الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ. ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ 7: 175- 177 وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي التَّفْسِيرِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَأَنَّ قَوْمَهُ سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى موسى وقومه فامتنع عليهم ولما أَلَحُّوا عَلَيْهِ رَكِبَ حِمَارَةً لَهُ. ثُمَّ سَارَ نَحْوَ مُعَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ رَبَضَتْ بِهِ حِمَارَتُهُ فَضَرَبَهَا حَتَّى قَامَتْ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَرَبَضَتْ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ فَقَامَتْ ثُمَّ رَبَضَتْ فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ لَهُ يَا بِلْعَامُ أَيْنَ تَذْهَبُ أَمَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي تَرُدُّنِي عَنْ وَجْهِي هَذَا أَتَذْهَبُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَنْزِعْ عَنْهَا فَضَرَبَهَا حَتَّى سَارَتْ بِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ رَأْسِ جَبَلِ حُسْبَانَ. وَنَظَرَ إِلَى مُعَسْكَرِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخَذَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ لِسَانُهُ لَا يُطِيعُهُ إِلَّا أَنْ يَدْعُوَ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ وَيَدْعُو عَلَى قَوْمِ نَفْسِهِ فَلَامُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ إِلَّا هَذَا وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ لِقَوْمِهِ ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةِ. ثُمَّ أَمَرَ قَوْمَهُ أَنْ يُزَيِّنُوا النِّسَاءَ وَيَبْعَثُوهُنَّ بِالْأَمْتِعَةِ يَبِعْنَ عَلَيْهِمْ وَيَتَعَرَّضْنَ لَهُمْ حَتَّى لعلهم يقعون في الزنا فَإِنَّهُ مَتَى زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ كُفِيتُمُوهُمْ فَفَعَلُوا وَزَيَّنُوا نِسَاءَهُمْ وَبَعَثُوهُنَّ إِلَى الْمُعَسْكَرِ فَمَرَّتِ امْرَأَةٌ منهم سمها كَسْتَى بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ زِمْرِيُّ بْنُ شَلُومَ.
يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ رَأْسَ سِبْطِ بَنِي شَمْعُونَ بْنِ يَعْقُوبَ فَدَخَلَ بِهَا قُبَّتَهُ فَلَمَّا خَلَا بِهَا أَرْسَلَ اللَّهُ الطَّاعُونَ على بنى إسرائيل فجعل يحوس فِيهِمْ فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى فِنْحَاصَ بْنِ العزار بْنِ هَارُونَ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا الْقُبَّةَ فَانْتَظَمَهُمَا جَمِيعًا فِيهَا ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا عَلَى النَّاسِ وَالْحَرْبَةِ فِي يَدِهِ وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى خَاصِرَتِهِ وَأَسْنَدَهَا إِلَى لِحْيَتِهِ وَرَفْعَهُمَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَجَعَلَ يَقُولُ اللَّهمّ هَكَذَا تفعل بِمَنْ يَعْصِيكَ وَرَفَعَ الطَّاعُونَ فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَاتَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا وَالْمُقَلِّلُ يَقُولُ عِشْرِينَ أَلْفًا وَكَانَ فِنْحَاصُ بِكْرَ أَبِيهِ العزار ابن هَارُونَ فَلِهَذَا يَجْعَلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِوَلَدِ فِنْحَاصَ من الذبيحة اللية وَالذِّرَاعَ وَاللَّحْيَ وَلَهُمُ الْبِكْرُ مِنْ كُلِّ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ قِصَّةِ بِلْعَامَ صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ لَكِنْ لَعَلَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُوسَى دُخُولَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَلَعَلَّهُ مُرَادُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَكِنَّهُ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ النَّاقِلِينَ عَنْهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ نَصِّ التَّوْرَاةِ مَا يَشْهَدُ لِبَعْضِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَعَلَّ هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى كَانَتْ فِي خِلَالِ سَيْرِهِمْ فِي التِّيهِ فَإِنَّ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذِكْرَ حُسْبَانَ وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ هَذَا لِجَيْشِ مُوسَى الَّذِينَ عَلَيْهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حِينَ خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ قَاصِدًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّدِّيَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَارُونَ تُوُفِّيَ بِالتِّيهِ(1/322)
قَبِلَ مُوسَى أَخِيهِ بِنَحْوٍ مَنْ سَنَتَيْنِ. وَبَعْدَهُ مُوسَى فِي التِّيهِ أَيْضًا كَمَا قَدَّمْنَا وَأَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُقَرَّبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ فَكَانَ الَّذِي خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ وَقَصَدَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ أَنَّهُ قَطَعَ بنى إِسْرَائِيلَ نَهْرَ الْأُرْدُنِّ وَانْتَهَى إِلَى أَرِيحَا وَكَانَتْ مَنْ أَحْصَنِ الْمَدَائِنَ سُورًا وَأَعْلَاهَا قُصُورًا وَأَكْثَرِهَا أَهْلًا فَحَاصَرَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ إِنَّهُمْ أَحَاطُوا بِهَا يَوْمًا وَضَرَبُوا بِالْقُرُونِ يَعْنِي الْأَبْوَاقَ وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَتَفَسَّخَ سُورُهَا وَسَقَطَ وَجْبَةً وَاحِدَةً فَدَخَلُوهَا وَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا فِيهَا مِنَ الْغَنَائِمِ وَقَتَلُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَحَارَبُوا مُلُوكًا كَثِيرَةً. وَيُقَالُ إِنَّ يُوشَعَ ظَهَرَ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ انْتَهَى مُحَاصَرَتُهُ لَهَا إِلَى يَوْمِ جُمُعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ تَغْرُبُ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ السَّبْتُ الَّذِي جُعِلَ عَلَيْهِمْ وَشُرِعَ لَهُمْ ذَلِكَ الزَّمَانَ قَالَ لَهَا إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهمّ احْبِسْهَا عَلَيَّ فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ فَتْحِ الْبَلَدِ وَأَمَرَ الْقَمَرَ فَوَقَفَ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ كَانَتِ اللَّيْلَةَ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ وَالْأَوَّلُ وَهُوَ قِصَّةُ الشَّمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا قِصَّةُ الْقَمَرِ فَمِنْ عِنْدِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ بَلْ فِيهِ زِيَادَةٌ تُسْتَفَادُ فَلَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ أَنَّ هَذَا فِي فَتْحِ أَرِيحَا فِيهِ نَظَرٌ وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَفَتْحُ أَرِيحَا كَانَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ لِبَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا مُوسَى وَأَنَّ حَبْسَ الشَّمْسِ كَانَ فِي فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا أَرِيحَا كَمَا قُلْنَا. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ أَنَّ الشَّمْسَ رَجَعَتْ حَتَّى صَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَلَاةَ الْعَصْرِ بَعْدَ مَا فَاتَتْهُ بِسَبَبِ نَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ حَتَّى يصلى العصر فرجعت. وقد صححه على بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ وَلَكِنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الصِّحَاحِ وَلَا الْحِسَانِ وَهُوَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَتَفَرَّدَتْ بِنَقْلِهِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مَجْهُولَةٌ لَا يُعْرَفُ حَالُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتْبَعُنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ. وَلَا آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا وَلَمْ يَرْفَعْ سَقْفَهَا وَلَا آخَرِ قَدِ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خُلُفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلَادَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهمّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فاتت النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ(1/323)
فَقَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَبَايَعُوهُ فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ وَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ فَبَايَعَتْهُ قَبِيلَتُهُ فَلَصِقَ بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ فَوَضَعُوهُ بِالْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ فَأَقْبَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا. انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. قَالَ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِهِمْ بَابَ الْمَدِينَةِ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا سُجَّدًا أَيْ رُكَّعًا مُتَوَاضِعِينَ شَاكِرِينَ للَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعْدَهُمْ إِيَّاهُ وَأَنْ يَقُولُوا حَالَ دخولهم حطة أي حط عنا خطيانا الَّتِي سَلَفَتْ مِنْ نُكُولِنَا الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَّا. وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا دَخَلَهَا وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ وَهُوَ مُتَوَاضِعٌ حَامِدٌ شَاكِرٌ حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ وَهُوَ طَرَفُ لِحْيَتِهِ لَيَمَسُّ مَوْرِكَ رَحْلِهِ مِمَّا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ خُضْعَانًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ وَمَعَهُ الْجُنُودُ وَالْجُيُوشُ مِمَّنْ لَا يُرَى منه إلا الحدق ولا سِيَّمَا الْكَتِيبَةُ الْخَضْرَاءُ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمَّا دَخَلَهَا اغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَهِيَ صَلَاةُ الشُّكْرِ عَلَى النَّصْرِ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ إِنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى وَمَا حَمَلَ هَذَا الْقَائِلَ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ وَقْتَ الضُّحَى. وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا دَخَلُوا الْبَابَ يزحفون على أستاههم يَقُولُونَ حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ حِنْطَةٌ فِي شَعْرَةٍ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) 7: 161- 162 وقال فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ مُخَاطِبًا لَهُمْ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 2: 58- 59. وقال الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً 2: 58 قَالَ رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَذَا رَوَى الثَّوْرِيُّ عن ابن إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ والباب هُوَ بَابُ حِطَّةٍ مِنْ بَيْتِ إِيلِيَاءَ بَيْتِ المقدس. قال ابن مسعود فدخلوا مقنعي رءوسهم ضِدَّ مَا أُمِرُوا بِهِ وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بَعْدُ فإنهم دخلوا يزحفون وهم مقنعوا رءوسهم. وقوله وَقُولُوا حِطَّةٌ 2: 58 الْوَاوُ هُنَا حَالِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ أَيِ ادْخُلُوا سُجَّدًا فِي حَالِ قَوْلِكُمْ حِطَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ(1/324)
أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن بن الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ 2: 58 فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ. وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِبَعْضِهِ وَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ بِهِ مَوْقُوفًا. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الله لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ 2: 58 فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ كَانَ تَبْدِيلُهُمْ كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كِيسَانَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمَّنْ لَا أَتَّهِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَخَلُوا الْبَابَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سُجَّدًا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِي شُعَيْرَةٍ. وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) 2: 59 قال قالوا (هطى سقاثا ازمة مزبا) فهي في العربية (حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَمْرَاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيهَا شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ) وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ بِإِرْسَالِ الرِّجْزِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الطَّاعُونُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَمِنْ حديث مالك عن محمد ابن الْمُنْكَدِرِ وَسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ (أَوِ) السَّقَمَ رِجْزٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَهَذَا لَفْظُهُ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّاعُونُ رِجْزُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الرِّجْزُ الْعَذَابُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ هُوَ الْغَضَبُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ الرِّجْزُ إِمَّا الطَّاعُونُ وَإِمَّا الْبَرْدُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ الطَّاعُونُ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَمَرُّوا فِيهِ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ يُوشَعُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَكَانَ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ بَعْدَ مُوسَى سَبْعًا وعشرين سنة
ذكر قصتي الخضر والياس عليهما السلام
أَمَّا الْخَضِرُ
فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحَلَ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ وَقَصَّ اللَّهُ مِنْ خَبَرِهِمَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ هُنَالِكَ وَأَوْرَدْنَا هُنَا ذِكْرَ الحديث(1/325)
الْمُصَرِّحِ بِذِكْرِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ الَّذِي رَحَلَ إِلَيْهِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْخَضِرِ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَحَيَاتِهِ إِلَى الْآنَ عَلَى أَقْوَالٍ سَأَذْكُرُهَا لَكَ هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ يُقَالُ إِنَّهُ الْخَضِرُ بْنُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصُلْبِهِ ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَتْحِ الْقَلَانِسِيُّ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرومي حَدَّثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ حَدَّثَنَا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء لَهُ فِي أَجَلِهِ حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَغَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ السِّجِسْتَانِيُّ سَمِعْتُ مَشْيَخَتَنَا مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ قَالُوا إِنَّ أَطْوَلَ بَنِي آدَمَ عُمْرًا الْخَضِرُ وَاسْمَهُ خَضْرُونُ بْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ قَالَ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَخْبَرَ بَنِيهِ أَنَّ الطُّوفَانَ سَيَقَعُ بِالنَّاسِ وَأَوْصَاهُمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلُوا جَسَدَهُ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ وَأَنْ يَدْفِنُوهُ فِي مَكَانٍ عَيَّنَهُ لَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الطُّوفَانُ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ فَلَمَّا هَبَطُوا إِلَى الْأَرْضِ أَمَرَ نُوحٌ بَنِيهِ أَنْ يَذْهَبُوا بِبَدَنِهِ فَيَدْفِنُوهُ حَيْثُ أَوْصَى فَقَالُوا إِنَّ الْأَرْضَ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ وَعَلَيْهَا وَحْشَةٌ فَحَرَّضَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ إِنَّ آدَمَ دَعَا لِمَنْ يَلِي دَفْنَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ فَهَابُوا الْمَسِيرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ يَزَلْ جَسَدُهُ عِنْدَهُمْ حَتَّى كَانَ الْخَضِرُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى دَفْنَهُ وَأَنْجَزَ اللَّهُ مَا وَعَدَهُ فَهُوَ يَحْيَى إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنَّ يَحْيَى. وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ اسْمَ الْخَضِرِ بَلْيَا وَيُقَالُ إِيلِيَا بْنُ مَلْكَانَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابَرَ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ اسْمُ الْخَضِرِ فِيمَا بَلَغْنَا وَاللَّهُ أعلم المعمر بن مالك بن عبدان بن نصر بن لازد. وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ خَضْرُونُ بْنُ عَمْيَايِيلَ بْنِ اليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. ويقال هو أرميا بن طبقا فاللَّه أَعْلَمُ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ ابْنَ فِرْعَوْنَ صَاحِبِ مُوسَى مَلِكِ مِصْرَ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ. وَقِيلَ إِنَّهُ ابْنُ مَالِكٍ وَهُوَ أَخُو إِلْيَاسَ قَالَهُ السُّدِّيُّ كَمَا سَيَأْتِي. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقِيلَ كَانَ ابْنَ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَهَاجَرَ مَعَهُ وَقِيلَ كَانَ نَبِيًّا فِي زَمَنِ بَشْتَاسَبَ بْنِ لَهْرَاسَبَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ ابْنِ أَثْفِيَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ الْخَضِرُ أُمُّهُ رُومِيَّةٌ وَأَبُوهُ فَارِسِيٌّ وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ أَيْضًا. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْلُهُ أُسَرِيَ بِهِ وَجَدَ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ قَالَ هَذِهِ رِيحُ قَبْرِ الماشطة وابنتها وَزَوْجِهَا وَقَالَ وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ كان من(1/326)
أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مَمَرُّهُ بِرَاهِبٍ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَطَّلَعَ عَلَيْهِ الرَّاهِبُ فَعَلَّمَهُ الْإِسْلَامَ فَلَمَّا بَلَغَ الْخَضِرُ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً فَعَلَّمَهَا الْإِسْلَامَ وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَ أَحَدًا وَكَانَ لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَهُ أَبُوهُ بِأُخْرَى فَعَلَّمَهَا الْإِسْلَامَ وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَ أَحَدًا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَكَتَمَتْ إِحْدَاهُمَا وَأَفْشَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى أَتَى جَزِيرَةً فِي الْبَحْرِ فَأَقْبَلَ رَجُلَانِ يَحْتَطِبَانِ فَرَأَيَاهُ فَكَتَمَ أَحَدُهُمَا وَأَفْشَى عَلَيْهِ الْآخَرُ قَالَ قَدْ رأيت العزقيل وَمَنْ رَآهُ مَعَكَ قَالَ فُلَانٌ فَسُئِلَ فَكَتَمَ وَكَانَ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّهُ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ فَقُتِلَ وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ الْكَاتِمُ الْمَرْأَةَ الْكَاتِمَةَ قَالَ فَبَيْنَمَا هِيَ تُمَشِّطُ بِنْتَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ فِرْعَوْنُ فَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا وَكَانَ لِلْمَرْأَةِ ابْنَانِ وَزَوْجٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَرَاوَدَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا أَنْ يَرْجِعَا عَنْ دِينِهِمَا فَأَبَيَا فَقَالَ إِنِّي قَاتِلُكُمَا فَقَالَا إِحْسَانٌ مِنْكَ إِلَيْنَا إِنْ أَنْتَ قَتَلَتْنَا أَنْ تَجْعَلَنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَجَعَلَهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ وَمَا وَجَدْتُ رِيحًا أَطْيَبَ مِنْهُمَا وَقَدْ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ مَائِلَةَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَهَذَا الْمُشْطُ فِي أَمْرِ الْخَضِرِ قَدْ يَكُونُ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُنْيَتُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أعلم أن الحضر لَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءُ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ. ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْفَرْوَةُ الْحَشِيشُ الْأَبْيَضُ وَمَا أَشْبَهَهُ يَعْنِي الْهَشِيمَ الْيَابِسَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الْفَرْوَةُ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ الْهَشِيمُ الْيَابِسُ شَبَّهَهُ بِالْفَرْوَةِ وَمِنْهُ قِيلُ فَرْوَةُ الرَّأْسِ وَهِيَ جِلْدَتُهُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ كَمَا قَالَ الرَّاعِي.
وَلَقَدْ تَرَى الْحَبَشِيَّ حَوْلَ بُيُوتِنَا ... جَذِلًا إِذَا مَا نال يوما ما كلا
جعدا أصك كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ ... بُذِرَتْ فَأَنْبَتَ جَانِبَاهُ فُلْفُلًا
قال الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ قُلْتُ هَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْلِيلِ بِأَحَدِهِمَا فَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَوْلَى وَأَقْوَى بَلْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا عَدَاهُ وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ أيضا من طريق إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْأَيْلِيِّ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ وَأَبُو جَزِيٍّ وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا لِأَنَّهُ صَلَّى عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ خَضْرَاءَ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ قَبِيصَةُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ وَتَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى وَيُوشَعَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا رَجَعَا يَقُصَّانِ الْأَثَرَ وَجَدَاهُ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ وَهُوَ مُسَجًّى بِثَوْبٍ قَدْ جُعِلَ طَرَفَاهُ مِنْ تحت رأسه وقدميه فسلم عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ فَرَدَّ وَقَالَ أَنَّى بِأَرْضِكِ السَّلَامُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا قَصَّهُ(1/327)
الله في كتابه عنهما.
وقد دل سباق الْقِصَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً من عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْماً 18: 65 الثَّانِي قَوْلُ مُوسَى لَهُ (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً. قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً. قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قال فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) 18: 66- 70 فَلَوْ كَانَ وَلِيًّا وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ لَمْ يُخَاطِبْهُ مُوسَى بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى مُوسَى هَذَا الرَّدَّ بَلْ مُوسَى إِنَّمَا سَأَلَ صُحْبَتَهُ لِيَنَالَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ دُونَهُ فَلَوْ كَانَ غَيْرَ نَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا وَلَمْ تَكُنْ لِمُوسَى وَهُوَ نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَرَسُولٌ كَرِيمٌ وَاجِبُ الْعِصْمَةِ كَبِيرُ رَغْبَةٍ وَلَا عَظِيمُ طَلِبَةٍ فِي عِلْمِ وَلِيٍّ غَيْرِ وَاجِبِ الْعِصْمَةِ وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّهُ يَمْضِي حُقُبًا مِنَ الزَّمَانِ قِيلَ ثَمَانِينَ سَنَةً ثُمَّ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ تَوَاضَعَ لَهُ وَعَظَّمَهُ وَاتَّبَعَهُ فِي صُورَةِ مُسْتَفِيدٍ مِنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَقَدْ خُصَّ مِنَ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ وَالْأَسْرَارِ النَّبَوِيَّةِ بِمَا لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى الْكَلِيمَ نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكَرِيمَ وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْمَسْلَكِ بِعَيْنِهِ الرُّمَّانِيُّ [1] عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّالِثُ أَنَّ الْخَضِرَ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَبُرْهَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى عِصْمَتِهِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ النُّفُوسِ بِمُجَرَّدِ مَا يُلْقَى فِي خَلَدِهِ لِأَنَّ خَاطِرَهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْعِصْمَةِ إِذْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَمَّا أَقْدَمَ الْخَضِرُ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ يَكْفُرُ وَيَحْمِلُ أَبَوَيْهِ عَنِ الْكُفْرِ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمَا لَهُ فَيُتَابِعَانِهِ عَلَيْهِ فَفِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ تَرْبُو عَلَى بَقَاءِ مُهْجَتِهِ صِيَانَةً لِأَبَوَيْهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ وَعُقُوبَتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ.
وَقَدْ رَأَيْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ طَرَقَ هَذَا الْمَسْلَكَ بِعَيْنِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ وَصَحَّحَهُ.
وَحَكَى الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِ الرُّمَّانِيُّ أَيْضًا. الرَّابِعُ أَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الْخَضِرُ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْأَفَاعِيلِ لِمُوسَى وَوَضَّحَ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَجَلَّى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) 18: 82 يَعْنِي مَا فَعَلَتْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي بَلْ أُمِرْتُ بِهِ وَأُوحِيَ إِلَيَّ فِيهِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حُصُولَ ولايته بل ولا رسالته كما قاله آخَرُونَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَغَرِيبٌ جِدًّا. وَإِذَا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَبْقَ لِمَنْ قَالَ بِوِلَايَتِهِ وَإِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأُمُورِ دُونَ أَرْبَابِ الشَّرْعِ الظَّاهِرِ مُسْتَنَدٌ يَسْتَنِدُونَ إِلَيْهِ وَلَا مُعْتَمَدٌ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي وُجُودِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ. قِيلَ لِأَنَّهُ دَفَنَ آدَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الطُّوفَانِ فَنَالَتْهُ دَعْوَةُ أَبِيهِ آدَمَ بِطُولِ الْحَيَاةِ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ فَحَيِيَ.
__________
[1] وفي النسختين الموجودتين في المكتبة المصرية (البرقاني) .(1/328)
وَذَكَرُوا أَخْبَارًا اسْتَشْهَدُوا بِهَا عَلَى بَقَائِهِ إِلَى الآن وسنوردها إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَهَذِهِ وَصِيَّتُهُ لِمُوسَى حِينَ (قَالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) 18: 78 رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ مُنْقَطِعَةٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَلْطِيُّ قَالَ لَمَّا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يُفَارِقَ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ مُوسَى أَوْصِنِي قَالَ كُنْ نَفَّاعًا وَلَا تَكُنْ ضَرَّارًا. كُنْ بَشَّاشًا وَلَا تَكُنْ غَضْبَانَ. ارْجِعْ عَنِ اللَّجَاجَةِ وَلَا تَمْشِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى زِيَادَةُ (وَلَا تَضْحَكْ إِلَّا مِنْ عَجَبٍ) . وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى إِنَّ النَّاسَ مُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ هُمُومِهِمْ بِهَا وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ أَوْصِنِي فَقَالَ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْكَ طَاعَتَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ زكريا بن يحيى الوقاد إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْكَذَّابِينَ الْكِبَارِ. قَالَ قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ الثَّوْرِيُّ قَالَ مُجَالِدٌ قَالَ أَبُو الْوَدَّاكِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَخِي مُوسَى يَا رَبِّ ذكر كلمته فَأَتَاهُ الْخَضِرُ وَهُوَ فَتًى طَيِّبُ الرِّيحِ حَسَنُ بَيَاضِ الثِّيَابِ مُشَمِّرُهَا فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ. قَالَ مُوسَى هُوَ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ السَّلَامُ وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَا أُحْصِي نِعَمَهُ وَلَا أَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ ثُمَّ قَالَ مُوسَى أُرِيدُ أَنْ تُوصِيَنِي بِوَصِيَّةٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا بَعْدَكَ. فَقَالَ الْخُضَرُ يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إِنَّ الْقَائِلَ أقل ملامة (1) مِنَ الْمُسْتَمِعِ فَلَا تُمِلَّ جُلَسَاءَكَ إِذَا حَدَّثَتْهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَكَ وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَاذَا تَحْشُو به وعاءك. واغرف من الدُّنْيَا وَأَنْبِذْهَا وَرَاءَكَ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ بِدَارٍ وَلَا لَكَ فِيهَا مَحَلُّ قَرَارٍ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ بُلْغَةً لِلْعِبَادِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهَا لِيَوْمِ الْمَعَادِ. وَرُضْ نَفْسَكَ عَلَى الصَّبْرِ تَخْلُصْ مِنَ الْإِثْمِ يَا مُوسَى تَفَرَّغْ لِلْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ فَإِنَّمَا الْعِلْمُ لِمَنْ تَفَرَّغَ لَهُ وَلَا تَكُنْ مِكْثَارًا للعلم مهذارا فان كثرة المنطق تشين العلماء وتبدي مساوى السُّخَفَاءِ. وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالِاقْتِصَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ التوفيق والسداد وأعرض عن الجهال وماطلهم وَاحْلُمْ عَنِ السُّفَهَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْحُكَمَاءِ وَزَيْنُ الْعُلَمَاءِ إِذَا شَتَمَكَ الْجَاهِلُ فَاسْكُتْ عَنْهُ حِلْمًا. وَجَانِبْهُ حَزْمًا. فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ جَهْلِهِ عَلَيْكَ وَسَبِّهِ إِيَّاكَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ يَا ابن عمران ولا ترى أَنَّكَ أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فَإِنَّ الِانْدِلَاثَ وَالتَّعَسُّفَ مِنَ الِاقْتِحَامِ وَالتَّكَلُّفِ يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَا تَفْتَحَنَّ بَابًا لَا تَدْرِي مَا غَلْقُهُ وَلَا تُغْلِقَنَّ بَابًا لَا تَدْرِي مَا فتحه يا ابن عمران من لا ينتهى مِنَ الدُّنْيَا نَهْمَتُهُ وَلَا تَنْقَضِي مِنْهَا رَغْبَتُهُ وَمَنْ يُحَقِّرُ حَالَهُ وَيَتَّهِمُ اللَّهَ فِيمَا قَضَى لَهُ كَيْفَ يَكُونُ زَاهِدًا. هَلْ يَكُفُّ عَنِ الشَّهَوَاتِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ. أَوْ يَنْفَعُهُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْجَهْلُ قَدْ حَوَاهُ لِأَنَّ سَعْيَهُ إِلَى آخِرَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى دُنْيَاهُ يَا مُوسَى تَعَلَّمْ مَا تَعَلَّمْتَ لِتَعْمَلَ بِهِ وَلَا تَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ فَيَكُونَ عَلَيْكَ بَوَارُهُ وَلِغَيْرِكَ نُورُهُ يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ اجْعَلِ الزُّهْدَ وَالتَّقْوَى لِبَاسَكَ وَالْعِلْمَ وَالذِّكْرَ كَلَامَكَ وَاسْتَكْثِرْ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّكَ مُصِيبٌ السَّيِّئَاتِ وَزَعْزِعْ بِالْخَوْفِ قَلْبَكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُرْضِي رَبَّكَ وَاعْمَلْ خَيْرًا فَإِنَّكَ لا بد(1/329)
عامل سوء. قَدْ وُعِظْتَ إِنْ حَفِظْتَ قَالَ فَتَوَلَّى الْخَضِرُ وَبَقِيَ مُوسَى مَحْزُونًا مَكْرُوبًا يَبْكِي. لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ وَأَظُنُّهُ مِنْ صَنْعَةِ زَكَرِيَّا بْنِ يحيى الوقاد الْمِصْرِيِّ كَذَّبَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْعَجَبُ أن الحافظ بن عَسَاكِرَ سَكَتَ عَنْهُ وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطبراني ثنا عَمْرُو بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عِمْرَانَ الْكِنْدِيُّ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَلَّا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْخَضِرِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ يَمْشِي فِي سُوقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْصَرَهُ رَجُلٌ مَكَاتَبٌ فَقَالَ تَصَدَّقْ عَلَيَّ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ فَقَالَ الْخَضِرُ آمَنْتُ باللَّه مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَمْرٍ يَكُونُ مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ أُعْطِيكَهُ فَقَالَ الْمِسْكِينُ أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ لَمَا تصدقت على فانى نظرت الى السماء في وجهك ورجوت البركة عندك فقال الخصر آمَنْتُ باللَّه مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ أُعْطِيكَهُ إِلَّا أَنْ تَأْخُذَنِي فَتَبِيعَنِي فَقَالَ الْمِسْكِينُ وَهَلْ يَسْتَقِيمُ هَذَا قَالَ نَعَمْ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَا إِنِّي لَا أُخَيِّبُكَ بِوَجْهِ رَبِّي بِعْنِي قَالَ فَقَدَّمَهُ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَكَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي زَمَانًا لَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ انك ابْتَعْتَنِي الْتِمَاسَ خَيْرٍ عِنْدِي فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ إِنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضعيف. قال ليس يشق عَلَيَّ. قَالَ فَانْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ وَكَانَ لَا يَنْقُلُهَا دُونَ سِتَّةِ نَفَرٍ فِي يَوْمٍ فَخَرَجَ الرجل لبعض حاجاته ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ نَقَلَ الْحِجَارَةَ فِي سَاعَةٍ. فَقَالَ أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ وَأَطَقْتَ مَا لَمْ أَرَكَ تُطِيقُهُ. ثُمَّ عُرِضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ فَقَالَ إِنِّي أَحْسَبُكَ أَمِينًا فاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي خِلَافَةً حَسَنَةً قَالَ فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ قَالَ إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ قَالَ لَيْسَ تَشُقُّ عَلَيَّ قَالَ فَاضْرِبْ مِنَ اللَّبِنِ لِبَيْتِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ فمضى الرجل لسفره فرجع وقد شيد بناؤه فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ مَا سَبِيلُكَ وَمَا أَمْرُكَ فَقَالَ سَأَلْتَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ وَالسُّؤَالُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ سَأُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا أَنَا الْخَضِرُ الَّذِي سَمِعْتَ بِهِ سَأَلَنِي مِسْكِينٌ صدقة فلم يكن عندي من شَيْءٌ أُعْطِيهِ فَسَأَلَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ فَأَمْكَنْتُهُ مِنْ رَقَبَتِي فَبَاعَنِي وَأُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللَّهِ فَرَدَّ سَائِلَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ وَقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِلْدُهُ لَا لَحْمَ لَهُ وَلَا عَظْمَ يَتَقَعْقَعُ. فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ باللَّه شَقَقْتُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَلَمْ أَعْلَمْ فَقَالَ لَا بَأْسَ أَحْسَنْتَ وَأَبْقَيْتَ. فَقَالَ الرَّجُلُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ احْكُمْ فِي أَهْلِي وَمَالِي بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ أَوْ أُخَيِّرُكَ فَأُخَلِّي سَبِيلَكَ فَقَالَ أُحِبُّ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلِي فَأَعْبُدُ رَبِّي فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالَ الْخَضِرُ الْحَمْدُ للَّه الَّذِي أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ ثُمَّ نَجَّانِي مِنْهَا. وَهَذَا حَدِيثٌ رَفْعُهُ خَطَأٌ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا وَفِي رِجَالِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ عُجَالَةِ الْمُنْتَظِرِ فِي شَرْحِ حَالِ الْخَضِرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضَّحَّاكِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ بقية. وقد روى الحافظ بن عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى السُّدِّيُّ أَنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ كَانَا أَخَوَيْنِ وَكَانَ أَبُوهُمَا مَلِكًا فَقَالَ إِلْيَاسُ لِأَبِيهِ إِنَّ أَخِي الْخَضِرَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي الْمُلْكِ فَلَوْ أَنَّكَ زَوَّجْتَهُ لَعَلَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ وَلَدٌ يَكُونُ الْمُلْكُ لَهُ فَزَوَّجَهُ أَبُوهُ بِامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ بِكْرٍ فَقَالَ لَهَا الْخَضِرُ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ فَإِنْ(1/330)
شِئْتِ أَطْلَقْتُ سَرَاحَكِ وَإِنْ شِئْتِ أَقَمْتِ مَعِي تَعْبُدِينَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتَكْتُمِينَ عَلَى سِرِّي فَقَالَتْ نَعَمْ وَأَقَامَتْ مَعَهُ سَنَةً. فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ دَعَاهَا الْمَلِكُ فَقَالَ إِنَّكِ شَابَّةٌ وَابْنِي شَابٌّ فَأَيْنَ الْوَلَدُ فَقَالَتْ إِنَّمَا الْوَلَدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَأَمَرَهُ أَبُوهُ فَطَلَّقَهَا وَزَوَّجَهُ بأخرى ثَيِّبًا قَدْ وُلِدَ لَهَا فَلَمَّا زُفَّتْ إِلَيْهِ قَالَ لَهَا كَمَا قَالَ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَأَجَابَتْ إِلَى الْإِقَامَةِ عِنْدَهُ. فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ سَأَلَهَا الْمَلِكُ عَنِ الْوَلَدِ فَقَالَتْ إِنَّ ابْنَكَ لَا حاجة له بالنساء فَتَطَلَّبَهُ أَبُوهُ فَهَرَبَ فَأَرْسَلَ وَرَاءَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. فَيُقَالُ إِنَّهُ قَتَلَ الْمَرْأَةَ الثَّانِيَةَ لِكَوْنِهَا أَفْشَتْ سِرَّهُ فَهَرَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَأَطْلَقَ سَرَاحَ الْأُخْرَى فَأَقَامَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ يَوْمًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَهُ أَنَّى لَكَ هَذَا الِاسْمُ فَقَالَ إِنِّي مِنْ أَصْحَابِ الْخَضِرِ فَتَزَوَّجَتْهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا. ثُمَّ صَارَ مِنْ أَمْرِهَا أَنْ صَارَتْ مَاشِطَةَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا تُمَشِّطُهَا إِذْ وَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ أَبِي فَقَالَتْ لَا رَبِّي وَرَبُّكِ وَرَبُّ أبيك الله فأعلمت أباها فامر بنقرة مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أُمِرَ بِهَا فَأُلْقِيَتْ فِيهِ فَلَمَّا عَايَنَتْ ذَلِكَ تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا ابْنٌ مَعَهَا صَغِيرٌ يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ فَمَاتَتْ رَحِمَهَا اللَّهُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْأَعْمَى نُفَيْعٍ وَهُوَ كَذَّابٌ وَضَّاعٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ومن طريق كثير ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ كَذَّابٌ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ الْخَضِرَ جَاءَ لَيْلَةً فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ اللَّهمّ أَعِنِّي عَلَى مَا يُنَجِّينِي مِمَّا خَوَّفْتَنِي وَارْزُقْنِي شَوْقَ الصَّالِحِينَ إِلَى مَا شَوَّقَتْهُمْ إِلَيْهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السلام وقال قُلْ لَهُ إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَمَا فَضَّلَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ وَفَضَّلَ أُمَّتَكَ عَلَى الْأُمَمِ كَمَا فَضَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ الْحَدِيثَ وَهُوَ مَكْذُوبٌ لَا يَصِحُّ سَنَدًا وَلَا مَتْنًا كَيْفَ لَا يَتَمَثَّلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجِيءُ بِنَفْسِهِ مُسَلِّمًا وَمُتَعَلِّمًا وَهُمْ يَذْكُرُونَ فِي حِكَايَاتِهِمْ وَمَا يُسْنِدُونَهُ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ أَنَّ الْخَضِرَ يَأْتِي إِلَيْهِمْ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ وَمَحَالَّهُمْ وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يَعْرِفُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَلِيمَ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ حَتَّى يَتَعَرَّفَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادَى بَعْدَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا وَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرُ الْإِسْنَادِ سَقِيمُ الْمَتْنِ يَتَبَيَّنُ فِيهِ أَثَرُ الصَّنْعَةِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ قَائِلًا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالَوَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ حَدَّثَنَا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ فَبَكَوْا حَوْلَهُ وَاجْتَمَعُوا فَدَخَلَ رَجُلٌ أَشْهَبُ اللِّحْيَةِ جَسِيمٌ صَبِيحٌ فَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ فَبَكَى ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَعِوَضًا مَنْ كُلِّ فَائِتٍ وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ فَإِلَى اللَّهِ فَأَنِيبُوا وَإِلَيْهِ فَارْغُبُوا ونظر إِلَيْكُمْ فِي الْبَلَاءِ فَانْظُرُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ لَمْ يُجْبَرْ وَانْصَرَفَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعْرِفُونَ الرَّجُلَ فَقَالَ أَبُو بكر وعلى(1/331)
نعم هو أَخُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ كَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ بِهِ وَفِي مَتْنِهِ مُخَالَفَةٌ لِسِيَاقِ الْبَيْهَقِيِّ ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ ضَعِيفٌ وَهَذَا مُنْكَرٌ بِمَرَّةٍ قُلْتُ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصمد هذا هو بن مَعْمَرٍ الْبَصْرِيِّ. رَوَى عَنْ أَنَسٍ نُسْخَةً قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْعُقَيْلِيُّ أَكْثَرُهَا مَوْضُوعٌ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جدا منكره. وقال بن عَدِيٍّ عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ فِي فَضَائِلِ عَلِيٍّ وَهُوَ ضَعِيفٌ غَالٍ فِي التَّشَيُّعِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاءت التَّعْزِيَةُ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ وَدَرْكًا مَنْ كُلِّ فَائِتٍ فباللَّه فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَتُدْرُونَ مَنْ هَذَا. هَذَا الْخَضِرُ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ الْقَاسِمُ الْعُمَرِيُّ مَتْرُوكٌ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَكْذِبُ. زَادَ أَحْمَدُ وَيَضَعُ الْحَدِيثَ ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ وَمَثَلُهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ. وَلَا يَصِحُّ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى جَنَازَةٍ إِذْ سَمِعَ هَاتِفًا وَهُوَ يَقُولُ لَا تَسْبِقْنَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَانْتَظَرَهُ حَتَّى لَحِقَ بِالصَّفِّ فَذَكَرَ دُعَاءَهُ لِلْمَيِّتِ إِنْ تُعَذِّبْهُ فَكَثِيرًا عَصَاكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُ فَفَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ طُوبَى لَكَ يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَرِيفًا أَوْ جَابِيًا أَوْ خَازِنًا أَوْ كَاتِبًا أَوْ شُرْطِيًّا فَقَالَ عُمَرُ خُذُوا الرَّجُلَ نَسْأَلْهُ عَنْ صَلَاتِهِ وَكَلَامِهِ عَمَّنْ هُوَ. قَالَ فَتَوَارَى عَنْهُمْ فَنَظَرُوا فَإِذَا أَثَرُ قَدَمِهِ ذِرَاعٌ. فَقَالَ عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ الْخَضِرُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ مُبْهَمٌ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ وَلَا يَصِحُّ مَثَلُهُ.
وروى الحافظ بن عَسَاكِرَ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محرز عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ دَخَلْتُ الطَّوَافَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ مُتَعَلِّقٍ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ يَا مَنْ لَا يَمْنَعُهُ سَمْعٌ من سَمْعٍ وَيَا مَنْ لَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ وَيَا مَنْ لَا يُبْرِمُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ وَلَا مَسْأَلَةُ السَّائِلِينَ ارْزُقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ قَالَ فَقُلْتُ أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَ فَقَالَ لِي أو سمعته قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ لِي وَالَّذِي نَفْسُ الْخَضِرِ بِيَدِهِ قَالَ وَكَانَ هُوَ الْخَضِرَ لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ خَلْفَ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ له ذنوبه ولو كانت مثل دبد الْبَحْرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَعَدَدِ النُّجُومِ لَغَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ. وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بن المحرز فَإِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ مَحْفُوظِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ بَيْنَمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إِذَا هُوَ برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول يا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَيَا مَنْ لَا يُغْلِطُهُ السَّائِلُونَ وَيَا مَنْ لَا يتبرم بإلحاح الملحين ارزقنى بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ(1/332)
قَالَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعِدْ دُعَاءَكَ هَذَا قَالَ وَقَدْ سَمِعْتَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَادْعُ بِهِ فِي دُبُرِ كُلِّ صلاة فو الّذي نفس الخضر بيده لو كان عَلَيْكَ مِنَ الذُّنُوبِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ وَمَطَرِهَا وَحَصْبَاءِ الْأَرْضِ وَتُرَابِهَا لَغَفَرَ لَكَ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ. وَهَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقد أورد ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. ثُمَّ قَالَ وَهَذَا إِسْنَادٌ مَجْهُولٌ مُنْقَطِعٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْخَضِرُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن يزيد أملاه عَلَيْنَا بِعَبَّادَانَ أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا الحسن بن زريق عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَلْتَقِي الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ كُلَّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ وَيَتَفَرَّقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَصْرِفُ الشَّرَّ إِلَّا اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه. قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنَّ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ آمَنَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالسَّرَقِ قَالَ وَأَحْسَبُهُ قَالَ وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرُ هَذَا الشَّيْخِ عَنْهُ يَعْنِي الْحَسَنَ بن زريق هَذَا وَقَدْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ أَيْضًا وَمَعَ هَذَا قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ أبو أحمد بن عَدِيٍّ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ مَجْهُولٌ وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
وَقَالَ أَبُو الحسن بن المنادي هو حديث واه بالحسن بن زريق. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْجَهْضَمِيِّ وَهُوَ كَذَّابٌ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ الْمَقْدِسِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا قَالَ يَجْتَمِعُ كُلَّ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَالْخَضِرُ وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا مَوْضُوعًا تَرَكْنَا إِيرَادَهُ قَصْدًا وللَّه الْحَمْدُ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طريق هشام ابن خَالِدٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى الْخُشَنِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ قَالَ إِلْيَاسُ وَالْخَضِرُ يَصُومَانِ شهر رمضان ببيت الْمَقْدِسِ وَيَحُجَّانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيَشْرَبَانِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً وَاحِدَةً تَكْفِيهُمَا إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بَانِيَ جَامِعِ دِمَشْقَ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَبَّدَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ الْقَوَمَةَ أَنْ يُخْلُوهُ لَهُ فَفَعَلُوا فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ جَاءَ مِنْ بَابِ السَّاعَاتِ فَدَخَلَ الْجَامِعَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ الْخَضْرَاءِ فَقَالَ لِلْقَوَمَةِ أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُخْلُوهُ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْخَضِرُ يَجِيءُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُصَلِّي هَاهُنَا. وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بن إسماعيل ابن أحمد أنبأنا أبو بكر بن الطَّبَرِيِّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ هُوَ(1/333)
ابْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ العزيز حدثنا حمزة عن السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى عَنْ رَبَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ قَالَ رَأَيْتُ رَجُلًا يُمَاشِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعْتَمَدًا عَلَى يَدَيْهِ فَقُلْتُ في نفسي إن هذا الرجل حافى قَالَ فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْتُ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدِكَ آنِفًا قال وهل رأيته يا رباح قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا أَحْسَبُكَ إِلَّا رَجُلًا صَالِحًا ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ بَشَّرَنِي أَنِّي سَأَلِي وأعدل. قال الشيخ أبو الفرج بن الْجَوْزِيِّ الرَّمْلِيُّ مَجْرُوحٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ قَدَحَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي فِي ضَمْرَةَ وَالسَّرِيِّ ورباح. ثم أورد من طرق أخر عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالْخَضِرِ وَضَعَّفَهَا كُلَّهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَبِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَجَمَاعَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَالْحِكَايَاتُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى حَيَاتِهِ إِلَى الْيَوْمِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا لَا يَقُومُ بِمِثْلِهَا حُجَّةٌ فِي الدِّينِ وَالْحِكَايَاتُ لَا يَخْلُو أَكْثَرُهَا عَنْ ضَعْفٍ فِي الْإِسْنَادِ وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أخبرنى عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قال حدثنا رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنِ الدجال وقال فِيمَا يُحَدِّثُنَا يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِهِمْ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِهِ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيَى وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَشَدَّ بَصِيرَةً فِيكَ مِنِّي الْآنَ قَالَ فَيُرِيدُ قَتْلَهُ الثَّانِيَةَ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ قَالَ معمر بلغني أنه يجعل على حلقه صحيفة مِنْ نُحَاسٍ وَبَلَغَنِي أَنَّهُ الْخَضِرُ الَّذِي يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ ثُمَّ يُحْيِيهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِهِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ الرَّاوِي عَنْ مُسْلِمٍ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْخَضِرُ وَقَوْلُ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ بَلَغَنِي لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَيَأْتِي بِشَابٍّ مُمْتَلِئٍ شَبَابًا فَيَقْتُلُهُ وَقَوْلُهُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ بَلْ يَكْفِي التَّوَاتُرُ. وَقَدْ تَصَدَّى الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بن الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عُجَالَةُ الْمُنْتَظَرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ فَبَيَّنَ أَنَّهَا مَوْضُوعَاتٌ وَمِنَ الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بَعْدَهُمْ فَبَيَّنَ ضَعْفَ أَسَانِيدِهَا بِبَيَانِ أَحْوَالِهَا وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ وَأَمَّا الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ومنهم البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسين بن الْمُنَادِي وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدِ انْتَصَرَ لِذَلِكَ وَأَلَّفَ فِيهِ كِتَابًا سَمَّاهُ عُجَالَةَ الْمُنْتَظَرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ فَيَحْتَجُّ لَهُمْ بأشياء كثيرة منها قوله (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ من قَبْلِكَ الْخُلْدَ) 21: 34 فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ بَشَرًا فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ منه إلا بدليل صحيح انتهى وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ حَتَّى يَثْبُتَ وَلَمْ يُذْكَرْ مَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ عَنْ مَعْصُومٍ يَجِبُ قَبُولُهُ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ(1/334)
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ من الشَّاهِدِينَ) 3: 81 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ به وينصرنه. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ فَلَوْ كَانَ حَيًّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَشْرَفُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ يُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَنْصُرُهُ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالصَّدِيقُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَمُوسَى أَفْضَلُ مِنْهُ وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي. وَهَذَا الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَيَعْلَمُ مِنَ الدِّينِ عِلْمَ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُكَلَّفُونَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانُوا كُلُّهُمْ أَتْبَاعًا لَهُ وَتَحْتَ أَوَامِرِهِ وَفِي عُمُومِ شَرْعِهِ كَمَا أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمَّا اجْتَمَعَ مَعَهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ رُفِعَ فَوْقَهُمْ كُلِّهِمْ وَلَمَّا هَبَطُوا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحَانَتِ الصَّلَاةُ أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ وَدَارِ إِقَامَتِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أنه الامام الأعظم والرسول الخاتم البجل الْمُقَدَّمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَإِذَا عُلِمَ هَذَا وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مُؤْمِنٍ عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِمَّنْ يَقْتَدِي بِشَرْعِهِ لَا يَسَعُهُ إِلَّا ذَلِكَ هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَا يَحِيدُ عَنْهَا وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يُنْقَلْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالًا فِي مَشْهَدٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ وَهَذَا يَوْمُ بَدْرٍ يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِيمَا دَعَا بِهِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَنْصَرَهُ وَاسْتَفْتَحَهُ عَلَى مَنْ كَفَرَهُ اللَّهمّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ وَتِلْكَ الْعِصَابَةُ كَانَ تَحْتَهَا سَادَةُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَسَادَةُ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي بَيْتٍ يُقَالُ إِنَّهُ أَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَتْهُ العرب
وثبير بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ ... جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ
فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ وُقُوفُهُ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ أَشْرَفَ مَقَامَاتِهِ وَأَعْظَمَ غَزَوَاتِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ سُئِلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْخَضِرِ هَلْ مَاتَ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ وَبَلَغَنِي مِثْلُ هَذَا عَنْ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْغُبَارِيِّ قَالَ وَكَانَ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْعُجَالَةِ فَإِنْ قيل فهل يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ.
فَالْجَوَابُ أن الأصل عدم هذا الاحتمام الْبَعِيدِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ بِمُجَرَّدِ التوهمات.(1/335)
ثم ما الحاصل لَهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِفَاءِ وَظُهُورُهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ وَأَعْلَى فِي مَرْتَبَتِهِ وَأَظْهَرُ لِمُعْجِزَتِهِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَهُ لَكَانَ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ وَإِنْكَارُهُ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ وَالرِّوَايَاتِ الْمَقْلُوبَةِ وَالْآرَاءِ الْبِدْعِيَّةِ وَالْأَهْوَاءِ الْعَصَبِيَّةِ وَقِتَالُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ وَشُهُودُهُ جُمُعَهُمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَنَفْعُهُ إِيَّاهُمْ وَدَفْعُهُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ مِمَّنْ سِوَاهُمْ وَتَسْدِيدُهُ الْعُلَمَاءَ وَالْحُكَّامَ وَتَقْرِيرُهُ الْأَدِلَّةَ وَالْأَحْكَامَ أفضل ما يُقَالُ عَنْهُ مِنْ كُنُونِهِ فِي الْأَمْصَارِ. وَجَوْبِهِ الْفَيَافِيَ وَالْأَقْطَارَ. وَاجْتِمَاعِهِ بِعُبَّادٍ لَا يُعْرَفُ أَحْوَالُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَجَعْلِهِ لَهُمْ كَالنَّقِيبِ الْمُتَرْجِمِ عَنْهُمْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَوَقَّفُ أَحَدٌ فِيهِ بعد التفهيم وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لَيْلَةً الْعِشَاءَ ثُمَّ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ إِلَى مِائَةٍ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ أَحَدٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عَيْنٌ تَطْرِفُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سليمان ابن أبى خيثمة أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ صَلَّى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ أَوْ بِشَهْرٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ أَوْ مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ الْيَوْمَ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَيَّةٌ وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا بن لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ يَسْأَلُونَنِي عَنِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ أُقْسِمُ باللَّه مَا عَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ وَأَبِي الزُّبَيْرِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَالَ الترمذي حدثنا عباد حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ قال قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ. وَهَذَا أَيْضًا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ تَقْطَعُ دَابِرَ دَعْوَى حَيَاةِ الْخَضِرِ قَالُوا فَالْخَضِرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدْرَكَ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ الْمَظْنُونُ الَّذِي يَتَرَقَّى فِي الْقُوَّةِ إِلَى الْقَطْعِ فَلَا إِشْكَالَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ فَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أنه لم يعش بعد مِائَةَ سَنَةٍ فَيَكُونُ الْآنَ مَفْقُودًا لَا مَوْجُودًا لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُخَصَّصِ لَهُ حَتَّى يَثْبُتَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ يَجِبُ قَبُولُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّعْرِيفُ وَالْإِعْلَامُ عَنِ البخاري وشيخه أبى بكر بن الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ مَاتَ بَعْدَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَفِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِهَذَا وَأَنَّهُ بَقِيَ إِلَى زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرٌ وَرَجَّحَ السُّهَيْلِيُّ بَقَاءَهُ وَحَكَاهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُ(1/336)
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَتُهُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ بَعْدَهُ فَمَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا ضَعَّفْنَاهُ وَلَمْ يورد أسانيدها والله أعلم
واما إِلْيَاسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ من عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 37: 123- 132 قال علماء النسب هو الياس التشبى ويقال ابن ياسين بن فنحاص ابن العيزار بن هارون وقيل الياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران. قالوا وكان إرساله الى أهل بعلبكّ غربي دمشق فدعاهم الى الله عز وجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا. وقيل كانت امرأة اسمها بعل والأول أصح. ولهذا قال لهم (أَلا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) 37: 124- 126 فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَيُقَالُ إِنَّهُ هَرَبَ مِنْهُمْ وَاخْتَفَى عَنْهُمْ قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ وَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ كعب الأحبار أنه قال إن الياس اختفى مَنْ مَلِكِ قَوْمِهِ فِي الْغَارِ الَّذِي تَحْتَ الدَّمِ عَشْرَ سِنِينَ حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ الْمَلِكَ وَوَلَّى غَيْرَهُ فَأَتَاهُ إِلْيَاسُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ غَيْرَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْهُمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ هَاشِمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَةِ دِمَشْقَ قَالَ أَقَامَ إِلْيَاسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَارِبًا مِنْ قَوْمِهِ فِي كَهْفِ جَبَلٍ عِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ قَالَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً تَأْتِيهِ الْغِرْبَانُ بِرِزْقِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ إِدْرِيسُ ثُمَّ نُوحٌ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ ثُمَّ يَعْقُوبُ ثُمَّ يُوسُفُ ثُمَّ لُوطٌ ثُمَّ هُودٌ ثُمَّ صَالِحٌ ثُمَّ شُعَيْبٌ ثُمَّ مُوسَى وَهَارُونُ ابْنَا عِمْرَانَ ثُمَّ إِلْيَاسُ التشبى بْنِ الْعَازِرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ قَاهَثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ابن إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ هَكَذَا قَالَ وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ وَقَالَ مَكْحُولٌ عَنْ كَعْبٍ أَرْبَعَةُ أَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ اثْنَانِ فِي الْأَرْضِ إِلْيَاسُ وَالْخَضِرُ وَاثْنَانِ فِي السَّمَاءِ إِدْرِيسُ وَعِيسَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرَ يَجْتَمِعَانِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُمَا يَحُجَّانِ كُلَّ سَنَةٍ وَيَشْرَبَانِ مِنْ زَمْزَمَ شَرْبَةً تَكْفِيهُمَا إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَأَوْرَدْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ بِعَرَفَاتٍ كُلَّ سَنَةٍ وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ أَنَّ الْخَضِرَ مَاتَ وَكَذَلِكَ إِلْيَاسُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَمَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ لَمَّا كذَّبُوهُ وَآذَوْهُ(1/337)
فَجَاءَتْهُ دَابَّةٌ لَوْنُهَا لَوْنُ النَّارِ فَرَكِبَهَا وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ رِيشًا وَأَلْبَسَهُ النُّورَ وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَصَارَ مَلَكِيًّا بَشَرِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا وَأَوْصَى إِلَى الْيَسَعِ بْنِ أَخْطُوبَ فَفِي هذا نظر وهو من الإسرائيلات الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ صِحَّتَهَا بَعِيدَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ أحمد ابن سعيد المعداني ببخارا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْبَلَوِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْوَادِي يَقُولُ اللَّهمّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرحومة المغفورة المتاب لَهَا قَالَ فَأَشْرَفْتُ عَلَى الْوَادِي فَإِذَا رَجُلٌ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ فَقَالَ لِي من أنت فقلت أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قُلْتُ هُوَ ذَا يَسْمَعُ كَلَامَكَ قَالَ فَأْتِهِ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ أَخُوكَ إِلْيَاسُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ فَجَاءَ حَتَّى لَقِيَهُ فَعَانَقَهُ وَسَلَّمَ ثُمَّ قعدا يتحادثان فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَا آكُلُ فِي سَنَةٍ إِلَّا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمُ فِطْرِي فَآكُلُ أَنَا وَأَنْتَ قَالَ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمَا مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا خُبْزٌ وَحُوتٌ وَكَرَفْسٌ فأكلا وأطعمانى وصلينا العصر ثم ودعه ورأيت مَرَّ فِي السَّحَابِ نَحْوَ السَّمَاءِ. فَقَدْ كَفَانَا الْبَيْهَقِيُّ أَمْرَهُ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيَّ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدْرَكُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَدْرَكِ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مِنْ وُجُوهٍ. وَمَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ إِلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِالسَّعْي إِلَى بَيْنِ يَدَيْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ سَلَبَهُ اللَّهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَشْرَبُ مِنْ زَمْزَمَ كُلَّ سَنَةٍ شَرْبَةً تَكْفِيهِ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْحَوْلِ الْآخَرِ. وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُتَعَارِضَةٌ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا. وَقَدْ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَاعْتَرَفَ بِضَعْفِهَا وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ كَيْفَ تكلم عليه فإنه أورده من طريق حسين بْنِ عَرَفَةَ عَنْ هَانِئِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ بَقِيَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ عن ابن الْأَسْقَعِ فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا مُطَوَّلًا وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنس ابن مَالِكٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَالَا فَإِذَا هُوَ أعلى جسما بذراعين أو ثلاثة واعتذر بعدم قدرته لِئَلَّا تَنْفِرَ الْإِبِلُ وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَا مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَقَالَ إِنَّ لِي فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَكْلَةً وَفِي الْمَائِدَةِ خُبْزٌ وَرُمَّانٌ وَعِنَبٌ وَمَوْزٌ وَرُطَبٌ وَبَقْلٌ مَا عَدَّا الْكُرَّاثَ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنِ الْخَضِرِ فَقَالَ عَهْدِي بِهِ عَامَ أَوَّلَ وَقَالَ لِي إِنَّكَ سَتَلْقَاهُ قَبْلِي فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. وَهَذَا يَدُلُّ على أن الخضر(1/338)
وَإِلْيَاسَ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِمَا وَصِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَجْتَمِعَا بِهِ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهَذَا لَا يَسُوغُ شَرْعًا وَهَذَا مَوْضُوعٌ أَيْضًا. وقد أورد ابن عساكر طرقا فيمن اجْتَمَعَ بِإِلْيَاسَ مِنَ الْعُبَّادِ وَكُلُّهَا لَا يُفْرَحُ بِهَا لِضَعْفِ إِسْنَادِهَا أَوْ لِجَهَالَةِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا وَمِنْ أَحْسَنِهَا مَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ كُنَّا مَعَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ فَدَخَلْتُ حَائِطًا أُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ فَافْتَتَحْتُ (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) 40: 1- 3. فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية فقال لي إذا قلت غافر الذنب فَقُلْ يَا غَافِرَ الذَّنْبِ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَإِذَا قُلْتَ قَابِلِ التَّوْبِ فَقُلْ يَا قَابِلَ التَّوْبِ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي. وَإِذَا قُلْتَ شَدِيدِ الْعِقَابِ فَقُلْ يَا شَدِيدَ الْعِقَابِ لَا تُعَاقِبْنِي. وَإِذَا قلت ذي الطول فَقُلْ يَا ذَا الطَّوْلِ تَطَوَّلْ عَلَيَّ بِرَحْمَةٍ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا لَا أَحَدَ وَخَرَجْتُ فَسَأَلْتُ مَرَّ بِكُمْ رَجُلٌ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهِ مُقَطِّعَاتٌ يَمَنِيَّةٌ فَقَالُوا مَا مَرَّ بِنَا أَحَدٌ فَكَانُوا لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُ إِلْيَاسُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى. (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) 37: 127 أي للعذاب إما في الدنيا والآخرة أو فِي الْآخِرَةِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ المفسرون والمؤرخون. (وقوله إِلَّا عِبادَ الله الْمُخْلَصِينَ) 37: 40 أَيْ إِلَّا مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ في الْآخِرِينَ) 37: 78 أَيْ أَبْقَيْنَا بَعْدَهُ ذِكْرًا حَسَنًا لَهُ فِي الْعَالَمِينَ فَلَا يُذْكَرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلِهَذَا قَالَ (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) 37: 130 أي سلام على الياس. العرب تُلْحِقُ النُّونَ فِي أَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ وَتُبَدِّلُهَا مِنْ غَيْرِهَا كَمَا قَالُوا إِسْمَاعِيلُ وَإِسْمَاعِينُ وَإِسْرَائِيلُ وإِسْرَائِينُ وَإِلْيَاسُ وَإِلْيَاسِينُ. وَمَنْ قَرَأَ سَلَامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ أَيْ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ. وَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَحَكَاهُ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ كما تقدم والله أعلم.
بحمد الله تعالى قد تم الجزء الأول من كتاب البداية والنهاية ويليه الجزء الثاني وأوله (بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد موسى عليه السلام) وقد بذلنا الجهد في تصحيحه وتنقيحه مع الأستاذ العلامة والمحقق الفهامة الشيخ محمود الامام المنصوري من كبار المدرسين بالأزهر الشريف فصار الكتاب مصححا تصحيحا جيدا إلا ما سبق عنه النظر وزاغ عنه البصر (هذا) وليعلم أيضا أنه طبع على ثلاث نسخ قديمة مهمة ما عدا الثمانية ملازم الأول فإنها طبعت على النسختين الموجودتين بالمكتبة الملكية المصرية قبل أن تصلنا النسخة الحلبية. وقد تعهد الأستاذ العلامة الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي بمقابلة الملازم المذكورة بالنسخة الحلبية العظيمة وبيان الاختلاف لنلحقه بآخر الكتاب. بعون الملك الوهاب مع ما يعرض في أثناء الطبع من الملاحظات فنرجو من قراء هذا الجزء أن ينهونا على ما يقع نظرهم عليه من الخطأ والصواب لنستدركه في آخر الكتاب ولهم الأجر والثواب حرره الفقير اليه فرج الله ذكي الكردي(1/339)
اعتمدت لطبع هذا الكتاب النسخة المخطوطة المحفوظة بالمدرسة الأحمدية بمدينة حلب بعد معارضتها على النسخة المصورة المحفوظة بدار الكتب المصرية، ومراجعة مختصر سيرة ابن إسحاق لابن هشام وشرحها الروض الأنف للسهيلي ودلائل النبوة للحافظ أبي نعيم والسيرة النبويّة الشامية ومعاجم اللغة.(1/343)
[المجلد الثاني]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد موسى عليه السلام
ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ وَأُمُورِ السَّالِفِينِ من أمتنا وغيرهم أن القائم بِأُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ يُوشَعَ كَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا يَعْنِي أَحَدَ أَصْحَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ مَرْيَمَ وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ مِمَّنْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَهُمَا يُوشَعُ وَكَالِبُ وَهُمَا الْقَائِلَانِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ نَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ كَانَ القائم بأمور بنى إسرائيل حزقيل بن يوذى وَهُوَ الَّذِي دَعَا اللَّهَ فَأَحْيَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ
قِصَّةُ حِزْقِيلَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ 2: 243. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ(2/2)
وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ إِنَّ كَالِبَ بْنَ يُوفَنَّا لَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ يُوشَعَ خَلَفَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِزْقِيلَ بْنَ بُوذَى وَهُوَ ابْنُ الْعَجُوزِ وَهُوَ الَّذِي دَعَا لِلْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِيمَا بَلَغَنَا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) 2: 243 قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَرُّوا مِنَ الْوَبَاءِ فَنَزَلُوا بِصَعِيدٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فَمَاتُوا جَمِيعًا فَحَظَرُوا عَلَيْهِمْ حَظِيرَةً دُونَ السِّبَاعِ فَمَضَتْ عَلَيْهِمْ دُهُورٌ طَوِيلَةٌ فَمَرَّ بِهِمْ حِزْقِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ مُتَفَكِّرًا فَقِيلَ لَهُ أَتُحِبُّ أَنْ يَبْعَثَهُمُ اللَّهُ وَأَنْتَ تَنْظُرُ فَقَالَ نَعَمْ فَأُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ تِلْكَ الْعِظَامَ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا وَأَنْ يَتَّصِلَ الْعَصَبُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَنَادَاهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ فَقَامَ الْقَوْمُ أَجْمَعُونَ وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ 2: 243 قَالُوا كَانَتْ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا دَاوَرْدَانُ قِبَلَ وَاسِطَ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَنَزَلُوا نَاحِيَةً مِنْهَا فَهَلَكَ مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الْآخَرُونَ فَلَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ كَثِيرٌ فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا سَالِمِينَ فَقَالَ الَّذِينَ بَقُوا أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا بَقِينَا وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً لَنَخْرُجَنَّ مَعَهُمْ فَوَقَعَ فِي قَابِلٍ فَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا حَتَّى نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ وَهُوَ وَادٍ أَفْيَحُ فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ أَنْ مُوتُوا فَمَاتُوا حَتَّى إِذَا هَلَكُوا وَبَقِيَتْ أَجْسَادُهُمْ مَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حِزْقِيلُ فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِيهِمْ وَيَلْوِي شِدْقَيْهِ وَأَصَابِعَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّمَا كَانَ تَفَكُّرُهُ أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ نَادِ فَنَادَى يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى كَانَتْ أَجْسَادًا مِنْ عظام ثم أوحى الله اليه ان ناديا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا فَاكْتَسَتْ لَحْمًا وَدَمًا وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا. ثُمَّ قِيلَ لَهُ نَادِ فَنَادَى أَيَّتُهَا الْأَجْسَادُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي فَقَامُوا. قَالَ أَسْبَاطٌ فَزَعَمَ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ قالوا حين أحيوا (سبحانك اللَّهمّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَحْيَاءً يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْتَى سَحْنَةَ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عاد رسما حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمُ الَّتِى كُتِبَتْ لَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَعَنْهُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ تِسْعَةَ آلَافٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وعن سعيد ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ أَذَرِعَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ هَذَا مَثَلٌ يَعْنِي أَنَّهُ سِيقَ مَثَلًا مُبَيِّنًا أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَقْوَى أَنَّ هَذَا وَقَعَ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ يَعْنِي فِي مُشَاوَرَتِهِ الْمُهَاجِرِينَ(2/3)
وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا بِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ. وَقَالَ الْإِمَامُ حدثنا حجاج ويزيد المفتى [1] قالا حدثنا ابن أبى ذؤيب عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَخْبَرَ عُمَرُ وَهُوَ فِي الشَّامِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا السَّقَمَ عُذِّبَ بِهِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ فَرَجَعَ عُمَرُ مِنَ الشَّامِ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا مُدَّةَ لُبْثِ حِزِقْيلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَهُ إِلَيْهِ فَلَمَّا قُبِضَ نَسِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ بَعْلٌ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ بْنَ يَاسِيَنَ بْنِ فِنْحَاصَ بن العيزار بن هارون ابن عِمْرَانَ قُلْتُ وَقَدْ قَدَّمْنَا قِصَّةَ إِلْيَاسَ تَبَعًا لِقِصَّةِ الْخَضِرِ لِأَنَّهُمَا يُقْرَنَانِ فِي الذِّكْرِ غَالِبًا وَلِأَجْلِ أَنَّهَا بَعْدَ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فَتَعَجَّلْنَا قِصَّتَهُ لِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ عَنْ وهب ابن مُنَبِّهٍ قَالَ ثُمَّ تَنَبَّأَ فِيهِمْ بَعْدَ إِلْيَاسَ وَصِّيُهُ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذِهِ
قِصَّةُ الْيَسَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا على العالمين) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ من الْأَخْيارِ 38: 48 قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَبُو حُذَيْفَةَ أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ بَعْدَ إِلْيَاسَ الْيَسَعُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ مُسْتَمْسِكًا بِمِنْهَاجِ إِلْيَاسَ وَشَرِيعَتِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ ثُمَّ خَلَفَ فِيهِمُ الْخُلُوفُ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْخَطَايَا وَكَثُرَتِ الْجَبَابِرَةُ وَقَتَلُوا الأنبياء وكان فيهم ملك عَنِيدٌ طَاغٍ وَيُقَالُ إِنَّهُ الَّذِي تَكَفَّلَ لَهُ ذو الكفل إن هو تاب ورجع دَخَلَ الْجَنَّةَ فَسُمِّى ذَا الْكِفْلِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ. وَقَالَ الحافظ أبو القسم بْنُ عَسَاكِرَ فِي حَرْفِ الْيَاءِ مِنْ تَارِيخِهِ الْيَسَعُ وَهُوَ الْأَسْبَاطُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ شُوتَلْمَ بْنِ أَفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَيُقَالُ هُوَ ابْنُ عَمِّ إِلْيَاسَ النَّبِيِّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَيُقَالُ كَانَ مُسْتَخْفِيًا مَعَهُ بِجَبَلِ قَاسِيُونَ مِنْ مَلِكِ بَعْلَبَكَّ ثُمَّ ذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهَا فَلَمَّا رُفِعَ إِلْيَاسُ خَلَفَهُ الْيَسَعُ فَى قَوْمِهِ وَنَبَّأَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ. ذكر ذلك عبد المنعم بن
__________
[1] هو يزيد بن أبى حبيب قال ابن سعد كان مفتى أهل مصر في زمانه وكان حليما عاقلا وكان أول من أظهر العلم بمصر والكلام في الحلال والحرام ومسائل انتهى محمود الامام(2/4)
إدريس عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. قَالَ وقال غيره وكان بِبَانْيَاسَ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ قِرَاءَةَ مَنْ قرأ اليسع بالتخفيف وبالتشديد ومن قرأ والليسع وَهُوَ اسْمٌ وَاحِدٌ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قُلْتُ قد قدمنا قصة ذا الْكِفْلِ بَعْدَ قِصَّةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ فاللَّه أَعْلَمُ
فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ ثُمَّ مَرَجَ أمر بنى إسرائيل وعظمت منهم الخطوب وَالْخَطَايَا وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَدَلَ الْأَنْبِيَاءِ مُلُوكًا جَبَّارِينَ يَظْلِمُونَهُمْ وَيَسْفِكُونَ دِمَاءَهُمْ وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَيْضًا وَكَانُوا إِذَا قَاتَلُوا أَحَدًا مِنَ الْأَعْدَاءِ يَكُونُ مَعَهُمْ تَابُوتُ الْمِيثَاقِ الَّذِي كَانَ فِي قُبَّةِ الزَّمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَكَانُوا يُنْصَرُونَ بِبَرَكَتِهِ وَبِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ السِّكِّينَةِ وَالْبَقِيَّةِ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هارون فلما كان في بعض حرويهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وَقَهَرُوهُمْ عَلَى أَخْذِهِ فَانْتَزَعُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ مَلِكُ بَنَى إِسْرَائِيلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَالَتْ عُنُقُهُ فَمَاتَ كَمَدًا وَبَقِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَالْغَنَمِ بِلَا رَاعٍ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُقَالُ لَهُ شَمْوِيلُ فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَلِكًا لِيُقَاتِلُوا مَعَهُ الْأَعْدَاءَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. قَالَ ابْنُ جرير فكان من وَفَاةِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ إِلَى أَنَّ بَعْثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَمْوِيلَ بْنَ بَالَى أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَهَا بِمُدَدِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مُلِّكُوا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا تركنا ذكرهم قصدا
قصة شمويل عليه السلام وفيها بدأ أمر داود عليه السلام
هو شمويل ويقال له أَشْمَوِيلُ بْنُ بَالَى بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ يَرْخَامَ بْنِ أَلْيَهْوَ بْنِ تَهْوِ بْنِ صُوفَ بْنِ علقمة ابن مَاحِثَ بْنِ عَمُوصَا بْنِ عِزْرِيَا قَالَ مُقَاتِلٌ وهو من ورثة هَارُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ أَشْمَوِيلُ بْنُ هَلْفَاقَا وَلَمْ يَرْفَعْ فِي نَسَبِهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فاللَّه أَعْلَمُ حَكَى السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالثَّعْلَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَتِ الْعَمَالِقَةُ مِنْ أَرْضِ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَوْا مِنْ أَبْنَائِهِمْ جَمْعًا كَثِيرًا وَانْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ سِبْطِ لَاوِي وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى فَجَعَلَتْ تَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهَا وَلَدًا ذَكَرًا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ أَشْمَوِيلَ وَمَعْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِسْمَاعِيلُ أَيْ سَمْعِ اللَّهُ دُعَائِي فَلَمَّا تَرَعْرَعَ بَعَثَتْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَسْلَمَتْهُ عِنْدَ رَجُلٍ صَالِحٍ فِيهِ يَكُونُ عِنْدَهُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْ خَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ فَكَانَ عِنْدَهُ فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ إِذَا صَوْتٌ يَأْتِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَانْتَبَهَ مَذْعُورًا فَظَنَّهُ الشَّيْخُ يَدْعُوهُ فَسَأَلَهُ أَدَعَوْتَنِي(2/5)
فَكَرِهَ أَنْ يُفْزِعَهُ فَقَالَ نَعَمْ نَمْ فَنَامَ. ثُمَّ نَادَاهُ الثَّانِيَةَ فَكَذَلِكَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَإِذَا جِبْرِيلُ يَدْعُوهُ فَجَاءَهُ فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ قَدْ بَعَثَكَ إِلَى قَوْمِكَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَقال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَالله واسِعٌ عَلِيمٌ. وَقال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 2: 246- 251 قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ كَانَ نَبِيُّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ شَمْوِيلَ. وَقِيلَ شَمْعُونُ وَقِيلَ هُمَا وَاحِدٌ وَقِيلَ يُوشَعُ وَهَذَا بَعِيدٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ بَيْنَ مَوْتِ يُوشَعَ وَبَعْثَةِ شَمْوِيلَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً فاللَّه أَعْلَمُ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَمَّا أَنْهَكَتْهُمُ الْحُرُوبُ وَقَهْرَهُمُ الْأَعْدَاءُ سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُنَصِّبَ لَهُمْ مَلِكًا يَكُونُونَ تَحْتَ طَاعَتِهِ لِيُقَاتِلُوا مِنْ وَرَائِهِ وَمَعَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَعْدَاءَ فَقَالَ لَهُمْ (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ الله) 2: 246 أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُنَا مِنَ الْقِتَالِ وَقَدْ أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) يَقُولُونَ نَحْنُ مَحْرُوبُونَ مَوْتُورُونَ فَحَقِيقٌ لَنَا أَنْ نقاتل عن أبنائنا المنهورين الْمُسْتَضْعَفِينَ فِيهِمْ الْمَأْسُورِينَ فِي قَبْضَتِهِمْ. قَالَ تَعَالَى فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 2: 246 كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ النَّهْرَ مَعَ الْمَلِكِ إِلَّا الْقَلِيلُ وَالْبَاقُونَ رَجَعُوا وَنَكَلُوا عَنِ الْقِتَالِ (وَقال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) 2: 247 قال الثعلبي وهو طالوت بن قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بْنِ أَفِيحَ بْنِ أَنِيسَ بْنِ بِنْيَامِينَ بْنِ يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم الخليل.(2/6)
قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ كَانَ سَقَّاءً وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ دَبَّاغًا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فاللَّه أَعْلَمُ وَلِهَذَا (قالُوا (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً من الْمالِ) 2: 247 وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ فِي سِبْطِ لَاوِي وَأَنَّ الْمُلْكَ كَانَ فِي سِبْطِ يَهُوذَا فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ نَفَرُوا مِنْهُ وَطَعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَذَكَرُوا أَنَّهُ فَقِيرٌ لَا سِعَةَ مِنَ الْمَالِ مَعَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مَلِكًا.
(قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً في الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) 2: 247. قِيلَ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْحَى إِلَى شَمْوِيلَ أَنَّ أَيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ طُولُهُ عَلَى طُولِ هَذِهِ الْعَصَا وَإِذَا حَضَرَ عِنْدَكَ يَفُورُ هَذَا الْقَرْنُ الَّذِي فِيهِ مِنْ دُهْنِ الْقُدْسِ فَهُوَ مِلْكُهُمْ فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ وَيَقِيسُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتِلْكَ الْعَصَا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى طُولِهَا سِوَى طَالُوتَ وَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ شَمْوِيلَ فَارَ ذَلِكَ الْقَرْنُ فَدَهَنَهُ مِنْهُ وَعَيَّنَهُ الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً في الْعِلْمِ) 2: 247 قِيلَ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ وَقِيلَ بَلْ مُطْلَقًا (وَالْجِسْمِ) 2: 247 قِيلَ الطُّولُ وَقِيلَ الْجَمَالُ وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ كَانَ أَجْمَلَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) 2: 247 فَلَهُ الْحُكْمُ وَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ (وَالله واسِعٌ عَلِيمٌ وَقال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) 2: 247- 248 وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَرَكَةِ وِلَايَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ عَلَيْهِمْ وَيُمْنِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّابُوتَ الَّذِي كَانَ سُلِبَ مِنْهُمْ وَقَهْرَهُمُ الْأَعْدَاءُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانُوا يُنْصَرُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ بسببه (فِيهِ سَكِينَةٌ من رَبِّكُمْ) 2: 248 قيل طشت مِنْ ذَهَبٍ كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ صُدُورُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ السِّكِّينَةُ مِثْلُ الرِّيحِ الْخَجُوجِ. وَقِيلَ صُورَتُهَا مِثْلُ الْهِرَّةِ إِذَا صَرَخَتْ فِي حَالِ الْحَرْبِ أَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنَّصْرِ (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) 2: 248 قِيلَ كَانَ فِيهِ رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَشَيْءٌ مِنَ المن الّذي كان نزل عليهم بالتيه (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) 2: 248 أَيْ تَأْتِيكُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ يَحْمِلُونَهُ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ عِيَانًا لِيَكُونَ آيَةً للَّه عَلَيْكُمْ وَحُجَّةً بَاهِرَةً عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُهُ لَكُمْ وَعَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ هَذَا الْمَلِكِ الصَّالِحِ عَلَيْكُمْ وَلِهَذَا قَالَ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) 2: 248 وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ الْعَمَالِقَةُ عَلَى هَذَا التَّابُوتِ وَكَانَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنَ السِّكِّينَةِ وَالْبَقِيَّةِ الْمُبَارَكَةِ. وَقِيلَ كَانَ فِيهِ التَّوْرَاةُ أَيْضًا فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي أَيْدِيهِمْ وَضَعُوهُ تَحْتَ صَنَمٍ لَهُمْ بِأَرْضِهِمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا التَّابُوتُ عَلَى رَأْسِ الصَّنَمِ فَوَضَعُوهُ تَحْتَهُ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي إِذَا التَّابُوتُ فَوْقَ الصَّنَمِ فَلَمَّا تَكَرَّرَ هَذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِمْ وَجَعَلُوهُ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَأَخَذَهُمْ دَاءٌ فِي رِقَابِهِمْ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ هَذَا جَعَلُوهُ فِي عَجَلَةٍ وَرَبَطُوهَا فِي بَقَرَتَيْنِ وَأَرْسَلُوهُمَا فَيُقَالُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ سَاقَتْهُمَا حَتَّى جَاءُوا بِهِمَا مَلَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ كَمَا أَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ فاللَّه أَعْلَمُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ جَاءَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا هُوَ المفهوم بالجنود مِنَ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ (بِالْجُنُودِ) قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) 2: 249.(2/7)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا النَّهْرُ هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنِّ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالشَّرِيعَةِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ بِجُنُودِهِ عِنْدَ هَذَا النَّهْرِ عَنْ أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ لَهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا أَنَّ مَنْ شرب من هذا النهر فَلَا يَصْحَبُنِي فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَلَا يَصْحَبُنِي إِلَّا مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ إِلَّا غُرْفَةً فِي يَدِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ 2: 249.
قَالَ السُّدِّيُّ كَانَ الْجَيْشُ ثَمَانِينَ أَلْفًا فَشَرِبَ منه ستة وسبعون ألفا فبقي معه أَرْبَعَةُ آلَافٍ كَذَا قَالَ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ وَزُهَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ ولم يجاوز معه إلا بِضْعَةَ عَشْرَ وَثَلَاثُمِائَةِ مُؤْمِنٍ. وَقَوْلُ السُّدِّيِّ أَنَّ عِدَّةَ الْجَيْشِ كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَرْضَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا جَيْشُ مُقَاتِلَةٍ يَبْلُغُونَ ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ 2: 249 أَيِ اسْتَقَلُّوا أَنْفُسَهُمْ وَاسْتَضْعَفُوهَا عَنْ مُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ 2: 249 يعنى بها الفرسان مِنْهُمْ. وَالْفُرْسَانُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ الصَّابِرُونَ عَلَى الْجِلَادِ وَالْجِدَالِ وَالطِّعَانِ. وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ 2: 250 طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُفْرِغَ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ أَيْ يَغْمُرَهُمْ بِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ فَتَسْتَقِرَّ قُلُوبُهُمْ وَلَا تَقْلَقَ وَأَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ فِي مَجَالِ الْحَرْبِ وَمُعْتَرَكِ الْأَبْطَالِ وَحَوْمَةِ الْوَغَى وَالدُّعَاءِ إِلَى النِّزَالِ فَسَأَلُوا التَّثَبُّتَ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ بِآيَاتِهِ وَآلَائِهِ فَأَجَابَهُمُ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ السَّمِيعُ البصير الحكيم الخبير الى ما سألوا وأنا لهم مَا إِلَيْهِ فِيهِ رَغِبُوا وَلِهَذَا قَالَ (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله) 2: 251 أَيْ بِحَوْلِ اللَّهِ لَا بِحَوْلِهِمْ وَبِقُوَّةِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ لَا بِقُوَّتِهِمْ وَعَدَدِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ وَكَمَالِ عَدَدِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 3: 123 وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ 2: 251 فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَجَاعَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وانه قتله قتلا أذل به جنده وكسره وَلَا أَعْظَمَ مِنْ غَزْوَةٍ يَقْتُلُ فِيهَا مَلِكٌ عَدُوَّهُ فَيَغْنَمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ وَيَأْسِرُ الْأَبْطَالَ وَالشُّجْعَانَ وَالْأَقْرَانَ وَتَعْلُو كَلِمَةُ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَوْثَانِ وَيُدَالُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ عَلَى أَعْدَائِهِ. وَيَظْهَرُ الدِّينُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَوْلِيَائِهِ وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ فِيمَا يَرْوِيهِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَصْغَرَ أَوْلَادِ أَبِيهِ وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذَكَرًا كَانَ سَمِعَ طَالُوتُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يُحَرِّضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَتْلِ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ وَهُوَ يَقُولُ مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ زَوَّجْتُهُ بِابْنَتِي وَأَشْرَكْتُهُ فِي مُلْكِي وَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْمِي بِالْقَذَّافَةِ وَهُوَ الْمِقْلَاعُ رَمْيًا عَظِيمًا فَبَيْنَا هُوَ سَائِرٌ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ نَادَاهُ حَجَرٌ أَنْ خُذْنِي فَإِنَّ بِي تَقْتُلُ جَالُوتَ فَأَخَذَهُ ثُمَّ(2/8)
حَجَرٌ آخَرُ كَذَلِكَ ثُمَّ آخَرُ كَذَلِكَ فَأَخَذَ الثَّلَاثَةَ فِي مِخْلَاتِهِ فَلَمَّا تَوَاجَهَ الصَّفَّانِ بَرَزَ جَالُوتُ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ دَاوُدُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَإِنِّي أَكْرَهُ قَتْلَكَ فَقَالَ لَكِنِّي أُحِبُّ قَتْلَكَ وَأَخَذَ تِلْكَ الْأَحْجَارَ الثَّلَاثَةَ فَوَضَعَهَا فِي الْقَذَّافَةِ ثُمَّ أَدَارَهَا فَصَارَتِ الثَّلَاثَةُ حَجَرًا وَاحِدًا. ثُمَّ رَمَى بِهَا جَالُوتَ فَفَلَقَ رَأَسَهُ وَفَرَّ جَيْشُهُ مُنْهَزِمًا فَوَفَّى لَهُ طَالُوتُ بِمَا وَعَدَهُ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَأَجْرَى حُكْمَهُ فِي مُلْكِهِ وَعَظُمَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحَبُّوهُ وَمَالُوا إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ طَالُوتَ فَذَكَرُوا أَنَّ طَالُوتَ حَسَدَهُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ وَاحْتَالَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْعُلَمَاءُ يَنْهَوْنَ طَالُوتَ عَنْ قَتْلِ دَاوُدَ فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. ثُمَّ حَصَلَ لَهُ تَوْبَةٌ وَنَدَمٌ وَإِقْلَاعٌ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُ وَجَعَلَ يُكْثِرُ مِنَ الْبُكَاءِ وَيَخْرُجُ إِلَى الْجَبَّانَةِ فَيَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ الثَّرَى بِدُمُوعِهِ فَنُودِيَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْجَبَّانَةِ أَنْ يَا طَالُوتُ قَتَلْتَنَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ وَآذَيْتَنَا وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ فَازْدَادَ لِذَلِكَ بُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ وَاشْتَدَّ وَجَلُهُ ثُمَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ عَالِمٍ يَسْأَلُهُ عَنْ أَمْرِهِ وَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقِيلَ لَهُ وَهَلْ أَبْقَيْتَ عَالِمًا؟ حَتَّى دُلَّ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْعَابِدَاتِ فَأَخَذَتْهُ فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى قَبْرِ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا فَدَعَتِ اللَّهَ فَقَامَ يُوشَعُ مِنْ قَبْرِهِ فَقَالَ أَقَامَتِ الْقِيَامَةُ فَقَالَتْ لَا وَلَكِنَّ هَذَا طَالُوتُ يَسْأَلُكَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ يَنْخَلِعُ مِنَ الْمُلْكِ وَيَذْهَبُ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ. ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا فَتَرَكَ الْمُلْكَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَهَبَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ فَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلُوا قَالُوا فَذَلِكَ قوله وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ 2: 251 هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ بِإِسْنَادِهِ. وَفِي بَعْضِ هَذَا نَظَرٌ وَنَكَارَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ النَّبِيُّ الَّذِي بُعِثَ فَأَخْبَرَ طَالُوتَ بِتَوْبَتِهِ هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا. وذكر الثعلبي انها أتت به الى قبرا شمويل فَعَاتَبَهُ عَلَى مَا صَنَعَ بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ وَهَذَا أَنْسَبُ. وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا رَآهُ فِي النَّوْمِ لَا أَنَّهُ قَامَ مِنَ الْقَبْرِ حَيًّا فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ لم تكن نبية والله أعلم وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُدَّةَ مُلْكِ طَالُوتَ الى أن قتل مع أولاده أربعون سَنَةً فاللَّه أَعْلَمُ
قِصَّةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ وَذِكْرُ فَضَائِلِهِ وَشَمَائِلِهِ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِهِ
هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا [1] بن عويد بن عابر بْنِ سَلَمُونَ بْنِ نَحْشُوَنَ بْنِ عَوِينَاذَبَ بْنِ ارم بن حصرون بن فارص ابن يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَبْدُ اللَّهِ وَنَبِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ فِي أَرْضِ بيت المقدس قال
__________
[1] هكذا بالنسخ والّذي في ابن جرير داود بن ايشى بن عوبد بن باعز بن سلمون بن نحشون ابن عمى نادب بن رام إلخ وفي العرائس خلافهما فراجعه (محمود الامام)(2/9)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصِيرًا أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ قَلِيلَ الشَّعْرِ طَاهِرَ القلب ونقيه. تُقُدِّمَ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ جَالُوتَ وَكَانَ قَتْلُهُ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ عِنْدَ قَصْرِ أُمِّ حَكِيمٍ بِقُرْبِ مَرْجِ الصُّفَّرِ فَأَحَبَّتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَمَالُوا إِلَيْهِ وَإِلَى مُلْكِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ مَا كَانَ وَصَارَ الْمُلْكُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ بين الملك والنبوة بين خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ الْمُلْكُ يَكُونُ فِي سِبْطٍ والنبوة في آخَرَ فَاجْتَمَعَ فِي دَاوُدَ هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 2: 251 أَيْ لَوْلَا إِقَامَةُ الْمُلُوكِ حُكَّامًا عَلَى النَّاسِ لَأَكَلَ قَوِيُّ النَّاسِ ضَعِيفَهُمْ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ (السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ) . وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ (إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ) . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ جَالُوتَ لَمَّا بَارَزَ طَالُوتَ فَقَالَ لَهُ اخْرُجْ الى واخرج إِلَيْكَ فَنَدَبَ طَالُوتُ النَّاسَ فَانْتَدَبَ دَاوُدُ فَقَتَلَ جَالُوتَ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فَمَالَ النَّاسُ إِلَى دَاوُدَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِطَالُوتَ ذِكْرٌ وَخَلَعُوا طَالُوتَ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ دَاوُدَ وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ شَمْوِيلَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إنه ولاه قبل الواقعة. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ انما ولى ذلك بَعْدَ قَتْلِ جَالُوتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ قَتْلَهُ جَالُوتَ كَانَ عِنْدَ قَصْرِ أَمِّ حَكِيمٍ وَأَنَّ النَّهْرَ الَّذِي هُنَاكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فاللَّه أَعْلَمُ وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 34: 10- 11 وَقَالَ تَعَالَى وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ. وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ 21: 79- 80. أعانه الله على عمل المروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء وأرشده الى صنعتها وكيفيتها فقال (وَقَدِّرْ في السَّرْدِ) 34: 11 أي لا تدق المسمار فيغلق وَلَا تُغَلِّظْهُ فَيَفْصِمَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ وعكرمة.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ يَفْتِلُهُ بِيَدِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَارٍ وَلَا مِطْرَقَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ الدُّرُوعَ مِنْ زَرَدٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ صَفَائِحَ قَالَ ابْنُ شَوْذَبٍ كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعًا يَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَدْ ثبت في الحديث أَنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ وَقَالَ تَعَالَى وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ 38: 17- 20 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ الْأَيْدُ الْقُوَّةُ فِي الطَّاعَةِ يَعْنِي ذَا قُوَّةٍ فِي الْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَالَ قَتَادَةُ أُعْطِيَ قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَفِقْهًا فِي الْإِسْلَامِ قَالَ وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَحَبُّ الصَّلَاةِ الى الله صلاة داود(2/10)
وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ) كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى. وَقَوْلُهُ (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) 38: 18- 19 كَمَا قَالَ (يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) 34: 10 أَيْ سَبِّحِي مَعَهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) 38: 18 أَيْ عِنْدَ آخَرِ النَّهَارِ وَأَوَّلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَهَبَهُ مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيمِ مَا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ إِذَا تَرَنَّمَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِ يَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ يُرَجِّعُ بِتَرْجِيعِهِ وَيُسَبَّحُ بِتَسْبِيحِهِ وَكَذَلِكَ الْجِبَالُ تُجِيبُهُ وَتُسَبِّحُ مَعَهُ كُلَّمَا سَبَّحَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ قَالَ أُعْطِيَ دَاوُدُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَطُّ حَتَّى إِنْ كَانَ الطَّيْرُ وَالْوَحْشُ ينعكف حَوْلَهُ حَتَّى يَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا وَحَتَّى إِنَّ الْأَنْهَارَ لَتَقِفُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا حَجَلَ كَهَيْئَةِ الرَّقْصِ وَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِصَوْتٍ لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ فَيَعْكُفُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالدَّوَابُّ عَلَى صَوْتِهِ حَتَّى يَهْلَكَ بَعْضُهَا جُوعًا وَقَالَ أَبُو عوانة الأسفراييني حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ سمعت صبيحا أنبأنا برادح [1] قال ابو عوانة وحدثني أبو العباس المدني حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعَدَوِيُّ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ هُوَ ابْنُ حَاتِمٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الزَّبُورِ تَفَتَّقَتِ الْعَذَارَى وَهَذَا غَرِيبٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْغِنَاءِ فَقَالَ وَمَا بأس بذلك سمعت عبيد بن عمر يقول كان داود عليه السلام يأخذ العزفة فَيَضْرِبُ بِهَا فَيَقْرَأُ عَلَيْهَا فَتَرُدُّ عَلَيْهِ صَوْتَهُ يريد بذلك أن يبكى وتبكى. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَقَالَ لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لَقَدْ أُعْطِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي عثمان الترمذي أَنَّهُ قَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ الْبَرْبَطَ وَالْمِزْمَارَ فَمَا سَمِعْتُ صَوْتًا أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. وَقَدْ كَانَ مَعَ هَذَا الصَّوْتِ الرَّخِيمِ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ لِكِتَابِهِ الزَّبُورِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ فَتُسْرَجُ فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْرَجَ دَابَّتُهُ وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ وكذلك رواه البخاري
__________
[1] قوله انبئنا برادح. كذا بالنسخة الحلبية وبإحدى النسختين المصريتين (ابا تراب رح) وفي الثانية (أبا تراب ح) فليحرر انتهى محمود الامام(2/11)
مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَلَفْظُهُ خُفِّفَ عَلَى داود القرآن فكان يأمر بدوا به فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ. ثُمَّ قال البخاري ورواه موسى ابن عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ هُوَ ابْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ السَّبْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ هَاهُنَا الزبور الّذي أنزله عليه وأوحاه اليه وذكر رواية أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فَإِنَّهُ كَانَ مَلِكًا لَهُ أَتْبَاعٌ فَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِمِقْدَارِ مَا تُسْرَجُ الدَّوَابُّ وَهَذَا أَمْرٌ سَرِيعٌ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّرَنُّمِ وَالتَّغَنِّي بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخَشُّعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً 4: 163 وَالزَّبُورُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ وَذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ مَا هو معروف لمن نظر فيه وقوله (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) 38: 20 أَيْ أَعْطَيْنَاهُ مُلْكًا عَظِيمًا وَحُكْمًا نَافِذًا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَقَرٍ ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ اغْتَصَبَهَا مِنْهُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَرْجَأَ أَمْرَهُمَا إِلَى اللَّيْلِ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الْمُدَّعِيَ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ دَاوُدُ إِنِ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أَقْتُلَكَ فَأَنَا قَاتِلُكَ لَا مَحَالَةَ فَمَا خَبَرُكَ فِيمَا ادَّعَيْتَهُ عَلَى هَذَا قَالَ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي لَمُحِقٌّ فِيمَا ادَّعَيْتُ عَلَيْهِ وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ أَبَاهُ قَبْلَ هذا فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ فَعَظُمَ أَمْرُ دَاوُدَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ جِدًّا وَخَضَعُوا لَهُ خُضُوعًا عظيما. قال ابن عباس وهو قوله تعالى وَشَدَدْنا مُلْكَهُ 38: 20 وقوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ 38: 20 أي النبوة وفصل الخطاب قَالَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي وغيرهم فصل الخطاب الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ هُوَ إِصَابَةُ الْقَضَاءِ وَفَهْمُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ الْفَصْلُ فِي الْكَلَامِ وَفِي الْحُكْمِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَوْلُ (أَمَّا بَعْدُ) . وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لَمَّا كَثُرَ الشَّرُّ وَشَهَادَاتُ الزُّورِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُعْطِيَ دَاوُدُ سِلْسِلَةٌ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ فَكَانَتْ مَمْدُودَةً مِنَ السَّمَاءِ إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ فَإِذَا تَشَاجَرَ الرَّجُلَانِ فِي حَقٍّ فَأَيُّهُمَا كَانَ مُحِقًّا نَالَهَا وَالْآخَرُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا لُؤْلُؤَةً فَجَحَدَهَا مِنْهُ وَاتَّخَذَ عُكَّازًا وَأَوْدَعَهَا فِيهِ فَلَمَّا حَضَرَا عند الصخرة تَنَاوَلَهَا الْمُدَّعِي فَلَمَّا قِيلَ لِلْآخَرِ خُذْهَا بِيَدِكَ عَمَدَ إِلَى الْعُكَّازِ فَأَعْطَاهُ الْمُدَّعِي وَفِيهِ تِلْكَ اللُّؤْلُؤَةُ وَقَالَ اللَّهمّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّلْسِلَةَ فَنَالَهَا فَأَشْكَلَ أَمْرُهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ رُفِعَتْ سَرِيعًا مِنْ بَيْنِهِمْ. ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ إِدْرِيسَ ابن سنان عن وهب به بمعناه (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ(2/12)
قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) 38: 21- 25.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ هَاهُنَا قِصَصًا وَأَخْبَارًا أَكْثَرُهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ لَا مَحَالَةَ تَرَكْنَا إِيرَادَهَا فِي كِتَابِنَا قَصْدًا اكْتِفَاءً وَاقْتِصَارًا عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَةِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي سَجْدَةِ ص هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَوْ إِنَّمَا هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ عَنِ الْعَوَّامِ قَالَ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ سَأَلْتُ ابن عباس من أين سجدت قال أو ما تقرأ (وَمن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) 6: 84 (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) 6: 90 فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي السُّجُودِ فِي ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا. وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي ص وَقَالَ سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ معه الناس فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ السجدة تشرف النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ ولكن رأيتكم تشرفتم فَنَزَلَ وَسَجَدَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا بَكْرٌ هُوَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو الصِّدِّيقِ النَّاجِي أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَأَى رُؤْيَا أَنَّهُ يَكْتُبُ ص فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى الَّتِي يَسْجُدُ بِهَا رَأَى الدَّوَاةَ وَالْقَلَمَ وَكُلَّ شَيْءٍ بِحَضْرَتِهِ انْقَلَبَ سَاجِدًا قَالَ فَقَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزَلْ يَسْجُدُ بِهَا بَعْدُ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي جَدُّكَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي(2/13)
رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شجرة فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودى فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ وَهِيَ سَاجِدَةٌ (اللَّهمّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتَ مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَهُوَ سَاجِدٌ كَمَا حَكَى الرَّجُلُ عَنْ كَلَامِ الشَّجَرَةِ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَثَ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الرِّوَايَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ 38: 25. اى ان لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِزُلْفَى وَهِيَ الْقُرْبَةُ الَّتِي يُقَرِّبُهُ اللَّهُ بِهَا وَيُدْنِيهِ مِنْ حَظِيرَةِ قُدُسِهِ بسببها كما ثبت في حديث (الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يُقْسِطُونَ فِي أَهْلِيهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمَا وَلُوا) . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْأَغَرِّ بِهِ وَقَالَ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ فِي قَوْلِهِ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) 38: 25 قال يقوم دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ فَيَقُولُ اللَّهُ يَا دَاوُدُ مَجِّدْنِي الْيَوْمَ بِذَلِكَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ الرَّخِيمِ الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُ وَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبْتُهُ فَيَقُولُ إِنِّي أَرُدُّهُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ قَالَ فَيَرْفَعُ دَاوُدُ بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان (يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) 38: 26 هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ دَاوُدَ وَالْمُرَادُ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَحُكَّامُ النَّاسِ وَأَمْرُهُمْ بِالْعَدْلِ والتباع الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ لَا مَا سِوَاهُ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ وَتَوَعُّدُ مَنْ سَلَكَ غَيْرَ ذَلِكَ وَحَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الوقت فِي الْعَدْلِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ حَتَّى إنه كان لا يمضى سَاعَةٌ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ إِلَّا وَأَهْلُ بَيْتِهِ فِي عِبَادَةٍ لَيْلًا وَنَهَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ 34: 13 قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بسام حدثنا صالح المزي عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجَلْدِ قَالَ قَرَأْتُ فِي مَسْأَلَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ لِي أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَنَا لَا أَصِلُ إِلَى شُكْرِكَ إِلَّا بِنِعْمَتِكَ قَالَ فَأَتَاهُ الْوَحْيُ «أَنْ يَا دَاوُدُ ألست تَعَلَمُ أَنَّ الَّذِي بِكَ مِنَ النِّعَمِ مِنِّي قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَإِنِّي أَرْضَى بِذَلِكَ مِنْكَ» وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالَوَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا رَوْحُ بن عبادة حدثني عبد الله ابن لَاحِقٍ عَنِ ابْنِ(2/14)
شِهَابٍ قَالَ قَالَ دَاوُدُ «الْحَمْدُ للَّه كَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّكَ أَتْعَبْتَ الْحَفَظَةَ يَا دَاوُدَ» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنِ الثَّوْرِيِّ مِثْلَهُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ إِنَّ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ وَسَاعَةٌ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيَصْدُقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَسَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ عَلَى هَذِهِ السَّاعَاتِ وَإِجْمَامٌ لِلْقُلُوبِ وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ زَمَانَهُ وَيَحْفَظَ لِسَانَهُ وَيُقْبِلَ عَلَى شَأْنِهِ وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَظْعَنَ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ زَادٌ لِمَعَادِهِ وَمَرَمَّةٌ لِمَعَاشِهِ وَلَذَّةٌ فِي غير محرم وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الْأَغَرِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْهَيْثَمِ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَبِي الْأَغَرِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَهُ وَأَبُو الْأَغَرِّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَبْهَمَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رِوَايَتِهِ. قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَلِيحَةً مِنْهَا قَوْلُهُ كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ. وَرَوَى بِسَنَدٍ غَرِيبٍ مَرْفُوعًا قَالَ دَاوُدُ يَا زَارِعَ السَّيِّئَاتِ أَنْتَ تَحْصُدُ شَوْكَهَا وَحَسَكَهَا وَعَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ مَثَلُ الْخَطِيبِ الْأَحْمَقِ فِي نَادِي الْقَوْمِ كَمَثَلِ الْمُغَنِّي عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ وَقَالَ أَيْضًا مَا أَقْبَحَ الْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ الضَّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى وَقَالَ انْظُرْ مَا تَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ عَنْكَ فِي نَادِي الْقَوْمِ فَلَا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ. وَقَالَ لَا تَعِدَنَّ أَخَاكَ بِمَا لَا تُنْجِزُهُ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ عَدَاوَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي هِشَامُ بن سعد عن عمر مولى عفرة قَالَ قَالَتْ يَهُودُ لَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي لَا يَشْبَعُ مِنَ الطَّعَامِ وَلَا وَاللَّهِ مَا لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا إِلَى النِّسَاءِ حَسَدُوهُ لِكَثْرَةِ نِسَائِهِ وَعَابُوهُ بِذَلِكَ فَقَالُوا لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا رَغِبَ فِي النِّسَاءِ وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَسِعَتِهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَقَالَ (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) 4: 54 يَعْنِي بِالنَّاسِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) 4: 54 يعنى ما أتى الله سليمان ابن داود كانت له ألف امرأة سبعمائة مهرية وَثَلَاثُمِائَةٍ سُرِّيَّةٌ وَكَانَتْ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ امْرَأَةُ أُورْيَا أَمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْفِتْنَةِ هَذَا أَكْثَرُ مِمَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ نَحْوَ هَذَا وَأَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ وَلِسُلَيْمَانَ أَلْفُ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثُمِائَةٍ سُرِّيَّةٌ [1] وَرَوَى الْحَافِظُ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي يَرْوِيِ عَنِ ابن عباس من طريق الفرج
__________
[1] من هنا لآخر القصة لم يوجد في النسختين الموجودتين بالمكتبة المصرية(2/15)
ابن فضالة الْحِمْصِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحِمْصِيِّ عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصِّيَامِ فَقَالَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِحَدِيثٍ كَانَ عِنْدِي فِي البحث [1] مَخْزُونًا إِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ دَاوُدَ فَإِنَّهُ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَكَانَ شُجَاعًا لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بسبعين صوتا يكوّن فِيهَا وَكَانَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ يُبْكِي فيها نفسه ويبكى ببكائه كل شيء ويصرف بصوته الهموم وَالْمَحْمُومُ وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمِنْ وَسَطِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمِنْ آخِرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَسْتَفْتِحُ الشَّهْرَ بِصِيَامٍ وَوَسَطَهُ بِصِيَامٍ وَيَخْتِمُهُ بِصِيَامٍ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ ابْنِ العذراء البتول عيسى بن مَرْيَمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ وَيَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا فَقَدَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يَمُوتُ وَلَا بَيْتٌ يَخْرَبُ وَكَانَ أَيْنَمَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ صَفَنَ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَقَامَ يُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ وَكَانَ رَامِيًا لَا يَفُوتُهُ صَيْدٌ يُرِيدُهُ وَكَانَ يَمُرُّ بِمَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقْضِي لَهُمْ حَوَائِجَهُمْ.
وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ أُمِّهِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمًا وَتُفْطِرُ يَوْمَيْنِ.
وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَقُولُ إِنَّ ذلك صوم الدهر. وقد روى [2] الامام احمد عن أبى النصر عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي هَرِمٍ عَنْ صَدَقَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فِي صَوْمِ دَاوُدَ
ذِكْرُ كَمِّيَّةِ حَيَّاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ ظَهْرِهِ فَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يُزْهِرُ فَقَالَ أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ قَالَ أَيْ رَبِّ كَمْ عُمُرُهُ قَالَ سِتُّونَ عَامًا قَالَ أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً وَنَسِيَ آدَمُ مَا كَانَ وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ دَاوُدَ فَأَتَمَّهَا اللَّهُ لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ وَلِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ. وَقَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي قِصَّةِ آدَمَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ عُمُرَ دَاوُدَ كَانَ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. قُلْتُ هَذَا غَلَطٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ قَالُوا وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَذَا قَدْ يُقْبَلُ نَقْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا ينافيه ولا ما يقتضيه
__________
[1] البحث المعدن انتهى
[2] كذا بالنسخة لعله رواه (محمود الامام)(2/16)
وَأَمَّا وَفَاتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مسندة حدثنا قبيصة حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بن عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْمَطَّلِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قال: كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلق الْأَبْوَابُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ قَالَ فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتِ الدَّارُ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ والله لنفتضحن بداود فجاء داود فإذا الرجل قائم في وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ مَنْ أَنْتَ فقال أنا الّذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب فقال داود أنت والله إذن ملك الموت مرحبا بأمر الله ثم مكث حتى قبضت روحه فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ أَظِلِّي عَلَى داود فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض فقال سليمان للطير اقبضى جناحا قال قال أبو هريرة فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرينا كَيْفَ فَعَلَتِ الطَّيْرُ وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ أَيْ وَغَلَبَتْ عَلَى التَّظْلِيلِ عَلَيْهِ الصُّقُورُ الطِّوَالُ الْأَجْنِحَةِ وَاحِدُهَا مَضْرَحِيٌّ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ الصَّقْرُ الطَّوِيلُ الْجَنَاحِ وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَاتَ داود عليه السلام فجأة وكان بسبت وَكَانَتِ الطَّيْرُ تُظِلُّهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ مَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ مَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَمَاتَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَجْأَةً. وَقَالَ أَبُو السَّكَنِ الْهَجَرِيُّ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ فَجْأَةً وَدَاوُدُ فَجْأَةً وَابْنُهُ سُلَيْمَانُ فَجْأَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَرَوَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَهُ وَهُوَ نَازِلٌ مِنْ مِحْرَابِهِ فَقَالَ لَهُ دَعْنِي أَنْزِلُ أَوْ أصعد فقال يا نبي الله قد نفدت السُّنُونُ وَالشُّهُورُ وَالْآثَارُ وَالْأَرْزَاقُ. قَالَ فَخَرَّ سَاجِدًا عَلَى مَرْقَاةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاقِي فَقَبَضَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ [1] أَنْبَأَنَا وَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْفِلَسْطِينِيِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ إِنِ النَّاسَ حَضَرُوا جِنَازَةَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَلَسُوا فِي الشَّمْسِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ قَالَ وَكَانَ قَدْ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَاهِبٍ عَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ سِوَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يَمُتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ أَحَدٌ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ جَزَعًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى دَاوُدَ قَالَ فَآذَاهُمُ الْحَرُّ فَنَادَوْا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السلام أن يعمل لهم وقاية لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحَرِّ فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَنَادَى الطير فأجابت فأمرها أن تظل الناس فتراص بعضها إِلَى بَعْضٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى اسْتَمْسَكَتِ الرِّيحُ فَكَادَ النَّاسُ أَنْ يَهْلِكُوا غَمًّا فَصَاحُوا
__________
[1] هو إسحاق بن بشر بن حذيفة البخاري صاحب كتاب المبتدإ والفتوح وتركوه وكذبه على بن المديني وقال ابن حبان لا يحل حديثه الا على جهة التعجب وقال الدارقطنيّ متروك وقوله وافر بن سليمان كذا بالنسخة الحلبية وفي النسختين المصريتين (رافد) والكل ليس بمعروف فليحرر انتهى محمود الامام(2/17)
إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْغَمِّ فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَنَادَى الطَّيْرَ أَنْ أَظِلِّي النَّاسَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمْسِ وَتَنَحِّي عَنْ نَاحِيَةِ الرِّيحِ فَفَعَلَتْ فَكَانَ النَّاسُ فِي ظِلٍّ وَتَهُبُّ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا رَأَوْهُ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ مَا فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا وَلَقَدْ مَكَثَ أَصْحَابُ المسيح على سننه وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ وَالْوَضِينُ بْنُ عَطَاءٍ كَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قِصَّةُ سُلَيْمَانَ بْنِ داود عليهما السلام
قال الحافظ بن عَسَاكِرَ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ إِيشَا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عمينا داب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أبى الربيع نبي الله بن نَبِيِّ اللَّهِ. جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ. قَالَ ابْنُ مَاكُولَا فَارْصُ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ وَذَكَرَ نَسَبَهُ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقال يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) 27: 16 أَيْ وَرِثَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ورثه في الْمَالِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ بَنُونَ غَيْرُهُ فَمَا كَانَ لِيُخَصَّ بِالْمَالِ دُونَهُمْ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ وفي لفظ نحن مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ فَأَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُورَثُ أَمْوَالُهُمْ عَنْهُمْ كَمَا يورث غيرهم بل يكون أَمْوَالُهُمْ صَدَقَةً مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ لا يخصون بها اقرباؤهم لِأَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ وَأَحْقَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هِيَ عِنْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ 27: 16 الآية يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْرِفُ مَا يتخاطب بِهِ الطُّيُورُ بِلُغَاتِهَا وَيُعَبِّرُ لِلنَّاسِ عَنْ مَقَاصِدِهَا وإرادتها. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ [1] أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ حشاد [2] حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ قُدَامَةَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْوَانِيُّ [3] يَعْنِي مُحَمَّدَ بن عبد الرحمن عن أبى
__________
[1] هو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبيّ الطهمانى الحاكم النيسابورىّ المعروف بابن البيع. وانما عرف بالحاكم لتقلده القضاء وهو صاحب المستدرك وغيره
[2] كذا في الحلبية وحشاذ في المصريتين وكلاهما خطأ والصواب حمشاذ انتهى محمود الامام
[3] كذا في النسخ بنون بعد الالف وواو بعد السين وهو خطأ والصواب الاستوائى بالهمز بعد الالف وبتاء مثناة بين السين والواو نسبة الى استواء بضم الهمزة ثم السكون وضم التاء المثناة وواو وألف. وهي كورة من نواحي نيسابور ومعناها(2/18)
يعقوب العمى [1] حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ قَالَ مَرَّ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بِعُصْفُورٍ يَدُورُ حَوْلَ عُصْفُورَةٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ قَالُوا وَمَا يَقُولُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: قَالَ يَخْطُبُهَا إِلَى نَفْسِهِ وَيَقُولُ زَوِّجِينِي أُسْكِنْكِ أَيَّ غُرَفِ دِمَشْقَ شِئْتِ. قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ غُرَفَ دِمَشْقَ مَبْنِيَّةٌ بِالصَّخْرِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْكُنَهَا أَحَدٌ وَلَكِنْ كَلُّ خَاطِبٍ كَذَّابٌ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ زَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ [2] عَنِ الْبَيْهَقِيِّ بِهِ وَكَذَلِكَ مَا عَدَاهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ 27: 16 أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ الْمَلِكُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِدَدِ وَالْآلَاتِ وَالْجُنُودِ وَالْجُيُوشِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ وَالشَّيَاطِينِ السَّارِحَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ ضَمَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ النَّاطِقَاتِ وَالصَّامِتَاتِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ 27: 16 أي من بارئ البريات وخالق الأرض والسموات كَمَا قَالَ تَعَالَى وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصَّالِحِينَ 27: 17- 19.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ وَابْنِ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فِي جَيْشِهِ جَمِيعِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَسِيرُونَ مَعَهُ وَالطَّيْرُ سَائِرَةٌ مَعَهُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا مِنَ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْجُيُوشِ الثَّلَاثَةِ وَزَعَةٌ أَيْ نُقَبَاءُ يَرُدُّونَ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ 27: 18 فَأَمَرَتْ وَحَذَّرَتْ وَاعْتَذَرَتْ عَنْ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ بِعَدَمِ الشُّعُورِ. وَقَدْ ذَكَرَ وَهْبٌ أَنَّهُ مَرَّ وَهُوَ عَلَى الْبِسَاطِ بِوَادٍ بِالطَّائِفِ وَأَنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ كان اسمها جرسا وَكَانَتْ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الشَّيْصَبَانِ وَكَانَتْ عَرْجَاءَ وَكَانَتْ بِقَدْرِ الذِّئْبِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ نَظَرٌ بَلْ فِي هَذَا السِّيَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْكِبِهِ رَاكِبًا فِي خُيُولِهِ وَفُرْسَانِهِ لَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ عَلَى الْبِسَاطِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنَلِ النَّمْلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا وَطْءٌ لَأَنَّ الْبِسَاطَ كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْجُيُوشِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ وَالْأَثْقَالِ وَالْخِيَامِ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرُ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شاء الله تعالى
__________
[ () ] بلسانهم المضحاة والمشرقة محمود الامام
[1] كذا بالأصول بالعين المهملة والصواب القمي بضم القاف وتشديد الميم. وهو يعقوب بن عبد الله بن سعد بن مالك بن هاني بن عامر بن أبى عامر الأشعري أبو الحسن القمي انتهى محمود الامام
[2] هو زاهر بن طاهر أبو القاسم الشحامي مسند بنيسابور صحيح السماع لكنه يخل بالصلاة فترك الرواية عنه غير واحد من الحافظ تورعا وقبله آخرون انتهى محمود الامام(2/19)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ مَا خَاطَبَتْ بِهِ تِلْكَ النَّمْلَةُ لِأُمَّتِهَا مِنَ الرَّأْيِ السَّدِيدِ وَالْأَمْرِ الْحَمِيدِ وَتَبَسَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْشَارِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ أَنَّ الدَّوَابَّ كَانَتْ تَنْطِقُ قَبْلَ سُلَيْمَانَ وَتُخَاطِبُ النَّاسَ حَتَّى أَخَذَ عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَهْدَ وَأَلْجَمَهَا فَلَمْ تَتَكَلَّمْ مَعَ النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَلَوْ كَانَ هَذَا هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِسُلَيْمَانَ فِي فَهْمِ لُغَاتِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ إِذْ قَدْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَفْهَمُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهَا الْعَهْدَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ مَعَ غَيْرِهِ وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُهَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا أَيْضًا فَائِدَةٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا وَلِهَذَا قَالَ (رَبِّ أَوْزِعْنِي) 27: 19 أَيْ أَلْهِمْنِي وَأَرْشِدْنِي (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) 27: 19 فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُقَيِّضَهُ لِلشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا خَصَّهُ به من المزية على غيره وان يبسر عَلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَأَنْ يَحْشُرَهُ إِذَا تَوَفَّاهُ مَعَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَالْمُرَادُ بِوَالِدَيْهِ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمُّهُ وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَتْ أَمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَدَعُ الْعَبْدَ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ عَنْهُ بِهِ نَحْوَهُ. [1] وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أن سليمان ابن دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَسْقُونَ فَرَأَى نَمْلَةً قَائِمَةً رَافِعَةً إِحْدَى قَوَائِمِهَا تَسْتَسْقِي فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ إِنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ اسْتَسْقَتْ فَاسْتُجِيبَ لَهَا. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سُلَيْمَانُ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَزِيزٍ عَنْ سَلَامَةَ بْنِ رَوْحِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَرَجَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقُونَ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ بِنَمْلَةٍ رَافِعَةٍ بَعْضَ قَوَائِمِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ ارْجِعُوا فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النَّمْلَةِ وَقَالَ السُّدِّيُّ أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَمَرَ النَّاسَ فَخَرَجُوا فَإِذَا بِنَمْلَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى رِجْلَيْهَا بَاسِطَةٍ يَدَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ «اللَّهمّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ وَلَا غَنَاءَ بِنَا عَنْ فَضْلِكَ» قَالَ فَصَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ. قَالَ تَعَالَى وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ. اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ. 27: 20- 28
__________
[1] من هنا لغاية قوله فصب الله عليهم المطر لم يوجد بالنسختين الموجودتين بالمكتبة المصرية.(2/20)
قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ. قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قال أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ 27: 29- 37 يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ وَالْهُدْهُدِ وَذَلِكَ أَنَّ الطُّيُورَ كَانَ عَلَى كُلِّ صنف منها مقدمون يقدمون بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ وَيَحْضُرُونَ عِنْدَهُ بِالنَّوْبَةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْجُنُودِ مَعَ الْمُلُوكِ وَكَانَتْ وَظِيفَةُ الْهُدْهُدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَعْوَزُوا الْمَاءَ فِي الْقِفَارِ فِي حَالِ الْأَسْفَارِ يَجِيءُ فَيَنْظُرُ لَهُمْ هَلْ بِهَذِهِ الْبِقَاعِ مِنْ مَاءٍ وَفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَاءِ تَحْتَ تُخُومِ الْأَرْضِ فَإِذَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ حَفَرُوا عَنْهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ وَأَخْرَجُوهُ وَاسْتَعْمَلُوهُ لِحَاجَتِهِمْ فَلَمَّا تَطَلَّبَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَدَهُ وَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَحَلِّ خِدْمَتِهِ (فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ من الْغائِبِينَ) 27: 20 أي ما له مفقود مِنْ هَاهُنَا أَوْ قَدْ غَابَ عَنْ بَصَرِي فلا أراه بحضرتي (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) 27: 21 تَوَعَّدَهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) 27: 21 أَيْ بِحُجَّةٍ تُنْجِيهِ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ. قَالَ الله تعالى (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) 27: 22 أَيْ فَغَابَ الْهُدْهُدُ غَيْبَةً لَيْسَتْ بِطَوِيلَةٍ ثُمَّ قَدِمَ مِنْهَا (فَقَالَ) لِسُلَيْمَانَ (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ به) 27: 22 أَيِ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ (وَجِئْتُكَ من سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) 27: 22 أَيْ بِخَبَرٍ صَادِقٍ (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) 27: 23 يَذْكُرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُلُوكُ سَبَأٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ مِنَ الْمَمْلَكَةِ الْعَظِيمَةِ وَالتَّبَابِعَةِ الْمُتَوَّجِينَ وَكَانَ الْمُلْكُ قَدْ آلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْهُمُ ابْنَةُ مَلِكِهِمْ لَمْ يُخْلِفْ غَيْرَهَا فَمَلَّكُوهَا عَلَيْهِمْ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْمَهَا مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَبِيهَا رَجُلًا فَعَمَّ بِهِ الْفَسَادُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَخْطُبُهُ فَتَزَوَّجَهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَقَتْهُ خَمْرًا ثُمَّ حَزَّتْ رَأْسَهُ وَنَصَبَتْهُ عَلَى بَابِهَا فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَمَلَّكُوهَا عليهم وهي بلقيس بنت السيرح وهو الهدهاد. وقيل شراحيل بن ذي جدن بن السيرح بن الحرث بن قيس ابن صَيْفِيِّ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ وَكَانَ أَبُوهَا مِنْ أَكَابِرِ الْمُلُوكِ وكان يأبى أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَيُقَالُ إِنَّهُ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنَ الْجِنِّ اسْمُهَا رَيْحَانَةُ بِنْتُ السكن فولدت له هذه المرأة واسمها تلقمة وَيُقَالُ لَهَا بَلْقِيسُ. وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ أَحَدَ أَبَوَيْ بَلْقِيسَ جِنِّيًّا. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ قَبْحُونَةَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ جُرْجَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي اللَّيْثِ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ ذُكِرَتْ بلقيس(2/21)
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً. إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ هَذَا هُوَ الْمَكِّيُّ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بَلَّغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صحيح وقوله (وَأُوتِيَتْ من كُلِّ شَيْءٍ) 27: 23 أَيْ مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُؤْتَاهُ الْمُلُوكُ (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) 27: 23 يَعْنِي سَرِيرَ مَمْلَكَتِهَا كَانَ مُزَخْرَفًا بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ واللآلي وَالذَّهَبِ وَالْحُلِيِّ الْبَاهِرِ. ثُمَّ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ باللَّه وَعِبَادَتَهُمُ الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِضْلَالَ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَصَدَّهُ إِيَّاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السموات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون أَيْ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالظَّوَاهِرَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ (اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) 27: 26 أَيْ لَهُ الْعَرْشُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ مَعَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابَهُ يَتَضَمَّنُ دَعْوَتَهُ لَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْخُضُوعِ لِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَلِهَذَا قال لهم (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) 27: 31 أَيْ لَا تَسْتَكْبِرُوا عَنْ طَاعَتِي وَامْتِثَالِ أَوَامِرِي (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) 27: 31 أَيْ وَأَقْدِمُوا عَلَيَّ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ بِلَا مُعَاوَدَةٍ وَلَا مُرَاوَدَةٍ فَلَمَّا جَاءَهَا الْكِتَابُ مَعَ الطَّيْرِ وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَ النَّاسُ الْبَطَائِقَ وَلَكِنْ أَيْنَ الثُّرَيَّا مِنَ الثَّرَى تِلْكَ الْبِطَاقَةُ كَانَتْ مَعَ طَائِرٍ سَامِعٍ مُطِيعٍ فَاهِمٍ عَالِمٍ بِمَا يَقُولُ وَيُقَالُ لَهُ فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْهُدْهُدَ حَمَلَ الْكِتَابَ وَجَاءَ إِلَى قَصْرِهَا فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي خَلْوَةٍ لَهَا ثُمَّ وَقَفَ نَاحِيَةً يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْ جَوَابِهَا عَنْ كِتَابِهَا فَجَمَعَتْ أُمَرَاءَهَا وَوُزَرَاءَهَا وَأَكَابِرَ دولتها الى مَشُورَتِهَا (قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) 27: 29 ثُمَّ قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ عُنْوَانَهُ أَوَّلًا (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) 27: 30 ثُمَّ قَرَأَتْهُ (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) 27: 30- 31 ثُمَّ شَاوَرَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا وَمَا قَدْ حَلَّ بِهَا وَتَأَدَّبَتْ مَعَهُمْ وَخَاطَبَتْهُمْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ (قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) 27: 32 تَعْنِي مَا كُنْتُ لِأَبُتَّ أَمْرًا إِلَّا وَأَنْتُمْ حاضرون (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) 27: 33 يَعْنُونَ لَنَا قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى الْجِلَادِ وَالْقِتَالِ ومقلومة الْأَبْطَالِ فَإِنْ أَرَدْتِ مِنَّا ذَلِكَ فَإِنَّا عَلَيْهِ من القادرين (و) مع هذا (الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ) 27: 33 فَبَذَلُوا لَهَا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَأَخْبَرُوهَا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ وَفَوَّضُوا إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْأَمْرَ لِتَرَى فِيهِ مَا هُوَ الْأَرْشَدُ لَهَا وَلَهُمْ فَكَانَ رَأْيُهَا أَتَمَّ وَأَسَدَّ مِنْ رَأْيِهِمْ وَعَلِمَتْ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ وَلَا يُخَادَعُ (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) 27: 34 تَقُولُ بِرَأْيِهَا السَّدِيدِ إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَوْ قَدْ غَلَبَ عَلَى هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ لَمْ يَخْلُصِ الْأَمْرُ مِنْ بَيْنِكُمْ إِلَّا إِلَيَّ وَلَمْ تَكُنِ الحدة والشدة وَالسَّطْوَةُ الْبَلِيغَةُ إِلَّا عَلَيَّ (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) 27: 35 أَرَادَتْ أَنْ تُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهَا وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهَا بِهَدِيَّةٍ تُرْسِلُهَا وَتُحَفٍ تَبْعَثُهَا وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا لِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ وَهُوَ(2/22)
وجنوده عليهم قادرون ولهذا (لما جاءَ سُلَيْمانَ قال أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) 27: 36 هَذَا وَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْهَدَايَا مُشْتَمِلَةً عَلَى أُمُورٍ عَظِيمَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهَا إِلَيْهِ وَوَافِدِهَا الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَاضِرُونَ يَسْمَعُونَ (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) 27: 37 يَقُولُ ارْجِعْ بِهَدِيَّتِكَ الَّتِي قَدِمْتَ بِهَا إِلَى من قدمن بِهَا فَإِنَّ عِنْدِي مِمَّا قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ وَأَسْدَاهُ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ وَالرِّجَالِ مَا هُوَ أَضْعَافُ هَذَا وَخَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ بِسَبَبِهِ (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِها) 27: 37 أَيْ فَلْأَبْعَثَنَّ إِلَيْهِمْ بِجُنُودٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ دِفَاعَهُمْ وَلَا نِزَالَهُمْ وَلَا مُمَانَعَتَهُمْ وَلَا قِتَالَهُمْ وَلَأُخْرِجَنَّهُمْ مِنْ بَلَدِهِمْ وَحَوْزَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ أَذِلَّةً (وَهُمْ صاغِرُونَ) 27: 37 عَلَيْهِمُ الصَّغَارُ وَالْعَارُ وَالدَّمَارُ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَبَادَرُوا إِلَى إِجَابَتِهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَأَقْبَلُوا صُحْبَةَ الْمَلِكَةِ أَجْمَعِينَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ خَاضِعِينَ فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ وَوُفُودِهِمْ إِلَيْهِ قَالَ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِمَّنْ هُوَ مُسَخَّرٌ لَهُ مِنَ الْجَانِّ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عنه في القرآن. (قال يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمن شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ قِيلَ. لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) 27: 38- 44.
لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها قبل قدومها عليه (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ من مَقامِكَ) 27: 39 يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ حُكْمِكَ وَكَانَ فِيمَا يُقَالُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ يَتَصَدَّى لِمُهِمَّاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا لَهُمْ من الاشغال (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) 27: 39 أي وانى لذو قدرة على احضارى إِلَيْكَ وَأَمَانَةٍ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ لَدَيْكَ (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) 27: 40 الْمَشْهُورُ أَنَّهُ آصِفُ بْنُ بَرَخْيَا وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ مُؤْمِنِي الْجَانِّ كَانَ فِيمَا يُقَالُ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ. وَقِيلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَقِيلَ إِنَّهُ سُلَيْمَانُ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَضَعَّفَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ قال وقد قيل فيه قول رابع وهو جِبْرِيلُ (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) 27: 40 قِيلَ مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَبْعَثَ رَسُولًا إِلَى أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ طَرْفُكَ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ يَعُودَ إِلَيْكَ. وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إليك أبعد من تراه من(2/23)
النَّاسِ وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَكِلَّ طَرْفُكَ إِذَا أَدَمْتَ النَّظَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُطْبِقَ جَفْنَكَ. وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْكَ طَرْفُكَ إِذَا نَظَرْتَ بِهِ إِلَى أَبْعَدِ غَايَةٍ مِنْكَ ثُمَّ أَغْمَضْتَهُ وَهَذَا أَقْرَبُ مَا قِيلَ. (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) 27: 40 أَيْ فَلَمَّا رَأَى عَرْشَ بَلْقِيسَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) 27: 40 أَيْ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيَّ وَفَضْلِهِ عَلَى عَبِيدِهِ لِيَخْتَبِرَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ أَوْ خِلَافِهِ (وَمن شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) 27: 40 أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ (وَمن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) 27: 40 أَيْ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ ثُمَّ أَمَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يُغَيَّرَ حَلْيُ هَذَا الْعَرْشِ وَيُنَكَّرَ لَهَا لِيَخْتَبِرَ فَهْمَهَا وَعَقْلَهَا وَلِهَذَا قَالَ (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) 27: 41- 42 وَهَذَا مِنْ فِطْنَتِهَا وَغَزَارَةِ فَهْمِهَا لِأَنَّهَا اسْتَبْعَدَتْ أَنْ يَكُونَ عَرْشُهَا لِأَنَّهَا خَلَّفَتْهُ وَرَاءَهَا بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَلَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ الْغَرِيبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سُلَيْمَانَ وَقَوْمِهِ (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) 27: 42- 43 أَيْ وَمَنَعَهَا عِبَادَةُ الشَّمْسِ الَّتِي كَانَتْ تَسْجُدُ لَهَا هِيَ وَقَوْمُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ اتِّبَاعًا لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ لَا لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلَا حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَمَرَ بِبِنَاءِ صَرْحٍ مِنْ زُجَاجٍ وَعَمِلَ فِي مَمَرِّهِ مَاءً وَجَعَلَ عَلَيْهِ سَقْفًا مِنْ زُجَاجٍ وَجَعَلَ فِيهِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ وَأُمِرَتْ بِدُخُولِ الصَّرْحِ وَسُلَيْمَانُ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ فِيهِ (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) 27: 44 وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْجِنَّ أَرَادُوا أَنْ يُبَشِّعُوا مَنْظَرَهَا عِنْدَ سُلَيْمَانَ وَأَنْ تُبْدِيَ عَنْ سَاقَيْهَا لِيَرَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ فَيُنَفِّرَهُ ذَلِكَ مِنْهَا وَخَشُوا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّ أُمَّهَا مِنَ الْجَانِّ فَتَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَعَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ حَافِرَهَا كَانَ كَحَافِرِ الدَّابَّةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَفِي الْأَوَّلِ أَيْضًا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ قِيلَ إِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ إِزَالَتَهُ حِينَ عَزَمَ عَلَى تَزَوُّجِهَا سَأَلَ الْإِنْسَ عَنْ زَوَالِهِ فَذَكَرُوا لَهُ الْمُوسَى فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ فَسَأَلَ الْجَانَّ فَصَنَعُوا لَهُ النُّورَةَ وَوَضَعُوا لَهُ الْحَمَّامَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَلَمَّا وَجَدَ مسه قال أوه من عذاب أَوْهِ أَوْهِ قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَوْهِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَرَّهَا عَلَى مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ وَرَدَّهَا إِلَيْهِ وَكَانَ يَزُورُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَعُودُ عَلَى الْبِسَاطِ وَأَمَرَ الْجَانَّ فَبَنَوْا لَهُ ثَلَاثَةَ قُصُورٍ بِالْيَمَنِ غُمْدَانَ وَسَالِحِينَ وبيتون فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَلْ زَوَّجَهَا بِمَلِكِ هَمْدَانَ وَأَقَرَّهَا عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ وَسَخَّرَ زَوْبَعَةَ مَلِكَ جِنِّ الْيَمَنِ فَبَنَى لَهَا الْقُصُورَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْيَمَنِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ وَاللَّهُ أعلم.(2/24)
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ. قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ. وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ 38: 30- 40. يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ وَهَبَ لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السلام ثم أثنى الله عليه تعالى فقال (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) 38: 30 أَيْ رَجَّاعٌ مُطِيعٌ للَّه. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْخَيْلِ الصَّافِنَاتِ وَهِيَ الَّتِي تَقِفُ عَلَى ثَلَاثٍ وَطَرَفِ حَافِرِ الرَّابِعَةِ. الْجِيَادِ وَهِيَ الْمُضَمَّرَةُ السِّرَاعُ (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) 38: 32 يَعْنِي الشَّمْسَ. وَقِيلَ الْخَيْلُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) 38: 33 قِيلَ مَسَحَ عَرَاقِيبَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسُّيُوفِ. وَقِيلَ مَسَحَ عَنْهَا الْعَرَقَ لَمَّا أَجْرَاهَا وَسَابَقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ الْأَوَّلُ فَقَالُوا اشْتَغَلَ بِعَرْضِ تِلْكَ الْخُيُولِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الصَّلَاةَ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ اللَّهمّ إِلَّا أَنْ يقال إنه كان سائغا في شريعتهم فأخر الصَّلَاةِ لِأَجْلِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ وَعَرْضُ الْخَيْلِ مِنْ ذَلِكَ وَقَدِ ادَّعَى طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْرُوعًا إِذْ ذَاكَ حَتَّى نُسِخَ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُحْكَمٌ إِلَى الْيَوْمِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا بعذر الْقِتَالِ الشَّدِيدِ كَمَا ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ نِسْيَانًا وَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ فِعْلُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ الضَّمِيرُ في قوله حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ 38: 32 عائد على الخيل وانه لم تفته وَقْتُ صَلَاةٍ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) 38: 33 يعنى مسح العرق عن قراقيبها وَأَعْنَاقِهَا فَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرَوَاهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَسْحِ الْعَرَقِ وَوَجَّهَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ مَا كَانَ لِيُعَذِّبَ الْحَيَوَانَ بِالْعَرْقَبَةِ وَيُهْلِكَ مَالًا بِلَا سَبَبٍ وَلَا ذَنْبٍ لَهَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هَذَا سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَافَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَظْفَرَ الْكُفَّارُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَغْنَامٍ وَنَحْوِهَا جَازَ ذَبْحُهَا وَإِهْلَاكُهَا لِئَلَّا يَتَقَوَّوْا بِهَا وَعَلَيْهِ حُمِلَ صَنِيعُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ عَقَرَ فَرَسَهُ بِمَوْتِهِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا عَظِيمَةً. قِيلَ كَانَتْ عَشَرَةَ آلَافِ فَرَسٍ. وَقِيلَ عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ. وَقِيلَ كَانَ فِيهَا عِشْرُونَ فَرَسًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عوف حدثنا سعيد ابن أَبِي مَرْيَمَ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي عمارة بن عزية أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بن أبى سلمة(2/25)
ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ تلعب فَقَالَ مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ بَنَاتِي وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ قَالَتْ فَرَسٌ قَالَ وَمَا الَّذِي عَلَيْهِ هَذَا قَالَتْ جَنَاحَانِ قَالَ فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ قَالَتْ أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ قَالَتْ فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَمَّا تَرَكَ الْخَيْلَ للَّه عَوَّضَهُ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا هُوَ خَيْرٌ له منها وهو الريح التي كانت غُدُوُّهَا شَهْرًا وَرَوَاحُهَا شَهْرًا كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي الدَّهْمَاءِ وَكَانَا يُكْثِرَانِ السَّفَرَ نَحْوَ الْبَيْتِ قَالَا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ الْبَدَوِيُّ أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ إِنَّكَ لَا تَدَعُ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ 38: 34. ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا آثَارًا كَثِيرَةً عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَكْثَرُهَا أَوْ كُلُّهَا مُتَلَقَّاةٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ وَاقْتَصَرْنَا هَاهُنَا عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ وَمَضْمُونُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَابَ عَنْ سَرِيرِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ وَلَمَّا عَادَ أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَنَاهُ بِنَاءً مُحْكَمًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ جَدَّدَهُ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَهُ مَسْجِدًا إِسْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أَيْ قَالَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَزِيدَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ دَعْ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَكَانَ سُؤَالُهُ الْمُلْكَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده بعد إكماله الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ عن عبد الله ابن عمرو ابن الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثًا فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَنَا الثَّالِثَةُ سَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَعْطَانَا إِيَّاهَا. فَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يُوَافِقُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) 21: 78- 79 وَقَدْ ذَكَرَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانَ لَهُمْ كَرْمٌ فَنَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ قَوْمٍ آخَرِينَ أَيْ رَعَتْهُ بِاللَّيْلِ فَأَكَلَتْ شَجَرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَتَحَاكَمُوا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَكَمَ لِأَصْحَابِ الْكَرْمِ بِقِيمَتِهِ فَلَمَّا خَرَجُوا عَلَى سُلَيْمَانَ قَالَ بِمَا حَكَمَ لَكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ فَقَالُوا بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ أَمَا لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمَا حَكَمْتُ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَنَمِ إِلَى أَصْحَابِ الْكَرْمِ فَيَسْتَغِلُّونَهَا نِتَاجًا وَدَرًّا حتى(2/26)
يُصْلِحَ أَصْحَابُ الْغَنَمِ كَرْمَ أُولَئِكَ وَيَرُدُّوهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَسَلَّمُوا غَنَمَهُمْ فَبَلَغَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهِ وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ ابْنَ إِحْدَاهُمَا فَتَنَازَعَتَا فِي الْآخَرِ فَقَالَتِ الْكُبْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتِ الصغرى بل إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَحَكَمَ بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا نِصْفُهُ فَقَالَتِ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لَهَا وَلَعَلَّ كُلًّا مِنَ الْحُكْمَيْنِ كَانَ سَائِغًا فِي شَرِيعَتِهِمْ وَلَكِنْ مَا قَالَهُ سُلَيْمَانُ أَرْجَحُ وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا أَلْهَمَهُ إِيَّاهُ وَمَدَحَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَاهُ فَقَالَ (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) 21: 79- 80.
ثم قال (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) 21: 81 أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ. وَمن الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) 21: 81- 82.
وقال في سورة ص (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) 38: 36- 40. لَمَّا تَرَكَ الْخَيْلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا الرِّيحَ الَّتِي هِيَ أَسْرَعُ سَيْرًا وَأَقْوَى وَأَعْظَمُ وَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ لَهَا تَجْرِي بأمره رخاء (حَيْثُ أَصابَ) 38: 36 أَيْ حَيْثُ أَرَادَ مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ. كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَخْشَابٍ بِحَيْثُ إِنَّهُ يسمع جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدُّورِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْقُصُورِ وَالْخِيَامِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ وَالْأَثْقَالِ وَالرِّجَالِ مِنَ الْأِنْسِ وَالْجَانِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ فَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ مُسْتَنْزَهًا أَوْ قِتَالَ مَلِكٍ أَوْ أَعْدَاءٍ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ شَاءَ فَإِذَا حَمَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْبِسَاطِ أَمَرَ الرِّيحَ فَدَخَلَتْ تَحْتَهُ فَرَفَعَتْهُ فَإِذَا اسْتَقَلَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَرَ الرُّخَاءَ فَسَارَتْ بِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ الْعَاصِفَةَ فَحَمَلَتْهُ أَسْرَعَ مَا يَكُونُ فَوَضَعَتْهُ فِي أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ يَرْتَحِلُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَغْدُو بِهِ الرِّيحُ فَتَضَعُهُ بِإِصْطَخْرَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فَيُقِيمُ هُنَاكَ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ آخِرِهِ فَتَرُدُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمن الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ 34: 12- 13.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ فَيَنْزِلُ بِإِصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِهَا وَيَذْهَبُ رَائِحًا مِنْهَا فَيَبِيتُ بِكَابُلَ وَبَيْنَ دِمَشْقَ وَبَيْنَ إِصْطَخْرَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَبَيْنَ إِصْطَخْرَ وَكَابُلَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ قُلْتُ قَدْ ذَكَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْعِمْرَانِ وَالْبُلْدَانِ أَنَّ إِصْطَخْرَ بَنَتْهَا الْجَانُّ لِسُلَيْمَانَ وَكَانَ فِيهَا قَرَارُ مَمْلَكَةِ التُّرْكِ قَدِيمًا وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ بُلْدَانٍ شتى كتدمر وبيت المقدس وباب جبرون وباب البريد اللذان بدمشق على أحد الأقوال.(2/27)
وَأَمَّا الْقِطْرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ هُوَ النُّحَاسُ قَالَ قَتَادَةُ وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ أَنَبْعَهَا اللَّهُ لَهُ قَالَ السُّدِّيُّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ أَخَذَ مِنْهَا جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْبِنَايَاتِ وَغَيْرِهَا وَقَوْلُهُ (وَمن الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) 34: 12 أَيْ وَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْجِنِّ عُمَّالًا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ لَا يَفْتُرُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ عَنِ الْأَمْرِ عَذَّبَهُ وَنَكَّلَ بِهِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ من مَحارِيبَ 34: 13 وهي الأماكن الحسنة وصدور المجالس (وَتَماثِيلَ) 34: 13 وَهِيَ الصُّوَرُ فِي الْجُدْرَانِ وَكَانَ هَذَا سَائِغًا في شريعتهم وملتهم (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) 34: 13. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْجَفْنَةُ كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَعَنْهُ كَالْحِيَاضِ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْجَوَابُ جَمْعُ جَابِيَةٍ وَهِيَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ الماء كما قال الأعشى.
تروح على آل المحلق جفنة كجابية الشيخ العراقي يفهق وَأَمَّا الْقُدُورُ الرَّاسِيَاتُ فَقَالَ عِكْرِمَةُ أَثَافِيُّهَا مِنْهَا يَعْنِي أَنَّهُنَّ ثَوَابِتُ لَا يَزُلْنَ عَنْ أَمَاكِنِهِنَّ وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَلَمَّا كَانَ هَذَا بِصَدَدِ إِطْعَامِ الطَّعَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ من إنسان وَجَانٍّ قَالَ تَعَالَى اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ 34: 13 وَقَالَ تَعَالَى وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ 38: 37- 38 يَعْنِي أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ سَخَّرَهُ فِي الْبِنَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُ بِالْغَوْصِ فِي الْمَاءِ لاستخراج ما هنالك من الجواهر واللآلي وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ إِلَّا هُنَالِكَ وقوله (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الْأَصْفادِ) 38: 38 أَيْ قَدْ عَصَوْا فَقُيِّدُوا مُقَرَّنِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي الْأَصْفَادِ وَهِيَ الْقُيُودُ. هَذَا كُلُّهُ مِنْ جملة ما هيأه اللَّهُ وَسَخَّرَ لَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَمَامِ الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِمَنْ كَانَ قبله وقد قال البخاري ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي 38: 35 فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا) . وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَقَالَ مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ أَعُوذُ باللَّه مِنْكَ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ ثَلَاثًا وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ قَالَ إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْتُ أَعُوذُ باللَّه مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قُلْتُ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حدثنا مرة بن معبد ثنا أبو عبيد(2/28)
حاجب سُلَيْمَانَ قَالَ رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ قَائِمًا يُصَلِّي فَذَهَبْتُ أَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَدَّنِي ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ فَقَرَأَ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْهُ فَمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَى آخِرِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُرَيْجٍ عَنْ أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ بِهِ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَتْ لِسُلَيْمَانَ مِنَ النِّسَاءِ أَلْفُ امْرَأَةٍ سَبْعُمِائَةٍ بِمُهُورٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ سَرَارِيُّ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ ثَلَاثُمِائَةٍ حَرَائِرُ وَسَبْعُمِائَةٍ مِنَ الْإِمَاءِ. وَقَدْ كَانَ يُطِيقُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا مغيرة بن عبد الرحمان عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ شُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ تِسْعِينَ وَهُوَ أَصَحُّ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ تَلِدُ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَوَلَدَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَمَا وَلَدَتْ إِلَّا وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِشِقِّ إِنْسَانٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوِ اسْتَثْنَى لَوُلِدَ لَهُ مِائَةُ غُلَامٍ كُلُّهُمْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عن ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَطَافَ بِهِنَّ قَالَ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ وَهَكَذَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ مِثْلَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَنْبَأَنَا مُقَاتِلٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَ لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسِتُّمِائَةِ سُرِّيَّةٍ فَقَالَ يَوْمًا لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى أَلْفِ امْرَأَةٍ فَتَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ(2/29)
إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ جَاءَتْ بِشِقِّ إِنْسَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوِ اسْتَثْنَى فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَوُلِدَ لَهُ مَا قَالَ فُرْسَانٌ وَلَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ لِحَالِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ فَإِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَ الرِّوَايَاتِ الصِّحَاحَ. وَقَدْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُمُورِ الْمُلْكِ وَاتِّسَاعِ الدَّوْلَةِ وَكَثْرَةِ الْجُنُودِ وَتَنَوُّعِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا يُعْطِيهِ اللَّهُ أَحَدًا بَعْدَهُ كَمَا قَالَ (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ 27: 16 وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) 38: 35 وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِنَصِّ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَأَسْدَاهُ مِنَ النِّعَمِ الْكَامِلَةِ الْعَظِيمَةِ إِلَيْهِ قَالَ (هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) 38: 39 أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ فَلَا حِسَابَ عَلَيْكَ أَيْ تَصَرَّفْ فِي الْمَالِ كَيْفَ شِئْتَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ سَوَّغَ لَكَ كلما تَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُحَاسِبُكَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا شَأْنُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُعْطِيَ أَحَدًا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ خُيِّرَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ اسْتَشَارَ جِبْرِيلَ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْخِلَافَةَ وَالْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ فِي أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا وَهَبَهُ لِنَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا نَبَّهَ عَلَى مَا أَعَدَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْأَجْرِ الْجَمِيلِ وَالْقُرْبَةِ الَّتِي تُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَالْإِكْرَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَلِكَ يَوْمَ المعاد والحساب حيث يقول تَعَالَى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ 38: 25.
ذكر وفاته وكم كانت مدة مُلْكِهِ وَحَيَاتِهِ
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا في الْعَذابِ الْمُهِينِ 34: 14. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ سُلَيْمَانُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَهَا مَا اسْمُكِ فَتَقُولُ كَذَا فَيَقُولُ لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غرست وان كانت لدواء أنبتت فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا مَا اسْمُكِ قَالَتِ الْخَرُّوبُ قَالَ لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ قَالَتْ الخراب هَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ اللَّهمّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى تَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَنَحَتَهَا عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا 34: 14 حَوْلًا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ 34: 14. قَالَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ قَالَ فَشَكَرَتِ الْجِنُّ لِلْأَرَضَةِ فَكَانَتْ تَأْتِيهَا بِالْمَاءِ.(2/30)
لَفَظُ ابْنِ جَرِيرٍ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ فِي حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طريق سلمة ابن كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ يُدْخِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا فَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا نَبَتَتْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ فَيَأْتِيهَا فَيَسْأَلُهَا مَا اسْمُكِ فَتَقُولُ الشَّجَرَةُ اسْمِي كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ دَوَاءً قَالَتْ نَبَتُّ دَوَاءً لِكَذَا وَكَذَا فَيَجْعَلُهَا كَذَلِكَ حَتَّى نَبَتَتْ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الْخَرُّوبَةُ فَسَأَلَهَا مَا اسْمُكِ فَقَالَتْ أَنَا الْخَرُّوبَةُ فَقَالَ وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ فَقَالَتْ نَبَتُّ لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِبَهُ وَأَنَا حَيٌّ أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ. ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ فَمَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ لَهُ يَخَافُونَ أَنْ يَخْرُجَ فَيُعَاقِبَهُمْ وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ الْمِحْرَابِ وَكَانَ الْمِحْرَابُ لَهُ كُوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ فَكَانَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ يَقُولُ أَلَسْتُ جَلِيدًا إِنْ دَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ فَيَدْخُلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَدَخَلَ شَيْطَانٌ مِنْ أُولَئِكَ فَمَرَّ وَلَمْ يَكُنْ شَيْطَانٌ يَنْظُرُ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي الْمِحْرَابِ إِلَّا احْتَرَقَ وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ سُلَيْمَانَ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ ثُمَّ رَجَعَ فَوَقَعَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَحْتَرِقْ وَنَظَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَقَطَ مَيِّتًا فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ فَفَتَحُوا عَنْهُ فَأَخْرَجُوهُ وَوَجَدُوا مِنْسَأَتَهُ وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ قَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ وَلَمْ يَعْلَمُوا مُنْذُ كَمْ مَاتَ فَوَضَعُوا الْأَرَضَةَ عَلَى العصافا كلت مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً. ثُمَّ حَسَبُوا عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمَكَثُوا يَدْأَبُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ حَوْلًا كَامِلًا فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَكْذِبُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلْبَثُوا فِي الْعَذَابِ سَنَةً يَعْمَلُونَ لَهُ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا في الْعَذابِ الْمُهِينِ) 34: 14 يَقُولُ تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ لَأَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ وَلَكِنَّا سَنَنْقُلُ إليك الماء والطين قال فإنهم يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ قَالَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الخشب فهو ما يأتيها به الشيطان تشكرا لها. وهذا فيه من الإسرائيلات الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْبِضَ رُوحِي فَأَعْلِمْنِي قَالَ مَا أَنَا أعلم بذاك منك انما هي كتب يلقى إِلَيَّ فِيهَا تَسْمِيَةُ مَنْ يَمُوتُ. وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ(2/31)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ إِذَا أُمِرْتَ بِي فَأَعْلِمْنِي فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا سُلَيْمَانُ قَدْ أُمِرْتُ بِكَ قَدْ بَقِيَتْ لَكَ سُوَيْعَةٌ فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ لَيْسَ لَهُ بَابٌ فَقَامَ يُصَلِّي فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ قَالَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ متوك عَلَى عَصَاهُ وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ قَالَ وَالْجِنُّ تَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ قَالَ فَبَعَثَ اللَّهُ دَابَّةَ الْأَرْضِ يَعْنِي إِلَى مِنْسَأَتِهِ فَأَكْلَتْهَا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ جَوْفَ الْعَصَا ضَعُفَتْ وَثَقُلَ عَلَيْهَا فَخَرَّ فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ ذَلِكَ انْفَضُّوا وَذَهَبُوا قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا في الْعَذابِ الْمُهِينِ 34: 14. قَالَ أَصْبَغُ وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهَا مَكَثَتْ سَنَةً تَأْكُلُ فِي مِنْسَأَتِهِ حَتَّى خَرَّ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عن محمد ابن إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاشَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَقَالَ إِسْحَاقُ أَنْبَأَنَا أَبُو رَوْقٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُلْكَهُ كان عشرين سنة والله أَعْلَمُ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَكَانَ جَمِيعُ عُمْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنْ مُلْكِهِ ابْتَدَأَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيمَا ذُكِرَ ثُمَّ مَلَكَ بعده ابنه رحبعام مُدَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جرير وقال ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بَعْدَهُ مَمْلَكَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
بَابُ ذكر جماعة من أنبياء بنى إسرائيل عليهم السلام ممن لا يعلم وقت زمانهم على التعيين الا انهم بعد داود وسليمان عليهما السلام وقبل زكريا ويحيى عليهما السَّلَامُ
فَمِنْهُمْ شِعْيَا بْنُ أَمْصِيَا
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ قَبْلَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَهُوَ مِمَّنْ بَشَّرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَكَانَ في زمانه ملك اسمه حزقيا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ سَامِعًا مُطِيعًا لِشِعْيَا فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيَنْهَاهُ عنه من المصالح وكانت الأجداث قَدْ عَظُمَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرِضَ الْمَلِكُ وَخَرَجَتْ فِي رِجْلِهِ قُرْحَةٌ. وَقَصَدَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَلِكُ بَابِلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهُوَ سَنْحَارِيبُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ وَفَزِعَ النَّاسُ فَزَعًا عَظِيمًا شَدِيدًا وَقَالَ الْمَلِكُ لِلنَّبِيِّ شِعْيَا مَاذَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ فِي أَمْرِ سَنْحَارِيبَ وَجُنُودِهِ فَقَالَ لَمْ يُوحِ إِلَيَّ فيهم شيء بَعْدُ. ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِالْأَمْرِ لِلْمَلِكِ حزقيا بِأَنْ يُوصِيَ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى مُلْكِهِ مَنْ يَشَاءُ فَإِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ أَقْبَلَ الْمَلِكُ عَلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى وَسَبَّحَ وَدَعَا وَبَكَى فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبٍ مُخْلِصٍ وَتَوَكُّلٍ وَصَبْرٍ (اللَّهمّ رب الأرباب وإله الآلهة يا رحمان(2/32)
يَا رَحِيمُ يَا مَنْ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ اذْكُرْنِي بِعِلْمِي وَفِعْلِي وَحُسْنِ قَضَائِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ كُلُّهُ كَانَ مِنْكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي سِرِّي وَإِعْلَانِي لَكَ) قَالَ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَا أَنْ يُبَشِّرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَحِمَ بُكَاءَهُ وَقَدْ أَخَّرَ فِي أَجَلِهِ خَمْسَ عشر سَنَةً وَأَنْجَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ سَنْحَارِيبَ فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ذَهَبَ مِنْهُ الْوَجَعُ وَانْقَطَعَ عَنْهُ الشَّرُّ وَالْحُزْنُ وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ فِي سُجُودِهِ (اللَّهمّ أَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُهُ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَأَنْتَ تَرْحَمُ وَتَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ) فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَا أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَاءَ التِّينِ فَيَجْعَلَهُ عَلَى قُرْحَتِهِ فَيَشْفَى وَيُصْبِحَ قَدْ بَرِئَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ فَشُفِيَ وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَيْشِ سَنْحَارِيبَ الْمَوْتَ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ سِوَى سنحاريب وخمسة من أصحابه منهم نَصَّرَ فَأَرْسَلَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَاءَ بِهِمْ فَجَعَلَهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَطَافَ بِهِمْ فِي الْبِلَادِ عَلَى وَجْهِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ وَالْإِهَانَةِ لَهُمْ سَبْعِينَ يَوْمًا وَيُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى شِعْيَا أَنْ يَأْمُرَ الْمَلِكَ بِإِرْسَالِهِمْ إِلَى بِلَادِهِمْ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ مَا قَدْ حَلَّ بِهِمْ فَلَمَّا رَجَعُوا جَمَعَ سَنْحَارِيبُ قَوْمَهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ لَهُ السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ إِنَّا أَخْبَرْنَاكَ عَنْ شَأْنِ رَبِّهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ فَلَمْ تُطِعْنَا وَهِيَ أُمَّةٌ لَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ مِنْ رَبِّهِمْ فَكَانَ أَمْرُ سَنْحَارِيبَ مِمَّا خَوَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ مَاتَ سَنْحَارِيبُ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ لما مات حزقيا ملك بنى إسرائيل مرح أَمَرُهُمْ وَاخْتَلَطَتْ أَحْدَاثُهُمْ وَكَثُرَ شَرُّهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى شِعْيَا فَقَامَ فِيهِمْ فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَنْذَرَهُمْ بَأْسَهُ وَعِقَابَهُ إِنْ خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ عَدَوْا عَلَيْهِ وَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَمَرَّ بِشَجَرَةٍ فَانْفَلَقَتْ لَهُ فَدَخَلَ فِيهَا وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ بِهُدْبَةِ ثَوْبِهِ فَأَبْرَزَهَا فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ جَاءُوا بِالْمِنْشَارِ فَوَضَعُوهُ عَلَى الشَّجَرَةِ فَنَشَرُوهَا وَنَشَرُوهُ مَعَهَا فَإِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون
وَمِنْهُمْ أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا مِنْ سِبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ
وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ الْخَضِرُ رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ غَرِيبٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهُوَ يَفُورُ بِدِمَشْقَ فَقَالَ أَيُّهَا الدَّمُ فَتَنْتَ النَّاسَ فَاسْكُنْ فَسَكَنَ وَرَسَبَ حَتَّى غَابَ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَبَّابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ قَالَ أَرْمِيَا أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ أَكْثَرُهُمْ لِي ذِكْرًا الَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِذِكْرِي عَنْ ذِكْرِ الخلائق. الذين لا تعرض لهم وسادس الفناء وَلَا يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْبَقَاءِ. الَّذِينَ إِذَا عَرَضَ لَهُمْ عَيْشُ الدُّنْيَا قَلَوْهُ وَاذَا زُوِيَ عَنْهُمْ سُرُّوا بِذَلِكَ. أُولَئِكَ أَنْحَلُهُمْ مَحَبَّتِي وَأُعْطِيهِمْ فَوْقَ غاياتهم.(2/33)
ذِكْرُ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً 17: 2- 8 وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ أَرْمِيَا حِينَ ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْمَعَاصِي أَنْ قُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا وَلَا يَفْقَهُونَ وَأَعْيُنًا وَلَا يُبْصِرُونَ وَآذَانًا وَلَا يَسْمَعُونَ وَإِنِّي تَذَكَّرْتُ صَلَاحَ آبَائِهِمْ فَعَطَفَنِي ذَلِكَ عَلَى أَبْنَائِهِمْ فَسَلْهُمْ كَيْفَ وَجَدُوا غِبَّ طَاعَتِي وَهَلْ سَعِدَ أَحَدٌ مِمَّنْ عَصَانِي بِمَعْصِيَتِي وَهَلْ شَقِيَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَطَاعَنِي بِطَاعَتِي إِنِ الدَّوَابَّ تَذْكُرُ أَوْطَانَهَا فَتَنْزِعُ إِلَيْهَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ تَرَكُوا الْأَمْرَ الَّذِي أَكْرَمْتُ عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ وَالْتَمَسُوا الْكَرَامَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا أَمَّا أَحْبَارُهُمْ فَأَنْكَرُوا حَقِّي وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ فَعَبَدُوا غَيْرِي وَأَمَّا نُسَّاكُهُمْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا عَلِمُوا وَأَمَّا وُلَاتُهُمْ فَكَذَبُوا عَلَيَّ وَعَلَى رُسُلِي. خَزَنُوا الْمَكْرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَعَوَّدُوا الْكَذِبَ أَلْسِنَتَهُمْ. وَإِنِّي أُقْسِمُ بِجَلَالِي وَعِزَّتِي لَأُهَيِّجَنَّ عَلَيْهِمْ جُيُولًا لَا يَفْقَهُونَ أَلْسِنَتَهُمْ وَلَا يَعْرِفُونَ وُجُوهَهُمْ وَلَا يَرْحَمُونَ بُكَاءَهُمْ وَلَأَبْعَثَنَّ فِيهِمْ مَلِكًا جَبَّارًا قَاسِيًا لَهُ عَسَاكِرُ كَقِطَعِ السَّحَابِ وَمَوَاكِبُ كَأَمْثَالِ الْفِجَاجِ كَأَنَّ خَفَقَانَ رَايَاتِهِ طَيَرَانُ النُّسُورِ وَكَأَنَّ حَمْلَ فُرْسَانِهِ كَرُّ الْعِقْبَانِ يُعِيدُونَ الْعُمْرَانَ خَرَابًا وَيَتْرُكُونَ الْقُرَى وَحْشَةً فَيَا وَيْلَ إيليا وسكانها كيف أذللهم للقتل وأسلط عليهم السبا وَأُعِيدُ بَعْدَ لَجَبِ الْأَعْرَاسِ صُرَاخًا وَبَعْدَ صَهِيلِ الْخَيْلِ عُوَاءَ الذِّئَابِ وَبَعْدَ شُرَافَاتِ الْقُصُورِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ وَبَعْدَ ضَوْءِ السُّرُجِ وَهَجَ الْعَجَاجِ وَبِالْعِزِّ ذلا وَبِالنِّعْمَةِ الْعُبُودِيَّةَ وَأُبَدِّلَنَّ نِسَاءَهُمْ بَعْدَ الطِّيبِ التُّرَابَ. وَبِالْمَشْيِ عَلَى الزَّرَابِيِّ الْخَبَبَ وَلَأَجْعَلَنَّ أَجْسَادَهُمْ زِبْلًا للأرض وعظامهن ضَاحِيَةً لِلشَّمْسِ وَلَأَدُوسَنَّهُمْ بِأَلْوَانِ الْعَذَابِ ثُمَّ لَآمُرَنَّ السماء فتكون طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ وَالْأَرْضَ سَبِيكَةً مِنْ نُحَاسٍ فَإِنْ أَمْطَرَتْ لَمْ تَنْبُتِ الْأَرْضُ وَإِنْ أَنْبَتَتْ شَيْئًا فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَبِرَحْمَتِي لِلْبَهَائِمِ. ثُمَّ أَحْبِسُهُ فِي زَمَانِ الزَّرْعِ وَأُرْسِلُهُ فِي زَمَانِ الْحَصَادِ فَإِنْ زَرَعُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ شَيْئًا سَلَّطْتُ عَلَيْهِ الْآفَةَ فَإِنْ خَلُصَ مِنْهُ شَيْءٌ نَزَعْتُ مِنْهُ الْبَرَكَةَ فَإِنْ دَعَوْنِي لَمْ أُجِبْهُمْ وَإِنْ سَأَلُوا لَمْ أُعْطِهِمْ وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْهُمْ وَإِنْ تَضَرَّعُوا صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَنْبَأَنَا إِدْرِيسُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ أَرْمِيَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ حِينَ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فيهم فعملوا بالمعاصي وقتلوا الأنبياء طمع نصر فيهم وقذف(2/34)
اللَّهُ فِي قَلْبِهِ وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْتَقِمَ بِهِ مِنْهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا أَنِّي مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ فَقُمْ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَأْتِيكَ أَمْرِي وَوَحْيِي فَقَامَ أَرْمِيَا فَشَقَّ ثِيَابَهُ وَجَعَلَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ يَا رَبِّ وَدِدْتُ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي حِينَ جَعَلْتَنِي آخِرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ خَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَوَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أجلى فقال لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَبَكَى ثُمَّ قال يا رب من تسلط عليهم فقال عَبَدَةُ النِّيرَانِ لَا يَخَافُونَ عِقَابِي وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابِي قُمْ يَا أَرْمِيَا فَاسْتَمِعْ وَحْيِي أُخْبِرْكَ خبرك وخبر بنى إسرائيل. من قيل أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ. وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي رَحِمِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ طَهَّرْتُكَ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ نَبَّأْتُكَ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اجْتَبَيْتُكَ فَقُمْ مَعَ الملك تسدده وترشده فكان مع الملك يسدده وَيَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ حَتَّى عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ وَنَسَوْا مَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَدَوِّهِمْ سَنْحَارِيبَ وَجُنُودِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا قُمْ فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ فَقَالَ أَرْمِيَا (يَا رَبِّ إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي عَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي مُخْطِئٌ إِنْ لَمْ تُسَدِّدْنِي مَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي ذَلِيلٌ إِنْ لَمْ تُعِزَّنِي) فقال الله تعالى (أو لم تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَصْدُرُ عَنْ مَشِيئَتِي وَأَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ كُلَّهُ لِي وَأَنَّ الْقُلُوبَ وَالْأَلْسِنَةَ كُلَّهَا بِيَدِي فَأُقَلِّبُهَا كَيْفَ شِئْتُ فَتُطِيعُنِي فَأَنَا اللَّهُ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلِي. قَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ بِكَلِمَتِي. وَأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ التَّوْحِيدُ وَلَمْ تَتِمَّ الْقُدْرَةُ إِلَّا لِي وَلَا يَعْلَمُ مَا عِنْدِي غَيْرِي وَأَنَا الَّذِي كَلَّمْتُ الْبِحَارَ فَفَهِمَتْ قَوْلِي وَأَمَرْتُهَا فَفَعَلَتْ أَمْرِي وَحَدَّدْتُ عَلَيْهَا حُدُودًا فَلَا تَعْدُو حَدِّي وَتَأْتِي بِأَمْوَاجٍ كَالْجِبَالِ فَإِذَا بَلَغَتْ حَدِّي أَلْبَسْتُهَا مَذَلَّةً لِطَاعَتِي وَخَوْفًا وَاعْتِرَافًا لِأَمْرِي وَإِنِّي مَعَكَ وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ شَيْءٌ مَعِي وَإِنِّي بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِي لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِي فَتَسْتَوْجِبَ لِذَلِكَ أَجْرَ مَنِ اتَّبَعَكَ وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجورهم شَيْئًا انْطَلِقْ إِلَى قَوْمِكَ فَقُمْ فِيهِمْ وَقُلْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَكُمْ بِصَلَاحِ آبَائِكُمْ فلذلك استبقاكم يا معشر أبناء الأنبياء وكيف وَجَدَ آبَاؤُكُمْ مَغَبَّةَ طَاعَتِي وَكَيْفَ وَجَدْتُمْ مَغَبَّةَ معصيتي وهل وجدوا أحدا عصاني فبعد بِمَعْصِيَتِي وَهَلْ عَلِمُوا أَحَدًا أَطَاعَنِي فَشَقِيَ بِطَاعَتِي إِنَّ الدَّوَابَّ إِذَا ذَكَرَتْ أَوْطَانَهَا الصَّالِحَةَ نَزَعَتْ إِلَيْهَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ رَتَعُوا فِي مُرُوجِ الْهَلَكَةِ وَتَرَكُوا الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ أَكْرَمْتُ آبَاءَهُمْ وَابْتَغَوُا الْكَرَامَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا أَمَّا أَحْبَارُهُمْ ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم ويعملون فِيهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِي حَتَّى أَجْهَلُوهُمْ أَمْرِي وَأَنْسَوْهُمْ ذكرى وسنتي وعزوهم عَنِّي فَدَانَ لَهُمْ عِبَادِي بِالطَّاعَةِ الَّتِي لَا تنبغي الألى فَهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَتِي وَأَمَّا مُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ فَبَطَرُوا نِعْمَتِي وَأَمِنُوا مَكْرِي وَغَرَّتْهُمُ الدُّنْيَا حَتَّى نَبَذُوا كِتَابِي وَنَسُوا عَهْدِي فَهُمْ يُحَرِّفُونَ كِتَابِي وَيَفْتَرُونَ عَلَى رُسُلِي جُرْأَةً مِنْهُمْ عَلَيَّ وَغِرَّةً بِي فَسُبْحَانَ جَلَالِي وَعُلُوِّ مَكَانِي وَعَظَمَةِ شَأْنِي هَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِي شَرِيكٌ فِي مُلْكِي وَهَلْ يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَتِي وَهَلْ يَنْبَغِي لِي(2/35)
أَنْ أَخْلُقَ عِبَادًا أَجْعَلُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِي أَوْ آذَنَ لِأَحَدٍ بِالطَّاعَةِ لِأَحَدٍ وَهِيَ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ فَيَدْرُسُونَ مَا يَتَخَيَّرُونَ فَيَنْقَادُونَ لِلْمُلُوكِ فَيُتَابِعُونَهُمْ عَلَى الْبِدَعِ الَّتِي يَبْتَدِعُونَ فِي دِينِي وَيُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَتِي وَيُوفُونَ لَهُمْ بِالْعُهُودِ النَّاقِضَةِ لِعَهْدِي فَهُمْ جَهَلَةٌ بِمَا يَعْلَمُونَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا عَلِمُوا مِنْ كِتَابِي وَأَمَّا أَوْلَادُ النَّبِيِّينَ فَمَقْهُورُونَ وَمَفْتُونُونَ يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ يَتَمَنَّوْنَ مِثْلَ نَصْرِي آبَاءَهُمْ وَالْكَرَامَةَ الَّتِي أَكْرَمْتُهُمْ بِهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ صِدْقٍ مِنْهُمْ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا يَذْكُرُونَ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ آبائهم وكيف كان جهدهم في أمرى حين اغْتَرَّ الْمُغْتَرُّونَ وَكَيْفَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ فَصَبَرُوا وَصَدَقُوا حَتَّى عَزَّ أَمْرِي وَظَهَرَ دِينِي فَتَأَنَّيْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَعَلَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِنِّي وَيَرْجِعُونَ فَتَطَوَّلْتُ عَلَيْهِمْ وَصَفَحْتُ عَنْهُمْ فَأَكْثَرْتُ وَمَدَدْتُ لَهُمْ فِي الْعُمُرِ وَأَعْذَرْتُ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَكُلُّ ذَلِكَ أُمْطِرُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَأُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضَ وَأُلْبِسُهُمُ الْعَافِيَةَ وَأُظْهِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ وَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا طُغْيَانًا وَبُعْدًا مِنِّي فَحَتَّى مَتَى هَذَا. أَبِي يسخرون أم بى يتحرشون أَمْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ فَإِنِّي أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحكيم وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْيُ ذَوِي الرَّأْيِ وَحِكْمَةُ الْحَكِيمِ ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتبا أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ وَأَنْزِعُ مِنْ قَلْبِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَآلَيْتُ أَنْ يَتَّبِعَهُ عَدَدٌ وَسَوَادٌ مِثْلُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. لَهُ فِيهِ عَسَاكِرُ مِثْلُ قِطَعِ السَّحَابِ وَمُوَاكِبُ مِثْلُ الْعَجَاجِ وَكَأَنَّ حَفِيفَ رَايَاتِهِ طَيَرَانُ النُّسُورِ وَحَمْلَ فُرْسَانِهِ كَسِرْبِ الْعِقْبَانِ يُعِيدُونَ الْعِمْرَانَ خرابا والقرى وحشا ويعثون فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَيُتَبِّرُونَ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون وَلَا يَرْحَمُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ يَجُولُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بِأَصْوَاتٍ مُرْتَفِعَةٍ مِثْلَ زَئِيرِ الْأُسْدِ تَقْشَعِرُّ مِنْ هَيْبَتِهَا الْجُلُودُ وَتَطِيشُ مِنْ سَمْعِهَا الْأَحْلَامُ بِأَلْسِنَةٍ لَا يَفْقَهُونَهَا وَوُجُوهٍ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا المنكر لا يعرفونها. فو عزّتي لَأُعَطِّلَنَّ بُيُوتَهُمْ مِنْ كُتُبِي وَقُدُسِي وَلَأُخْلِيَنَّ مَجَالِسَهُمْ مِنْ حَدِيثِهَا وَدُرُوسِهَا وَلَأُوحِشَنَّ مَسَاجِدَهُمْ مِنْ عُمَّارِهَا وَزُوَّارِهَا الَّذِينَ كَانُوا يَتَزَيَّنُونَ بِعِمَارَتِهَا لِغَيْرِي وَيَتَهَجَّدُونَ فِيهَا وَيَتَعَبَّدُونَ لِكَسْبِ الدُّنْيَا بِالدِّينِ وَيَتَفَقَّهُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعَمَلِ لَأُبَدِّلَنَّ مُلُوكَهَا بِالْعِزِّ الذُّلَّ وَبِالْأَمْنِ الْخَوْفَ وَبِالْغِنَى الْفَقْرَ وَبِالنِّعْمَةِ الْجُوعَ وَبِطُولِ الْعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ وَبِلِبَاسِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ مَدَارِعَ الْوَبَرِ وَالْعَبَاءَ وَبِالْأَرْوَاحِ الطيبة والادهان جيف القتل وَبِلِبَاسِ التِّيجَانِ أَطْوَاقَ الْحَدِيدِ وَالسَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ. ثُمَّ لَأُعِيدَنَّ فِيهِمْ بَعْدَ الْقُصُورِ الْوَاسِعَةِ وَالْحُصُونِ الْحَصِينَةِ الْخَرَابَ وَبَعْدَ الْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ وَبَعْدَ صَهِيلِ الْخَيْلِ عُوَاءَ الذِّئَابِ وَبَعْدَ ضَوْءِ السِّرَاجِ دُخَانَ الْحَرِيقِ وَبَعْدَ الْأُنْسِ الْوَحْشَةَ وَالْقِفَارَ ثُمَّ لَأُبَدِّلَنَّ نِسَاءَهَا بِالْأَسْوِرَةِ الْأَغْلَالَ وَبِقَلَائِدِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ سَلَاسِلَ الْحَدِيدِ وَبِأَلْوَانِ الطِّيبِ وَالْأَدْهَانِ النَّقْعَ وَالْغُبَارَ وَبِالْمَشْيِ عَلَى الزَّرَابِيِّ عُبُورَ الْأَسْوَاقِ وَالْأَنْهَارِ وَالْخَبَبَ إِلَى اللَّيْلِ فِي بُطُونِ الْأَسْوَاقِ وَبِالْخُدُورِ وَالسُّتُورِ الحسور عن الوجوه والسوق والاسفار(2/36)
وَالْأَرْوَاحِ السَّمُومَ. ثُمَّ لَأَدُوسَنَّهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْكَائِنُ مِنْهُمْ فِي حَالِقٍ لَوَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ إِنِّي إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي وَإِنَّمَا أُهِينُ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرِي. ثُمَّ لَآمُرَنَّ السَّمَاءَ خِلَالَ ذَلِكَ فَلَتَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَآمُرَنَّ الْأَرْضَ فَلَتَكُونَنَّ سَبِيكَةً مِنْ نُحَاسٍ فَلَا سَمَاءَ تُمْطِرُ وَلَا أَرْضَ تُنْبِتُ. فَإِنْ أَمْطَرَتْ خِلَالَ ذَلِكَ شَيْئًا سَلَّطْتُ عَلَيْهِمُ الْآفَةَ فَإِنْ خَلُصَ مِنْهُ شَيْءٌ نَزَعْتُ مِنْهُ الْبَرَكَةَ وَإِنْ دَعَوْنِي لَمْ أُجِبْهُمْ وَإِنْ سَأَلُونِي لَمْ أُعْطِهِمْ وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْهُمْ وَإِنْ تَضَرَّعُوا إِلَيَّ صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهُمْ. وَإِنْ قَالُوا اللَّهُمَّ أَنْتَ الَّذِي ابْتَدَأْتَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرَامَتِكَ وَذَلِكَ بِأَنَّكَ اخْتَرْتَنَا لِنَفْسِكَ وَجَعَلْتَ فِينَا نُبُوَّتَكَ وَكِتَابَكَ وَمَسَاجِدَكَ ثُمَّ مَكَّنَتْ لَنَا فِي الْبِلَادِ وَاسْتَخْلَفْتَنَا فِيهَا وَرَبَّيْتَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا بِنِعْمَتِكَ صِغَارًا وَحَفِظْتَنَا وَإِيَّاهُمْ بِرَحْمَتِكَ كِبَارًا فأنت أو في المنعمين وَإِنْ غَيَّرْنَا. وَلَا تُبَدِّلْ. وَإِنْ بَدَّلْنَا وَأَنْ تُتِمَّ فَضْلَكَ وَمَنَّكَ وَطَوْلَكَ وَإِحْسَانَكَ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ قُلْتُ لَهُمْ إِنِّي أَبْتَدِئُ عِبَادِي بِرَحْمَتِي وَنِعْمَتِي فَإِنْ قَبِلُوا أَتْمَمْتُ وَإِنِ اسْتَزَادُوا زِدْتُ وان شكروا ضاعفت وان غيروا غَيَّرْتُ وَإِذَا غَيَّرُوا غَضِبْتُ وَإِذَا غَضِبْتُ عَذَّبْتُ وليس يقوم شيء بغضبي.
قال كعب فقال أرميا برحمتك أصبحت أتعلم بَيْنَ يَدَيْكَ وَهَلْ يَنْبَغِي ذَلِكَ لِي وَأَنَا أَذَلُّ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَنْبَغِيَ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَلَكِنْ بِرَحْمَتِكَ أَبْقَيْتَنِي لِهَذَا الْيَوْمِ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ أَنْ يَخَافَ هَذَا الْعَذَابَ وَهَذَا الْوَعِيدَ مِنِّي بِمَا رَضِيتَ بِهِ مِنِّي طَوْلًا وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْخَاطِئِينَ وَهُمْ يعصونك حولي بغير نكر وَلَا تَغْيِيرٍ مِنِّي فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَبِذَنْبِي وَإِنْ تَرْحَمْنِي فَذَلِكَ ظَنِّي بِكَ ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ أَتُهْلِكُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَمَا حَوْلَهَا وَهِيَ مَسَاكِنُ أَنْبِيَائِكَ وَمَنْزِلُ وَحْيِكَ يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ لِمَخْرَبِ هَذَا الْمَسْجِدِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَمِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي رُفِعَتْ لِذِكْرِكَ يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمقتل هَذِهِ الْأُمَّةَ وَعَذَابِكَ إِيَّاهُمْ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ وَأُمَّةِ مُوسَى نَجِيِّكَ وَقَوْمِ دَاوُدَ صَفِيِّكَ يَا رَبِّ أَيُّ الْقُرَى تَأْمَنُ عُقُوبَتَكَ بعد وَأَيُّ الْعِبَادِ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَكَ بَعْدَ وَلَدِ خَلِيلِكَ إِبْرَاهِيمَ وَأُمَّةِ نَجِيِّكَ مُوسَى وَقَوْمِ خَلِيفَتِكَ دَاوُدَ تُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَبَدَةَ النِّيرَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَرْمِيَا مَنْ عَصَانِي فَلَا يَسْتَنْكِرُ نِقْمَتِي فَإِنِّي إِنَّمَا أَكْرَمْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى طَاعَتِي ولو أنهم عصوني لأنزلنهم دَارَ الْعَاصِينَ إِلَّا أَنْ أَتَدَارَكَهُمْ بِرَحْمَتِي.
قَالَ أَرْمِيَا يَا رَبِّ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَحَفِظْتَنَا بِهِ. وَمُوسَى قَرَّبْتَهُ نَجَّيًا فَنَسْأَلُكَ أَنْ تَحْفَظَنَا وَلَا تَتَخَطَّفَنَا وَلَا تُسَلِّطَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ (يَا أَرْمِيَا إِنِّي قَدَّسْتُكَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ وَأَخَّرْتُكَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ فَلَوْ أَنَّ قَوْمَكَ حَفِظُوا الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السبيل لمكنت الدَّاعِمَ لَهُمْ وَكَانُوا عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ جَنَّةٍ نَاعِمٍ شَجَرُهَا طَاهِرٍ مَاؤُهَا وَلَا يَغُورُ مَاؤُهَا وَلَا تَبُورُ ثِمَارُهَا وَلَا تَنْقَطِعُ وَلَكِنْ سَأَشْكُو إِلَيْكَ بنى إسرائيل إني كنت لهم بمنزلة الداعي الشَّفِيقِ أُجَنِّبُهُمْ كُلَّ قَحْطٍ وَكُلَّ عُسْرَةٍ وَأُتْبِعُ بِهِمُ الْخَصْبَ حَتَّى صَارُوا كِبَاشًا يَنْطَحُ(2/37)
بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَا وَيْلَهُمْ ثُمَّ يَا وَيْلَهُمْ إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي وَأُهِينَ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرِي إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنَ الْقُرُونِ يَسْتَخْفُونَ بِمَعْصِيَتِي وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَتَبَرَّعُونَ بِمَعْصِيَتِي تَبَرُّعًا فَيُظْهِرُونَهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَعَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَظِلَالِ الْأَشْجَارِ حَتَّى عَجَّتِ السَّمَاءُ إِلَيَّ مِنْهُمْ وَعَجَّتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَنَفَرَتْ مِنْهَا الْوُحُوشُ بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ وَأَقَاصِيهَا وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَلِمُوا مِنَ الْكِتَابِ) .
قَالَ فَلَمَّا بَلَّغَهُمْ أَرْمِيَا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ وَسَمِعُوا مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ والعذاب عصوه وكذبوه وأتهموه وقالوا (كذبت وأعظمت عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ فَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ مُعَطِّلٌ أَرْضَهُ وَمَسَاجِدَهُ مِنْ كِتَابِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ فَمَنْ يَعْبُدُهُ حِينَ لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْأَرْضِ عَابِدٌ وَلَا مَسْجِدٌ وَلَا كِتَابٌ لَقَدْ أَعْظَمْتَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَاعْتَرَاكَ الْجُنُونُ) فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ وسجنوه فعند ذلك بعث الله عليهم نَصَّرَ فَأَقْبَلَ يَسِيرُ بِجُنُودِهِ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ حَاصَرَهُمْ فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ 17: 5 قَالَ فَلَمَّا طَالَ بِهِمُ الْحَصْرُ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ وَتَخَلَّلُوا الْأَزِقَّةَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ 17: 5 وَحَكَمَ فِيهِمْ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ فَقَتَلَ مِنْهُمُ الثُّلُثَ وَسَبَى الثُّلُثَ وَتَرَكَ الزَّمْنَى وَالشُّيُوخَ وَالْعَجَائِزَ ثُمَّ وَطِئَهُمْ بِالْخَيْلِ وَهَدَمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وساق الضبيان وأوقف النساء في الأسواق حاسرات وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَخَرَّبَ الْحُصُونَ وَهَدَمَ الْمَسَاجِدَ وَحَرَقَ التوراة وسأل عن دانيال الّذي كان قد كَتَبَ لَهُ الْكِتَابَ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ وَأَخْرَجَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْكِتَابَ إِلَيْهِ وَكَانَ فِيهِمْ دَانْيَالُ بْنُ حِزْقِيلَ الْأَصْغَرُ وَمِيشَائِيلُ وَعِزْرَائِيلُ وَمِيخَائِيلُ فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ وَكَانَ دَانْيَالُ بْنُ حِزْقِيلَ خلفا من دانيال الأكبر ودخل نَصَّرَ بِجُنُودِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَوَطِئَ الشَّامَ كُلَّهَا وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا انْصَرَفَ رَاجِعًا وَحَمَلَ الْأَمْوَالَ الَّتِي كَانَتْ بِهَا وَسَاقَ السَّبَايَا فَبَلَغَ مَعَهُ عِدَّةُ صِبْيَانِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَحْبَارِ وَالْمُلُوكِ تِسْعِينَ أَلْفَ غُلَامٍ وَقَذَفَ الْكُنَاسَاتِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَبَحَ فِيهِ الْخَنَازِيرَ وَكَانَ الْغِلْمَانُ سَبْعَةَ آلَافِ غُلَامٍ مَنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ من سبط ايشى بْنِ يَعْقُوبَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ زَبَالُونَ وَنِفْتَالِي ابْنَيْ يَعْقُوبَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ دَانِ بْنِ يَعْقُوبَ وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ يَسْتَاخِرَ بْنِ يَعْقُوبَ وَأَلْفَيْنِ مِنْ سبط زبالون بْنِ يَعْقُوبَ وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ وَلَاوِي وَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَانْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فَلَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ قِيلَ لَهُ كَانَ لَهُمْ صَاحِبٌ يُحَذِّرُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ وَيَصِفُكَ وَخَبَرَكَ لَهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَتَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ وَتَهْدِمُ مَسَاجِدَهُمْ وَتَحْرِقُ كَنَائِسَهُمْ فَكَذَّبُوهُ وَاتَّهَمُوهُ وَضَرَبُوهُ وقيدوه وحبسوه فأمر نَصَّرَ فَأَخْرَجَ أَرْمِيَا مِنَ السِّجْنِ فَقَالَ لَهُ أَكُنْتَ تُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا أَصَابَهُمْ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ قَالَ أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُونِي قَالَ كَذَّبُوكَ وَضَرَبُوكَ وَسَجَنُوكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ (بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ وَكَذَّبُوا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ فَهَلْ لَكَ أَنْ تلحق(2/38)
بِي فَأُكْرِمُكَ وَأُوَاسِيكَ وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُقِيمَ فِي بِلَادِكَ فَقَدْ أَمَّنْتُكَ) قَالَ لَهُ أَرْمِيَا إِنِّي لَمْ أَزَلْ فِي أَمَانِ اللَّهِ مُنْذُ كُنْتُ لَمْ أَخْرُجْ مِنْهُ سَاعَةً قَطُّ وَلَوْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ لَمْ يَخَافُوكَ وَلَا غَيْرَكَ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ فَلَمَّا سَمِعَ بُخْتَ نَصَّرَ هَذَا الْقَوْلَ منه تركه فأقام أرميا مكانه بأرض إيليا. وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ. وَفِيهِ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَأَشْيَاءُ مَلِيحَةٌ وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيبِ غَرَابَةٌ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ كَانَ نَصَّرَ أُصْفَهْبَذًا لِمَا بَيْنَ الْأَهْوَازِ إِلَى الرُّومِ لِلْمَلِكِ عَلَى الْفُرْسِ وَهُوَ لِهْرَاسْبُ وَكَانَ قَدْ بنى مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء وَقَاتَلَ التُّرْكَ وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الْأَمَاكِنِ وَبَعَثَ نَصَّرَ لِقِتَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشَّامِ فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ صَالَحَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي بَعَثَ بُخْتُ نَصَّرَ إِنَّمَا هُوَ بَهْمَنُ مَلِكُ الْفُرْسِ بَعْدَ بَشْتَاسِبُ بْنِ لَهْرَاسِبُ وَذَلِكَ لِتَعَدِّي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأعلى عن بن وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ نَصَّرَ لَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ وَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا يَعْنِي الْقُمَامَةَ فَسَأَلَهُمْ مَا هَذَا الدَّمُ فَقَالُوا أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْكِبَا ظَهَرَ قَالَ فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فَسَكَنَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ المسيب وقد تقدم من كلام الحافظ بن عَسَاكِرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ يحيى بن زكريا بعد نَصَّرَ بِمُدَّةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا دَمُ نَبِيٍّ مُتَقَدِّمٍ أَوْ دَمٌ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ أَوْ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِمَّنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
قَالَ هشام بن الكلبي ثم قدم نَصَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا وَكَانَ مِنْ آلِ دَاوُدَ وَصَانَعَهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَخَذَ منه نَصَّرَ رَهَائِنَ وَرَجَعَ. فَلَمَّا بَلَغَ طَبَرِيَّةَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَارُوا عَلَى مَلِكِهِمْ فَقَتَلُوهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ صَالَحَهُ فَضَرَبَ رِقَابَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الرَّهَائِنِ وَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَخَذَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً. وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ. قَالَ وَبَلَغَنَا أَنَّهُ وَجَدَ فِي السِّجْنِ أَرْمِيَا النَّبِيَّ فَأَخْرَجَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ وَتَحْذِيرِهِ لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه فقال نَصَّرَ بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ عَصَوْا رَسُولَ اللَّهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ ضُعَفَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا إِنَّا قَدْ أَسَأْنَا وَظَلَمْنَا وَنَحْنُ نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا صَنَعْنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَنَا فَدَعَا رَبَّهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَلْيُقِيمُوا مَعَكَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ فَأَخْبَرَهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَقَالُوا كَيْفَ نُقِيمُ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ وَقَدْ خَرِبَتْ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا أَنْ يُقِيمُوا.
قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْبِلَادِ فَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْحِجَازَ وَطَائِفَةٌ يَثْرِبَ وَطَائِفَةٌ وَادِي الْقُرَى وَذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْهُمْ إِلَى مِصْرَ فَكَتَبَ نَصَّرَ إِلَى مَلِكِهَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَنْ شَرَدَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ فَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ فَقَاتَلَهُ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ. ثُمَّ رَكِبَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ حَتَّى بَلَغَ أَقْصَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ. قَالَ ثُمَّ انْصَرَفَ بِسَبْيٍ كَثِيرٍ مِنْ أرض المغرب ومصر وأهل بيت(2/39)
الْمَقْدِسِ وَأَرْضِ فِلَسْطِينَ وَالْأُرْدُنِّ وَفِي السَّبْيِ دَانْيَالُ قُلْتُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَانْيَالُ بْنُ حَزْقِيلَ الْأَصْغَرُ لَا الْأَكْبَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ خَبَرِ دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ قَالَ إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ مِنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ عَنِ الْأَجْلَحِ الْكِنْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قال ضرا نَصَّرَ أَسَدَيْنِ فَأَلْقَاهُمَا فِي جُبٍّ وَجَاءَ بِدَانْيَالَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يُهَيِّجَاهُ فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اشْتَهَى مَا يَشْتَهِي الْآدَمِيُّونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا وَهُوَ بِالشَّامِ أَنْ أَعْدِدْ طَعَامًا وَشَرَابًا لِدَانْيَالَ فَقَالَ يَا رَبِّ أَنَا بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَدَانْيَالُ بِأَرْضِ بَابِلَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَعْدِدْ مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ فَإِنَّا سَنُرْسِلُ مَنْ يَحْمِلُكَ وَيَحْمِلُ مَا أَعْدَدْتَ فَفَعَلَ وَأَرْسَلَ اليه من حمله وحمل ما أعده حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْجُبِّ فَقَالَ دَانْيَالُ مَنْ هَذَا قَالَ أَنَا أَرْمِيَا فَقَالَ مَا جَاءَ بِكَ فَقَالَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ. قَالَ وَقَدْ ذَكَرَنِي رَبِّي قَالَ نَعَمْ فَقَالَ دَانْيَالُ الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ. والحمد للَّه الّذي يجيب مَنْ رَجَاهُ. وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي مَنْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَكِلْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا. وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي يَجْزِي بِالصَّبْرِ نَجَاةً. وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي هُوَ يَكْشِفُ ضُرَّنَا بَعْدَ كَرْبِنَا. وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي يقينا حين يسوء ظننا بِأَعْمَالِنَا وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي هُوَ رَجَاؤُنَا حِينَ ينقطع الْحِيَلُ عَنَّا وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عن أبى خلد بْنِ دِينَارٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ لَمَّا افْتَتَحْنَا تُسْتَرَ وَجَدْنَا فِي مَالِ بَيْتِ الْهُرْمُزَانِ سَرِيرًا عَلَيْهِ رَجُلٌ مَيِّتٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مُصْحَفٌ فَأَخَذْنَا الْمُصْحَفَ فَحَمَلْنَاهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَعَا لَهُ كَعْبًا فَنَسَخَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ. فَأَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَرَأَهُ قَرَأْتُهُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ الْقُرْآنَ هَذَا فَقُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ سِيَرُكُمْ وَأُمُورُكُمْ وَلُحُونُ كَلَامِكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدُ قُلْتُ فَمَا صَنَعْتُمْ بِالرَّجُلِ قَالَ حَفَرْنَا بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا مُتَفَرِّقَةً فَلَمَّا كَانَ بِاللَّيْلِ دَفَنَّاهُ وَسَوَّيْنَا الْقُبُورَ كُلَّهَا لِنُعَمِّيَهُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يَنْبِشُونَهُ. قُلْتُ فَمَا يَرْجُونَ مِنْهُ قَالَ كَانَتِ السَّمَاءُ إِذَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ بَرَزُوا بِسَرِيرِهِ فَيُمْطَرُونَ قُلْتُ مَنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ الرَّجُلَ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ دَانْيَالُ قُلْتُ مُنْذُ كَمْ وَجَدْتُمُوهُ قَدْ مَاتَ قَالَ مُنْذُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ قُلْتُ مَا تَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ لَا إِلَّا شَعَرَاتٌ مِنْ قَفَاهُ إِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُبْلِيهَا الْأَرْضُ وَلَا تَأْكُلُهَا السِّبَاعُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ وَلَكِنْ إِنْ كَانَ تَارِيخُ وَفَاتِهِ مَحْفُوظًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ بَلْ هو رجل صالح لأن عيسى بن مَرْيَمَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ وَالْفَتْرَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَقِيلَ سِتُّمِائَةٍ وَقِيلَ سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَقَدْ يَكُونُ تَارِيخُ وَفَاتِهِ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ وَقْتِ دَانْيَالَ إِنْ كَانَ كَوْنُهُ دَانْيَالَ هُوَ الْمُطَابِقَ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَجُلًا آخَرَ(2/40)
إِمَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الصَّالِحِينَ وَلَكِنْ قَرُبَتِ الظُّنُونُ أَنَّهُ دَانْيَالُ لِأَنَّ دَانْيَالَ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ مَلِكُ الْفُرْسِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ مَسْجُونًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ طُولَ أَنْفِهِ شِبْرٌ. وَعَنْ أَنَسِ ابن مَالِكٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَنَّ طُولَ أَنْفِهِ ذِرَاعٌ فَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُبُورِ حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الله ابن أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الْأَحْمَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ دَانْيَالَ دَعَا ربه عز وجل ان يدفنه أُمَّةُ مُحَمَّدٍ فَلَمَّا افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ تُسْتَرَ وَجَدَهُ فِي تَابُوتٍ تَضْرِبُ عُرُوقُهُ وَوَرِيدَهُ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ دَلَّ عَلَى دَانْيَالَ فَبَشِّرُوهُ بِالْجَنَّةِ فَكَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ حُرْقُوصٌ فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بِخَبَرِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنِ ادْفِنْهُ وَابْعَثْ إِلَى حُرْقُوصٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي كَوْنِهِ مَحْفُوظًا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ وَكَانَ عَالِمًا قَالَ وَجَدَ أَبُو مُوسَى مَعَ دَانْيَالَ مُصْحَفًا وَجَرَّةً فِيهَا وَدَكٌ وَدَرَاهِمُ وَخَاتَمُهُ فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَمَّا الْمُصْحَفُ فَابْعَثْ بِهِ إِلَيْنَا وَأَمَّا الْوَدَكُ فَابْعَثْ إِلَيْنَا مِنْهُ وَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَشْفُونَ بِهِ وَاقْسِمِ الدَّرَاهِمَ بَيْنَهُمْ وَأَمَّا الْخَاتَمُ فَقَدْ نفلناكه وروى عن ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا وَجَدَهُ وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُ دَانْيَالُ الْتَزَمَهُ وَعَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ. وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَهُ وَأَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهُ مَالًا مَوْضُوعًا قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَكَانَ مَنْ جَاءَ اقْتَرَضَ مِنْهَا فَإِنْ رَدَّهَا وَإِلَّا مَرِضَ وَأَنَّ عِنْدَهُ رَبْعَةً فَأَمَرَ عُمَرُ بِأَنْ يُغْسَلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَيُكَفَّنَ وَيُدْفَنَ وَيُخْفَى قَبْرُهُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ وَأَمَرَ بِالْمَالِ أَنْ يُرَدَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ وَبِالرَّبْعَةِ فَتُحْمَلُ إِلَيْهِ وَنَفَلَهُ خَاتَمَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ أَمَرَ أَرْبَعَةً مِنَ الْأُسَرَاءِ فَسَكَرُوا نَهْرًا وَحَفَرُوا فِي وَسَطِهِ قَبْرًا فَدَفَنَهُ فِيهِ ثُمَّ قَدَّمَ الْأَرْبَعَةَ الْإُسَرَاءَ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَ قَبْرِهِ غَيْرُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رأيت في يد ابن بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ خَاتَمًا نَقْشُ فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَالَ أَبُو بُرْدَةُ هَذَا خَاتَمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَيِّتِ الَّذِي زَعَمَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ أَنَّهُ دَانْيَالُ أَخَذَهُ أَبُو مُوسَى يَوْمَ دَفَنَهُ. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عُلَمَاءَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ عَنْ نَقْشِ ذَلِكَ الْخَاتَمِ فَقَالُوا إِنَّ الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ دَانْيَالُ فِي سُلْطَانِهِ جَاءَهُ الْمُنَجِّمُونَ وَأَصْحَابُ الْعِلْمِ فَقَالُوا لَهُ إِنَّهُ يُولَدُ لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا غُلَامٌ يَعُورُ مُلْكَكَ وَيُفْسِدُهُ فَقَالَ الْمَلِكُ وَاللَّهِ لَا يَبْقَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ إِلَّا أَنَّهُمْ أَخَذُوا دَانْيَالَ فالقوه في اجمة الأسد فبات(2/41)
الْأَسَدُ وَلَبْوَتُهُ يَلْحَسَانِهِ وَلَمْ يَضُرَّاهُ فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَوَجَدَتْهُمَا يَلْحَسَانِهِ فَنَجَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ قَالَ أَبُو مُوسَى قَالَ عُلَمَاءُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَنَقَشَ دَانْيَالُ صُورَتَهُ وَصُورَةَ الْأَسَدَيْنِ يَلْحَسَانِهِ فِي فَصِّ خَاتَمِهِ لِئَلَّا يَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. اسناد حسن.
وَهَذَا ذِكْرُ عِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهَا واجتماع الملأ من بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ وشعابها
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها. قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 2: 259 قَالَ هشام بن الْكَلْبِيِّ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا بَلَغَنِي أَنَّى عَامِرٌ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَاخْرُجْ إِلَيْهَا فَانْزِلْهَا فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَهَا وَهِيَ خَرَابٌ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَنْزِلَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَامِرُهَا فَمَتَى يَعْمُرُهَا وَمَتَى يُحْيِيهَا اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ وَمَعَهُ حِمَارُهُ وَسَلَّةٌ مِنْ طَعَامٍ فَمَكَثَ فِي نَوْمِهِ سبعين سنة حتى هلك نَصَّرَ وَالْمَلِكُ الَّذِي فَوْقَهُ وَهُوَ لِهْرَاسْبُ وَكَانَ مُلْكُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بَشْتَاسِبُ بْنُ لِهْرَاسْبَ وَكَانَ مَوْتُ بُخْتُ نَصَّرَ فِي دَوْلَتِهِ فَبَلَغَهُ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ أَنَّهَا خَرَابٌ وَأَنَّ السِّبَاعَ قَدْ كَثُرَتْ فِي أَرْضِ فِلَسْطِينَ فَلَمْ يَبْقَ بِهَا مِنَ الْإِنْسِ أَحَدٌ فَنَادَى فِي أَرْضِ بَابِلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الشَّامِ فَلْيَرْجِعْ وَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ آلِ دَاوُدَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمُرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيَبْنِيَ مَسْجِدَهَا فَرَجَعُوا فَعَمَرُوهَا وَفَتَحَ اللَّهُ لِأَرْمِيَا عَيْنَيْهِ فَنَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَيْفَ تُبْنَى وَكَيْفَ تُعَمَّرُ وَمَكَثَ فِي نَوْمِهِ ذَلِكَ حَتَّى تَمَّتْ لَهُ مِائَةُ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ وَهُوَ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ نَامَ أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ وَقَدْ عَهِدَ الْمَدِينَةَ خَرَابًا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا عَامِرَةً آهِلَةً قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قَالَ فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَا وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ فَمَكَثُوا كَذَلِكَ حَتَّى غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الرُّومُ فِي زَمَنِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ. ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا سُلْطَانٌ يَعْنِي بَعْدَ ظُهُورِ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ. هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ لِهْرَاسْبَ كَانَ مَلِكًا عَادِلًا سَائِسًا لِمَمْلَكَتِهِ قَدْ دَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالْمُلُوكُ وَالْقُوَّادُ وَأَنَّهُ كَانَ ذَا رَأْيٍ جَيِّدٍ فِي عِمَارَةِ الْأَمْصَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَعَاقِلِ. ثُمَّ لَمَّا ضَعُفَ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ وَنَيِّفٍ نَزَلَ عَنِ الْمُلْكِ لِوَلَدِهِ بَشْتَاسِبَ فَكَانَ فِي زَمَانِهِ ظُهُورُ دِينِ الْمَجُوسِيَّةِ [1] وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ اسمه زردشت
__________
[1] (قوله وذلك أن رجلا كان اسمه زردشت إلخ) هذه الحكاية خلاف الواقع. بل الواقع أن زردشت هو إبراهيم الزردشت أحد الأنبياء الذين ظهروا في وادي نهر الأرس بقفقازيا المشار اليهم في(2/42)
كَانَ قَدْ صَحِبَ أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَغْضَبَهُ فدعا عليه ارميا فبرص زردشت فَذَهَبَ فَلَحِقَ بِأَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ وَصَحِبَ بَشْتَاسِبَ فَلَقَّنَهُ دِينَ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِي اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَقَبِلَهُ مِنْهُ بَشْتَاسِبُ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلَقَا كَثِيرًا مِمَّنْ أَبَاهُ مِنْهُمْ ثم كان بعد بشتاسب بهمن بْنُ بَشْتَاسِبَ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ الْمَشْهُورِينَ وَالْأَبْطَالِ الْمَذْكُورِينَ وَقَدْ نَابَ بُخْتُ نَصَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَعَمَّرَ دَهْرًا طَوِيلًا قَبَّحَهُ اللَّهُ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَارَّ عَلَى هذه القرية هو ارميا عليه السلام قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ قَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ السباق الْمُتَقَدِّمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وسليمان ابن بُرَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عُزَيْرٌ. وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ كثير من السلف والخلف والله أعلم.
وَهَذِهِ قِصَّةُ الْعُزَيْرِ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بن عساكر هو عزير بن جروة ويقال بن سوريق بن عديا بن أيوب بن درزنا بن عرى بن تقى بن أسبوع بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَازِرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عمران ويقال عزير بن سروخا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ قَبْرَهُ بِدِمَشْقَ. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ حِبَّانَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عن ابن عباس مرفوعا لا أدرى العين بيع أَمْ لَا وَلَا أَدْرِي أَكَانَ عُزَيْرٌ نَبِيًّا أَمْ لَا ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُؤَمَّلِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقِ السِّجْزِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذؤيب عَنْ سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُزَيْرًا كَانَ ممن سباه نَصَّرَ وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ قَالَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحْفَظَ وَلَا أَعْلَمَ بِالتَّوْرَاةِ مِنْهُ قَالَ وكان يذكر مع الأنبياء حتى محى اللَّهُ اسْمَهُ مِنْ ذَلِكَ حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ عن القدر وهذا ضعيف
__________
[ () ] قوله تعالى وَأَصْحابَ الرَّسِّ 25: 38 فان الرس تخفيف أرس. وله الى الآن اتباع تعد بالملايين في الهند وإيران وله كتاب باللغة الفارسية القديمة مشتمل على المبادي والتعاليم والأحكام والبشارات بالأمور الآتية على نهج سائر الكتب. منها بشاراته بظهور الرسول عليه السلام بقوله سيظهر في العرب نبي عظيم وبعد أن يمضى من ظهور شريعته ألف سنة وكسور إذا جاء ثانيا لا يعرف أن هذه كانت شريعته انتهى ترجمته بالمعنى ويقصد بذلك أن شريعته عليه السلام بمضى الزمان يدخل فيها من البدع والاهواء وما لم يكن منها بحيث إذا رآها بعد ألف سنة لا يعرفها لكثرة ما دخل فيها من البدع. فانظر أنه لم يكتف بالبشارة بظهوره بل أخبر أيضا بما يقع في المستقبل في شريعته فهذا من جملة الأدلة على صدق نبوته كما لا يخفى على من تتبع تواريخ الأديان والمذاهب انتهى (فرج الله زكى الكردي)(2/43)
وَمُنْقَطِعٌ وَمُنْكِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بشر عن سعيد عن أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّ عُزَيْرًا هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٌ وَجُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِدْرِيسُ عَنْ جده وهب بن منبه قال إسحاق كُلُّ هَؤُلَاءِ حَدَّثُونِي عَنْ حَدِيثِ عُزَيْرٍ وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا بِإِسْنَادِهِمْ إِنَّ عُزَيْرًا كَانَ عَبْدًا صَالِحًا حَكِيمًا خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ الى ضيعة له يتعاهدها فلما انصرف أتى إِلَى خَرِبَةٍ حِينَ قَامَتِ الظَّهِيرَةُ وَأَصَابَهُ الْحَرُّ وَدَخَلَ الْخَرِبَةَ وَهُوَ عَلَى حِمَارِهِ فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ وَمَعَهُ سَلَّةٌ فِيهَا تِينٌ وَسَلَّةٌ فِيهَا عِنَبٌ فَنَزَلَ فِي ظِلِّ تِلْكَ الْخَرِبَةِ وَأَخْرَجَ قَصْعَةً مَعَهُ فَاعْتَصَرَ مِنَ الْعِنَبِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ ثُمَّ أَخْرَجَ خُبْزًا يَابِسًا مَعَهُ فَأَلْقَاهُ فِي تِلْكَ الْقَصْعَةِ فِي الْعَصِيرِ لِيَبْتَلَّ لِيَأْكُلَهُ ثُمَّ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَأَسْنَدَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْحَائِطِ فَنَظَرَ سَقْفَ تِلْكَ الْبُيُوتِ وَرَأَى مَا فِيهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَقَدْ بَادَ أَهْلُهَا وَرَأَى عِظَامًا بَالِيَةً فَقَالَ (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِها) 2: 259 فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِيهَا وَلَكِنْ قَالَهَا تَعَجُّبًا فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ. فَلَمَّا أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ وَكَانَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمُورٌ وَأَحْدَاثٌ قَالَ فَبَعَثَ اللَّهُ الى عزير ملكا فخلق قلبه ليعقل قلبه وَعَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ بِهِمَا فَيَعْقِلَ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى. ثُمَّ رَكَّبَ خَلْقَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ ثُمَّ كَسَى عِظَامَهُ اللَّحْمَ وَالشَّعْرَ وَالْجِلْدَ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ كُلُّ ذَلِكَ وَهُوَ يَرَى وَيَعْقِلُ فَاسْتَوَى جَالِسًا فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ كَمْ لَبِثْتَ قال لبثت يوما أو بعض يوم وذلك أنه كان لبث صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ وَبُعِثَ فِي آخِرِ النَّهَارِ وَالشَّمْسُ لَمْ تَغِبْ فَقَالَ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَلَمْ يَتِمَّ لِي يَوْمٌ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طعامك وشرابك يَعْنِي الطَّعَامَ الْخُبْزَ الْيَابِسَ وَشَرَابَهُ الْعَصِيرَ الَّذِي كان اعتصره في القصعة فاذاهما عَلَى حَالِهِمَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْعَصِيرُ وَالْخُبْزُ يَابِسٌ فذلك قوله (لَمْ يَتَسَنَّهْ) 2: 259 يَعْنِي لَمْ يَتَغَيَّرْ وَكَذَلِكَ التِّينُ وَالْعِنَبُ غَضٌّ لم يتغير شَيْءٍ مِنْ حَالِهِمَا فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ أَنْكَرْتَ مَا قُلْتُ لَكَ انظر الى حمارك فنظر الى حِمَارُهُ قَدْ بَلِيَتْ عِظَامُهُ وَصَارَتْ نَخِرَةً فَنَادَى الْمَلَكُ عِظَامَ الْحِمَارِ فَأَجَابَتْ وَأَقْبَلَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى رَكَّبَهُ الْمَلَكُ وَعُزَيْرٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ثُمَّ أَلْبَسَهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَ ثُمَّ كَسَاهَا اللَّحْمَ ثُمَّ أَنْبَتَ عَلَيْهَا الْجِلْدَ وَالشَّعْرَ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الْمَلَكُ فَقَامَ الْحِمَارُ رَافِعًا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ نَاهِقًا يَظُنُّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ فذلك قوله (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) 2: 259 يعنى وانظر الى عظام حمارك كيف يركب بَعْضَهَا بَعْضًا فِي أَوْصَالِهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ عِظَامًا مُصَوَّرًا حِمَارًا بِلَا لَحْمٍ ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرِهِ. قَالَ فَرَكِبَ حِمَارَهُ حَتَّى أَتَى مَحِلَّتَهُ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ وَأَنْكَرَ النَّاسَ وأنكر منزله فَانْطَلَقَ عَلَى وَهَمٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ فإذا هو(2/44)
بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ قَدْ أَتَى عَلَيْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً كَانَتْ أَمَةً لَهُمْ فَخَرَجَ عَنْهُمْ عُزَيْرٌ وَهِيَ بِنْتُ عِشْرِينَ سَنَةً كَانَتْ عَرَفَتْهُ وَعَقَلَتْهُ فَلَمَّا أَصَابَهَا الْكِبَرُ أَصَابَهَا الزَّمَانَةُ. فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ يَا هَذِهِ أَهَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ قَالَتْ نَعَمْ هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ فَبَكَتْ وَقَالَتْ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ يَذْكُرُ عُزَيْرًا وَقَدْ نَسِيَهُ النَّاسُ قَالَ فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ كَانَ اللَّهُ أَمَاتَنِي مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَنِي قَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ فَقَدْنَاهُ مُنْذُ مِائَةِ سَنَةٍ فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ قَالَ فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ قَالَتْ فَإِنَّ عُزَيْرًا رَجُلٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ يَدْعُو لِلْمَرِيضِ وَلِصَاحِبِ الْبَلَاءِ بِالْعَافِيَةِ وَالشِّفَاءِ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي حَتَّى أَرَاكَ فَإِنْ كُنْتَ عُزَيْرًا عَرَفْتُكَ. قَالَ فَدَعَا رَبَّهُ وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى عَيْنَيْهَا فَصَحَّتَا وَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ قُومِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَطْلَقَ اللَّهُ رِجْلَيْهَا فَقَامَتْ صَحِيحَةً كَأَنَّمَا نَشِطَتْ مِنْ عِقَالٍ فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ أَشْهَدُ أَنَّكَ عُزَيْرٌ وَانْطَلَقَتْ إِلَى مَحِلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَابْنٌ لِعُزَيْرٍ شَيْخٌ ابن مائة سنة وثماني عشر سنة وبنى بَنِيهِ شُيُوخٌ فِي الْمَجْلِسِ فَنَادَتْهُمْ فَقَالَتْ هَذَا عُزَيْرٌ قَدْ جَاءَكُمْ فَكَذَّبُوهَا فَقَالَتْ أَنَا فُلَانَةٌ مَوْلَاتُكُمْ دَعَا لِي رَبَّهُ فَرَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وَأَطْلَقَ رِجْلَيَّ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ فَنَهَضَ النَّاسُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُهُ كَانَ لِأَبِي شَامَةٌ سَوْدَاءُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُزَيْرٌ فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِينَا أَحَدٌ حَفِظَ التَّوْرَاةَ فِيمَا حدثنا غير عزير وقد حرق نَصَّرَ التَّوْرَاةَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا مَا حَفِظَتِ الرِّجَالُ فَاكْتُبْهَا لَنَا وَكَانَ أَبُوهُ سروخا وقد دفن التوراة أيام نَصَّرَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ غَيْرُ عُزَيْرٍ فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَحَفَرَهُ فَاسْتَخْرَجَ التَّوْرَاةَ وَكَانَ قَدْ عَفِنَ الْوَرَقُ وَدَرَسَ الْكِتَابُ قَالَ وَجَلَسَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَهُ فَجَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ وَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ شِهَابَانِ حَتَّى دَخَلَا جَوْفَهُ فَتَذَكَّرَ التَّوْرَاةَ فَجَدَّدَهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. فَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ عزير بن الله لِلَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ الشِّهَابَيْنِ وَتَجْدِيدِهِ التَّوْرَاةَ وَقِيَامِهِ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ جَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ بِأَرْضِ السَّوَادِ بِدَيْرِ حَزْقِيلَ. وَالْقَرْيَةُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا سَايْرَابَاذَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ 2: 259 يَعْنِي لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ مَعَ بَنِيهِ وَهُمْ شُيُوخٌ وَهُوَ شَابٌّ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَبَعَثَهُ اللَّهُ شَابًّا كَهَيْئَةِ يَوْمَ مَاتَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بعث بعد نَصَّرَ وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَقَدْ أَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَأَسْوَدُ رَأْسٍ شَابَ مِنْ قَبْلِهِ ابْنُهُ ... وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ ابْنِهِ فَهْوَ أَكْبَرُ
يَرَى ابْنِهِ شَيْخًا يَدِبُّ عَلَى عَصَا ... وَلِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ وَالرَّأْسُ أَشْقَرُ
وَمَا لِابْنِهِ حَيْلٌ وَلَا فَضْلُ قُوَّةٍ ... يَقُومُ كَمَا يَمْشِي الصَّبِيُّ فَيَعْثِرُ
يُعَدَّ ابْنُهُ فِي النَّاسِ تِسْعِينَ حِجَّةً ... وَعِشْرِينَ لَا يَجْرِي وَلَا يَتَبَخْتَرُ
وَعُمْرُ أَبْيهِ أَرْبَعُونَ أَمَرَّهَا ... ولان ابنه تسعون في الناس عبر
فَمَا هُوَ فِي الْمَعْقُولِ إِنْ كُنْتَ دَارِيًا ... وان كنت لا تدري فبالجهل تعذر(2/45)
فَصْلُ
الْمَشْهُورُ أَنَّ عُزَيْرًا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا بَيْنَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَبَيْنَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ يَحْفَظُ التَّوْرَاةَ أَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَهَا فَسَرَدَهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَمَرَ اللَّهُ مَلَكًا فَنَزَلَ بِمِغْرَفَةٍ مِنْ نُورٍ فَقَذَفَهَا فِي عُزَيْرٍ فَنَسَخَ التَّوْرَاةَ حَرْفًا بِحَرْفٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله 9: 30 لِمَ قَالُوا ذَلِكَ فَذَكَرُ لَهُ ابْنُ سَلَامٍ مَا كَانَ مِنْ كَتْبِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ مِنْ حِفْظِهِ وَقَوْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِالتَّوْرَاةِ إِلَّا فِي كِتَابٍ وَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ جَاءَنَا بِهَا مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ فَرَمَاهُ طَوَائِفُ مِنْهُمْ وَقَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ تَوَاتُرَ التَّوْرَاةِ انْقَطَعَ فِي زَمَنِ الْعُزَيْرِ. وَهَذَا متجه جدا إذا كان العزير غَيْرَ نَبِيٍّ كَمَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رباح والحسن البصري وفيما رواه إسحاق ابن بِشْرٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَمُقَاتِلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ كان في الفترة تسعة أشياء نَصَّرَ وَجَنَّةُ صَنْعَاءَ وَجَنَّةُ سَبَأٍ وَأَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَأَمْرُ حَاصُورَا [1] وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ وَأَصْحَابُ الْفِيلِ وَمَدِينَةُ أَنْطَاكِيَةَ وَأَمْرُ تُبَّعٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ أَمْرُ عُزَيْرٍ وَبُخْتُ نَصَّرَ فِي الْفَتْرَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وبينه نبي) . وقال وهب ابن مُنَبِّهٍ كَانَ فِيمَا بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ عُزَيْرًا كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَأَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ يَعْنِي لِمَا كَانَ مِنْ سُؤَالِهِ عَنِ الْقَدَرِ وَأَنَّهُ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ مِائَةُ مَوْتَةٍ أَهْوَنُ مِنْ ذُلِّ سَاعَةٍ وَفِي مَعْنَى قَوْلِ عُزَيْرٍ مِائَةُ مَوْتَةٍ أَهْوَنُ مِنْ ذُلِّ سَاعَةٍ قَوْلُ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ
قَدْ يَصْبِرُ الْحُرُّ عَلَى السَّيْفِ ... وَيَأْنَفُ الصَّبْرَ عَلَى الْحَيْفِ
وَيُؤْثِرُ الْمَوْتَ عَلَى حَالَةٍ ... يَعْجَزُ فِيهَا عَنْ قِرَى الضَّيْفِ
فَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَوْفٍ الْبِكَالِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الْقَدَرِ فَمُحِيَ اسْمُهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ مُنْكَرٌ وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ قَالَ قَالَ عُزَيْرٌ فِيمَا يُنَاجِي رَبَّهُ (يَا رَبِّ تَخْلُقُ خَلْقًا فَتُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) فَقِيلَ لَهُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا فَعَادَ فقيل له لتعرض عَنْ هَذَا أَوْ لَأَمْحُوَنَّ اسْمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ وهذا لا يَقْتَضِي وُقُوعَ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ لَوْ عَادَ فما محيا اسْمُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ سِوَى التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن سعيد وابى سلمة
__________
[1] هكذا في النسخة الحلبية. وفي النسخة المصرية (وأمر جاصور)(2/46)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعَيْبٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ فَأَوْحَى اللَّهُ اليه مهلا نَمْلَةً وَاحِدَةً. فَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ عُزَيْرٌ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ عُزَيْرٌ فاللَّه اعلم.
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام
قال الله تعالى في كتابه العزيز بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قال كَذلِكَ قال رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ من قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا. فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا 19: 0- 15 وَقَالَ تَعَالَى وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قَالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً. قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) 3: 37- 41 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ 21: 89- 90. وقال تعالى وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ 6:- 85. قال الحافظ أبو القاسم بن عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ التَّارِيخُ الْمَشْهُورِ الْحَافِلِ. زَكَرِيَّا بن برخيا ويقال زكريا بن دان يقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن دواد بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ صَدِيقَةَ بْنِ برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن اينامن بن رحبعام بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ أَبُو يَحْيَى النَّبِيُّ عليه السلام من بنى إسرائيل. دخل البثينة مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ فِي طَلَبِ ابْنِهِ يَحْيَى. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ بِدِمَشْقَ حِينَ قُتِلَ ابْنُهُ يَحْيَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ في نسبه(2/47)
ويقال فيه زكريا بِالْمَدِّ وَبِالْقَصْرِ وَيُقَالُ زَكَرِيٌّ أَيْضًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُصَّ عَلَى النَّاسِ خَبَرَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ وَهَبَهُ اللَّهُ وَلَدًا عَلَى الْكِبَرِ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَاقِرًا فِي حَالِ شَبِيبَتِهَا وَقَدْ أَسَنَّتْ أَيْضًا حتى لا ييئس أَحَدٌ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَا يَقْنَطَ مَنْ فَضْلِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا 19: 2- 3. قَالَ قَتَادَةُ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ النَّقِيَّ وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَنَادَى رَبَّهُ مُنَادَاةً أَسَرَّهَا عَمَّنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ مُخَافَتَةً فَقَالَ (يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ فَقَالَ اللَّهُ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ) (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) 19: 4 أَيْ ضَعُفَ وَخَارَ مِنَ الْكِبَرِ (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) 19: 4 اسْتِعَارَةٌ مِنَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْحَطَبِ أَيْ غَلَبَ عَلَى سَوَادِ الشَّعْرِ شَيْبُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ.
إِمَّا تَرَى رَأْسِي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجا
وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ ... مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ في جمر الغضا
وآض عود اللَّهْوِ يَبْسًا ذَاوِيًا ... مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ مَجَّاجَ الثَّرَى
يَذْكُرُ أَنَّ الضَّعْفَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهَكَذَا قَالَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) 19: 4 وقوله (لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) 19: 4 أي ما عودتني فيما اسألك إِلَّا الْإِجَابَةَ وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمَّا كَفَلَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مِحْرَابَهَا وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهَا وَلَا فِي أَوَانِهَا وَهَذِهِ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَعَلِمَ أَنَّ الرَّازِقَ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا وَإِنْ كَانَ قَدْ طَعَنَ فِي سِنِّهِ (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) 3: 38 وَقَوْلُهُ (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) 19: 5 قِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَوَالِي الْعُصْبَةُ وَكَأَنَّهُ خَافَ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ بَعْدَهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ فَسَأَلَ وُجُودَ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ يَكُونُ بَرًّا تَقِيًّا مَرْضِيًّا وَلِهَذَا قال (فَهَبْ لِي من لَدُنْكَ) 19: 5 أَيْ مِنْ عِنْدِكَ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ (وَلِيًّا يَرِثُنِي) 19: 5- 6 أَيْ فِي النُّبُوَّةِ وَالْحُكْمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) 19: 6 يَعْنِي كَمَا كَانَ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافُهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ أَنْبِيَاءَ فَاجْعَلْهُ مِثْلَهُمْ فِي الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمْتَهُمْ بِهَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا وِرَاثَةَ الْمَالِ كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ مَنْ زَعَمَهُ مِنَ الشِّيعَةِ وَوَافَقَهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مِنَ السَّلَفِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا مَا قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ 27: 16 أَيْ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي الصحاح والمسانيد والسنن وَغَيْرِهَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُورَثُ وَلِهَذَا مَنَعَ الصِّدِّيقُ أَنْ يُصْرَفُ مَا كَانَ يَخْتَصُّ بِهِ فِي حَيَاتِهِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ وُرَّاثِهِ الَّذِينَ لولا هذا(2/48)
النَّصُّ لَصُرَفَ إِلَيْهِمْ وَهُمُ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ وَأَزْوَاجُهُ التِّسْعُ وَعَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ فِي مَنْعِهِ إِيَّاهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ. الثَّانِي أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَاهُ بِلَفْظٍ يَعُمُّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَصَحَّحَهُ. الثَّالِثُ أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَنْ يَكْنِزُوا لَهَا أَوْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا أَوْ يُهِمَّهُمْ أَمْرُهَا حَتَّى يَسْأَلُوا الْأَوْلَادَ لِيَحُوزُوهَا بَعْدَهُمْ فَإِنَّ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي الزَّهَادَةِ لَا يَهْتَمُّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ أَنْ يَسْأَلَ وَلَدًا يَكُونُ وَارِثًا لَهُ فِيهَا. الرَّابِعُ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَجَّارًا يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهَا كَمَا كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ وَالْغَالِبُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ مِثْلُ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ في العمل اجهادا يستفضل منه ما لا يَكُونُ ذَخِيرَةً لَهُ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهَذَا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وَتَفَهُّمٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَوْلُهُ (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ من قَبْلُ سَمِيًّا) 19: 7. وهذا مفسر بقوله (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا من الصَّالِحِينَ) 3: 39 فَلَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَتَحَقَّقَ الْبِشَارَةَ شَرَعَ يَسْتَعْلِمُ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ وُجُودَ الْوَلَدِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَهُ (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) 19: 8 أَيْ كَيْفَ يُوجَدُ وَلَدٌ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ قِيلَ كَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ من ذلك (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) 19: 5 يَعْنِي وَقَدْ كَانَتِ امْرَأَتِي فِي حَالِ شَبِيبَتِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) 15: 54 وَقَالَتْ سَارَّةُ (يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمْرِ الله رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) 11: 72- 73 وهكذا أجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الّذي يوحى اليه بأمر ربه (كَذلِكَ قال رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) 19: 9 أَيْ هَذَا سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَيْهِ (وَقَدْ خَلَقْتُكَ من قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) 19: 9 أَيْ قُدْرَتُهُ أَوْجَدَتْكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا أَفَلَا يُوجِدُ مِنْكَ وَلَدًا وَإِنْ كنت شيخا. وَقَالَ تَعَالَى فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ 21: 90 وَمَعْنَى إِصْلَاحِ زَوْجَتِهِ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَحِيضُ فَحَاضَتْ. وَقِيلَ كَانَ فِي لِسَانِهَا شَيْءٌ أَيْ بذاءة (قال رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) 19: 10 أَيْ عَلَامَةً عَلَى وَقْتَ تَعْلَقُ مِنِّي الْمَرْأَةُ بِهَذَا الْوَلَدِ الْمُبَشَّرِ بِهِ (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) 19: 10 يَقُولُ عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَرِيَكَ سَكْتٌ لَا تَنْطِقُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ سَوِيُّ الْخَلْقِ صَحِيحُ الْمِزَاجِ مُعْتَدِلُ البنية وأمر(2/49)
بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْقَلْبِ وَاسْتِحْضَارِ ذَلِكَ بِفُؤَادِهِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ فَلَمَّا بُشِّرَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ خَرَجَ مَسْرُورًا بِهَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مِحْرَابِهِ (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) 19: 11 وَالْوَحْيُ هَاهُنَا هُوَ الْأَمْرُ الْخَفِيُّ إِمَّا بِكِتَابَةٍ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ أَوْ إِشَارَةٍ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَوَهْبٌ وَقَتَادَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَوَهُبٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُ كَلَامَ أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ (يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) 19: 12، يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُجُودِ الْوَلَدِ وَفْقَ الْبِشَارَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَبِيهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ صَغِيرٌ فِي حَالِ صِبَاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ فَقَالَ مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا قَالَ وذلك قوله (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) 19: 12 وأما قوله (وَحَناناً من لَدُنَّا) 19: 13 فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا أَدْرِي مَا الْحَنَانُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) 19: 13 أَيْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا رَحِمْنَا بِهَا زَكَرِيَّا فَوَهَبْنَا لَهُ هَذَا الْوَلَدَ وَعَنْ عِكْرِمَةَ (وَحَناناً) 19: 13 أَيْ مَحَبَّةً عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِتَحَنُّنِ يَحْيَى عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَبَوَيْهِ وَهُوَ مَحَبَّتُهُمَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَبِرُّهُ بِهِمَا. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهُوَ طَهَارَةُ الْخُلُقِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ. وَالتَّقْوَى طَاعَةُ اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بِرَّهُ بِوَالِدَيْهِ وَطَاعَتَهُ لَهُمَا أَمْرًا وَنَهْيًا وَتَرْكَ عُقُوقِهِمَا قَوْلًا وَفِعْلًا فَقَالَ (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) 19: 14 ثُمَّ قَالَ (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) 19: 15 هَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَشَدُّ مَا تَكُونُ عَلَى الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنْ عَالَمٍ إِلَى عَالَمٍ آخَرَ فَيَفْقِدُ الْأَوَّلَ بَعْدَ مَا كَانَ أَلِفَهُ وَعَرَفَهُ وَيَصِيرُ إِلَى الْآخَرِ وَلَا يَدْرِي مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِهَذَا يَسْتَهِلُّ صَارِخًا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ الْأَحْشَاءِ وَفَارَقَ لِينَهَا وَضَمَّهَا وَيَنْتَقِلُ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ لِيُكَابِدَ همومها وغمها وَكَذَلِكَ إِذَا فَارَقَ هَذِهِ الدَّارَ وَانْتَقَلَ إِلَى عَالَمِ الْبَرْزَخِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَارِ الْقَرَارِ وَصَارَ بَعْدَ الدُّورِ وَالْقُصُورِ إِلَى عَرْصَةِ الْأَمْوَاتِ سُكَّانِ الْقُبُورِ وَانْتَظَرَ هُنَاكَ النَّفْخَةَ فِي الصُّوَرِ لِيَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَمِنْ مَسْرُورٍ وَمَحْبُورٍ وَمِنْ مَحْزُونٍ ومثبور وما بين جبير وكسير وَفَرِيقٍ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٍ فِي السَّعِيرِ. وَلَقَدْ أحسن بعض الشعراء حيث يقول:
وَلَدَتْكَ أُمُّكَ بَاكِيًا مُسْتَصْرِخًا ... وَالنَّاسُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرَورًا
فَاحْرِصْ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ إِذَا بَكَوْا ... فِي يَومِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثَةُ أَشَقَّ مَا تَكُونُ عَلَى ابْنِ آدَمَ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَى يَحْيَى فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مِنْهَا فَقَالَ
(وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا)
وقال سعيد ابن أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ إِنْ يَحْيَى وَعِيسَى الْتَقَيَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي فَقَالَ لَهُ عِيسَى أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سَلَّمْتُ عَلَى نفسي وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا من الصَّالِحِينَ) 3: 39 فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَصُورِ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ(2/50)
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَشْبَهُ لِقَوْلِهِ (هَبْ لِي من لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) 3: 38 وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنُ زكريا وما ينبغي لأحد يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى. عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ بِهِ مُطَوَّلًا ثُمَّ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِنَا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمًا وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَضْلَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ قَائِلٌ (مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ وقال قائل عيسى روح الله وكلمته وقال قائل إبراهيم خليل الله فَقَالَ أَيْنَ الشَّهِيدُ أَيْنَ الشَّهِيدُ يَلْبَسُ الْوَبَرَ وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ مَخَافَةَ الذَّنْبِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ يُرِيدُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ ابن إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ حَدَّثَنِي ابْنُ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. فَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ وَقَدْ عَنْعَنَ هاهنا. ثم قال عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مُرْسَلًا. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ عَسَاكِرَ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ يحيى بن سعيد الأنصاري ثُمَّ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجُوزْجَانِيِّ خَطِيبِ دِمَشْقَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عن يحيى ابن سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمرو قال ما أحدا لا يَلْقَى اللَّهَ بِذَنْبٍ إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. ثم تلا (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) 3: 39 ثُمَّ رَفَعَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هَذَا. ثُمَّ ذُبِحَ ذَبْحًا وَهَذَا مَوْقُوفٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَكَوْنُهُ مَوْقُوفًا أَصَحُّ مِنْ رَفْعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَعْمَرٍ مِنْ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ بشر وهو ضعيف عن عثمان بن سباح عن ثور بن يزيد عن خالد ابن مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نعيم عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا ابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وعيسى عليهما السَّلَامُ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يقول خرج عيسى بن مريم ويحيى ابن زَكَرِيَّا يَتَمَاشَيَانِ فَصَدَمَ يَحْيَى امْرَأَةً فَقَالَ لَهُ عيسى يا ابن خَالَةِ لَقَدْ أَصَبْتَ الْيَوْمَ خَطِيئَةً مَا أَظُنُّ أنه يغفر لك ابدا قال وما هي يا ابن خَالَةِ قَالَ امْرَأَةٌ صَدَمْتَهَا. قَالَ وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ بِهَا. قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ بَدَنُكَ مَعِي فَأَيْنَ رُوحُكَ قَالَ مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ وَلَوْ أَنَّ قَلْبِي اطْمَئَنَّ إِلَى جِبْرِيلَ لَظَنَنْتُ أَنِّي مَا عَرَفْتُ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فِيهِ غَرَابَةٌ وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَقَالَ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عن خيثمة قال كان عيسى بن مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَيْ خَالَةٍ وَكَانَ عِيسَى يَلْبَسُ الصُّوفَ وَكَانَ يَحْيَى يَلْبَسُ الْوَبَرَ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ولا(2/51)
عبد ولا أمة ولا مأوى يأويان اليه اين ما جَنَّهُمَا اللَّيْلُ أَوَيَا فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَتَفَرَّقَا قال له يحبى أَوْصِنِي قَالَ لَا تَغْضَبْ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ الا أن اغضب قال لا تَقْتَنِ مَالًا قَالَ أَمَّا هَذِهِ فَعَسَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ هَلْ مَاتَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْتًا أَوْ قُتِلَ قَتْلًا عَلَى رِوَايَتَيْنِ فَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ هَرَبَ مِنْ قَوْمِهِ فدخل شجرة فجاءوا فوضعوا المنشار عليهما فَلَمَّا وَصَلَ الْمِنْشَارُ إِلَى أَضْلَاعِهِ أَنَّ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لَئِنْ لَمْ يَسْكُنْ أَنِينُكَ لَأَقْلِبَنَّ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا فَسَكَنَ أَنِينُهُ حَتَّى قُطِعَ بِاثْنَتَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ سَنُورِدُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ الَّذِي انْصَدَعَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ هو شعيا فَأَمَّا زَكَرِيَّا فَمَاتَ مَوْتًا فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَفَّانُ أنبأنا أَبُو خَلَفٍ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْبُدَلَاءِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ وَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ. فَإِمَّا أَنْ تُبْلِّغَهُنَّ وَإِمَّا أَنَّ أُبَلِّغَهُنَّ فَقَالَ يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي قَالَ فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ فَقَعَدَ عَلَى الشَّرَفِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وآمركم ان تعملوا بهن. وأولهن أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَلَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ هَلْ لَكَمَ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيرًا فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي إِثْرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ وَقَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربق الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ وَمَنْ دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم قال يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى قَالَ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ادْعُوَا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ(2/52)
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَمُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبَانِ بْنِ يَزِيدَ الْعَطَّارِ بِهِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ سَابُورَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِي سَلَامٍ عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَخِيهِ بِهِ. ثُمَّ قَالَ تَفَرَّدَ بِهِ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ. قُلْتُ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ محمد بن عبدة عن أبى نوبة الربيع بن يافع عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِي سَلَامٍ عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ فَذَكَرَ نَحْوَهُ فَسَقَطَ ذِكْرُ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِي سَلَامٍ عَنِ الحارث الأشعري فذكر نحو هذه الرواية ثم روى الحافظ بن عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ ذُكِرَ لَنَا عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا سَمِعُوا مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا أُرْسِلَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَثِيرَ الِانْفِرَادِ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا كَانَ يَأْنَسُ إِلَى الْبَرَارِي وَيَأْكُلُ مِنْ وَرَقِ الْأَشْجَارِ وَيَرِدُ مَاءَ الْأَنْهَارِ وَيَتَغَذَّى بِالْجَرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَيَقُولُ مَنْ أَنْعَمُ مِنْكَ يَا يَحْيَى وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أَبَوَيْهِ خَرَجَا فِي تَطَلُّبِهِ فَوَجَدَاهُ عِنْدَ بُحَيْرَةِ الْأُرْدُنِّ فَلَمَّا اجْتَمَعَا بِهِ أَبْكَاهُمَا بُكَاءً شَدِيدًا لِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كَانَ طَعَامُ يحيى بن زكريا العشب وانه كَانَ لَيَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى لَوْ كان القار على عينيه لخرقه وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ جَلَسْتُ يَوْمًا إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَهُوَ يَقُصُّ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ كَانَ أَطْيَبَ النَّاسِ طَعَامًا فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِ قَالَ إِنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا كَانَ أَطْيَبَ النَّاسِ طَعَامًا إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الْوَحْشِ كَرَاهَةَ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ فَقَدَ زَكَرِيَّا ابْنَهُ يَحْيَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُ فِي الْبَرِّيَّةِ فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَفَرَ قَبْرًا وَأَقَامَ فِيهِ يَبْكِي عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ يَا بُنَيَّ أَنَا أَطْلُبُكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَنْتَ فِي قَبْرٍ قَدِ احْتَفَرْتَهُ قَائِمٌ تَبْكِي فِيهِ فَقَالَ يَا أَبَتِ أَلَسْتَ أَنْتَ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مفازة لا يقطع الا بدموع البكاءين فَقَالَ لَهُ ابْكِ يَا بُنَيَّ فَبَكَيَا جَمِيعًا. وَهَكَذَا حَكَاهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَمُجَاهِدٌ بِنَحْوِهِ وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ لِلَذَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَكَذَا يَنْبَغِي لِلصِّدِّيقِينَ أَنْ لَا يَنَامُوا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْمَحَبَّةِ للَّه عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ كَمْ بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ وَكَمْ بَيْنَهُمَا وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ حَتَّى أَثَّرَ الْبُكَاءُ فِي خَدَّيْهِ مِنْ كَثْرَةِ دُمُوعِهِ
بَيَانُ سَبَبِ قَتْلِ يَحْيَى عليه السلام
وذكروا في قتله أسبابا مِنْ أَشْهَرِهَا أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِدِمَشْقَ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِبَعْضِ مَحَارِمِهِ أَوْ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا فَنَهَاهُ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهَا مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَلِكِ(2/53)
مَا يُحِبُّ مِنْهَا اسْتَوْهَبَتْ مِنْهُ دَمَ يَحْيَى فوهبه لها فبعث إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ وَجَاءَ بِرَأْسِهِ وَدَمِهِ فِي طشت إِلَى عِنْدِهَا فَيُقَالُ إِنَّهَا هَلَكَتْ مِنْ فَوْرِهَا وَسَاعَتِهَا وَقِيلَ بَلْ أَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ ذَلِكَ الْمَلِكِ وَرَاسَلَتْهُ فَأَبَى عَلَيْهَا فَلَمَّا يَئِسَتْ مِنْهُ تَحَيَّلَتْ فِي أَنِ اسْتَوْهَبَتْهُ مِنَ الْمَلِكِ فَتَمَنَّعَ عَلَيْهَا الملك ثم أجابها الى ذلك فبعث مَنْ قَتَلَهُ وَأَحْضَرَ إِلَيْهَا رَأْسَهُ وَدَمَهُ فِي طشت. وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي كِتَابِهِ الْمُبْتَدَأُ حَيْثُ قَالَ أَنْبَأَنَا يَعْقُوبٌ الْكُوفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ رَأَى زَكَرِيَّا فِي السَّمَاءِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا أَبَا يَحْيَى خَبِّرْنِي عَنْ قَتْلِكَ كَيْفَ كَانَ وَلِمَ قَتَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ. قَالَ يَا مُحَمَّدُ أُخْبِرُكَ أَنَّ يَحْيَى كَانَ خَيْرَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَكَانَ أَجْمَلَهُمْ وَأَصْبَحَهُمْ وَجْهًا وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (سَيِّداً وَحَصُوراً) 3: 39 وكان لا يحتاج الى النساء فهوته امْرَأَةُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَتْ بَغِيَّةً فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَعَصَمَهُ اللَّهُ وَامْتَنَعَ يَحْيَى وَأَبَى عَلَيْهَا فأجمعت عَلَى قَتْلِ يَحْيَى وَلَهُمْ عِيدٌ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ عَامٍ وَكَانَتْ سُنَّةُ الْمَلِكَ أَنْ يُوعِدَ وَلَا يُخْلِفَ وَلَا يَكْذِبَ. قَالَ فَخَرَجَ الْمَلِكُ إِلَى الْعِيدِ فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ فَشَيَّعَتْهُ وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا وَلَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ فِيمَا مَضَى فَلَمَّا أَنْ شَيَّعَتْهُ قَالَ الْمَلِكُ سَلِينِي فَمَا سَأَلْتِنِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكِ قَالَتْ أُرِيدُ دَمَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا قَالَ لَهَا سَلِينِي غَيْرَهُ قَالَتْ هُوَ ذَاكَ قَالَ هُوَ لَكِ قَالَ فَبَعَثَتْ جَلَاوِزَتَهَا إِلَى يَحْيَى وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ أُصَلِّي قَالَ فَذُبِحَ فِي طشت وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَدَمُهُ إِلَيْهَا. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا بَلَغَ مِنْ صَبْرِكَ قَالَ مَا انْفَتَلْتُ مِنْ صَلَاتِي قَالَ فَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهَا فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهَا فَلَمَّا أَمْسَوْا خَسَفَ اللَّهُ بِالْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَحَشَمِهِ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ غَضِبَ إِلَهُ زَكَرِيَّا لِزَكَرِيَّا فَتَعَالَوْا حَتَّى نَغْضَبَ لِمَلِكِنَا فَنَقْتُلَ زَكَرِيَّا قَالَ فَخَرَجُوا فِي طَلَبِي لِيَقْتُلُونِي وَجَاءَنِي النَّذِيرُ فَهَرَبْتُ مِنْهُمْ وَإِبْلِيسُ أَمَامَهُمْ يَدُلُّهُمْ عَلَيَّ فَلَمَّا تَخَوَّفْتُ أَنْ لَا أُعْجِزَهُمْ عَرَضَتْ لِي شَجَرَةٌ فَنَادَتْنِي وَقَالَتْ إِلَيَّ الى وانصدعت لي ودخلت فِيهَا. قَالَ وَجَاءَ إِبْلِيسُ حَتَّى أَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِي وَالْتَأَمَتِ الشَّجَرَةُ وَبَقِيَ طَرَفُ رِدَائِي خَارِجًا مِنَ الشَّجَرَةِ وَجَاءَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالَ إِبْلِيسُ أَمَا رَأَيْتُمُوهُ دَخَلَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ هَذَا طَرَفُ رِدَائِهِ دَخَلَهَا بِسِحْرِهِ فَقَالُوا نُحَرِّقُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَقَالَ إِبْلِيسُ شُقُّوهُ بِالْمِنْشَارِ شَقًّا. قَالَ فَشُقِقْتُ مَعَ الشَّجَرَةِ بِالْمِنْشَارِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ وَجَدْتَ لَهُ مَسًّا أَوْ وَجَعًا قَالَ لَا إِنَّمَا وَجَدَتْ ذَلِكَ الشجرة التي جَعَلَ اللَّهُ رُوحِي فِيهَا. هَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ جدا وَحَدِيثٌ عَجِيبٌ وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ وَفِيهِ مَا يُنْكَرُ على كل حال ولم ير في شيء من أحاديث الاسراء ذكر زكريا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فَمَرَرْتُ بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فَإِنَّ أُمَّ يَحْيَى أَشْيَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ. وَقِيلَ بَلْ أَشْيَاعُ وَهِيَ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا أُمُّ يَحْيَى هِيَ أُخْتُ حَنَّةَ امْرَأَةِ عِمْرَانَ أَمِّ مَرْيَمَ فَيَكُونُ يَحْيَى ابْنَ خَالَةِ مَرْيَمَ فاللَّه أَعْلَمُ ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي مَقْتَلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا هَلْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَمْ بِغَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ الثَّوْرِيُّ(2/54)
عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ قُتِلَ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وقال أبو عبيدة الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ قَدِمَ بُخْتُ نَصَّرَ دِمَشْقَ فَإِذَا هُوَ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا يَغْلِي فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ فَقَتَلَ عَلَى دَمِهِ سَبْعِينَ أَلْفًا فَسَكَنَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قُتِلَ بِدِمَشْقَ وَأَنَّ قِصَّةَ بُخْتُ نَصَّرَ كَانَتْ بَعْدَ الْمَسِيحِ كَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الوليد ابن مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ رَأَيْتُ رأس يحيى ابن زَكَرِيَّا حِينَ أَرَادُوا بِنَاءَ مَسْجِدِ دِمَشْقَ أُخْرِجَ مِنْ تَحْتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْقِبْلَةِ الَّذِي يَلِي الْمِحْرَابَ مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ فَكَانَتِ الْبَشَرَةُ وَالشَّعْرُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَفِي رِوَايَةٍ كَأَنَّمَا قُتِلَ السَّاعَةَ. وَذُكِرَ فِي بِنَاءِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ أَنَّهُ جُعِلَ تَحْتَ الْعَمُودِ الْمَعْرُوفِ بِعَمُودِ السَّكَاسِكَةِ فاللَّه أَعْلَمُ.
[1] وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ الْأَقْصَى مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ صُبْحٍ عَنْ مَرْوَانَ عَنْ سعيد بن عبد العزيز عن قاسم مَوْلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ كَانَ مَلِكُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ يعنى دمشق هداد ابن هدار وكان قد زوجه ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْلَاكِهَا سُوقُ الْمُلُوكِ بِدِمَشْقَ وَهُوَ الصَّاغَةُ الْعَتِيقَةُ قَالَ وَكَانَ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا. ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَاسْتَفْتَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَقَالَ لَا تَحِلُّ لَكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ فَحَقَدَتْ عَلَيْهِ وَسَأَلَتْ مِنَ الْمَلِكِ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أُمِّهَا فَأَبَى عَلَيْهَا ثُمَّ أَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بمسجد حيرون مَنْ أَتَاهُ بِرَأْسِهِ فِي صِينِيَّةٍ فَجَعَلَ الرَّأْسَ يقول له لَا تَحِلُّ لَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الطَّبَقَ فَحَمَلَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا وَأَتَتْ بِهِ أُمَّهَا وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ فَلَمَّا تَمَثَّلَتْ بَيْنَ يَدَيْ أُمِّهَا خُسِفَ بِهَا إِلَى قَدَمَيْهَا ثُمَّ إِلَى حَقْوَيْهَا وَجَعَلَتْ أُمُّهَا تُوَلْوِلُ وَالْجَوَارِي يَصْرُخْنَ وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ ثُمَّ خُسِفَ بِهَا إِلَى مَنْكِبَيْهَا فَأَمَرَتْ أُمُّهَا السَّيَّافَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهَا لِتَتَسَلَّى بِرَأْسِهَا فَفَعَلَ فَلَفَظَتِ الْأَرْضُ جُثَّتَهَا عِنْدَ ذَلِكَ وَوَقَعُوا فِي الذُّلِّ وَالْفَنَاءِ وَلَمْ يَزَلْ دَمُ يَحْيَى يَفُورُ حَتَّى قدم نَصَّرَ فَقَتَلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهِيَ دَمُ كُلِّ نَبِيٍّ وَلَمْ يَزَلْ يَفُورُ حَتَّى وَقَفَ عِنْدَهُ أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ أَيُّهَا الدَّمُ أَفْنَيْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاسْكُنْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَسَكَنَ فَرُفِعَ السَّيْفُ وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَبِعَهُمْ إِلَيْهَا فَقَتَلَ خَلْقًا كثيرا لا يحصون كثرة وسبى منهم ثم رجع عنهم.
__________
[1] من هنا الى قصة عيسى لم يوجد في النسختين الموجودتين بالمكتبة الملكية المصرية(2/55)
قصة عيسى بن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَ صَدْرُهَا وَهُوَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْهَا فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ للَّه وَلَدًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَكَانَ قَدْ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ مِنَ التَّثْلِيثِ فِي الْأَقَانِيمِ وَيَدَّعُونَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهُمُ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ وَعِيسَى وَمَرْيَمُ عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فِي الرَّحِمِ كَمَا صَوَّرَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ ولا أم وقال له كن فكان سبحانه وتعالى. وبين أَصْلَ مِيلَادِ أُمِّهِ مَرْيَمَ وَكَيْفَ كَانَ مِنْ أَمْرِهَا وَكَيْفَ حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا عِيسَى وَكَذَلِكَ بَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ كَمَا سَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَالله أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 3: 33- 37 يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ اصْطَفَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْخُلَّصَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْمُتَّبِعِينَ شَرْعَهُ الْمُلَازِمِينَ طَاعَتَهُ ثُمَّ خَصَّصَ فَقَالَ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ فَدَخَلَ فِيهِمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ وَبَنُو إِسْحَاقَ. ثُمَّ ذَكَرَ فَضْلَ هَذَا الْبَيْتِ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ وَهُمْ آلُ عِمْرَانَ والمراد بعمران هذا والد مريم عليها السلام وقال محمد ابن إِسْحَاقَ وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ بَاشِمَ بْنُ أَمُونَ ابن ميشا بن حزقيا بن احريق بن موثم بن عزازيا بن امصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن ايشا بن أيان بْنِ رَحْبَعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَقَالَ ابو القاسم بن عساكر مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليود بن اخنر بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن ايبود بن زريابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن امون بن ميشا بن حزقا بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط ابن ايشا بن ايبا بن رحبعام ابن سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ كما ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ أَبُوهَا عِمْرَانُ صَاحِبَ صَلَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ وَكَانَتْ أُمُّهَا وَهِيَ حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلَ مِنَ الْعَابِدَاتِ وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَوْجَ أُخْتِ مَرْيَمَ أَشْيَاعَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ زَوْجُ خَالَتِهَا أَشْيَاعَ فاللَّه أَعْلَمُ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ مَرْيَمَ كَانَتْ لَا تَحْبَلُ فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يَزُقُّ فَرْخًا لَهُ فَاشْتَهَتِ(2/56)
الْوَلَدَ فَنَذَرَتْ للَّه إِنْ حَمَلَتْ لَتَجْعَلَنَّ وَلَدَهَا مُحَرَّرًا أَيْ حَبِيسًا فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالُوا فَحَاضَتْ مِنْ فَوْرِهَا فَلَمَّا طَهُرَتْ وَاقَعَهَا بَعْلُهَا فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَالله أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) 3: 36 وقرى بضم التاء (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) 3: 36 أَيْ فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَنْذِرُونَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ خُدَّامًا مِنْ أولادهم. وقولها (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) 3: 36 اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ يُولَدُ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ فِي ذَهَابِهِ بِأَخِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَ أَخَاهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ ويدمي بدل ويسمى وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهَا (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها من الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) 3: 36 قَدِ اسْتُجِيبَ لَهَا فِي هَذَا كَمَا تُقُبِّلَ مِنْهَا نَذْرُهَا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) 3: 36 أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرْجِ عَنْ بَقِيَّةَ عن عبد الله بن الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذؤيب عَنْ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ بِأُصْبُعِهِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَابْنَهَا عِيسَى) . تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنحوه. وقال احمد حدثنا هشيم حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أمه يلكزه الشيطان في حضينه إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَابْنِهَا أَلَمْ تَرَ إِلَى الصَّبِيِّ حِينَ يَسْقُطُ كَيْفَ يَصْرُخُ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ذَلِكَ حين يلكزه الشيطان بحضينه وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَاهُ قَيْسٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ما مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَيْنِ إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَمَرْيَمَ) ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) 3: 36 وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْلِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِزَامِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ حِينَ يُولَدُ إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ) . وَهَذَا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَوْلُهُ (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) 3: 37 ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ أُمَّهَا حِينَ وَضَعَتْهَا لَفَّتْهَا فِي خُرُوقِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ بِهَا(2/57)
إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَلَّمَتْهَا إِلَى الْعُبَّادِ الَّذِينَ هُمْ مُقِيمُونَ بِهِ وَكَانَتِ ابْنَةَ إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ صَلَاتِهِمْ فَتَنَازَعُوا فِيهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إِنَّمَا سَلَّمَتْهَا إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَضَاعِهَا وَكَفَالَةِ مِثْلِهَا فِي صِغَرِهَا. ثُمَّ لَمَّا دَفَعَتْهَا إِلَيْهِمْ تَنَازَعُوا فِي أَيِّهِمْ يَكْفُلُهَا وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيَّهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ زَوْجَتَهُ أُخْتُهَا أَوْ خَالَتُهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَشَاحُّوهُ فِي ذَلِكَ وَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعَ مَعَهُمْ فَسَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ فَخَرَجَتْ قُرْعَتُهُ غَالِبَةً لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا 3: 37 أَيْ بِسَبَبِ غَلَبِهِ لَهُمْ فِي الْقُرْعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ 3: 44. قَالُوا وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ أَلْقَى قَلَمَهُ مَعْرُوفًا بِهِ ثُمَّ حَمَلُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَمَرُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ فَأَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهَا وَظَهَرَ قَلَمُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعُوا مَرَّةً ثَانِيَةً وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُلْقُوا أَقْلَامَهُمْ فِي النَّهْرِ فَأَيُّهُمْ جَرَى قلمه على خلاف جريه في الْمَاءِ فَهُوَ الْغَالِبُ فَفَعَلُوا فَكَانَ قَلَمُ زَكَرِيَّا هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَى خِلَافِ جَرْيَةِ الْمَاءِ وَسَارَتْ أَقْلَامُهُمْ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَقْتَرِعُوا ثَالِثَةً فَأَيُّهُمْ جَرَى قَلَمُهُ مَعَ الماء ويكون بَقِيَّةُ الْأَقْلَامِ قَدِ انْعَكَسَ سَيْرُهَا صُعُدًا فَهُوَ الْغَالِبُ فَفَعَلُوا فَكَانَ زَكَرِيَّا هُوَ الْغَالِبَ لَهُمْ فَكَفَلَهَا إِذْ كَانَ أَحَقَّ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 3: 37 قَالَ الْمُفَسِّرُونَ اتَّخَذَ لَهَا زَكَرِيَّا مَكَانًا شَرِيفًا مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَدْخُلُهُ سِوَاهَا فَكَانَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ وَتَقُومُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ سَدَانَةِ الْبَيْتِ إِذَا جَاءَتْ نَوْبَتُهَا وَتَقُومُ بِالْعِبَادَةِ لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا حَتَّى صَارَتْ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ بِعِبَادَتِهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاشْتَهَرَتْ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْكَرِيمَةِ وَالصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مَوْضِعَ عِبَادَتِهَا يَجِدُ عِنْدَهَا رِزْقًا غَرِيبًا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَكَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ فيسألها (أَنَّى لَكِ هذا 3: 37 فتقول هُوَ من عِنْدِ الله) 3: 37 أَيْ رِزْقٌ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حساب فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسَنَّ وَكَبِرَ (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) 3: 38. قَالَ بَعْضُهُمْ قَالَ يَا مَنْ يَرْزُقُ مَرْيَمَ الثَّمَرَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ هَبْ لِي وَلَدًا وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ وَقَضِيَّتِهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي قِصَّتِهِ.
(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمن الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمن الصَّالِحِينَ. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ(2/58)
جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) 3: 42- 51 يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا بِأَنِ اخْتَارَهَا لِإِيجَادِ وَلَدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَبُشِّرَتْ بِأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا شَرِيفًا (يُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ) 3: 46 أَيْ فِي صِغَرِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَكَذَلِكَ فِي حَالِ كهوليته فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْكُهُولَةَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ فِيهَا وَأُمِرَتْ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالْقُنُوتِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ لِتَكُونَ أَهْلًا لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ وَلِتَقُومَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ فَيُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَحِمَهَا وَرَحِمَ أُمَّهَا وَأَبَاهَا فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ (يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفاكِ) 3: 42 أَيِ اخْتَارَكِ وَاجْتَبَاكِ (وَطَهَّرَكِ) 3: 42 أَيْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَأَعْطَاكِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) 3: 42. يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَالَمِي زَمَانِهَا كَقَوْلِهِ لموسى انى اصطفيتك على الناس وَكَقَوْلِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) 44: 32 وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَأَفْضَلُ عِلْمًا وَأَزْكَى عَمَلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) 3: 42 مَحْفُوظَ الْعُمُومِ فَتَكُونَ أَفْضَلَ نِسَاءِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا وَوُجِدَ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَبِيَّةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُبُوَّتِهَا وَنُبُوَّةِ سَارَّةَ أُمِّ إِسْحَاقَ وَنُبُوَّةِ أُمِّ مُوسَى مُحْتَجًّا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ إِلَى أُمِّ مُوسَى كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ فَلَا يَمْتَنِعُ على هذا أن يكون مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ سَارَّةَ وَأُمِّ مُوسَى لِعُمُومِ قوله (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) 3: 42 إِذْ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدْ حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالرِّجَالِ وَلَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ فَيَكُونُ أَعْلَى مَقَامَاتِ مَرْيَمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ 5: 75 فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ الصِّدِّيقَاتِ الْمَشْهُورَاتِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا وَمِمَّنْ يَكُونُ بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا مَقْرُونًا مَعَ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِأَرْبَعٍ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ(2/59)
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ زِيَادٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ (مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بَعِيرًا قَطُّ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْأَفُهُ بِزَوْجٍ عَلَى قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَةَ عِمْرَانَ لَمْ تَرْكَبِ الْإِبِلَ تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَ خُطُوطٍ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ورواه النسائي من طرق عن داود أبى هند. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَاتِمٍ الْعَسْكَرِيُّ نَبَّأَنَا بِشْرُ بْنُ مِهْرَانَ بْنِ حَمْدَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُكَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ سَيِّدَاتُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَقَالَ أبو القاسم البغوي حدثنا وهب بن منبه حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ أَرَأَيْتِ حِينَ أَكْبَبْتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ قَالَتْ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ ثُمَّ أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ وَأَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ فَضَحِكْتُ وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَفِيهِ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَاتِ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نعيم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ وَفَاطِمَةَ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأَرْبَعِ. ثُمَّ يَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ فَاطِمَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا عَلَى السَّوَاءِ(2/60)
فِي الْفَضِيلَةِ. لَكِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ إِنْ صَحَّ عَيَّنَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بن عساكر انبأنا ابو الحسن بن الفرا وابو غالب وأبو عبد الله ابنا البناء قَالُوا أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حدثنا الزبير هو بن بَكَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ فان كان هذا اللفظ محفوظا بثم الَّتِي لِلتَّرْتِيبِ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ دل عليهما الاستثناء وتقدم عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا تَنْفِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عَنْ دَاوُدَ الْجَعْفَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الدراوَرْديّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عباس مرفوعا فذكره بواو العطف لا بثم التَّرْتِيبِيَّةِ فَخَالَفَهُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا فاللَّه أَعْلَمُ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِهِ وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْكَمَالِ فِي النِّسَاءِ فِي مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفَلَتْ نَبِيًّا فِي حَالِ صِغَرِهِ فَآسِيَةُ كَفَلَتْ مُوسَى الْكَلِيمَ وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَنْفِي كَمَالَ غَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ فَخَدِيجَةُ خَدَمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً وَبَعْدَهَا أَزْيَدَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا وَأَمَّا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا خُصَّتْ بِمَزِيدِ فَضِيلَةٍ عَلَى أَخَوَاتِهَا لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَّةُ أَخَوَاتِهَا مِتْنَ في حيات النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا وَلَا يُعْرَفُ فِي سَائِرِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَلْ وَلَا فِي غَيْرِهَا أَعْلَمُ مِنْهَا وَلَا أَفْهَمُ وَقَدْ غَارَ اللَّهُ لَهَا حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَأَنْزَلَ بَرَاءَتَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَقَدْ عُمِّرَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً تُبَلِّغُ عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَتُفْتِي الْمُسْلِمِينَ وَتُصْلِحُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ وَهِيَ أَشْرَفُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُمِّ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ فِيهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهِنَّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ما عدي المذكورات والله أعلم(2/61)
وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَهَا وَاصْطَفَاهَا عَلَى نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُهَا عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ هِيَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ واستأنس بقوله ثيبات وأبكارا قَالَ فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ وَمِنَ الْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ فاللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ حدثنا أبى أنبأنا عَمِّيَ الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ نُفَيْعٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ هُوَ الْعَوْفِيُّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن اللَّهَ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَامْرَأَةَ فِرْعَوْنَ وَأُخْتَ مُوسَى. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ النُّورِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى رَوَاهُ ابْنُ جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ النُّورِ بِهِ وَزَادَ فَقُلْتُ هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ يَعْلَى بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي مَرَضِهَا الَّذِي تُوُفِّيَتْ فِيهِ فَقَالَ لَهَا بِالْكُرْهِ مِنِّي مَا أَرَى مِنْكِ يَا خَدِيجَةُ وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِي الْكُرْهِ خَيْرًا كَثِيرًا أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِي مَعَكِ فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ قَالَتْ وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيِّ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا أبو بكر الهزلى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى خديجة وهي في مرض الْمَوْتِ فَقَالَ يَا خَدِيجَةُ إِذَا لَقِيتِ ضَرَائِرَكِ فأقرئهن مِنِّي السَّلَامَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ تَزَوَّجْتَ قَبْلِي قَالَ لَا وَلَكِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ سُوِيدِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ نَزَلَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ وَجَلَسَ يُحَدِّثُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّتْ خَدِيجَةُ فَقَالَ جِبْرِيلُ مَنْ هَذِهِ يَا مُحَمَّدُ قَالَ هَذِهِ صِدِّيقَةُ أُمَّتِي قَالَ جِبْرِيلُ مَعِي إِلَيْهَا رِسَالَةٌ مِنَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئُهَا السَّلَامَ وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ قَالَتِ اللَّهُ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا ذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي مِنْ قَصَبٍ قَالَ لُؤْلُؤَةٌ جَوْفَاءُ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَبَيْتِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ وَهُمَا مِنْ أَزْوَاجِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَصْلُ السَّلَامِ عَلَى خَدِيجَةَ مِنَ اللَّهِ وَبِشَارَتِهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا وصب فِي الصَّحِيحِ وَلَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ غَرِيبٌ جِدًّا. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالح(2/62)
حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَهُ عَنِ الصَّخْرَةِ يَعْنِي صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ الصَّخْرَةُ عَلَى نَخْلَةٍ وَالنَّخْلَةُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَتَحْتَ النَّخْلَةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ يَنْظِمَانِ سُمُوطَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. ثُمَّ رَوَاهُ من طريق إسماعيل عن عَيَّاشٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هذا الوجه بل هو موضوع قَدْ رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ عبد الرحمان عن ابن عابد أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ صَخْرَةِ بَيْتِ المقدس فذكره قال الحافظ بن عَسَاكِرَ وَكَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَشْبَهُ. قُلْتُ وَكَلَامُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ هَذَا إِنَّمَا تَلْقَاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ وَضَعَهُ بَعْضُ زَنَادِقَتِهِمْ أَوْ جُهَّالِهِمْ وَهَذَا مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
ذِكْرُ مِيلَادِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ الْبَتُولِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قال كَذلِكِ قال رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. 19: 16- 37 ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بَعْدَ قِصَّةِ زَكَرِيَّا الَّتِي هِيَ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهَا وَالتَّوْطِئَةِ قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ. وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ 21: 89- 91(2/63)
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرْيَمَ لَمَّا جَعَلَتْهَا أُمُّهَا مُحَرَّرَةً تَخْدِمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ كَفَلَهَا زَوْجُ أُخْتِهَا أَوْ خَالَتِهَا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ اتَّخَذَ لَهَا مِحْرَابًا وَهُوَ الْمَكَانُ الشَّرِيفُ مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا سِوَاهُ وَأَنَّهَا لَمَّا بَلَغَتِ اجْتَهَدَتْ فِي الْعِبَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَظِيرُهَا فِي فُنُونِ الْعِبَادَاتِ وَظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ مَا غَبَطَهَا بِهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهَا خَاطَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ لَهَا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا وَبِأَنَّهُ سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا زَكِيًّا يَكُونُ نَبِيًّا كَرِيمًا طَاهِرًا مُكَرَّمًا مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ فَتَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ لِأَنَّهَا لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا هِيَ مِمَّنْ تَتَزَوَّجُ فَأَخْبَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 19: 35 فَاسْتَكَانَتْ لِذَلِكَ وَأَنَابَتْ وَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَلِمَتْ أَنَّ هَذَا فِيهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا فَإِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِسَبَبِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَعَقُّلٍ وَكَانَتْ إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا أَوْ لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا مِنَ اسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوْ تَحْصِيلِ غِذَاءٍ فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا قَدْ خَرَجَتْ لِبَعْضٍ شُئُونِهَا (وانْتَبَذَتْ 19: 16) أَيِ انْفَرَدَتْ وَحْدَهَا شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِذْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) 19: 17 فَلَمَّا رَأَتْهُ (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) 19: 18. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَاسِقٌ مَشْهُورٌ بِالْفِسْقِ اسْمُهُ تَقِيٌّ فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا دَلِيلٍ وَهُوَ مِنْ أَسْخَفِ الْأَقْوَالِ (قَالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) 19: 19 أَيْ خَاطَبَهَا الْمَلَكُ قَائِلًا إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ ربك لَسْتُ بِبَشَرٍ وَلَكِنِّي مَلَكٌ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَيْكِ (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) 19: 19 أَيْ وَلَدًا زَكِيًّا (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) 19: 20 أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ أَوْ يُوجَدُ لِي وَلَدٌ (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) 19: 20 أَيْ وَلَسْتُ ذَاتَ زَوْجٍ وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ (قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) 19: 9 أَيْ فَأَجَابَهَا الْمَلَكُ عَنْ تَعَجُّبِهَا مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَائِلًا (كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ) 19: 9 أَيْ وَعَدَ أَنَّهُ سَيَخْلُقُ مِنْكِ غُلَامًا وَلَسْتِ بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) 19: 9 أَيْ وَهَذَا سَهْلٌ عَلَيْهِ وَيَسِيرٌ لَدَيْهِ فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) 19: 21 أَيْ وَلِنَجْعَلَ خَلْقَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى أَنْوَاعِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَقَوْلُهُ (وَرَحْمَةً مِنَّا) 19: 21 أَيْ نَرْحَمُ بِهِ الْعِبَادَ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته بِأَنْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُنَزِّهُوهُ عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. وَقَوْلُهُ (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) 19: 21. يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ جِبْرِيلَ مَعَهَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ وَحَتَّمَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون قوله (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) 19: 21 كِنَايَةً عَنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ من رُوحِنا 66: 12. فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَنَزَلَتِ(2/64)
النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا فَحَمَلَتْ مِنْ فَوْرِهَا كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ جِمَاعِ بَعْلِهَا. وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ نَفَخَ فِي فَمِهَا أَوْ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُهَا هُوَ الرُّوحُ الَّذِي وَلَجَ فِيهَا مِنْ فَمِهَا فَقَوْلُهُ خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَخَ فِيهَا وَلَمْ يُوَاجِهِ الْمَلَكُ الْفَرْجَ بَلْ نَفَخَ فِي جَيْبِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا فَانْسَلَكَتْ فِيهِ كَمَا قال تعالى فَنَفَخْنا فِيهِ من رُوحِنا 66: 12 يدل عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ وَلَجَتْ فِيهِ لَا فِي فَمِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَلَا فِي صَدْرِهَا كَمَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فَحَمَلَتْهُ 19: 22 أي حملت ولدها فَانْتَبَذَتْ به مَكاناً قَصِيًّا 19: 22 وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا حَمَلَتْ ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا وَعَلِمَتْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ مِنْهُمْ كَلَامٌ فِي حَقِّهَا فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهَا لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ فَطِنَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ وَكَانَ ابْنَ خَالِهَا فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ دِيَانَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَعِبَادَتِهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَاهَا حُبْلَى وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ فَعَرَّضَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْكَلَامِ فَقَالَ يَا مَرْيَمُ هَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ قَالَتْ نَعَمْ فَمَنْ خَلَقَ الزَّرْعَ الْأَوَّلَ. ثُمَّ قَالَ فَهَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا مَطَرٍ قَالَتْ نَعَمْ فَمَنْ خَلَقَ الشَّجَرَ الْأَوَّلَ ثُمَّ قَالَ فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ قَالَتْ نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى قَالَ لَهَا فَأَخْبِرِينِي خَبَرَكِ فَقَالَتْ إِنَّ اللَّهَ بَشَّرَنِي (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمن الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمن الصَّالِحِينَ) 3: 45- 46 وَيُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَأَلَهَا فَأَجَابَتْهُ بِمِثْلِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَذَكَرَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَرْيَمَ دَخَلَتْ يَوْمًا عَلَى أُخْتِهَا فَقَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى فَقَالَتْ مَرْيَمُ وَشَعَرْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى فَاعْتَنَقَتْهَا وَقَالَتْ لَهَا أُمُّ يَحْيَى إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ الله) 3: 39 وَمَعْنَى السُّجُودِ هَاهُنَا الْخُضُوعُ وَالتَّعْظِيمُ كَالسُّجُودِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ لِلسَّلَامِ كَمَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وقال أبو الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ابْنَا خَالَةٍ وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَتْ مَرْيَمُ كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي وَكَلَّمَنِي وَإِذَا كُنْتُ بَيْنَ النَّاسِ سَبَّحَ فِي بَطْنِي ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ وَيَضَعْنَ لِمِيقَاتِ حَمْلِهِنَّ وَوَضْعِهِنَّ إِذْ لَوْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ لَذُكِرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ بِهِ فَوَضَعَتْهُ قَالَ بَعْضُهُمْ حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَ سَاعَاتٍ وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا(2/65)
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) 19: 22- 23 وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ لِقَوْلِهِ (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) 22: 63 وَكَقَوْلِهِ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ 23: 14 وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ كُلِّ حَالَيْنِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
قال محمد بن إسحاق شاع وَاشْتَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهَا حَامِلٌ فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آل بيت زَكَرِيَّا. قَالَ وَاتَّهَمَهَا بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ بِيُوسُفَ الَّذِي كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَارَتْ عَنْهُمْ مَرْيَمُ وَاعْتَزَلَتْهُمْ وَانْتَبَذَتْ مَكَانًا قَصِيًّا وَقَوْلُهُ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ 19: 23 أَيْ فَأَلْجَأَهَا وَاضْطَرَّهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ وَهُوَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَالْبَيْهَقِيُّ باسناد وصححه عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا بِبَيْتِ لَحْمٍ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ بَعْضُ مُلُوكِ الرُّومِ فِيمَا بَعْدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ هَذَا الْبِنَاءَ المشاهد الهائل (قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) 19: 23 فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتَنِ وَذَلِكَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَهَا وَلَا يُصَدِّقُونَهَا بَلْ يُكَذِّبُونَهَا حِينَ تَأْتِيهِمْ بِغُلَامٍ عَلَى يَدِهَا مَعَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمُجَاوِرَاتِ فِي الْمَسْجِدِ الْمُنْقَطِعَاتِ إِلَيْهِ الْمُعْتَكِفَاتِ فِيهِ وَمِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالدِّيَانَةِ فَحَمَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْهَمِّ مَا تَمَنَّتْ أَنْ لَوْ كَانَتْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الْحَالِ أَوْ كَانَتْ نَسْياً مَنْسِيًّا 19: 23 أَيْ لَمْ تُخْلَقْ بالكلية. وقوله فَناداها من تَحْتِها 19: 24 وقرئ من تحتها عَلَى الْخَفْضِ وَفِي الْمُضْمَرِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جِبْرِيلُ قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى إِلَّا بِحَضْرَةِ الْقَوْمِ وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ هُوَ ابْنُهَا عِيسَى وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَوْلُهُ أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا 19: 24 قِيلَ النَّهْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ ابْنُهَا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا 19: 25 فَذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَلِهَذَا قَالَ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً 19: 26. ثُمَّ قِيلَ كَانَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يَابِسًا وَقِيلَ كَانَتْ نَخْلَةً مُثْمِرَةً فاللَّه أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ نَخْلَةً لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُثْمِرَةً إِذْ ذَاكَ لِأَنَّ مِيلَادَهُ كَانَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَلَيْسَ ذَاكَ وَقْتَ ثَمَرٍ وَقَدْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) 19: 25. قال عمرو بن ميمون ليس شيء أجود لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الأنصاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ وليس من الشجر شيء يُلَقَّحُ غَيْرَهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الْوُلَّدَ الرُّطَبَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ فَتَمْرٌ وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تحتها(2/66)
مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ سَعِيدٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَسْرُورِ بْنِ سَعْدٍ. وَالصَّحِيحُ مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَلَمْ أَسْمَعَ بِذِكْرِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ يَرْوِي عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ الْمَنَاكِيرَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ يَرْوِيهَا. وَقَوْلُهُ (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) 19: 26. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا قَالَ (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ من الْبَشَرِ أَحَداً) 19: 26 أَيْ فَإِنْ رَأَيْتِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ (فَقُولِي) 19: 26 لَهُ أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْإِشَارَةِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً 19: 26 أَيْ صَمْتًا وَكَانَ مِنْ صَوْمِهِمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالطَّعَامِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَسْلَمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) 19: 26 فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ صَمْتُ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا 19: 27- 28 ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَمَّا افْتَقَدُوهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا فَمَرُّوا عَلَى مَحِلَّتِهَا وَالْأَنْوَارُ حَوْلَهَا فَلَمَّا وَاجَهُوهَا وَجَدُوا مَعَهَا وَلَدَهَا فَقَالُوا لَهَا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا 19: 27 أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا مُنْكَرًا. وَفِي هَذَا الَّذِي قَالُوهُ نَظَرٌ مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ يَنْقُضُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يدل على أنها حملت بِنَفْسِهَا وَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا وَهِيَ تَحْمِلُهُ قَالَ ابن عباس وذلك بعد ما تعلت مِنْ نِفَاسِهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا تَحْمِلُ مَعَهَا وَلَدَهَا قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا 19: 27 وَالْفِرْيَةُ هِيَ الْفِعْلَةُ الْمُنْكَرَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ. ثُمَّ قَالُوا لَهَا يَا أُخْتَ هارُونَ 19: 28 قِيلَ شَبَّهُوهَا بِعَابِدٍ مِنْ عُبَّادِ زَمَانِهِمْ كَانَتْ تُسَامِيهِ فِي الْعِبَادَةِ وَكَانَ اسْمُهُ هَارُونَ وَقِيلَ شَبَّهُوهَا بِرَجُلٍ فَاجِرٍ فِي زَمَانِهِمُ اسْمُهُ هَارُونُ. قاله سعيد بن جبير وقيل أرادوا بهرون أَخَا مُوسَى شَبَّهُوهَا بِهِ فِي الْعِبَادَةِ. وَأَخْطَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهَا أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ نَسَبًا فَإِنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الدُّهُورِ الطَّوِيلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَرُدُّهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ وَكَأَنَّهُ غَرَّهُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مَرْيَمَ أُخْتَ مُوسَى وَهَارُونَ ضَرَبَتْ بالدف يوم نجا اللَّهُ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ مُطَوَّلًا وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهَا أَخٌ اسْمُهُ هَارُونُ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا وَتَحْرِيرِ أُمِّهَا لَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَخٌ سِوَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ سَمِعْتُ أَبِي يذكره عن سماك عن علقمة ابن وَائِلٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ فَقَالُوا أَرَأَيْتَ مَا تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هارُونَ) 19: 28 وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا قَالَ فَرَجَعْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ) وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ(2/67)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وفي رواية (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بِأَسْمَاءِ صَالِحِيهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ) وَذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ كانوا يكثرون من التسمية بهرون حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ حَضَرَ بَعْضَ جَنَائِزِهِمْ بَشَرٌ كثير منهم ممن يسمى بهرون أَرْبَعُونَ أَلْفًا فاللَّه أَعْلَمُ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ قَالُوا يا أُخْتَ هارُونَ 19: 28 وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ كَانَ لَهَا أَخٌ نَسَبِيٌّ اسْمُهُ هَارُونُ وَكَانَ مَشْهُورًا بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ وَلِهَذَا قَالُوا (مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) 19: 28 أَيْ لَسْتِ مِنْ بَيْتٍ هَذَا شِيمَتُهُمْ وَلَا سَجِيَّتُهُمْ لَا أَخُوكِ وَلَا أُمُّكِ وَلَا أَبُوكِ فَاتَّهَمُوهَا بِالْفَاحِشَةِ الْعُظْمَى وَرَمَوْهَا بِالدَّاهِيَةِ الدَّهْيَاءِ فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوا بِهَا زَكَرِيَّا وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَفَرَّ مِنْهُمْ فَلَحِقُوهُ وَقَدِ انْشَقَّتْ لَهُ الشَّجَرَةُ فَدَخَلَهَا وَأَمْسَكَ إِبْلِيسُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَنَشَرُوهُ فِيهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنِ اتَّهَمَهَا بِابْنِ خَالِهَا يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ النَّجَّارِ فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ وَانْحَصَرَ الْمَجَالُ وَامْتَنَعَ الْمَقَالُ عَظُمَ التَّوَكُّلُ عَلَى ذِي الْجَلَالِ وَلَمْ يبق إلا الإخلاص والاتكال (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) 19: 29 أَيْ خَاطِبُوهُ وَكَلِّمُوهُ فَإِنَّ جَوَابَكُمْ عَلَيْهِ وَمَا تبغون من الكلام لديه. فعندها قالُوا 19: 29 مَنْ كَانَ مِنْهُمْ جَبَّارًا شَقِيًّا كَيْفَ نُكَلِّمُ من كانَ في الْمَهْدِ صَبِيًّا 19: 29 أي كيف تحيلينا فِي الْجَوَابِ عَلَى صَبِيٍّ صَغِيرٍ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَضِيعٌ فِي مَهْدِهِ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَحْضٍ وَزَبَدِهِ وَمَا هَذَا مِنْكِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِنَا وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّنَقُّصِ لَنَا وَالِازْدِرَاءِ إِذْ لَا تَرُدِّينَ عَلَيْنَا قَوْلًا نُطْقِيًّا بَلْ تُحِيلِينَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَعِنْدَهَا (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) 19: 30- 33. هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مَرْيَمَ فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله 19: 30 اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ فَنَزَّهَ جَنَابَ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ بَلْ هُوَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ ثُمَّ بَرَّأَ أُمَّهُ مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ وَقَذَفُوهَا بِهِ وَرَمَوْهَا بِسَبَبِهِ بقوله آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 19: 30 فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً 4: 156 وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالُوا إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَنَّهَا صِدِّيقَةٌ وَاتَّخَذَ وَلَدَهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَحَدَ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْكِبَارِ وَلِهَذَا قَالَ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ 19: 31 وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَزَّهَ جَنَابَهُ عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 19: 31 وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبِيدِ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بِالصَّلَاةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلِيقَةِ بِالزَّكَاةِ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى طَهَارَةِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَتَطْهِيرِ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِالْعَطِيَّةِ لِلْمَحَاوِيجِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَقِرَى الْأَضْيَافِ وَالنَّفَقَاتِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْقَرَابَاتِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ. ثُمَّ قال وَبَرًّا بِوالِدَتِي(2/68)
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا 19: 32 أَيْ وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي وَذَلِكَ أَنَّهُ تَأَكَّدَ حَقُّهَا عَلَيْهِ لِتَمَحُّضِ جِهَتِهَا إِذْ لَا وَالِدَ لَهُ سِوَاهَا فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَبَرَأَهَا وَأَعْطَى كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا 19: 32 أَيْ لَسْتُ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا يَصْدُرُ مِنِّي قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا 19: 33. وهذه الأماكن الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّتَهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَبَيَّنَ أَمْرَهُ وَوَضَّحَهُ وَشَرَحَهُ قَالَ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 19: 34- 35 كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ 3: 58- 63 وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا يَرْجِعُ أَمْرُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ وَيَؤُولُ أَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ هُمْ أَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ وَهُمْ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ فَجَعَلُوا يُنَاظِرُونَ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ وَابْتِدَاءَ خَلْقِهِ وَخَلْقِ أُمِّهِ مِنْ قَبْلِهِ وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُبَاهِلَهُمْ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَيَتَّبِعُوهُ فَلَمَّا رَأَوْا عَيْنَيْهَا وَأُذُنَيْهَا نَكَصُوا وَامْتَنَعُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ وَعَدَلُوا إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالْمُوَادَعَةِ وَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ الْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خبر صاحبكم ولقد علمتم أنه مالا عن قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ وَإِنَّهَا لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ فَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمْ جِزْيَةً وَأَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ في السيرة النبويّة إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَالْمَقْصُودُ أن الله تعالى بَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ قَالَ لِرَسُولِهِ (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) 19: 34 يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَلِهَذَا قَالَ (مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 19: 35 أي لا يعجزه شيء ولا يكترثه وَلَا يَؤُودُهُ بَلْ هُوَ الْقَدِيرُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 36: 82 وقوله إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ 19: 36 هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ عِيسَى لَهُمْ فِي الْمَهْدِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ وَإِلَهُهُ وإلههم وأن هذا هو السراط الْمُسْتَقِيمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ 19: 37(2/69)
أَيْ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيهِ فَمِنْ قَائِلٍ مِنَ الْيَهُودِ إِنَّهُ وَلَدُ زَنْيَةٍ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ فِي الْكُفْرِ فَقَالُوا هُوَ اللَّهُ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ هُمُ النَّاجُونَ الْمُثَابُونَ الْمُؤَيَّدُونَ الْمَنْصُورُونَ وَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هذه القيود فهم الكافرون الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ وَقَدْ تَوَعَّدَهُمُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بِقَوْلِهِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ 19: 37 قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ) قَالَ الْوَلِيدُ فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عُمَيْرٍ عَنْ جُنَادَةَ وَزَادَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ عَنِ الْوَلِيدِ عَنِ جَابِرٍ بِهِ وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ
بَابُ بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عن الولد تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا 19: 88- 89 أَيْ شَيْئًا عَظِيمًا وَمُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً 19: 90- 95 فَبَيِّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْبَغِي لَهُ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فقير اليه، خاضع دليل لديه وجميع سكان السموات وَالْأَرْضِ عَبِيدُهُ وَهُوَ رَبُّهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 6: 100- 103 فَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَالْوَلَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا نَظِيرَ لَهُ ولا شبيه له ولا عديل له فلا صَاحِبَةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 1- 4 تقرر أنه الأحد الّذي لا نظير له فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أفعاله (الصَّمَدُ) 112: 2 وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ورحمته وجميع صفاته لَمْ يَلِدْ 112: 3 أي لم يوجد منه ولد(2/70)
وَلَمْ يُولَدْ 112: 3 أَيْ وَلَمْ يَتَوَلَّدْ عَنْ شَيْءٍ قَبْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 4 أَيْ وَلَيْسَ لَهُ عِدْلٌ وَلَا مُكَافِئٌ وَلَا مساو فقطع النظير المدانى الأعلى وَالْمُسَاوِيَ فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ إِذْ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مُتَوَلِّدًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ متعادلين أو متقاربين تعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) 4: 171- 173.
يَنْهَى تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ فِي الدِّينِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فَالنَّصَارَى لَعَنَهُمُ اللَّهُ غَلَوْا وَأَطْرَوُا الْمَسِيحَ حَتَّى جَاوَزُوا الْحَدَّ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَلَكَ جِبْرِيلَ إِلَيْهَا فَنَفَخَ فِيهَا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ نَفْخَةً حَمَلَتْ مِنْهَا بِوَلَدِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالَّذِي اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْمَلَكِ هِيَ الرُّوحُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُقَالُ بَيْتُ اللَّهِ وَنَاقَةُ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَكَذَا رُوحُ اللَّهِ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا. وَسُمِّيَ عِيسَى بِهَا لِأَنَّهُ كَانَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَهِيَ الْكَلِمَةُ أَيْضًا الَّتِي عَنْهَا خُلِقَ وَبِسَبَبِهَا وُجِدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 3: 59. وَقَالَ تَعَالَى وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 2: 116- 117. وقال تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا من قَبْلُ قاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ 9: 30. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَوْا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَدًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا زَعَمُوهُ وَلَا فِيمَا ائْتَفَكُوهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَمُشَابَهَةُ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الضَّالَّةِ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ زَعَمُوا أَنَّ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ صَدَرَ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِعِلَّةِ الْعِلَلِ وَالْمَبْدَأِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ صَدَرَ عَنِ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ عَقْلٌ ثَانٍ وَنَفْسٌ وَفَلَكٌ ثُمَّ صَدَرَ عَنِ الثَّانِي كَذَلِكَ حَتَّى تَنَاهَتِ الْعُقُولُ إِلَى عَشَرَةٍ وَالنُّفُوسُ إِلَى تِسْعَةٍ وَالْأَفْلَاكُ إِلَى تِسْعَةٍ بِاعْتِبَارَاتٍ فَاسِدَةٍ ذَكَرُوهَا وَاخْتِيَارَاتٍ بَارِدَةٍ أَوْرَدُوهَا وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ وَبَيَانِ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَهَكَذَا طَوَائِفُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ زَعَمُوا لِجَهْلِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّهُ صَاهَرَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ فَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْمَلَائِكَةُ تعالى الله عما(2/71)
يَقُولُونَ وَتَنَزَّهَ عَمَّا يُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ 43: 19 وَقَالَ تَعَالَى فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ الله الْمُخْلَصِينَ 37: 149- 160. وَقَالَ تَعَالَى وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ 21: 26- 29. وقال تعالى في أول سورة الكهف وهي مكية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً من لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ الله وَلَداً ما لَهُمْ به من عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ من أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً 18: 1- 5. وَقَالَ تَعَالَى قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 10: 68- 70 فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَكِّيَاتُ الْكَرِيمَاتُ تَشْمَلُ الرَّدَّ عَلَى سَائِرِ فِرَقِ الْكَفَرَةِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ ادَّعَوْا وَزَعَمُوا بِلَا عِلْمٍ أَنَّ للَّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَلَمَّا كَانَتِ النَّصَارَى عليهم لعنة اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَشْهَرِ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِمْ وَقَدْ تَنَوَّعَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاطِلَ كَثِيرُ التَّشَعُّبِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ وَأَمَّا الْحَقُّ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً 4: 82. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يَتَّحِدُ وَيَتَّفِقُ وَالْبَاطِلَ يَخْتَلِفُ وَيَضْطَرِبُ. فَطَائِفَةٌ مِنْ ضُلَّالِهِمْ وَجُهَّالِهِمْ زَعَمُوا أن المسيح هو الله تعالى وَطَائِفَةٌ قَالُوا هُوَ ابْنُ اللَّهِ عَزَّ اللَّهُ وَطَائِفَةٌ قَالُوا هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ جَلَّ اللَّهُ. قال الله تعالى في سُورَةِ الْمَائِدَةِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَالله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 5: 17. فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْمُتَصَرِّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ. وَقَالَ فِي أَوَاخِرِهَا لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقال الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ(2/72)
مِنْ أَنْصارٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ. مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 5: 72- 75 حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا فأخبر أَنَّ هَذَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ اليهم هو عيسى بن مَرْيَمَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ مُصَوَّرٌ فِي الرَّحِمِ دَاعٍ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِالنَّارِ وَعَدَمِ الْفَوْزِ بِدَارِ الْقَرَارِ وَالْخِزْيِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْهَوَانِ وَالْعَارِ وَلِهَذَا قَالَ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ من أَنْصارٍ 5: 72 ثُمَّ قَالَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ 5: 73 قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ. أُقْنُومُ الْأَبِ وَأُقْنُومُ الِابْنِ وَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ الْمُنْبَثِقَةِ مِنَ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ عَلَى اختلافهم في ذلك ما بين المليكية وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ كَمَا سَنُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ وَمَجَامِعَهُمُ الثَّلَاثَةَ فِي زَمَنِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قَسْطَسَ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَقَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ 5: 73 أَيْ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كفؤ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ ثُمَّ تَوَعَدَهُمْ وَتَهَدَّدَهُمْ فَقَالَ (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) 5: 73 ثُمَّ دَعَاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْكِبَارِ وَالْعَظَائِمِ الَّتِي تُوجِبُ النَّارَ فَقَالَ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ 5: 74 ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَأَنَّهُ عَبْدٌ رَسُولٌ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أَيْ لَيْسَتْ بِفَاجِرَةٍ كَمَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ علمائنا وقوله كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ 5: 75 كِنَايَةٌ عَنْ خُرُوجِهِ مِنْهُمَا كَمَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِمَا أَيْ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَجَهْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة زعمهم في عيسى وأمه أنهما الالهان مَعَ اللَّهِ يَعْنِي كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى كُفْرَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 5: 116- 118. يخبر تعالى أنه يسأل عيسى بن مَرْيَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لَهُ والتقريع والتوبيخ لعابديه فمن كَذَبَ عَلَيْهِ وَافْتَرَى وَزَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ اللَّهُ أَوْ أَنَّهُ شَرِيكُهُ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ فَيَسْأَلُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ وَلَكِنْ لتوبيخ من كذب عليه فيقول له أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله قال سُبْحانَكَ 5: 116 أَيْ تَعَالَيْتَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ شَرِيكٌ(2/73)
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ 5: 116 أي ليس هذا يستحقه أحد سواك وإِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ 5: 116. وَهَذَا تَأَدُّبٌ عَظِيمٌ فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي به 5: 117 حِينَ أَرْسَلْتَنِي إِلَيْهِمْ وَأَنْزَلْتَ عَلَيَّ الْكِتَابَ الَّذِي كَانَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ثُمَّ فَسَّرَ مَا قَالَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ 5: 117 أَيْ خَالِقِي وَخَالِقُكُمْ وَرَازِقِي وَرَازِقُكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي 5: 117 أَيْ رَفَعْتَنِي إِلَيْكَ حِينَ أَرَادُوا قَتْلِي وَصَلْبِي فَرَحِمْتَنِي وَخَلَّصْتَنِي مِنْهُمْ وَأَلْقَيْتَ شَبَهِي عَلَى أَحَدِهِمْ حَتَّى انْتَقَمُوا مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) . 5: 117 ثُمَّ قَالَ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّبَرِّي مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ 5: 118 أَيْ وَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 5: 118. وَهَذَا التَّفْوِيضُ وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْمَشِيئَةِ بِالشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 5: 118 وَلَمْ يَقُلْ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 5: 118 وَقَالَ إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى لمن لا يشرك باللَّه شيئا. وقال وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمن عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ 21: 16- 20 وقال تعالى لَوْ أَرادَ الله أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ 39: 4- 5. وَقَالَ تَعَالَى قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ 43: 81- 82 وَقَالَ تَعَالَى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً 17: 111 وَقَالَ تَعَالَى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 1- 4 وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ يَزْعُمُ أَنَّ لِي وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمَّ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) ثُمَّ قَرَأَ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ 11: 102 وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ 22: 48 وَقَالَ تَعَالَى نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ 31: 24 وَقَالَ تَعَالَى قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ(2/74)
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 10: 69- 70 وقال تعالى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً 86: 17
ذكر منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام ومرباه في صغره وصباه وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَيْتِ لَحْمٍ قَرِيبًا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَزَعَمَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِمِصْرَ وَأَنَّ مَرْيَمَ سَافَرَتْ هِيَ وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ وَهِيَ رَاكِبَةٌ عَلَى حِمَارٍ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِكَافِ شَيْءٌ وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَالْحَدِيثُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَمَهْمَا عَارَضَهُ فَبَاطِلٌ وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ خَرَّتِ الْأَصْنَامُ يَوْمَئِذٍ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ حَارَتْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ حَتَّى كَشَفَ لَهُمْ إِبْلِيسُ الْكَبِيرُ أَمْرَ عِيسَى فَوَجَدُوهُ فِي حِجْرِ أُمِّهِ وَالْمَلَائِكَةُ مُحْدِقَةٌ بِهِ وَأَنَّهُ ظَهَرَ نَجْمٌ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ مَلِكَ الْفُرْسِ أَشْفَقَ مِنْ ظُهُورِهِ فَسَأَلَ الْكَهَنَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا هَذَا لِمَوْلِدِ عَظِيمٍ فِي الْأَرْضِ فَبَعَثَ رُسُلَهُ وَمَعَهُمْ ذهب ومرولبان هَدِيَّةً إِلَى عِيسَى فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ سَأَلَهُمْ مَلِكُهَا عَمَّا أَقْدَمَهُمْ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِذَا قَدْ وُلِدَ فِيهِ عيسى بن مَرْيَمَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ كَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ بِمَا مَعَهُمْ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ لَهُ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى قَتْلِهِ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَرْيَمَ بِالْهَدَايَا وَرَجَعُوا قِيلَ لَهَا إِنَّ رُسُلَ مَلِكِ الشَّامِ إِنَّمَا جَاءُوا لِيَقْتُلُوا وَلَدَكِ فَاحْتَمَلَتْهُ فَذَهَبَتْ به الى مصر فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتي عَشْرَةَ سَنَةً وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ كَرَامَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ فِي حَالِ صِغَرِهِ فَذَكَرَ مِنْهَا أَنَّ الدِّهْقَانَ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ افْتَقَدَ مَالًا مِنْ دَارِهِ وَكَانَتْ دَارُهُ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَحَاوِيجُ فلم يدر من أخذ وَعَزَّ ذَلِكَ عَلَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَشَقَّ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ وَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهَا فَلَمَّا رَأَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ أَعْمَى وَآخَرَ مُقْعَدٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هُوَ مُنْقَطِعٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِلْأَعْمَى احْمِلْ هَذَا الْمُقْعَدَ وَانْهَضْ بِهِ فَقَالَ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَقَالَ بَلَى كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ وَهُوَ حِينَ أَخَذْتُمَا هَذَا الْمَالَ مِنْ تِلْكَ الْكُوَّةِ مِنَ الدَّارِ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ صَدَّقَاهُ فِيمَا قَالَ وَأَتَيَا بِالْمَالِ فَعَظُمَ عِيسَى فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الدِّهْقَانِ عَمِلَ ضِيَافَةً لِلنَّاسِ بِسَبَبِ طُهُورِ أَوْلَادِهِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ وَأَطْعَمَهُمْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ شَرَابًا يَعْنِي خَمْرًا كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَجِدْ فِي جِرَارِهِ شَيْئًا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ قَامَ فَجَعَلَ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الْجِرَارِ وَيَمُرُّ يَدَهُ عَلَى أَفْوَاهِهَا فَلَا يَفْعَلُ بِجَرَّةٍ مِنْهَا ذَلِكَ إِلَّا امْتَلَأَتْ شَرَابًا مِنْ خِيَارِ الشَّرَابِ فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذلك جدا وعظموه وعرضوا عليه(2/75)
وَعَلَى أُمِّهِ مَالًا جَزِيلًا فَلَمْ يَقْبَلَاهُ وَارْتَحَلَا قَاصِدِينَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ إِسْحَاقُ بن بشر أنبأنا عثمان بن ساج وَغَيْرُهُ عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أبى هريرة قال إن عيسى بن مَرْيَمَ أَوَّلَ مَا أَطْلَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بَعْدَ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ طِفْلٌ فَمَجَّدَ اللَّهَ تَمْجِيدًا لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَدَعْ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا جَبَلًا وَلَا نَهْرًا وَلَا عَيْنًا إِلَّا ذَكَرَهُ فِي تَمْجِيدِهِ فقال (اللَّهمّ أنت القريب في علوك المتعال فِي دُنُوِّكَ الرَّفِيعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ. أَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَ سَبْعًا فِي الْهَوَاءِ بِكَلِمَاتِكَ مُسْتَوِيَاتٍ طِبَاقًا أَجَبْنَ وَهُنَّ دُخَانٌ مِنْ فَرَقِكَ فَأَتَيْنَ طَائِعَاتٍ لِأَمْرِكَ فِيهِنَّ مَلَائِكَتُكَ يُسَبِّحُونَ قُدْسَكَ لِتَقْدِيسِكَ وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ نُورًا عَلَى سَوَادِ الظَّلَامِ وَضِيَاءً مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ وَجَعَلْتَ فيهن الرعد المسبح بالحمد فبعزتك يجلو ضَوْءَ ظُلْمَتِكَ وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ مَصَابِيحَ يَهْتَدِي بِهِنَّ فِي الظُّلُمَاتِ الْحَيْرَانُ فَتَبَارَكْتَ اللَّهمّ فِي مَفْطُورَ سَمَاوَاتِكَ وَفِيمَا دَحَوْتَ مِنْ أَرْضِكَ دَحَوْتَهَا عَلَى الماء فسمكتها على تيار الموج الغامر فاذللتها إذلال التظاهر فَذَلَّ لِطَاعَتِكَ صَعْبُهَا وَاسْتَحْيَى لِأَمْرِكَ أَمْرُهَا وَخَضَعَتْ لعزتك أمواجا فَفَجَّرْتَ فِيهَا بَعْدَ الْبُحُورِ الْأَنْهَارَ وَمِنْ بَعْدِ الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ الصِّغَارَ وَمِنْ بَعْدِ الْجَدَاوِلِ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ الْغِزَارَ. ثُمَّ أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْأَنْهَارَ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ ثُمَّ جَعَلْتَ عَلَى ظَهْرِهَا الْجِبَالَ فَوَتَّدْتَهَا أَوْتَادًا عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ فَأَطَاعَتْ أَطْوَادُهَا وَجُلْمُودُهَا فَتَبَارَكْتَ اللَّهمّ فَمَنْ يَبْلُغُ بِنَعْتِهِ نَعْتَكَ أَمَّنْ يَبْلُغُ بِصِفَتِهِ صِفَتَكَ تَنْشُرُ السَّحَابَ وَتَفُكُّ الرِّقَابَ وَتَقْضِي الْحَقَّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ أَمَرْتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ سترت السموات عَنِ النَّاسِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ انما يغشاك مِنْ عِبَادِكَ الْأَكْيَاسُ نَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ بِإِلَهٍ اسْتَحْدَثْنَاكَ وَلَا رَبٍّ يَبِيدُ ذِكْرُهُ وَلَا كَانَ معك شركاء فندعوهم ونذكرك وَلَا أَعَانَكَ عَلَى خَلْقِنَا أَحَدٌ فَنَشُكَّ فِيكَ نشهد أنك أحد صمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ 112: 3- 4 لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عن ابن عباس إن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كَلَّمَهُمْ طِفْلًا حَتَّى بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الْغِلْمَانُ ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة وَالْبَيَانِ فَأَكْثَرَ الْيَهُودُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ مِنَ القول وكانوا يُسَمُّونَهُ ابْنَ الْبَغِيَّةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً 4: 156 قَالَ فَلَمَّا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ فِي الْكُتَّابِ فَجَعَلَ لَا يُعَلِّمُهُ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا إِلَّا بَدَرَهُ إِلَيْهِ فَعَلَّمَهُ أَبَا جَادٍ فَقَالَ عِيسَى مَا أَبُو جَادٍ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ لَا أَدْرِي فَقَالَ عِيسَى كَيْفَ تُعَلِّمُنِي مَا لَا تَدْرِي فَقَالَ الْمُعَلِّمُ إِذًا فَعَلِّمْنِي فَقَالَ لَهُ عِيسَى فَقُمْ مِنْ مَجْلِسِكَ فَقَامَ فَجَلَسَ عِيسَى مجلسه فقال سلني فقال المعلم ما أَبُو جَادٍ فَقَالَ عِيسَى (الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ. والباء بهاء الله والجيم بَهْجَةُ اللَّهِ وَجَمَالُهُ) فَعَجِبَ الْمُعَلِّمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَسَّرَ أَبَا جَادٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ عَلَى كل كلمة بحديث طويل موضوع(2/76)
لا يسأل ولا يتمادى [1] وهكذا روى بن عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ إسماعيل بن يحيى عن ابن أبى مُلَيْكَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ مسعد بْنِ كِدَامٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ عِيسَى إِلَى الْكُتَّابِ وَتَعْلِيمِهِ الْمُعَلِّمَ مَعْنَى حُرُوفِ أَبِي جَادٍ وَهُوَ مُطَوَّلٌ لَا يُفْرَحُ بِهِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَهَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لَا يَرْوِيهِ غَيْرُ إِسْمَاعِيلَ وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ كَانَ عَبْدُ الله بن عمر يقول (كان عيسى بن مَرْيَمَ وَهُوَ غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَكَانَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ مَا خَبَّأَتْ لَكَ أُمُّكَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ خَبَّأَتْ لَكَ كَذَا وَكَذَا فَيَذْهَبُ الْغُلَامُ مِنْهُمْ إِلَى أُمِّهِ فَيَقُولُ لَهَا أَطْعِمِينِي مَا خَبَّأْتِ لِي فَتَقُولُ وَأَيُّ شَيْءٍ خَبَّأْتُ لَكَ فَيَقُولُ كَذَا وَكَذَا فتقول له من أخبرك فيقول عيسى بن مَرْيَمَ فَقَالُوا وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمْ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ مَعَ ابْنِ مَرْيَمَ لَيُفْسِدَنَّهُمْ فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ عِيسَى يَلْتَمِسُهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ فَسَمِعَ ضَوْضَاءَهُمْ فِي بَيْتٍ فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقَالُوا إِنَّمَا هَؤُلَاءِ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ فَقَالَ اللَّهمّ كَذَلِكَ فَكَانُوا كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَكَانَ عِيسَى يَرَى الْعَجَائِبَ فِي صِبَاهُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ فَفَشَا ذلك في اليهود وترعرع عيسى فهممت بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَخَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ أَنْ تَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ 23: 50 وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا ذَاتُ قَرَارٍ وَمَعِينٍ وَهَذِهِ صِفَةٌ غَرِيبَةُ الشَّكْلِ وَهِيَ أَنَّهَا رَبْوَةٌ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الأرض الّذي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه متسع ومع علوه فيه عيون الْمَاءِ مَعِينٌ وَهُوَ الْجَارِي السَّارِحُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَقِيلَ الْمُرَادُ الْمَكَانُ الَّذِي وَلَدَتْ فِيهِ المسيح وهو نخلة بيت المقدس ولهذا (ناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) 19: 24 وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَنَّهَا أَنْهَارُ دِمَشْقَ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَنْهَارِ دِمَشْقَ وَقِيلَ ذَلِكَ بِمِصْرَ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ هِيَ الرَّمْلَةُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ لَنَا إِدْرِيسُ عَنْ جَدِّهِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ إِنَّ عِيسَى لَمَّا بلغ ثلاث عشرة سنة أمر اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى بيت إيليا قال فقدم عليه يوسف بن خَالِ أُمِّهِ فَحَمَلَهُمَا عَلَى حِمَارٍ حَتَّى جَاءَ بِهِمَا إِلَى إِيلِيَا وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ الْإِنْجِيلَ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَأَعْطَاهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَسْقَامِ وَالْعِلْمَ بِالْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ وَفَزِعُوا لِمَا كَانَ يَأْتِي مِنَ الْعَجَائِبِ فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْهُ فدعاهم الى الله ففشا فيهم أمره.
__________
[1] قوله يتمادى كذا بالنسخة الحلبية وفي النسخة المصرية (ولا يتمارى)(2/77)
بَيَانُ نُزُولِ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَوَاقِيتِهَا
قَالَ أَبُو زرعة الدمشقي حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ (أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى فِي سِتِّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَزَلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَذَلِكَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِأَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى بن مريم في ثمانية عشرة ليلة خلت من رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّبُورِ بِأَلْفِ عَامٍ وَخَمْسِينَ عَامًا وَأُنْزِلَ الْفَرْقَانُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ 2: 185 الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَفِيهَا أَنَّ الْإِنْجِيلَ أنزل على عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خلت من شهر رمضان وذكر بن جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَمَكَثَ حَتَّى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَأَنْبَأْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى بن مَرْيَمَ (يَا عِيسَى جِدَّ فِي أَمْرِي وَلَا تَهِنْ وَاسْمَعْ وَأَطِعْ يَا ابْنَ الطَّاهِرَةِ الْبِكْرِ الْبَتُولِ إِنَّكَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَأَنَا خَلَقْتُكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ إِيَّايَ فَاعْبُدْ وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ فَسِّرْ لِأَهْلِ السُّرْيَانِيَّةِ بَلِّغْ مَنْ بَيْنِ يَدَيْكَ أَنِّي أَنَا الْحَقُّ الْحَيُّ الْقَائِمُ الَّذِي لَا أَزُولُ صَدِّقُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الْعَرَبِيَّ صَاحِبَ الْجَمَلِ وَالتَّاجِ (وَهِيَ الْعِمَامَةُ) والمدرعة والنعلين والهرارة (وَهِيَ الْقَضِيبُ) الْأَنْجَلَ الْعَيْنَيْنِ الصَّلْتَ الْجَبِينِ الْوَاضِحَ الْخَدَّيْنِ الْجَعْدَ الرَّأْسِ الْكَثَّ اللِّحْيَةِ الْمَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ الْأَقْنَى الْأَنْفِ الْمُفَلَّجَ الثَّنَايَا الْبَادِيَ الْعَنْفَقَةِ الَّذِي كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ وَكَأَنَّ الذَّهَبَ يَجْرِي فِي تَرَاقِيهِ لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ تَجْرِي كَالْقَضِيبِ لَيْسَ عَلَى بَطْنِهِ وَلَا عَلَى صَدْرِهِ شَعْرٌ غَيْرُهُ شَثْنَ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا وَإِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَتَقَلَّعُ مِنْ صَخْرٍ وَيَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ عَرَقُهُ في وجهه كاللؤلؤ وريح المسك تنفخ منه ولم يُرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، الْحَسَنَ الْقَامَةِ الطَّيِّبَ الرِّيحِ نَكَّاحَ النِّسَاءِ ذَا النَّسْلِ الْقَلِيلِ إِنَّمَا نَسْلُهُ مِنْ مُبَارَكَةٍ لَهَا بَيْتٌ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ تُكَفِّلُهُ يَا عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا كَفَّلَ زَكَرِيَّا أُمَّكَ لَهُ مِنْهَا فَرْخَانِ مُسْتَشْهَدَانِ وَلَهُ عِنْدِي مَنْزِلَةٌ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. كَلَامُهُ الْقُرْآنُ وَدِينُهُ الْإِسْلَامُ وَأَنَا السَّلَامُ طُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ وَشَهِدَ أَيَّامَهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ
بَيَانُ شَجَرَةِ طُوبَى مَا هِيَ
قَالَ عِيسَى يَا رَبِّ وَمَا طُوبَى قَالَ (غَرْسُ شَجَرَةٍ أَنَا غَرَسْتُهَا بِيَدِي فَهِيَ لِلْجِنَانِ كُلِّهَا أَصْلُهَا مِنْ رِضْوَانٍ وَمَاؤُهَا مِنْ تَسْنِيمٍ وَبَرْدُهَا بَرْدُ الْكَافُورِ وَطَعْمُهَا طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ(2/78)
يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا) قَالَ عِيسَى يَا رَبِّ اسْقِنِي مِنْهَا قَالَ (حَرَامٌ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا حَتَّى يَشْرَبَ ذَلِكَ النَّبِيُّ وَحَرَامٌ على الأمم أن يشربوا منها حتى يشرب مِنْهَا أُمَّةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ) قَالَ يَا عِيسَى ارفعك إليّ قال رَبِّ وَلِمَ تَرْفَعُنِي قَالَ (أَرْفَعُكَ ثُمَّ أُهْبِطُكَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِتَرَى مِنْ أُمَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْعَجَائِبَ وَلِتُعِينَهُمْ عَلَى قِتَالِ اللَّعِينِ الدَّجَّالِ أُهْبِطُكَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ ثُمَّ لَا تُصَلِّي بهم لأنها مَرْحُومَةٌ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ) وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عِيسَى قَالَ يَا رَبِّ أَنْبِئْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ قَالَ أُمَّةُ أَحْمَدَ هَمْ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ يَرْضَوْنَ مِنِّي بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ وَأَرْضَى مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. يَا عِيسَى هُمْ أَكْثَرُ سُكَّانِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تَذِلَّ أَلْسُنُ قَوْمٍ قَطُّ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا ذَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَمْ تَذِلَّ رِقَابُ قَوْمٍ قَطُّ بِالسُّجُودِ كَمَا ذَلَّتْ بِهِ رِقَابُهُمْ) رَوَاهُ بن عساكر وروى بن عساكر من طريق عبد الله بْنِ بَدِيلٍ الْعُقَيْلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْسَجَةَ قَالَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (أَنْزِلْنِي مِنْ نَفْسِكَ كَهَمِّكَ وَاجْعَلْنِي ذُخْرًا لَكَ فِي مَعَادِكَ وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ أُحِبَّكَ وَلَا تَوَلَّ غَيْرِي فَأَخْذُلَكَ اصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ وَارْضَ بِالْقَضَاءِ وَكُنْ لِمَسَرَّتِي فِيكَ فَإِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أُطَاعَ فَلَا أُعْصَى وَكُنْ مِنِّي قَرِيبًا وَأَحْيِ ذِكْرِي بِلِسَانِكَ وَلْتَكُنْ مَوَدَّتِي فِي صَدْرِكَ تيقظ من ساعات الغفلة واحكم في لَطِيفَ الْفِطْنَةِ وَكُنْ لِي رَاغِبًا رَاهِبًا وَأَمِتْ قلبك في الخشية لي وراع الليل لحق مسرتي وأظمئ نَهَارَكَ لِيَوْمِ الرَّيِّ عِنْدِي نَافِسْ فِي الْخَيْرَاتِ جهدك واعترف بِالْخَيْرِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ وَقُمْ فِي الْخَلَائِقِ بِنَصِيحَتِي وَاحْكُمْ فِي عِبَادِي بِعَدْلِي فَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ شفاء وسواس الصُّدُورِ مِنْ مَرَضِ النِّسْيَانِ وَجِلَاءَ الْأَبْصَارِ مِنْ غِشَاءِ الْكَلَالِ وَلَا تَكُنْ حَلِسًا كَأَنَّكَ مَقْبُوضٌ وأنت حي تنفس يا عيسى بن مَرْيَمَ مَا آمَنَتْ بِي خَلِيقَةٌ إِلَّا خَشَعَتْ وَلَا خَشَعَتْ لِي إِلَّا رَجَتْ ثَوَابِي فَأُشْهِدُكَ أَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ عِقَابِي مَا لَمْ تُغَيِّرْ أَوْ تُبَدِّلْ سُنَّتِي يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ ابْكِ عَلَى نَفْسِكَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الْأَهْلَ وَقَلَا الدُّنْيَا وَتَرَكَ اللَّذَّاتِ لِأَهْلِهَا وَارْتَفَعَتْ رَغْبَتُهُ فِيمَا عِنْدَ إِلَهِهِ وَكُنْ فِي ذَلِكَ تُلِينُ الْكَلَامَ وَتُفْشِي السَّلَامَ وَكُنْ يَقِظَانَ إِذَا نَامَتْ عُيُونُ الْأَبْرَارِ حَذَارِ مَا هُوَ آتٍ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَزَلَازِلِ شَدَائِدِ الْأَهْوَالِ قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَهْلٌ ولا مال واكحل عينك بملول الْحُزْنِ إِذَا ضَحِكَ الْبَطَّالُونَ وَكُنْ فِي ذَلِكَ صابرا محتسبا وطوبى لك ان نالك ما وعدت الصابرين.
رح من الدنيا باللَّه يوم بيوم وذق مذاقعة ما قد حرب مِنْكَ أَيْنَ طَعْمُهُ وَمَا لَمْ يَأْتِكَ كَيْفَ لذته فرح من الدنيا بالبلغة وليكفك منها الخشن الجشب قد رأيت الى ما يصير اعْمَلْ عَلَى حِسَابٍ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ لَوْ رَأَتْ عيناك مَا أَعْدَدْتُ لِأَوْلِيَائِي الصَّالِحِينَ ذَابَ قَلْبُكَ وَزَهَقَتْ نَفْسُكَ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابن طاووس عن أبيه قال لقي عيسى بن مَرْيَمَ إِبْلِيسَ فَقَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَكَ إِلَّا مَا كُتِبَ لَكَ قَالَ إِبْلِيسُ فارق بذروة هذا الجبل فتردى منه فانظر هل تعيش أم لا فقال ابن طاووس(2/79)
عَنْ أَبِيهِ. فَقَالَ عِيسَى أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ (لَا يُجَرِّبُنِي عَبْدِي فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا شِئْتُ) وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَبْتَلِي رَبَّهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ أَنْبَأَنَا سفيان عن عمرو عن طاووس قال أتى الشيطان عيسى بن مَرْيَمَ فَقَالَ أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ صَادِقٌ فَأْتِ هوة فَأَلْقِ نَفْسَكَ قَالَ وَيْلَكَ أَلَيْسَ قَالَ يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَسْأَلْنِي هَلَاكَ نَفْسِكَ فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ وَحَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ طَلْحَةَ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ تَعَبَّدَ الشَّيْطَانُ مَعَ عِيسَى عَشْرَ سِنِينَ أَوْ سَنَتَيْنِ أَقَامَ يَوْمًا عَلَى شَفِيرِ جَبَلٍ فَقَالَ الشَّيْطَانُ أَرَأَيْتَ إِنْ أَلْقَيْتُ نَفْسِي هَلْ يُصِيبُنِي إِلَّا مَا كُتِبَ لِي قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِالَّذِي أَبْتَلِي رَبِّي ولكن ربى إذا شاء ابتلاني وعرفه أنه الشيطان ففارقه. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا شريح بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنِ الْخَطَّابِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلِّي عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَلْقِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْجَبَلِ وَقُلْ قَدَرٌ عَلَيَّ فَقَالَ يَا لِعَيْنُ اللَّهُ يَخْتَبِرُ الْعِبَادَ وَلَيْسَ الْعِبَادُ يَخْتَبِرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ لقي عيسى بن مَرْيَمَ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ يَا عِيسَى بن مريم الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ قَالَ بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلْإِلَهِ الَّذِي أَنْطَقَنِي ثم يميتني ثم يحينى قَالَ فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ للَّه الّذي يحى وَيُمِيتُ مَنْ أَحْيَيْتُ ثُمَّ يُحْيِيهِ قَالَ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَإِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ قال فصكه جبريل صكة بجناحيه فما نبأها دون قرون الشمس ثم صكه اخرى بجناحيه فما نبأها دُونَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى فَأَدْخَلَهُ بِحَارَ السَّابِعَةِ فَأَسَاخَهُ وَفِي رِوَايَةٍ فَأَسْلَكَهُ فِيهَا حَتَّى وَجَدَ طَعْمَ الْحَمْأَةِ فَخَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقُولُ مَا لَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ مَا لَقِيتُ مِنْكَ يَا ابْنَ مَرْيَمَ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا بِأَبْسَطَ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزْقَوَيْهِ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بن سبدى حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَطَّانُ حدثنا إسماعيل ابن عِيسَى الْعَطَّارُ أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ سُوَيْدٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ صَلَّى عِيسَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الْعَقَبَةِ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَاحْتَبَسَهُ فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ وَيَقُولُ لَهُ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ عِيسَى يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ فَجَعَلَ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ فِيمَا يَقُولُ لَا يَنْبَغِي لَكَ يَا عِيسَى أَنْ تَكُونَ عَبْدًا قَالَ فَاسْتَغَاثَ عِيسَى بِرَبِّهِ فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَلَمَّا رَآهُمَا إِبْلِيسُ كَفَّ فَلَمَّا استقر مَعَهُ عَلَى الْعَقَبَةِ اكْتَنَفَا عِيسَى وَضَرَبَ جِبْرِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي قَالَ فَعَادَ إِبْلِيسُ مَعَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يُؤْمَرَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ لِعِيسَى قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَبْدًا إِنَّ غَضَبَكَ لَيْسَ بِغَضَبِ عَبْدٍ وَقَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِيتُ منك حين غضبت ولكن أدعوك لأمر هو لك آمر الشياطين فليطيعوك فلما رَأَى الْبَشَرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَطَاعُوكَ عَبَدُوكَ أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ أَنْ تَكُونَ(2/80)
إِلَهًا لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكُونُ إِلَهًا فِي السَّمَاءِ وَتَكُونُ أَنْتَ إِلَهًا فِي الْأَرْضِ فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ وَصَرَخَ صَرْخَةً شَدِيدَةً فَإِذَا إِسْرَافِيلُ قَدْ هَبَطَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَكَفَّ إِبْلِيسُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ ضَرَبَ إِسْرَافِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ فَصَكَّ بِهِ عَيْنَ الشَّمْسِ ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أخرى فاقبل إبليس يهوى ومر عيسى وَهُوَ بِمَكَانِهِ فَقَالَ يَا عِيسَى لَقَدْ لَقِيتُ فِيكَ الْيَوْمَ تَعَبًا شَدِيدًا فَرَمَى بِهِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ فَوَجَدَ سَبْعَةَ أَمْلَاكٍ عِنْدَ الْعَيْنِ الحامية قال فغطوه فجعل كلما صرخ غَطُّوهُ فِي تِلْكَ الْحَمْأَةِ قَالَ وَاللَّهِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ. قَالَ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ شَيَاطِينُهُ فَقَالُوا سَيِّدُنَا قَدْ لَقِيتَ تَعَبًا قَالَ إِنَّ هَذَا عَبْدٌ مَعْصُومٌ لَيْسَ لِي عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ وَسَأُضِلُّ بِهِ بَشَرًا كَثِيرًا وَأَبُثُّ فِيهِمْ أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً وَأَجْعَلُهُمْ شِيَعًا وَيَجْعَلُونَهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا أَيَّدَ بِهِ عِيسَى وَعَصَمَهُ مِنْ إِبْلِيسَ قُرْآنًا ناطقا بذكر نعمته على عيسى فقال (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) 5: 110 يَعْنِي إِذْ قَوَّيْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَعْنِي جِبْرِيلَ (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) 5: 110 الآية كلها وَإِذْ جَعَلْتُ الْمَسَاكِينَ لَكَ بِطَانَةً وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا تَرْضَى بِهِمْ وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا يَرْضَوْنَ بِكَ هَادِيًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ فَذَلِكَ فَاعْلَمْ خُلُقَانِ عَظِيمَانِ مَنْ لَقِيَنِي بِهِمَا فَقَدْ لَقِيَنِي بِأَزْكَى الْخَلَائِقِ وَأَرْضَاهَا عِنْدِي وَسَيَقُولُ لَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ صُمْنَا فَلَمْ يَتَقَبَّلْ صِيَامَنَا وَصَلَّيْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَلَاتَنَا وَتَصَدَّقْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَاتِنَا وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الجمال فلم يرحم بكاؤنا فَقُلْ لَهُمْ وَلَمَّ ذَلِكَ وَمَا الَّذِي يَمْنَعُنِي إن ذات يدي قلت أو ليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء وان البخل لا يعتريني أولست أجود من سأل وأوسع من اعطى أوان رَحْمَتِي ضَاقَتْ وَإِنَّمَا يَتَرَاحَمُ الْمُتَرَاحِمُونَ بِفَضْلِ رَحْمَتِي ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مَرْيَمَ عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي تُورِثُ فِي قُلُوبِهِمْ مَا اسْتَأْثَرُوا بِهِ الدُّنْيَا أَثَرَةً عَلَى الآخرة لعرفوا من أين أوتوا وإذا لا يقنوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لَهُمْ وَكَيْفَ أَقْبَلُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ الْحَرَامِ وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَلَاتَهُمْ وَقُلُوبُهُمْ تَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ يُحَارِبُونِي وَيَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمِي وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَدَقَاتِهِمْ وَهُمْ يَغْصِبُونَ النَّاسَ عَلَيْهَا فَيَأْخُذُونَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا يَا عِيسَى إِنَّمَا أَجْزِي عَلَيْهَا أَهْلَهَا وَكَيْفَ أَرْحَمُ بُكَاءَهُمْ وَأَيْدِيهِمْ تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ ازْدَدْتُ عَلَيْهِمْ غَضَبًا يَا عِيسَى وَقَضَيْتُ يَوْمَ خلقت السموات وَالْأَرْضَ أَنَّهُ مَنْ عَبَدَنِي وَقَالَ فِيكُمَا بِقَوْلِي أَنْ أَجْعَلَهُمْ جِيرَانَكَ فِي الدَّارِ وَرُفَقَاءَكَ فِي الْمَنَازِلِ وَشُرَكَاءَكَ فِي الْكَرَامَةِ وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السموات وَالْأَرْضَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَكَ وَأُمَّكَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْ أَجْعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النار وقضيت يوم خلقت السموات وَالْأَرْضَ أَنِّي مُثَبِّتٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِي مُحَمَّدٍ وَأَخْتِمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يزر بِالْفُحْشِ وَلَا قَوَّالٍ بِالْخَنَا أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جميل واهب له كل خلق كريم واجعل التقوى ضميره والحكم مَعْقُولَهُ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ والإسلام ملته اسمه أحمد أهدى به بعد(2/81)
الضَّلَالَةِ وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ وَأُغْنِي بِهِ بعد العائلة وارفع به بعد الضيعة أَهْدِي بِهِ وَأَفْتَحُ بِهِ بَيْنَ آذَانٍ صُمٍّ وَقُلُوبٍ غُلْفٍ وَأَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِخْلَاصًا لِاسْمِي وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَتْ به الرسل الهمهم التسبيح والتقديس والتهليل فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ يُصَلُّونَ لي قياما وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا قرباتهم دِمَاؤُهُمْ وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ وَقُرْبَانُهُمْ فِي بُطُونِهِمْ رهبان بالليل ليوث في النهار ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَسَنَذْكُرُ مَا يُصَدِّقُ كَثِيرًا مِنْ هذا السياق مما سنورده من سورتي المائدة والصف إن شاء الله وَبِهِ الثِّقَةُ وَقَدْ رَوَى أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالُوا لَمَّا بُعِثَ عيسى بن مريم وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بنى إسرائيل يعجبون منه ويستهزءون بِهِ فَيَقُولُونَ مَا أَكَلَ فُلَانٌ الْبَارِحَةَ وَمَا ادخر في منزله فَيُخْبِرُهُمْ فَيَزْدَادُ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا وَالْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ شَكًّا وَكُفْرَانًا وَكَانَ عِيسَى مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ يَأْوِي إِلَيْهِ إِنَّمَا يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ قَرَارٌ وَلَا مَوْضِعٌ يُعْرَفُ بِهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا أَحْيَا مِنَ الْمَوْتَى أَنَّهُ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى امْرَأَةٍ قَاعِدَةٍ عِنْدَ قبر وهي تبكى فقال لها مالك أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ فَقَالَتْ مَاتَتِ ابْنَةٌ لِي لَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ غَيْرُهَا وَإِنِّي عَاهَدْتُ رَبِّي أَنْ لَا أَبْرَحُ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا حَتَّى أَذُوقَ مَا ذَاقَتْ مِنَ الْمَوْتِ أَوْ يُحْيِيَهَا اللَّهُ لِي فَأَنْظُرُ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا عِيسَى أَرَأَيْتِ إِنْ نَظَرْتِ إِلَيْهَا أَرَاجِعَةٌ أَنْتِ قَالَتْ نَعَمْ قَالُوا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَنَادَى يَا فُلَانَةُ قُومِي بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ فَاخْرُجِي قَالَ فَتَحَرَّكَ الْقَبْرُ ثُمَّ نَادَى الثَّانِيَةَ فَانْصَدَعَ الْقَبْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ فَخَرَجَتْ وَهِيَ تَنْفُضُ رَأْسَهَا مِنَ التُّرَابِ فقال لها عيسى ما أبطأ بِكِ عَنِّي فَقَالَتْ لَمَّا جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الْأُولَى بَعَثَ اللَّهُ لِي مَلَكًا فَرَكَّبَ خَلْقِي ثُمَّ جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الثَّانِيَةُ فَرَجَعَ إِلَيَّ رُوحِي ثُمَّ جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الثَّالِثَةُ فَخِفْتُ أَنَّهَا صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ فَشَابَ رَأْسِي وَحَاجِبَايَ وَأَشْفَارُ عَيْنِي مِنْ مَخَافَةِ القيمة ثم أقبلت على أمها فقالت يا أماه مَا حَمَلَكِ عَلَى أَنْ أَذُوقَ كَرْبَ الْمَوْتِ مرتين يا أماه اصْبِرِي وَاحْتَسِبِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِي الدُّنْيَا يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ سَلْ رَبِّي أَنْ يَرُدَّنِي إِلَى الْآخِرَةِ وَأَنْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ كَرْبَ الْمَوْتِ فَدَعَا رَبَّهُ فَقَبَضَهَا إِلَيْهِ وَاسْتَوَتْ عَلَيْهَا الْأَرْضُ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَازْدَادُوا عَلَيْهِ غَضَبًا وقدمنا في عقيب قِصَّةِ نُوحٍ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوهُ أَنْ يُحْيِيَ لَهُمْ سَامَ بْنَ نُوحٍ فَدَعَا اللَّهَ عز وجل وصلّى للَّه فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُمْ فَحَدَّثَهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ وَأَمْرِهَا ثُمَّ دَعَا فَعَادَ تُرَابًا. وَقَدْ رَوَى السُّدِّيُّ عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عَبَّاسٍ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ وَفِيهِ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَاتَ وَحُمِلَ عَلَى سَرِيرِهِ فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرَأَى النَّاسُ أَمْرًا هَائِلًا وَمَنْظَرًا عَجِيبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ(2/82)
بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ 5: 110- 111 يُذَكِّرُهُ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ فِي خَلْقِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ بَلْ مِنْ أُمٍّ بِلَا ذَكَرٍ وَجَعْلِهِ لَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَدَلَالَةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى ثُمَّ إِرْسَالِهِ بعد هذا كله (وَعَلى والِدَتِكَ) 5: 110 فِي اصْطِفَائِهَا وَاخْتِيَارِهَا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ ولهذا قال (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) 5: 110 وَهُوَ جِبْرِيلُ بِإِلْقَاءِ رُوحِهِ إِلَى أُمِّهِ وَقَرْنِهِ مَعَهُ فِي حَالِ رِسَالَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) 5: 110 أَيْ تَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللَّهِ فِي حَالِ صِغَرِكَ فِي مَهْدِكَ وَفِي كُهُولَتِكَ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ 5: 110 أَيِ الْخَطَّ وَالْفَهْمَ نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ 5: 110 وَقَوْلُهُ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي 5: 110 أَيْ تُصَوِّرُهُ وَتُشَكِّلُهُ مِنَ الطِّينِ عَلَى هَيْئَتِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي 5: 110 أي بأمري يؤكد تعال بِذِكْرِ الْإِذْنِ لَهُ فِي ذَلِكَ لِرَفْعِ التَّوَهُّمِ وقوله وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ 5: 110 قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ إِلَى مُدَاوَاتِهِ وَالْأَبْرَصَ 5: 110 هو الَّذِي لَا طِبَّ فِيهِ بَلْ قَدْ مَرِضَ بِالْبَرَصِ وَصَارَ دَاؤُهُ عُضَالًا وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى 5: 110 أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بِإِذْنِي وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً مِمَّا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَقَوْلُهُ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 5: 110 وَذَلِكَ حِينَ أَرَادُوا صَلْبَهُ فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَنْقَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ صِيَانَةً لِجَنَابِهِ الْكَرِيمِ عَنِ الْأَذَى وَسَلَامَةً لَهُ مِنَ الرَّدَى وَقَوْلُهُ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ 5: 111 قِيلَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْوَحْيِ وَحْيُ إِلْهَامٍ أَيْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ 16: 68 وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في الْيَمِّ 28: 7 وَقِيلَ الْمُرَادُ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ وَتَوْفِيقٌ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَلِهَذَا اسْتَجَابُوا قَائِلِينَ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ 5: 111 وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ ورسوله عيسى بن مَرْيَمَ أَنْ جَعْلَ لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَنْصُرُونَهُ وَيَدْعُونَ مَعَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 8: 62- 63 وقال تعالى وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي(2/83)
ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قال مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ الله آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ 3: 48- 54.
كَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَذَكَرُوا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ أَهْلَ زمانه وكانوا سَحَرَةً أَذْكِيَاءَ فَبُعِثَ بِآيَاتٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ وَخَضَعَتْ لَهَا الرِّقَابُ وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ خَبِيرِينَ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَعَايَنُوا مَا عَايَنُوا مِنَ الْأَمْرِ الْبَاهِرِ الْهَائِلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صدوره الا عمن أَيَّدَهُ اللَّهُ وَأَجْرَى الْخَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ تَصْدِيقًا لَهُ أَسْلَمُوا سِرَاعًا وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا وَهَكَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بُعِثَ فِي زَمَنِ الطَّبَائِعِيَّةِ الْحُكَمَاءِ فَأُرْسِلَ بِمُعْجِزَاتٍ لَا يَسْتَطِيعُونَهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا وَأَنَّى لِحَكِيمٍ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْمَيِّتَ مِنْ قَبْرِهِ هَذَا مما يعلم كل أحد مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَامَتْ بِهِ وعلى قدرة من أرسله وهكذا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بُعِثَ فِي زَمَنِ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ كَلَامُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ فَانْتَدَبَ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ طَائِفَةً صَالِحَةً فَكَانُوا لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا قَامُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَذَلِكَ حِينَ هَمَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فَأَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى أَحَدِ أَصْحَابِهِ فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عِيسَى وَهْمُ فِي ذَلِكَ غَالِطُونَ وَلِلْحَقِّ مُكَابِرُونَ وَسَلَّمَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى مَا ادَّعَوْهُ وَكِلَا الفريقين في ذلك مخطئون قَالَ تَعَالَى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ 3: 54 وَقَالَ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَمن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ 61: 6- 8 الى أن قال بعد ذاك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ(2/84)
فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ 61: 14 فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَبَشَّرَهُمْ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْآتِي بَعْدَهُ وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَتَهُ لِيَعْرِفُوهُ وَيُتَابِعُوهُ إِذَا شَاهَدُوهُ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 7: 157 قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ قَالَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا وَفِيهِ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ قَالَ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ 2: 129 الْآيَةَ وَلَمَّا انْتَهَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِيسَى قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ وَأَنَّهَا بَعْدَهُ فِي النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ احمد وهو محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ 61: 6 يُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ عُودُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَرَّضَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى الله 61: 14 أَيْ مَنْ يُسَاعِدُنِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ قال الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ الله 61: 14 وَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا النَّاصِرَةُ فسموا بذلك النصارى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ 61: 14 يَعْنِي لَمَّا دَعَا عِيسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ من كفر وكان مِمَّنْ آمَنَ بِهِ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بِكَمَالِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَالتَّفْسِيرِ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا ثَلَاثَةً أَحَدُهُمْ شَمْعُونُ الصفا فآمنوا واستجابوا وليس هؤلاء هم المذكورون فِي سُورَةِ يس لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَكَفَرَ آخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهْمُ جُمْهُورُ الْيَهُودِ فَأَيَّدَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ فِيمَا بَعْدُ وَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ عَلَيْهِمْ قَاهِرِينَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ 3: 55 الْآيَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إِلَيْهِ أَقْرَبَ كَانَ عاليا فمن دُونَهُ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ كَانُوا ظَاهِرِينَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ وَأَطْرَوْهُ وَأَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِهِ وَلَمَّا كَانَ النَّصَارَى أَقْرَبَ في الجملة مما ذهب اليه اليهود عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ كَانَ النَّصَارَى قَاهِرِينَ لِلْيَهُودِ فِي أَزْمَانِ الْفَتْرَةِ إِلَى زَمَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ
.(2/85)
ذِكْرُ خَبَرِ الْمَائِدَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ قَالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً من الْعالَمِينَ 5: 112- 115 قَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي نُزُولِ الْمَائِدَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ وَمَضْمُونُ ذَلِكَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ الْحَوَارِيِّينَ بِصِيَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلَمَّا أَتَمُّوهَا سَأَلُوا مِنْ عِيسَى إِنْزَالَ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ لِيَأْكُلُوا مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ صِيَامَهُمْ وَأَجَابَهُمْ إِلَى طَلِبَتِهِمْ وَتَكُونَ لَهُمْ عِيدًا يُفْطِرُونَ عَلَيْهَا يَوْمَ فِطْرِهِمْ وَتَكُونَ كَافِيَةً لأولهم وآخرهم لغنيهم وفقيرهم فوعظهم عيسى فِي ذَلِكَ وَخَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُومُوا بِشُكْرِهَا وَلَا يُؤَدُّوا حَقَّ شُرُوطِهَا فَأَبَوْا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمَّا لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ وَلَبِسَ مِسْحًا مِنْ شَعْرٍ وَصَفَّ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ وَأَسْبَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ أَنْ يُجَابُوا إِلَى مَا طَلَبُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا تَنْحَدِرُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ وَجَعَلَتْ تَدْنُو قَلِيلًا قَلِيلًا وكلما دنت سأل عيسى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَهَا رَحْمَةً لَا نِقْمَةً وَأَنْ يَجْعَلَهَا بَرَكَةً وَسَلَامَةً فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مُغَطَّاةٌ بِمَنْدِيلٍ فَقَامَ عِيسَى يَكْشِفُ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ (بِسْمِ اللَّهِ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فَإِذَا عَلَيْهَا سَبْعَةٌ مِنَ الْحِيتَانِ وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ. وَيُقَالُ وَخَلٌّ. وَيُقَالُ وَرُمَّانٌ وَثِمَارٌ وَلَهَا رَائِحَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا قَالَ اللَّهُ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهَا فَقَالُوا لَا نَأْكُلُ حتى تأكل فقال إنكم الذين ابتدأ تم السُّؤَالَ لَهَا فَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ابْتِدَاءً فامر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى وكانوا قريبا مِنْ أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا فَبَرَأَ كُلُّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ أَوْ آفَةٌ أَوْ مَرَضٌ مُزْمِنٌ فَنَدِمَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْهَا لِمَا رَأَوْا مِنْ إِصْلَاحِ حَالِ أُولَئِكَ. ثُمَّ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً فَيَأْكُلُ النَّاسُ مِنْهَا يَأْكُلُ آخِرُهُمْ كَمَا يَأْكُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى قِيلَ إِنَّهَا كَانَ يَأْكُلُ مِنْهَا نَحْوُ سَبْعَةِ آلَافٍ. ثُمَّ كَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ كَمَا كَانَتْ نَاقَةُ صَالِحٍ يَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ عِيسَى أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَحَاوِيجِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَتَكَلَّمَ مُنَافِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَرُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ وَمُسِخَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ خَنَازِيرَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ الْبَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا فَمُسِخُوا قِرَدَةً(2/86)
وَخَنَازِيرَ ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَمَّارٍ مَوْقُوفًا وَهَذَا أَصَحُّ وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عِجْلٍ عَنْ عَمَّارٍ مَوْقُوفًا وهو الصواب والله أعلم. وخلاص عَنْ عَمَّارٍ مُنْقَطِعٌ فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا لَكَانَ فَيْصَلًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَائِدَةِ هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هذه الآثار كما هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقِ الْقُرْآنِ وَلَا سيما قوله (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) 5: 115 كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى مُجَاهِدٍ وَإِلَى الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا لَمْ تَنْزِلْ وَإِنَّهُمْ أَبَوْا نُزُولَهَا حِينَ قَالَ (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً من الْعالَمِينَ) 5: 115. وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّ النَّصَارَى لَا يَعْرِفُونَ خَبَرَ الْمَائِدَةِ وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي كِتَابِهِمْ مَعَ أَنَّ خبرها مما يتوفر الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ فَلْيُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ وَمَنْ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهُ فَلْيَنْظُرْهُ مِنْ ثَمَّ وللَّه الحمد والمنة
فصل
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَقَطَ اسْمُهُ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ فَقَدَ الْحَوَارِيُّونَ نَبِيَّهُمْ عِيسَى فَقِيلَ لَهُمْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَحْرِ فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ إِذَا هُوَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ يَرْفَعُهُ الْمَوْجُ مَرَّةً وَيَضَعُهُ أُخْرَى وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُرْتَدٍ بِنِصْفِهِ وَمُؤْتَزِرٌ بِنِصْفِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ أَبُو هِلَالٍ ظنت أَنَّهُ مَنْ أَفَاضِلِهِمْ أَلَا أَجِيءُ إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ بَلَى قَالَ فَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَضَعَ الْأُخْرَى فَقَالَ أَوَّهْ غَرِقْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَقَالَ أَرِنِي يَدَكَ يَا قَصِيرَ الْإِيمَانِ لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِنَ الْيَقِينِ قَدْرَ شَعِيرَةٍ مَشَى على الماء. ورواه أبو سعيد ابن الأعرابي عن إبراهيم بن أَبِي الْجَحِيمِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي هِلَالٍ عَنْ بَكْرٍ بِنَحْوِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ سفيان حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عياض قال قيل لعيسى بن مَرْيَمَ يَا عِيسَى بِأَيِّ شَيْءٍ تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ قَالَ بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ. قَالُوا فَإِنَّا آمَنَّا كَمَا آمَنْتَ وَأَيْقَنَّا كَمَا أَيْقَنْتَ قَالَ فَامْشُوا إِذًا قَالَ فَمَشَوْا مَعَهُ فِي الْمَوْجِ فَغَرِقُوا فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى مَا لَكُمْ فَقَالُوا خِفْنَا الْمَوْجَ قَالَ أَلَا خِفْتُمْ رَبَّ الْمَوْجِ قَالَ فَأَخْرَجَهُمْ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَقَبَضَ بِهَا ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِي إِحْدَى يَدَيْهِ ذَهَبٌ وَفِي الْأُخْرَى مَدَرٌ أَوْ حَصًى فَقَالَ أَيُّهُمَا أَحْلَى فِي قُلُوبِكُمْ قَالُوا هَذَا الذَّهَبُ قَالَ فَإِنَّهُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ وَقَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ وَلَا يَأْوِي إِلَى مَنْزِلٍ وَلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لغد. قال بَعْضُهُمْ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ صَاحَ وَيَقُولُ لَا يَنْبَغِي لِابْنِ مَرْيَمَ أَنْ تُذْكَرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ ويسكت وعن عبد الملك ابن سعيد بن بحر أَنَّ عِيسَى كَانَ(2/87)
إِذَا سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ صَرَخَ صُرَاخَ الثَّكْلَى. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بلقان أَنَّ عِيسَى كَانَ يَقُولُ (اللَّهمّ إِنِّي أَصْبَحْتُ لَا أَسْتَطِيعُ دَفْعَ مَا أَكْرَهُ وَلَا أَمْلِكُ نَفْعَ مَا أَرْجُو وَأَصْبَحَ الْأَمْرُ بِيَدِ غَيْرِي وَأَصْبَحْتُ مُرْتَهِنًا بِعَمَلِي فَلَا فَقِيرَ أَفْقَرُ مِنِّي اللَّهمّ لَا تُشْمِتْ بِيَ عَدُوِّي وَلَا تَسُؤْ بِي صَدِيقِي وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتِي فِي دِينِي وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لَا يَرْحَمُنِي) . وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ كان عيسى يقول لا نصيب حقيقة الايمان حتى لا نبالى مِنْ أَكْلِ الدُّنْيَا. قَالَ الْفُضَيْلُ وَكَانَ عِيسَى يَقُولُ فَكَّرْتُ فِي الْخَلْقِ فَوَجَدْتُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ أَغْبَطَ عِنْدِي مِمَّنْ خُلِقَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بن بشر عن هشام ابن حَسَّانَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ إِنَّ عِيسَى رَأْسُ الزَّاهِدِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ وَإِنَّ الْفَرَّارِينَ بِذُنُوبِهِمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى قَالَ وَبَيْنَمَا عِيسَى يَوْمًا نَائِمٌ عَلَى حَجَرٍ قَدْ تَوَسَّدَهُ وَقَدْ وَجَدَ لَذَّةَ النَّوْمِ إِذْ مَرَّ بِهِ إِبْلِيسُ فَقَالَ (يَا عِيسَى أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تُرِيدُ شَيْئًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا فَهَذَا الحجر من عرض الدنيا فقال فأخذ الحجر ورمى بِهِ إِلَيْهِ وَقَالَ هَذَا لَكَ مَعَ الدُّنْيَا. وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ خَرَجَ عِيسَى عَلَى أَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ وَكِسَاءٌ وَتُبَّانٌ حَافِيًا بَاكِيًا شَعِثًا مُصْفَرَّ اللَّوْنِ مِنَ الْجُوعِ يَابِسَ الشَّفَتَيْنِ مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَا الَّذِي أَنْزَلْتُ الدُّنْيَا مَنْزِلَتَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا عَجَبَ وَلَا فَخْرَ أَتَدْرُونَ أَيْنَ بَيْتِي قَالُوا أَيْنَ بَيْتُكَ يَا رُوحَ اللَّهِ قَالَ بِيتِي الْمَسَاجِدُ وَطِيبِي الْمَاءُ وَإِدَامِي الْجُوعُ وَسِرَاجِي الْقَمَرُ بِاللَّيْلِ وَصَلَاتِي فِي الشِّتَاءِ مشارق الشمس وريحاني بقول الأرض ولباسي الصون وَشِعَارِي خَوْفُ رَبِّ الْعِزَّةِ وَجُلَسَائِي الزَّمْنَى وَالْمَسَاكِينُ أُصْبِحُ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ وَأُمْسِي وَلَيْسَ لِي شيء وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى منى وأربح رواه بن عَسَاكِرَ [1] وَرَوَى فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبَانِ بْنِ حِبَّانَ أَبِي الْحَسَنِ الْعُقَيْلِيِّ الْمِصْرِيِّ حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ عَنْ حيوة بن شريح حدثني الوليد ابن أبى الوليد عن سفى بن نافع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى أَنْ يَا عِيسَى انْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ الى مكان لئلا تعرف فتؤذى فو عزتي وَجَلَالِي لَأُزَوِّجَنَّكَ أَلْفَ حَوْرَاءَ وَلَأُولِمَنَّ عَلَيْكَ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَقَدْ يَكُونُ موقوفا من رواية سفى بن نافع عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ كَمَا تَرَكَ لَكُمُ الْمُلُوكَ الْحِكْمَةَ فَكَذَلِكَ فَاتْرُكُوا لَهُمُ الدُّنْيَا. وَقَالَ قَتَادَةُ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلُونِي فَإِنِّي لَيِّنُ الْقَلْبِ وَإِنِّي صَغِيرٌ عِنْدَ نَفْسِي وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ عيسى لِلْحِوَارِيَّيْنِ كُلُوا خُبْزَ الشَّعِيرِ وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْقَرَاحَ واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين بحق مَا أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ حَلَاوَةَ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ وَإِنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ وَإِنَّ عباد الله ليسوا بالمتنعمين بحق مَا أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ شَرَّكُمْ عَالِمٌ يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى عِلْمِهِ يَوَدُّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مثله.
__________
[1] من هنا إلى قوله وقال عبد الله بن المبارك لم يوجد في النسختين الموجودتين بالمكتبة المصرية(2/88)
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَقُولُ (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْكُمْ بِالْمَاءِ القراح والبقل البرير وخبز الشَّعِيرِ وَإِيَّاكُمْ وَخُبْزَ الْبُرِّ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقُومُوا بِشُكْرِهِ) وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ عِيسَى يَقُولُ اعْبُرُوا الدُّنْيَا وَلَا تُعَمِّرُوهَا وَكَانَ يَقُولُ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَالنَّظَرُ يَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ وَحَكَى وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ مِثْلَهُ وَزَادَ وَرُبَّ شَهْوَةٍ أَوْرَثَتْ أَهْلَهَا حُزْنًا طَوِيلًا وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (يَا ابن آدم الضعيف اتّق الله حيث ما كُنْتَ وَكُنْ فِي الدُّنْيَا ضَيْفًا وَاتَّخَذِ الْمَسَاجِدَ بَيْتًا وَعَلِّمْ عَيْنَكَ الْبُكَاءَ وَجَسَدَكَ الصَّبْرَ وَقَلْبَكَ التَّفَكُّرَ وَلَا تَهْتَمَّ بِرِزْقِ غَدٍ فَإِنَّهَا خَطِيئَةٌ) وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ كَمَا أَنَّهُ: لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا فَلَا يَتَّخِذِ الدُّنْيَا قَرَارًا وَفِي هَذَا يَقُولُ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ
لَكُمْ بُيُوتٌ بِمُسْتَنِّ السيوف وهل ... يبنى عَلَى الْمَاءِ بَيْتٌ أُسُّهُ مَدَرُ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثوري قال عيسى بن مَرْيَمَ (لَا يَسْتَقِيمُ حُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ الْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إِنَاءٍ) . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيِّ قَالَ قَالَ عِيسَى (طَالِبُ الدُّنْيَا مِثْلُ شَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا حَتَّى يَقْتُلَهُ) وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (ان الشيطان مع الدنيا وفكره من المال وتزينه مَعَ الْهَوَى وَاسْتِمْكَانَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ) وَقَالَ الْأَعْمَشُ عن خيثمة كان عيسى يضع الطَّعَامَ لِأَصْحَابِهِ وَيَقُومُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ هَكَذَا فَاصْنَعُوا بِالْقِرَى وَبِهِ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طُوبَى لِحِجْرٍ حَمَلَكَ وَلِثَدْيٍ أَرْضَعَكَ. فَقَالَ: طُوبَى لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعَهُ.
وَعَنْهُ طُوبَى لِمَنْ بَكَى مِنْ ذِكْرِ خَطِيئَتِهِ وَحَفِظَ لِسَانَهُ وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ. وَعَنْهُ طُوبَى لِعَيْنٍ نَامَتْ وَلَمْ تُحَدِّثْ نَفْسَهَا بِالْمَعْصِيَةِ وَانْتَبَهَتْ إِلَى غَيْرِ إِثْمٍ وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ مَرَّ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ بِجِيفَةٍ فَقَالُوا مَا أَنْتَنَ رِيحَهَا فَقَالَ ما أبيض أسنانها لينها هم عن الغيبة. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ قَالَ قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ ارْضَوْا بِدَنِيِّ الدُّنْيَا مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ كَمَا رَضِيَ أَهْلُ الدُّنْيَا بَدَنِيِّ الدِّينِ مَعَ سَلَامَةِ الدُّنْيَا. قَالَ زَكَرِيَّا وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ.
أَرَى رِجَالًا بِأَدْنَى الدِّينِ قَدْ قَنَعُوا ... وَلَا أَرَاهُمْ رَضُوا فِي الْعَيْشِ بِالدُّونِ
فَاسْتَغْنِ بِالدِّينِ عَنْ دُنْيَا الْمُلُوكِ كَمَا ... اسْتَغْنَى الْمُلُوكُ بِدُنْيَاهُمْ عَنِ الدِّينِ
وَقَالَ أبو مصعب عن مالك قال عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا تُكْثِرُوا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ. وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ الْعِبَادِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِيهَا كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ مُعَافًى وَمُبْتَلًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ) وَقَالَ الثَّوْرِيُّ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ قَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ (بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ مَنْ طَلَبَ الْفِرْدَوْسَ فَخُبْزُ الشَّعِيرِ وَالنَّوْمُ فِي الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ كَثِيرٌ) . وَقَالَ(2/89)
مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ عِيسَى إِنَّ أَكْلَ الشَّعِيرِ مَعَ الرَّمَادِ وَالنَّوْمَ عَلَى الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ لَقَلِيلٌ فِي طَلَبِ الْفِرْدَوْسِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قَالَ عيسى عملوا للَّه وَلَا تَعْمَلُوا لِبُطُونِكُمُ انْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الطَّيْرِ تَغْدُو وَتَرُوحُ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا فَإِنْ قُلْتُمْ نَحْنُ أَعْظَمُ بُطُونًا من الطير فانظروا إلى هذه الأباقير مِنَ الْوُحُوشِ وَالْحُمُرِ فَإِنَّهَا تَغْدُو وَتَرُوحُ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا. وَقَالَ صَفْوَانُ بن عمرو عن شريح بن عبد الله عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِلْمَسِيحِ يَا مَسِيحَ اللَّهِ انْظُرْ إِلَى مَسْجِدِ اللَّهِ مَا أَحْسَنَهُ قَالَ آمِينَ آمِينَ بِحَقٍّ ما أَقُولُ لَكُمْ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَسْجِدِ حَجَرًا قَائِمًا إِلَّا أَهْلَكَهُ بِذُنُوبِ أَهْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْفِضَّةِ وَلَا بِهَذِهِ الْأَحْجَارِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ شَيْئًا إِنَّ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا الْقُلُوبُ الصَّالِحَةُ وَبِهَا يُعَمِّرُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَبِهَا يُخَرِّبُ اللَّهُ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ أَخْبَرَنَا أبو منصور أحمد ابن مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ أَخْبَرَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَرْكَانِيَّةُ قَالَتْ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الهشيم إِمْلَاءً حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ إِمْلَاءً حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَرَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَدِينَةٍ خَرِبَةٍ فَأَعْجَبَهُ الْبُنْيَانُ فَقَالَ أَيْ رَبِّ مُرْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ أَنْ تُجِيبَنِي فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ الْخَرِبَةُ جَاوِبِي عِيسَى قَالَ فَنَادَتِ الْمَدِينَةُ عِيسَى حَبِيبِي وَمَا تُرِيدُ مِنِّي قَالَ مَا فَعَلَ أَشْجَارُكِ وَمَا فَعَلَ أَنْهَارُكِ وَمَا فَعَلَ قُصُورُكِ وَأَيْنَ سُكَّانُكِ؟ قَالَتْ حَبِيبِي جَاءَ وَعْدُ رَبِّكَ الْحَقُّ فَيَبِسَتْ أَشْجَارِي وَنَشَفَتْ أَنْهَارِي وَخَرِبَتْ قُصُورِي وَمَاتَ سُكَّانِي. قال فأين أموالهم فقالت جَمَعُوهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَوْضُوعَةٌ فِي بَطْنِي. للَّه ميراث السموات وَالْأَرْضِ. قَالَ فَنَادَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَعَجِبْتُ مِنْ ثَلَاثِ أُنَاسٍ طَالِبِ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ وَبَانِي الْقُصُورِ وَالْقَبْرُ مَنْزِلُهُ وَمَنْ يَضْحَكُ مِلْءَ فِيهِ وَالنَّارُ أَمَامَهُ ابْنَ آدَمَ لَا بِالْكَثِيرِ تَشْبَعُ وَلَا بِالْقَلِيلِ تَقْنَعُ تَجْمَعُ مَالَكَ لِمَنْ لَا يَحْمَدُكَ وَتُقْدِمُ عَلَى رَبٍّ لَا يَعْذُرُكَ إِنَّمَا أَنْتَ عَبْدُ بَطْنِكَ وَشَهْوَتِكَ وَإِنَّمَا تَمْلَأُ بَطْنَكَ إِذَا دَخَلْتَ قَبْرَكَ وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ تَرَى حَشْدَ مَالِكَ فِي مِيزَانِ غَيْرِكَ) هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ فَكَتَبْنَاهُ لِذَلِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ اجْعَلُوا كُنُوزَكُمْ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ حَيْثُ كَنْزُهُ وَقَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ ظبيان قال قال عيسى بن مريم مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ دُعِيَ عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَا خَيْرَ فِي علم لا يعبر معك الوادي ويعبر بِكَ النَّادِيَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عن ابن عباس مرفوعا أن عيسى قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ (يَا مَعْشَرَ الحواريين لا تحدثوا بالحكم غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ وَالْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ. أَمْرٌ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ وَأَمْرٌ تبين غيه(2/90)
فَاجْتَنِبُوهُ وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ عَلَيْكُمْ فِيهِ فَرُدُّوا عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قَالَ عِيسَى (لَا تَطْرَحُوا اللُّؤْلُؤَ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَصْنَعُ بِاللُّؤْلُؤِ شَيْئًا وَلَا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ مَنْ لَا يُرِيدُهَا فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَمَنْ لَا يُرِيدُهَا شَرٌّ مِنَ الْخِنْزِيرِ) . وَكَذَا حَكَى وَهْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ (أَنْتُمْ مِلْحُ الْأَرْضِ فَإِذَا فَسَدْتُمْ فَلَا دَوَاءَ لَكُمْ وَإِنَّ فِيكُمْ خَصْلَتَيْنِ مِنَ الْجَهْلِ الضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَالصُّبْحَةُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ) وَعَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً قَالَ زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنَّ الْعَالِمَ إِذَا زَلَّ يَزِلُّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ (يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ جَعَلْتُمُ الدُّنْيَا عَلَى رُءُوسِكُمْ وَالْآخِرَةَ تَحْتَ أقدامكم قولكم شفاء وعملكم دواء مَثَلُكُمْ مَثَلُ شَجَرَةِ الدِّفْلَى تُعْجِبُ مَنْ رَآهَا وَتَقْتُلُ مَنْ أَكَلَهَا) وَقَالَ وَهْبٌ قَالَ عِيسَى (يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ جَلَسْتُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فلا تدخلوها وَلَا تَدَعُونَ الْمَسَاكِينَ يَدْخُلُونَهَا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ عَالِمٌ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ. وَقَالَ مكحول (التقى يحبى وَعِيسَى فَصَافَحَهُ عِيسَى وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ لَهُ يَحْيَى يَا ابْنَ خَالَةٍ مَا لِي أَرَاكَ ضَاحِكًا كَأَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ) فَقَالَ لَهُ عِيسَى (مَا لِي أَرَاكَ عَابِسًا كَأَنَّكَ قَدْ يَئِسْتَ) فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمَا (إِنَّ أَحَبَّكُمَا إِلَيَّ أَبَشُّكُمَا بِصَاحِبِهِ) وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَقَفَ عِيسَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى قَبْرٍ وَصَاحِبُهُ يُدْلَى فِيهِ فجعلوا يذكرون القبر وضيقته فَقَالَ (قَدْ كُنْتُمْ فِيمَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْهُ من أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُوَسِّعَ وَسَّعَ) وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ يَقْطُرُ جِلْدُهُ دَمًا. وَالْآثَارُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وقد أورد الحافظ بن عساكر منها طرفا صالحا اقتصرنا منها على هذا القدر والله الْمُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ
ذِكْرُ رَفْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّمَاءِ
فِي حِفْظِ الرَّبِّ وَبَيَانُ كَذِبِ اليهود والنصارى فِي دَعْوَى الصَّلْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ. إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 3: 54- 55 وقال تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ الله وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً 4: 155- 159 فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ مَا تَوَفَّاهُ بِالنَّوْمِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَخَلَّصَهُ مِمَّنْ كَانَ أَرَادَ أَذِيَّتَهُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْكَفَرَةِ في ذلك الزمان(2/91)
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ كَانَ اسمه داود بن نورا فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فَحَصَرُوهُ فِي دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَمَّا حَانَ وَقْتُ دُخُولِهِمْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ ذَلِكَ الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَنْظُرُونَ وَدَخَلَ الشُّرَطُ فَوَجَدُوا ذَلِكَ الشَّابَّ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ فَأَخَذُوهُ ظَانِّينَ أَنَّهُ عِيسَى فَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ إِهَانَةً لَهُ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ عَامَّةُ النَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يُشَاهِدُوا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى أَنَّهُ صُلِبَ وَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا كَثِيرًا فَاحِشًا بَعِيدًا وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ 4: 159 أَيْ بَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَكَمَا سَنُورِدُ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ عِنْدَ أَخْبَارِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَنَذْكُرُ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْمَسِيحِ الْمَهْدِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذِي الْجَلَالِ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ الْكَذَّابِ الدَّاعِي إِلَى الضَّلَالِ وَهَذَا ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ فِي صِفَةِ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يَعْنِي فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُرُ بى اثنى عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي ثُمَّ قَالَ أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكَانِي فيكون مَعِي فِي دَرَجَتِي فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ اجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ أَنَا فَقَالَ أَنْتَ هُوَ ذَاكَ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخَذُوا الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنى عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ وَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيِّةُ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّةُ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ ورسوله مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ 61: 14. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ نَحْوَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ جرير عن مسلم بْنِ جُنَادَةَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مطولا محمد بن إسحاق بن بشار قَالَ وَجَعَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلَهُ يَعْنِي لِيُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ وَيُكْمِلَ الدَّعْوَةَ وَيُكْثِرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فِي دين الله قيل وكان عنده من الحواريين اثنى عشر رجلا بطرس ويعقوب بن زبدا وَيَحْنَسُ أَخُو يَعْقُوبَ وَأَنْدَرَاوِسُ وَفِلِيبُّسُ وَأَبْرَثَلْمَا وَمَتَّى وتوماس ويعقوب بن(2/92)
حلقيا وتداوس وفتاتيا ويودس كريايوطا وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ الْيَهُودَ عَلَى عِيسَى قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ سَرْجَسُ كَتَمَتْهُ النَّصَارَى وَهُوَ الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ فَصُلِبَ عَنْهُ قَالَ وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِي صُلِبَ عَنِ الْمَسِيحِ والقى عليه شبهه هو يودس بن كريا يَوُطَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْتَخْلَفَ عِيسَى شَمْعُونَ وَقَتَلَتِ الْيَهُودُ يُودُسُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ قَالَ سَمِعْتُ الْفَرَّاءَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ 3: 54 قَالَ إِنَّ عِيسَى غَابَ عَنْ خَالَتِهِ زَمَانًا فَأَتَاهَا فَقَامَ رَأْسُ الْجَالُوتِ الْيَهُودِيُّ فَضَرَبَ عَلَى عِيسَى حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِ دَارِهِ فَكَسَرُوا الباب ودخل رأس جالوت لِيَأْخُذَ عِيسَى فَطَمَسَ اللَّهُ عَيْنَيْهِ عَنْ عِيسَى ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَمْ أَرَهُ وَمَعَهُ سَيْفٌ مَسْلُولٌ فَقَالُوا أَنْتَ عِيسَى وَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَ عِيسَى عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) 4: 157 وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يعقوب القمي عن هارون بن عنترة عن وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ أَتَى عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ صَوَّرَهُمُ اللَّهُ كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى فَقَالُوا لَهُمْ سَحَرْتُمُونَا لَتُبْرِزُنَّ إلينا عِيسَى أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ جَمِيعًا فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْكُمْ نَفْسَهُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنَا عِيسَى وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَةِ عِيسَى فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ وَظَنُّوا أنهم قد قتلوا عيسى فظنت النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى وَرَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أنه سمع وهبا يقول ان عيسى بن مَرْيَمَ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ وَشَقَّ عَلَيْهِ فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ وَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَقَالَ احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ عَشَّاهُمْ وَقَامَ يَخْدِمُهُمْ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَحُ أَيْدِيَهُمْ بِثِيَابِهِ فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ فَقَالَ أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا اللَّيْلَةَ مِمَّا أَصْنَعُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَمَّا مَا صَنَعْتُ بِكُمُ اللَّيْلَةَ مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَغَسَلْتُ أَيْدِيَكُمْ بِيَدِي فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ فَلَا يَتَعَظَّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلْيَبْذُلْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْسَهُ كَمَا بَذَلْتُ نَفْسِي لَكُمْ وَأَمَّا حَاجَتِي الَّتِي استعنتكم عليها فتدعون اللَّهَ وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلِي فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمَّ يَسْتَطِيعُوا دُعَاءً فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً وَاحِدَةً تُعِينُونِي فِيهَا فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مَا لَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَسْمُرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرًا وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَقَالَ يُذْهَبُ بِالرَّاعِي وَتَتَفَرَّقُ الْغَنَمُ وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوَ هَذَا يَنْعَى بِهِ نَفْسَهُ. ثُمَّ قَالَ الْحَقُّ لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ وَلَيَأْكُلَنَّ ثَمْنِي فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ فَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ فَقَالُوا هَذَا مِنْ(2/93)
أَصْحَابِهِ فَجَحَدَ وَقَالَ مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ فَتَرَكُوهُ. ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ دِيكٍ فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ فَقَالَ مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَخَذُوهُ وَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ وَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ وَيَقُولُونَ أَنْتَ كُنْتَ تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتَهِرُ الشَّيْطَانَ وَتُبْرِئُ الْمَجْنُونَ أَفَلَا تُنَجِّي نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْحَبْلِ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْكَ حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ فَمَكَثَ سَبْعًا. ثُمَّ إِنْ أُمَّهُ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ كان المصلوب فجاءهما عيسى فقال على م تَبْكِيَانِ قَالَتَا عَلَيْكَ فَقَالَ إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ شُبِّهَ لَهُمْ فَأْمُرَا الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَلَقَوْهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدَ عَشَرَ وَفَقَدَ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُودَ فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَامٍ يَتْبَعُهُمْ يُقَالُ له يحيى فَقَالَ هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ سَيُصْبِحُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يُحَدِّثُ بِلُغَةِ قَوْمٍ فَلْيُنْذِرْهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا ذكره النصارى مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ وَهِيَ جَالِسَةٌ تَبْكِي عِنْدَ جِذْعِهِ فَأَرَاهَا مَكَانَ الْمَسَامِيرِ مِنْ جَسَدِهِ وَأَخْبَرَهَا أَنَّ رُوحَهُ رُفِعَتْ وَأَنَّ جَسَدَهُ صُلِبَ وَهَذَا بُهْتٌ وَكَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَزِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى خِلَافِ الحق ومقتضى النقل.
وحكى الحافظ بن عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَبِيبٍ فِيمَا بَلَغَهُ أَنَّ مَرْيَمَ سَأَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ بَعْدَ مَا صُلِبَ الْمَصْلُوبُ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ وَهِيَ تَحْسَبُ أَنَّهُ ابْنُهَا أَنْ يُنْزِلَ جَسَدَهُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَدُفِنَ هُنَالِكَ فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى أَلَا تَذْهَبِينَ بِنَا نَزُورُ قَبْرَ الْمَسِيحِ فَذَهَبَتَا فَلَمَّا دَنَتَا مِنَ الْقَبْرِ قَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى أَلَا تَسْتَتِرِينَ فَقَالَتْ وَمِمَّنْ أَسْتَتِرُ فَقَالَتْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ أُمُّ يَحْيَى إِنِّي لَا أَرَى أَحَدًا فَرَجَتْ مَرْيَمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلَ وَكَانَتْ قَدْ بَعُدَ عَهْدُهَا بِهِ فَاسْتَوْقَفَتْ أُمَّ يَحْيَى وَذَهَبَتْ نَحْوَ الْقَبْرِ فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ الْقَبْرِ قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ وَعَرَفَتْهُ يَا مَرْيَمُ أَيْنَ تريدين فقالت أزور قبر المسيح فأسلم عَلَيْهِ وَأَحْدِثُ عَهْدًا بِهِ فَقَالَ يَا مَرْيَمُ إِنَّ هَذَا لَيْسَ الْمَسِيحَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَ الْمَسِيحَ وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَكِنْ هَذَا الْفَتَى الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَيْهِ وَصُلِبَ وَقُتِلَ مَكَانَهُ. وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَهُ قَدْ فَقَدُوهُ فَلَا يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِهِ فَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ كَذَا وَكَذَا فأت غَيْضَةَ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّكِ تَلْقَيْنَ الْمَسِيحَ قَالَ فَرَجَعَتْ إِلَى أُخْتِهَا وَصَعِدَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَتْهَا عَنْ جبرئيل وَمَا قَالَ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْغَيْضَةِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ذَهَبَتْ فَوَجَدَتْ عِيسَى فِي الغيضة فلما رآها أسرع اليها وأكب عَلَيْهَا فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَجَعَلَ يَدْعُو لَهَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ وَقَالَ يَا أُمَّهْ إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقْتُلُونِي وَلَكِنَّ اللَّهَ رَفَعَنِي إِلَيْهِ وَأَذِنَ لِي فِي لِقَائِكَ وَالْمَوْتُ يَأْتِيكِ قَرِيبًا فَاصْبِرِي واذكري الله كثيرا ثُمَّ صَعِدَ عِيسَى فَلَمْ تَلْقَهُ إِلَّا تِلْكَ الْمَرَّةَ حَتَّى مَاتَتْ. قَالَ وَبَلَغَنِي أَنَّ مَرْيَمَ بقيت بعد(2/94)
عِيسَى خَمْسَ سِنِينَ وَمَاتَتْ وَلَهَا ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَانَ عُمَرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ رُفِعَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَفِي الْحَدِيثِ (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَهَا جُرْدًا مُرْدًّا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثلاث وثلاثين) . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَلَى مِيلَادِ عِيسَى وَحُسْنِ يُوسُفَ وَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب أَنَّهُ قَالَ رُفِعَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ أُمَّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ حَدَّثَتْهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِلَّا عَاشَ الَّذِي بَعْدَهُ نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَاشَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ فَلَا أَرَانِي إِلَّا ذَاهِبٌ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ هَذَا لَفْظُ الْفَسَوِيِّ فَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
قَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْعُمْرَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي أُمَّتِهِ كَمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ قَالَ قَالَتْ فَاطِمَةُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عيسى بن مَرْيَمَ مَكَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ جَرِيرٌ وَالثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ أن إِبْرَاهِيمَ مَكَثَ عِيسَى فِي قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ عَامًا وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ أَنَّ عِيسَى عليه السلام رفع عليلة الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ فِي مِثْلِهَا تُوُفِّيَ عَلِيٌّ بَعْدَ طَعْنِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ وَقَدْ رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِيسَى لَمَّا رَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ جَاءَتْهُ سَحَابَةٌ فَدَنَتْ مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَيْهَا وَجَاءَتْهُ مَرْيَمُ فودعته وبكت ثم رفع وهي تنظر وَأَلْقَى إِلَيْهَا عِيسَى بُرْدًا لَهُ وَقَالَ هَذَا عَلَامَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَلْقَى عمامته على شَمْعُونَ وَجَعَلَتْ أُمُّهُ تُوَدِّعُهُ بِأُصْبُعِهَا تُشِيرُ بِهَا إِلَيْهِ حَتَّى غَابَ عَنْهَا وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا لِأَنَّهُ تَوَفَّرَ عَلَيْهَا حُبُّهُ مِنْ جِهَتَيِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ لَا أَبَ لَهُ وَكَانَتْ لَا تُفَارِقُهُ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا. قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
وَكُنْتُ أَرَى كَالْمَوْتِ مِنْ بَيْنِ سَاعَةٍ ... فَكَيفَ بِبَيْنٍ كَانَ مَوْعِدَهُ الْحَشْرُ
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بشر عن مجاهد بن جبير أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ الْمَسِيحَ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّصَارَى بِجَهْلِهِمْ ذَلِكَ تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِهِ بِالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ فَبَلَغَ أَمْرُهُمْ إِلَى صَاحِبِ الرُّومِ وَهُوَ مَلِكُ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِ رَجُلٍ كَانَ يَذْكُرُ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيَفْعَلُ الْعَجَائِبَ فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَهَانُوا أَصْحَابَهُ وَحَبَسُوهُمْ فَبَعَثَ فَجِيءَ بِهِمْ وَفِيهِمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَشَمْعُونُ وَجَمَاعَةٌ فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ الْمَسِيحِ فأخبروه عنه فبايعهم فِي دِينِهِمْ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُمْ وَظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى الْيَهُودِ وَعَلَتْ كَلِمَةُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ وَبَعَثَ إِلَى الْمَصْلُوبِ فَوُضِعَ عَنْ جِذْعِهِ وَجِيءَ بِالْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَعَظَّمَهُ(2/95)
فَمِنْ ثَمَّ عَظَّمَتِ النَّصَارَى الصَّلِيبَ وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الرُّومِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا نَبِيٌّ لَا يُقِرُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْلُوبَ عِيسَى فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ يَعْلَمُ مَا وَقَعَ عَلَى جِهَةِ الْحَقِّ.
الثَّانِي أَنَّ الرُّومَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ الْمَسِيحِ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وذلك في زمان قسطنطين بن قسطن بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. الثَّالِثُ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ ثُمَّ أَلْقَوْهُ بِخَشَبَتِهِ جَعَلُوا مَكَانَهُ مَطْرَحًا لِلْقُمَامَةِ وَالنَّجَاسَةَ وَجِيَفَ الْمَيْتَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ فِي زَمَانِ قُسْطَنْطِينَ الْمَذْكُورِ فَعَمَدَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفِنْدِقَانِيَّةُ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ هُنَالِكَ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ الْمَسِيحُ وَوَجَدُوا الْخَشَبَةَ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا الْمَصْلُوبُ فَذَكَرُوا أَنَّهُ مَا مَسَّهَا ذُو عَاهَةٍ إِلَّا عُوفِيَ فاللَّه أَعْلَمُ أَكَانَ هَذَا أَمْ لَا وَهَلْ كَانَ هَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا أَوْ كَانَ هَذَا مِحْنَةً وَفِتْنَةً لِأُمَّةِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى عَظَّمُوا تِلْكَ الْخَشَبَةَ وَغَشَّوْهَا بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذُوا الصُّلْبَانَاتِ وتبركوا بشكلها وقبلوها. وَأَمَرَتْ أُمُّ الْمَلِكِ هِيلَانَةُ فَأُزِيلَتْ تِلْكَ الْقُمَامَةُ وَبُنِيَ مَكَانَهَا كَنِيسَةٌ هَائِلَةٌ مُزَخْرَفَةٌ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْيَوْمَ بِبَلَدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْقُمَامَةُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عِنْدَهَا وَيُسَمُّونَهَا الْقِيَامَةَ يَعْنُونَ الَّتِي يَقُومُ جَسَدُ الْمَسِيحِ مِنْهَا. ثُمَّ أَمَرَتْ هِيلَانَةُ بِأَنْ تُوضَعَ قُمَامَةُ الْبَلَدِ وَكُنَاسَتُهُ وَقَاذُورَاتُهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي هي قبلة اليهود فلم يزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَكَنَسَ عَنْهَا الْقُمَامَةَ بِرِدَائِهِ وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ وَلَمْ يَضَعِ الْمَسْجِدَ وَرَاءَهَا وَلَكِنْ أَمَامَهَا حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الأقصى.
ذكر صِفَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ 5: 75 قِيلَ سُمِّيَ الْمَسِيحَ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ وَهُوَ سِيَاحَتُهُ فِيهَا وَفِرَارُهُ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِشِدَّةِ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ لَهُ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ ممسوح القدمين. وقال تعالى ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ 57: 27 فيه هدى ونور وَقَالَ تَعَالَى وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ 2: 87 وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعْنَ فِي الْحِجَابِ) وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ جُنَادَةَ عَنْ عُبَادَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (وَهَذَا لفظه ومسلم)(2/96)
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا كَانَ له أجران وإذا آمن بعيسى بن مَرْيَمَ ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهِ فَلَهُ أَجْرَانِ) هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَنْبَأَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حِسْبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ قَالَ وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وأنا أشبه ولده به الحديث) وقد تقدم فِي قِصَّتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عُثْمَانَ بن المغيرة عن مجاهد عن بن عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَأَيْتُ عِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ. فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ. وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سِبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْنَ ظَهَرَانَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ إِلَّا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مَنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعْرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فقالوا المسيح بن مريم. ثم رأيت رجلا وراءه جعد قطط أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الزهري عن سالم بن عُمَرَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَبَيَّنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه صفة المسيحين مسيح المهدي وَمَسِيحِ الضَّلَالَةِ لِيُعْرَفَ هَذَا إِذَا نَزَلَ فَيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَيُعْرَفَ الْآخَرُ فَيَحَذَرَهُ الْمُوَحِّدُونَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (رأى عيسى بن مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ كَلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَقَالَ عيسى آمنت باللَّه وكذبت عينيي) وكذا رواه مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ يَا فُلَانُ أَسَرَقْتَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ فَقَالَ آمَنْتُ باللَّه وَكَذَّبْتُ بَصَرِي) . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَجِيَّةٍ طاهرة حيث قدم حلف ذلك الرجل فظن أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ كَاذِبًا عَلَى مَا شَاهَدَهُ مِنْهُ عِيَانًا فَقَبِلَ عُذْرَهُ وَرَجَعَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ آمَنْتُ باللَّه أَيْ صَدَّقْتُكُ وَكَذَّبْتُ بَصَرِي لِأَجْلِ حَلِفِكَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ(2/97)
الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا. ثُمَّ قَرَأَ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ 21: 104 فَأَوَّلُ الْخَلْقِ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أصحابى فيقال انهم لن يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كما قال العبد الصالح عيسى بن مَرْيَمَ (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) 5: 117- 118 تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عبد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ ورسوله وقال البخاري حدثنا إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي إِذْ جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أصلى فقالت اللَّهمّ لا تمته حَتَّى تُرِيَهِ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صومعة فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ لَهَا ممن قالت مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ قَالَ فُلَانٌ الرَّاعِي قَالُوا أَنَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتِ اللَّهمّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ اللَّهمّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ أُصْبُعَهُ ثم مر بأمة فقاتل اللَّهمّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ. اللَّهمّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَتْ لِمَ ذَلِكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الأمة يقولون سرقت وزنت وَلَمْ تَفْعَلْ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ [1] عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ من حديث عبد الرزاق نحوه. وقال أحمد
__________
[1] هو عمر بن سعد انتهى محمود الامام(2/98)
حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ حَدَّثَنَا قتادة عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعَلَّاتٍ. وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وأمهاتهم شتى. وأنا أولى الناس بعيسى بن مَرْيَمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بين مخصرتين فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُعَطِّلُ الملل حتى يهلك في زمانه كُلُّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْإِبِلُ مَعَ الْأُسْدِ جَمِيعًا وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ يَتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ. ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. ثُمَّ يَتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَسَيَأْتِي بَيَانُ نُزُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فِي كِتَابِ الْمَلَاحِمِ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) 4: 159 وقوله (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ 43: 61 الْآيَةَ) وَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ بِدِمَشْقَ وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ فَيَقُولُ لا بعضكم على بعض أمراء مكرمة اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ لَهُ عِيسَى إِنَّمَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَكَ فَيُصَلِّي خَلْفَهُ. ثُمَّ يَرْكَبُ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي طَلَبِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَيَلْحَقُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ. وَذَكَرْنَا أَنَّهُ قَوِيَ الرَّجَاءُ حِينَ بُنِيَتْ هَذِهِ الْمَنَارَةُ الشَّرْقِيَّةُ بِدِمَشْقَ الَّتِي هِيَ مِنْ حِجَارَةٍ بِيضٍ وَقَدْ بُنِيَتْ أَيْضًا مِنْ أَمْوَالِ النَّصَارَى حِينَ حَرَقُوا الَّتِي هُدِمَتْ وَمَا حَوْلَهَا فَيَنْزِلُ عَلَيْهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِسْلَامَ وَأَنَّهُ يَحُجُّ مِنْ فَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لِثِنْتَيْهِمَا وَيُقِيمُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ فِيمَا قِيلَ فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي آخِرِ تَرْجَمَةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ يُدْفَنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ اخزم الطائي حدثنا أبو قتيبة مسلم بْنُ قُتَيْبَةَ حَدَّثَنِي أَبُو مَوْدُودٍ الْمَدَنِيُّ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الضَّحَّاكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةُ محمد وعيسى بن مريم عليهم السَّلَامُ يُدْفَنُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو مَوْدُودٍ وَقَدْ بقي من الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ كَذَا قَالَ. وَالصَّوَابُ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَدَنِيُّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ عِنْدِي وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ الْفَتْرَةُ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وعن قتادة خمسمائة(2/99)
وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَالْمَشْهُورُ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً بالقمرية لتكون سِتَّمِائَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (ذِكْرُ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ فِيهَا أُمَّةُ عِيسَى عَلَى هَدْيِهِ) حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَمَا فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا وَلَقَدْ مَكَثَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَى سُنَّتِهِ وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ) . وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَإِنْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَصَّى الحواريين بان يدعو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَعَيَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فِي إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنَ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَصْبَحَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ الْمَسِيحُ إِلَيْهِمْ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْإِنْجِيلَ نَقَلَهُ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ لُوقَا وَمَتَّى وَمُرْقُسُ وَيُوحَنَّا وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نُسْخَةٍ وَنُسْخَةٍ وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَنَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُخْرَى وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مِنْهُمُ اثْنَانِ مِمَّنْ أَدْرَكَ الْمَسِيحَ وَرَآهُ وَهُمَا مَتَّى وَيُوحَنَّا ومنهم اثنين من أصحاب أصحابه [1] وَهُمَا مُرْقُسُ وَلُوقَا وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَصَدَّقَهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ضِينَا وَكَانَ مُخْتَفِيًا فِي مَغَارَةٍ دَاخِلَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ قَرِيبًا مِنَ الْكَنِيسَةِ الْمُصَلَّبَةِ خَوْفًا مِنْ بولس الْيَهُودِيِّ وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا مُبْغِضًا لِلْمَسِيحِ وَلَمَّا جَاءَ بِهِ. وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَ ابْنِ أَخِيهِ حِينَ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ ثُمَّ رَجَمَهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمَّا سَمِعَ بُولِصُ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ دِمَشْقَ جَهَّزَ بِغَالَهُ وَخَرَجَ لِيَقْتُلَهُ فَتَلَقَّاهُ عِنْدَ كَوْكَبَا فَلَمَّا وَاجَهَ أَصْحَابَ الْمَسِيحِ جَاءَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَضَرَبَ وَجْهَهُ بِطَرَفِ جناحه فأعماه. فلما رأى ذلك وقع
__________
[1] من هنا الى قوله (كتاب اخبار الماضين إلخ) لم يوجد بالنسختين الموجودتين بالمكتبة المصرية ووجد بها بدله هذه العبارة. وهي وقد أنشد الشيخ شهاب الدين القرافي في كتابه الرد على النصارى لبعضهم يرد عليهم في قولهم بصلب المسيح وتسليمهم ذلك لليهود مع دعواهم أنه ابن الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
عجبا للمسيح بين النصارى ... وإلى الله ولدا نسبوه
أسلموه الى اليهود وقالوا ... إنهم بعد قتله صلبوه
فان كان ما تقولون حقا ... وصحيحا فأين كان أبوه
حين خلى ابنه رهين الأعادي ... أتراهم أرضوه أم أغضبوه
فلئن كان راضيا بأذاهم ... فأعذر وهم لانهم وافقوه
ولئن كان ساخطا فاتركوه ... واعبدوهم لانهم غلبوه(2/100)
فِي نَفْسِهِ تَصْدِيقُ الْمَسِيحِ فَجَاءَ إِلَيْهِ وَاعْتَذَرَ مِمَّا صَنَعَ وَآمَنَ بِهِ فَقَبِلَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَيْنَيْهِ لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَى ضِينَا عِنْدَكَ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ السُّوقِ الْمُسْتَطِيلِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَهُوَ يَدْعُو لَكَ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَدَعَا فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ وَحَسُنَ إِيمَانُ بُولِصَ بِالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَبُنِيَتْ لَهُ كَنِيسَةٌ بِاسْمِهِ فَهِيَ كَنِيسَةُ بُولِصَ الْمَشْهُورَةُ بِدِمَشْقَ مِنْ زَمَنِ فَتَحَهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى خَرِبَتْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي سَنُورِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
فَصْلُ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) 61: 14 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ قَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ اللَّهُ وَقَالَ آخَرُونَ هو اين اللَّهِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ كُفْرٌ عَظِيمٌ كَمَا قَالَ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) 19: 37 وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ الْأَنَاجِيلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ مَا بَيْنَ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَتَحْرِيفٍ وَتَبْدِيلٍ ثُمَّ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ حَدَثَتْ فِيهِ الطامة العظمى والبلية الكبرى. اختلف البتاركة الْأَرْبَعَةُ وَجَمِيعُ الْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاوِسَةُ وَالشَّمَامِسَةُ وَالرَّهَابِينُ فِي الْمَسِيحِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ وَاجْتَمَعُوا وَتَحَاكَمُوا إِلَى الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ بَانِي القسطنطينة وَهُمُ الْمَجْمَعُ الْأَوَّلُ فَصَارَ الْمَلِكُ إِلَى قَوْلِ أَكْثَرِ فِرْقَةٍ اتَّفَقَتْ عَلَى قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ فَسُمُّوا الْمَلَائِكَةَ وَدَحَضَ مَنْ عَدَاهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ وَتَفَرَّدَتِ الْفِرْقَةُ التَّابِعَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَدْيُوسَ الَّذِي ثَبَتَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ فَسَكَنُوا الْبَرَارِيَ وَالْبَوَادِيَ وَبَنَوُا الصَّوَامِعَ وَالدِّيَارَاتِ وَالْقَلَّايَاتِ وَقَنِعُوا بِالْعَيْشِ الزَّهِيدِ وَلَمْ يُخَالِطُوا أُولَئِكَ الْمِلَلَ وَالنِّحَلَ وَبَنَتِ الْمَلَائِكَةُ الْكَنَائِسَ الْهَائِلَةَ عَمَدُوا إِلَى مَا كَانَ مِنْ بِنَاءِ الْيُونَانِ فَحَوَّلُوا مَحَارِيبَهَا إِلَى الشَّرْقِ وَقَدْ كَانَتْ إِلَى الشَّمَالِ إِلَى الْجَدْيِ
بَيَانُ بِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ
وَبَنَى الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ بَيْتَ لَحْمٍ عَلَى مَحَلِّ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ وَبِنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْقُمَامَةَ يَعْنِي عَلَى قَبْرِ الْمَصْلُوبِ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ لِلْيَهُودِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ. وَقَدْ كَفَرَتْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَوَضَعُوا الْقَوَانِينَ وَالْأَحْكَامَ. وَمِنْهَا مُخَالِفٌ لِلْعَتِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّوْرَاةُ وَأَحَلُّوا أَشْيَاءَ هِيَ حَرَامٌ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَصَلَّوْا إِلَى الشَّرْقِ وَلَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ صَلَّى إِلَّا إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى. وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى إِلَيْهَا بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ. وَصَوَّرُوا الْكَنَائِسَ وَلَمْ تَكُنْ مُصَوَّرَةً قَبْلَ ذَلِكَ وَوَضَعُوا الْعَقِيدَةَ الَّتِي يحفظها أطفالهم ونساؤهم(2/101)
وَرِجَالُهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالْأَمَانَةِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَكْبَرُ الْكُفْرِ وَالْخِيَانَةِ وَجَمِيعُ الْمَلَكِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ أَصْحَابُ نَسْطُورَسَ أَهْلِ الْمَجْمَعِ الثَّانِي وَالْيَعْقُوبِيَّةِ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ الْبَرَادِعِيِّ أَصْحَابِ الْمَجْمَعِ الثَّالِثِ يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَفْسِيرِهَا وَهَا أَنَا أَحْكِيهَا وَحَاكِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِأَبُثَّ عَلَى مَا فِيهَا رَكَّةَ الْأَلْفَاظِ وَكَثْرَةَ الْكُفْرِ وَالْخَبَالِ الْمُفْضِي بِصَاحِبِهِ الى النار ذات الشواظ فيقولون نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات وَالْأَرْضِ كُلِّ مَا يُرَى وَكُلِّ مَا لَا يرى وبرب واحد يسوع المسيح بن اللَّهِ الْوَحِيدِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْأَبِ قَبْلَ الدُّهُورِ نُورٍ مِنْ نُورٍ إِلَهٍ حَقٍّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ مَوْلُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ الَّذِي كَانَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ الْبَشَرَ وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَمِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ وَتَأَنَّسَ وَصُلِبِ عَلَى عَهْدِ مَلَاطِسَ النَّبَطِيِّ وَتَأَلَّمَ وَقُبِرَ وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَمَا فِي الْكُتُبِ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الْأَبِ وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي بِجَسَدِهِ لِيُدَبِّرَ الاحياء والأموات الّذي لافناء لِمُلْكِهِ وَرُوحُ الْقُدُسِ الرَّبُّ الْمُحْيِي الْمُنْبَثِقُ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ وَالِابْنُ مَسْجُودٌ لَهُ وَبِمَجْدِ النَّاطِقِ فِي الْأَنْبِيَاءِ كَنِسْبَةٍ وَاحِدَةٍ جَامِعَةٍ مُقَدَّسَةٍ يَهُولِيَّةٍ وَاعْتَرَفَ بِمَعْمُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا وَأَنَّهُ حَيُّ قِيَامَةَ الْمَوْتَى وَحَيَاةَ الدَّهْرِ الْعَتِيدِ كَوْنُهُ آمِينَ.
كِتَابُ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى آخَرِ زَمَنِ الْفَتْرَةِ سِوَى أَيَّامِ الْعَرَبِ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ فَإِنَّا سَنُورِدُ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً 20: 99. وَقَالَ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) 12: 3.
خبر ذي القرنين
قال الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً. قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا.
قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى(2/102)
بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً. قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا 18: 83- 98. ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَا الْقَرْنَيْنِ هَذَا وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالْعَدْلِ وَأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَمَلَكَ الْأَقَالِيمَ وَقَهَرَ أَهْلَهَا وَسَارَ فِيهِمْ بِالْمَعْدَلَةِ التَّامَّةِ وَالسُّلْطَانِ الْمُؤَيَّدِ الْمُظَفَّرِ الْمَنْصُورِ الْقَاهِرِ الْمُقْسِطِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ وَقِيلَ كان نبيا. وقيل رَسُولًا. وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَإِنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ مَهْ مَا كَفَاكُمْ أَنْ تَتَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَسَمَّيْتُمْ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الله ابن عَمْرٍو قَالَ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ نَبِيًّا. وَرَوَى الحافظ بن عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نصر عن أبى إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن أبى ذؤيب حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذؤيب عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لا أَدْرِي أَتُبَّعٌ كَانَ لَعِينًا أَمْ لَا وَلَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا وَلَا أَدْرِي ذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا) . وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ السَّاجِ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكًا صَالِحًا رَضِيَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَكَانَ مَنْصُورًا وَكَانَ الْخَضِرُ وَزِيرَهُ. وَذَكَرَ أَنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَى مُقَدَّمَةِ جَيْشِهِ وَكَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاوِرِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَلِكِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ فِي إِصْلَاحِ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَطَافَ مَعَهُ بِالْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ [1] وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِهِ تَلَقَّاهُ وَدَعَا لَهُ وَرَضَّاهُ وَأَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ السَّحَابَ يَحْمِلُهُ حَيْثُ أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ له في رأسه شبه القرنين. قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ لَهُ قَرْنَانِ مِنْ نُحَاسٍ فِي رَأْسِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مَلَكَ فَارِسَ وَالرُّومَ وَقِيلَ لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَيِ الشَّمْسِ غَرْبًا وَشَرْقًا. وَمَلَكَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَهَذَا أَشْبَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ [2] الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كانت له غديرتان من شعر يطافيهما [3] فسمى ذا القرنين وقال إسحاق ابن بِشْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ سمعان عن عمر بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ دَعَا مَلِكًا جَبَّارًا إِلَى اللَّهِ فَضَرَبَهُ عَلَى قَرْنِهِ فَكَسَرَهُ وَرَضَّهُ. ثُمَّ دَعَاهُ فَدَقَّ قَرْنَهُ الثَّانِيَ فَكَسَرَهُ فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ وَرَوَى الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أنه سئل عن ذي القرنين فقال
__________
[1] من هنا الى قوله قال وهب بن منبه إلخ لم يوجد بالنسختين المصريتين
[2] من هنا الى قوله وروى الثوري لم يوجد بهما أيضا
[3] كذا بالأصول(2/103)
كَانَ عَبْدًا نَاصَحَ اللَّهَ فَنَاصَحَهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الْآخَرِ فَمَاتَ فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. وَهَكَذَا رواه شعبة الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِهِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا رَسُولًا وَلَا مَلَكًا وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الضَّحَّاكِ بْنِ مَعْدٍ وَقِيلَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِنانَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَزْدِ بن عون [1] بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ قَحْطَانَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حِمْيَرٍ وَأُمُّهُ رُومِيَّةٌ وَأَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْفَيْلَسُوفِ لِعَقْلِهِ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الْحِمْيَرِيِّينَ [2] فِي ذَلِكَ شعرا يفتخر بِكَوْنِهِ أَحَدَ أَجْدَادِهِ فَقَالَ:
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ جَدِّيَ [3] مُسْلِمًا ... مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ وتحشد
[4]
__________
[1] كذا في العيني على البخاري بالعين المهملة والنون وهو خطأ والصواب غوث بالغين المعجمة والثاء المثلثة كما في أنساب السمعاني.
[2] قوله بعض الحميريين هو تبع على ما في العرائس للثعلبي وهو تبع أبو كرب كما في التيجان في ملوك حمير والشعر من قصيدة هي أحد وخمسون بيتا
[3] قوله جده جدي كذا في التيجان ورواه صاحب العرائس في قصص الأنبياء والفخر الرازيّ في تفسيره قبلي.
[4] قوله ملكا تدين له الملوك وتحشد كذا بالأصل بالشين المعجمة بعد الحاء المهملة ورواية العرائس وتسجد بالجيم بعد السين المهملة وعلى كلتا الروايتين يكون في البيت عيب من عيوب القوافي وهو الأكفاء وهو اختلاف القوافي بالضم والكسر فان الشعر مكسور الروي وهو الدال قال الشاعر في أول القصيدة
نحن الملوك ذوو العلا والسؤدد ... نحن الحماة بنو الهمام الأمجد
سميت أسعد والسعود طوالع ... لا بد أن ترقى النحوس لأسعد
أفبعد وائل والمقعقع بعده ... ترجو الخلود وأنت غير مخلد
إلى آخره وأنشد الفخر الرازيّ في تفسيره هذا الشعر هكذا
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ... ملكا علا في الأرض غير مفند
بلغ المشارق والمغارب يبتغى ... أسباب ملك من كريم سيد
وعليه فلا إكفاء واقتصر في العرائس على الأبيات الثلاثة وترك البيت الأخير هنا وأنشدها كما أنشدها المؤرخ هنا غير أنه قال قبلي بدل جدي وقال تسجد بدل تحشد كما علمت والشعر في التيجان هكذا وليس فيه البيت الأخير أيضا مع ذكره القصيدة كلها قال الشاعر في مكة(2/104)
بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي ... أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدِ
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ
مِنْ بَعْدِهِ بَلْقِيسُ كَانَتْ عَمَّتِي ... مَلَكَتْهُمُ حَتَّى أَتَاهَا الهدهد
قال السهيليّ وقيل كان اسمه مرزبان بن مرزبة. ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ [1] وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أن اسمه الصعب بن ذي مرائد وَهُوَ أَوَّلُ التَّبَابِعَةِ وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ لِإِبْرَاهِيمَ في بئر السبع. وقيل إنه أفريدون ابن أَسْفِيَانَ الَّذِي قَتَلَ الضَّحَّاكَ وَفِي خُطْبَةِ قَسٍّ يا معشر اياد بن الصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلَكَ الْخَافِقَيْنِ وَأَذَلَّ الثَّقَلَيْنِ وعمر الفين. ثم كان ذلك كَلَحْظَةِ عَيْنٍ ثُمَّ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِلْأَعْشَى.
وَالصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَصْبَحَ ثَاوِيًا ... بِالْحِنْوِ فِي جدث اشم مقيما
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاكُولَا أَنَّ اسْمَهُ هَرْمَسُ [2] ويقال هرويس بن قيطون بن رومي بن لنطى ابن كشلوخين بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ إِسْكَنْدَرُ هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَأَبُوهُ أَوَّلُ الْقَيَاصِرَةِ وَكَانَ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَأَمَّا ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بْنِ مَيْطُونَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ لَنْطِيِّ بْنِ يونان بن يافث ابن يونة بن شرخون بن رومة بن شرفط بْنِ تَوْفِيلَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ الْأَصْفَرِ بْنِ يقز بن العيص بن إسحاق ابن إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ كَذَا نَسَبَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ. الْمَقْدُونِيُّ الْيُونَانِيُّ الْمِصْرِيُّ بَانِي إِسْكَنْدَرِيَّةَ الَّذِي يُؤَرِّخُ بِأَيَّامِهِ الرُّومُ وَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْأَوَّلِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ كَانَ هَذَا قَبْلَ الْمَسِيحِ بنحو من ثلاثمائة سنة وكان ارطاطاليس الْفَيْلَسُوفُ وَزِيرَهُ وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ دَارَا بْنَ دارا وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.
__________
[ () ]
وأقام ذو القرنين فيها حجة ... خوفا يطوف على اللظى المتوقد
إذ كان ذو القرنين جدي مسلما ... فمتى تراه له المقاول تسجد
طاف المشارق والمغارب عالما ... يبغى علوما من كريم مرشد
ورأى مسير الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وثأط حرمد
فلقد أذل الصعب صعب زمانه ... وأناط قوة عزه بالفرقد
ثم قال في التيجان قال معاوية يا ابن عباس فما الخلب والثأط والحرمد قال الخلب الحماة والثأط ما تحتها من الطين والحرمد ما تحته من الحصى والحجر.
[1] قوله ذكره ابن هشام أي في السيرة وقوله وذكر في موضع آخر أي في التيجان في ملوك حمير روايته عن وهب بن منبه انتهى محمود الامام.
[2] والّذي في العرائس عن أكثر أهل السير هو الإسكندر بن فيلبش بن بطريوس بن هرمس ابن هردوس بن منطون بن رومي بن لطين بن يونان بن يافث. انتهى محمود الامام(2/105)
وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هو الّذي كان ارطاطاليس وَزِيرَهُ فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَطَأٌ كَبِيرٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ كَثِيرٌ فَإِنَّ الْأَوَّلَ كَانَ عَبْدًا مُؤْمِنًا صَالِحًا وَمَلِكًا عَادِلًا وَكَانَ وَزِيرُهُ الْخَضِرَ وَقَدْ كَانَ نَبِيًّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَانَ مُشْرِكًا وَكَانَ وَزِيرُهُ فَيْلَسُوفًا وَقَدْ كَانَ بَيْنَ زَمَانَيْهِمَا أَزْيَدُ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا لَا يَسْتَوِيَانِ وَلَا يَشْتَبِهَانِ إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ لَا يعرف حقائق الأمور فقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ 18: 83 كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا الْيَهُودَ عَنْ شَيْءٍ يَمْتَحِنُونَ بِهِ عِلْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُمْ سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ وَعَنْ فِتْيَةٍ خَرَجُوا لَا يُدْرَى مَا فَعَلُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَلِهَذَا قال (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) 18: 83 أي من خبره وشأنه (ذِكْراً) 18: 83 أَيْ خَبَرًا نَافِعًا كَافِيًا فِي تَعْرِيفِ أَمَرِهِ وَشَرْحِ حَالِهِ فَقَالَ (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ من كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) 18: 84 أَيْ وَسَّعْنَا مَمْلَكَتَهُ فِي الْبِلَادِ وَأَعْطَيْنَاهُ مِنْ آلَاتِ الْمَمْلَكَةِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَقَاصِدِ الْجَسِيمَةِ. قَالَ قُتَيْبَةُ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكٍ عن حبيب بن حماد قَالَ كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ كَيْفَ بَلَغَ المشرق والمغرب فقال له (سُخِّرَ لَهُ السَّحَابُ وَمُدَّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ وَبُسِطَ لَهُ فِي النُّورِ) وَقَالَ أَزِيدُكَ فَسَكَتَ الرَّجُلُ وَسَكَتَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَادِعِيِّ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: مَلَكَ الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ. سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَذُو الْقَرْنَيْنِ وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حُلْوَانَ. وَرَجُلٌ آخَرُ. فَقِيلَ لَهُ الْخَضِرُ قَالَ لَا وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ كُلَّهَا أَرْبَعَةٌ (مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ وَذُو الْقَرْنَيْنِ وَنُمْرُودُ وَبُخْتُ نَصَّرَ) وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ سَوَاءً وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ (كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلَكَ بَعْدَ النَّمْرُودِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا صَالِحًا أَتَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْأَجَلِ وَنَصَرَهُ حَتَّى قَهَرَ الْبِلَادَ وَاحْتَوَى عَلَى الْأَمْوَالِ وَفَتَحَ الْمَدَائِنَ وَقَتَلَ الرِّجَالَ وَجَالَ فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ فَسَارَ حَتَّى أَتَى المشرق والمغرب فذلك قول الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) 18: 83 أَيْ خَبَرًا (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ من كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) 18: 84 أَيْ عِلْمًا بِطَلَبِ أَسْبَابِ الْمَنَازِلِ قَالَ إِسْحَاقُ وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُ كَانَ يَفْتَحُ الْمَدَائِنَ وَيَجْمَعُ الْكُنُوزَ فَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا قَتَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَعُبَيْدُ بْنُ يَعْلَى وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) 18: 84 يَعْنِي عِلْمًا وَقَالَ قَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ مَعَالِمُ الْأَرْضِ وَمَنَازِلُهَا وَأَعْلَامُهَا وَآثَارُهَا وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يَعْنِي تَعْلِيمَ الْأَلْسِنَةِ كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا حَدَّثَهُمْ بِلُغَتِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ سَبَبٍ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى نَيْلِ مَقْصُودِهِ فِي الْمَمْلَكَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَمْتِعَةِ(2/106)
وَالْمَطَاعِمِ وَالزَّادِ مَا يَكْفِيهِ وَيُعِينُهُ عَلَى أَهْلِ الْإِقْلِيمِ الْآخَرِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ مَكَثَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ يَجُوبُ الْأَرْضَ وَيَدْعُو أَهْلَهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ حَدِيثًا مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) 18: 84 مُطَوَّلًا جِدًّا وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فَلِهَذَا لَمْ نَكْتُبْهُ لِسُقُوطِهِ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ (فَأَتْبَعَ سَبَباً) 18: 85 أَيْ طَرِيقًا (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) 18: 86 يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُجَاوِزَهُ وَوَقَفَ عَلَى حَافَّةِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أُوقْيَانُوسُ الَّذِي فِيهِ الْجَزَائِرُ الْمُسَمَّاةُ بِالْخَالِدَاتِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْأَطْوَالِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ وَالثَّانِي مِنْ سَاحِلِ هَذَا الْبَحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَعِنْدَهُ شَاهَدَ مَغِيبَ الشَّمْسِ فِيمَا رَآهُ بِالنِّسْبَةِ الى مشاهدته (تغرب في عين حمئة) وَالْمُرَادُ بِهَا الْبَحْرُ فِي نَظَرِهِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَحْرِ أَوْ عَلَى سَاحِلِهِ يَرَى الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَطْلُعُ مِنَ الْبَحْرِ وَتَغْرُبُ فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ (وَجَدَها) 18: 86 أَيْ فِي نَظَرِهِ وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا هِيَ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أَيْ ذَاتِ حَمْأَةٍ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَهُوَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ. وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ حَامِيَةٍ. فَقِيلَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ. وَقِيلَ مِنَ الْحَرَارَةِ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْمُقَابَلَةِ لِوَهَجِ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَشُعَاعِهَا. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنِي مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ غَابَتْ فَقَالَ (فِي نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ لَوْلَا مَا يَزَعُهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَأَحْرَقَتْ مَا عَلَى الْأَرْضِ) فِيهِ غَرَابَةٌ وَفِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ وَرَفْعُهُ فِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْقُصَّاصِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ جَاوَزَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَصَارَ يَمْشِي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة فقد اخطئوا بعد النُّجْعَةَ. وَقَالَ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ.
بَيَانُ طَلَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَيْنَ الْحَيَاةِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ عَنْ أَبِيهِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ خَبَرًا مُطَوَّلًا جِدًّا فِيهِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ لَهُ صَاحِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُ رَنَاقِيلُ فَسَأَلَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ هَلْ تَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَيْنًا يُقَالُ لَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ فَذَكَرَ لَهُ صِفَةَ مَكَانِهَا فَذَهَبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي طَلَبِهَا وَجَعَلَ الْخَضِرَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ فَانْتَهَى الْخَضِرُ إِلَيْهَا فِي وَادٍ فِي أَرْضِ الظُّلُمَاتِ فَشَرِبَ مِنْهَا وَلَمْ يَهْتَدِ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَيْهَا. وَذَكَرَ اجْتِمَاعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَصْرٍ هُنَاكَ وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ حَجَرًا فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى جَيْشِهِ سَأَلَ الْعُلَمَاءَ عَنْهُ فَوَضَعُوهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَجَعَلُوا فِي مُقَابَلَتِهِ أَلْفَ حَجَرٍ مِثْلَهُ فَوَزَنَهَا حَتَّى سَأَلَ الْخَضِرَ فَوَضَعَ قُبَالَهُ حَجَرًا وَجَعْلَ عَلَيْهِ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَجَحَ بِهِ. وَقَالَ هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ لَا يَشْبَعُ حَتَّى يُوَارَى(2/107)
بِالتُّرَابِ فَسَجَدَ لَهُ الْعُلَمَاءُ تَكْرِيمًا لَهُ وَإِعْظَامًا والله أعلم ثم ذكر تعالى أنه حكم فِي أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ (قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) 18: 86- 87 أَيْ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَدَأَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَزْجَرُ عِنْدَ الْكَافِرِ (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ من أَمْرِنا يُسْراً) 18: 88 فَبَدَأَ بِالْأَهَمِّ وَهُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً 18: 89 أَيْ سَلَكَ طَرِيقًا رَاجِعًا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى المشرق فيقال إنه رجع في ثنتى عشر سَنَةً (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) 18: 90 أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بُيُوتٌ وَلَا أَكْنَانٌ يَسْتَتِرُونَ بِهَا مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ كَانُوا يَأْوُونَ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ إِلَى أَسْرَابٍ قَدِ اتَّخَذُوهَا فِي الْأَرْضِ شِبْهِ الْقُبُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً 18: 91 أَيْ وَنَحْنُ نَعْلَمُ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَنَحْفَظُهُ وَنَكْلَؤُهُ بِحِرَاسَتِنَا فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ مَغَارِبِ الْأَرْضِ إِلَى مَشَارِقِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا فَلَمَّا سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِقُدُومِهِ تَلَقَّاهُ فَلَمَّا اجْتَمَعَا دَعَا لَهُ الْخَلِيلُ وَوَصَّاهُ بِوَصَايَا وَيُقَالُ إِنَّهُ جِيءَ بِفَرَسٍ لِيَرْكَبَهَا فَقَالَ لَا أَرْكَبُ فِي بَلَدٍ فِيهِ الْخَلِيلُ فَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ السَّحَابَ وَبَشَّرَهُ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ فَكَانَتْ تَحْمِلُهُ إِذَا أراد. وقوله تَعَالَى ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا 18: 92- 93 يعنى غشما. يقال إِنَّهُمْ هُمُ التُّرْكُ أَبْنَاءُ عَمِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ قَدْ تَعَدَّوْا عَلَيْهِمْ وَأَفْسَدُوا فِي بِلَادِهِمْ وَقَطَعُوا السُّبُلَ عَلَيْهِمْ وَبَذَلُوا لَهُ حِمْلًا وَهُوَ الْخَرَاجُ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ حَاجِزًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ فَامْتَنَعَ مِنْ أَخْذِ الْخَرَاجِ اكْتِفَاءً بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ (قَالَ مَا مكنى فيه ربى خير) ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ رِجَالًا وَآلَاتٍ لِيَبْنِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًّا وَهُوَ الرَّدْمُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ بَيْنِهِمَا وَبَقِيَّةُ ذَلِكَ بِحَارٌ مُغْرِقَةٌ وَجِبَالٌ شَاهِقَةٌ فَبَنَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنَ الْحَدِيدِ وَالْقِطْرِ وَهُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ. وَقِيلَ الرَّصَاصُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَجَعَلَ بَدَلَ اللَّبِنِ حَدِيدًا وَبَدَلَ الطِّينِ نُحَاسًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) 18: 97 أَيْ يَعْلُوَا عَلَيْهِ بِسَلَالِمَ وَلَا غَيْرِهَا (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) 18: 97 أي بمعاول ولا فؤس وَلَا غَيْرِهَا فَقَابَلَ الْأَسْهَلَ بِالْأَسْهَلِ وَالْأَشَدَّ بِالْأَشَدِّ (قال هذا رَحْمَةٌ من رَبِّي) 18: 98 أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ وُجُودَهُ لِيَكُونَ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ أَنْ يَمْنَعَ بِسَبَبِهِ عُدْوَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَحِلَّةِ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) 18: 98 أَيِ الْوَقْتُ الَّذِي قَدَّرَ خُرُوجَهُمْ عَلَى النَّاسِ في آخر الزمان (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) 18: 98 أَيْ مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ هَذَا وَلِهَذَا قَالَ (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) 18: 98 كَمَا قَالَ تَعَالَى حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ 21: 96- 97 الآية وَلِذَا قَالَ هَاهُنَا (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ) 18: 99 يَعْنِي يَوْمَ فَتْحِ السَّدِّ عَلَى الصَّحِيحِ (وَنُفِخَ في(2/108)
الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) 18: 99 وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فِي التَّفْسِيرِ وَسَنُورِدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَهِدَايَتِهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنِ الثَّوْرِيِّ بَلَغَنَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَافَحَ ذُو الْقَرْنَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى أُمَّهُ إِذَا هُوَ مَاتَ أَنْ تَصْنَعَ طَعَامًا وَتَجْمَعَ نِسَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَتَأْذَنَ لَهُنَّ فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَتْ ثَكْلَى فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمَّا فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمْ تَضَعْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ يَدَهَا فِيهِ فَقَالَتْ لَهُنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ كُلُّكُنَّ ثَكْلَى فَقُلْنَ أَيْ وَاللَّهِ مَا مِنَّا إِلَّا مَنْ أُثْكِلَتْ فَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِأُمِّهِ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بن بشر عن عبد الله بن زياد عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصِيَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ وموعظة أُمَّهُ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً طَوِيلَةً فِيهَا حِكَمٌ وَأُمُورٌ نَافِعَةٌ وَأَنَّهُ مَاتَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَهَذَا غَرِيبٌ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَبَلَغَنِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ عَاشَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ كَانَ عُمْرُهُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَ بَعْدَ دَاوُدَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ بَعْدَ آدَمَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَمِائَةٍ وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَكَانَ مُلْكُهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى إِسْكَنْدَرَ الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ وَقَدْ خَلَطَ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ وَآخِرِهَا بَيْنَهُمَا وَالصَّوَابُ التَّفْرِقَةُ كَمَا ذَكَرْنَا اقْتِدَاءً بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمِمَّنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا الْإِمَامُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ رَاوِي السِّيرَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْكَارًا بَلِيغًا وَرَدَّ قَوْلَهُ رَدًّا شَنِيعًا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا جَيِّدًا كَمَا قَدَّمْنَا قَالَ وَلَعَلَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ تَسَمَّوْا بِذِي الْقَرْنَيْنِ تَشَبُّهًا بِالْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
ذِكْرُ أُمَّتَيْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
وَصِفَاتِهِمْ وَمَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصِفَةِ السَّدِّ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ فَيَقُولُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ 22: 2 قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُمْ وَاحِدًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ فِيكُمْ أُمَّتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ أَيْ غَلَبَتَاهُ كَثْرَةً وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَضْعَافُ النَّاسِ مِرَارًا عَدِيدَةً. ثُمَّ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ لِأَنَّ(2/109)
اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لِعَبْدِهِ نُوحٍ فِي دُعَائِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) 71: 26 وقال تعالى فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ 29: 15 وقال (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) 37: 77 وتقدم في الحديث المروي في المسند والسنن أَنَّ نُوحًا وُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ فَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ وَهُمْ مَغْلُ الْمَغُولِ وَهُمْ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَكْثَرُ فَسَادًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَنِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِمْ كَنِسْبَةِ هَؤُلَاءِ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ التُّرْكَ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ حِينَ بَنَى ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ وَأَلْجَأَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كَفَسَادِهِمْ فَتُرِكُوا مِنْ وَرَائِهِ فَلِهَذَا قِيلَ لَهُمُ التُّرْكُ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ خُلِقُوا مِنْ نُطْفَةِ آدَمَ حِينَ احْتَلَمَ فَاخْتَلَطَتْ بِتُرَابٍ فَخُلِقُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حَوَّاءَ فَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَضَعَّفُوهُ وَهُوَ جَدِيرٌ بِذَلِكَ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ عَلَى أَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَطْوَالٍ مُتَبَايِنَةٍ جِدًّا. فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ غَايَةٌ فِي الْقِصَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَرِشُ أُذُنًا مِنْ أُذُنَيْهِ وَيَتَغَطَّى بِالْأُخْرَى فَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ بِلَا دَلِيلٍ وَرَجْمٌ بِالْغَيْبِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَلَى أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ. وَهَذَا فَيْصَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَرَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَإِنْ صَحَّ فِي خَبَرٍ قُلْنَا بِهِ وَإِلَّا فَلَا نَرُدُّهُ إِذْ يَحْتَمِلُهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ أَيْضًا قَدْ يُرْشِدُ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَلْ قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ إِنْ صَحَّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْأَصْبَهَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَلَوْ أُرْسِلُوا لَأَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ وَلَنْ يَمُوتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا. وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ ثَلَاثَ أُمَمٍ (تَاوِيلَ وَتَارِيسَ وَمَنْسَكَ) . وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَفِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ وَأَمَّا الحديث الّذي ذكره بن جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَامْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ وَأَنَّهُ دَعَا تِلْكَ الْأُمَمَ الَّتِي هُنَاكَ (تَارِيسَ وَتَاوِيلَ وَمَنْسَكَ) فَأَجَابُوهُ فَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ اخْتَلَقَهُ أبو نعيم عمرو بْنُ الصُّبْحِ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ الْكِبَارِ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِوَضْعِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ دَلَّ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ فِدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُمْ فِي النَّارِ وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا 17: 15 فَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا 17: 15 فان كانوا في زمن(2/110)
الَّذِي قَبْلَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَتْهُمْ رُسُلٌ مِنْهُمْ فَقَدْ قَامَتْ عَلَى أُولَئِكَ الْحُجَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا فَهُمْ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ. وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يُمْتَحَنُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ أَبَى دَخَلَ النَّارَ) وَقَدْ أَوْرَدْنَا الحديث بطرقه وألفاظه وكلام الائمة عليه عند قوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) 17: 15 وَقَدْ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِجْمَاعًا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَامْتِحَانُهُمْ لَا يَقْتَضِي نَجَاتَهُمْ وَلَا يُنَافِي الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ وَقَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَأَنْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى قَبُولَ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادَ لَهُ فَهُمْ لَا يُجِيبُونَ الدَّاعِيَ الى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ تَكْذِيبًا لِلْحَقِّ فِي الدُّنْيَا لَوْ بَلَغَهُمْ فِيهَا لِأَنَّ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةَ يَنْقَادُ خَلْقٌ مِمَّنْ كَانَ مُكَذِّبًا فِي الدُّنْيَا فَإِيقَاعُ الْإِيمَانِ هُنَاكَ لِمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْأَهْوَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمَا قَالَ تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ 32: 12 وَقَالَ تَعَالَى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا 19: 38 وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَلَمْ يُجِيبُوا فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَلْ مَوْضُوعٌ وضعه عمرو بْنُ الصُّبْحِ.
وَأَمَّا السَّدُّ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ بَنَاهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَسَاوَى بِهِ الْجِبَالَ الصُّمَّ الشَّامِخَاتِ الطِّوَالَ فَلَا يُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَجَلُّ مِنْهُ وَلَا أَنْفَعُ لِلْخَلْقِ مِنْهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ السَّدَّ قَالَ وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ قَالَ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ فَقَالَ رَأَيْتَهُ هَكَذَا. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ وَلَمْ أَرَهُ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ مُتَّصِلٍ أَرْتَضِيهِ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ مُرْسَلًا فَقَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَأَيْتُ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَالَ انْعَتْهُ لِي قَالَ كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ قَالَ قَدْ رَأَيْتَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَاثِقَ بَعَثَ رُسُلًا مِنْ جِهَتِهِ وَكَتَبَ لَهُمْ كُتُبًا إِلَى الْمُلُوكِ يُوصِلُونَهُمْ من بلاد إلى بلاد حتى ينهوا إِلَى السَّدِّ فَيَكْشِفُوا عَنْ خَبَرِهِ وَيَنْظُرُوا كَيْفَ بناه ذو القرنين على أَيِّ صِفَةٍ فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا عَنْ صِفَتِهِ وَأَنَّ فِيهِ بَابًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ أَقْفَالٌ وَأَنَّهُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ شَاهِقٌ مُنِيفٌ جِدًّا وَأَنَّ بَقِيَّةَ اللَّبِنِ الْحَدِيدِ وَالْآلَاتِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَزَالُ هُنَاكَ حَرَسٌ لِتِلْكَ الْمُلُوكِ الْمُتَاخِمَةِ لِتِلْكَ الْبِلَادِ وَمَحَلَّتُهُ فِي شَرْقِيِّ الْأَرْضِ فِي جِهَةِ الشَّمَالِ فِي زَاوِيَةِ الْأَرْضِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ وَيُقَالُ إِنَّ بِلَادَهُمْ مُتَّسِعَةٌ جِدًّا وَإِنَّهُمْ يَقْتَاتُونَ بِأَصْنَافٍ مِنَ الْمَعَايِشِ مِنْ حِرَاثَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَاصْطِيَادٍ مِنَ الْبَرِّ وَمِنَ الْبَحْرِ وَهُمْ أُمَمٌ وَخَلْقٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً 18: 97 وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/111)
مِنْ نَوْمٍ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ تِسْعِينَ) قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ. وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ) . فَالْجَوَابُ أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ أَبْوَابِ الشَّرِّ وَالْفِتَنِ وَأَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ مَحْضَةٌ وَضَرْبُ مَثَلٍ فَلَا إِشْكَالَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) 18: 97 أَيْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِأَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ خَبَرٍ مَاضٍ فَلَا يَنْفِي وُقُوعَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَدَرًا وَتَسْلِيطَهُمْ عَلَيْهِ بِالتَّدْرِيجِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَتِمَّ الْأَجَلُ وينقضي الأمر الْمَقْدُورُ فَيَخْرُجُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ 21: 96 وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ أَشْكَلُ مِنْ هَذَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَائِلًا حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كهيئة يوم تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه وتتحصن الناس فِي حُصُونِهِمْ فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا كَهَيْئَةِ الدَّمِ فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لتسمن وتشكر شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عن حسن بن موسى عن سفيان عَنْ قَتَادَةَ بِهِ وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا أَنَّهُ قال حديث أَبُو رَافِعٍ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شُعَاعَ الشَّمْسِ مِنْ وَرَائِهِ لِرِقَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مَحْفُوظًا وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فقد استرحنا من المؤنة وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ ضيعهم هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ اقْتِرَابِ خُرُوجِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) 18: 97 أَيْ نَافِذًا مِنْهُ فَلَا يَنْفِي أَنْ يَلْحَسُوهُ وَلَا يَنْفُذُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عن أبى هريرة فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ أَيْ فُتِحَ فَتْحًا نَافِذًا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(2/112)
قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً. وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً. وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً. سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ. وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً. وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً. قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) 18: 9- 26 كَانَ سَبَبُ نُزُولِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ وَغَيْرُهُ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا إِلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ يَمْتَحِنُونَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْهَا لِيَخْتَبِرُوا مَا يُجِيبُ بِهِ فِيهَا فَقَالُوا سَلُوهُ عَنْ أَقْوَامٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ فَلَا يُدْرَىَ مَا صَنَعُوا وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ وعن الروح فأنزل الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ 17: 85. وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ 18: 83 وَقَالَ هَاهُنَا (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا من آياتِنا عَجَباً) 18: 9 أَيْ لَيْسُوا بِعَجَبٍ عَظِيمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَطْلَعْنَاكَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْعَظِيمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةِ. وَالْكَهْفُ هُوَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ. قال شعيب الجبائي(2/113)
وَاسْمُ كَهْفِهِمْ حَيْزَمُ وَأَمَّا الرَّقِيمُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا أَدْرِي مَا الْمُرَادُ بِهِ. وَقِيلَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَرْقُومُ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَمَا جَرَى لَهُمْ كُتِبَ مِنْ بَعْدِهِمُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ هُوَ اسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ كَهْفُهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُعَيْبٌ الْجَبَائِيُّ وَاسْمُهُ بَنَاجْلُوسُ. وَقِيلَ هُوَ اسْمُ وَادٍ عِنْدَ كَهْفِهِمْ وَقِيلَ اسْمُ قَرْيَةٍ هُنَالِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ وَاسْمُ كَلْبِهِمْ حُمْرَانُ وَاعْتِنَاءُ الْيَهُودِ بِأَمْرِهِمْ وَمَعْرِفَةِ خَبَرِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَمَانَهُمْ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا نَصَارَى. وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ قَوْمَهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا فِي زَمَنِ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ دِقْيَانُوسُ وَكَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْأَكَابِرِ. وَقِيلَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي يَوْمِ عِيدٍ لِقَوْمِهِمْ فَرَأَوْا مَا يَتَعَاطَاهُ قَوْمُهُمْ مِنَ السُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْأَوْثَانِ فَنَظَرُوا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ حِجَابَ الْغَفْلَةِ وَأَلْهَمَهُمْ رُشْدَهُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ فَخَرَجُوا عَنْ دِينِهِمْ وَانْتَمَوْا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَيُقَالُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمَّا أَوْقَعَ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ مَا هَدَاهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ انْحَازَ عَنِ النَّاسِ وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ (الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) فَكُلٌّ مِنْهُمْ سَأَلَ الْآخَرَ عَنْ امره وعن شأنه فأخبره ما هُوَ عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى الِانْحِيَازِ عَنْ قَوْمِهِمْ وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ وَالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنْهُمْ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ حَالَ الْفِتَنِ وَظُهُورِ الشُّرُورِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ 18: 13- 15 أَيْ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَصَارُوا مِنَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا الله 18: 15- 16 أي وإذ فَارَقْتُمُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَتَبَرَّأْتُمْ مِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) 43: 26- 27 وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم إذ قد فارقتم قومكم في دينهم فاعتزلوهم بأبدانكم لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شرا (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ من أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) 18: 16 أَيْ يُسْبِلْ عَلَيْكُمْ سِتْرَهُ وَتَكُونُوا تَحْتَ حِفْظِهِ وَكَنَفِهِ وَيَجْعَلْ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ إِلَى خَيْرٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ (اللَّهمّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ) . ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ الْغَارِ الَّذِي آوَوْا إِلَيْهِ وَأَنَّ بَابَهُ مُوَجَّهٌ إِلَى نَحْوِ الشَّمَالِ وَأَعْمَاقَهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ الْأَمَاكِنِ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ قِبْلِيًّا وَبَابُهُ نَحْوَ الشَّمَالِ فَقَالَ (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ) 18: 17 وَقُرِئَ تَزْوَرُّ (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) 18: 17 فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ يَعْنِي فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَأَشْبَاهِهِ تُشْرِقُ أَوَّلَ طُلُوعِهَا فِي الْغَارِ فِي جَانِبِهِ الْغَرْبِيِّ ثُمَّ تَشْرَعُ فِي(2/114)
الْخُرُوجِ مِنْهُ قَلِيلًا قَلِيلًا وَهُوَ ازْوِرَارُهَا ذَاتَ الْيَمِينِ فَتَرْتَفِعُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَتَتَقَلَّصُ عَنْ بَابِ الْغَارِ ثُمَّ إِذَا تَضَيَّفَتْ لِلْغُرُوبِ تَشْرَعُ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِ الشَّرْقِيَّةِ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى حِينِ الْغُرُوبِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ بمثل هَذَا الْمَكَانِ وَالْحِكْمَةُ فِي دُخُولِ الشَّمْسِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنْ لَا يَفْسُدَ هَوَاؤُهُ (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ الله) 18: 17 أَيْ بَقَاؤُهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ دَهْرًا طَوِيلًا مِنَ السِّنِينَ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا تَتَغَذَّى أَجْسَادُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَبُرْهَانِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) 18: 17- 18 قَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ أَعْيُنَهُمْ مَفْتُوحَةٌ لِئَلَّا تَفْسُدَ بِطُولِ الْغَمْضِ (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) 18: 18 قِيلَ فِي كُلِّ عَامٍ يَتَحَوَّلُونَ مَرَّةً مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فاللَّه أعلم (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) 18: 18 قَالَ شُعَيْبٌ الْجَبَائِيُّ اسْمُ كَلْبِهِمْ حُمْرَانُ وَقَالَ غَيْرُهُ الْوَصِيدُ أُسْكُفَّةُ الْبَابِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ كَلْبَهُمُ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ وَصَحِبَهُمْ حَالَ انْفِرَادِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ لَزِمَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الْكَهْفِ بَلْ رَبَضَ عَلَى بَابِهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْوَصِيدِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ أَدَبِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أُكْرِمُوا بِهِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَمَّا كَانَتِ التَّبَعِيَّةُ مُؤَثِّرَةً حتى كان فِي كَلْبِ هَؤُلَاءِ صَارَ بَاقِيًا مَعَهُمْ بِبَقَائِهِمْ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا سَعِدَ بِهِمْ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ كَلْبٍ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ تَبِعَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْإِكْرَامِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُصَّاصِ وَالْمُفَسِّرِينَ لِهَذَا الْكَلْبِ نَبَأً وَخَبَرًا طَوِيلًا أَكْثَرُهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبٌ وَمِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي اسْمِهِ وَلَوْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلَّةِ هَذَا الْكَهْفِ فَقَالَ كَثِيرُونَ هُوَ بِأَرْضِ أَيْلَةَ. وَقِيلَ بِأَرْضِ نِينَوَى. وَقِيلَ بِالْبَلْقَاءِ وَقِيلَ بِبِلَادِ الرُّومِ وَهُوَ أَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ الْأَنْفَعُ مِنْ خَبَرِهِمْ وَالْأَهَمُّ مِنْ أَمْرِهِمْ وَوَصَفَ حَالَهُمْ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ رَاءٍ وَالْمُخْبَرَ مُشَاهِدٌ لِصِفَةِ كَهْفِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْكَهْفِ وَتَقَلُّبِهِمْ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ وَأَنَّ كَلْبَهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. قَالَ (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) 18: 18 أَيْ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ وَلَعَلَّ الْخِطَابَ هَاهُنَا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) 95: 7 أَيْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةِ تَفِرُّ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَهِيبَةِ غَالِبًا وَلِهَذَا قَالَ (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) 18: 18 وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْمُعَايَنَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ حَصَلَ وَلَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ وَلَا الرُّعْبُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ نَوْمِهِمْ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) 18: 19 أَيْ بِدَرَاهِمِكُمْ هَذِهِ يَعْنِي الَّتِي مَعَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَيُقَالُ كَانَ اسْمُهَا دَفْسُوسَ (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) 18: 19 أي أطيب مالا (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) 18: 19 أي بطعام تأكلونه وهذا من زهدهم(2/115)
وورعهم (وَلْيَتَلَطَّفْ) 18: 19 أَيْ فِي دُخُولِهِ إِلَيْهَا (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) 18: 19- 20 أَيْ إِنْ عُدْتُمْ فِي مِلَّتِهِمْ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَكُمُ اللَّهُ مِنْهَا وَهَذَا كُلُّهُ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ رَقَدُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ قَدْ رَقَدُوا أَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَقَدْ تَبَدَّلَتِ الدُّوَلُ أَطْوَارًا عَدِيدَةً وَتَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا وَذَهَبَ أُولَئِكَ الْقَرْنُ الَّذِينَ كَانُوا فِيهِمْ وَجَاءَ غَيْرُهُمْ وَذَهَبُوا وَجَاءَ غَيْرُهُمْ وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ تِيذُوسِيسُ [1] فِيمَا قِيلَ وَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُتَنَكِّرًا لِئَلَّا يَعْرِفَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيمَا يحسبه تنكرت له البلاد واستنكره من يراه مِنْ أَهْلِهَا وَاسْتَغْرَبُوا شَكْلَهُ وَصِفَتَهُ وَدَرَاهِمَهُ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ حَمَلُوهُ إِلَى مُتَوَلِّيهِمْ وَخَافُوا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ جَاسُوسًا أَوْ تَكُونَ لَهُ صَوْلَةٌ يَخْشَوْنَ مِنْ مَضَرَّتِهَا فَيُقَالُ إِنَّهُ هَرَبَ مِنْهُمْ وَيُقَالُ بَلْ أَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَانْطَلَقُوا مَعَهُ لِيُرِيَهُمْ مَكَانَهُمْ فَلَمَّا قَرُبُوا مِنَ الْكَهْفِ دَخَلَ إِلَى إِخْوَانِهِ فَأَخْبَرَهُمْ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ وَمِقْدَارَ مَا رَقَدُوا فَعَلِمُوا أن هذا أمر قُدْرَةِ اللَّهِ فَيُقَالُ إِنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا رَاقِدِينَ وَيُقَالُ بَلْ مَاتُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَلْدَةِ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْغَارِ وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ وَيُقَالُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُخُولَهُ حِسًّا [2] وَيُقَالُ مَهَابَةً لَهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهِمْ فَقَائِلُونَ يَقُولُونَ (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) 18: 21 أَيْ سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ لِئَلَّا يَخْرُجُوا أَوْ لِئَلَّا يَصِلَ إِلَيْهِمْ مَا يُؤْذِيهِمْ وَآخَرُونَ وَهُمُ الْغَالِبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ قَالُوا (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) 18: 21 أَيْ مَعْبَدًا يَكُونُ مُبَارَكًا لِمُجَاوَرَتِهِ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ. وَهَذَا كَانَ شَائِعًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مساجد) يخذر ما فعلوا وأما قوله (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) 18: 21 فَمَعْنَى أَعْثَرْنَا أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرِهِمُ النَّاسَ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الْمَعَادَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذَا عَلِمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ رَقَدُوا أَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ قَامُوا كَمَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ مِنْهُمْ فَإِنَّ مَنْ أَبْقَاهُمْ كَمَا هُمْ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ وَإِنْ أَكَلَتْهَا الدِّيدَانُ وَعَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَإِنْ صَارَتْ أَجْسَامُهُمْ وَعِظَامُهُمْ رُفَاتًا وَهَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ المؤمنون (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 36: 82. هَذَا وَيَحْتَمِلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لِيَعْلَمُوا إِلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ إِذْ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَبْلَغُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَمِيعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ 18: 22 فَذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي كَمِّيَّتِهِمْ فَحَكَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ وَضَعَّفَ الْأَوَّلَيْنِ وَقَرَّرَ الثَّالِثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ إِذْ لَوْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ لَحَكَاهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الثَّالِثُ هُوَ الصحيح
__________
[1] كذا بالأصول والّذي في ابن جرير أن اسمه يمليخا وان تيذوسيس فهو اسم الملك الّذي كان على المدينة حين قيامهم من رقدتهم انتهى محمود الامام.
[2] كذا بالأصول ولعله جبنا.(2/116)
لَوَهَّاهُ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَلَمَّا كَانَ النِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا جَدْوَى عِنْدَهُ أَرْشَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَدَبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) 18: 22 وقوله (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) 18: 22 أَيْ مِنَ النَّاسِ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مراء ظاهرا) أَيْ سَهْلًا وَلَا تَتَكَلَّفْ إِعْمَالَ الْجِدَالِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ وَلَا تَسْتَفْتِ فِي أَمْرِهِمْ أَحَدًا مِنَ الرِّجَالِ وَلِهَذَا أَبْهَمَ تَعَالَى عِدَّتَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ فَقَالَ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) 18: 13 ولو كان في تعين عِدَّتِهِمْ كَبِيرُ فَائِدَةٍ لَذَكَرَهَا عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ من هذا رَشَداً 18: 23- 24 أَدَبٌ عَظِيمٌ أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَحَثَّ خَلْقَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ إِنِّي سَأَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَذَا فَيُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِعَزْمِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ وَلَا يَدْرِي أَهَذَا الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ تَعْلِيقًا وَإِنَّمَا هُوَ الْحَقِيقِيُّ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عباس يَصِحُّ إِلَى سَنَةٍ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ لِهَذَا وَلِهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لَأَطُوفَنَّ الليلة على سبعين امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَطَافَ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ. وَقَوْلُهُ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) 18: 24 وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَذِكْرُ اللَّهِ يَطْرُدُهُ عَنِ الْقَلْبِ فَيَذْكُرُ مَا كَانَ قَدْ نَسِيَهُ. وَقَوْلُهُ (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ من هذا رَشَداً) 18: 24 أَيْ إِذَا اشْتَبَهَ أَمْرٌ وَأَشْكَلَ حَالٌ وَالْتَبَسَ أَقْوَالُ النَّاسِ فِي شَيْءٍ فَارْغَبْ إِلَى اللَّهِ يُيَسِّرْهُ لَكَ وَيُسَهِّلْهُ عَلَيْكَ ثُمَّ قَالَ (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) 18: 25. لَمَّا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِطُولِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ ذَكَرَهَا تَعَالَى وَهَذِهِ التِّسْعُ الْمَزِيدَةُ بِالْقَمَرِيَّةِ وَهِيَ لِتَكْمِيلِ ثَلَاثِمِائَةٍ شَمْسِيَّةٍ فَإِنَّ كُلَّ مِائَةٍ قَمَرِيَّةٍ تَنْقُصُ عَنِ الشَّمْسِيَّةِ ثَلَاثَ سِنِينَ (قُلِ الله أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) 18: 26 أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ فَرُدَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) 18: 26 أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِالْغَيْبِ فَلَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) 18: 26 يَعْنِي أَنَّهُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَحَالِّهَا لِعِلْمِهِ التَّامِّ بِخَلْقِهِ وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ ثُمَّ قَالَ (مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً) 18: 26 أي ربك المنفرد بالملك والمنصرف وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قِصَّةُ الرَّجُلَيْنِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ بعد قصة أهل الْكَهْفِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ(2/117)
وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) 18: 32- 36 إلى قوله (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) 18: 44. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ أَمْرٌ قد وقع وقوله (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا) 18: 32 يَعْنِي لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ فِي عَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ بِالضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَازْدِرَائِهِمْ بِهِمْ وَافْتِخَارِهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ 36: 13 كَمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّتِهِمْ قَبْلَ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَيْنِ كَانَا رَجُلَيْنِ مُصْطَحِبَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنًا وَالْآخِرُ كَافِرًا وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَالٌ فَأَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ ابْتِغَاءَ وجهه وأما الكافر فإنه اتخذ له بساتين وَهُمَا الْجَنَّتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الصِّفَةِ والنعت المذكور. فيهما أعناب ونخيل تحف تلك الأعناب والزروع في ذَلِكَ وَالْأَنْهَارُ سَارِحَةٌ هَاهُنَا وَهَاهُنَا لِلسَّقْيِ وَالتَّنَزُّهِ وقد استوثقت فِيهِمَا الثِّمَارُ وَاضْطَرَبَتْ فِيهِمَا الْأَنْهَارُ وَابْتَهَجَتِ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَافْتَخَرَ مَالِكُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ الْفَقِيرِ قَائِلًا لَهُ (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً) 18: 34 أي أوسع جنانا. وَمُرَادُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ مَاذَا أَغْنَى عَنْكَ إِنْفَاقُكَ مَا كُنْتَ تَمْلِكُهُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي صَرَفْتَهُ فِيهِ كَانَ الْأَوْلَى بِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا فَعَلْتُ لِتَكَوْنَ مِثْلِي فَافْتَخَرَ عَلَى صاحبه (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) 18: 35 أَيْ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ قَالَ (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) 18: 35 وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنِ اتِّسَاعِ أَرْضِهَا وَكَثْرَةِ مَائِهَا وَحُسْنِ نَبَاتِ أَشْجَارِهَا وَلَوْ قَدْ بَادَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْجَارِ لَاسْتَخْلَفَ مَكَانَهَا أَحْسَنَ مِنْهَا وَزُرُوعُهَا دَارَّةٌ لِكَثْرَةِ مِيَاهِهَا. ثُمَّ قال (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) 18: 36 فَوَثِقَ بِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ وَكَذَّبَ بِوُجُودِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الدَّائِمَةِ. ثُمَّ قَالَ (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) 18: 36 أَيْ وَلَئِنْ كَانَ ثَمَّ آخِرَةٌ وَمَعَادٌ فَلَأَجِدَنَّ هُنَاكَ خَيْرًا مِنْ هَذَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اغْتَرَّ بِدُنْيَاهُ وَاعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ فِيهَا إِلَّا لِحُبِّهِ لَهُ وَحَظْوَتِهِ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ خَبَرِهِ وَخَبَرِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ فِي قَوْلِهِ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) 19: 77 وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً 19: 77- 78 وقال تعالى اخبارا عن الإنسان إذا أنعم الله عليه (لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) 41: 50 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ من عَذابٍ غَلِيظٍ 41: 50 وَقَالَ قَارُونُ (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) 28: 78 أي لعلم الله بى أَنِّي أَسْتَحِقُّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ 28: 78 وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّتِهِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى. وَقَالَ تَعَالَى وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ في الْغُرُفاتِ آمِنُونَ 34: 37. وَقَالَ تَعَالَى أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ 23: 55- 56. ولما اغتر هذا الجاهل بما خول به في الدنيا فجحد الآخرة وادعى أنها ان وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه وسمعه صاحبه يقول ذلك قال له(2/118)
(وَهُوَ يُحاوِرُهُ) 18: 34 أَيْ يُجَادِلُهُ (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) 18: 37 أَيْ أَجَحَدْتَ الْمَعَادَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ صَوَّرَكَ أَطْوَارًا حَتَّى صِرْتَ رَجُلًا سَوِيًّا سَمِيعًا بَصِيرًا تَعْلَمُ وَتَبْطِشُ وَتَفْهَمُ فَكَيْفَ أَنْكَرْتَ الْمَعَادَ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْبَدَاءَةِ (لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) 18: 38 أَيْ لَكِنْ أَنَا أَقُولُ بِخِلَافِ مَا قُلْتَ وَأَعْتَقِدُ خِلَافَ مُعْتَقَدِكَ (هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) 18: 38 أَيْ لَا أَعْبُدُ سِوَاهُ وَأَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَبْعَثُ الْأَجْسَادَ بَعْدَ فَنَائِهَا وَيُعِيدُ الْأَمْوَاتَ وَيَجْمَعُ الْعِظَامَ الرُّفَاتَ وَأَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي مُلْكِهِ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى مَا كَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَسْلُكَهُ عِنْدَ دُخُولِ جَنَّتِهِ فَقَالَ (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) 18: 39 وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ حَالِهِ أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ قَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ حَدَّثَنَا جراح بن مخلد حدثنا عمرو بن يوسف حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زُرَارَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه) فيرى فيه أنه [1] دُونَ الْمَوْتِ وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ 18: 39 قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ عِيسَى بْنُ عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَنَسٍ لَا يَصِحُّ ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) 18: 40 أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً من السَّماءِ) 18: 40 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ أَيْ عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمَطَرُ الْمُزْعِجُ الْبَاهِرُ الَّذِي يَقْتَلِعُ زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) 18: 40 وَهُوَ التُّرَابُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) 18: 41 وَهُوَ ضِدُّ الْمَعِينِ السَّارِحِ (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) 18: 41 يَعْنِي فَلَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ قَالَ اللَّهُ تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ 18: 42 أَيْ جَاءَهُ أَمْرٌ أَحَاطَ بِجَمِيعِ حَوَاصِلِهِ وَخَرَّبَ جَنَّتَهُ وَدَمَّرَهَا (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) 18: 42 أَيْ خَرِبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا عَوْدَةَ لَهَا وَذَلِكَ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمَّلَ حَيْثُ قَالَ (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) 18: 35 وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ (الَّذِي كَفَرَ بِسَبَبِهِ باللَّه الْعَظِيمِ فَهُوَ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً 18: 42) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ 18: 43- 44 أي لم يكن أَحَدٌ يَتَدَارَكُ مَا فَرَطَ مِنْ أَمْرِهِ وَمَا كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَما لَهُ من قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ 86: 10 وقوله (الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) 18: 44 وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) 18: 44 وهو حسن أيضا لقوله (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) 25: 26 فَالْحُكْمُ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَفِي كُلِّ حَالٍ للَّه الْحَقِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ الْحَقِّ جَعَلَهُ صفة للولاية وَهُمَا مُتَلَازِمَتَانِ وَقَوْلُهُ (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) 18: 44 أَيْ مُعَامَلَتُهُ خَيْرٌ لِصَاحِبِهَا ثَوَابًا وَهُوَ الْجَزَاءُ وَخَيْرٌ عُقْبًا وَهُوَ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَضَمَّنَتْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْكَنَ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا يَغْتَرَّ
__________
[1] كذا بالأصول ولعله فيرى فيه آفة دون الموت انتهى محمود الامام.(2/119)
بِهَا وَلَا يَثِقَ بِهَا بَلْ يَجْعَلَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ نُصْبَ عَيْنَيْهِ. وَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ منه بما في يديه. وَفِيهَا أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ عُذِّبَ بِهِ وَرُبَّمَا سُلِبَ مِنْهُ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. وَفِيهَا أَنَّ الْوَاجِبَ قَبُولُ نَصِيحَةِ الْأَخِ الْمُشْفِقِ وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ وَبَالٌ وَدَمَارٌ عَلَى مَنْ رَدَّ النَّصِيحَةَ الصَّحِيحَةَ. وَفِيهَا أَنَّ النَّدَامَةَ لَا تَنْفَعُ إِذَا حان القدر ونفذ الأمر الحتم وباللَّه الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ
قِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ. وَلا يَسْتَثْنُونَ. فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ. فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ. فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ.
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ. قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) 68: 17- 33.
وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم اليهم فقابلوه بالتكذيب والمخالفة كما قال تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ 14: 28- 29. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَضَرَبَ تَعَالَى لَهُمْ مَثَلًا بِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي قَدِ انْتَهَتْ وَاسْتَحَقَّتْ أَنْ تُجَدَّ وَهُوَ الصِّرَامُ وَلِهَذَا قَالَ (إِذْ أَقْسَمُوا) 68: 17 فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّها) 68: 17 أَيْ لَيَجُدُّنَّهَا وَهُوَ الِاسْتِغْلَالُ (مُصْبِحِينَ) 68: 17 أَيْ وَقْتَ الصُّبْحِ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ فَقِيرٌ وَلَا مُحْتَاجٌ فَيُعْطُوهُ شَيْئًا فَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا فِي يَمِينِهِمْ فَعَجَّزَهُمُ اللَّهُ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا الْآفَةَ الَّتِي أَحْرَقَتْهَا وَهِيَ السَّفْعَةُ الَّتِي اجْتَاحَتْهَا وَلَمْ تُبْقِ بِهَا شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) 68: 19- 20 أَيْ كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ الْمُنْصَرِمِ مِنَ الضِّيَاءِ وَهَذِهِ معاملة بنقيض المقصود (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) 68: 21 أَيْ فَاسْتَيْقَظُوا مِنْ نَوْمِهِمْ فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ (اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) 68: 22 أَيْ بَاكِرُوا إِلَى بُسْتَانِكُمْ فَاصْرِمُوهُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَفِعَ النَّهَارُ وَيَكْثُرَ السُّؤَالُ (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) 68: 23 أَيْ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خُفْيَةً قَائِلِينَ (لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) 68: 24 أَيْ اتَّفِقُوا عَلَى هَذَا وَاشْتَوِرُوا عَلَيْهِ (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) 68: 25 أَيْ انْطَلَقُوا مُجِدِّينَ فِي ذَلِكَ قَادِرِينَ عَلَيْهِ مضمرين عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) 68: 25 أَيْ غَضَبٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَأَبْعَدَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ أَنَّ اسْمَ حَرْثِهِمْ حَرْدٌ (فَلَمَّا رَأَوْها) 68: 26 أَيْ وَصَلُوا إِلَيْهَا وَنَظَرُوا مَا حَلَّ بِهَا وَمَا قَدْ صَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ الْمُنْكَرَةِ بَعْدَ تِلْكَ النَّضْرَةِ وَالْحُسْنِ وَالْبَهْجَةِ فَانْقَلَبَتْ بِسَبَبِ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) 68: 26 أي قد نهينا عَنْهَا وَسَلَكْنَا غَيْرَ طَرِيقِهَا ثُمَّ قَالُوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) 68: 27 أَيْ بَلْ عُوقِبْنَا بِسَبَبِ سُوءِ قَصْدِنَا وَحُرِمْنَا بركة حرثنا (قال أَوْسَطُهُمْ) 68: 28. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ(2/120)
وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ هُوَ أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) 68: 28 قيل تستثنون قاله مجاهد والسدي وابن جرير وَقِيلَ تَقُولُونَ خَيْرًا بَدَلَ مَا قُلْتُمْ مِنَ الشَّرِّ (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ. قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) 68: 29- 31. فَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ وَاعْتَرَفُوا بِالذَّنْبِ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يَنْجَعُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا إِخْوَةً وَقَدْ وَرِثُوا هذه الجنة من أَبِيهِمْ وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْهَا كَثِيرًا فَلَمَّا صَارَ أَمْرُهَا إِلَيْهِمُ اسْتَهْجَنُوا أَمْرَ أَبِيهِمْ وَأَرَادُوا اسْتِغْلَالَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطُوا الْفُقَرَاءَ شَيْئًا فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ مِنَ الثِّمَارِ وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْجَدَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ 6: 141 ثُمَّ قِيلَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا ضِرْوَانُ. وَقِيلَ مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذلِكَ الْعَذابُ 68: 33 أَيْ هَكَذَا نُعَذِّبُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَنَا وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الْمَحَاوِيجِ مِنْ خَلْقِنَا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) 68: 33 أي أعظم وأحكم مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) 68: 33. وَقِصَّةُ هؤلاء شبيه بقوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ 16: 112- 113 قِيلَ هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَقِيلَ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْفُسُهُمْ ضَرَبَهُمْ مَثَلًا لِأَنْفُسِهِمْ ولا ينافي ذلك والله أعلم انتهى
قِصَّةُ أَصْحَابِ أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ
قال الله تعالى في سورة الأعراف وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ 7: 163- 166 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 2: 65- 66 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا 4: 47. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ هُمْ أَهْلُ أَيْلَةَ. زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ مَدْيَنَ وَالطُّورِ. قَالُوا وَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ التَّوْرَاةِ فِي تَحْرِيمِ السَّبْتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَكَانَتِ الْحِيتَانُ قَدْ أَلِفَتْ مِنْهُمُ السَّكِينَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ فَكَانَتِ الْحِيتَانُ فِي مِثْلِ يَوْمِ السَّبْتِ يَكْثُرُ غَشَيَانُهَا لِمَحِلَّتِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ فَتَأْتِي مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا ظَاهِرَةً آمِنَةً مُسْتَرْسِلَةً فَلَا يُهَيِّجُونَهَا وَلَا يَذْعَرُونَهَا (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) 7: 163 وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَادُونَهَا فِيمَا عَدَا السَّبْتِ(2/121)
قال الله تعالى كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ 7: 163 أَيْ نَخْتَبِرُهُمْ بِكَثْرَةِ الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 7: 163 أَيْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ احْتَالُوا عَلَى اصْطِيَادِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِأَنْ نَصَبُوا الْحِبَالَ وَالشِّبَاكَ وَالشُّصُوصَ وَحَفَرُوا الْحُفَرَ الَّتِي يَجْرِي مَعَهَا الْمَاءُ إِلَى مَصَانِعَ قَدْ أَعَدُّوهَا إِذَا دَخَلَهَا السَّمَكُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا فَفَعَلُوا ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا جَاءَتِ الْحِيتَانُ مُسْتَرْسِلَةً يَوْمَ السَّبْتِ عَلِقَتْ بِهَذِهِ الْمَصَايِدِ فَإِذَا خَرَجَ سَبْتُهُمْ أَخَذُوهَا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ لَمَّا احْتَالُوا عَلَى خِلَافِ أَمْرِهِ وَانْتَهَكُوا مَحَارِمَهُ بِالْحِيَلِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ لِلنَّاظِرِ وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ مُخَالَفَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ افْتَرَقَ الَّذِينَ لَمْ يَفْعَلُوا فِرْقَتَيْنِ. فِرْقَةٌ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ صَنِيعَهُمْ هَذَا وَاحْتِيَالَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَفِرْقَةٌ أُخْرَى لَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَنْهَوْا بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى الَّذِينَ نَهَوْا وَقَالُوا (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) 7: 164 يقولون مَا الْفَائِدَةُ فِي نَهْيِكُمْ هَؤُلَاءِ وَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ لَا مَحَالَةَ فَأَجَابَتْهُمُ الطَّائِفَةُ الْمُنْكِرَةُ بِأَنْ قالوا (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) 7: 164 أَيْ فِيمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَنَقُومُ بِهِ خَوْفًا مِنْ عذابه (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) 7: 164 أَيْ وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ فَيَقِيهِمُ اللَّهُ عَذَابَهُ وَيَعْفُو عَنْهُمْ إِذَا هُمْ رَجَعُوا وَاسْتَمَعُوا. قَالَ اللَّهُ تعالى فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا به 7: 165 أَيْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ الْفَظِيعِ (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) 7: 165 وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْآمِرَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَةُ عَنِ الْمُنْكَرِ (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) 7: 165 وهم المرتكبون الفاحشة (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) 7: 165 وَهُوَ الشَّدِيدُ الْمُؤْلِمُ الْمُوجِعُ (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) 7: 165. ثُمَّ فَسَّرَ الْعَذَابَ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِقَوْلِهِ (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) 7: 166. وسنذكر ما ورد من الآيات فِي ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الظَّالِمِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْكِرِينَ وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِمُ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنَ النَّاجِينَ وَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنَ الْهَالِكِينَ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ وذلك عن مُنَاظَرَةِ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ فَكَسَاهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حُلَّةً سَنِيَّةً تَكْرِمَةً. قُلْتُ وَإِنِمَّا لَمْ يُذْكَرُوا مَعَ النَّاجِينَ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَرِهُوا بِبَوَاطِنِهِمْ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا ظَوَاهِرَهُمْ بِالْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْإِنْكَارِ الْقَوْلِيِّ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَعْلَاهَا الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ ذَاتِ الْبَنَانِ وَبَعْدَهَا الْإِنْكَارُ الْقَوْلِيِّ بِاللِّسَانِ وَثَالِثُهَا الْإِنْكَارُ بِالْجَنَانِ فَلَمَّا لَمْ يذكروا نجوا مَعَ النَّاجِينَ إِذْ لَمْ يَفْعَلُوا الْفَاحِشَةَ بَلْ أنكروها. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ رُومَانَ وَشَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مَا مَضْمُونُهُ أَنَّ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا هَذَا الصُّنْعَ اعْتَزَلَهُمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَنَهَاهُمْ مَنْ نَهَاهُمْ مِنْهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا فَكَانُوا يَبِيتُونَ وَحْدَهُمْ وَيُغْلِقُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ أَبْوَابًا حَاجِزًا لِمَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ مِنْ هَلَاكِهِمْ فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْوَابُ نَاحِيَتِهِمْ مُغْلَقَةٌ لَمْ يَفْتَحُوهَا وَارْتَفَعَ النَّهَارُ وَاشْتَدَّ الضُحَاءُ فَأَمَرَ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ عَلَى سَلَالِمَ وَيُشْرِفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ إِذَا هُمْ قِرَدَةٌ لَهَا أَذْنَابٌ يَتَعَاوَوْنَ وَيَتَعَادَوْنَ فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الأبواب(2/122)
فجعلت القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قَرَابَاتُهُمْ فَجَعَلُوا يَلُوذُونَ بِهِمْ وَيَقُولُ لَهُمُ النَّاهُونَ أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ صَنِيعِكُمْ فَتُشِيرُ الْقِرَدَةُ بِرُءُوسِهَا أَنْ نَعَمْ. ثُمَّ بَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ إِنَّا لَنَرَى مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةً وَلَا نُنْكِرُهَا وَلَا نَقُولُ فِيهَا شَيْئًا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَارَ شَبَابُ الْقَرْيَةِ قِرَدَةً وَشُيُوخُهَا خَنَازِيرَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا إِلَّا فُوَاقًا ثُمَّ هَلَكُوا مَا كَانَ لَهُمْ نَسْلٌ وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ لَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَأْكُلْ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَشْرَبُوا وَلَمْ يَنْسِلُوا وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْآثَارَ فِي ذَلِكَ فِي تفسير سورة البقرة والأعراف. وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً 62: 5 وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَيْهِ وَغَرِيبٌ مِنْهُ جِدًّا وَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السلف والخلف والله أعلم (قصة أصحاب القرية) إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ 36: 13 تقدم ذكرها قبل قصة موسى عليه السلام (قصة سبإ) سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة (قصة قارون وقصة بلعام) تقدمتا في قصة موسى وهكذا (قصة الخضر) و (قصة فرعون والسحرة) كلها في ضمن قصة موسى و (قصة البقرة) تقدمت في قصة موسى وقصة الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ 2: 243 في قصة حزقيل وقصة (الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) في قصة شمويل وقصة (الّذي مرّ على قرية) في قصة عزير
قِصَّةُ لُقْمَانَ
قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمن يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. وَإِذْ قَالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) 31: 12- 19.
هُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَاءَ بْنِ سَدُونَ. وَيُقَالَ لُقْمَانُ بْنُ ثَارَانَ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَالْقُتَيْبِيِّ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَكَانَ نُوبِيًّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ. قُلْتُ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا ذَا عِبَادَةٍ وَعِبَارَةٍ وَحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَيُقَالُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ(2/123)
عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا. وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا انْتَهَى الَيْكُمْ فِي شَأْنِ لُقْمَانَ قَالَ كَانَ قَصِيرًا أَفْطَسَ مِنَ النُّوبَةِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ ذو مَشَافِرَ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَمَنَعَهُ النُّبُوَّةَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَالَ جَاءَ أَسْوَدُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ لَا تَحْزَنَ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ أَسْوَدُ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْيَرِ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ مِنَ السُّودَانِ بِلَالٌ وَمِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ وَلُقْمَانُ الْحَكِيمُ كَانَ أَسْوَدَ نُوبِيًّا ذَا مَشَافِرَ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا أَسْوَدَ عَظِيمَ الشَّفَتَيْنِ مُشَقَّقَ الْقَدَمَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ مصفح القدمين. وقال عمر بْنُ قَيْسٍ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ مُصَفَّحَ الْقَدَمَيْنِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ أُنَاسٍ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ لَهُ أَلَسْتَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعِيَ الْغَنَمَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى قَالَ صِدْقُ الْحَدِيثِ وَالصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عن الحكم عنه وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابن أبى يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ لقمان الحكيم لحكمته فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ ألست عبد بن فلان الّذي كنت ترعى غنمي بِالْأَمْسِ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى قَالَ قَدَرُ اللَّهِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ الفتيانى عن عمر مولى عفرة قَالَ وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى لُقْمَانَ الْحَكِيمِ فَقَالَ أنت لقمان أنت عبد بنى النحاس قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَنْتَ رَاعِي الْغَنَمِ الْأَسْوَدُ قَالَ أَمَّا سَوَادِي فَظَاهِرٌ فَمَا الَّذِي يُعْجِبُكَ مِنْ أَمْرِي قَالَ وَطْءُ النَّاسِ بِسَاطَكَ وَغَشْيُهُمْ بَابَكَ وَرِضَاهُمْ بِقَوْلِكَ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي إِنْ صَنَعْتَ مَا أَقُولُ لَكَ كُنْتَ كَذَلِكَ قَالَ مَا هُوَ قَالَ لُقْمَانُ غَضِّي بَصَرِي وكفى لساني وعفة مطمعي وَحِفْظِي فَرْجِي وَقِيَامِي بِعُدَّتِي وَوَفَائِي بِعَهْدِي وَتَكْرُمَتِي ضَيْفِي وَحِفْظِي جَارِي وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي فَذَاكَ الَّذِي صَيَّرَنِي كَمَا تَرَى. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابن فضيل حدثنا عمرو بن واقد عن عبدة ابن رَبَاحٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا وَذَكَرَ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ فَقَالَ مَا أُوتِيَ عَنْ أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا حَسَبٍ ولا خصال ولكنه كان رجلا ضمضامة [1] سِكِّيتًا طَوِيلَ التَّفَكُّرِ عَمِيقَ النَّظَرِ لَمْ يَنَمْ نَهَارًا قَطُّ وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يَبْزُقُ وَلَا يتنحنح وَلَا يَبُولُ وَلَا يَتَغَوَّطُ وَلَا يَغْتَسِلُ وَلَا يَعْبَثُ وَلَا يَضْحَكُ وَكَانَ لَا يُعِيدُ مَنْطِقًا نَطَقَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ حِكْمَةً يَسْتَعِيدُهَا إِيَّاهُ أَحَدٌ وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ وَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ فَمَاتُوا فَلَمْ يَبْكِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ يَغْشَى السُّلْطَانَ وَيَأْتِي الْحُكَّامَ لِيَنْظُرَ وَيَتَفَكَّرَ وَيَعْتَبِرَ فَبِذَلِكَ أُوتِيَ مَا أُوتِيَ وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عُرِضَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةَ فَخَافَ أَنْ لَا يَقُومُ بِأَعْبَائِهَا فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ لقمان نبيا وهذا ضعيف لحال الجعفي.
__________
[1] وفي النسخة المصرية صمصامة(2/124)
وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا وَلِيًّا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَحَكَى مِنْ كَلَامِهِ فِيمَا وَعَظَ بِهِ وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَهُوَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا وَعَظَ بِهِ أَنْ قَالَ (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) 31: 13. فَنَهَاهُ عَنْهُ وَحَذَّرَهُ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ 6: 82 شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ أَلَمْ تَسْمَعْ الى قول لقمان (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) 31: 13 رواه مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ بِهِ ثُمَّ اعْتَرَضَ تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَبَيَانِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ وَتَأَكُّدِهِ وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا حَتَّى وَلَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ وَلَكِنْ لَا يُطَاعَانِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِمَا إِلَى أَنْ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ لُقْمَانَ فِيمَا وَعَظَ بِهِ وَلَدَهُ (يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ) 31: 16 يَنْهَاهُ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ وَلَوْ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ عَنْهَا وَيُحْضِرُهَا حَوْزَةَ الْحِسَابِ وَيَضَعُهَا فِي الْمِيزَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ 4: 40 وَقَالَ تَعَالَى وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ 21: 47 وَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا الظُّلْمَ لَوْ كَانَ فِي الْحَقَارَةِ كَالْخَرْدَلَةِ وَلَوْ كَانَ فِي جَوْفِ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَا بَابَ لَهَا وَلَا كُوَّةَ أَوْ لَوْ كَانَتْ سَاقِطَةً فِي شَيْءٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الأرض أو السموات فِي اتِّسَاعِهِمَا وَامْتِدَادِ أَرْجَائِهِمَا لَعَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا (إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ) 31: 16 أَيْ عِلْمُهُ دَقِيقٌ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ الذَّرُّ مِمَّا تَرَاءَى لِلنَّوَاظِرِ أَوْ تَوَارَى كَمَا قَالَ تَعَالَى وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا في كِتابٍ مُبِينٍ 6: 59 وَقَالَ وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا في كِتابٍ مُبِينٍ 27: 75 وَقَالَ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ 34: 3 وَقَدْ زَعَمَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الصَّخْرَةِ الصَّخْرَةُ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَهَكَذَا حُكِيَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وأبى مالك والثوري والمنهال بن عمر وَغَيْرِهِمْ وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَصْلِهِ نظر. ثم ان في هَذَا هُوَ الْمُرَادُ نَظَرٌ آخَرُ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَكِرَةٌ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَا قَالُوهُ لَقَالَ فَتَكُنْ فِي الصَّخْرَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَيِّ صَخْرَةٍ كَانَتْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ ثُمَّ قَالَ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) 31: 17 أَيْ أَدِّهَا بِجَمِيعِ وَاجِبَاتِهَا مِنْ حُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَطُمَأْنِينَتِهَا وَخُشُوعِهَا وَمَا شُرِعَ فِيهَا واجتنب ما ينهى عَنْهُ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) 31: 17 أَيْ بِجُهْدِكَ وَطَاقَتِكَ أَيْ إِنِ اسْتَطَعْتَ بِالْيَدِ فَبِالْيَدِ وَإِلَّا فَبِلِسَانِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِكَ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فَقَالَ (وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ) 31: 17 وذلك ان(2/125)
الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يُعَادَى وَيُنَالَ مِنْهُ وَلَكِنَّ لَهُ الْعَاقِبَةُ وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ الْفَرَجُ وَقَوْلُهُ (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) 31: 17 الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ عنها.
وقوله (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) 31: 18 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مَعْنَاهُ لَا تَتَكَبَّرْ عَلَى النَّاسِ وَتُمِيلُ خَدَّكَ حَالَ كَلَامِكَ لَهُمْ وَكَلَامِهِمْ لَكَ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ وَالِازْدِرَاءِ لَهُمْ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَصْلُ الصَّعَرِ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا فَتَلْتَوِي رُءُوسُهَا فَشَبَّهَ بِهِ الرَّجُلَ الْمُتَكَبِّرَ الَّذِي يَمِيلُ وَجْهُهُ إِذَا كَلَّمَ النَّاسَ أو كلموه على وجه التعظم عَلَيْهِمْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ
وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً ... إِذَا مَا ثَنَوْا صعر الخدود نقيمها
وقال عمرو بن حيي التَّغْلِبِيُّ
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا
وَقَوْلُهُ (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) 31: 18 يَنْهَاهُ عَنِ التَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَظَمَةِ وَالْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا 17: 37. يَعْنِي لَسْتَ بِسُرْعَةِ مَشْيِكَ تَقْطَعُ الْبِلَادَ فِي مشيتك هذه ولست بدقك الأرض برجلك تخرق الْأَرْضَ بِوَطْئِكَ عَلَيْهَا وَلَسْتَ بِتَشَامُخِكَ وَتَعَاظُمِكَ وَتَرَفُّعِكَ تَبْلُغُ الْجِبَالَ طُولًا فَاتَّئِدْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَسْتَ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ يَتَبَخْتَرُ فِيهِمَا إِذْ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ (إياك وإسبال الازار فإنها من المخيلة لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ) كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ 31: 18 وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الِاخْتِيَالِ فِي الْمَشْيِ أَمَرَهُ بالقصد فيه فإنه لا بد لَهُ أَنْ يَمْشِيَ فَنَهَاهُ عَنِ الشَّرِّ وَأَمَرَهُ بالخير فقال واقصد في مشيك أَيْ لَا تَتَبَاطَأْ مُفْرِطًا وَلَا تُسْرِعْ إِسْرَاعًا مُفْرِطًا وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً 25: 63 ثم قال (وَاغْضُضْ من صَوْتِكَ) 31: 19 يعنى إذا تكلمت لا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ صَوْتِكَ فَإِنَّ أَرْفَعَ الْأَصْوَاتِ وَأَنْكَرَهَا صَوْتُ الْحَمِيرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ الْحَمِيرِ بِاللَّيْلِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ حَيْثُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْعُطَاسِ فَيُسْتَحَبُّ خَفْضُ الصَّوْتِ وَتَخْمِيرُ الْوَجْهِ كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنْ صَنِيعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ وَعِنْدَ الدُّعَاءِ إِلَى الْفِئَةِ لِلْقِتَالِ وَعِنْدَ الإهلاك وَنَحْوِ ذَلِكَ فَذَلِكَ مَشْرُوعٌ فَهَذَا مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي القرآن من الحكم وَالْوَصَايَا النَّافِعَةِ الْجَامِعَةِ لِلْخَيْرِ الْمَانِعَةِ مِنَ الشَّرِّ وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي أَخْبَارِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَقَدْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ يُسَمَّى بِحِكْمَةِ لُقْمَانَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ أَنْبَأَنَا ابْنُ المبارك أنبأنا سفيان أخبرنى نهيك بن يجمع الضبيّ(2/126)
عَنْ قَزَعَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا عِيسَى بن يونس عن الأوزاعي عن موسى ابن سُلَيْمَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بِالنَّهَارِ وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرُو بن عمارة حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ (يَا بُنَيَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ) وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ إِذَا أتيت نادى قوم فادمهم بسهم الإسلام يعنى السلام ثم اجلس بناحيتهم فَلَا تَنْطِقُ حَتَّى تَرَاهُمْ قَدْ نَطَقُوا فَإِنْ أَفَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَأَجِلْ سَهْمَكَ مَعَهُمْ وان أفاضوا في غير ذلك فحول عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ قَالَ وَضَعَ لُقْمَانُ جِرَابًا مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى جَانِبِهِ وَجَعَلَ يَعِظُ ابْنَهُ وَعْظَةً وَيُخْرِجُ خَرْدَلَةً حَتَّى نَفِدَ الْخَرْدَلُ فَقَالَ يَا بُنَيَّ لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر قَالَ فَتَفَطَّرَ ابْنُهُ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْمِصِّيصِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ ابن عبد الرحمن الطرائفى عن ابن سُفْيَانَ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اتَّخِذُوا السُّودَانَ فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ مَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ وَالنَّجَّاشِيُّ وَبِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ قال الطبراني يعنى الحبشي وهذا حديث غريب منكر وقد ذكر له الامام أحمد في كتاب الزاهد ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جَمَّةً فَقَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) 31: 12 قَالَ الْفِقْهَ وَالْإِصَابَةَ فِي غَيْرِ نُبُوَّةٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَحَدَّثَنَا أَسْوَدُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يزيد عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ خَيَّاطًا وَحَدَّثَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ يعنى بن دِينَارٍ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اتَّخِذْ طَاعَةَ اللَّهِ تِجَارَةً تَأْتِكَ الْأَرْبَاحُ مِنْ غَيْرِ بِضَاعَةٍ. وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ كَانَ لُقْمَانُ يَقُولُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا ترى النَّاسَ أَنَّكَ تَخْشَى اللَّهَ لِيُكْرِمُوكَ بِذَلِكَ وَقَلْبُكَ فَاجِرٌ وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَوَكِيعٌ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ خَالِدٍ الرِّبْعِيِّ قَالَ كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ اذْبَحْ لِي شَاةً فَذَبَحَ لَهُ شَاةً فقال ائْتِنِي بِأَطْيَبِ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ فَقَالَ أَمَا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْ هَذَيْنَ قَالَ لَا قَالَ فَسَكَتَ عَنْهُ مَا سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْبَحْ لِي شَاةً فذبح له شاة فقال له وألق أَخْبَثَهَا مُضْغَتَيْنِ فَرَمَى بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ فَقَالَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا مُضْغَتَيْنِ فَأَتَيْتَنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَأَمَرْتُكَ أَنْ تُلْقِيَ أَخْبَثَهَا مُضْغَتَيْنِ فَأَلْقَيْتَ اللِّسَانَ والقلب فقال له إنه ليس شيء أطبب مِنْهُمَا إِذَا طَابَا وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خَبُثَا. وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ لَا تَرْغَبْ فِي وُدِّ الْجَاهِلِ(2/127)
فَيَرَى أَنَّكَ تَرْضَى عَمَلَهُ وَلَا تَهَاوَنْ بِمَقْتِ الحكيم فيزهده فيك. وحدثنا داود بن أسيد حدثنا إسماعيل ابن عياش عن ضمضم ابن زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ أَلَا إِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى أَفْوَاهِ الْحُكَمَاءِ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ إِلَّا مَا هَيَّأَ اللَّهُ له. وحدثنا عبد الرزاق سمعت بن جُرَيْجٍ قَالَ كُنْتُ أُقَنِّعُ رَأْسِي بِاللَّيْلِ فَقَالَ لي عمر أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ الْقِنَاعُ بِالنَّهَارِ مَذَلَّةٌ مَعْذِرَةٌ أَوْ قَالَ مَعْجَزَةٌ بِاللَّيْلِ فَلِمَ تُقَنِّعُ رَأْسَكَ بِاللَّيْلِ قَالَ قُلْتُ لَهُ إِنَّ لُقْمَانَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بن الجنيد حدثنا سفيان قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ مَا نَدِمْتُ على السكوت قَطُّ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ فِضَّةٍ فَالسُّكُوتُ مِنْ ذَهَبٍ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ وَوَكِيعٌ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اعْتَزِلِ الشَّرَّ يَعْتَزِلْكَ فَإِنَّ الشَّرَّ لِلشَّرِّ خُلِقَ. وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالرَّغَبَ فَإِنَّ الرَّغَبَ كُلَّ الرَّغَبِ يُبْعِدُ الْقَرِيبُ مِنَ القريب ويزيل الحكم كَمَا يُزِيلُ الطَّرَبَ. يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَشِدَّةَ الْغَضَبِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْغَضَبِ مَمْحَقَةٌ لِفُؤَادِ الْحَكِيمِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ (يَا بُنَيَّ اخْتَرِ الْمَجَالِسَ عَلَى عَيْنِكَ فَإِذَا رَأَيْتَ الْمَجْلِسَ يُذْكَرُ فِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ تَكُ عَالِمًا يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ وَإِنْ تَكُ غَبِيًّا يُعَلِّمُوكَ وَإِنْ يَطَّلِعِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ برحمة تصيبك مَعَهُمْ. يَا بُنَيَّ لَا تَجْلِسْ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ فَإِنَّكَ إِنْ تَكُ عَالِمًا لَا يَنْفَعُكَ عِلْمُكَ وَإِنْ تَكُ غبيا يزيدوك غبيا وَإِنْ يَطَّلِعِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسُخْطٍ يصيبك معهم يا بنى لا تغبطوا أمراء رَحْبَ الذِّرَاعَيْنِ يَسْفِكُ دِمَاءَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَاتِلًا لَا يَمُوتُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ (بُنِيَّ لِتَكُنْ كَلِمَتُكَ طَيِّبَةً وَلْيَكُنْ وَجْهُكَ بَسْطًا تَكُنْ أَحَبَّ إِلَى النَّاسِ مِمَّنْ يُعْطِيهِمُ الْعَطَاءَ) وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَوِ فِي التَّوْرَاةِ (الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَةِ) وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا تَرْحَمُونَ تُرْحَمُونَ وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ (كَمَا تَزْرَعُونَ تَحْصُدُونَ) وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَحِبَّ خَلِيلَكَ وَخَلِيلَ أَبِيكَ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ (قِيلَ لِلُقْمَانَ أَيُّ النَّاسِ أَصْبَرُ قَالَ صَبْرٌ لَا يَتْبَعُهُ أَذًى. قِيلَ فَأَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ قَالَ مَنِ ازْدَادَ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ. قِيلَ فَأَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ الْغَنِيُّ. قِيلَ الْغَنِيُّ مِنَ الْمَالِ قَالَ لَا وَلَكِنَّ الْغَنِيَّ الَّذِي إِذَا الْتُمِسَ عِنْدَهُ خَيْرٌ وُجِدَ وَإِلَّا أَغْنَى نَفْسَهُ عَنِ النَّاسِ.
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ قِيلَ لِلُقْمَانَ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَالَ الَّذِي لَا يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مسيئا.
وحدثنا أبو الصَّمَدِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ وَجَدْتُ فِي بَعْضِ الْحِكْمَةِ يُبَدِّدُ اللَّهُ عِظَامَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَهْوَاءِ النَّاسِ وَوَجَدْتُ فِيهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِي أَنْ تَعْلَمَ مَا لَمْ تَعْلَمْ وَلَمَّا تَعْمَلْ بِمَا قَدْ عَلِمْتَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ احْتَطَبَ حَطَبًا فَحَزَمَ حُزْمَةً ثم ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليه أُخْرَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ(2/128)
(يَا بُنَيَّ لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا الْأَتْقِيَاءُ وَشَاوِرْ فِي أَمْرِكَ الْعُلَمَاءَ. وَهَذَا مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْآثَارِ كَثِيرًا لَمْ يَرْوِهَا كَمَا أَنَّهُ ذَكَرَ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ خَيَّرَ اللَّهُ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ قال فأتاه جبريل وهو نائم فدر عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ قَالَ فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا. قَالَ سعد سمعت قَتَادَةَ يَقُولُ قِيلَ لِلُقْمَانَ كَيْفَ اخْتَرْتَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ وَقَدْ خَيَّرَكَ رَبُّكَ فَقَالَ إِنَّهُ لَوْ أُرْسِلَ إِلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ عَزْمَةً لَرَجَوْتُ فِيهِ الْفَوْزَ مِنْهُ وَلَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَقُومَ بِهَا وَلَكِنْ خَيَّرَنِي فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنِ النُّبُوَّةِ فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ أَحَبَّ إِلَيَّ.
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَالَّذِي رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) 31: 12 قال يعنى الفقه والإسلام وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ. وَهَكَذَا نَصَّ عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قِصَّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالله عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ 85: 1- 10. قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وللَّه الْحَمْدُ. وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ مُكَرَّرٌ فِي الْعَالَمِ مِرَارًا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَبَّارِينَ الْكَافِرِينَ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ قَدْ وَرَدَ فِيهِمْ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَأَثَرٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُمَا مُتَعَارِضَانِ وَهَا نَحْنُ نُورِدُهُمَا لتقف عليهما. قال الامام أحمد حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبُرَ السَّاحِرُ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي وَحَضَرَ أَجَلِي فَادْفَعْ إِلَيَّ غُلَامًا فَلْأُعَلِّمْهُ السِّحْرَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلَامًا فَكَانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ وَكَانَ بَيْنَ الْمَلِكِ وَبَيْنَ السَّاحِرِ رَاهِبٌ فَأَتَى الْغُلَامُ عَلَى الرَّاهِبِ فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ وَكَلَامُهُ وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ وَقَالَ مَا حَبَسَكَ وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ ضَرَبُوهُ وَقَالُوا مَا حَبَسَكَ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ أَنْ يَضْرِبَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ قَالَ فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ فَظِيعَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرَ السَّاحِرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَمْ أَمْرَ الرَّاهِبِ قَالَ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهمّ إِنْ كَانَ أمر الراهب(2/129)
أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ النَّاسُ وَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى فَأَخْبَرَ الرَّاهِبَ بِذَلِكَ فَقَالَ أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم الله على يديه وَكَانَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ فَعَمِيَ فَسَمِعَ بِهِ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ اشْفِنِي وَلَكَ مَا هَاهُنَا أَجْمَعُ فَقَالَ مَا أَنَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ آمَنْتَ بِهِ وَدَعَوْتُ اللَّهَ شَفَاكَ فَآمَنَ فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ. ثُمَّ أَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ يَا فُلَانُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ فَقَالَ رَبِّي قَالَ أَنَا قَالَ لَا رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ قَالَ وَلَكَ رَبُّ غَيْرِي قَالَ نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبْهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ أَيْ بُنَيَّ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَهَذِهِ الْأَدْوَاءَ قَالَ مَا أَشْفِي أَنَا أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنَا قَالَ لَا قَالَ أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ قَالَ فَأَخَذَهُ أَيْضًا بِالْعَذَابِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَأُتِيَ الراهب فَقَالَ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ وَقَالَ لِلْأَعْمَى ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ وَقَالَ لِلْغُلَامِ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ إِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَدَهْدِهُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَلَمَّا عَلَوُا الْجَبَلَ قَالَ اللَّهمّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَدُهْدِهُوا أَجْمَعُونَ وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ فَقَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ في قرقرة فَقَالَ إِذَا لَجَجْتُمُ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَأَغْرِقُوهُ فِي الْبَحْرِ فَلَجَّجُوا بِهِ الْبَحْرَ فَقَالَ الْغُلَامُ (اللَّهمّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَغَرِقُوا أَجْمَعُونَ وَجَاءَ الْغُلَامُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ فَقَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرَكَ بِهِ فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَتَلْتَنِي وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَتْلِي قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ وَتَأْخُذُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي. ثُمَّ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي فَفَعَلَ وَوَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ رَمَاهُ وَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ وَمَاتَ فَقَالَ الناس آمنا برب الغلام آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ فَقِيلَ لِلْمَلِكِ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ فَقَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَحَفَرَ فِيهَا الْأَخَادِيدَ وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ وَقَالَ مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعُوهُ وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا وقال فكانوا يتعادون فيها ويتواقعون فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ فَقَالَ الصَّبِيُّ اصْبِرِي يَا أُمَّاهُ فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ كَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ زَادَ النَّسَائِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ بِهِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثابت باسناده نحوه وجرد إِيرَادَهُ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَقَدْ أورد محمد ابن إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَحَدَّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي(2/130)
قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ (وَنَجْرَانُ هِيَ الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي إِلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ) سَاحِرٌ يُعَلِّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السحر فلما نزلها فيمون وَلَمْ يُسَمُّوهُ لِي بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ ابْنُ مُنَبِّهٍ قَالُوا رَجُلُ نَزَلَهَا فَابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا السَّاحِرُ وَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الساحر يعلمهم السحر فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ فَجَعَلَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ حَتَّى أَسْلَمَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إِذَا فَقُهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَكَانَ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ إِيَّاهُ وَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ لن تحمله أخشى ضعفك عنه والتامر لا يظن الا أن ابنه عبد الله يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ بِهِ عَنْهُ وَتَخَوَّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ عَمَدَ إِلَى قِدَاحٍ فَجَمَعَهَا ثُمَّ لَمْ يَبْقَ للَّه اسْمًا يَعْلَمُهُ إِلَّا كَتَبَهُ فِي قَدَحٍ لِكُلِّ اسْمٍ قدح حتى إذا أحصاها أو قد نَارًا ثُمَّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا قَدَحًا قَدَحًا حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقَدَحِهِ فَوَثَبَ الْقَدَحُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا فَأَخَذَهُ ثُمَّ أَتَى بِهِ صَاحِبَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي قَدْ كَتَمَهُ فَقَالَ وَمَا هُوَ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ وَكَيْفَ عَلِمْتَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ قَالَ أَيِ ابْنَ أَخِي قَدْ أَصَبْتَهُ فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ فَجَعَلَ عَبْدُ الله بن التامر إِذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضُرٌّ إِلَّا قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتُوَحِّدَ اللَّهَ وَتَدْخُلَ فِي دِينِي وَأَدْعُو اللَّهَ لَكَ فيعافيك عما أنت فيه من البلاء وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ حَتَّى رُفِعَ شَأْنُهُ إِلَى مَلِكِ نَجْرَانَ فَدَعَاهُ فَقَالَ أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ قَالَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إِلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَقَعُ إِلَى الْأَرْضِ مَا بِهِ بَأْسٌ وَجَعَلَ يُبْعَثُ بِهِ إِلَى مِيَاهٍ بِنَجْرَانَ بُحُورٍ لَا يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَلَكَ فَيُلْقَى بِهِ فِيهَا فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ فَلَمَّا غَلَبَهُ قال له عبد الله بن التامر وَاللَّهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ فَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْتَ بِهِ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ سُلِّطْتَ عَلَيَّ فَقَتَلْتَنِي قَالَ فَوَحَّدَ اللَّهَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ التامر ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصًا فِي يَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ فَقَتَلَهُ وَهَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ التامر وكان على ما جاء به عيسى بن مَرْيَمَ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَحِكَمِهِ ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَا أصاب أهل دينهم من الأحزاب فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن التامر فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ قَالَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنْدِهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ أَوِ الْقَتْلِ فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ فَخَدُّوا الْأُخْدُودَ وَحَرَّقَ بِالنَّارِ وَقَتَّلَ بِالسَّيْفِ وَمَثَّلَ بِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا فَفِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ 85: 4- 5 الْآيَاتِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ مَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ مُسْلِمٍ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأُخْدُودَ وَقَعَ فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنْبَأَنَا صَفْوَانُ عَنْ عَبْدِ الرحمن ابن جُبَيْرٍ قَالَ كَانَتِ الْأُخْدُودُ فِي الْيَمَنِ زَمَانَ تبع وفي القسطنطينة زَمَانَ قُسْطَنْطِينَ حِينَ صَرَفَ النَّصَارَى(2/131)
قِبْلَتَهُمْ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ وَاتَّخَذَ أَتُّونًا وَأَلْقَى فِيهِ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ وَفِي الْعِرَاقِ فِي أَرْضِ بَابِلَ في زمان بخت نصّر حِينَ صَنَعَ الصَّنَمَ وَأَمَرَ النَّاسَ فَسَجَدُوا لَهُ فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ وَصَاحِبَاهُ عَزْرِيَا وَمَشَايِلُ فَأَوْقَدَ لَهُمْ أتونا والقى فيها الحطب والنار ثم ألقاهما فِيهِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا وَأَنْقَذَهُمْ مِنْهَا وَأَلْقَى فِيهَا الَّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِ وَهُمْ تِسْعَةُ رَهْطٍ فَأَكَلَتْهُمُ النَّارُ وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السدي في قوله (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) 85: 4 قَالَ كَانَ الْأُخْدُودُ ثَلَاثَةً خَدٌّ بِالشَّامِ وَخَدٌّ بالعراق وخد باليمن رواه بن أَبِي حَاتِمٍ. وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ ذِكْرَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ والكلام على تفسيرها في سورة البروج وللَّه الحمد والمنة
باب بيان الاذن في الرواية والتحديث عَنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا هُمَامٌ حَدَّثَنَا زَيْدٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ (حَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ) . وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هُمَامٌ أَنْبَأَنَا زَيْدُ بن أسلم عن عطاء ابن يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ (لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَقَالَ حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ حَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ قَالَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ قَالَ هَمَّامٌ أَحْسَبُهُ قَالَ مُتَعَمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ هُدْبَةَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهِ ثُمَّ قَالَ قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَخْطَأَ فِيهِ هَمَّامٌ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ كَذَا قَالَ وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِبَعْضِهِ مَرْفُوعًا فاللَّه أَعْلَمُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنْبَأَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ السَّلُولِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي يَقُولُ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ عن محمد بن يوسف العرياني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ حسان بن عطية وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى أَبُو مُوسَى حَدَّثَنَا هشام بن معاوية حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا عامة ليلة عن بنى إسرائيل حتى نصبح ما نقوم فيها الا لمعظم صَلَاةٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مثنى ثم قال البزار حدثنا محمد بن مثنى حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ عَنْ قَتَادَةَ عن ابى حسان عن عمران بن حسين قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدثنا(2/132)
عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَقُومُ الا لمعظم صلات قَالَ الْبَزَّارُ وَهُشَامٌ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي هِلَالٍ يَعْنِي أَنَّ الصَّوَابَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا رَبِيعُ بْنُ سَعْدٍ الْجُعْفِيُّ عن عبد الرحمن ابن سَابِطٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمُ الْأَعَاجِيبُ ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَتَوْا مَقْبَرَةً مِنْ مَقَابِرِهِمْ فَقَالُوا لَوْ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ وَدَعَوْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيُخْرِجُ لَنَا رَجُلًا قَدْ مَاتَ نُسَائِلُهُ يُحَدِّثُنَا عَنِ الْمَوْتِ فَفَعَلُوا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَطْلَعَ رَجُلٌ رَأَسَهُ مِنْ قَبْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُبُورِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ فَقَالَ يَا هَؤُلَاءِ مَا أَرَدْتُمْ الىّ فقدمت مُنْذُ مِائَةِ عَامٍ فَمَا سَكَنَتْ عَنِّي حَرَارَةُ الْمَوْتِ حَتَّى الْآنَ فَادْعُوَا اللَّهَ أَنْ يُعِيدَنِي كَمَا كُنْتَ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ بُطْلَانُهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْحَقَّ الَّذِي بِأَيْدِينَا عَنِ الْمَعْصُومِ فَذَاكَ مَتْرُوكٌ مَرْدُودٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ رِوَايَتِهِ أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ لِمَا رواه البخاري قائلا حدثنا محمد بن يسار حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعَبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا باللَّه وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إليكم وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) 29: 46 تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إذا جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا حَدَّثَكُمْ أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمَنَّا باللَّه وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَغَضِبَ وَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابن الخطاب والّذي نفسي به لقد جئتكم به بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ والّذي نفسي به لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا وَلَا سِيَّمَا مَا يُبْدُونَهُ مِنَ الْمُعَرَّبَاتِ الَّتِي لَمْ يُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا وَهِيَ بِلُغَتِهِمْ فَكَيْفَ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِغَيْرِهَا وَلِأَجْلِ هَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ خَطَأٌ كَبِيرٌ وَوَهْمٌ كَثِيرٌ مَعَ مَا لَهُمْ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْآرَاءِ الْبَارِدَةِ وَهَذَا يَتَحَقَّقُهُ مَنْ نَظَرَ فِي(2/133)
كُتُبِهِمُ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَتَأَمَّلَ مَا فِيهَا مِنْ سوء التعبير وقبيح التبديل والتغيير وباللَّه الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. وَهَذِهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ مِنْهَا كَثِيرًا فِيمَا ذَكَرُوهُ فِيهَا تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ وَسُوءُ تَعْبِيرٍ يعلم مَنْ نَظَرَ فِيهَا وَتَأَمَّلَ مَا قَالُوهُ وَمَا أبدوه وما أخفوه وكيف يسوغون عِبَارَةً فَاسِدَةَ الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ بَاطِلَةً مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهَا وَأَلْفَاظُهَا. وَهَذَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ مِنْ أَجْوَدِ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُمْ وَقَدْ أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عمر وكان ينقل شيئا عن أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يستحس بَعْضَ مَا يَنْقُلُهُ لِمَا يُصَدِّقُهُ مِنَ الْحَقِّ وَتَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ فَتَوَسَّعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَخْذِ مَا عِنْدَهُ وَبَالَغَ أَيْضًا هُوَ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَثِيرٌ مِنْهَا مَا يُسَاوِي مِدَادَهُ. وَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا مَحَالَةَ. وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بِأَيْدِينَا. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ فَقَالَ إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ. كيف يسألون أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَحْدَثُ الْكُتُبِ باللَّه تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يَشِبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قِصَّةُ جُرَيْجٍ أَحَدِ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي أَبِي سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى بن مَرْيَمَ قَالَ وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَابِدٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ فَابْتَنَى صَوْمَعَةً وَتَعَبَّدَ فِيهَا قَالَ فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِبَادَةَ جُرَيْجٍ فَقَالَتْ بَغِيٌّ مِنْهُمْ لَئِنْ شِئْتُمْ لِأَفْتِنَنَّهُ فَقَالُوا قَدْ شِئْنَا ذَاكَ قَالَ فَأَتَتْهُ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَاعٍ كان يؤوى غَنَمَهُ إِلَى أَصْلِ صَوْمَعَةِ جُرَيْجٍ فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالُوا مِمَّنْ قَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ فَشَتَمُوهُ وَضَرَبُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا إِنَّكَ زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالُوا هُوَ هَذَا قَالَ فَقَامَ فَصَلَّى وَدَعَا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْغُلَامِ فَطَعَنَهُ بِإِصْبَعِهِ فَقَالَ باللَّه يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ فَقَالَ أَنَا ابْنُ الرَّاعِي فَوَثَبُوا إِلَى جُرَيْجٍ فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَهُ وَقَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ ابْنُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ قَالَ وَبَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي حِجْرِهَا ابْنٌ لَهَا تُرْضِعُهُ إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتِ(2/134)
اللَّهمّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا قَالَ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ اللَّهمّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ قَالَ ثُمَّ عَادَ إِلَى ثَدْيِهَا فَمَصَّهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي صنيع الصبى ووضع إصبعه في فيه يمصها. ثم مرت بِأَمَةٍ تُضْرَبُ فَقَالَتِ اللَّهمّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا قَالَ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الْأَمَةِ فَقَالَ اللَّهمّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا قَالَ فَذَاكَ حِينَ تراجعا الحديث فقالت خلفي مَرَّ الرَّاكِبُ ذُو الشَّارَةِ فَقُلْتُ اللَّهمّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فَقُلْتَ اللَّهمّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ومررت بِهَذِهِ الْأَمَةِ فَقُلْتُ اللَّهمّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ اللَّهمّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ يَا أُمَّتَاهُ إِنَّ الرَّاكِبَ ذُو الشَّارَةِ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ يَقُولُونَ زَنَتْ وَلَمْ تَزْنِ وَسَرَقَتْ وَلَمْ تَسْرِقْ وَهِيَ تَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْمَظَالِمِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ ابْرَاهِيمَ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِهِ طَرِيقٌ أُخْرَى وَسِيَاقٌ آخَرُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ قَالَ فَأَتَتْهُ أمه فقالت يا جريج أنا أمك وكلمني قال وكان أبو هريرة يصف كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع يده على حاجبه الأيمن قال وصادفته يُصَلِّي قَالَ يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَرَجَعَتْ ثُمَّ أَتَتْهُ فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي فَقَالَ يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَقَالَتِ اللَّهمّ هَذَا جُرَيْجٌ وَإِنَّهُ ابْنِي وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي اللَّهمّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ. وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَتَنَ لَافْتَتَنَ قَالَ وَكَانَ رَاعٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ مِمَّنْ هَذَا فَقَالَتْ هُوَ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْرِ فَأَقْبَلُوا بِفُئُوسِهِمْ وَمِسَاحِيهِمْ وَأَقْبَلُوا إِلَى الدَّيْرِ فَنَادَوْهُ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ فَأَقْبَلُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا سَلْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ قَالَ أُرَاهُ تَبَسَّمَ قَالَ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيَّ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ قَالَ رَاعِي الضَّأْنِ قَالُوا يَا جُرَيْجُ نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ لَا وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ كَمَا كَانَ فَفَعَلُوا ورواه مسلم في الاستيذان عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ. سِيَاقٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ فَأَتَتْهُ أُمُّهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَادَتْهُ فَقَالَتْ أَيْ جُرَيْجُ أَيْ بُنَيَّ أَشْرِفْ عَلَيَّ أُكَلِّمْكَ أَنَا أَمُّكَ أَشْرِفْ عَلَيَّ فَقَالَ أَيْ رَبِّي صَلَاتِي وَأُمِّي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ ثُمَّ عَادَتْ فَنَادَتْهُ مِرَارًا فَقَالَتْ أَيْ جُرَيْجُ أَيْ بُنَيَّ أَشْرِفْ عَلَيَّ فَقَالَ أَيْ رَبِّ صَلَاتِي وَأُمِّي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَقَالَتِ اللَّهمّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَةَ وَكَانَتْ رَاعِيَةً تَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِهَا ثُمَّ تَأْوِي إِلَى ظِلِّ صَوْمَعَتِهِ فَأَصَابَتْ فَاحِشَةً فَحَمَلَتْ فَأُخِذَتْ. وَكَانَ مَنْ زَنَى مِنْهُمْ قُتِلَ فَقَالُوا مِمَّنْ قَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ صَاحِبِ الصَّوْمَعَةِ فَجَاءُوا بِالْفُئُوسِ وَالْمُرُورِ فقالوا أي جريج اى مرائى انْزِلْ فَأَبَى وَأَقْبَلَ عَلَى صِلَاتِهِ يُصَلِّي فَأَخَذُوا فِي هَدْمِ صَوْمَعَتِهِ(2/135)
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ فَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ وَعُنُقِهَا حَبْلًا فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا فِي النَّاسِ فَوَضَعَ أُصْبُعَهُ عَلَى بَطْنِهَا فَقَالَ أَيْ غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ فَقَالَ أَبِي فُلَانٌ رَاعِي الضَّأْنِ فَقَبَّلُوهُ وَقَالُوا إِنْ شِئْتَ بَنَيْنَا لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ قَالَ أَعِيدُوهَا كَمَا كَانَتْ وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قصته وصاحب جريج بن البغي من الراعي كما سمعت واسمه يابوس كما ورد مصرحا به في صحيح البخاري وَالثَّالِثُ ابْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تُرْضِعُهُ فَتَمَنَّتْ لَهُ أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ الشَّارَةِ الْحَسَنَةِ فَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ كَتِلْكَ الْأَمَةِ الْمَتْهُومَةِ بِمَا هِيَ بَرِيئَةٌ مِنْهُ وَهِيَ تَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هَوْذَةَ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِصَّةِ هَذَا الْغُلَامِ الرَّضِيعِ وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وَهِيَ تُرْضِعُهُ فَقَالَتِ اللَّهمّ لَا تُمِتِ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ اللَّهمّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرُّ وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتْ اللَّهمّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَقَالَ اللَّهمّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهَا تَزْنِي وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَيْضًا شَاهِدُ يُوسُفَ كَمَا تَقَدَّمَ وَابْنُ مَاشِطَةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قِصَّةُ بَرْصِيصَا
وَهِيَ عَكْسُ قَضِيَّةِ جُرَيْجٍ فَإِنَّ جُرَيْجًا عُصِمَ وَذَلِكَ فُتِنَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بن إبراهيم المسعودي أنبأنا أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ 59: 16- 17. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ وَكَانَ لَهَا إِخْوَةٌ أَرْبَعَةٌ وَكَانَتْ تَأْوِي بِاللَّيْلِ إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ قَالَ فَنَزَلَ الرَّاهِبُ فَفَجَرَ بِهَا فَحَمَلَتْ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ اقْتُلْهَا ثم ادفنها فإنك رجل تصدق ويسمع قَوْلُكَ فَقَتَلَهَا ثُمَّ دَفَنَهَا قَالَ فَأَتَى الشَّيْطَانُ إِخْوَتَهَا فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ الرَّاهِبَ صَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ فَجَرَ بِأُخْتِكُمْ فَلَمَّا أَحْبَلَهَا قَتَلَهَا ثُمَّ دَفَنَهَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ رُؤْيًا مَا أَدْرِي أَقُصُّهَا عَلَيْكُمْ أَمْ أَتْرُكُ قَالُوا لَا بَلْ قُصَّهَا عَلَيْنَا قَالَ فَقَصَّهَا فَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ فَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ(2/136)
ذلك قالوا فو الله مَا هَذَا إِلَّا لِشَيْءٍ فَانْطَلَقُوا فَاسْتَعَدَوْا مَلِكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ فَأَتَوْهُ فَأَنْزَلُوهُ. ثُمَّ انْطَلَقُوا به فأتاه الشيطان فقال انى أنا أَوْقَعْتُكَ فِي هَذَا وَلَنْ يُنْجِيَكَ مِنْهُ غَيْرِي فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً وَأُنَجِّيَكَ مِمَّا أَوْقَعْتُكَ فِيهِ قَالَ فَسَجَدَ لَهُ فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ مَلِكَهُمْ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَأُخِذَ فَقُتِلَ. وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابن عباس وطاوس ومقاتل ابن حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسِيَاقٍ آخَرَ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَهِيكٍ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ إِنَّ رَاهِبًا تَعَبَّدَ سِتِّينَ سَنَةً وَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَهُ فَأَعْيَاهُ فَعَمَدَ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَجَنَّهَا وَلَهَا إِخْوَةٌ فَقَالَ لِإِخْوَتِهَا عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقَسِّ فَيُدَاوِيَهَا قَالَ فَجَاءُوا بِهَا إِلَيْهِ فَدَاوَاهَا وَكَانَتْ عِنْدَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عِنْدَهَا إِذْ أَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا فَحَمَلَتْ فَعَمَدَ إِلَيْهَا فَقَتَلَهَا فَجَاءَ إِخْوَتُهَا فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلرَّاهِبِ أَنَا صَاحِبُكَ إِنَّكَ أَعْيَيْتَنِي أَنَا صَنَعْتُ هَذَا بِكَ فَأَطِعْنِي أُنَجِّكَ مِمَّا صَنَعْتُ بِكَ اسجد لي سجدة فسجد لَهُ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) 59: 16
قصة الثلاثة الذين آووا الى الغار فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ
فَتَوَسَّلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ فَفُرِّجَ عَنْهُمْ. قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يعلم انه قد صدق فيه فقال واحدا مِنْهُمُ (اللَّهمّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أزر فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ اعْمَدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا فَقَالَ لِي إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ فَقُلْتُ لَهُ اعْمَدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ فَسَاقَهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا) فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ فَقَالَ الْآخَرُ (اللَّهمّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ آتِيهُمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي فَأَبْطَأْتُ عَنْهُمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ وَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرَ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ الْآخَرُ اللَّهمّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ كنت(2/137)
تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عنا ففرج الله عنهم فخرجوا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُوِيْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهِ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عن عمرو بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَفِيهِ زِيَادَاتٌ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَجِيلَةَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَنَشٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ
خَبَرُ الثَّلَاثَةِ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْأَقْرَعِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصُ وَأَعْمَى وَأَقْرَعُ بَدَا للَّه أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ الله اليهم ملكا فأتى الأبرص فقال له أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ فَقَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا. فَقَالَ أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ الَيْكَ قَالَ الْإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ (هُوَ شَكٌّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ الْبَقَرُ) فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ يُبَارَكُ لك فيها. قال وأتى الأقرع فقال له أي المال أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعْرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هذا قد فذرني النَّاسُ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ الَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ فَأَعْطَاهُ بقرة حاملا وقال يبارك لك فيها قال وَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ الَيْكَ قَالَ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ الَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا فَأَنْتَجَ هَذَانِ وَوَلَدَ هَذَا فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا باللَّه ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي فَقَالَ لَهُ إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَقْرَعُ في صورته وهيئته فقال له مثل ما قَالَ لِهَذَا فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا باللَّه ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ فو الله لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ للَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي أَحَادِيثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ(2/138)
حديث الّذي استلف مِنْ صَاحِبِهِ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ ائْتِنِي بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ قَالَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً 4: 79 قَالَ ائْتِنِي بِكَفِيلٍ قَالَ كَفَى باللَّه كَفِيلًا قَالَ صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مركبا يقدم عليه للأجل الّذي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا وَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ ثُمَّ قَالَ اللَّهمّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ انى استسلفت فلانا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ كَفَى باللَّه كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً 4: 79 فَرَضِيَ بِذَلِكَ وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ ان أجد مركبا أبعث اليه بالذي أعطانى فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مركبا يجيئه بِمَالِهِ فَاذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ قَالَ أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِأَلْفِكَ رَاشِدًا. هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُسْنَدًا وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ صَحِيحِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَسْنَدَهُ فِي بَعْضِهَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْهُ وَالْعَجَبُ مِنَ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ كَيْفَ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ ثُمَّ قَالَ لَا يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ
قِصَّةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلَامٌ وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا هَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَقَدْ(2/139)
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقَدْ كَانَ قَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بدهور متطاولة والله أَعْلَمُ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي كِتَابِهِ الْمُبْتَدَأِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ يَتَفَقَّدُ أُمُورَ مُلُوكِهِ وَعُمَّالِهِ بِنَفْسِهِ وَكَانَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ خِيَانَةً إِلَّا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَطَّلِعَ هُوَ بِنَفْسِهِ. قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مُتَنَكِّرًا فِي بَعْضِ الْمَدَائِنِ فَجَلَسَ إِلَى قَاضٍ مِنْ قُضَاتِهِمْ أَيَّامًا لَا يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي خُصُومَةٍ فَلَمَّا أَنْ طَالَ ذَلِكَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ ذَلِكَ الْقَاضِي وَهَمَّ بِالِانْصِرَافِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ قَدِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا فَقَالَ أَيُّهَا الْقَاضِي إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْ هَذَا دَارًا عَمَّرْتُهَا وَوَجَدْتُ فِيهَا كَنْزًا وَإِنِّي دَعَوْتُهُ إِلَى أَخْذِهِ فَأَبَى عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي مَا تَقُولُ قَالَ مَا دَفَنْتُ وَمَا عَلِمْتُ بِهِ فَلَيْسَ هُوَ لِي وَلَا أَقْبِضُهُ مِنْهُ قَالَ الْمُدَّعِي أَيُّهَا الْقَاضِي مُرْ مَنْ يَقْبِضُهُ فَتَضَعُهُ حَيْثُ أَحْبَبْتَ فَقَالَ الْقَاضِي تَفِرُّ مِنَ الشَّرِّ وَتُدْخِلُنِي فِيهِ مَا أَنْصَفْتَنِي وَمَا أَظُنُّ هَذَا فِي قضاء الملك فقال القاضي هل لكما امرا نصف مِمَّا دَعَوْتُمَانِي إِلَيْهِ قَالَا نَعَمْ قَالَ لِلْمُدَّعِي أَلَكَ ابْنٌ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ لِلْآخَرِ أَلَكَ ابْنَةٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبَا فَزَوِّجِ ابْنَتَكَ من ابن هذا وجهزهما من هذا المال وادفعا فَضْلَ مَا بَقِيَ إِلَيْهِمَا يَعِيشَانِ بِهِ فَتَكُونَا مليا بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَعَجِبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ لِلْقَاضِي مَا ظَنَنْتُ أَنَّ في الأرض أحدا يفعل مثل هذا أو قاض يَقْضِي بِمِثْلِ هَذَا فَقَالَ الْقَاضِي وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ وَهَلْ أَحَدٌ يَفْعَلُ غَيْرَ هَذَا قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ نَعَمْ قَالَ الْقَاضِي فَهَلْ يُمْطَرُونَ فِي بِلَادِهِمْ فَعَجِبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ ذَلِكَ وقال بمثل هذا قامت السموات وَالْأَرْضُ
قِصَّةٌ أُخْرَى
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وكذا فأدركه الموت فناء يصدره نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ هَكَذَا رَوَاهُ هَاهُنَا مُخْتَصَرًا وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ بُنْدَارٍ بِهِ وَمِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ ومن وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ مُطَوَّلًا
حَدِيثٌ آخَرُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فقال بينما رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ فَقَالَ فانى أو من بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثم (قال) وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ(2/140)
حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ [1] هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي فَقَالَ النَّاسُ سبحان الله ذئب يتكلم قال فانى أو من بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ (قَالَ) وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ البخاري في المزارعة عن على بن المديني ومسلم عن محمد بن عباد كلاهما عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ شعبة كلاهما عن مسعر بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وسفيان الثوري كلاهما عن أبى الزناد.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) لَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رُوِيَ عن إبراهيم بن سعد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ كَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ فَقَالَ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَكَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَيُونُسُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا فَأَخْرَجَ من كمه كبة شعر وقال ما كنت أرى أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الْوِصَالُ فِي الشَّعْرِ تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ وَالْعَجَبُ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن غندر عن شعبة وَمِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِهِ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عبد الله بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بن أسماء به.
__________
[1] قوله هذا أي يا هذا انتهى محمود الامام(2/141)
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ امْرَأَةٌ قَصِيرَةٌ فَصَنَعَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ فَكَانَتْ تَمْشِي بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ قَصِيرَتَيْنِ وَاتَّخَذَتْ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَحَشَتْ تَحْتَ فَصِّهِ أطيب الطيب والمسك فَكَانَتْ إِذَا مَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ حَرَّكَتْهُ فَنَفَحَ رِيحُهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَمِرِّ وَخُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا قَرِيبًا مِنْهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حراش يحدث عن ابن مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى (إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا هاشم بن القسم حدثنا عبد الحميد يعنى بن بَهْرَامَ حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ قَالَ أبو هريرة قال قال رسول الله بَيْنَمَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ لَهُ فِي السَّلَفِ الْخَالِي لَا يَقْدِرَانِ عَلَى شَيْءٍ فَجَاءَ الرَّجُلُ مِنْ سَفَرِهِ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ جَائِعًا قَدْ أَصَابَتْهُ سغبة شديدة فقال لامرأته عندك شَيْءٌ قَالَتْ نَعَمْ أَبْشِرْ أَتَاكَ رِزْقُ اللَّهِ فَاسْتَحَثَّهَا فَقَالَ وَيَحَكِ ابْتَغِي إِنْ كَانَ عِنْدَكِ شيء قالت نعم هنيئة نَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيْهِ المطال قَالَ وَيْحَكِ قُومِي فَابْتَغِي إِنْ كَانَ عِنْدَكِ شيء فأتينى به فانى قد بلغت الجهد وَجَهَدْتُ فَقَالَتْ نَعَمِ الْآنَ يُنْضِجُ التَّنُّورُ فَلَا تَعْجَلْ فَلَمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا سَاعَةً وَتَحَيَّنَتْ أيضا أن يقول لها قالت مِنْ عِنْدِ نَفْسِهَا لَوْ قُمْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى تَنُّورِي فَقَامَتْ فَوَجَدَتْ تَنُّورَهَا مَلْآنَ مِنْ جُنُوبِ الغنم ورحاها تطحن فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت مَا فِي تَنُّورِهَا مِنْ جُنُوبِ الْغَنَمِ قَالَ أبو هريرة فو الّذي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَخَذَتْ مَا في رحيبها ولم تنفضها لطحنت إلى يوم القيامة. وقال أحمد حدثنا أبو عَامِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْحَاجَةِ خَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ ما لقي قَامَتْ إِلَى الرَّحَى فَوَضَعَتْهَا وَإِلَى التَّنُّورِ فَسَجَرَتْهُ ثُمَّ قَالَتِ اللَّهمّ ارْزُقْنَا فَنَظَرَتْ فَإِذَا الْجَفْنَةُ قَدِ امْتَلَأَتْ قَالَ وَذَهَبَتْ إِلَى التَّنُّورِ فَوَجَدَتْهُ ممتلئا قال فرجع الزوج قال أصبتم بعد شيئا قالت امرأته نعم من ربنا فرفعتها إلى الرحى ثم قامت فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (اما أنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة) قال شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ (والله لأن يأتى أحدكم بحزمة حطب ثم يحمله فيبيعه فيستعفف مِنْهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ.
قِصَّةُ الْمَلِكَيْنِ التَّائِبَيْنِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ فِي مملكته ففكر فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ(2/142)
وَأَنَّ مَا هُوَ فِيهِ قَدْ شَغَلَهُ عَنْ عبادة ربه فانساب ذات ليلة من قصره وأصبح في مملكة غيره وأتى ساحل البحر فكان بِهِ يَضْرِبُ اللَّبِنَ بِالْأَجْرِ فَيَأْكُلُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ولم يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى رَقِيَ أَمْرُهُ إِلَى مِلْكِهِمْ فأرسل اليه فأبى أن يأتيه فركب اليه الملك فلما رآه ولى هاربا فركض في أثره فلم يدركه فَنَادَاهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنِّي بَأْسٌ فَقَامَ حَتَّى أَدْرَكَهُ فَقَالَ لَهُ مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ فَقَالَ أَنَا فُلَانُ بن فلان صاحب مملكة كذا وكذا ففكرت في أمرى فعلمت انما أنا فيه منقطع وأنه قد شغلني عن عبادة ربى عز وجل فتركته وجئت هاهنا أعبد ربى فقال له ما أنت بأحوج لما صنعت منى قال فنزل عن دابته فسيبها وتبعه فَكَانَا جَمِيعًا يَعْبُدَانِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَدَعَوَا الله أن يميتهما جميعا فماتا. قال عبد الله فلو كنت برملية مِصْرَ لَأَرَيْتُكُمْ قُبُورَهُمَا بِالنَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ قَالُوا خَيْرَ أَبٍ قَالَ فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَاذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ اذْرُونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وجل فقال ما حملك فقال مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ وَمِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا قَالَ فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ وَقَدْ رَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حدثني مالك عن محمد بن المنكدر عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَاذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ قَالَ أُسَامَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إسرائيل وعلى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَاذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فيها فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ. قَالَ أَبُو النَّضْرِ لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَمِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عَنْ عامر بن سعد بن حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطاعون أخبرنى أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(2/143)
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أن قريشا أهمهم شأن الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ ثُمَّ قَالَ إنما هلك الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ. (حَدِيثٌ آخَرُ) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ الْهِلَالِيَّ عَنِ ابن مسعود قال سمعت رجلا قرأ وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ خلافها فجئت بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ وَلَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبِغُونَ فَخَالِفُوهُمْ تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ صَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ خَالِفُوا الْيَهُودَ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طاووس عن ابن عباس سمعت عمر يَقُولُ قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا. فَبَاعُوهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ تَابَعَهُ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طرق كثيرة وسيأتي فِي بَابِ الْحِيَلِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوْتِرَ الْإِقَامَةَ وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيِّ بِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي جَمِيعِ شِعَارِهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَحَيَّنُونَ وَقْتَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ إِلَيْهَا. ثُمَّ أَمَرَ مَنْ يُنَادِي فِيهِمْ وَقْتَ الصَّلَاةِ (الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ) ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَدْعُوَا إِلَيْهَا بِشَيْءٍ يَعْرِفُهُ النَّاسُ فَقَالَ قَائِلُونَ نَضْرِبُ بِالنَّاقُوسِ وَقَالَ آخَرُ نُورِي نَارًا فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمُشَابِهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ فِي مَنَامِهِ الْأَذَانَ فَقَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بلالا فنادى كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ بَابِ الْأَذَانِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ البخاري حدثنا بشر بن محمد أنبأنا عبد الله أنبأنا معمر ويونس عن(2/144)
الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ قَالَا لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ فَاذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا وَهَكَذَا رَوَاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عن أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضب لسلكتموه فقلنا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهِ. والمقصود من هذا الْأَخْبَارِ عَمَّا يَقَعُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا شَرْعًا مِمَّا يُشَابِهُ أَهْلَ الْكِتَابِ قَبْلَنَا أن اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِ عَنْ مُشَابِهَتِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ حَتَّى وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الْمُؤْمِنِ خَيْرًا لكنه تشبّه ففعله في الظاهر فِعْلِهِمْ وَكَمَا نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشمس وعند غروبها لئلا تشابه الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بالكلية وهكذا قَوْلِهِ تَعَالَى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ 2: 104. فَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في كلامهم معه راعِنا 2: 104 أَيِ انْظُرْ إِلَيْنَا بِبَصَرِكَ وَاسْمَعْ كَلَامَنَا وَيَقْصِدُونَ بقولهم راعنا من الرعونة فنهى المؤمنين أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَذَا أَبَدًا. فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يتشبه بهم لا في أعيادهم ولا مواسمهم ولا في عباداتهم لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَّفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي شَرَعَ لَهُ الدِّينَ الْعَظِيمَ الْقَوِيمَ الشَّامِلَ الْكَامِلَ الَّذِي لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عمران الّذي أنزلت عليه التوراة وعيسى بن مريم الّذي أنزل عليه الإنجيل حين لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَرْعٌ مُتَّبَعٌ بَلْ لَوْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ بَلْ وَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ لَمَا سَاغَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُشَرَّفَةِ الْمُكَرَّمَةِ الْمُعَظَّمَةِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ مَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ جَعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَتَشَبَّهَ بِقَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سواء السبيل قَدْ بَدَّلُوا دِينَهُمْ وَحَرَّفُوهُ وَأَوَّلُوهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَا شُرِعَ لَهُمْ أَوَّلًا. ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَنْسُوخٌ وَالتَّمَسُّكُ بِالْمَنْسُوخِ حَرَامٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي لَمْ يُشْرَعْ بِالْكُلِّيَّةِ وَالله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213. (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ(2/145)
وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمِثْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلَا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صلاة العصر الى المغرب عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلَا لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ فَغَضِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وأقل عطاء قال الله تعالى (هل ظلمتكم من حقكم شيئا فقالوا لا قال فإنه فضلي أوتيه من أشاء) وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَصِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْ مُدَدِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا لِقَوْلِهِ إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَالْمَاضِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ كَمَا أَنَّ الْآتِيَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ وَلَكِنَّهُ قَصِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَبَقَ وَلَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَى تَحْدِيدِ مَا بَقِيَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) 7: 187 وقال (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) 79: 42- 44. وما تذكره بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُؤَلَّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ إِنَّ الدُّنْيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ بِالْعُمَّالِ تَفَاوُتُ أُجُورِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ ليس منوطا بكثرة العمل وقلته بَلْ بِأُمُورٍ أُخَرَ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ قَلِيلٍ أَجْدَى مَا لَا يُجْدِيهِ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الْعَمَلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ سِوَاهَا وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَقُوا فِي أَوْقَاتٍ لَوْ أَنْفَقَ غَيْرُهُمْ مِنَ الذهب مثل أحد ما بلغ من أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ مِنْ تَمْرٍ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ وَقَبَضَهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَدْ بَرَزَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ حَتَّى عَلَى نُوحٍ الَّذِي لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا صَبَاحًا وَمَسَاءً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِنَّمَا شَرُفَتْ وَتَضَاعَفَ ثَوَابُهَا بِبَرَكَةِ سِيَادَةِ نَبِيِّهَا وَشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 57: 28- 29
فَصْلٌ
وَأَخْبَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الكتاب والسند النَّبَوِيَّةِ وَلَوْ ذَهَبْنَا نَتَقَصَّى ذَلِكَ لَطَالَ الْكِتَابُ وَلَكِنْ ذَكَرْنَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الله البخاري في هذا الكتاب فَفِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ وَهُوَ تَذْكِرَةٌ وَأُنْمُوذَجٌ(2/146)
لِهَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ فيما يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرَّخَيْنِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِمَا وَقَعَ وَكَثِيرٌ مِنْهَا بَلْ أَكْثَرُهَا مِمَّا يَذْكُرُهُ الْقُصَّاصُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى وَضَعَهُ زَنَادِقَتُهُمْ وَضُلَّالُهُمْ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لِمُوَافَقَتِهِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ لِمُخَالَفَتِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَهَذَا الَّذِي أُمِرْنَا بِالتَّوَقُّفِ فِيهِ فَلَا نُصَدِّقُهُ ولا نكذبه كما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ الَيْكُمْ. وَتَجُوزُ رِوَايَتُهُ مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ (وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ)
ذِكْرُ تَحْرِيفِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَبْدِيلِهِمْ أَدْيَانَهُمْ
أَمَّا الْيَهُودُ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةَ عَلَى يَدَيْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ 6: 154 وَقَالَ تَعَالَى قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً 6: 91 وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ 21: 48 وَقَالَ تَعَالَى وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 37: 117- 118 وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. وَمن لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ 5: 44 فَكَانُوا يَحْكُمُونَ بِهَا وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِهَا بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ ثُمَّ شَرَعُوا فِي تَحْرِيفِهَا وَتَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا وَإِبْدَاءِ مَا لَيْسَ مِنْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 3: 78 فأخبر تعالى أنهم يفسرونها ويتأولونها ويضعونها على غير مواضعها وهذا مالا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي مَعَانِيهَا وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ كَمَا بدلوا حكم الرجم بالجلد وَالتَّحْمِيمِ مَعَ بَقَاءِ لَفْظِ الرَّجْمِ فِيهَا وَكَمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ مَعَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاقَامَةِ الْحَدِّ وَالْقَطْعِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ. فَأَمَّا تَبْدِيلُ أَلْفَاظِهَا فَقَالَ قَائِلُونَ بِأَنَّهَا جَمِيعَهَا بُدِّلَتْ وَقَالَ آخَرُونَ لَمْ تُبَدَّلْ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ 5: 43 وَقَوْلُهُ (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ 7: 157 الْآيَةَ) وَبِقَوْلِهِ (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) 3: 93 وَبِقِصَّةِ الرَّجْمِ فَإِنَّهُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ(2/147)
وغيره لما تحاكوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة اليهودي واليهودية الذين زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ فَقَالُوا نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْضَارِ التَّوْرَاةِ فَلَمَّا جَاءُوا بِهَا وَجَعَلُوا يَقْرَءُونَهَا وَيَكْتُمُونَ آيَةَ الرَّجْمِ الَّتِي فِيهَا وَوَضَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْفَعْ يَدَكَ يَا أَعْوَرُ فَرَفَعَ يَدَهُ فَاذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا وَقَالَ (اللَّهمّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ) وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءُوا بِهَا نَزَعَ الْوِسَادَةَ مِنْ تَحْتِهِ فَوَضَعَهَا تَحْتَهَا وَقَالَ آمَنْتُ بِكِ وَبِمَنْ أَنْزَلَكِ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَامَ لَهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِسْنَادِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا كُلُّهُ يُشْكِلُ عَلَى مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ إِنَّ التَّوْرَاةَ انْقَطَعَ تَوَاتُرُهَا فِي زَمَنِ بخت نصّر وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَحْفَظُهَا إِلَّا الْعُزَيْرُ ثُمَّ الْعُزَيْرُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَهُوَ مَعْصُومٌ وَالتَّوَاتُرُ إِلَى الْمَعْصُومِ يَكْفِي اللَّهمّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ إِلَيْهِ لَكِنْ بَعْدَهُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَكُلُّهُمْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالتَّوْرَاةِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً مَعْمُولًا بِهَا لَمَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَهُمْ أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ. ثُمَّ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُودِ فِي قَصْدِهِمُ الْفَاسِدِ إِذْ عَدَلُوا عَمَّا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِهِ حَتْمًا إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يُعَانِدُونَ مَا جَاءَ بِهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي زَعْمِهِمْ مَا قَدْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ الْمُصَادِمِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ حَتْمًا وَقَالُوا إِنْ حَكَمَ لَكُمْ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَاقْبَلُوهُ وَتَكُونُونَ قَدِ اعْتَذَرْتُمْ بِحُكْمِ نبي لكم عند الله يوم القيمة وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ لَكُمْ بِهَذَا بَلْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُ فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقَصْدِ الْفَاسِدِ الَّذِي إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ الْغَرَضُ الْفَاسِدُ وَمُوَافَقَةُ الْهَوَى لَا الدِّينُ الْحَقُّ فَقَالَ (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا من كِتابِ الله 5: 43- 44 الآية) ولهذا حَكَمَ بِالرَّجْمِ قَالَ اللَّهمّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أحيى أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ وَسَأَلَهُمْ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا وَلِمَ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ فَقَالُوا إِنَّ الزِّنَا قَدْ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا وَلَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نُقِيمَهُ عَلَيْهِمْ وَكُنَّا نَرْجُمُ مَنْ زَنَى مِنْ ضُعَفَائِنَا فَقُلْنَا تَعَالَوْا إِلَى أَمْرٍ نِصْفٍ نَفْعَلُهُ مَعَ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَاصْطَلَحْنَا عَلَى الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ تَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمُ الْبَاطِلِ وَهَذَا إِنَّمَا فَعَلُوهُ فِي الْمَعَانِي مَعَ بَقَاءِ لَفْظِ الرَّجْمِ فِي كِتَابِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ هَذَا مِنَ النَّاسِ إِنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَبْدِيلُهُمْ إِلَّا فِي الْمَعَانِي وَإِنَّ الْأَلْفَاظَ بَاقِيَةٌ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِذْ لَوْ أَقَامُوا مَا فِي كِتَابِهِمْ جَمِيعِهِ لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ 7: 157 الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمن(2/148)
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ 5: 66 الآية وقال تعالى قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من رَبِّكُمْ 5: 68 الْآيَةَ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي مَعَانِيهَا لَا فِي أَلْفَاظِهَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ كِتَابِهِ الصَّحِيحِ وَقَرَّرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ وَحَكَاهُ العلامة فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَكْثَرِ المتكلمين.
ليس للجنب لمس التوراة
وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَهُوَ مُحْدِثٌ وَحَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى التَّوَسُّطِ فِي هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا كُلَّهَا مُبَدَّلَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا بِدَّلُوهُ فَهَذَا بِعِيدٌ وَكَذَا مَنْ قَالَ لَمْ يُبَدَّلْ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بَعِيدٌ أَيْضًا وَالْحَقُّ أَنَّهُ دَخَلَهَا تَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ وَتَصَرَّفُوا فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ كَمَا تَصَرَّفُوا فِي مَعَانِيهَا وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ وَاللَّهُ أعلم كما في قوله فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ اذْبَحِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ وَفِي نُسْخَةٍ بِكْرَكَ إِسْحَاقُ فَلَفْظَةُ إِسْحَاقَ مُقْحَمَةٌ مَزِيدَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ لِأَنَّ الْوَحِيدَ وَهُوَ الْبِكْرُ إِسْمَاعِيلُ لأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشر سَنَةً فَكَيْفَ يَكُونُ الْوَحِيدُ الْبِكْرَ إِسْحَاقُ. وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَسَدُ الْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ إسماعيل غير الذَّبِيحُ فَأَرَادُوا أَنْ يَذْهَبُوا بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ لَهُمْ فَزَادُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ افْتِرَاءً عَلَى الله وعلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَقَدِ اغْتَرَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَوَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ والصحيح الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ كَمَا قَدَّمْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهَكَذَا فِي تَوْرَاةِ السَّامِرَةِ فِي الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ زِيَادَةُ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الطُّورِ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ نُسَخِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَهَكَذَا يُوجَدُ فِي الزَّبُورِ الْمَأْثُورِ عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخْتَلِفًا كَثِيرًا وَفِيهِ أَشْيَاءُ مَزِيدَةٌ مُلْحَقَةٌ فِيهِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قُلْتُ وَأَمَّا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الْمُعَرَّبَةِ فَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي تَبْدِيلِهَا وَتَحْرِيفِ كَثِيرٍ مِنْ أَلْفَاظِهَا وَتَغْيِيرِ الْقَصَصِ وَالْأَلْفَاظِ وَالزِّيَادَاتِ وَالنَّقْصِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ وَفِيهَا مِنَ الْكَذِبِ الْبَيِّنِ وَالْخَطَأِ الْفَاحِشِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا فَأَمَّا مَا يَتْلُونَهُ بِلِسَانِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِأَقْلَامِهِمْ فَلَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ وَالْمَظْنُونُ بِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَبَةُ خَوَنَةٌ يُكْثِرُونَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَأَنَاجِيلُهُمُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ طريق مُرْقُسٍ وَلُوقَا وَمَتَّى وَيُوحَنَّا أَشَدُّ اخْتِلَافًا وَأَكْثَرُ زِيَادَةً وَنَقْصًا وَأَفْحَشُ تَفَاوُتًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَقَدْ خَالَفُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ قَدْ شَرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَمِنْ ذَلِكَ صَلَاتُهُمْ إِلَى الشَّرْقِ وَلَيْسَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا وَلَا مَأْمُورًا بِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَهَكَذَا تَصْوِيرُهُمْ كَنَائِسَهُمْ وَتَرْكُهُمُ الْخِتَانَ وَنَقْلُهُمْ صِيَامَهُمْ إِلَى زمن الربيع وزيادته إِلَى خَمْسِينَ يَوْمًا وَأَكَلُهُمُ(2/149)
الْخِنْزِيرَ وَوَضْعُهُمُ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ وَالرَّهْبَانِيَّةُ وَهِيَ تَرْكُ التَّزْوِيجِ لِمَنْ أَرَادَ التَّعَبُّدَ وَتَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ وَكَتْبُهُمُ الْقَوَانِينَ الَّتِي وَضَعَتْهَا لَهُمُ الْأَسَاقِفَةُ الثَّلَاثُمِائَةِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ فَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ابْتَدَعُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قسطن بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَكَانَ زَمَنُهُ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَ أَبُوهُ أَحَدَ مُلُوكِ الرُّومِ وَتَزَوَّجَ أُمَّهُ هِيلَانَةَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ لِلصَّيْدِ مِنْ بِلَادِ حَرَّانَ وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً عَلَى دِينِ الرَّهَابِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَلَمَّا وُلِدَ لَهَا مِنْهُ قُسْطَنْطِينُ الْمَذْكُورُ تعلم الفلسفة وبهر فِيهَا وَصَارَ فِيهِ مَيْلٌ بَعْضَ الشَّيْءِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي أُمُّهُ عَلَيْهَا فَعَظَّمَ الْقَائِمِينَ بِهَا بَعْضَ الشَّيْءِ وَهُوَ عَلَى اعْتِقَادِ الْفَلَاسِفَةِ فَلَمَّا مَاتَ أَبَوْهُ وَاسْتَقَلَّ هُوَ فِي الْمَمْلَكَةِ سَارَ فِي رَعِيَّتِهِ سِيرَةً عَادِلَةً فَأَحَبَّهُ النَّاسُ وَسَادَ فِيهِمْ وَغَلَبَ عَلَى مَلِكِ الشَّامِ بِأَسْرِهِ مَعَ الْجَزِيرَةِ وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَكَانَ أَوَّلَ الْقَيَاصِرَةِ ثُمَّ اتَّفَقَ اخْتِلَافٌ فِي زَمَانِهِ بَيْنَ النَّصَارَى وَمُنَازَعَةٌ بين بترك الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِكْصَنْدَرُوسَ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ يُقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْيُوسَ فَذَهَبَ إِكْصَنْدَرُوسَ إلى أن عيسى بن اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ وَذَهَبَ ابْنُ أَرْيُوسَ إِلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ واتبعه على هذا طائفة من النصارى واتفق الأكثرون الأخسرون على قول بتركهم وَمَنْعِ ابْنِ أَرْيُوسَ مِنْ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَذَهَبَ يَسْتَعْدِي عَلَى إِكْصَنْدَرُوسَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى ملك قُسْطَنْطِينَ فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ عَنْ مَقَالَتِهِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْيُوسَ مَا يَقُولُ فِي الْمَسِيحِ مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَاحْتَجَّ على ذلك فحال إِلَيْهِ وَجَنَحَ إِلَى قَوْلِهِ فَقَالَ لَهُ قَائِلُونَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْعَثَ إِلَى خَصْمِهِ فَتَسْمَعُ كَلَامَهُ فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِإِحْضَارِهِ وَطَلَبَ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ كل أسقف وكل من عنده في دين النصرانية وجمع البتاركة الْأَرْبَعَةَ مِنَ الْقُدْسِ وَأَنْطَاكِيَةَ وَرُومِيَّةَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةَ فَيُقَالَ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي مُدَّةِ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفَيْ أُسْقُفٍ فَجَمَعَهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَجْمَعُ الْأَوَّلُ مِنْ مَجَامِعِهِمُ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا مُنْتَشِرًا جِدًّا. فَمِنْهُمُ الشِّرْذِمَةُ عَلَى الْمَقَالَةِ الَّتِي لَا يُوَافِقُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْبَاقِينَ عَلَيْهَا فَهَؤُلَاءِ خَمْسُونَ عَلَى مَقَالَةٍ.
وَهَؤُلَاءِ ثَمَانُونَ عَلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى. وَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ وَأَرْبَعُونَ عَلَى أُخْرَى وَمِائَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ وَمِائَتَانِ عَلَى مَقَالَةٍ وَطَائِفَةٌ عَلَى مَقَالَةِ ابْنِ أَرْيُوسَ وَجَمَاعَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى فَلَمَّا تَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ وَانْتَشَرَ اخْتِلَافُهُمْ حَارَ فِيهِمُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ مَعَ أَنَّهُ سَيِّئُ الظَّنِّ بِمَا عَدَا دِينَ الصَّابِئِينَ مِنْ أَسْلَافِهِ الْيُونَانِيِّينَ فَعَمَدَ إِلَى أَكْثَرِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلَى مَقَالَةٍ مِنْ مَقَالَاتِهِمْ فَوَجَدَهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًا قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَقَالَةِ إِكْصَنْدَرُوسَ وَلَمْ يَجِدْ طَائِفَةً بَلَغَتْ عِدَّتَهُمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِنَصْرِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْفِرَقِ فَاجْتَمَعَ بِهِمْ خُصُوصًا وَوَضْعَ سَيْفَهُ وَخَاتَمَهُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرَ الْفِرَقِ قَدِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى مَقَالَتِكُمْ هَذِهِ فَأَنَا أَنْصُرُهَا وَأَذْهَبُ إِلَيْهَا فَسَجَدُوا لَهُ وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَضَعُوا لَهُ كِتَابًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ إِلَى الشَّرْقِ لِأَنَّهَا مَطْلِعُ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ وَأَنْ يُصَوِّرُوا فِي كَنَائِسِهِمْ صُوَرًا لَهَا جُثَثٌ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي الْحِيطَانِ فَلَمَّا تَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ أَخَذَ فِي نَصْرِهِمْ وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِمْ وَإِقَامَةِ مَقَالَتِهِمْ وَإِبْعَادِ مَنْ خَالَفَهُمْ وَتَضْعِيفِ رَأْيِهِ وَقَوْلِهِ فَظَهَرَ أَصْحَابُهُ(2/150)
بجاهه على مخالفيهم وَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْكَنَائِسِ عَلَى دِينِهِمْ وَهُمُ الْمَلِكِيَّةُ نِسْبَةً إِلَى دِينِ الْمَلِكِ فَبُنِيَ فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِينَ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا فِي الْمَدَائِنِ والقرى أزيد من اثنتي عشر أَلْفَ كَنِيسَةٍ وَاعْتَنَى الْمَلِكُ بِبِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ يَعْنِي عَلَى مَكَانِ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ وَبَنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ قُمَامَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى مَكَانِ الْمَصْلُوبِ الّذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم وقلة علمهم أَنَّهُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُقَالُ إِنَّهُ قتل من أعداء أُولَئِكَ وَخَدَّ لَهُمُ الْأَخَادِيدَ فِي الْأَرْضِ وَأَجَّجَ فِيهَا النَّارَ وَأَحْرَقَهُمْ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ وَعَظُمَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ وَظَهَرَ أَمْرُهُ جِدًّا بِسَبَبِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ وَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْهِمْ فسادا لا إصلاح لَهُ وَلَا نَجَاحَ مَعَهُ وَلَا فَلَاحَ عِنْدِهِ وَكَثُرَتْ أَعْيَادُهُمْ بِسَبَبِ عُظَمَائِهِمْ وَكَثُرَتْ كَنَائِسُهُمْ عَلَى أَسْمَاءِ عُبَّادِهِمْ وَتَفَاقَمَ كُفْرُهُمْ وَغَلُظَتْ مُصِيبَتُهُمْ وَتَخَلَّدَ ضَلَالُهُمْ وَعَظُمَ وَبَالُهُمْ وَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَلَا أَصْلَحَ بَالَهُمْ بَلْ صَرَفَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الحق وامال عن الاستقامة ثُمَّ اجْتَمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَجْمَعَيْنِ فِي قَضِيَّةِ النُّسْطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى وَتَعْتَقِدُ تَخْلِيدَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَا يرى مُجَامَعَتَهُمْ فِي الْمَعَابِدِ وَالْكَنَائِسِ وَكُلُّهُمْ يَقُولُ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ أُقْنُومُ الْأَبِ وَأُقْنُومُ الِابْنِ وَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَلَكِنْ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِيمَا بَيْنُ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ هَلْ تَدَرَّعَهُ أَوْ حَلَّ فِيهِ أَوِ اتَّحَدَ بِهِ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ شَدِيدٌ وَكُفْرُهُمْ بِسَبَبِهِ غَلِيظٌ وَكُلُّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ إِلَّا مَنْ قَالَ مِنَ الْأَرْيُوسِيَّةِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْيُوسَ إِنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَكِنْ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْأَرْيُوسِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْفَرْقُ الثَّلَاثَةُ بِالْإِبْعَادِ وَالطَّرْدِ حَتَّى قَلُّوا فَلَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فيما يعلم وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الْجَامِعِ لِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ 2: 253 الآية وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً 4: 163- 165. وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْرَاهِيمَ بن هشام عن يحيى بن محمد الْغَسَّانِيِّ الشَّامِيِّ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ قَالَ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ قَالَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ قَالَ آدَمُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ(2/151)
نَبِيٌّ مُرْسَلٌ قَالَ نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ثُمَّ سَوَّاهُ قَبْلًا ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ آدَمُ وَشِيثٌ وَنُوحٌ وَخَنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ وَأَوَّلُ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَآخِرُهُمْ عِيسَى وَأَوَّلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ وَآخِرُهُمْ نَبِيُّكَ) . وَقَدْ أورد هذا الحديث أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا مَعَانُ بن رفاعة عن على بن زيد عن الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ (قَالَ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا) . وَهَذَا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَعِيفٌ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ مُعَانٌ وَشَيْخُهُ وَشَيْخُ شَيْخِهِ وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْهَرِيُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عبيدة اليزيدي عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَعَثَ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ نَبِيٍّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ إِلَى سائر الناس) موسى وشيخه ضعيفان أيضا وَقَالَ أَبُو يَعْلَى أَيْضًا حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ فِيمَنْ خَلَا مِنْ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ نَبِيٍّ ثم كان عيسى ثُمَّ كُنْتُ أَنَا. يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أحمد بْنُ طَارِقٍ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بُعِثْتُ عَلَى إِثْرِ ثَمَانِيَةِ آلَافِ نَبِيٍّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ لَكِنِّي لَا أَعْرِفُ حَالَ أَحْمَدَ بْنِ طَارِقٍ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّهِ حدثني عبد المتعالي ابن عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ قَالَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ هَلْ تُقِرُّ الْخَوَارِجُ بِالدَّجَّالِ قَالَ قُلْتُ لَا فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي خَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أو أكثر وما بعث الله نبيا يتبع إلا وحذر أمته منه وانى قد بين لي فيه ما لم يبين لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَعَيْنُهُ الْيُمْنَى عَوْرَاءُ جَاحِظَةٌ لَا تَخْفَى كَأَنَّهَا نُخَامَةٌ فِي حَائِطٍ مُجَصَّصٍ وَعَيْنُهُ الْيُسْرَى كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ مَعَهُ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ وَمَعَهُ صُورَةُ الْجَنَّةِ خَضْرَاءُ يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ وَصُورَةُ النَّارِ سَوْدَاءُ تَدْخَنُ) وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي لِخَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ بنى إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ وَإِنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ لِي فِيهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ذِكْرِ عَدَدِ مَنْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَكِنَّ فِي الْحَدِيثِ(2/152)
الْآخَرِ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فُرَاتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ بُنْدَارٍ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ فُرَاتٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وقال البخاري حدثنا عمرو بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ اللَّهمّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ نَحْوَهُ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ وَضَعَ رجل يده اليمنى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباء فيجوبها وان كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بِالرَّخَاءِ) هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ دُحَيْمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بن عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ. ثُمَّ الصَّالِحُونَ. ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَلَيْهِ وَلَا يزال البلاء بالعبد حتى يمشى على الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ (نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُنَا شَتَّى) وَالْمَعْنَى أَنَّ شَرَائِعَهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي الْفُرُوعِ وَنَسَخَ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى انْتَهَى الْجَمِيعُ إِلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَإِنَّمَا دِينُهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) 21: 25 وقال تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا من دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ 43: 45 وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ 16: 36 الآية. فَأَوْلَادُ الْعَلَّاتِ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ وَاحِدًا وَالْأُمَّهَاتُ مُتَفَرِّقَاتٌ فَالْأَبُ بِمَنْزِلَةِ الدِّينِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْأُمَّهَاتُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرَائِعِ فِي اخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا كَمَا قَالَ تعالى لِكُلٍ(2/153)
جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً 5: 48 وَقَالَ (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) 22: 67 وقال (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) 2: 148 عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّرَائِعَ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ فِي أَوْقَاتِهَا إِلَّا أَنَّ الْجَمِيعَ آمِرَةٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الْآخِرَةِ من الْخاسِرِينَ 3: 85 وَقَالَ تَعَالَى وَمن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 2: 130- 132 وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا 5: 44 الآية. فَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ وَالْإِحْسَانُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلِهَذَا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا شَرَعَهُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً 7: 158 وَقَالَ تَعَالَى وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمن بَلَغَ 6: 19 وَقَالَ تَعَالَى وَمن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) 11: 17. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ) . قِيلَ أَرَادَ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ.
وَقِيلَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ) وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِخْوَةَ الْعَلَّاتِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى مَأْخُوذٌ مِنْ شُرْبِ الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ وَأَمَّا إِخْوَةُ الْأَخْيَافِ فَعَكْسُ هَذَا أَنْ تَكُونَ أُمُّهُمْ وَاحِدَةً مِنْ آبَاءٍ شَتَّى. وَإِخْوَةُ الْأَعْيَانِ فَهُمُ الْأَشِقَّاءُ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ لَا يُورَثُونَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الدُّنْيَا أَحْقَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُخَلَّفَةً عَنْهُمْ وَلِأَنَّ تَوَكُّلَهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَرَارِيِّهِمْ أَعْظَمُ وَأَشَدُّ وَآكَدُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجُوا مَعَهُ إِلَى أَنْ يَتْرُكُوا لِوَرَثَتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ ما لا يَسْتَأْثِرُونَ بِهِ عَنِ النَّاسِ بَلْ يَكُونُ جَمِيعُ ما تركوه صدقة لفقراء الناس ومحاويجهم وذو خَلَّتِهِمْ. وَسَنَذْكُرُ جَمِيعَ مَا يَخْتَصُّ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعَ خَصَائِصِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ اقْتِدَاءً بِالْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أن عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُ خِبَاءَهُ وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ إِذْ نَادَى مُنَادِيهِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ قَالَ فَاجْتَمَعْنَا قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَنَا فَقَالَ (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نبي قبلي إلا دل(2/154)
أمته على خير ما يعلمه لهم وحذرهم مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَتْ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَإِنَّ آخِرَهَا سَيُصِيبُهَا بلاء شديد وأمور ينكرونها تجيء فتن يريق بَعْضُهَا بَعْضًا تَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ. ثُمَّ تَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ. ثُمَّ تَنْكَشِفُ فَمَنْ سَرَّهُ مِنْكُمْ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ. قَالَ فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي مِنْ بَيْنِ النَّاسِ فَقُلْتُ أَنْشُدُكَ باللَّه أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي قَالَ فَقُلْتُ هَذَا ابْنُ عَمِّكَ يَعْنِي مُعَاوِيَةَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالِنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَأَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ 4: 29 قَالَ فَجَمَعَ يَدَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ نَكَسَ هُنَيْهَةً. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ وَقَالَ فِيهِ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْرًا لهم وينذره مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِنَحْوِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ [1] (هذه العبارة بالنسخة الحلبية أثبتناها كما هي) آخر الجزء الثامن من خط المصنف رحمه الله تعالى يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أخبار العرب وكان الفراغ من تتمة هذا المجلد في سابع عشر شوال سنة سهر ربعره؟؟ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ والسلام بدمشق المحروسة على يد أفقر عباد الله وأحوجهم إلى رحمته وعفوه وغفرانه ولطفه وكرمه إسماعيل الدرعى الشافعيّ الأنصاري غفر الله تعالى له وختم له بخير ولأحبابه ولإخوانه ولمشايخه ولجميع المسلمين والصلاة والسلام على محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين
__________
[1] حاشية هكذا شكل أصل النسخة الحلبية أثبتناه كما هو. والمفهوم من بقية الاجزاء أنها مكتوبة في ثمانمائة وكسور(2/155)
ذكر أخبار العرب
قِيلَ إِنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ يَنْتَسِبُونَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالتَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ قَبْلَ إِسْمَاعِيلَ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ مِنْهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ وَطَسْمٌ وَجَدِيسٌ وَأَمِيمٌ وَجُرْهُمٌ وَالْعَمَالِيقُ وَأُمَمٌ آخَرُونَ لا يعلمهم الا الله كَانُوا قَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي زَمَانِهِ أَيْضًا. فَأَمَّا الْعَرَبُ الْمُسْتَعْرِبَةُ وَهُمْ عَرَبُ الْحِجَازِ فَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَأَمَّا عَرَبُ الْيَمَنِ وَهُمْ حِمْيَرُ فَالْمَشْهُورُ أنهم من قحطان واسمه مهزم قَالَهُ ابْنُ مَاكُولَا وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ قَحْطَانُ وَقَاحِطٌ وَمِقْحَطٌ وَفَالِغٌ وَقَحْطَانُ بْنُ هُودٍ. وَقِيلَ هُوَ هُودٌ. وَقِيلَ هُودٌ أَخُوهُ وَقِيلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَقِيلَ إِنَّ قَحْطَانَ مِنْ سلالة إسماعيل حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ قحطان بن تيمن بن قيذر بْنِ إِسْمَاعِيلَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ (بَابُ نِسْبَةِ الْيَمَنِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف فَقَالَ ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَأَمْسَكُوا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ مَا لَكُمْ قَالُوا وَكَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَدْرَعِ فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ فَقَالَ ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَأَسْلَمُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ خُزَاعَةَ يَعْنِي وَخُزَاعَةُ فِرْقَةٌ مِمَّنْ كَانَ تَمَزَّقَ مِنْ قَبَائِلِ سَبَأٍ حِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ لَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ سُلَالَتِهِ وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جِنْسُ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ تَأْوِيلٌ بِعِيدٌ إِذْ هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ بِلَا دَلِيلٍ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ الْقَحْطَانِيَّةَ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ لَيْسُوا مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ يَنْقَسِمُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ قَحْطَانِيَّةٍ وَعَدْنَانِيَّةٍ فَالْقَحْطَانِيَّةُ شَعْبَانِ سَبَأٌ وَحَضْرَمَوْتُ وَالْعَدْنَانِيَّةُ شَعْبَانِ أيضا ربيعة ومضرابنا نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَالشَّعْبُ الْخَامِسُ وَهُمْ قُضَاعَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِمْ فَقِيلَ إِنَّهُمْ عَدْنَانِيُّونَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَعَمِّهِ مُصْعَبِ الزُّبَيْرِيِّ وَابْنِ هِشَامٍ وَقَدْ وَرَدَ في حديث قضاعة بن معدر ولكنه لَا يَصِحُّ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ ويقال إنهم لن يَزَالُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَصَدْرٍ مِنَ الْإِسْلَامِ يَنْتَسِبُونَ إِلَى عَدْنَانَ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ خَالِدِ بن يزيد بن معاوية وكانوا أَخْوَالَهُ انْتَسَبُوا إِلَى قَحْطَانَ فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَعْشَى بْنُ ثَعْلَبَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:(2/156)
أَبْلِغْ قُضَاعَةَ فِي الْقِرْطَاسِ أَنَّهُمُ ... لَوْلَا خَلَائِفُ آلِ اللَّهِ مَا عُتِقُوا
قَالَتْ قُضَاعَةُ إِنَّا مِنْ ذَوِي يُمْنٍ ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا بَرُّوا وَمَا صَدَقُوا
قَدِ ادَّعَوْا وَالِدًا مَا نَالَ أُمَّهُمُ ... قَدْ يَعْلَمُونَ وَلَكِنْ ذَلِكَ الْفَرَقُ
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ مَا فِيهِ ابْدَاعٌ فِي تَفْسِيرِ قُضَاعَةَ فِي انْتِسَابِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُمْ مِنْ قَحْطَانَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثَانِ:
يَا أَيُّهَا الدَّاعِي ادْعُنَا وَأَبْشِرْ ... وَكُنْ قُضَاعِيًّا وَلَا تُنْزِرْ
نَحْنُ بَنُو الشَّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرِ ... قُضَاعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرِ
النَّسَبُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ ... فِي الْحَجَرِ الْمَنْقُوشِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ النَّسَبِ هُوَ قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بن عمر بْنِ مُرَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حِمْيَرَ وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ سُوِيدٍ عَنْ أبى عشابة [1] محمد بن موسى عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا نَحْنُ مِنْ مَعَدٍّ قَالَ لَا قُلْتُ فَمِمَّنْ نَحْنُ قَالَ أَنْتُمْ قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ قَالَ أَبُو عُمَرَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ جُهَيْنَةَ بْنَ زيد بن أسود بْنِ أَسْلَمَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافَ بْنِ قُضَاعَةَ قَبِيلَةُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ فَعَلَى هَذَا قُضَاعَةُ فِي الْيَمَنِ فِي حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِمَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ قُضَاعَةَ امْرَأَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ تَزَوَّجَهَا مَالِكُ بْنُ حِمْيَرَ فَوَلَدَتْ لَهُ قُضَاعَةَ ثُمَّ خَلَّفَ عَلَيْهَا مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ وَابْنُهَا صَغِيرٌ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ حَمْلًا فَنُسِبَ إِلَى زَوْجِ أُمِّهِ كَمَا كَانَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ يَنْسُبُونَ الرَّجُلَ إِلَى زَوْجِ أُمِّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ الْبَصْرِيُّ النَّسَّابَةُ: الْعَرَبُ ثَلَاثَةُ جَرَاثِيمَ الْعَدْنَانِيَّةُ وَالْقَحْطَانِيَّةُ وَقُضَاعَةُ. قِيلَ لَهُ فَأَيُّهُمَا أَكْثَرُ الْعَدْنَانِيَّةُ أَوِ الْقَحْطَانِيَّةُ فَقَالَ مَا شَاءَتْ قضاعة أن تيامنت فالقحطانية أكثر وان تعددت فَالْعَدْنَانِيَّةُ أَكْثَرُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَلَوَّمُونَ فِي نَسَبِهِمْ فَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ الْمُقَدَّمُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْقَحْطَانِيَّةِ والله أعلم. وقد قال الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ 49: 13 قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ يُقَالَ شُعُوبٌ. ثُمَّ قَبَائِلُ ثُمَّ عَمَائِرُ. ثُمَّ بُطُونٌ. ثُمَّ أَفْخَاذٌ. ثُمَّ فَصَائِلُ. ثُمَّ عَشَائِرُ. وَالْعَشِيرَةُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الرَّجُلِ وَلَيْسَ بَعْدَهَا شَيْءٌ. وَلْنَبْدَأْ أَوَّلًا بِذِكْرِ
__________
[1] قوله أبى عشابة كذا بالأصل بباء بعد الألف وليس من الرجال من تكنى بهذه الكنية والموجود أبو عشانة بنون بعد الألف المعافري المصري واسمه حي بن يومن بن حجيل بن جريج وهو الراويّ عن عقبة بن عامر وعمار بن ياسر وغيرهما لا محمد بن موسى انتهى محمود الامام(2/157)
الْقَحْطَانِيَّةِ ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَهُمْ عَرَبَ الْحِجَازِ وَهُمُ الْعَدْنَانِيَّةُ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ (بَابُ ذِكْرِ قَحْطَانَ) حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عن أبى المغيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ الدراوَرْديّ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَقَحْطَانُ أَوَّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ أَبَيْتَ اللَّعْنَ وَأَوَّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ أَنْعِمْ صَبَاحًا. وَقَالَ الامام أحمد حدثنا أبو المغيرة عن جرير حدثني راشد بن سعد المقرئي عن أبى حي عن ذي فجر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حِمْيَرَ فَنَزْعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ فَجَعَلَهُ فِي قُرَيْشٍ (وَسَ يَ ع ودال ى هـ م) قال عبد الله كان هذا في كتاب أبى وَحَيْثُ حَدَّثَنَا بِهِ تَكَلَّمَ بِهِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ يَعْنِي وَسَيَعُودُ إِلَيْهِمْ.
قِصَّةُ سَبَأٍ
قَالَ اللَّهُ تعالى لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ في مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 34: 15- 19 قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ اسْمُ سَبَأٍ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ قَالُوا وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سبى من الْعَرَبِ فَسُمِّي سَبَأً لِذَلِكَ وَكَانَ يُقَالَ لَهُ الرَّائِشُ لِأَنَّهُ كَانَ يُعْطِي النَّاسَ الْأَمْوَالَ مِنْ مَتَاعِهِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَيُقَالَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَتَوَّجَ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَكَانَ لَهُ شِعْرٌ بَشَّرَ فِيهِ بِوُجُودِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظِيمًا ... نَبِيٌّ لَا يُرَخِّصُ فِي الْحَرَامِ
وَيَمْلِكُ بَعْدَهُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ ... يَدِينُونَ الْعِبَادَ بِغَيْرِ ذَامِ
وَيَمْلِكُ بَعْدَهُمْ مِنَّا مُلُوكٌ ... يَصِيرُ الْمُلْكُ فِينَا بِاقْتِسَامِ
وَيَمْلِكُ بَعْدَ قَحْطَانٍ نبي ... تقى جبينه خَيْرُ الْأَنَامِ
يُسَمَّى أَحْمَدًا يَا لَيْتَ أَنِّي ... أُعَمَّرُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِعَامِ
فَأَعْضُدُهُ وَأَحْبُوهُ بِنَصْرِي ... بِكُلِّ مُدَجَّجٍ وَبِكُلِّ رَامِ
مَتَى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصِرِيهِ ... وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلِغْهُ سَلَامِي(2/158)
حَكَاهُ ابْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عبد الله بن دعلة سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ يَقُولُ إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَأٍ مَا هُوَ أَرْجُلٌ أَمِ امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ قَالَ بَلْ هُوَ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَبِالشَّامِ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ. فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ فَمَذْحِجٌ وَكِنْدَةُ وَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارٌ وَحِمْيَرُ. وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ الْغُطَيْفِيَّ هُوَ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ كما استقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه هُنَاكَ وللَّه الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَبَأً يَجْمَعُ هَذِهِ الْقَبَائِلَ كُلَّهَا وَقَدْ كَانَ فِيهِمُ التَّبَابِعَةُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَاحِدُهُمْ تُبَّعٌ وَكَانَ لِمُلُوكِهِمْ تِيجَانٌ يَلْبَسُونَهَا وَقْتَ الْحُكْمِ كَمَا كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ مُلُوكُ الْفُرْسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ من ملك اليمن مع الشحر وحضر موت تُبَّعًا كَمَا يُسَمُّونَ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ قَيْصَرَ وَمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ كِسْرَى وَمَنْ مَلَكَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ النَّجَاشِيَّ وَمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مُلُوكِ حِمْيَرَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ بِلْقِيسُ وَقَدْ قَدَّمْنَا قِصَّتَهَا مَعَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ كَانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ وَأَرْزَاقٍ دَارَّةٍ وَثِمَارٍ وَزُرُوعٍ كَثِيرَةٍ وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ وَطَرِيقِ الرَّشَادِ فَلَمَّا بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا وَزَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ فاللَّه أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ وَسَجَدُوا لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ بِلْقِيسَ وَقَبْلَهَا أَيْضًا وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِمْ حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ 34: 16- 17 ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ سَدَّ مَأْرِبَ كَانَ صَنْعَتَهُ أَنَّ الْمِيَاهَ تَجْرِي مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ فَعَمَدُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ فَسَدُّوا مَا بَيْنَهُمَا بِبَنَاءٍ مُحْكَمٍ جِدًّا حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ فَحَكَمَ عَلَى أَعَالِي الْجَبَلَيْنِ وَغَرَسُوا فِيهِمَا الْبَسَاتِينَ وَالْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ الْأَنِيقَةَ وَزَرَعُوا الزُّرُوعَ الْكَثِيرَةَ وَيُقَالَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ سَبَأَ بْنَ يَعْرُبَ وَسَلَّطَ إِلَيْهِ سَبْعِينَ وَادِيًا يَفِدُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ فُرْضَةً يَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ وَمَاتَ وَلَمْ يَكْمُلْ بِنَاؤُهُ فَكَمَّلَتْهُ حِمْيَرُ بَعْدَهُ وَكَانَ اتِّسَاعُهُ فرسخا في فرسخ وكانوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ وَعَيْشٍ رَغِيدٍ وَأَيَّامٍ طَيِّبَةٍ حَتَّى ذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تمر بالمكتل على رأسها فتمتلى مِنَ الثِّمَارِ مَا يَتَسَاقَطُ فِيهِ مِنْ نُضْجِهِ وَكَثْرَتِهِ وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْبَرَاغِيثِ وَلَا الدَّوَابِّ الْمُؤْذِيَةِ لِصِحَّةِ هَوَائِهِمْ وَطِيبِ فِنَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ في مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ 34: 15 وَكَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ 14: 7(2/159)
فَلَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَبَطَرُوا نِعْمَتَهُ وَسَأَلُوا بَعْدَ تَقَارُبِ مَا بَيْنَ قُرَاهُمْ وَطِيبِ مَا بَيْنَهَا مِنَ الْبَسَاتِينِ وَأَمْنِ الطُّرُقَاتِ سَأَلُوا أَنْ يُبَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ سَفَرُهُمْ فِي مَشَاقٍّ وَتَعَبٍ وَطَلَبُوا أَنْ يُبَدَّلُوا بِالْخَيْرِ شَرًّا كَمَا سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَدَلَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى الْبُقُولَ وَالْقِثَّاءَ وَالْفُومَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ فَسُلِبُوا تِلْكَ النعمة العظيمة والحسنة العميمة بتخريب البلاد والشنات عَلَى وُجُوهِ الْعِبَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ 34: 16 قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَصْلِ السَّدِّ الْفَارَ وَهُوَ الْجُرَذُ وَيُقَالَ الْخُلْدُ فَلَمَّا فَطِنُوا لِذَلِكَ أَرْصَدُوا عِنْدَهَا السَّنَانِيرَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا إِذْ قَدْ حُمَّ الْقَدَرُ وَلَمْ يَنْفَعِ الحذر كلا لا وزر فلما نحكم فِي أَصْلِهِ الْفَسَادُ سَقَطَ وَانْهَارَ فَسَلَكَ الْمَاءُ الْقَرَارَ فَقُطِعَتْ تِلْكَ الْجَدَاوِلُ وَالْأَنْهَارُ وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الثمار ومادت تِلْكَ الزُّرُوعُ وَالْأَشْجَارُ وَتَبَدَّلُوا بَعْدَهَا بِرَدِيءِ الْأَشْجَارِ وَالْأَثْمَارِ كَمَا قَالَ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) 34: 16 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ هُوَ الْأَرَاكُ وَثَمَرُهُ الْبَرِيرُ وَأَثْلٍ وَهُوَ الطَّرْفَاءُ. وَقِيلَ يُشْبِهُهُ وَهُوَ حَطَبٌ لَا ثَمَرَ لَهُ (وَشَيْءٍ من سِدْرٍ قَلِيلٍ) 34: 16 وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُثْمِرُ النَّبْقُ كَانَ قَلِيلًا مَعَ أَنَّهُ ذُو شَوْكٍ كَثِيرٍ وَثَمَرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالَ فِي الْمَثَلِ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلَ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينَ فَيُنْتَقَى وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ 34: 17 أَيْ إِنَّمَا نُعَاقِبُ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ مَنْ كَفَرَ بِنَا وَكَذَّبَ رُسُلَنَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا وَانْتَهَكَ مَحَارِمَنَا وَقَالَ تَعَالَى فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ 34: 19 وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَخَرِبَتْ بِلَادُهُمُ احْتَاجُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْهَا وَيَنْتَقِلُوا عَنْهَا فَتَفَرَّقُوا فِي غَوْرِ الْبِلَادِ وَنَجْدِهَا أَيْدِيَ سَبَأٍ شَذَرَ مذر فنزلت طوائف منهم الحجاز ومنهم خُزَاعَةُ نَزَلُوا ظَاهِرِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ ما سنذكره ومنهم المدينة المنورة الْيَوْمَ فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ سَكَنَهَا ثُمَّ نَزَلَتْ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ قَبَائِلَ مِنَ الْيَهُودِ بَنُو قَيْنُقَاعَ وبنو قريظة وبنو النضير فخالفوا الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمُ الشَّامَ وَهُمُ الَّذِينَ تَنَصَّرُوا فِيمَا بَعْدُ وَهُمْ غَسَّانُ وَعَامِلَةُ وَبَهْرَاءُ وَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَتَنُوخُ وَتَغْلِبُ وَغَيْرُهُمْ وَسَنَذْكُرُهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ فُتُوحِ الشَّامِ فِي زَمَنِ الشَّيْخَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ قَالَ الْأَعْشَى بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ مَيْمُونُ بْنُ قيس.
وفي ذاك للمؤتسى أسوة ... ومأرم عَفَّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرُ ... إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزرع وأعنابها ... على سعة ماءهم إذ قسم
فصاروا أيادي لا يقدرون ... على شرب طفل إذا ما فُطِمْ
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ قَبْلَ سَيْلِ الْعَرِمِ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ اللَّخْمِيُّ وَلَخْمٌ هُوَ ابْنُ عَدِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بن مرة بن أزد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن يشجب(2/160)
ابن زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ. وَيُقَالُ لَخْمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَبَأٍ قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ مِنَ الْيَمَنِ فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ رَأَى جُرَذًا يَحْفِرُ فِي سَدِّ مَأْرِبَ الَّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ فَيَصْرِفُونَهُ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ أَرْضِهِمْ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلسَّدِّ عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَزَمَ عَلَى النَّقَلَةِ عَنِ الْيَمَنِ فَكَادَ قَوْمَهُ فَأَمَرَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ إِذَا أَغْلَظَ عَلَيْهِ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَالَ عَمْرٌو لَا أُقِيمُ بِبَلَدٍ لَطَمَ وَجْهِي فِيهِ أَصْغَرُ وَلَدِي وَعَرَضَ أَمْوَالَهُ فَقَالَ أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو فَاشْتَرُوا مِنْهُ أَمْوَالَهُ وَانْتَقَلَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَقَالَتِ الْأَزْدُ لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ وَخَرَجُوا مَعَهُ فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِلَادَ عَكٍّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ الْبُلْدَانَ فَحَارَبَتْهُمْ عَكٌّ فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سِجَالًا فَفِي ذَلِكَ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ.
وَعَكُّ بْنُ عَدْنَانَ الَّذِينَ تَلَعَّبُوا ... بِغَسَّانَ حَتَّى طُرِّدُوا كُلَّ مَطْرَدِ
قَالَ فَارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَنَزَلَ آلُ جَفْنَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشَّامَ وَنَزَلَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَثْرِبَ وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرًّا وَنَزَلَتْ أَزْدُ السَّرَاةِ السَّرَاةَ وَنَزَلَتْ أُزْدُ عُمَانَ عُمَانَ ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى السَّدِّ السَّيْلَ فَهَدَمَهُ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَعَنْ محمد بن إسحاق في روايته أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ كَانَ كَاهِنًا وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَتِ امْرَأَتُهُ طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيَّةُ كَاهِنَةً فَأُخْبِرَتْ بِقُرْبِ هَلَاكِ بِلَادِهِمْ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا شَاهِدَ ذَلِكَ فِي الْفَأْرِ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى سَدِّهِمْ فَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْتُ قِصَّتَهُ مُطَوِّلَةً عَنْ عِكْرِمَةَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ.
فَصْلٌ
وَلَيْسَ جَمِيعُ سَبَأٍ خَرَجُوا مِنَ الْيَمَنِ لَمَّا أُصِيبُوا بِسَيْلِ الْعَرِمِ بَلْ أَقَامَ أَكْثَرُهُمْ بِهَا وَذَهَبَ أَهْلُ مَأْرِبٍ الَّذِينَ كَانَ لَهُمُ السَّدُّ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ قَبَائِلِ سَبَأٍ لَمْ يَخْرُجُوا مِنَ الْيَمَنِ بَلْ إِنَّمَا تَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَبَقِيَ بِالْيَمَنِ سِتَّةٌ وَهُمْ مَذْحِجٌ وَكِنْدَةُ وَأَنْمَارٌ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارٌ هُوَ أَبُو خَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ وَحِمْيَرُ فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قَبَائِلَ مِنْ سَبَأٍ أَقَامُوا بِالْيَمَنِ وَاسْتَمَرَّ فِيهِمُ الْمُلْكُ وَالتَّبَابِعَةُ حَتَّى سَلَبَهُمْ ذَلِكَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ بِالْجَيْشِ الَّذِي بَعَثَهُ صُحْبَةَ أَمِيرَيْهِ أَبْرَهَةَ وَأَرْيَاطَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً ثم استرجعه سيف ابن ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ عَلِيًّا وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ثُمَّ أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وكانوا يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُبَيِّنُونَ لَهُمُ الْحُجَجَ ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَى الْيَمَنِ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ وَأَخْرَجَ نُوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا فَلَمَّا قُتِلَ الْأَسْوَدُ اسْتَقَرَّتِ الْيَدُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى(2/161)
قِصَّةُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ اللَّخْمِيُّ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ وَنُسَابُّ اليمن تقول نصر بن ربيعة ابن نَصْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَعْوَذِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَجْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ وَلَخْمٌ أَخُو جُذَامٍ وَسُمِّي لَخْمًا لِأَنَّهُ لَخَمَ أَخَاهُ أَيْ لَطَمَهُ فَعَضَّهُ الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَجَذَمَهَا فَسُمِّيَ جُذَامًا وَكَانَ رَبِيعَةُ أَحَدَ مُلُوكِ حِمْيَرَ التَّبَابِعَةِ وَخَبَرُهُ مَعَ شِقٍّ وَسَطِيحٍ الْكَاهِنَيْنِ وَإِنْذَارُهُمَا بِوُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا سَطِيحٌ فَاسْمُهُ رَبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عدي بن مازن غَسَّانَ وَأَمَّا شِقٌّ فَهُوَ ابْنُ صَعْبِ بْنِ يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس بْنِ عَبْقَرَ بْنِ أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنْمَارُ بْنُ أَرَاشِ بْنِ لَحْيَانَ بن عمرو بن الغوث بن نابت بن مالك بن زبد بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ وَيُقَالَ إِنَّ سَطِيحًا كَانَ لَا أَعْضَاءَ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ مِثْلَ السَّطِيحَةِ وَوَجْهُهُ فِي صَدْرِهِ وَكَانَ إِذَا غَضِبَ انْتَفَخَ وَجَلَسَ وَكَانَ شِقٌّ نِصْفُ إِنْسَانٍ وَيُقَالَ إِنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَسْرِيِّ كَانَ سُلَالَتَهُ وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُمَا وُلِدَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ مَاتَتْ طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيَّةُ وَيُقَالَ إِنَّهَا تَفَلَتْ فِي فَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَوَرِثَ الْكِهَانَةَ عَنْهَا وَهِيَ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكَ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التبابعة فرأى رؤيا هائلة هَالَتْهُ وَفَظِعَ بِهَا فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا وَلَا سَاحِرًا وَلَا عَائِفًا وَلَا مُنَجِّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إِلَّا جَمَعَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا فَأَخْبَرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا فَقَالُوا اقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا فَقَالَ إِنِّي إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إِلَى خَبَرِكُمْ بِتَأْوِيلِهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إِلَى شِقٍّ وَسَطِيحٍ فَإِنَّهُ ليس أحد أعلم منهما فهما يخبر انه بِمَا سَأَلَ عَنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا فَقَدِمَ إِلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ فَقَالَ لَهُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا فَأَخْبِرْنِي بِهَا فَإِنَّكَ إِنْ أَصَبْتَهَا أَصَبْتَ تَأْوِيلَهَا فَقَالَ أَفْعَلُ. رَأَيْتَ حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ. فَوَقَعَتْ بِأَرْضٍ تَهَمَةٍ. فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْتَ مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحُ فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا قَالَ أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ حَنَشٍ لَتَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمُ الْحَبَشُ. فَلْيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إِلَى جُرَشَ فقال له الملك يَا سَطِيحُ إِنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ أَفِي زَمَانِي أَمْ بَعْدَهُ فقال لا وأبيك بَلْ بَعْدَهُ بِحِينٍ. أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ أَوْ سَبْعَيْنَ. يَمْضِينَ مِنَ السِّنِينَ قَالَ أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ قَالَ بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعٍ وَسَبْعِينَ مِنَ السِّنِينَ ثُمَّ يُقْتَلُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ قَالَ وَمَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ قَالَ يَلِيَهُمْ إِرَمُ ذِي يَزَنَ. يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ. فَلَا يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا بِالْيَمَنِ. قَالَ أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ قَالَ بَلْ يَنْقَطِعُ قَالَ وَمَنْ يَقْطَعُهُ قَالَ نَبِيٌّ زَكِيٌّ. يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ قَالَ وَمِمَّنْ هَذَا النَّبِيُّ قَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ. يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. قَالَ وَهَلْ(2/162)
لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ قَالَ نَعَمْ يَوْمَ يُجْمَعُ فيه الأولون والآخرون. يسعد فيه المحسنون ويشقى فِيهِ الْمُسِيئُونَ. قَالَ أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي قَالَ نَعَمْ. وَالشَّفَقِ وَالْغَسَقِ وَالْفَلَقِ إِذَا اتَّسَقَ إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ. قَالَ ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحٍ وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ لِيَنْظُرَ أَيَتَّفِقَانِ أَمْ يَخْتَلِفَانِ قَالَ نَعَمْ رَأَيْتَ حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ. فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ. فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ. فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا وَأَنَّ قَوْلَهُمَا وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ سَطِيحًا قَالَ وَقَعَتْ بِأَرْضٍ تَهَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ. وَقَالَ شِقٌّ وَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْتَ يَا شِقُّ مِنْهَا شَيْئًا فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا فَقَالَ أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ إِنْسَانٍ. لَيَنْزِلَنَّ أَرْضِكُمُ السُّودَانُ فَلْيَغْلِبُنَّ عَلَى كُلِّ طَفْلَةِ البنان وليملكن ما بين أين إِلَى نَجْرَانَ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيكَ يَا شِقُّ إِنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ أَفِي زَمَانِي أَمْ بَعْدَهُ قَالَ لَا بَلْ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ. ثُمَّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيمٌ ذُو شَانٍ. وَيُذِيقُهُمْ أَشَدَّ الْهَوَانِ. قَالَ وَمَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الشَّانِ قَالَ غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيٍّ وَلَا مُدَنٍّ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ. قَالَ أَفَيَدُومُ سُلْطَانُهُ أَمْ يَنْقَطِعُ قَالَ بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ قَالَ وَمَا يوم الفصل قال يوم يجزى فيه الولات يدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الحياء وَالْأَمْوَاتُ وَيُجْمَعُ النَّاسُ فِيهِ لِلْمِيقَاتِ يَكُونُ فِيهِ لِمَنِ اتَّقَى الْفَوْزُ وَالْخَيْرَاتُ. قَالَ أَحَقٌّ مَا تَقُولُ قَالَ إِي وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ رَفْعٍ وَخَفْضٍ. إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ مَا فِيهِ أَمْضٌ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا فَجَهَّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إِلَى الْعِرَاقِ وَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرَّزَاذَ فَأَسْكَنَهُمُ الْحِيرَةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَمِنْ بَقِيَّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ يَعْنِي الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى الْحِيرَةِ لِمُلُوكِ الْأَكَاسِرَةِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفِدُ إِلَيْهِ وَتَمْتَدِحُهُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ سُلَالَةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ قَالَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جِيءَ بِسَيْفِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ سَأَلَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ عَنْهُ مِمَّنْ كَانَ فَقَالَ مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ
قِصَّةُ تُبَّعٍ أَبِي كَرِبٍ تُبَّانِ أَسْعَدَ مَلِكِ الْيَمَنِ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
(وَكَيْفَ أَرَادَ غَزْوَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ثُمَّ شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ وَكَسَاهُ الْحُلَلَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَسَاهُ) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ مُلْكُ الْيَمَنِ كُلِّهِ إِلَى حَسَّانَ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبٍ وَتُبَّانُ أَسْعَدَ تُبَّعٌ الْآخِرُ ابْنُ كُلْكِيكَرِبَ بْنِ زيد وزيد تبع الأول بن عَمْرٍو ذِي الْأَذْعَارِ بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ الرَّائِشِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبٍ كَهْفِ الظُّلَمِ بْنِ زيد بن سهل بن عمرو بن قس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ قَطَنِ بْنِ عريب بن زهير(2/163)
ابن أنس بن الهميسع بن العربحج والعربحج هُوَ حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَكْبَرُ بْنُ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطَانَ.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَتُبَّانُ أَسْعَدَ أَبُو كَرِبٍ هُوَ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَسَاقَ الْحَبْرَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْيَمَنِ وَعَمَّرَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَكَسَاهُ وَكَانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقُهُ حِينَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِهَا فِي بُدَأَتِهِ فَلَمْ يُهِجْ أَهْلَهَا وَخَلَّفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ ابْنًا لَهُ فَقُتِلَ غِيلَةً فَقَدِمَهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ لِإِخْرَابِهَا وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا وَقَطْعِ نَخْلِهَا فَجَمَعَ لَهُ هَذَا الْحَيُّ من الأنصار ورئيسهم عمرو بن طلحة أَخُو بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ وَاسْمُ مَبْذُولٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَاسْمُ النَّجَّارِ تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بن ثعلبة عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ هُوَ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَطَلَّةُ أُمُّهُ وَهِيَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الْخَزْرَجِيَّةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ يُقَالَ لَهُ أَحْمَرُ عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ تُبَّعٍ وَجَدَهُ يَجُدُّ عَذْقًا لَهُ فَضَرَبَهُ بِمِنْجَلِهِ فَقَتَلَهُ وَقَالَ إِنَّمَا التَّمْرُ لِمَنْ أَبَّرَهُ فَزَادَ ذَلِكَ تُبَّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا فَتَزْعُمُ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنَّهَارِ وَيُقْرُونَهُ بِاللَّيْلِ فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَقُولُ وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمَنَا لِكِرَامٌ وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْأَنْصَارِ أَنَّ تُبَّعًا إِنَّمَا كَانَ حَنَقُهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُمْ مِنْهُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَيُقَالُ إِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ أَبْنَاءِ عَمِّهِ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى شُرُوطٍ فَلَمْ يَفُوا بِهَا وَاسْتَطَالُوا عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَبَيْنَا تُبَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ إِذْ جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ عَالِمَانِ رَاسِخَانِ حِينَ سَمِعَا بِمَا يُرِيدُ مِنْ إِهْلَاكِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا فَقَالُوا لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا مَا تُرِيدُ حِيَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا وَلَمْ نأمن عليك جل الْعُقُوبَةِ فَقَالَ لَهُمَا وَلِمَ ذَلِكَ قَالَا هِيَ مُهَاجَرُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَرَمِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ تَكُونُ دَارَهُ وَقَرَارَهُ فَتَنَاهَى وَرَأَى أَنَّ لَهُمَا عِلْمًا وَأَعْجَبَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُمَا فَانْصَرَفَ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاتَّبَعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ تُبَّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا فَتَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ طَرِيقُهُ إِلَى الْيَمَنِ حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ عسفان وأمج أتاه نفر من هذيل ابن مدركة بن الياس بن مضر بن بزار بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فَقَالُوا لَهُ أَيُّهَا الملك ألا ندلك على بيت مال داثرا غفلته الْمُلُوكُ قَبْلَكَ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ قَالَ بَلَى قَالُوا بَيْتٌ بِمَكَّةَ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْهُذَلِيُّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ لَمَّا عَرَفُوا مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ من الملوك وبغى عِنْدَهُ فَلَمَّا أَجْمَعَ لِمَا قَالُوا أَرْسَلَ إِلَى الْحَبْرَيْنِ فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا لَهُ مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إِلَّا هَلَاكَكَ وَهَلَاكَ جُنْدَكَ مَا نَعْلَمُ بَيْتًا للَّه عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ وَلَئِنْ فَعَلْتَ مَا دَعَوْكَ اليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا قال(2/164)
فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إِذَا أَنَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ قَالَا تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ وَتُكْرِمُهُ وَتَحْلِقُ رَأْسَكَ عِنْدَهُ وتذلل لَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ قَالَا أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَبَيْتُ أَبِينَا ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّهُ لَكَمَا أَخْبَرْنَاكَ وَلَكِنَّ أَهْلَهُ حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ وَبِالدِّمَاءِ الَّتِي يُهْرِيقُونَ عِنْدَهُ وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ أَوْ كَمَا قَالَا لَهُ فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصِدْقَ حَدِيثِهِمَا وَقَرَّبَ النَّفَرَ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحَرَ عِنْدَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَيَّامٍ فِيمَا يَذْكُرُونَ يَنْحَرُ بِهَا لِلنَّاسِ وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا ويسقيهم العسل وأرى في المنام أن يكسوا البيت فكساء الْخَصَفَ ثُمَّ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَهُ أحسن من ذلك فكساء المعافر ثم أرى أن يكسوء أحسن من ذلك فكساء الملاء والوصائل وكان تُبَّعٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ وَأَوْصَى بِهِ وُلَاتَهُ مِنْ جُرْهُمٍ وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ وَأَنْ لَا يُقَرِّبُوهُ دَمًا وَلَا مَيْتَةً وَلَا مِئْلَاةً وَهِيَ الْمَحَايِضُ وَجَعَلَ لَهُ بَابًا وَمِفْتَاحًا فَفِي ذَلِكَ قَالَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْأَحَبِّ تُذَكِّرُ ابْنَهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْبَغْيِ بِمَكَّةَ وَتَذْكُرُ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ تُبَّعٍ فِيهَا.
أَبُنَيَّ لَا تَظْلِمْ بِمَكَّةَ ... لَا الصَّغِيرَ وَلَا الْكَبِيرْ
وَاحْفَظْ مَحَارِمَهَا بُنَيَّ ... وَلَا يَغُرَّنَّكَ الْغَرُورْ
أَبُنَيَّ مَنْ يَظْلِمْ بِمَكَّةَ ... يلق أطراف الشرور
أبنى يضرب وجهه ... ويلج بِخَدَّيْهِ السَّعِيرْ
أَبُنَيَّ قَدْ جَرَّبْتُهَا ... فَوَجَدْتُ ظَالِمَهَا يَبُورْ
اللَّهُ أَمَّنَهَا وَمَا ... بُنِيَتْ بِعَرْصَتِهَا قُصُورْ
وَاللَّهُ أَمَّنَ طَيْرَهَا ... وَالْعُصْمُ تَأْمَنُ فِي ثَبِيرْ
وَلَقَدْ غَزَاهَا تُبَّعٌ ... فَكَسَا بُنَيَّتَهَا الْحَبِيرْ
وَأَذَلَّ رَبِّي مُلْكَهُ ... فِيهَا فَأَوْفَى بِالنُّذُورْ
يَمْشِي إِلَيْهَا حَافِيًا ... بِفِنَائِهَا أَلْفَا بَعِيرْ
وَيَظَلُّ يُطْعِمُ أَهْلَهَا ... لْحَمَ الْمَهَارَى وَالْجَزُورْ
يَسْقِيهُمُ الْعَسَلَ الْمُصَفَّى ... وَالرَّحِيضَ مِنَ الشَّعِيرْ
وَالْفِيلُ أُهْلِكَ جَيْشُهُ ... يُرْمَوْنَ فِيهَا بِالصُّخُورْ
وَالْمُلْكُ فِي أَقْصَى الْبِلَادِ ... وَفِي الْأَعَاجِمِ والخزور
فَاسْمَعْ إِذَا حُدِّثْتَ وَافْهَمْ ... كَيْفَ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ خَرَجَ تُبَّعٌ مُتَوَجِّهًا الى اليمن بمن معه من الجنود وَبِالْحَبْرَيْنِ حَتَّى إِذَا دَخَلَ الْيَمَنَ(2/165)
دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى يُحَاكِمُوهُ إِلَى النَّارِ الَّتِي كَانَتْ بِالْيَمَنِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّ تُبَّعًا لَمَّا دَنَا مِنَ الْيَمَنِ لِيَدْخُلَهَا حَالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَقَالُوا لَا تَدْخُلْهَا عَلَيْنَا وَقَدْ فَارَقْتَ دِينَنَا فَدَعَاهُمْ إِلَى دِينِهِ وَقَالَ إِنَّهُ خير من دينكم قالوا تحاكمنا إِلَى النَّارِ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فيما يختلفون فيه تأخذ الظَّالِمَ وَلَا تَضُرُّ الْمَظْلُومَ فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَمَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا مُتَقَلِّدِيهَا حَتَّى قَعَدُوا لِلنَّارِ عِنْدَ مَخْرَجِهَا الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ فَخَرَجَتِ النَّارُ اليهم فلما أقلبت نحوهم حادوا عنها وهابوها فزجرهم مَنْ حَضَرَهُمْ مِنَ النَّاسِ وَأَمَرُوهُمْ بِالصَّبْرِ لَهَا فَصَبَرُوا حَتَّى غَشِيَتْهُمْ فَأَكَلَتِ الْأَوْثَانَ وَمَا قَرَّبُوا مَعَهَا وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ رِجَالِ حِمْيَرَ وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا وَلَمْ تَضُرَّهُمَا فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دينهما فمن هنالك كَانَ أَصْلُ الْيَهُودِيَّةِ بِالْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ أَنَّ الْحَبْرَيْنِ وَمَنْ خَرَجَ مِنْ حِمْيَرَ إِنَّمَا اتَّبَعُوا النَّارَ لِيَرُدُّوهَا وَقَالُوا مَنْ رَدَّهَا فَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ فَدَنَا مِنْهَا رِجَالُ حِمْيَرَ بِأَوْثَانِهِمْ لِيَرُدُّوهَا فَدَنَتْ مِنْهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها فدنا مِنْهَا الْحَبْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَا يَتْلُوَانِ التَّوْرَاةَ وهي تنقص عنهما حتى رداها لي مَخْرَجِهَا الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ رِئَامٌ بَيْتًا لَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ وَيَنْحَرُونَ عِنْدَهُ وَيُكَلَّمُونَ فِيهِ إِذْ كَانُوا عَلَى شِرْكِهِمْ فَقَالَ الْحَبْرَانِ لِتُّبَّعٍ إِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يَفْتِنُهُمْ بِذَلِكَ فَخَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَالَ فَشَأْنُكُمَا بِهِ فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ كَلْبًا أَسْوَدَ فَذَبَحَاهُ ثُمَّ هَدَمَا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَبَقَايَاهُ الْيَوْمَ كَمَا ذُكِرَ لِي بِهَا آثَارُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ تُهْرَاقُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْحَدِيثَ الَّذِي وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا تَسُبُّوا أَسْعَدَ الحميري فإنه أول من كسى الْكَعْبَةَ) . قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَقَدْ قَالَ تُّبَّعٌ حِينَ أَخْبَرَهُ الْحَبْرَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرًا
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أَنَّهُ ... رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِي النَّسَمْ
فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إِلَى عُمْرِهِ ... لَكُنْتُ وَزِيرًا لَهُ وَابْنَ عَمْ
وَجَاهَدْتُ بِالسَّيْفِ أَعْدَاءَهُ ... وَفَرَّجْتُ عَنْ صَدْرِهِ كُلَّ هَمْ
قَالَ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الشِّعْرُ تَتَوَارَثُهُ الْأَنْصَارُ وَيَحْفَظُونَهُ بَيْنَهُمْ وَكَانَ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ أَنَّ قَبْرًا حُفِرَ بِصَنْعَاءَ فَوُجِدَ فِيهِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا لَوْحٌ مِنْ فِضَّةٍ مَكْتُوبٌ بِالذَّهَبِ وَفِيهِ هَذَا قَبْرُ لَمِيسٍ وَحُبَّى ابْنَتَيْ تُبَّعٍ ماتا وهما تشهد ان(2/166)
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَعَلَى ذَلِكَ مَاتَ الصَّالِحُونَ قَبْلَهُمَا.
ثُمَّ صَارَ الْمُلْكُ فِيمَا بَعْدُ إِلَى حَسَّانَ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ وَهُوَ أَخُو الْيَمَامَةِ الزَّرْقَاءِ الَّتِي صُلِبَتْ عَلَى بَابِ مَدِينَةِ جَوٍّ فَسُمِّيَتْ مِنْ يَوْمِئِذٍ الْيَمَامَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا مَلَكَ ابْنُهُ حَسَّانُ بْنُ أَبِي كَرِبٍ تُبَّانُ أَسْعَدَ سار بأهل اليمن يريد أن يطاء بِهِمْ أَرْضَ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْأَعَاجِمِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْعِرَاقِ كَرِهَتْ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ السَّيْرَ مَعَهُ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ فَكَلَّمُوا أَخًا لَهُ يُقَالَ لَهُ عَمْرٌو وَكَانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ فَقَالُوا لَهُ اقْتُلْ أَخَاكَ حَسَّانَ وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا وَتَرْجِعُ بِنَا إِلَى بِلَادِنَا فَأَجَابَهُمْ فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا ذَا رُعَيْنٍ الْحِمْيَرِيُّ فَإِنَّهُ نَهَى عَمْرًا عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ فَكَتَبَ ذُو رُعَيْنٍ رُقْعَةً فِيهَا هَذَانَ الْبَيْتَانِ:
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمٍ ... سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ
فَأَمَّا حِمْيَرٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لِذِي رُعَيْنِ
ثُمَّ اسْتَوْدَعَهَا عَمْرًا. فَلَمَّا قَتَلَ عَمْرٌو أَخَاهُ حَسَّانَ وَرَجَعَ إِلَى الْيَمَنِ مُنِعَ مِنْهُ النَّوْمُ وسلط عليه السهر فسأل الأطباء والحذاق مِنَ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ عَمَّا بِهِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ قَطُّ أو ذا رحم بَغْيًا إِلَّا ذَهَبَ نَوْمُهُ وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ فَعِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ فَلَمَّا خَلُصَ إِلَى ذِي رُعَيْنٍ قَالَ لَهُ إِنَّ لِي عِنْدَكَ بَرَاءَةً قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ الْكِتَابُ الَّذِي دَفَعْتُهُ الَيْكَ فَأَخْرَجَهُ فَاذَا فِيهِ الْبَيْتَانِ فَتَرَكَهُ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُ وَهَلَكَ عَمْرٌو فَمَرَجَ أَمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَفَرَّقُوا
وُثُوبُ لَخْنِيعَةَ [1] ذِي شَنَاتِرَ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ
وَقَدْ مَلَكَهَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمُلْكِ يُقَالَ لَهُ لَخْنِيعَةُ يَنُوفُ ذُو شَنَاتِرَ فَقَتَلَ خِيَارَهُمْ وَعَبَثَ بِبُيُوتِ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ مِنْهُمْ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ امْرَأً فَاسِقًا يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَكَانَ يُرْسِلُ إِلَى الْغُلَامِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ قَدْ صَنَعَهَا لِذَلِكَ لِئَلَّا يَمْلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يطلع من شربته تِلْكَ إِلَى حَرَسِهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ جُنْدِهِ قد أخذ مسواكا فجعله في فيه لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ حَتَّى بَعَثَ إِلَى زُرْعَةَ ذِي نُوَاسِ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ أَخِي حَسَّانَ وَكَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ أَخُوهُ حَسَّانُ ثُمَّ شَبَّ غُلَامًا جَمِيلًا وَسِيمًا ذَا هَيْئَةٍ وَعَقْلٍ فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ ما يريد منه فأخذ سكينا جديدا لَطِيفًا فَخَبَّأَهُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَنَعْلِهِ ثُمَّ أَتَاهُ فَلَمَّا خَلَا مَعَهُ وَثَبَ إِلَيْهِ فَوَاثَبَهُ ذُو نُوَاسٍ فَوَجَأَهُ حَتَّى قَتَلَهُ ثُمَّ حَزَّ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي الْكُوَّةِ الَّتِي كَانَ يُشْرِفُ مِنْهَا وَوَضَعَ مِسْوَاكَهُ فِي فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالُوا لَهُ ذَا نُوَاسٍ أَرَطْبٍ أَمْ يباس فقال سل نحماس اسْتُرْطُبَانَ ذُو نُوَاسٍ اسْتُرْطُبَانَ لَا بَاسَ [2] فَنَظَرُوا الى الكوة
__________
[1] قوله لخنيعة بالنون وهو كذلك في سيرة ابن هشام والّذي في مادة شنطرة من القاموس بالتاء المثناة من فوق
[2] قال أبو ذر الخشنيّ قالوا في تفسير استرطبان ان معناه أخذته النار بالفارسية انتهى وقال السهيليّ وقوله(2/167)
فَاذَا رَأْسُ لَخْنِيعَةَ مَقْطُوعٌ فَخَرَجُوا فِي أَثَرِ ذِي نُوَاسٍ حَتَّى أَدْرَكُوهُ فَقَالُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَنَا غَيْرُكَ إِذْ أَرَحْتَنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ وَتَسَمَّى يُوسُفَ فَأَقَامَ فِي مُلْكِهِ زَمَانًا، وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ أهل دين عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْإِنْجِيلِ أَهْلُ فَضْلٍ وَاسْتِقَامَةٍ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ لَهُمْ رَأْسٌ يُقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ سَبَبَ دُخُولِ أَهْلِ نَجْرَانَ فِي دِينِ النَّصَارَى وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ يُقَالَ لَهُ فَيْمَيُونُ كَانَ مِنْ عُبَّادِ النَّصَارَى بِأَطْرَافِ الشَّامِ وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَصَحِبَهُ رجل يقال له صالح فكان يَتَعَبَّدَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَعْمَلُ فَيْمَيُونُ بَقِيَّةَ الْجُمُعَةِ في البناء وكان يدعوا لِلْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَأَهْلِ الْعَاهَاتِ فَيُشْفَوْنَ ثُمَّ اسْتَأْسَرَهُ وَصَاحِبَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ فَبَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ فَكَانَ الَّذِي اشْتَرَى فَيْمَيُونَ يَرَاهُ إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ بالبيت الّذي هو فيه في الليل يمتلى عَلَيْهِ الْبَيْتُ نُورًا فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَكَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا حُلِيَّ نِسَائِهِمْ وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهَا فَقَالَ فَيْمَيُونَ لِسَيِّدِهِ أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَهَلَكَتْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَاطِلٌ. قَالَ نَعَمْ فَجُمِعَ لَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ وَقَامَ فَيْمَيُونَ إِلَى مُصَلَّاهُ فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهَا فأرسل الله عليها قاصفا فَجَعَفَهَا مِنْ أَصْلِهَا وَرَمَاهَا إِلَى الْأَرْضِ فَاتَّبَعَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَحَمَلَهُمْ عَلَى شَرِيعَةِ الْإِنْجِيلِ حَتَّى حَدَثَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ بِكُلِّ أَرْضٍ فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بِنَجْرَانَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ حِينَ تَنَصَّرُ عَلَى يَدَيْ فَيْمَيُونَ وَكَيْفَ قَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ ذُو نُوَاسٍ وَخَدَّ لَهُمُ الْأُخْدُودَ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَهُوَ الْحَفْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْخَنْدَقِ وَأَجَّجَ فِيهِ النَّارَ وَحَرَّقَهُمْ بِهَا وَقَتَلَ آخَرِينَ حَتَّى قَتَلَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَمَا هُوَ مُسْتَقْصًى في تفسير سورة (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) 85: 1 مِنْ كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ وللَّه الْحَمْدُ.
ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُلْكِ بِالْيَمَنِ مِنْ حِمْيَرَ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ السُّودَانِ
كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ شِقٌّ وَسَطِيحٌ الْكَاهِنَانِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنْ أَهْلِ نجران إلا رجل واحد يقال
__________
[ () ] استرطبان الى آخر الكلام مشكل يفسره ما ذكره ابو الفرج في الأغاني قال كان الغلام إذا خرج من عند لخنيعة وقد لاط به قطعوا مشافر ناقته وذنبها وصاحوا به أرطب أم يباس فلما خرج ذو نواس من عنده وركب ناقة له يقال لها السراب قالوا. ذا نواس. أرطب أم يباس. فقال. ستعلم الاحراس است ذي نواس. است رطب أم يباس. فهذا اللفظ مفهوم والّذي وقع في الأصل يريد سيرة ابن هشام هذا معناه ولفظه قريب من هذا ولعله تغيير في اللفظ والله اعلم انتهى. محمود الامام(2/168)
لَهُ دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبَانِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَسَلَكَ الرَّمْلَ فَأَعْجَزَهُمْ فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ حتى أنى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي نُوَاسٍ وَجُنُودِهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ عَلَى دِينِهِمْ. فَقَالَ لَهُ بَعُدَتْ بِلَادُكَ مِنَّا وَلَكِنْ سَأَكْتُبُ لَكَ إِلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى بِلَادِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ وَالطَّلَبِ بِثَأْرِهِ. فَقَدِمَ دَوْسٌ عَلَى النَّجَاشِيِّ بِكِتَابِ قَيْصَرَ فَبَعَثَ مَعَهُ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْحَبَشَةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالَ لَهُ أَرْيَاطُ وَمَعَهُ فِي جُنْدِهِ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ فَرَكِبَ أَرْيَاطُ الْبَحْرَ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحِلِ الْيَمَنِ وَمَعَهُ دَوْسٌ وَسَارَ إِلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ فِي حِمْيَرَ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ. فَلَمَّا الْتَقَوُا انْهَزَمَ ذُو نُوَاسٍ وَأَصْحَابُهُ فَلَمَّا رَأَى ذُو نُوَاسٍ مَا نَزَلْ بِهِ وَبِقَوْمِهِ وَجَّهَ فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَدَخَلَ فِيهِ فَخَاضَ بِهِ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ حَتَّى أَفْضَى بِهِ إِلَى غَمْرَةٍ فَأَدْخَلَهُ فِيهَا فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ وَدَخَلَ أَرْيَاطُ الْيَمَنَ وَمَلَكَهَا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا أَشْعَارًا لِلْعَرَبِ فِيمَا وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الْكَائِنَةِ الْغَرِيبَةِ وَفِيهَا فَصَاحَةٌ وَحَلَاوَةٌ وَبَلَاغَةٌ وَطَلَاوَةٌ وَلَكِنْ تَرْكَنَا إِيرَادَهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ وَخَوْفَ الْمَلَالَةِ وباللَّه الْمُسْتَعَانُ
ذِكْرُ خُرُوجِ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ عَلَى أَرْيَاطَ وَاخْتِلَافِهِمَا واقتتالهما وصيرورة ملك اليمن الى ابرهة بعد قتله ارياط
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَأَقَامَ أَرْيَاطُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ سِنِينَ فِي سُلْطَانِهِ ذَلِكَ ثُمَّ نَازَعَهُ أَبْرَهَةُ حَتَّى تَفَرَّقَتِ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمَا. فَانْحَازَ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ ثُمَّ سَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. فَلَمَّا تَقَارَبَ النَّاسُ أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ إِلَى أَرْيَاطَ إِنَّكَ لَنْ تَصْنَعَ بِأَنْ تُلْقِيَ الْحَبَشَةَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تُفْنِيَهَا شَيْئًا شَيْئًا، فَابْرُزْ لِي وَأَبْرُزُ لَكَ فَأَيُّنَا أَصَابَ صَاحِبَهُ انْصَرَفَ إِلَيْهِ جُنْدُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْيَاطُ أَنْصَفْتَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبْرَهَةُ وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا لَحِيمًا وَكَانَ ذَا دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَرْيَاطُ وَكَانَ رَجُلًا جَمِيلًا عَظِيمًا طَوِيلًا وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ. وَخَلْفَ أَبْرَهَةَ غُلَامٌ يُقَالَ لَهُ عَتُودَةَ يَمْنَعُ ظَهْرَهُ. فَرَفَعَ أَرْيَاطُ الْحَرْبَةَ فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ يُرِيدُ يَافُوخَهُ. فَوَقَعَتِ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ أَبْرَهَةَ فَشَرَمَتْ حَاجِبَهُ وَعَيْنَهُ وَأَنْفَهُ وَشَفَتَهُ فَبِذَلِكَ سُمِّيَ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ. وَحَمَلَ عَتُودَةُ عَلَى أَرْيَاطَ مِنْ خَلْفِ أَبْرَهَةَ فَقَتَلَهُ وَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطَ إِلَى أَبْرَهَةَ. فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ وَوَدَى أَبْرَهَةُ أَرْيَاطَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ الَّذِي بَعَثَهُمْ إِلَى الْيَمَنِ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا عَلَى أَبْرَهَةَ وَقَالَ عَدَا عَلَى أَمِيرِي فَقَتَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِي ثُمَّ حَلَفَ لَا يَدَعُ أَبْرَهَةَ حَتَّى يَطَأَ بِلَادَهُ وَيَجُزَّ نَاصِيَتَهُ فَحَلَقَ أَبْرَهَةُ رَأْسَهُ وَمَلَأَ جِرَابًا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّمَا كَانَ أَرْيَاطُ عَبْدَكَ وَأَنَا عَبْدُكَ فَاخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِكَ وَكُلٌّ طَاعَتُهُ لَكَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ وَأَضْبَطَ لَهَا وَأَسْوَسَ مِنْهُ. وَقَدْ حَلَقْتُ رَأْسِي كُلَّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ الْمَلِكِ وَبَعَثْتُ إِلَيْهِ بِجِرَابِ تُرَابٍ مِنْ أَرْضِي لِيَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَبَرَّ قَسَمَهُ فِيَّ. فَلَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ رَضِيَ عَنْهُ وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ اثْبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ باليمن(2/169)
ذِكْرُ سَبَبِ قَصْدِ أَبْرَهَةَ بِالْفِيلِ مَكَّةَ لِيُخَرِّبَ الكعبة فأهلكه الله عاجلا غير آجل كما قال الله تَعَالَى
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ 105: 1- 5 قِيلَ أَوَّلُ مَنْ ذَلَّلَ الْفِيَلَةَ أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْفِيَانَ الَّذِي قَتَلَ الضَّحَّاكَ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ أول من اتخذ للخيل السرج. وَأَمَّا أَوَّلُ مَنْ سَخَّرَ الْخَيْلَ وَرَكِبَهَا فَطَهْمُورَثُ وَهُوَ الْمَلِكُ الثَّالِثُ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَيُقَالَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ رَكِبَهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَهَا مِنَ الْعَرَبِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَيُقَالَ إِنَّ الْفِيلَ مَعَ عَظَمَةِ خَلْقِهِ يَفْرَقُ مِنَ الْهِرِّ. وَقَدِ احْتَالَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْحُرُوبِ فِي قِتَالِ الْهُنُودِ بِإِحْضَارِ سَنَانِيرَ إِلَى حَوْمَةِ الْوَغَى فَنَفَرَتِ الْفِيَلَةُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ بنى القليس بصنعاء كَنِيسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ فَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ أَبْرَهَةَ اسْتَذَلَّ أَهْلَ الْيَمَنِ فِي بِنَاءِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ الْخَسِيسَةِ وَسَخَّرَهُمْ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ السُّخَرِ. وَكَانَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْعَمَلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ يَقْطَعُ يَدَهُ لَا مَحَالَةَ. وَجَعَلَ يَنْقُلُ إِلَيْهَا مِنْ قَصْرِ بِلْقِيسَ رُخَامًا وَأَحْجَارًا وَأَمْتِعَةً عَظِيمَةً وَرَكَّبَ فِيهَا صُلْبَانًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. وَجَعَلَ فِيهَا مَنَابِرَ مِنْ عَاجٍ وَآبِنُوسَ وَجَعَلَ ارْتِفَاعَهَا عَظِيمًا جِدًّا وَاتِّسَاعَهَا بَاهِرًا فَلَمَّا هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أبرهة وتفرقت الحبشة كان من يتعرض لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ بِنَائِهَا وَأَمْتِعَتِهَا أَصَابَتْهُ الْجِنُّ بِسُوءٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى اسْمِ صَنَمَيْنِ- كُعَيْبٍ وَامْرَأَتِهِ- وَكَانَ طُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا سِتُّونَ ذِرَاعًا. فَتَرَكَهَا أَهْلُ الْيَمَنِ عَلَى حَالِهَا. فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى زَمَنِ السَّفَّاحِ أَوَّلِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَزْمِ وَالْحَزْمِ وَالْعِلْمِ فَنَقَضُوهَا حَجَرًا حَجَرًا وَدَرَسَتْ آثَارُهَا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ إِلَى النَّجَاشِيِّ غَضِبَ رَجُلٌ مِنَ النَّسَأَةِ مِنْ كِنَانَةَ الذين ينسئون شهر الْحَرَامَ إِلَى الْحِلِّ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ كَمَا قررنا ذلك عند قوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ 9: 37 الآية) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَخَرَجَ الْكِنَانِيُّ حَتَّى أَتَى الْقُلَّيْسَ فَقَعَدَ فِيهِ أَيْ أَحْدَثَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ فَأُخْبِرَ أَبْرَهَةُ بِذَلِكَ. فَقَالَ مَنْ صَنَعَ هَذَا. فَقِيلَ لَهُ صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي تَحُجُّهُ الْعَرَبُ بِمَكَّةَ لَمَّا سَمِعَ بِقَوْلِكَ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَى بَيْتِكَ هَذَا فَغَضِبَ فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ. فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ وَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ. ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ(2/170)
فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ. ثُمَّ سَارَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ وَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ فَأَعْظَمُوهُ وَفَظِعُوا بِهِ وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا بِأَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالَ لَهُ ذُو نَفَرٍ. فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَمَا يُرِيدُهُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ. فَأَجَابَهُ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ. ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ. فَهُزِمَ ذُو نَفَرٍ وَأَصْحَابُهُ وَأُخِذَ لَهُ ذُو نَفَرٍ فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا. فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ ذُو نَفَرٍ يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنَ الْقَتْلِ. فَتَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا ثُمَّ مَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمٍ عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي قَبِيلَتَيْ خَثْعَمٍ وَهُمَا شَهْرَانُ وَنَاهِسٌ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ وَأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا فَأُتِيَ بِهِ فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ وَهَاتَانِ يَدَايَ لَكَ عَلَى قَبِيلَتَيْ خَثْعَمٍ- شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ- بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ. حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ فَقَالُوا لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ. وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي تُرِيدُ- يَعْنُونَ اللَّاتَ- إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَاللَّاتُ بَيْتٌ لَهُمْ بِالطَّائِفِ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ نَحْوَ تعظيم الكعبة. قال فبعثوا معه أبارعال يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتَّى أَنْزَلَهُ بِالْمُغَمِّسِ. فَلَمَّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ فَرَجَمَتْ قَبْرَهُ الْعَرَبُ فَهُوَ الْقَبْرُ الَّذِي يَرْجُمُ النَّاسُ بِالْمُغَمِّسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ أَنَّ أَبَا رِغَالٍ كَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ وَكَانَ يَمْتَنِعُ بِالْحَرَمِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهُ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَقَتَلَهُ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ «وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنَانِ مِنْ ذَهَبٍ» فَحَفَرُوا فَوَجَدُوهُمَا قَالَ وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ قُلْتُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ ما ذكر ابن إسحاق أن أبارغال هَذَا الْمُتَأَخِّرَ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ جَدِّهِ الْأَعْلَى ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ جَرِيرٌ:
إِذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ ... كَرَجْمِكُمُ لِقَبْرِ أَبِي رِغَالِ
الظَّاهِرُ أَنَّهُ الثَّانِي قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ بِالْمُغَمِّسِ بَعَثَ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ يُقَالَ له الأسود بن مفصود عَلَى خَيْلٍ لَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ. فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب ابن هَاشِمٍ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا- فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ.
ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَتَرَكُوا ذَلِكَ. وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ لَهُ سَلْ عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهِمْ، ثُمَّ قُلْ لَهُ إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ فَإِنْ لَمْ تعرضوا(2/171)
لَنَا دُونَهُ بِحَرْبٍ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ، فان هو لم يرد حربي فائتنى بِهِ فَلَمَّا دَخَلَ حُنَاطَةُ مَكَّةَ سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا فَقِيلَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلَبِ بْنُ هَاشِمٍ. فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ كَمَا قَالَ- فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ حَرَمُهُ وَبَيْتُهُ وَإِنْ يُخَلِّ بينه وبينه فو الله مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ. فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفَرٍ وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا- حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ فَقَالَ لَهُ يَا ذَا نَفَرٍ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفَرٍ وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا أَوْ عَشِيًّا؟ مَا عِنْدِي غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ بِكَ إِلَّا أَنَّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي. فَسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ وَأُوصِيهِ بِكَ وَأُعَظِّمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ فَتُكَلِّمَهُ بِمَا بَدَا لَكَ وَيَشْفَعَ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ حَسْبِي. فَبَعَثَ ذُو نَفَرٍ إِلَى أُنَيْسٍ فَقَالَ لَهُ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سيد قريش وصاحب عين مَكَّةَ يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ. قَالَ أَفْعَلُ.
فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ يَسْتَأْذِنُ عليك وهو صاحب عين مَكَّةَ وَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ وَالْوُحُوشَ في رءوس الجبال فائذن لَهُ عَلَيْكَ فَلْيُكَلِّمْكَ فِي حَاجَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ قَالَ وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ وَأَعْظَمَهُمْ وَأَجْمَلَهُمْ فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ. فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَانِبِهِ ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التُّرْجُمَانُ فَقَالَ حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي. أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ قَدْ جِئْتُ لِأَهْدِمَهُ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ. فَقَالَ مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي. قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ. فَرَدَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى أَبْرَهَةَ يَعْمَرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بن الديل ابن بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ سَيِّدُ بنى بكر وخويلد بن وائلة سَيِّدُ هُذَيْلٍ فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فاللَّه أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا.
فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرُ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَالتَّحَرُّزِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ. ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ. وَقَالَ عَبْدُ المطلب- وهو آخذ بحلقة باب الكعبة-:
لا هم إن العبد يمنع ... رحله فامنع رحالك(2/172)
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ
إِنْ كنت تاركهم و ... قبلتنا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ يَتَحَرَّزُونَ فِيهَا يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهَيَّأَ فِيلَهُ وَعَبَّى جَيْشَهُ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا. فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ إِلَى مَكَّةَ أقبل نفيل ابن حَبِيبٍ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ الْفِيلِ ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ ابْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ. فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَأَرْسَلَ أُذُنَهُ. فَبَرَكَ الْفِيلُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ أَيْ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْفِيَلَةِ أَنَّ تَبْرُكَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مِنْهَا مَا يَبْرُكُ كَالْبَعِيرِ فاللَّه أَعْلَمُ وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَصْعَدَ فِي الْجَبَلِ. وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى فَضَرَبُوا رَأْسَهُ بِالطَّبَرْزِينِ لِيَقُومَ فَأَبَى فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ فَبَزَغُوهُ بِهَا لِيَقُومَ فَأَبَى فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ. وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ [1] مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالَ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّتِي مِنْهَا جَاءُوا. وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ نُفَيْلٌ فِي ذَلِكَ:
أَلَّا حُيِّيتِ عَنَّا ياردينا ... نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا
رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْتِ فَلَا تَرَيْهِ ... لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا
إِذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي ... وَلَمْ تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا
حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا ... وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
وَكُلُّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَيَهْلِكُونَ بِكُلِّ مَهْلِكٍ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ. وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً كُلَّمَا سَقَطَتْ أُنْمُلَةٌ أَتْبَعَتْهَا مِنْهُ مدة تمت قَيْحًا وَدَمًا حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ. فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ أَوَّلَ مَا رُئِيَتِ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامُ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُئِيَ بِهَا مَرَائِرُ الشَّجَرِ الْحَرْمَلِ وَالْحَنْظَلِ وَالْعُشَرِ ذَلِكَ الْعَامُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يعدد اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ
__________
[1] كذا في الأصل ولعله مصحف عن البلشون فإنه يشبه الخطاطيف(2/173)
مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ 105: 1- 5 ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ هِشَامٍ يَتَكَلَّمَانِ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ الْأَبَابِيلُ الْجَمَاعَاتُ وَلَمْ تَتَكَلَّمْ لَهَا الْعَرَبُ بِوَاحِدٍ عَلِمْنَاهُ. قَالَ وَأَمَّا السِّجِّيلُ فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النَّحْوِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ الشَّدِيدُ الصُّلْبُ. قَالَ وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ جَعَلَتْهُمَا العرب كلمة واحدة وانها سنج وجل [1] فَالسِّنْجُ الْحَجَرُ وَالْجِلُّ الطِّينُ. يَقُولُ الْحِجَارَةُ مِنْ هَذَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْحَجَرُ وَالطِّينُ. قَالَ وَالْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُقْصَبْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ سَمِعْتُ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ وَاحِدُ الْأَبَابِيلِ إِبِّيلٌ وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنَ السَّلَفِ الْأَبَابِيلُ الْفِرَقُ مِنَ الطَّيْرِ الَّتِي يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ وَعَنْ عِكْرِمَةَ كَانَتْ رُءُوسُهَا كَرُءُوسِ السِّبَاعِ خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ وَكَانَتْ خُضْرًا. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَانَتْ سُودًا بَحْرِيَّةً فِي مَنَاقِيرِهَا وَأَكُفِّهَا الْحِجَارَةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ أَشْكَالُهَا كَعَنْقَاءِ مُغْرِبٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ أَصْغَرُ حَجَرٍ مِنْهَا كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَمِنْهَا مَا هُوَ كَالْإِبِلِ. وَهَكَذَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ كَانَتْ صِغَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حدثنا محمد بن عبد الله بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ بَعَثَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أُنْشِئَتْ مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ كُلُّ طَيْرٍ مِنْهَا يَحْمِلُ ثلاثة أحجار حَجَرَيْنِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرًا فِي مِنْقَارِهِ قَالَ فَجَاءَتْ حَتَّى صَفَّتْ عَلَى رُءُوسِهِمْ. ثُمَّ صَاحَتْ وَأَلْقَتْ مَا فِي رِجْلَيْهَا وَمَنَاقِيرِهَا. فَمَا يَقَعُ حَجَرٌ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ. وَلَا يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ إِلَّا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ قَالَ وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْهُ الْحِجَارَةُ يَعْنِي بَلْ رَجَعَ مِنْهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى الْيَمَنِ حَتَّى أَخْبَرُوا أَهْلَهُمْ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِهِمْ مِنَ النَّكَالِ وَذَكَرُوا أَنَّ أَبْرَهَةَ رَجَعَ وَهُوَ يَتَسَاقَطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْيَمَنِ انْصَدَعَ صَدْرُهُ فَمَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ سمرة عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ سَائِسَ الْفِيلِ كَانَ اسْمُهُ أُنَيْسًا فَأَمَّا قَائِدُهُ فَلَمْ يُسَمَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ النَّقَّاشُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ السَّيْلَ احْتَمَلَ جُثَثَهُمْ فَأَلْقَاهَا فِي البحر. قال السهيليّ وكانت قصة الفيل
__________
[1] أصله (سنك وكل) ولما لم تتلفظ العرب بالكاف بدلوها بالجيم فقالوا سنج وجل وركبوهما كلمة واحدة فهي مستعربة انتهى.(2/174)
أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ [1] مِنْ تَارِيخِ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
قُلْتُ وَفِي عَامِهَا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِهِ بِسِنِينَ كَمَا سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُشَرِّفَهُ وَيُعَظِّمَهُ وَيُطَهِّرَهُ وَيُوَقِّرَهُ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُشْرَعُ لَهُ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ الَّذِي أَحَدُ أَرْكَانِهِ الصَّلَاةُ بَلْ عِمَادُ دِينِهِ وَسَيَجْعَلُ قِبْلَتَهُ إِلَى هَذِهِ الْكَعْبَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ نُصْرَةً لِقُرَيْشٍ إِذْ ذَاكَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ هُمُ الْحَبَشَةُ: فَإِنَّ الْحَبَشَةَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا أَقْرَبَ لَهَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَإِنَّمَا كَانَ النَّصْرُ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ وَإِرْهَاصًا وَتَوْطِئَةً لِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السهمي
تنكلوا [2] عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إِنَّهَا ... كَانَتْ قَدِيمَا لَا يُرَامُ حَرِيمُهَا
لَمْ تُخْلَقِ الشِّعْرَى لَيَالِيَ حُرِّمَتْ ... إِذْ لَا عَزِيزَ مِنَ الْأَنَامِ يَرُومُهَا
سَائِلْ أمير الحبش عَنْهَا مَا رَأَى ... فَلَسَوْفَ يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا
ستون ألفا لم يؤبوا أَرْضَهُمْ ... بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا
كَانَتْ بِهَا عَادٌ وَجُرْهُمُ قَبْلَهُمْ ... وَاللَّهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقِيمُهَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ:
وَمِنْ صُنْعِهِ يوم فيل الحبوش ... إِذْ كُلَّمَا بَعَثُوهُ رَزَمْ
مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ ... وَقَدْ شَرَمُوا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ
وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا ... إِذَا يَمَّمُوهُ قَفَاهُ كُلِمْ
فَوَلَّى وَأَدْبَرَ أَدْرَاجَهُ ... وَقَدْ بَاءَ بِالظُّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمَّ
فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْقِهِمْ حَاصِبًا ... فَلَفَّهُمُ مِثْلَ لَفِّ الْقُزُمْ
تَحُضُّ عَلَى الصَّبْرِ أَحْبَارُهُمْ ... وَقَدْ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الْغَنَمْ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الصَّلْتِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَهْبِ بْنِ عِلَاجٍ الثقفي قال ابن هشام ويروى لامية ابن أَبِي الصَّلْتِ:
إِنَّ آيَاتِ رَبِّنَا ثَاقِبَاتٌ ... مَا يُمَارِي فِيهِنَّ إِلَّا الْكَفُورُ
خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فكل ... مستبين حسابه مقدور
__________
[1] كذا بالأصل والّذي في السهيليّ سنة اثنتين وثمانين إلخ انتهى.
[2] قوله تنكلوا كذا بالأصل وفي سيرة ابن هشام المطبوعة باللام. لكن في تفسير غريبها للخشنى تنكبوا بالباء. قال أي ارجعوا خوفا منها. تقول نكبت فلانا عن الشيء إذا صرفته عنه صرف هيبة وخوف(2/175)
ثُمَّ يَجْلُو النَّهَارَ رَبٌّ رَحِيمٌ ... بِمَهَاةٍ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ
حُبِسَ الْفِيلُ بِالْمُغَمِّسِ حَتَّى ... صَارَ يَحْبُو كأنه معقور
لازما حلقة الجران كما قد ... مِنْ صَخْرِ كَبْكَبٍ مَحْدُورُ
حَوْلَهُ مِنْ مُلُوكِ كِنْدَةَ أَبْطَالٌ ... مَلَاوِيثٌ فِي الْحُرُوبِ صُقُورُ
خَلَّفُوهُ ثُمَّ ابْذَعَرُّوا جَمِيعًا ... كُلُّهُمْ عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ
كُلُّ دِينٍ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ... إِلَّا دِينَ الْحَنِيفِةِ بُورُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ أَيْضًا:
فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم مِنْهُ بَلَاءٌ مُصَدَّقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسُّهْلِ تَمْشِي وَرَجْلُهُ ... عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ
فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إِلَى أَهْلِهِ مِلْحَبْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ فِي عَظَمَةِ الْبَيْتِ وَحِمَايَتِهِ بِهَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ:
كَادَهُ الْأَشْرَمُ الّذي جاء بالفيل ... فولى وجيشه مهزوم
واستهلت عليهم الطير بالجندل ... حَتَّى كَأَنَّهُ مَرْجُومُ
ذَاكَ مَنْ يَغْزُهُ مِنَ الناس ير ... جع وَهُوَ فَلٌّ مِنَ الْجُيُوشِ ذَمِيمُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ مَلَكَ الْحَبَشَةَ بَعْدَهُ ابْنُهُ يَكْسُومُ. ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مسروق ابن أَبْرَهَةَ وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِهِمْ. وَهُوَ الَّذِي انْتَزَعَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ الْمُلْكَ مِنْ يَدِهِ بِالْجَيْشِ الَّذِينَ قَدِمَ بِهِمْ مِنْ عِنْدِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَكَانَتْ قِصَّةُ الْفِيلِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ مِنْ تَارِيخِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ الثَّانِي إِسْكَنْدَرُ ابن فِلِبْسَ الْمَقْدُونِيُّ الَّذِي يُؤَرِّخُ لَهُ الرُّومُ وَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ وَابْنَاهُ وَزَالَ مُلْكُ الْحَبَشَةِ عَنِ الْيَمَنِ هُجِرَ الْقُلَّيْسَ الَّذِي كَانَ بِنَاهُ أَبْرَهَةُ وَأَرَادَ صَرْفَ حَجِّ الْعَرَبِ إِلَيْهِ لِجَهْلِهِ وَقِلَّةِ عقله. وأصبح يبابا لا أنيس به.
وَكَانَ قَدْ بَنَاهُ عَلَى صَنَمَيْنِ وَهُمَا كُعَيْبٌ وامرأته وكانا مِنْ خَشَبٍ طُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا سِتُّونَ ذِرَاعًا في السماء وكانا مَصْحُوبَيْنِ مِنَ الْجَانِّ وَلِهَذَا كَانَ لَا يَتَعَرَّضُ أَحَدٌ إِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ بِنَاءِ الْقُلَّيْسِ وَأَمْتِعَتِهِ إِلَّا أَصَابُوهُ بِسُوءٍ.
فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَيَّامِ السَّفَّاحِ أَوَّلِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ فَذَكَرَ لَهُ أَمْرَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالرُّخَامِ الَّذِي كَانَ أَبْرَهَةُ نَقْلَهُ إِلَيْهِ مِنْ صَرْحِ بِلْقِيسَ الَّذِي كَانَ بِالْيَمَنِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ خَرَّبَهُ حَجَرًا حَجَرًا وَأَخْذَ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ هَكَذَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ والله أعلم.(2/176)
ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُلْكِ عَنِ الْحَبَشَةِ وَرُجُوعِهِ إِلَى سيف ابن ذي يزن الحميري كما أخبر بذلك الكاهنان لربيعة بن نصر اللخمي
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ مَلِكُ الْحَبَشَةِ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى فَلَمَّا هَلَكَ يَكْسُومُ مَلَكَ الْيَمَنَ مِنَ الْحَبَشَةِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ. قَالَ: فَلَمَّا طَالَ الْبَلَاءُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ وَهُوَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بْنِ ذِي أَصْبَحَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عمرو ابن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ قَطَنِ بن عريب بن زهير بن أيمن ابن الْهَمَيْسَعِ بْنِ الْعَرَنْجَجِ، وَهُوَ حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ- وَكَانَ سَيْفٌ يُكَنَّى أَبَا مُرَّةَ- حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَشَكَى إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ عَنْهُ وَيَلِيَهُمْ هُوَ وَيُخْرِجَ إِلَيْهِمْ مَنْ شَاءَ مِنَ الرُّومِ فَيَكُونُ لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ فَلَمْ يُشْكِهِ. فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ وَهُوَ عَامِلُ كِسْرَى عَلَى الْحِيرَةِ وَمَا يَلِيَهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَشَكَا إِلَيْهِ أَمْرَ الْحَبَشَةِ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ إِنَّ لِي عَلَى كِسْرَى وِفَادَةً فِي كُلِّ عَامٍ فَأَقِمْ عِنْدِي حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ فَفَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُ فَأَدْخَلَهُ عَلَى كِسْرَى وَكَانَ كِسْرَى يَجْلِسُ فِي إِيوَانِ مَجْلِسِهِ الَّذِي فِيهِ تَاجُهُ وَكَانَ تَاجُهُ مِثْلَ الْقُنْقُلِ [1] الْعَظِيمِ فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُعَلَّقًا بِسِلْسِلَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فِي رَأْسِ طَاقَةٍ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُنُقُهُ لَا تَحْمِلُ تَاجَهُ إِنَّمَا يَسْتُرُ عَلَيْهِ بِالثِّيَابِ حَتَّى يَجْلِسَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِي تَاجِهِ فَاذَا اسْتَوَى فِي مَجْلِسِهِ كَشَفَ عَنْهُ الثِّيَابَ فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ لَمْ يره قبل ذلك الأبرك هَيْبَةً لَهُ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَقَالَ الْمَلِكُ: إِنَّ هَذَا الْأَحْمَقَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ الطَّوِيلِ ثُمَّ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ. فَقِيلَ ذَلِكَ لِسَيْفٍ فَقَالَ إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِهَمِّي لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَنْهُ كُلُّ شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ غَلَبَتْنَا عَلَى بِلَادِنَا الْأَغْرِبَةُ. قَالَ كِسْرَى أَيُّ الْأَغْرِبَةِ الْحَبَشَةُ أَمِ السِّنَدُ قَالَ بَلِ الْحَبَشَةُ فَجِئْتُكَ لِتَنْصُرَنِي وَيَكُونُ مُلْكُ بِلَادِي لَكَ فَقَالَ لَهُ كِسْرَى بَعُدَتْ بِلَادُكَ مَعَ قِلَّةِ خَيْرِهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُوَرِّطَ جَيْشًا مِنْ فَارِسَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، ثُمَّ أَجَازَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَافٍ وَكَسَاهُ كُسْوَةً حَسَنَةً فَلَمَّا قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ سَيْفٌ خَرَجَ فَجَعَلَ يَنْثُرُ تِلْكَ الْوَرِقَ لِلنَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكُ فَقَالَ إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ فَقَالَ عَمَدْتَ إِلَى حِبَاءِ الملك تنثره للناس قال وما أصنع بحباك مَا جِبَالُ أَرْضِي الَّتِي جِئْتُ مِنْهَا إِلَّا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ يُرَغِّبُهُ فِيهَا، فَجَمَعَ كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ فَقَالَ لَهُمْ مَا تَرَوْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ وَمَا جَاءَ لَهُ. فَقَالَ قَائِلٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ فِي سُجُونِكَ رِجَالًا قَدْ حَبَسْتَهُمْ لِلْقَتْلِ فَلَوْ أَنَّكَ بَعَثْتَهُمْ مَعَهُ فَإِنْ يَهْلِكُوا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتَ بِهِمْ وَإِنْ ظَفِرُوا كَانَ مُلْكًا ازْدَدْتَهُ، فَبَعَثَ مَعَهُ كِسْرَى مَنْ كان في
__________
[1] القنقل: هو مكيال يسع ثلاثة وثلاثين منا. حكاه السهيليّ.(2/177)
سجونه وكانوا ثَمَانَمِائَةِ رَجُلٍ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ وَهْرِزَ وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا وَبَيْتًا فَخَرَجُوا فِي ثَمَانِ سَفَائِنَ فَغَرِقَتْ سَفِينَتَانِ وَوَصَلَ إِلَى سَاحِلِ عَدَنَ سِتُّ سَفَائِنَ فَجَمَعَ سَيْفٌ إِلَى وَهْرِزَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ قَوْمِهِ وَقَالَ لَهُ رِجْلِي وَرِجْلُكَ حَتَّى نَمُوتَ جَمِيعًا أَوْ نَظْفَرَ جَمِيعًا فَقَالَ لَهُ وَهْرِزُ أَنْصَفْتَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ مَسْرُوقُ ابن أَبْرَهَةَ مَلِكُ الْيَمَنِ وَجَمَعَ إِلَيْهِ جُنْدَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَهْرِزُ ابْنًا لَهُ لِيُقَاتِلَهُمْ فَيَخْتَبِرَ قِتَالَهُمْ، فَقُتِلَ ابْنُ وَهْرِزَ فَزَادَهُ ذَلِكَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا تَوَاقَفَ النَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ. قَالَ: وَهْرِزُ أَرُونِي مَلِكَهُمْ فَقَالُوا لَهُ أَتَرَى رَجُلًا عَلَى الْفِيلِ عَاقِدًا تَاجَهُ عَلَى رَأْسِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ. قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا ذَلِكَ مَلِكُهُمْ فَقَالَ اتْرُكُوهُ قَالَ فَوَقَفُوا طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ عَلَامَ هُوَ؟ قَالُوا قَدْ تَحَوَّلَ عَلَى الْفَرَسِ. قَالَ اتْرُكُوهُ فَتَرَكُوهُ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ عَلَامَ هُوَ؟
قَالُوا عَلَى الْبَغْلَةِ قَالَ وَهْرِزُ: بِنْتُ الْحِمَارِ ذَلَّ وَذَلَّ مُلْكُهُ، إِنِّي سَأَرْمِيهِ فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَصْحَابَهُ لَمْ يَتَحَرَّكُوا فَاثْبُتُوا حَتَّى أُوذِنَكُمْ فَإِنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ الرَّجُلَ وَإِنْ رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ قَدِ اسْتَدَارُوا بِهِ وَلَاثُوا فَقَدْ أَصَبْتُ الرَّجُلَ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ وَتَرَ قَوْسَهُ وَكَانَتْ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا يُوتِرُهَا غَيْرُهُ مِنْ شِدَّتِهَا وَأَمَرَ بِحَاجِبَيْهِ فَعُصِبَا لَهُ ثُمَّ رَمَاهُ فَصَكَّ الْيَاقُوتَةَ الَّتِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَتَغَلْغَلَتِ النَّشَّابَةُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ، وَنَكَسَ عَنْ دَابَّتِهِ وَاسْتَدَارَتِ الْحَبَشَةُ وَلَاثَتْ بِهِ، وَحَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْفُرْسُ فَانْهَزَمُوا فَقُتِلُوا وَهَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَأَقْبَلَ وَهْرِزُ لِيَدْخُلَ صَنْعَاءَ حَتَّى إِذَا أَتَى بَابَهَا قَالَ لَا تَدْخُلْ رَايَتِي مُنَكَّسَةً أَبَدًا اهْدِمُوا هَذَا الْبَابَ فَهُدِمَ، ثُمَّ دَخَلَهَا نَاصِبًا رَايَتَهُ فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ:
يَظُنُّ النَّاسُ بِالْمَلِكَيْنِ ... أَنَّهُمَا قَدِ الْتَأَمَا
وَمَنْ يَسْمَعُ بِلَأْمِهِمَا ... فَإِنَّ الْخَطْبَ قَدْ فَقُمَا
قَتَلْنَا الْقَيْلَ مَسْرُوقًا ... وَرَوَيْنَا الْكَثِيبَ دَمًا
وَإِنَّ الْقَيْلَ قَيْلُ النَّاسِ ... وَهْرِزَ مُقْسِمٌ قَسَمًا
يَذُوقُ مُشَعْشَعًا حَتَّى ... نُفِيءَ السَّبْيَ وَالنِّعَمَا
وَوَفَدَتِ الْعَرَبُ مِنَ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا عَلَى سَيْفٍ يُهَنِّئُونَهُ بِعَوْدِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ وامتدحوه. فكان من جملة من وفد قُرَيْشٌ وَفِيهِمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، فَبَشَّرَهُ سَيْفٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي بَابِ الْبِشَارَاتِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ويروى لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
لِيَطْلُبِ الْوِتْرَ أَمْثَالُ ابْنِ ذِي يَزَنَ ... رَيَّمَ فِي الْبَحْرِ لِلْأَعْدَاءِ أحوالا
يمم قيصرا لَمَّا حَانَ رِحْلَتَهُ ... فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ بَعْضَ الَّذِي سَالَا
ثُمَّ انْثَنَى نَحْوَ كِسْرَى بَعْدَ عَاشِرَةٍ ... مِنَ السِّنِينَ يُهِينُ النَّفْسَ وَالْمَالَا
حَتَّى أَتَى بِبَنِي الْأَحْرَارِ يَحْمِلُهُمْ ... إِنَّكَ عَمْرِي لَقَدْ أسرعت قلقالا(2/178)
للَّه دَرُّهُمْ مِنْ عُصْبَةٍ خَرَجُوا ... مَا إِنْ أَرَى لَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْثَالَا
غُلْبًا مَرَازِبَةً بِيضًا أَسَاوِرَةً ... أُسْدًا تُرَبِّبُ فِي الْغَيْضَاتِ أَشْبَالَا
يرمون عن سدف كَأَنَّهَا غُبُطٌ ... بِزَمْخَرٍ يُعَجِّلُ الْمَرْمِيَّ إِعْجَالَا
أَرْسَلْتَ أُسْدًا عَلَى سُودِ الْكِلَابِ فَقَدْ ... أَضْحَى شَرِيدُهُمُ فِي الْأَرْضِ فَلَّالَا
فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْكَ التَّاجُ مُرْتَفِقًا ... فِي رَأْسِ غُمْدَانَ دَارًا مِنْكَ مِحْلَالَا
وَاشْرَبْ هَنِيئًا فَقَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ ... وَأَسْبِلِ الْيَومَ فِي بُرْدَيْكَ إِسْبَالًا
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
يُقَالَ- إِنَّ غُمْدَانَ- قَصْرٌ بِالْيَمَنِ بِنَاهُ يَعْرُبُ بن قحطان وملكه بَعْدَهُ وَاحْتَلَّهُ وَائِلَةُ بْنُ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ وَيُقَالَ كَانَ ارْتِفَاعُهُ عِشْرِينَ طَبَقَةً فاللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ الحميري وَكَانَ أَحَدَ بَنِي تَمِيمٍ:
مَا بَعْدَ صَنْعَاءَ كَانَ يَعْمُرُهَا ... وُلَاةُ مُلْكٍ جَزْلٍ مَوَاهِبُهَا
رَفَّعَهَا مِنْ بَنَى لِذِي قَزَعٍ ... الْمُزْنِ وَتَنْدَى مِسْكًا محاربها
محفوفة بالجبال دون عرى ... الكائد مَا يَرْتَقِي غَوَارِبُهَا
يَأْنَسُ فِيهَا صَوْتُ النَّهَامِ إِذَا ... جَاوَبَهَا بِالْعَشِيِّ قَاصِبُهَا
سَاقَتْ إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ جُنْدَ بَنِي ... الْأَحْرَارِ فُرْسَانُهَا مَوَاكِبُهَا
وَفُوِّزَتْ بِالْبِغَالِ توسق بالحتف ... وتسعى بها توالبها
حتى يراها الْأَقْوَالُ مِنْ طَرَفٍ الْمَنْقَلِ ... مُخْضَرَّةٌ كَتَائِبُهَا
يَوْمَ ينادون آل بربر و ... اليكسوم لَا يُفْلِحَنَّ هَارِبُهَا
فَكَانَ يَوْمًا بَاقِي الْحَدِيثِ و ... زالت أمة ثابت مراتبها
وبدل الهيج بِالزَّرَافَةِ وَالْأَيَّامُ ... خُونٍ جَمٌّ عَجَائِبُهَا
بَعْدَ بَنِي تُبَّعٍ نَخَاوِرَةٌ ... قَدِ اطْمَأَنَّتْ بِهَا مَرَازِبُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الَّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ يَلِيهِ إِرَمُ ذِي يَزَنَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن. والّذي عنى شِقٌّ بِقَوْلِهِ: غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيٍّ وَلَا مُدَنٍّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ وَهْرِزُ وَالْفُرْسُ بِالْيَمَنِ فَمِنْ بَقِيَّةِ ذَلِكَ الْجَيْشِ مِنَ الْفُرْسِ الْأَبْنَاءُ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ الْيَوْمَ. وَكَانَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ فِيمَا بَيْنَ أَنْ دَخَلَهَا أَرْيَاطُ إِلَى أَنْ قَتَلَتِ الْفُرْسُ مَسْرُوقَ بْنَ أَبْرَهَةَ وَأَخْرَجَتِ الْحَبَشَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً تَوَارَثَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ: أَرْيَاطُ ثُمَّ أَبْرَهَةُ ثُمَّ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ ثُمَّ مَسْرُوقُ ابن أبرهة.(2/179)
ذِكْرُ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ مَاتَ وَهْرِزُ فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ الْمَرْزُبَانَ بْنَ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ ثُمَّ مَاتَ الْمَرْزُبَانُ فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ التَّيْنُجَانَ ثُمَّ مَاتَ فَأَمَّرَ ابْنَ التَّيْنُجَانِ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنِ الْيَمَنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهَا بَاذَانَ وَفِي زَمَنِهِ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فَبَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَانَ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَسِرْ إِلَيْهِ فَاسْتَتِبْهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا فَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِهِ، فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يُقْتَلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا، فَلَمَّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ وَقَفَ لِيَنْتَظِرَ وَقَالَ إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيَكُونُ مَا قَالَ فَقَتَلَ اللَّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَلَى يَدَيِ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ. قُلْتُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَنُوهُ تَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ، وَكِسْرَى هَذَا هُوَ أَبْرَوِيزُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قُبَازَ، وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ الرُّومَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ 30: 1- 3 كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ: السُّهَيْلِيُّ وَكَانَ قَتْلُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءَ لِعَشَرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سنة تسع من الهجرة. وكان وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَغَضِبَ وَمَزَّقَ كِتَابَهُ، كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ بِالْيَمَنِ يَقُولُ لَهُ مَا قَالَ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَسُولِ بَاذَانَ إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ اللَّيْلَةَ رَبَّكَ فَكَانَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بعينها، قتله بنوه لظلمه بعد عدله بعد ما خَلَعُوهُ وَوَلَّوُا ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ قَتْلِهِ أَبَاهُ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ دُونَهَا. وَفِي هَذَا يَقُولُ خَالِدُ بْنُ حِقٍّ الشَّيْبَانِيُّ:
وَكِسْرَى إِذْ تَقَسَّمَهُ بَنُوهُ ... بِأَسْيَافٍ كَمَا اقْتُسِمَ اللِّحَامُ
تَمَخَّضَتِ الْمَنُونُ له بيوم ... ألا وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتِ الرُّسُلُ: إِلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ أَنْتُمْ مِنَّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ. قَالَ: الزُّهْرِيُّ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ. قُلْتُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ مَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلِهَذَا بَعَثَ الْأُمَرَاءَ إِلَى الْيَمَنِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ الْخَيْرَ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَبَعَثَ أَوَّلًا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ. وَدَانَتِ الْيَمَنُ وَأَهْلُهَا لِلْإِسْلَامِ وَمَاتَ بَاذَانُ فَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ شَهْرُ بْنُ بَاذَانَ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ حِينَ تَنَبَّأَ وَأَخَذَ زَوْجَتَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَأَجْلَى عَنِ الْيَمَنِ نُوَّابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قُتِلَ الْأَسْوَدُ عَادَتِ الْيَدُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَى بِهِ سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ. نَبِيٌّ زَكِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ. وَالَّذِي عَنَى شِقٌّ بِقَوْلِهِ بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ، يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ(2/180)
إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِي حِجَرٍ بِالْيَمَنِ فِيمَا يَزْعُمُونَ كِتَابٌ بِالزَّبُورِ كتب بالزمان الأول: لمن ملك ذمار الحمير الْأَخْيَارِ، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارِ. لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارْ لِفَارِسَ الْأَحْرَارْ، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارْ لِقُرَيْشٍ التُّجَّارْ. وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ هَذَا المعنى فيما ذكره المسعودي:
حين شدت ذِمَارُ قِيلَ لِمَنْ أَنْتِ ... فَقَالَتْ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ
ثُمَّ سِيلَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ فَقَالَتْ ... أَنَا لِلْحُبْشِ أَخْبَثِ الْأَشْرَارِ
ثُمَّ قَالُوا مِنْ بَعْدِ ذَاكَ لِمَنْ أَنْتِ ... فَقَالَتْ لِفَارِسَ الْأَحْرَارِ
ثُمَّ قَالُوا مِنْ بَعْدِ ذَاكَ لِمَنْ أَنْتِ ... فَقَالَتْ إِلَى قُرَيْشِ التُّجَّارِ
وَيُقَالُ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وُجِدَ مَكْتُوبًا عِنْدَ قَبْرِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ كَشَفَتِ الرِّيحُ عَنْ قَبْرِهِ بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَذَلِكَ قَبْلَ زَمَنِ بِلْقِيسَ بِيَسِيرٍ فِي أَيَّامِ مَالِكِ بْنِ ذِي الْمَنَارِ أَخِي عَمْرٍو ذِي الْأَذْعَارِ بْنِ ذي المنار ويقال كان مكتوبا على قبر هُودٍ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ السَّاطِرُونَ صَاحِبِ الْحَضْرِ
وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ هَاهُنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ لِأَجْلِ مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ النَّسَبِ: أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي وُرُودِ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ عَلَيْهِ وَسُؤَالِهِ فِي مُسَاعَدَتِهِ فِي رَدِّ مُلْكِ الْيَمَنِ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ السَّاطِرُونَ صَاحِبِ الْحَضْرِ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ انه من أشلاء قيصر بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي نَسَبِهِ فَاسْتَطْرَدَ ابْنُ هِشَامٍ فِي ذِكْرِ صَاحِبِ الْحَضْرِ. وَالْحَضْرُ حِصْنٌ عَظِيمٌ بَنَاهُ هَذَا الْمَلِكُ وَهُوَ السَّاطِرُونَ عَلَى حَافَّةِ الْفُرَاتِ وَهُوَ مُنِيفٌ مُرْتَفِعُ الْبِنَاءِ، وَاسِعُ الرَّحْبَةِ وَالْفِنَاءِ، دَوْرُهُ بِقَدْرِ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ وَالسَّنَاءِ، وَإِلَيْهِ يُجْبَى مَا حَوْلَهُ من الأقطار والارجاء. واسم الساطرون الضيزن ابن مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَجْرَمَ مِنْ بَنِي سَلِيحِ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ كَذَا نَسَبَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ.
وَقَالَ: غَيْرُهُ كَانَ مِنَ الْجَرَامِقَةِ وَكَانَ أَحَدَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَكَانَ يَقْدُمُهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا لِحَرْبِ عَدُوٍّ مِنْ غَيْرِهِمْ وَكَانَ حِصْنُهُ بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ كِسْرَى سَابُورَ ذُو الْأَكْتَافِ غَزَا السَّاطِرُونَ مَلِكَ الْحَضْرِ وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ هِشَامٍ: إِنَّمَا الَّذِي غَزَا صَاحِبَ الْحَضْرِ سَابُورُ بْنُ أردشير بْنِ بَابِكَ أَوَّلُ مُلُوكِ بَنِي سَاسَانَ أَذَلَّ مُلُوكَ الطَّوَائِفِ وَرَدَّ الْمُلْكَ إِلَى الْأَكَاسِرَةِ. وَأَمَّا سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ بْنُ هُرْمُزَ فَبَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ وَاللَّهُ(2/181)
أَعْلَمُ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَحَصَرَهُ سَنَتَيْنِ وَقَالَ غَيْرُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَغَارَ عَلَى بِلَادِ سَابُورَ فِي غَيْبَتِهِ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ فَأَشْرَفَتْ بِنْتُ السَّاطِرُونَ وَكَانَ اسْمُهَا النَّضِيرَةَ فَنَظَرَتْ إِلَى سَابُورَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ دِيبَاجٍ وعلى رأسه تاج من ذهب مكال بِالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَكَانَ جَمِيلًا، فَدَسَّتْ إِلَيْهِ أَتَتَزَوَّجُنِي إِنْ فَتَحْتُ لَكَ بَابَ الْحَضْرِ. فَقَالَ: نَعَمْ! فَلَمَّا أَمْسَى سَاطِرُونَ شَرِبَ حَتَّى سَكِرَ وَكَانَ لَا يَبِيتُ إِلَّا سَكْرَانَ فَأَخَذَتْ مَفَاتِيحَ بَابِ الْحَضْرِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَبَعَثَتْ بِهَا مَعَ مَوْلًى لَهَا فَفَتَحَ الْبَابَ وَيُقَالَ بَلْ دَلَّتْهُمْ عَلَى نَهْرٍ يَدْخُلُ مِنْهُ الْمَاءُ مُتَّسِعٍ فَوَلَجُوا مِنْهُ إِلَى الْحَضْرِ، وَيُقَالَ بَلْ دَلَّتْهُمْ عَلَى طِلَّسْمٍ كَانَ فِي الْحَضْرِ وَكَانَ فِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُفْتَحُ حَتَّى تُؤْخَذَ حَمَامَةٌ وَرْقَاءُ وَتُخَضَّبُ رِجْلَاهَا بِحَيْضِ جَارِيَةٍ بِكْرٍ زَرْقَاءَ ثُمَّ تُرْسَلُ فَاذَا وَقَعَتْ عَلَى سُورِ الْحَضْرِ سَقَطَ ذَلِكَ الطِّلَّسْمُ فَيُفْتَحُ الْبَابُ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَانْفَتَحَ الْبَابُ، فَدَخَلَ سَابُورُ فَقَتَلَ سَاطِرُونَ وَاسْتَبَاحَ الْحَضْرَ وَخَرَّبَهُ وَسَارَ بِهَا مَعَهُ فَتَزَوَّجَهَا فَبَيْنَا هِيَ نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِهَا لَيْلًا إِذْ جَعَلَتْ تَمَلْمَلُ لَا تَنَامُ فَدَعَا لَهَا بِالشَّمْعِ فَفَتَّشَ فِرَاشَهَا فَوَجَدَ عَلَيْهِ وَرَقَةَ آسٍ. فَقَالَ لَهَا سَابُورُ أَهَذَا الَّذِي أَسْهَرَكِ! قَالَتْ نَعَمْ؟ قَالَ فَمَا كَانَ أَبُوكِ يَصْنَعُ بِكِ قَالَتْ: كَانَ يَفْرِشُ لِي الدِّيبَاجَ وَيُلْبِسُنِي الْحَرِيرَ وَيُطْعِمُنِي الْمُخَّ وَيَسْقِينِي الْخَمْرَ. قَالَ: أَفَكَانَ جَزَاءُ أَبِيكِ مَا صنعت به. أنت الى بذلك أسرع، فَرُبِطَتْ قُرُونُ رَأْسِهَا بِذَنَبِ فَرَسٍ ثُمَّ رَكَضَ الْفَرَسُ حَتَّى قَتَلَهَا فَفِيهِ يَقُولُ أَعْشَى بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
أَلَمْ تَرَ لِلْحَضْرِ إِذْ أَهْلُهُ ... بِنُعْمَى وَهَلْ خَالِدٌ مَنْ نَعِمْ
[1]
أَقَامَ به شاهبور الجنود ... حَوْلَيْنِ تَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُمْ
فَلَمَّا دَعَا رَبَّهُ دَعْوَةً ... أَنَابَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ
فَهَلْ زَادَهُ رَبُّهُ قُوَّةً ... وَمِثْلُ مُجَاوِرِهِ لَمْ يُقِمْ
وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةً ... هَلُمُّوا إِلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمْ
فَمُوتُوا كِرَامًا بِأَسْيَافِكُمْ ... أَرَى الْمَوْتَ يَجْشَمُهُ مَنْ جَشِمْ
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ:
وَالْحَضْرُ صَابَتْ عَلَيْهِ دَاهِيَةٌ ... مِنْ فَوْقِهِ أَيِّدٌ مَنَاكِبُهَا
رَبِيَّةٌ لَمْ تُوَقِّ وَالِدَهَا ... لِحِينِهِا إِذْ أَضَاعَ رَاقِبُهَا
إِذْ غَبَقَتْهُ صَهْبَاءَ صَافِيَةً ... وَالْخَمْرُ وَهْلٌ يَهِيمُ شَارِبُهَا
فَأَسْلَمَتْ أَهْلَهَا بِلَيْلَتِهَا ... تظن أن الرئيس خاطبها
__________
[1] كذا في سيرة ابن هشام والّذي في معجم البلدان وهل خالد من سلم انتهى(2/182)
فَكَانَ حَظُّ الْعَرُوسِ إِذْ جَشَرَ ... الصُّبْحُ دِمَاءً تَجْرِي سَبَائِبُهَا
وَخُرِّبَ الْحَضْرُ وَاسْتُبِيحَ وَقَدِ ... أُحْرِقَ فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ أَيْضًا:
أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُعَيِّرُ بِالدَّهْرِ ... أَأَنْتَ الْمُبَرَّأُ الْمَوْفُورُ
أم لديك العهد الوثيق من الا ... يام بَلْ أَنْتَ جَاهِلٌ مَغْرُورُ
مَنْ رَأَيْتَ الْمَنُونَ خَلَّدْنَ أَمْ ... مَنْ ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يضام خفير
اين كسرى كسرى الملوك ... أنوشروان أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ
وَبَنُو الْأَصْفَرِ الْكِرَامِ مُلُوكِ ... الرُّومِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمُ مَذْكُورُ
وَأَخُو الْحَضْرِ إِذْ بناه وإذ دجلة ... تجبى اليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا ... فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ يَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَانَ ... الْمُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
وَتَذَكَّرْ رَبَّ الْخَوَرْنَقِ إِذْ ... أشرف يَوْمًا وَلِلْهُدَى تَفْكِيرُ
سَرَّهُ مَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يملك ... وَالْبَحْرُ مُعْرِضًا وَالسَّدِيرُ
فَارْعَوَى قَلْبُهُ وَقَالَ وَمَا غبطة ... حَيٍّ إِلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ
ثُمَّ أَضْحَوْا كَأَنَّهُمْ ورق جف ... فَأَلْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
قُلْتُ: وَرَبُّ الْخَوَرْنَقِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شِعْرِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَظَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ فِي أَمْرِهِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِيهِ وَعَتَا وَتَمَرَّدَ فِيهِ وَأَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَلَمْ يُرَاقِبْ فِيهَا مَوْلَاهَا فَوَعَظَهُ بِمَنْ سَلَفَ قَبْلَهُ مِنَ الْمُلُوكِ وَالدُّوَلِ وَكَيْفَ بَادُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَأَنَّهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ مُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، فَأَخَذَتْهُ مَوْعِظَتُهُ وَبَلَغَتْ مِنْهُ كُلَّ مَبْلَغٍ فَارْعَوَى لِنَفْسِهِ، وَفَكَّرَ فِي يَوْمِهِ وَأَمْسِهِ، وَخَافَ مِنْ ضِيقِ رَمْسِهِ. فَتَابَ وَأَنَابَ وَنَزَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ وترك الملك ولبس ذي الْفُقَرَاءِ وَسَاحَ فِي الْفَلَوَاتِ وَحَظِيَ بِالْخَلَوَاتِ وَخَرَجَ عَمَّا كَانَ النَّاسُ فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وعصيان رب السموات وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ مَبْسُوطَةً الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ بن قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ التَّوَّابِينَ وَكَذَلِكَ أَوْرَدَهَا بِإِسْنَادٍ مَتِينٍ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ الرَّوْضُ الْأَنِفُ الْمُرَتَّبُ أَحْسَنَ تَرْتِيبٍ وَأَوْضَحَ تَبْيِينٍ.
خَبَرُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ
وَأَمَّا صَاحِبُ الْحَضْرِ وَهُوَ سَاطِرُونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَكَانَ مِنْ زَمَنِ إِسْكَنْدَرَ بْنِ فِيلِبْسَ الْمَقْدُونِيِّ الْيُونَانِيِّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَى مَلِكِ الْفُرْسِ دَارَا بْنِ دَارَا وَأَذَلَّ(2/183)
مَمْلَكَتَهُ وَخَرَّبَ بِلَادِهِ وَاسْتَبَاحَ بَيْضَةَ قَوْمِهِ وَنَهَبَ حَوَاصِلَهُ وَمَزَّقَ شَمْلَ الْفُرْسِ شَذَرَ مَذَرَ عَزَمَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ شَمْلٌ وَلَا يَلْتَئِمَ لَهُمْ أَمْرٌ فَجَعَلَ يُقِرُّ كُلَّ مَلِكٍ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فِي إِقْلِيمٍ مِنْ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ مَا بَيْنَ عَرَبِهَا وَأَعَاجِمِهَا فَاسْتَمَرَّ كُلُّ مَلِكٍ مِنْهُمْ يَحْمِي حَوْزَتَهُ وَيَحْفَظُ حِصَّتَهُ وَيَسْتَغِلُّ مَحِلَّتَهُ فَاذَا هَلَكَ قَامَ وَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ أَحَدُ قَوْمِهِ فَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ حَتَّى كَانَ أَزْدَشَيْرُ بْنُ بَابِكَ مِنْ بَنِي سَاسَانَ بْنِ بَهْمَنَ بْنِ إِسْفِنْدِيَارَ بْنِ يَشْتَاسِبَ بْنِ لِهْرَاسِبَ فَأَعَادَ مُلْكَهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَرَجَعَتِ الممالك برمتها اليه وأزال ممالك مملوك الطَّوَائِفِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ تَالِدٌ وَلَا طَارِفٌ وَكَانَ تَأَخَّرَ عَلَيْهِ حِصَارُ صَاحِبِ الْحَضْرِ الَّذِي كَانَ أَكْبَرَهُمْ وَأَشَدَّهُمْ وَأَعْظَمَهُمْ إِذْ كَانَ رَئِيسَهُمْ وَمُقَدَّمَهُمْ فَلَمَّا مَاتَ أَزْدَشَيْرُ تَصَدَّى لَهُ وَلَدُهُ سَابُورُ فَحَاصَرَهُ حَتَّى أَخَذَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ ذِكْرِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ وهم عرب الحجاز وَمَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى زَمَانِ الْبَعْثَةِ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَيْفَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ احْتَمَلَهُ أَبُوهُ ابْرَاهِيمَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ فَأَسْكَنَهَا بِوَادِي مَكَّةَ بَيْنَ جِبَالِ فَارَانَ حَيْثُ لَا أَنِيسَ بِهِ وَلَا حَسِيسَ وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ رَضِيعًا ثُمَّ ذَهَبَ وَتَرَكَهُمَا هُنَالِكَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ لَيْسَ عِنْدَ أُمِّهِ سِوَى جِرَابٌ فِيهِ تَمْرٌ وَوِكَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَلَمَّا نَفِدَ ذَلِكَ أَنْبَعَ اللَّهُ لِهَاجَرَ زَمْزَمَ الَّتِي هِيَ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ الله. ثم نزلت جرهم وهم طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ مِنْ أُمَمِ الْعَرَبِ الْأَقْدَمِينَ عِنْدَ هَاجَرَ بِمَكَّةَ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ إِلَّا مَا يَشْرَبُونَ مِنْهُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ فَاسْتَأْنَسَتْ هَاجَرُ بِهِمْ وَجَعَلَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُطَالِعُ أَمْرَهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْبُرَاقَ مِنْ بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَعْرَعَ الْغُلَامُ وَشَبَّ وَبَلَغَ مَعَ أَبِيهِ السَّعْيَ كَانَتْ قِصَّةُ الذَّبْحِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَى الصَّحِيحِ ثُمَّ لَمَّا كَبِرَ تَزَوَّجَ مِنْ جُرْهُمٍ امْرَأَةً ثُمَّ فَارَقَهَا وَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَتَزَوَّجَ بِالسَّيِّدَةِ بِنْتِ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيِّ وَجَاءَتْهُ بِالْبَنِينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ كما تقدم ذكرهم وهم: نابت وقيذر. ومنشا. ومسمع. وماشى. ودما. وأذر. ويطور. ونيشى. وطيما. وقيذما [1] هكذا ذكره محمد
__________
[1] كذا في الأصل احدى عشر. قال ابن جرير الطبري: وقد ينطق بأسماء أولاد إسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت عن ابن إسحاق وقد ضبطهم زميلنا الفاضل محب الدين افندى الخطيب في كتابه اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب بعد بحثه عن ذلك في مختلف المصادر هكذا.
نابت، قيدار، يطّور، تيما، دومة، مسمع، قدمة، أدب ايل، نفيس، مبسام، الهميسع، حداد.(2/184)
ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَهُ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ اسْمُهَا نَسَمَةُ وَهِيَ الَّتِي زوجها من ابن أخيه العيصو بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ ابْرَاهِيمَ فَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا الروم وفارس وَالْأَشْبَانُ أَيْضًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
ثُمَّ جَمِيعُ عَرَبِ الْحِجَازِ عَلَى اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ يَرْجِعُونَ فِي أَنْسَابِهِمْ إِلَى وَلَدَيْهِ نَابِتٍ وَقَيْذَرَ، وَكَانَ الرَّئِيسُ بَعْدَهُ وَالْقَائِمُ بِالْأُمُورِ الْحَاكِمُ فِي مَكَّةَ وَالنَّاظِرُ فِي أَمْرِ الْبَيْتِ وَزَمْزَمَ نَابِتُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ الْجُرْهُمِيِّينَ، ثُمَّ تَغَلَّبَتْ جُرْهُمٌ عَلَى الْبَيْتِ طَمَعًا فِي بَنِي أُخْتِهِمْ فَحَكَمُوا بِمَكَّةَ وَمَا وَالَاهَا عِوَضًا عَنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ مُدَّةً طَوِيلَةً فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْبَيْتِ بَعْدَ نَابِتٍ مُضَاصَ بْنَ عَمْرِو بن سعد بن الرقيب ابن عيبر [1] بْنِ نَبْتِ بْنِ جُرْهُمٍ، وَجُرْهُمُ بْنُ قَحْطَانَ وَيُقَالُ جُرْهُمُ بْنُ يَقْطُنَ بْنُ عَيْبَرِ بْنِ شالخ بن ارفخشذ ابن سَامِ بْنِ نُوحٍ الْجُرْهُمِيُّ. وَكَانَ نَازِلًا بِأَعْلَى مَكَّةَ بِقُعَيْقِعَانَ وَكَانَ السَّمَيْدَعُ سَيِّدُ قَطُورَاءَ نَازِلًا بِقَوْمِهِ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَعْشُرُ مَنْ مَرَّ بِهِ مُجْتَازًا إِلَى مَكَّةَ. ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ جُرْهُمٍ وَقَطُورَاءَ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ السَّمَيْدَعُ وَاسْتَوْثَقَ الْأَمْرُ لِمُضَاضٍ وَهُوَ الْحَاكِمُ بِمَكَّةَ وَالْبَيْتِ لَا يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ وَلَدُ إِسْمَاعِيلَ مَعَ كثرتهم وشرفهم وانتثارهم بمكة وبغيرها وذلك لخؤولتهم لَهُ وَلِعَظَمَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. ثُمَّ صَارَ الْمُلْكُ بَعْدَهُ إِلَى ابْنِهِ الْحَارِثِ ثُمَّ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ثُمَّ بَغَتْ جُرْهُمٌ بِمَكَّةَ وَأَكْثَرَتْ فِيهَا الْفَسَادَ وَأَلْحَدُوا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالَ لَهُ إِسَافُ بْنُ بَغِيٍّ وَامْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا نَائِلَةُ بِنْتُ وَائِلٍ اجْتَمَعَا فِي الْكَعْبَةِ فَكَانَ مِنْهُ إِلَيْهَا الْفَاحِشَةُ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ فَنَصَبَهُمَا النَّاسُ قَرِيبًا مِنَ الْبَيْتِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِمَا فَلَمَّا طَالَ الْمَطَالُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَدٍ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي زَمَنِ خُزَاعَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. فَكَانَا صَنَمَيْنِ مَنْصُوبَيْنِ يُقَالُ لَهُمَا إِسَافٌ وَنَائِلَةُ. فَلَمَّا أَكْثَرَتْ جُرْهُمٌ الْبَغْيَ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ تَمَالَأَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ الَّذِينَ كَانُوا نَزَلُوا حَوْلَ الْحَرَمِ وكانوا مِنْ ذُرِّيَّةِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ لِأَجْلِ مَا تَوَقَّعَ مِنْ سَيْلِ الْعَرِمِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ إِنَّ خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا لِحَرْبِهِمْ وَآذَنُوهُمْ بِالْحَرْبِ وَاقْتَتَلُوا وَاعْتَزَلَ بَنُو إِسْمَاعِيلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فَغَلَبَتْ خُزَاعَةُ وَهُمْ بَنُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَغُبْشَانُ وَأَجْلَوْهُمْ عَنِ الْبَيْتِ فَعَمَدَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيُّ وَهُوَ سَيِّدُهُمْ إِلَى غَزَالَيِ الْكَعْبَةِ وَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَحَجَرِ الرُّكْنِ وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَإِلَى سُيُوفٍ مُحَلَّاةٍ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ فَدَفَنَهَا فِي زَمْزَمَ وَعَلَّمَ زَمْزَمَ وَارْتَحَلَ بِقَوْمِهِ فَرَجَعُوا إِلَى الْيَمَنِ. وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث ابن مُضَاضٍ:
وَقَائِلَةٍ وَالدَّمْعُ سَكْبٌ مُبَادِرٌ ... وَقَدْ شَرِقَتْ بِالدَّمْعِ مِنْهَا الْمَحَاجِرُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمَرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
فَقُلْتُ لَهَا وَالْقَلْبُ مِنِّي كَأَنَّمَا ... يُلَجْلِجُهُ بين الجناحين طائر
__________
[1] وفي السهيليّ: ابن هىّ في المكانين.(2/185)
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَزَالَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
وَكُنَّا وُلَاةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ
وَنَحْنُ وَلِينَا الْبَيْتَ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... بِعِزٍّ فَمَا يَحْظَى لَدَيْنَا الْمُكَاثِرُ
مَلَكْنَا فَعَزَّزْنَا فَأَعْظِمْ بِمُلْكِنَا ... فَلَيْسَ لِحَيٍّ غَيْرِنَا ثَمَّ فَاخِرُ
أَلَمْ تُنْكِحُوا مِنْ خَيْرِ شَخْصٍ عَلِمْتُهُ ... فَأَبْنَاؤُهُ مِنَّا وَنَحْنُ الأصاهر
فان تنثني الدُّنْيَا عَلَيْنَا بِحَالِهَا ... فَإِنَّ لَهَا حَالًا وَفِيهَا التَّشَاجُرُ
فَأَخْرَجَنَا مِنْهَا الْمَلِيكُ بِقُدْرَةٍ ... كَذَلِكَ يَا لَلنَّاسِ تَجْرِي الْمَقَادِرُ
أَقُولُ إِذَا نَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ أَنَمْ ... أَذَا الْعَرْشِ لَا يَبْعُدْ سُهَيْلٌ وعامر
وبدلت منها أو جهالا أُحِبُّهَا ... قَبَائِلُ مِنْهَا حِمْيَرٌ وَيَحَابِرُ
وَصِرْنَا أَحَادِيثًا وَكُنَّا بِغِبْطَةٍ ... بِذَلِكَ عَضَّتْنَا السُّنُونُ الْغَوَابِرُ
فَسَحَّتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ تَبْكِي لِبَلْدَةٍ ... بِهَا حَرَمٌ أَمْنٌ وَفِيهَا الْمَشَاعِرُ
وَتَبْكِي لِبَيْتٍ لَيْسَ يُؤْذَى حَمَامُهُ ... يَظَلُّ بِهِ أَمْنًا وَفِيهِ الْعَصَافِرُ
وَفِيهِ وُحُوشٌ لَا تُرَامُ أَنِيسَةٌ ... إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ فَلَيْسَتْ تُغَادِرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ أَيْضًا يَذْكُرُ بَنِي بَكْرٍ وَغُبْشَانَ الَّذِينَ خَلَفُوا بَعْدَهُمْ بِمَكَّةَ:
يَا أَيُّهَا الناس سيروا إن قصاركم ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا تَسِيرُونَا
حُثُّوا الْمَطِيَّ وَأَرْخُوا مِنْ أَزِمَّتِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَضُّوا مَا تُقَضُّونَا
كُنَّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُمْ فَغَيَّرَنَا ... دَهْرٌ فَأَنْتُمْ كَمَا صِرْنَا تَصِيرُونَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِنْهَا وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَوَّلُ شِعْرٍ قِيلَ فِي الْعَرَبِ وَأَنَّهَا وُجِدَتْ مَكْتُوبَةً فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ وَلَمْ يُسَمَّ قَائِلُهَا وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ لِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ إِخْوَةً وَحَكَى عِنْدَهَا حِكَايَةً مُعْجِبَةً وَإِنْشَادَاتٍ مُعَرَّبَةً. قَالَ: وَزَادَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِهِ فَضَائِلِ مَكَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ:
قَدْ مَالَ دَهْرٌ عَلَيْنَا ثُمَّ أَهْلَكَنَا ... بِالْبَغْيِ فِينَا وَبَزَّ النَّاسَ نَاسُونَا
وَاسْتَخْبِرُوا فِي صَنِيعِ النَّاسِ قَبْلَكُمُ ... كَمَا اسْتَبَانَ طَرِيقٌ عِنْدَهُ الْهُونَا
كُنَّا زَمَانًا مُلُوكَ النَّاسِ قَبْلَكُمُ ... بِمَسْكَنٍ فِي حَرَامِ اللَّهِ مَسْكُونَا(2/186)
قصة خزاعة وخبر عمرو بن لحي وعبادة الأصنام بأرض العرب
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ غُبْشَانَ مِنْ خُزَاعَةَ وَلِيَتِ الْبَيْتَ دُونَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، وَكَانَ الَّذِي يَلِيهِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ الْغُبْشَانِيُّ وَقُرَيْشٌ إِذْ ذَاكَ حُلُولٌ وَصِرْمٌ وَبُيُوتَاتٌ مُتَفَرِّقُونَ فِي قَوْمِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ. قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ خُزَاعَةُ خُزَاعَةَ لِأَنَّهُمْ تَخَزَّعُوا مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ حِينَ أَقْبَلُوا مِنَ الْيَمَنِ يُرِيدُونَ الشَّامَ فَنَزَلُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَأَقَامُوا بِهِ. قَالَ عَوْنُ بْنُ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ الْخَزْرَجِيُّ فِي ذَلِكَ:
فَلَمَّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَرٍّ تَخَزَّعَتْ ... خُزَاعَةُ مِنَّا فِي حُلُولٍ كَرَاكِرِ
حَمَتْ كُلَّ وَادٍ مِنْ تِهَامَةَ وَاحْتَمَتْ ... بِصُمِّ الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ الْبَوَاتِرِ
وَقَالَ أَبُو الْمُطَهَّرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ:
فَلَمَّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَكَّةَ أَحْمَدَتْ ... خُزَاعَةُ دَارَ الْآكِلِ الْمُتَحَامِلِ
فَحَلَّتْ أَكَارِيسًا وَشَتَّتْ قَنَابِلًا ... عَلَى كُلِّ حَيٍّ بَيْنَ نَجْدٍ وَسَاحِلِ
نَفَوْا جُرْهُمًا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ وَاحْتَبَوْا ... بِعِزٍّ خُزَاعِيٍّ شَدِيدِ الْكَوَاهِلِ
فَوَلِيَتْ خُزَاعَةُ الْبَيْتَ يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ حَتَّى كَانَ آخِرَهُمْ حُلَيْلُ بْنُ حُبْشِيَّةَ بْنِ سلول ابن كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ الْخُزَاعِيُّ الَّذِي تَزَوَّجَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ ابْنَتَهُ حُبَّى فَوَلَدَتْ لَهُ بَنِيهِ الْأَرْبَعَةَ عَبْدَ الدَّارِ وَعَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدًا، ثُمَّ صَارَ أَمْرُ الْبَيْتِ إِلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. وَاسْتَمَرَّتْ خُزَاعَةُ عَلَى وِلَايَةِ الْبَيْتِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَقِيلَ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانُوا سوس [1] فِي وِلَايَتِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي زَمَانِهِمْ كَانَ أَوَّلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بِالْحِجَازِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ رَئِيسِهِمْ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ لَعَنَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا.
يُقَالَ: إِنَّهُ فَقَأَ أَعْيُنَ عِشْرِينَ بَعِيرًا وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّهُ مَلَكَ عِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَلْفَ بَعِيرٍ فَقَأَ عَيْنَ وَاحِدٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِذَلِكَ الْعَيْنَ عَنْهَا. وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَزْرَقِيُّ وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: أَنَّهُ رُبَّمَا ذَبَحَ أَيَّامَ الْحَجِيجِ عَشَرَةَ آلَافِ بَدَنَةً وَكَسَى عَشَرَةَ آلَافِ حُلَّةٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ يُطْعِمُ الْعَرَبَ وَيَحِيسُ لَهُمُ الْحَيْسَ بِالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ وَيَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ. قَالُوا: وَكَانَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ فِيهِمْ كَالشَّرْعِ الْمُتَّبِعِ لِشَرَفِهِ فِيهِمْ وَمَحِلَّتِهِ عِنْدَهُمْ وَكَرَمِهِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ خَرَجَ مِنْ مكة إلى الشام في بعض أموره
__________
[1] كذا بالأصل ولعلها: وكانوا قوم سوء في ولايتهم.(2/187)
فَلَمَّا قَدِمَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ وَهُمْ وَلَدُ عِمْلَاقٍ وَيُقَالُ وَلَدُ عمليق بن لاوذ بن سام ابن نُوحٍ رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالَ لَهُمْ مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا لَهُ: هَذِهِ أَصْنَامٌ نَعْبُدُهَا فَنَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا وَنَسْتَنْصِرُهَا فَتَنْصُرُنَا. فَقَالَ: لَهُمْ أَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا فَأَسِيرُ به الى أرض العرب فيعبدونه. فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالَ لَهُ هُبَلُ فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَوَّلَ مَا كَانَتْ عِبَادَةُ الْحِجَارَةِ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَظْعَنُ مِنْ مَكَّةَ ظَاعِنٌ مِنْهُمْ حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ وَالْتَمَسُوا الْفُسَحَ فِي الْبِلَادِ إِلَّا حَمَلَ مَعَهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ الحرم تعظيما للحرم، فحيث ما نَزَلُوا وَضَعُوهُ فَطَافُوا بِهِ كَطَوَافِهِمْ بِالْكَعْبَةِ حَتَّى سَلَخَ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى أَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَا اسْتَحْسَنُوا مِنَ الْحِجَارَةِ وَأَعْجَبَهُمْ حَتَّى خَلَفَتِ الخلوف ونسوا ما كانوا عليه.
وفي الصحيح عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ. قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْيَةً مِنَ التُّرَابِ وَجِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهَا عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاسْتَبْدَلُوا بِدِينِ ابْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ غَيْرَهُ فَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَصَارُوا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا مِنْ عَهْدِ ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا مِنْ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ بِهِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى عَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَهَدْيِ الْبُدْنِ وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعَ إِدْخَالِهِمْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. فكانت كنانة وقريش إذا هلوا قَالُوا: لَبَّيْكَ اللَّهمّ لَبَّيْكَ.
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَيُوَحِّدُونَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ثُمَّ يُدْخِلُونَ مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ وَيَجْعَلُونَ مِلْكَهَا بِيَدِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) 12: 106 أَيْ مَا يُوَحِّدُونَنِي لِمَعْرِفَةِ حَقِّي إِلَّا جَعَلُوا مَعِي شَرِيكًا مِنْ خَلْقِي.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبَّى هَذِهِ التَّلْبِيَةَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَأَنَّ ابْلِيسَ تَبَدَّى لَهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ فَجَعَلَ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ فَيَسْمَعُ مِنْهُ وَيَقُولُ كَمَا يَقُولُ وَاتَّبَعَهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ يَقُولُ: قَدْ قَدْ أَيْ حَسْبُ حَسْبُ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ ثنا إِسْحَاقُ بْنُ ابْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حفص عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ، أبو خزاعة عمرو ابن عَامِرٍ وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ هُوَ أَبُو خُزَاعَةَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْقَبِيلَةُ بِكَمَالِهَا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَلَوْ تَرَكْنَا مُجَرَّدَ هَذَا لَكَانَ ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ بَلْ كَالنَّصِّ وَلَكِنْ قَدْ جَاءَ مَا يُخَالِفُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ- وَالسَّائِبَةُ- الَّتِي كَانُوا يَسُيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا(2/188)
شَيْءٌ. قَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ. كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ كِيسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ الْحَاكِمُ أَرَادَ الْبُخَارِيُّ رَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَا قَالَ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيِّ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ بُخْتٍ كَمَا قَالَ الْحَاكِمُ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالصَّحِيحُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ الْخُزَاعِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس والد القبيلة بل منتسب اليها مع مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَبُو خزاعة تصحيف من الراويّ من أخو خُزَاعَةَ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يُكَنَّى بِأَبِي خُزَاعَةَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ أَبُو خُزَاعَةَ كُلِّهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ ابْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ السَّمَّانَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيِّ يَا أَكْثَمُ رَأَيْتُ عَمْرَو بن لحي ابن قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلَا بِكَ مِنْهُ. فَقَالَ أَكْثَمُ: عَسَى أَنْ يَضُرَّنِي شُبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ، إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَوَصَّلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ. لَيْسَ فِي الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ هَنَّادِ بْنِ عَبْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ أَوْ مِثْلَهُ وَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ أَيْضًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكِرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ ابْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ قَدِ ابْتَدَعَ لَهُمْ أَشْيَاءَ فِي الدِّينِ غَيَّرَ بِهَا دِينَ الْخَلِيلِ فَاتَّبَعَهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ فَضَلُّوا بِذَلِكَ ضَلَالًا بَعِيدًا بَيِّنًا فَظِيعًا شَنِيعًا وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ 16: 116 الآية. وَقَالَ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ 5: 103 وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا كُلِّهِ مَبْسُوطًا وَبَيَّنَّا اختلاف السلف في تفسير ذلك فمن أراده فليأخذه(2/189)
مِنْ ثَمَّ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ 16: 56. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ 6: 136- 137 وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ 6: 138. وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 6: 139- 140.
وقال الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
بَابُ جَهْلِ الْعَرَبِ
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 6: 140 وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا كَانُوا ابْتَدَعُوهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْبَاطِلَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي ظَنَّهَا كَبِيرُهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ قَبَّحَهُ اللَّهُ مَصْلَحَةً وَرَحْمَةً بِالدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ فِي ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ اتَّبَعَهُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الطَّغَامُ فِيهِ بَلْ قَدْ تَابَعُوهُ فِيمَا هُوَ أَطَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ بِكَثِيرٍ وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَدَّلُوا مَا كَانَ اللَّهُ بَعَثَ بِهِ ابْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ تَوْحِيدِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ وَغَيَّرُوا شَعَائِرَ الْحَجِّ وَمَعَالِمَ الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَاتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ من الأمم المشركين وشابهوا قوم نوح وكانوا أَوَّلَ مَنْ أَشْرَكَ باللَّه وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ وَلِهَذَا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ يَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً 71: 23- 24 الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ عَبَدُوهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ فِي الْعَرَبِ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمْ دِينَ إِسْمَاعِيلَ فكان ود لبني كلب بن مرة بْنِ تَغَلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ. وَكَانَ مَنْصُوبًا بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ(2/190)
وكان سواع لبني هذيل بن الياس بن مدركة بْنِ مُضَرَ. وَكَانَ مَنْصُوبًا بِمَكَانٍ يُقَالَ لَهُ رُهَاطٌ. وَكَانَ يَغُوثُ لِبَنِي أَنْعَمَ مِنْ طيِّئ وَلِأَهْلِ جُرَشٍ مِنْ مَذْحِجٍ وَكَانَ مَنْصُوبًا بِجُرَشَ. وَكَانَ يَعُوقُ مَنْصُوبًا بِأَرْضِ هَمْدَانَ مِنَ الْيَمَنِ لِبَنِي خَيْوَانَ بَطْنٍ مِنْ هَمَدَانَ. وَكَانَ نَسْرٌ مَنْصُوبًا بِأَرْضِ حِمْيَرَ لِقَبِيلَةٍ يُقَالَ لَهُمْ ذُو الْكُلَاعِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ لِخَوْلَانَ بِأَرْضِهِمْ صنم يقال له عم أنس يَقْسِمُونَ لَهُ مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ قَسْمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ فَمَا دَخَلَ فِي حق عم أنس مِنْ حَقِّ اللَّهِ الَّذِي قَسَمُوهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ وَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ اللَّهِ مَنْ حق عم أنس ردوه عليه وفيهم أَنْزَلَ اللَّهُ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) 6: 136 قَالَ: وَكَانَ لِبَنِي مِلْكَانَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ صَنَمٌ يُقَالَ لَهُ سَعْدٌ صَخْرَةٌ بِفَلَاةٍ مِنْ أَرْضِهِمْ طَوِيلَةٍ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِإِبِلٍ لَهُ مُؤَبَّلَةٍ لِيَقِفَهَا عَلَيْهِ الْتِمَاسَ بزكته فِيمَا يَزْعُمُ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْإِبِلُ وَكَانَتْ مَرْعِيَّةً لَا تُرْكَبُ وَكَانَ الصَّنَمُ يُهْرَاقُ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ نَفَرَتْ مِنْهُ فَذَهَبَتْ فِي كُلِّ وَجْهٍ وَغَضِبَ رَبُّهَا وَأَخَذَ حَجَرًا فَرَمَاهُ بِهِ ثُمَّ قَالَ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ نَفَرْتَ عَلَيَّ إِبِلِي ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَالَ:
أَتَيْنَا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا ... فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ
وَهَلْ سَعْدٌ إِلَّا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ ... مِنَ الْأَرْضِ لَا يَدْعُو لِغَيٍّ وَلَا رُشْدِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِي دَوْسٍ صَنَمٌ لِعَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيِّ. قَالَ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدِ اتَّخَذَتْ صَنَمًا عَلَى بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يُقَالَ لَهُ هُبَلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّهُ أَوَّلُ صَنَمٍ نَصَبَهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذُوا إِسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ يَنْحَرُونَ عِنْدَهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمَا كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ إِسَافًا وَنَائِلَةَ كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ أَحْدَثَا فِي الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَجَرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمْهِلْهُمَا حَتَّى فَجَرَا فِيهَا بَلْ مَسَخَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ نُصِبَا عِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا كَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ نَقَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا عَلَى زَمْزَمَ وَطَافَ النَّاسُ بِهِمَا وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو طَالِبٍ:
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السُّيُولِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِكَسْرِ نَائِلَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ خَرَجَتْ مِنْهَا سَوْدَاءُ شَمْطَاءُ تَخْمِشُ وَجْهَهَا وَتَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: أَنَّ أَجَأً وَسَلْمَى وَهُمَا جَبَلَانِ بِأَرْضِ الْحِجَازِ إِنَّمَا سُمِّيَا بِاسْمِ رَجُلٍ اسْمُهُ أَجَأُ بْنُ عَبْدِ الْحَيِّ فَجَرَ بِسَلْمَى بِنْتِ حَامٍ فَصُلِبَا فِي هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ فَعُرِفَا بِهِمَا قَالَ: وَكَانَ بين أجا وسلمى صنم لطى يقال له قلس.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذَ أَهْلُ كُلِّ دَارٍ فِي دَارِهِمْ صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ سَفَرًا تَمَسَّحَ بِهِ(2/191)
حِينَ يَرْكَبُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ مَا يَصْنَعُ حِينَ يَتَوَجَّهُ إِلَى سَفَرِهِ. وَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ تَمَسَّحَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ. قَالَ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ قَالَتْ قُرَيْشٌ (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ) 38: 5.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظِّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ، وَتُهْدِي لَهَا كَمَا تُهْدِي لِلْكَعْبَةِ وَتَطُوفُ بِهَا كَطَوَافِهَا بِهَا وَتَنْحَرُ عِنْدَهَا. وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا بِنَاءُ ابْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَسْجِدُهُ. وكانت لِقُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ الْعُزَّى بِنَخْلَةَ وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ سُلَيْمٍ حُلَفَاءِ بَنِي هَاشِمٍ وَقَدْ خَرَّبَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ زَمَنَ الْفَتْحِ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ: وَكَانَتِ اللَّاتُ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا بَنِي مُعَتِّبٍ مِنْ ثَقِيفٍ وَخَرَّبَهَا أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بَعْدَ مَجِيءِ أَهْلِ الطَّائِفِ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ: وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشَلَّلِ بِقُدَيْدٍ وَقَدْ خَرَّبَهَا أَبُو سُفْيَانَ أَيْضًا وَقِيلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ: وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ لِدَوْسٍ وَخَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ وَمَنْ كَانَ بِبِلَادِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ بِتَبَالَةَ وَكَانَ يُقَالَ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ، وَلِبَيْتِ مَكَّةَ الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ وَقَدْ خَرَّبَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الله البجلي كما سيأتي قال. وكان قلس لطى ومن يليها بجبلي طى بَيْنَ أَجَأٍ وَسَلْمَى، وَهُمَا جَبَلَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا تقدم. قال: وكان رآم بَيْتًا لِحِمْيَرَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قِصَّةِ تُبَّعٍ أَحَدِ مُلُوكِ حِمْيَرَ وَقِصَّةُ الْحَبْرَيْنِ حِينَ خَرَّبَاهُ وَقَتَلَا مِنْهُ كَلْبًا أَسْوَدَ. قَالَ: وَكَانَتْ رُضَاءُ بَيْتًا لِبَنِي رَبِيعَةَ بْنِ كعب بن سعد ابن زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَلَهَا يَقُولُ الْمُسْتَوْغِرُ وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ:
وَلَقَدْ شَدَدْتُ عَلَى رُضَاءٍ شَدَّةً ... فَتَرَكْتُهَا قَفْرًا بِقَاعٍ أَسْحَمَا
وَأَعَانَ عَبْدُ اللَّهِ فِي مَكْرُوهِهَا ... وَبِمِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ أَغْشَى الْمَحْرَمَا
وَيُقَالَ إِنَّ الْمُسْتَوْغِرَ هَذَا عَاشَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ أَطْوَلَ مُضَرَ كُلِّهَا عُمْرًا وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَعُمِرْتُ مِنْ عَدَدِ السِّنِينَ مِئِينَا
مِائَةً حَدَتْهَا بَعَدْهَا مِائَتَانِ لِي ... وَازْدَدْتُ مِنْ عَدَدِ الشُّهُورِ سِنِينَا
هَلْ مَا بَقِي إِلَّا كَمَا قَدْ فَاتَنَا ... يَوْمٌ يَمُرُّ وَلَيْلَةٌ تَحْدُونَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى هذه الأبيات لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابِ بْنِ هُبَلَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: ومن المعمرين الذين جازوا المائتين والثلاثمائة زهير هذا وعبيد بن شربة وَدَغْفَلُ بْنُ حَنْظَلَةَ النَّسَّابَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ ضُبَعَ الْفَزَارِيُّ وَذُو الْأُصْبُعِ الْعَدْوَانِيُّ وَنَصْرُ بْنُ دُهْمَانَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، وَكَانَ قَدِ اسْوَدَّ شَعْرُهُ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ وَتَقَوَّمَ ظَهْرُهُ بعد اعوجاجه. وقال: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب بن وَائِلٍ وَإِيَادٍ بِسَنْدَادَ وَلَهُ يَقُولُ أَعْشَى بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:(2/192)
بين الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذو الشُّرُفَاتِ مِنْ سَنْدَادِ
وَأَوَّلُ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِي الْمَدَى ... أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُ ذِي الْأَعْوَادِ
مَاذَا أُؤَمِّلُ بَعْدَ آلِ مُحَرِّقٍ ... تَرَكُوا مَنَازِلَهُمْ وَبَعْدَ إِيَادِ
نَزَلُوا بِأَنْقَرَةَ يَسِيلُ عَلَيْهِمُ ... مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيءُ مِنْ أَطْوَادِ
أرض الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذو الْكَعَبَاتِ مِنْ سَنْدَادِ
جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحَلِّ دِيَارِهِمْ ... فَكَأَنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيعَادِ
وَأَرَى النَّعِيمَ وَكُلَّمَا يُلْهَى بِهِ ... يَوْمًا يَصِيرُ إِلَى بِلًى ونفاد
قال السهيليّ: الخورنق قصر بناه النعمان الا كبر لِسَابُورَ لِيَكُونَ وَلَدُهُ فِيهِ عِنْدَهُ، وَبَنَاهُ رَجُلٌ يقال له سنمار في عشرين سنة وَلَمْ يُرَ بِنَاءٌ أَعْجَبُ مِنْهُ فَخَشِيَ النُّعْمَانُ أَنْ يَبْنِيَ لِغَيْرِهِ مِثْلَهُ فَأَلْقَاهُ مِنْ أَعْلَاهُ فَقَتَلَهُ فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
جَزَانِي جَزَاهُ اللَّهُ شَرَّ جَزَائِهِ ... جَزَاءَ سِنِمَّارَ وَمَا كَانَ ذا ذنب
سوى رضفه الْبُنْيَانَ عِشْرِينَ حَجَّةً ... يَعُدُّ عَلَيْهِ بِالْقَرَامِدِ وَالسَّكْبِ
فَلَمَّا انْتَهَى الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ ... وَآضَ كَمِثْلِ الطَّوْدِ وَالْبَاذِخِ الصَّعْبِ
رَمَى بِسِنِمَّارَ عَلَى حُقِّ رَأْسِهِ ... وَذَاكَ لَعَمْرُ اللَّهِ مِنْ أَقْبَحِ الْخَطْبِ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ وَالسِّنِمَّارُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَمَرِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ كُلَّهَا هُدِمَتْ. لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كُلِّ بَيْتٍ مِنْ هَذِهِ سَرَايَا تُخَرِّبُهُ وَإِلَى تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَنْ كَسَرَهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْكَعْبَةِ مَا يُضَاهِيهَا وَعُبِدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
خبر عدنان جد عرب الحجاز وهو الّذي ينتهى اليه نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم
لَا خِلَافَ أَنَّ عَدْنَانَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ ابْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْآبَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَأَكْثَرُ مَا قِيلَ أَرْبَعُونَ أَبًا وَهُوَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخَذُوهُ مِنْ كِتَابِ رِخْيَا كَاتِبِ أَرَمِيَا بْنِ حَلْقِيَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَقِيلَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ وَقِيلَ عِشْرُونَ وَقِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَقِيلَ عَشَرَةٌ وَقِيلَ تِسْعَةٌ وَقِيلَ سَبْعَةٌ وَقِيلَ إِنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ لِمَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ الزَّمْعِيِّ عَنْ عَمَّتِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ معد بن عدنان(2/193)
ابن أدد بن زند بن اليرى بْنِ أَعْرَاقِ الثَّرَى. قَالَتْ: أُمُّ سَلَمَةَ فَزَنْدٌ هو الهميسع واليرى هو نابت وَأَعْرَاقُ الثَّرَى هُوَ إِسْمَاعِيلُ لِأَنَّهُ ابْنُ ابْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ تَأْكُلْهُ النَّارُ كَمَا أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ الثَّرَى قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَا نَعْرِفُ زَنْدًا إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَزَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ وَهُوَ أَبُو دُلَامَةَ الشَّاعِرُ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ: مُدَّةُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ إِلَى زَمَنِ إِسْمَاعِيلَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَبَاءٍ أَوْ عَشَرَةٌ أَوْ عِشْرُونَ وَذَلِكَ أَنَّ مَعَدَّ بْنَ عدنان كان عمره زمن نصر ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى أَرْمِيَاءَ بْنِ حَلْقِيَا أَنِ اذهب إلى نصر فَأَعْلِمْهُ أَنِّي قَدْ سَلَّطْتُهُ عَلَى الْعَرَبِ وَأَمَرَ اللَّهُ أَرْمِيَا أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ عَلَى الْبُرَاقِ كَيْ لَا تُصِيبَهُ النِّقْمَةُ فِيهِمْ فَإِنِّي مُسْتَخْرِجٌ مِنْ صُلْبِهِ نَبِيًّا كَرِيمًا أَخْتِمُ بِهِ الرُّسُلَ فَفَعَلَ أَرْمِيَا ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ مَعَدًّا عَلَى الْبُرَاقِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ فَنَشَأَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً اسْمُهَا مُعَانَةُ بِنْتُ جَوْشَنَ مِنْ بَنِي دُبِّ بْنِ جُرْهُمٍ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ أَنْ هَدَأَتِ الْفِتَنُ وَتَمَحَّضَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَكَانَ رِخْيَا كَاتِبُ أَرْمِيَاءَ قَدْ كَتَبَ نَسَبَهُ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ لِيَكُونَ فِي خِزَانَةِ أَرْمِيَاءَ فَيَحْفَظُ نَسَبَ مَعَدٍّ كَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ رَفْعَ النِّسَبِ إِلَى مَا بَعْدَ عَدْنَانَ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي رَفْعِ هَذِهِ الْأَنْسَابِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكْرَهْهُ كَابْنِ إِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَالطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَرْفَعُ نَسَبَهُ إِلَى آدَمَ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ لَهُ عِلْمُ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ فَإِلَى إِسْمَاعِيلَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ وَمَنْ يُخْبِرُهُ بِهِ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يُرْفَعَ فِي نَسَبِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ ابْرَاهِيمُ بْنُ فَلَانِ بْنِ فُلَانٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُعَيْطِيُّ فِي كِتَابِهِ.
قَالَ: وَقَوْلُ مَالِكٍ هَذَا نَحْوٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبَا لَا يُعْرَفُونَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَلَغَ عَدْنَانَ يَقُولُ كَذَبَ النَّسَّابُونَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَالْأَصَحُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّمَا تنسب الى عدنان، وقال أبو عمر بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ الْإِنْبَاهِ فِي مَعْرِفَةِ قَبَائِلِ الرُّوَاةِ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ عَدْنَانَ وَلَا مَا وَرَاءَ قَحْطَانَ إِلَّا تَخَرُّصًا،. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بن أبى خيثمة وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ قُرَيْشٍ بِأَشْعَارِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ يَقُولُ مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فِي شِعْرِ شَاعِرٍ وَلَا عِلْمِ عَالِمٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَمْرُو بن ميمون الأزدي وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ إِذَا تَلَوْا (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) 14: 9 قَالُوا كَذَبَ النَّسَّابُونَ.(2/194)
قَالَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا فِي هَذَا غَيْرُ مَا ذَهَبُوا وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنِ ادَّعَى إِحْصَاءَ بَنِي آدَمَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَمَّا أَنْسَابُ الْعَرَبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَيَّامِهَا وَأَنْسَابِهَا قَدْ وَعَوْا وَحَفِظُوا جَمَاهِيرَهَا وَأُمَّهَاتِ قَبَائِلِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ فِي نَسَبِ عَدْنَانَ قَالُوا عَدْنَانُ بْنُ أُدَدَ بْنِ مُقَوَّمِ بْنِ ناحور ابن تَيْرَحَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارَ فِي السِّيرَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عَدْنَانُ بْنُ أُدٍّ يَعْنِي عَدْنَانَ بْنِ أُدِّ بْنِ أُدَدَ ثُمَّ سَاقَ أَبُو عُمَرَ بَقِيَّةَ النَّسَبِ إِلَى آدَمَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا الْأَنْسَابُ إِلَى عَدْنَانَ مِنْ سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَمَحْفُوظَةٌ شَهِيرَةٌ جِدًّا لَا يَتَمَارَى فِيهَا اثْنَانِ وَالنَّسَبُ النَّبَوِيُّ إِلَيْهِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ كَمَا سَنُورِدُهُ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَذِكْرِ أَنْسَابِهَا وَانْتِظَامِهَا فِي سِلْكِ النَّسَبِ الشَّرِيفِ وَالْأَصْلِ الْمُنِيفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا نَظَمَ النَّسَبَ النَّبَوِيَّ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ وَهِيَ قَوْلُهُ:
مَدَحْتُ رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِي بِمَدْحِهِ ... وُفُورَ حُظُوظِي مِنْ كَرِيمِ الْمَآرِبِ
مَدَحْتُ امْرَأً فَاقَ [1] الْمَدِيحَ مُوَحَّدًا ... بِأَوْصَافِهِ عَنْ مُبْعِدٍ وَمُقَارِبِ
نِبِيًّا تَسَامَى فِي الْمَشَارِقِ نُورُهُ ... فَلَاحَتْ هَوَادِيهِ لِأَهْلِ الْمَغَارِبِ
أَتَتْنَا بِهِ الْأَنْبَاءُ قَبْلَ مَجِيئِهِ ... وَشَاعَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ فِي كُلِّ جَانِبِ
وَأَصْبَحَتِ الْكُهَّانُ تَهْتِفُ بِاسْمِهِ ... وَتَنْفِي بِهِ رَجْمَ الظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ
وَأُنْطِقَتِ الْأَصْنَامُ نُطْقًا تَبَرَّأَتْ ... إِلَى اللَّهِ فِيهِ مِنْ مَقَالِ الْأَكَاذِبِ
وَقَالَتْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ قَوْلًا مُبَيَّنًا ... أَتَاكُمْ نَبِيٌّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ
وَرَامَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ جِنٌّ فَزَيَّلَتْ ... مَقَاعِدَهُمْ مِنْهَا رُجُومُ الْكَوَاكِبِ
هَدَانَا إِلَى مَا لَمْ نَكُنْ نَهْتَدِي لَهُ ... لِطُولِ الْعَمَى مِنْ وَاضِحَاتِ الْمَذَاهِبِ
وَجَاءَ بِآيَاتٍ تُبَيِّنُ أَنَّهَا ... دَلَائِلُ جَبَّارٍ مُثِيبٍ مُعَاقِبِ
فَمِنْهَا انْشِقَاقُ الْبَدْرِ حِينَ تَعَمَّمَتْ ... شُعُوبُ الضِّيَا مِنْهُ رُءُوسَ الْأَخَاشِبِ
وَمِنْهَا نُبُوعُ الْمَاءِ بَيْنَ بَنَانِهِ ... وَقَدْ عَدِمَ الْوُرَّادُ قُرْبَ الْمَشَارِبِ
فَرَّوَى بِهِ جَمًّا غَفِيرًا وَأَسْهَلَتْ ... بِأَعْنَاقِهِ طوعا أكف المذانب
__________
[1] في نسخة الانباه المطبوعة: فات(2/195)
وَبِئْرٌ طَغَتْ بِالْمَاءِ مِنْ مَسِّ سَهْمِهِ ... وَمِنْ قَبْلُ لَمْ تَسْمَحْ بِمَذْقَةِ شَارِبِ
وَضَرْعٌ مَرَاهُ فَاسْتَدَرَّ وَلَمْ يَكُنْ ... بِهِ دَرَّةٌ تُصْغِي إِلَى كَفِّ حَالِبِ
وَنُطْقٌ فَصِيحٌ مِنْ ذِرَاعٍ مُبِينَةٍ ... لِكَيْدِ عَدُوٍّ لِلْعَدَاوَةِ نَاصِبِ
وَأَخْبَارُهُ بِالْأَمْرِ مِنْ قَبْلِ كَوْنِهِ ... وَعِنْدَ بَوَادِيهِ بِمَا فِي الْعَوَاقِبِ
وَمِنْ تِلْكُمُ الْآيَاتِ وَحْيٌّ أَتَى بِهِ ... قَرِيبُ الْمَآتِي مُسْتَجِمُّ الْعَجَائِبِ
تَقَاصَرَتِ الْأَفْكَارُ عَنْهُ فَلَمْ يُطِعْ ... بَلِيغًا وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ خَاطِبِ
حَوَى كُلَّ عِلْمٍ وَاحْتَوَى كُلَّ حِكْمَةٍ ... وَفَاتَ مَرَامَ الْمُسْتَمِرِّ الْمُوَارِبِ
أَتَانَا بِهِ لَا عَنْ روية مرتىء ... وَلَا صُحْفِ مُسْتَمْلٍ وَلَا وَصْفِ كَاتِبِ
يُوَاتِيهِ طَوْرًا فِي إِجَابَةِ سَائِلٍ ... وَإِفْتَاءِ مُسْتَفْتٍ وَوَعْظِ مُخَاطِبِ
وَإِتْيَانِ بُرْهَانٍ وَفَرْضِ شَرَائِعٍ ... وَقَصِّ أَحَادِيثَ وَنَصِّ مَآرِبِ
وَتَصْرِيفِ أَمْثَالٍ وَتَثْبِيتِ حُجَّةٍ ... وَتَعْرِيفِ ذِي جَحْدٍ وَتَوْقِيفِ كَاذِبِ
وَفِي مَجْمَعِ النَّادِي وَفِي حَوْمَةِ الْوَغَى ... وَعِنْدَ حُدُوثِ الْمُعْضِلَاتِ الْغَرَائِبِ
فَيَأْتِي عَلَى مَا شِئْتَ مِنْ طُرُقَاتِهِ ... قَوِيمَ الْمَعَانِي مُسْتَدِرَّ الضَّرَائِبِ
يُصَدِّقُ مِنْهُ الْبَعْضُ بَعْضًا كَأَنَّمَا ... يُلَاحَظُ مَعْنَاهُ بِعَيْنِ الْمُرَاقِبِ
وَعَجْزُ الْوَرَى عن ان يجئوا بِمِثْلِ مَا ... وَصَفْنَاهُ مَعْلُومٌ بِطُولِ التَّجَارِبِ
تَأَبَّى بِعَبْدِ اللَّهِ أَكْرَمِ وَالِدٍ ... تَبَلَّجَ مِنْهُ عَنْ كَرِيمِ الْمَنَاسِبِ
وَشَيْبَةَ ذِي الْحَمْدِ الَّذِي فَخِرَتْ به ... قريش على أهل العلى وَالْمَنَاصِبِ
وَمَنْ كَانَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... وَيَصْدُرُ عَنْ آرَائِهِ فِي النَّوَائِبِ
وَهَاشِمٍ الْبَانِي مَشِيدَ افْتِخَارِهِ ... بِغُرِّ الْمَسَاعِي وَامْتِنَانِ الْمَوَاهِبِ
وَعَبْدِ مَنَافٍ وَهُوَ عَلَّمَ قَوْمَهُ ... اشْتِطَاطَ الْأَمَانِي وَاحْتِكَامَ الرَّغَائِبِ
وَإِنَّ قُصَيًّا مِنْ كَرِيمٍ غِرَاسُهُ ... لَفِي مَنْهَلٍ لَمْ يَدْنُ مِنْ كَفِّ قَاضِبِ
بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ بَعْدَ مَا ... تَقَسَّمَهَا نَهْبُ الْأَكُفِّ السَّوَالِبِ
وَحَلَّ كِلَابٌ مِنْ ذُرَى الْمَجْدِ مَعْقِلًا ... تَقَاصَرَ عَنْهُ كُلُّ دَانٍ وَغَائِبِ
وَمُرَّةُ لَمْ يَحْلُلْ مَرِيرَةَ عَزْمِهِ ... سِفَاهُ سَفِيهٍ أَوْ مَحُوبَةُ حَائِبِ
وَكَعْبٌ عَلَا عَنْ طَالِبِ الْمَجْدِ كَعْبُهُ ... فنال بأدنى السعي أعلا الْمَرَاتِبِ
وَأَلْوَى لُؤَيٌّ بِالْعَدَاةِ فَطُوِّعَتْ ... لَهُ هِمَمُ الشُّمِّ الْأُنُوفِ الْأَغَالِبِ
وَفِي غَالِبٍ بَأْسُ أَبِي الْبَأْسِ دُونَهُمْ ... يُدَافِعُ عَنْهُمْ كُلَّ قِرْنٍ مُغَالِبِ(2/196)
وَكَانَتْ لِفِهْرٍ فِي قُرَيْشٍ خَطَابَةٌ ... يَعُوذُ بِهَا عِنْدَ اشْتِجَارِ الْمَخَاطِبِ
وَمَا زَالَ مِنْهُمْ مَالِكٌ خَيْرَ مَالِكٍ ... وَأَكْرَمَ مَصْحُوبٍ وَأَكْرَمَ صَاحِبِ
وَلِلنَّضْرِ طَوْلٌ يَقْصُرُ الطَّرْفُ دُونَهُ ... بِحَيْثُ الْتَقَى ضَوْءُ النُّجُومِ الثَّوَاقِبِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْدَى كِنَانَةَ قَبْلَهُ ... مَحَاسِنَ تَأْبَى أَنْ تَطُوعَ لِغَالِبِ
وَمِنْ قَبْلِهِ أَبْقَى خُزَيْمَةُ حَمْدَهُ ... تَلِيدَ تُرَاثٍ عَنْ حَمِيدِ الْأَقَارِبِ
وَمُدْرِكَةٌ لَمْ يُدْرِكِ النَّاسُ مِثْلَهُ ... أَعَفَّ وَأَعْلَى عَنْ دَنِيِّ الْمَكَاسِبِ
وَإِلْيَاسُ كَانَ الْيَأْسُ مِنْهُ مُقَارِنًا ... لِأَعْدَائِهِ قَبْلَ اعْتِدَادِ الْكَتَائِبِ
وَفِي مُضَرَ يَسْتَجْمِعُ الْفَخْرَ كُلَّهُ ... إِذَا اعْتَرَكَتْ يَوْمًا زُحُوفُ الْمَقَانِبِ
وَحَلَّ نِزَارٌ مِنْ رِيَاسَةِ أَهْلِهِ ... مَحَلًّا تَسَامَى عَنْ عُيُونٍ الرَّوَاقِبِ
وَكَانَ مَعَدٌّ عُدَّةً لِوَلِيِّهِ ... إِذَا خَافَ مِنْ كَيْدِ الْعَدُوِّ المحارب
وما زال عَدْنَانُ إِذَا عُدَّ فَضْلُهُ ... تَوَحَّدَ فِيهِ عَنْ قَرِينٍ وَصَاحِبِ
وَأُدٌّ تَأَدَّى الْفَضْلُ مِنْهُ بِغَايَةٍ ... وَارْثٌ حَوَاهُ عَنْ قُرُومٍ أَشَايِبِ
وَفِي أُدَدٍ حِلْمٌ تَزَيَّنَ بِالْحِجَا ... إِذَا الْحِلْمُ أَزْهَاهُ قُطُوبُ الحواجب
وما زال يَسْتَعْلِي هَمَيْسَعُ بِالْعُلَى ... وَيَتْبَعُ آمَالَ الْبَعِيدِ الْمُرَاغِبِ
ونبت بنته دوحت الْعِزِّ وَابْتَنَى ... مَعَاقِلَهُ فِي مُشْمَخِرِّ الْأَهَاضِبِ
وَحِيزَتْ لقيذار سماحة حاتم ... وحكمة لقمان وهمة حاجب
هموا نَسْلُ إِسْمَاعِيلَ صَادِقِ وَعْدِهِ ... فَمَا بَعْدَهُ فِي الْفَخْرِ مَسْعًى لِذَاهِبِ
وَكَانَ خَلِيلُ اللَّهِ أَكْرَمَ مَنْ عَنَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ مِنْ مَاشٍ عَلَيْهَا وراكب
وتارح ما زالت لَهُ أَرْيَحِيَّةٌ ... تُبَيِّنُ مِنْهُ عَنْ حَمِيدِ الْمَضَارِبِ
وَنَاحُورُ نَحَّارُ الْعِدَى حُفِظَتْ لَهُ ... مَآثِرُ لَمَّا يُحْصِهَا عَدُّ حَاسِبِ
وَأَشْرَعُ فِي الْهَيْجَاءِ ضَيْغَمُ غَابَةٍ ... يَقُدُّ الطُّلَى بِالْمُرْهَفَاتِ الْقَوَاضِبِ
وَأَرْغَوُ نَابٌ فِي الْحُرُوبِ مُحَكَّمٌ ... ضَنِينٌ عَلَى نَفْسِ الْمُشِحِّ الْمُغَالِبِ
وَمَا فَالِغٌ فِي فَضْلِهِ تِلْوَ قَوْمِهِ ... وَلَا عَابِرٌ مِنْ دُونِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ
وَشَالِخْ وَأَرْفَخْشَذْ وَسَامٌ سَمَتْ بِهِمْ ... سَجَايَا حَمَتْهُمْ كُلَّ زَارٍ وَعَائِبِ
وَمَا زَالَ نُوحٌ عِنْدَ ذِي العرش فاضلا ... يعدده في المصطفين الأطائب
وَلَمْكٌ أَبُوهُ كَانَ فِي الرَّوْعِ رَائِعًا ... جَرِيئًا عَلَى نَفْسِ الْكَمِيِّ الْمُضَارِبِ
وَمِنْ قَبْلِ لَمْكٍ لم يزل متوشلخ ... يذود العدي بالذائدات الشوازب(2/197)
وَكَانَتْ لِإِدْرِيسَ النَّبِيِّ مَنَازِلٌ ... مِنَ اللَّهِ لَمْ تُقْرَنْ بِهِمَّةِ رَاغِبِ
وَيَارَدُ بَحْرٌ عِنْدَ آلِ سراته ... أبى الخزايا مستدق المآرب
وكانت لمهلائيل فَهْمُ فَضَائِلٍ ... مُهَذَّبَةٍ مِنْ فَاحِشَاتِ الْمَثَالِبِ
وَقَيْنَانُ من قبل اقتنى مجد قومه ... وفاد بِشَأْوِ الْفَضْلِ وَخْدَ الرَّكَائِبِ
وَكَانَ أَنُوشٌ نَاشَ للمجد نفسه ... ونزهها عن مرديات المطالب
وما زال شِيثٌ بِالْفَضَائِلِ فَاضِلًا ... شَرِيفًا بَرِيئًا مِنْ ذَمِيمِ المعايب
وَكُلُّهُمُ مِنْ نُورِ آدَمَ أَقْبَسُوا ... وَعَنْ عُودِهِ أَجْنَوْا ثِمَارَ الْمَنَاقِبِ
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَكْرَمَ مُنْجَبٍ ... جَرَى فِي ظُهُورِ الطَّيِّبِينَ الْمَنَاجِبِ
مُقَابَلَةً آبَاؤُهُ أُمَّهَاتِهِ ... مُبَرَّأَةٌ مِنْ فَاضِحَاتِ الْمَثَالِبِ
عَلَيْهِ سَلَامُ اللَّهِ فِي كُلِّ شَارِقٍ ... أَلَاحَ لَنَا ضَوْءًا وَفِي كُلِّ غَارِبِ
هَكَذَا أَوْرَدَ الْقَصِيدَةَ الشيخ أبو عمر بن عَبْدِ الْبَرِّ وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ شِعْرِ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْعَبَّاسِ عبد الله بن محمد الناشي الْمَعْرُوفِ بِابْنِ شِرْشِيرٍ أَصْلُهُ مِنَ الْأَنْبَارِ وَرَدَ بَغْدَادَ ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ مُتَكَلِّمًا مُعْتَزِلِيًّا يَحْكِي عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَقَالَاتِ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا حَتَّى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ اقْتِدَارِهِ عَلَى الشِّعْرِ كَانَ يُعَاكِسُ الشُّعَرَاءَ فِي الْمَعَانِي فَيَنْظِمُ فِي مُخَالَفَتِهِمْ وَيَبْتَكِرُ مَا لَا يُطِيقُونَهُ مِنَ الْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْبَلِيغَةِ حَتَّى نَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّهَوُّسِ وَالِاخْتِلَاطِ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ لَهُ قَصِيدَةً عَلَى قَافِيَةٍ وَاحِدَةٍ قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ بَيْتٍ ذَكَرَهَا النَّاجِمُ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ كَمَا ذَكَرْنَا قُلْتُ: وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَعِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَحِفْظِهِ وَحُسْنِ لَفْظِهِ وَاطِّلَاعِهِ وَاضْطِلَاعِهِ وَاقْتِدَارِهِ عَلَى نَظْمِ هَذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ فِي سِلْكِ شِعْرِهِ وَغَوْصِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ مِنْ قَامُوسِ بَحْرِهِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَثَابَهُ وَأَحْسَنَ مَصِيرَهُ وَإِيَابَهُ.
ذِكْرُ أُصُولِ أنساب قبائل عَرَبِ الْحِجَازِ إِلَى عَدْنَانَ
وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدْنَانَ وُلِدَ لَهُ وَلَدَانِ مَعَدٌّ وَعَكٌّ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلِعَدْنَانَ أَيْضًا ابْنٌ اسْمُهُ الْحَارِثُ وَآخَرُ يُقَالَ لَهُ الْمُذْهَبُ. قَالَ وَقَدْ ذُكِرَ أَيْضًا فِي بَنِيهِ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ إِنَّ الضَّحَّاكَ ابْنٌ لِمَعَدٍّ لَا ابْنُ عَدْنَانَ.
قَالَ وَقِيلَ إِنَّ عَدَنَ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ مَدِينَةُ عَدَنَ وَكَذَلِكَ أَبْيَنُ كَانَا ابْنَيْنِ لِعَدْنَانَ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ فَتَزَوَّجَ عَكٌّ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ وَسَكَنَ فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْيَمَنِ فَصَارَتْ لُغَتُهُمْ وَاحِدَةً فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فَيَقُولُونَ عَكُّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَزْدِ بْنِ يَغُوثَ وَيُقَالُ عَكُّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ الذِّيبِ بْنِ عَبْدِ الله(2/198)
ابن الْأَسَدِ وَيُقَالَ الرَّيْثُ بَدَلَ الذِّيبِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُمْ مِنْ عَدْنَانَ. قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ
وَعَكُّ بْنُ عَدْنَانَ الَّذِينَ تَلَعَّبُوا ... بِغَسَّانَ حَتَّى طُرِّدُوا كُلَّ مَطْرَدِ
وَأَمَّا مَعَدٌّ فَوُلِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ نِزَارٌ وَقُضَاعَةُ وَقَنَصٌ وَإِيَادٌ وَكَانَ قُضَاعَةُ بِكْرَهُ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي قُضَاعَةَ وَلَكِنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَنَصٌ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ هَلَكُوا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَقِيَّةٌ إِلَّا أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ الَّذِي كَانَ نَائِبًا لِكِسْرَى عَلَى الْحِيرَةِ كَانَ مِنْ سُلَالَتِهِ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَقِيلَ بَلْ كَانَ مِنْ حِمْيَرَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا نِزَارٌ فَوُلِدَ لَهُ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ وَأَنْمَارٌ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَإِيَادُ بْنُ نِزَارٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَفُتُوٌّ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ
قَالَ وَإِيَادُ وَمُضَرُ شَقِيقَانِ أُمُّهُمَا سَوْدَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ وَأُمُّ رَبِيعَةَ وَأَنْمَارٍ شُقَيْقَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ. وَيُقَالُ جُمْعَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَأَمَّا أَنْمَارٌ فهو والد خثعم وبجيلة قبيلة جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ وَقَدْ تَيَامَنَتْ فَلَحِقَتْ بِالْيَمَنِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَقُولُونَ أنمار بن أراش ابن لَحْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ قُلْتُ وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي ذِكْرِ سَبَأٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَكَانَ مُضَرُ أَوَّلَ مَنْ حَدَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَسَقَطَ يَوْمًا عَنْ بَعِيرِهِ فَوَثَبَتْ يَدُهُ فَجَعَلَ يَقُولُ وَا يَدَيَّاهُ وَا يَدَيَّاهُ فَأَعْنَقَتِ الْإِبِلُ لِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ مُضَرُ بْنُ نِزَارٍ رَجُلَيْنِ إِلْيَاسَ وَعَيْلَانَ وَوُلِدَ لِإِلْيَاسَ مُدْرِكَةُ وَطَابِخَةُ وَقَمَعَةُ وَأُمُّهُمْ خِنْدِفُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ اسْمُ مُدْرِكَةَ عَامِرًا وَاسْمُ طَابِخَةَ عَمْرًا وَلَكِنِ اصْطَادَ صَيْدًا فَبَيْنَا هُمَا يَطْبُخَانِهِ إِذْ نَفَرَتِ الْإِبِلُ فَذَهَبَ عَامِرٌ فِي طَلَبِهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا وَجَلَسَ الْآخَرُ يَطْبُخُ فَلَمَّا رَاحَا عَلَى أَبِيهِمَا ذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لِعَامِرٍ أَنْتَ مُدْرِكَةُ وَقَالَ لِعَمْرٍو أَنْتَ طَابِخَةُ قَالَ وَأَمَّا قَمْعَةُ فَيَزْعُمُ نُسَّابُ مُضَرَ أَنَّ خُزَاعَةَ من ولد عمرو ابن لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ إِلْيَاسَ قُلْتُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ لَا وَالِدُهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْ حِمْيَرَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فولد مدركة خزيمة وهذيل وَأُمُّهُمَا امْرَأَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ وَوَلَدَ خُزَيْمَةُ كِنَانَةَ وأسدا وأسدة والهون وَزَادَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ [1] فِي أَبْنَاءِ كِنَانَةَ على هؤلاء الأربعة عامرا والحارث والنضير
__________
[1] قوله وزاد أبو جعفر الطبري إلخ كذا بالأصول وهي عبارة مختلة لأن التعبير بزاد يقتضي أن هذا لمزيد ولد لمدركة وهو يناقض قوله في أبناء كنانة وإليك عبارة أبى جعفر الطبري اسم نضر قيس وأمه بَرَّةُ بِنْتُ مُرِّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ واخوته لأبيه وأمه نضير ومالك وملكان وعامر والحارث وعمرو وسعد وعوف وغنم ومخرمة وجرول وغزوان وحدال وأخوهم من أبيهم عبد مناة وأمه فكيهة وقيل فكهة وهي الزفراء بنت هنيّ بن بلىّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ولعله سقط من الناسخ(2/199)
وغنما وسعدا وعوفا وجرولا والحدال وغزوان. قَالَ وَوَلَدَ كِنَانَةُ النَّضْرَ وَمَالِكًا وَعَبْدَ مَنَاةَ وملكان
الْكَلَامُ عَلَى قُرَيْشٍ نَسَبًا وَاشْتِقَاقًا وَفَضْلًا وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأُمُّ النَّضْرِ بَرَّةُ بِنْتُ مُرِّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ وَسَائِرُ بَنِيهِ لِامْرَأَةٍ أُخْرَى وَخَالَفَهُ ابن هشام فجعل برة بنت مرأم النَّضْرِ وَمَالِكٍ وَمِلْكَانَ. وَأُمَّ عَبْدِ مَنَاةَ هَالَةَ بنت سويد بن الغطريف من مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: النَّضْرُ هُوَ قُرَيْشٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ. وَقَالَ وَيُقَالَ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ قُرَيْشٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ. وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ قَدْ حَكَاهُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ النَّسَبِ كَالشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَمُصْعَبٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ لِحَدِيثِ الأسعد بْنِ قَيْسٍ قُلْتُ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو عبيدة معمر بن الْمُثَنَّى وَهُوَ جَادَّةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ اخْتَارَ أَبُو عُمَرَ أَنَّهُ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى قُرَيْشٍ إِلَّا وَهُوَ يَرْجِعُ فِي نَسَبِهِ إِلَى فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ ثُمَّ حَكَى اخْتِيَارَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَمُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ وَإِلَيْهِمُ الْمَرْجِعُ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَقَدْ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَقَدْ أَجْمَعَ نُسَّابُ قُرَيْشٍ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ قُرَيْشًا إِنَّمَا تَفَرَّقَتْ مِنْ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ وَالَّذِي عَلَيْهِ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ نُسَّابِ قُرَيْشٍ أَنَّ وَلَدَ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ قُرَشِيٌّ وَأَنَّ مَنْ جَاوَزَ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ نَصْرًا عَزِيزًا وَتَحَامَى لَهُ بِأَنَّهُ وَنَحْوَهُ أعلم بأنساب قومهم وأحفظ لما آثرهم وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ قَلْتُ لِرَبِيبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي زَيْنَبَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ أَخْبِرِينِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ مِنْ مُضَرَ قَالَتْ فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ ثنا الْحَسَنُ بن صالح عن أبيه عن الجشيش [1] الْكِنْدِيِّ قَالَ جَاءَ قَوْمٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا أنت منا وادعوه فقال لَا، نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نقف أمنا ولا ننتفى من أبينا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ثنا أَبِي ثنا الْكَلْبِيُّ عَنْ أبي صالح عن ابن عباس
__________
[ () ] ما حكاه ابن هشام في سيرته ونصه قال ابن إسحاق فولد كنانة بن خزيمة أربعة نفر النضر بن كنانة ومالك بن كنانة وعبد مناة بن كنانة وملكان بن كنانة انتهى وبه يظهر قوله وزاد أبو جعفر إلخ ولعل قوله فيما بعد وولد كنانة إلخ مؤخر من تقديم من الناسخ انتهى محمود الامام.
[1] كذا أورده هنا وفي أسد الغابة: ان ذلك غلط وإنما هو جفشيش أو حفشيش إلخ.(2/200)
قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ يُقَالُ لَهُ الجشيش إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّ عَبْدَ مَنَافٍ مِنَّا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لا نقف أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا فَقَالَ الْأَشْعَثُ أَلَا كُنْتَ سَكَتَّ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَأَبْطَلَ ذَلِكَ قَوْلَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا غَرِيبٌ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْكَلْبِيُّ ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ وَعَفَّانُ قَالَا ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. قَالَ ثني عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَقَالَ عَفَّانُ عَقِيلُ بْنُ طَلْحَةَ السُّلَمِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْهَيْصَمِ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ. قَالَ عَفَّانُ- لَا يَرَوْنِي أَفْضَلَهُمْ قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّكُمْ مِنَّا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نقف أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا. قَالَ فَقَالَ الأشعث بن قيس فو الله لَا أَسْمَعُ أَحَدًا نَفَى قُرَيْشًا مِنَ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابن ماجة من طرق عن حماد ابن سَلَمَةَ بِهِ وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ وَهُوَ فَيْصَلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قول من خالفه والله أعلم وللَّه الحمد والمنة. وَقَدْ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ التَّمِيمِيُّ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
فَمَا الْأُمُّ الَّتِي وَلَدَتْ قُرَيْشًا ... بِمُقْرِفَةِ النِّجَارِ وَلَا عَقِيمِ
وَمَا قَرْمٌ بِأَنْجَبَ مِنْ أَبِيكُمْ ... وَلَا خَالٌ بِأَكْرَمَ مِنْ تَمِيمِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي أَمَّ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ وَهِيَ بَرَّةُ بِنْتُ مُرٍّ أُخْتُ تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ.
وَأَمَّا اشْتِقَاقُ قُرَيْشٍ فَقِيلَ مِنَ التَّقَرُّشِ وَهُوَ التَّجَمُّعُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَهُمْ بِالْحَرَمِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَقَدْ قَالَ حُذَافَةُ بْنُ غَانِمٍ الْعَدَوِيُّ:
أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرٍ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ قُصَيٌّ يُقَالَ لَهُ قُرَيْشٌ قِيلَ مِنَ التَّجَمُّعِ وَالتَّقَرُّشُ التَّجَمُّعُ كَمَا قَالَ أَبُو خَلْدَةَ الْيَشْكُرِيُّ:
إِخْوَةٌ قَرَشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِنَا وَقَدِيمِ
وَقِيلَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ مِنَ التَّقَرُّشِ وَهُوَ التَّكَسُّبُ وَالتِّجَارَةُ حَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْقِرْشُ الْكَسْبُ وَالْجَمْعُ وَقَدْ قَرَشَ يَقْرِشُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَبِهِ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ وَهِيَ قَبِيلَةٌ وَأَبُوهُمُ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ دُونَ وَلَدِ كِنَانَةَ فَمَا فَوْقَهُ. وَقِيلَ مِنَ التَّفْتِيشِ قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ كَانَ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ تَسَمَّى قُرَيْشًا لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرُشُ عن خلة الناس وحاجتهم فيسدها بماله والتقريش هُوَ التَّفْتِيشُ وَكَانَ بَنُوهُ يَقْرُشُونَ أَهْلَ الْمَوْسِمِ عَنِ الْحَاجَّةِ فَيَرْفِدُونَهُمْ بِمَا يُبَلِّغُهُمْ بِلَادَهُمْ فَسُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقَرْشِهِمْ قُرَيْشًا وَقَدْ قَالَ الحارث بن حازة فِي بَيَانِ أَنَّ التَّقَرُّشَ التَّفْتِيشُ:
أَيُّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو فَهَلْ لَهُ إِبْقَاءُ
حَكَى ذَلِكَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَقِيلَ قُرَيْشٌ تَصْغِيرُ قِرْشٍ وَهُوَ دَابَّةٌ فِي الْبَحْرِ قَالَ بعض الشعراء:(2/201)
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْمَالِينِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ الْخَلِيلِ النَّسَوِيُّ أَنَّ أَبَا كُرَيْبٍ حَدَّثَهُمْ حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي رُكَانَةَ الْعَامِرِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَلِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا؟ فَقَالَ لِدَابَّةٍ تَكُونُ فِي الْبَحْرِ تَكُونُ أَعْظَمَ دَوَابِّهِ فَيُقَالَ لَهَا الْقِرْشُ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ إِلَّا أَكَلَتْهُ. قَالَ فَأَنْشِدْنِي فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأَنْشَدَهُ شِعْرَ الْجُمَحِيِّ إِذْ يَقُولُ:
وَقُرَيْشٌ هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا ... تتركنّ لِذِي الْجَنَاحَيْنِ رِيشَا
هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا
وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا
وَقِيلَ سُمُّوا بِقُرَيْشِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ يَخْلُدَ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ وَكَانَ دَلِيلَ بَنِي النَّضْرِ وَصَاحِبِ مِيرَتِهِمْ فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ قَدْ جَاءَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ قَالُوا وَابْنُ بَدْرِ بْنِ قُرَيْشٍ هُوَ الَّذِي حَفَرَ الْبِئْرَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهَا الْوَقْعَةُ الْعُظْمَى يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُقَالُ فِي النِّسْبَةِ إِلَى قُرَيْشٍ قُرَشِيُّ وَقُرَيْشِيُّ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لِكُلِّ قُرَيْشِيٍّ عَلَيْهِ مَهَابَةٌ ... سَرِيعٌ إِلَى دَاعِي النَّدَا وَالتَّكَرُّمِ
قَالَ فَاذَا أَرَدْتَ بِقُرَيْشٍ الْحَيَّ صَرَفْتَهُ وَإِنْ أَرَدْتَ الْقَبِيلَةَ مَنَعْتَهُ قَالَ الشَّاعِرُ فِي تَرْكِ الصَّرْفِ:
وَكَفَى قُرَيْشَ الْمُعْضِلَاتِ وَسَادَهَا
[1] وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُمَرَ وَالْأَوْزَاعِيِّ قَالَ حدثني شداد أبو عمار حدثني واثلة ابن الْأَسْقَعِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى هاشما من قريش وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» . قَالَ أَبُو عُمَرَ بن عَبْدِ الْبَرِّ يُقَالَ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَصِيلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنُو هَاشِمٍ فَخِذُهُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بَطْنُهُ وَقُرَيْشٌ عِمَارَتُهُ وَبَنُو كِنَانَةَ قَبِيلَتُهُ وَمُضَرُ شِعْبُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ النَّضْرُ بْنُ كنانة مالكا ومخلدا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَالصَّلْتَ وَأُمُّهُمْ جَمِيعًا بِنْتُ سَعْدِ بْنِ الظَّرِبِ الْعَدْوَانِيِّ. قَالَ كُثَيِّرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ أَحَدُ بَنِي مليح بن عمرو من خزاعة:
__________
[1] البيت لعدىّ بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك على ما في اللسان وأوله:
غلب المساميح ... الوليد سماحة
انتهى محمود الامام.(2/202)
أَلَيْسَ أَبِي بِالصَّلْتِ أَمْ لَيْسَ إِخْوَتِي ... لِكُلِّ هِجَانٍ مِنْ بَنِي النَّضْرِ أَزْهَرَا
رَأَيْتُ ثِيَابَ الغصب مُخْتَلِطَ السَّدَى ... بِنَا وَبِهِمْ وَالْحَضْرَمِيَّ الْمُخَصَّرَا
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مِنْ بَنِي النَّضْرِ فَاتْرُكُوا ... أَرَاكًا بِأَذْنَابِ الْفَوَائِجِ أَخْضَرَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَنُو مَلِيحِ بْنِ عَمْرٍو يُعْزَوْنَ إِلَى الصَّلْتِ بْنِ النَّضْرِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ وَأُمُّهُ جَنْدَلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْأَصْغَرُ وَوَلَدَ فِهْرٌ غَالِبًا وَمُحَارِبًا وَالْحَارِثَ وَأَسَدًا وَأُمُّهُمْ لَيْلَى بِنْتُ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وأختهم لأبيهم جَنْدَلَةُ بِنْتُ فِهْرٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ غَالِبُ بْنُ فِهْرٍ لُؤَيَّ بْنَ غَالِبٍ وَتَيْمَ بْنَ غَالِبٍ وَهُمُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَدْرَمِ وَأُمُّهُمَا سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَيْسُ بْنُ غَالِبٍ وَأُمُّهُ سَلْمَى بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ وَهِيَ أَمُّ لوى قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَوَلَدَ لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ كَعْبًا وَعَامِرًا وَسَامَةَ وَعَوْفًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ وَالْحَارِثَ وَهُمْ جُشَمُ بْنُ الْحَارِثِ فِي هِزَّانَ مِنْ رَبِيعَةَ وَسَعْدَ بْنَ لؤيّ وهما بُنَانَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَبُنَانَةُ حَاضِنَةٌ لَهُمْ وَخُزَيْمَةَ بْنَ لُؤَيٍّ وَهُمْ عَائِذَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ خَبَرَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ وَأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى عَمَّانَ فَكَانَ بِهَا وَذَلِكَ لِشَنَآنٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ عَامِرَ فَأَخَافُهُ عَامِرٌ فَخَرَجَ عَنْهُ هَارِبًا إِلَى عُمَانَ وَأَنَّهُ مَاتَ بِهَا غَرِيبًا وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَرْعَى [1] نَاقَتَهُ فَعَلِقَتْ حَيَّةٌ بِمِشْفَرِهَا فَوَقَعَتْ لِشِقِّهَا ثُمَّ نَهَشَتِ الْحَيَّةُ سَامَةَ حَتَّى قَتَلَتْهُ فَيُقَالَ إِنَّهُ كَتَبَ بِأُصْبُعِهِ عَلَى الْأَرْضِ:
عَيْنُ فَابْكِي لِسَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ ... عَلِقَتْ مَا بِسَامَةَ الْعِلَّاقَهْ
لَا أَرَى مِثْلَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ ... يَوْمَ حَلُّوا بِهِ قَتِيلًا لِنَاقَهْ
بَلِّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا ... أَنَّ نَفْسِي إِلَيْهِمَا مُشْتَاقَهْ
إِنْ تَكُنْ فِي عُمَانَ دَارِي فَإِنِّي ... غَالِبِيٌّ خَرَجْتُ مِنْ غَيْرِ فَاقَهْ
رُبَّ كَأْسٍ هَرَقْتَ يَا ابْنَ لُؤَيٍّ ... حَذَرَ الْمَوْتِ لَمْ تكن مهراقه
رمت دفع الحتوف يا بن لُؤَيٍّ ... مَا لِمَنْ رَامَ ذَاكَ بِالْحَتْفِ طَاقَهْ
وخروس السري تركت رزيا ... بعد جد وحدة وَرَشَاقَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ وَلَدِهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَسَبَ إِلَى سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آلشَّاعِرُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتَ قَوْلَهُ» ؟
رُبَّ كَأْسٍ هَرَقْتَ يا بن لؤيّ ... حذر الموت لم تكن مهراقه
__________
[1] كذا بالأصول والّذي في ابن إسحاق بينا هو يسير على ناقته إذ وضعت رأسها ترتع فأخذت حية بمشفرها فهصرتها حتى وقعت الناقة لشقها ثم نهشت إلخ انتهى محمود الامام.(2/203)
فَقَالَ أَجَلْ: وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لم يعقب. وقال الزبير ولد أسامة بْنُ لُؤَيٍّ غَالِبًا وَالنَّبِيتَ وَالْحَارِثَ قَالُوا وَكَانَتْ لَهُ ذُرِّيَّةٌ بِالْعِرَاقِ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا وَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ كَانَ يَشْتُمُ أَبَاهُ لِكَوْنِهِ سَمَّاهُ عَلِيًّا وَمِنْ بَنِي سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ بْنِ الْيَزِيدَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عَوْفُ بْنُ لُؤَيٍّ فَإِنَّهُ خَرَجَ فِيمَا يَزْعُمُونَ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أُبْطِئَ بِهِ فَانْطَلَقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَأَتَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ أَخُوهُ فِي نَسَبِ بَنِي ذُبْيَانَ فَحَبَسَهُ وَزَوَّجَهُ وَالْتَاطَهُ وَآخَاهُ فَشَاعَ نَسَبُهُ فِي ذُبْيَانَ وَثَعْلَبَةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَوْ كُنْتُ مُدَّعِيًا حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مُلْحِقَهُمْ بِنَا لَادَّعَيْتُ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عوف إنا لنعرف منهم الْأَشْبَاهَ مَعَ مَا نَعْرِفُ مِنْ مَوْقِعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ حَيْثُ وَقَعَ يَعْنِي عَوْفَ بْنَ لُؤَيٍّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرِجَالٍ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي مُرَّةَ إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى نَسَبِكُمْ فَارْجِعُوا إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْقَوْمُ أَشْرَافًا فِي غَطَفَانَ هُمْ سَادَتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ قَوْمٌ لَهُمْ صِيتٌ فِي غَطَفَانَ وَقَيْسٍ كلها فأقاموا على نسبهم قالوا وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ نَسَبُهُمْ مَا نُنْكِرُهُ وَمَا نَجْحَدُهُ وَإِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّسَبِ إِلَيْنَا ثُمَّ ذَكَرَ أَشْعَارَهُمْ فِي انْتِمَائِهِمْ إِلَى لُؤَيٍّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِيهِمْ كَانَ الْبَسْلُ وَهُوَ تَحْرِيمُ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ لَهُمْ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ مِنْ بَيْنِ الْعَرَبِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ لَهُمْ ذَلِكَ وَيَأْمَنُونَهُمْ فِيهَا وَيُؤَمِّنُونَهُمْ أَيْضًا قُلْتُ: وَكَانَتْ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ إِنَّمَا يُحَرِّمُونَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَاخْتَلَفَتْ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ فِي الرَّابِعِ وَهُوَ رَجَبٌ فَقَالَتْ: مُضَرُ هُوَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَقَالَتْ رَبِيعَةُ هُوَ الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ وَشَوَّالٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» فَنَصَّ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ مُضَرَ لَا رَبِيعَةَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» 9: 36 فَهَذَا رَدٌّ عَلَى بَنِي عَوْفِ بْنِ لُؤَيٍّ فِي جَعْلِهِمُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ثَمَانِيَةً فَزَادُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ النَّسِيءِ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ وَرَجَبُ مُضَرَ رَدٌّ عَلَى رَبِيعَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ ثَلَاثَةً، مُرَّةَ، وَعَدِيًّا، وَهُصَيْصًا وَوَلَدَ مُرَّةُ، ثَلَاثَةً أَيْضًا كِلَابَ بْنَ مُرَّةَ، وَتَيْمَ بْنَ مُرَّةَ، وَيَقَظَةَ بْنَ مُرَّةَ مِنْ أُمَّهَاتٍ ثَلَاثٍ. قَالَ وَوَلَدَ كِلَابٌ رَجُلَيْنِ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ وَزُهْرَةَ بْنَ كِلَابٍ وَأُمُّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ أَحَدِ الْجَدَرَةِ مِنْ جُعْثُمَةَ الأسد من اليمن حلفاء بنى الديل بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ وَفِي أَبِيهَا يَقُولُ الشَّاعِرُ:(2/204)
مَا نَرَى فِي النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... مَنْ عَلِمْنَاهُ كَسَعْدِ بْنِ سَيَلْ
فَارِسًا أَضْبَطَ فِيهِ عُسْرَةٌ ... وَإِذَا مَا وَاقَفَ الْقِرْنَ نَزَلْ
فَارِسًا يَسْتَدْرِجُ الْخَيْلَ كَمَا ... اسْتَدْرَجَ الْحُرُّ الْقَطَامِيُّ الْحَجَلْ
قال السهيليّ: سيل اسمه خير بن جمالة وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ طُلِيَتْ [1] لَهُ السُّيُوفُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجَدَرَةَ لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ جُعْثُمَةَ تَزَوَّجَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ وَكَانَتْ جُرْهُمٌ إِذْ ذَاكَ وُلَاةَ الْبَيْتِ فَبَنَى لِلْكَعْبَةِ جِدَارًا فَسُمِّيَ عَامِرٌ بِذَلِكَ الْجَادِرُ فَقِيلَ لِوَلَدِهِ الْجَدَرَةُ لِذَلِكَ.
خَبَرُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي ارْتِجَاعِهِ وِلَايَةَ الْبَيْتِ إِلَى قُرَيْشٍ وَانْتِزَاعِهِ ذَلِكَ مِنْ خُزَاعَةَ وَاجْتِمَاعِ قُرَيْشٍ إِلَى الْحَرَمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ أَمْنًا لِلْعِبَادِ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فِي الْبِلَادِ وَتَمَزُّقِهَا فِي الْجِبَالِ وَالْمِهَادِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ كِلَابٌ تَزَوَّجَ أُمَّهُ رَبِيعَةُ بْنُ حَرَامٍ مِنْ عُذْرَةَ وَخَرَجَ بِهَا وَبِهِ إِلَى بِلَادِهِ ثُمَّ قَدِمَ قُصَيٌّ مَكَّةَ وَهُوَ شَابٌّ فَتَزَوَّجَ حُبَّى ابْنَةَ رَئِيسِ خُزَاعَةَ حُلَيْلِ بْنِ حُبْشِيَّةَ [2] . فاما خزاعة فزعم أَنَّ حَلِيلًا أَوْصَى إِلَى قُصَيٍّ بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ لِمَا رَأَى مِنْ كَثْرَةِ نَسْلِهِ مِنِ ابْنَتِهِ وقال أنت أحق بذلك منى. قال
__________
[1] عبارة السهيليّ وهو أول من حلى السيوف إلخ:
[2] عبارة ابن إسحاق هكذا: فولدت له عَبْدَ الدَّارِ وَعَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدًا فلما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر وان قريشا قرعة إسماعيل بن إبراهيم وصريح ولده فكلم رجالا من قريش وبنى كنانة ودعاهم الى إخراج خزاعة وبنى بكر من مكة فأجابوه فلما أجابه قومه الى ما دعاهم اليه كتب الى أخيه من أمه رزاح ابن ربيعة يدعوه الى نصرته والقيام معه فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته حن بن ربيعة ومحمود بن ربيعة وجلهمة بن ربيعة وهم لغير أمه فاطمة فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب وهم مجمعون لنصرة قصي وخزاعة تزعم أن حليل بن حبشية أوصى بذلك قصيا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر وقال أنت أولى بالكعبة وبالقيام عليها وبأمر مكة من خزاعة فعند ذلك طلب قصي ما طلب ولم نسمع ذلك من غيره فاللَّه أعلم أي ذلك كان انتهى عبارة بن إسحاق وبها يتبين لك ما في عبارة ابن كثير من الخطأ انتهى محمود الامام.(2/205)
ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُمْ وأما غيرهم فإنهم يزعمون أنه استغاث بِإِخْوَتِهِ مِنْ أُمِّهِ وَكَانَ رَئِيسُهُمْ رِزَاحَ بْنَ ربيعة وإخوته وَبَنِي كِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ وَمَنْ حَوْلَ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ فَأَجْلَاهُمْ عَنِ الْبَيْتِ وَاسْتَقَلَّ هُوَ بولاية البيت لأن إِجَازَةَ الْحَجِيجِ كَانَتْ إِلَى صُوفَةَ وَهُمْ بَنُو الْغَوْثِ بْنِ مُرِّ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ فَكَانَ النَّاسُ لَا يَرْمُونَ الْجِمَارَ حَتَّى يَرْمُوا وَلَا يَنْفِرُونَ مِنْ مِنًى حَتَّى يَنْفِرُوا فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فِيهِمْ حَتَّى انْقَرَضُوا فَوَرِثَهُمْ ذَلِكَ بَالْقُعْدَدِ بَنُو سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ فَكَانَ أَوَّلُهُمْ صفوان بن الحارث ابن شِجْنَةَ بْنِ عُطَارِدَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى آخِرِهِمُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ كَرِبُ بْنِ صَفْوَانَ. وَكَانَتِ الْإِجَازَةُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي عَدْوَانَ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ عَلَى آخِرِهِمْ وَهُوَ أَبُو سَيَّارَةَ عُمَيْلَةُ بن الأعزل وقيل اسمه العاص واسم الأعزل خَالِدٍ وَكَانَ يُجِيزُ بِالنَّاسِ عَلَى أَتَانٍ لَهُ عَوْرَاءَ مَكَثَ يَدْفَعُ عَلَيْهَا فِي الْمَوْقِفِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الدِّيَةَ مِائَةً وَأَوَّلُ مَنْ كَانَ يَقُولُ أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَكَانَ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ الْعَدْوَانِيُّ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَرَبِ نَائِرَةٌ إِلَّا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فَيَرْضَوْنَ بِمَا يَقْضِي بِهِ فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ مَرَّةً فِي مِيرَاثِ خُنْثَى فَبَاتَ لَيْلَتَهُ سَاهِرًا يَتَرَوَّى مَاذَا يَحْكُمُ بِهِ فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ لَهُ كَانَتْ تَرْعَى عَلَيْهِ غَنَمَهُ اسْمُهَا سُخَيْلَةُ فقالت له مالك لَا أَبَالَكَ اللَّيْلَةَ سَاهِرًا؟ فَذَكَرَ لَهَا مَا هُوَ مُفَكِّرٌ فِيهِ وَقَالَ لَعَلَّهَا يَكُونُ عِنْدَهَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَقَالَتْ أَتْبِعِ الْقَضَاءَ الْمَبَالَ فَقَالَ فَرَّجْتِهَا وَاللَّهِ يَا سُخَيْلَةُ وَحَكَمَ بِذَلِكَ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ قَالَ الله تعالى وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ 12: 18 حَيْثُ لَا أَثَرَ لِأَنْيَابِ الذِّئْبِ فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ 12: 26- 27. وَفِي الْحَدِيثِ أَنِظْرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جعدا جماليا فهو للذي رُمِيَتْ بِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ النَّسِيءُ فِي بَنِي فُقَيْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ الْقَلَمَّسُ وَهُوَ حذيفة بن عبد بن فقيم ابن عَدِيٍّ ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبَّادٌ ثُمَّ قَلَعُ بْنُ عَبَّادٍ ثُمَّ أُمَيَّةُ بْنُ قَلَعٍ ثُمَّ عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ ثُمَّ كَانَ آخِرَهُمْ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفِ بْنِ قَلَعِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَهُوَ الْقَلَمَّسُ فَعَلَى أَبِي ثُمَامَةَ قَامَ الْإِسْلَامُ وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ فَخَطَبَهُمْ فَحَرَّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ مِنْهَا شَيْئًا أَحَلَّ الْمُحَرَّمَ وَجَعَلَ مَكَانَهُ صَفَرًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَقُولُ: (اللَّهمّ إِنِّي أَحْلَلْتُ أَحَدَ الصَّفَرَيْنِ الصَّفَرَ الْأَوَّلَ وَأَنْسَأْتُ الْآخَرَ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ) فَتَتَّبِعُهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ أَحَدُ بَنِي فراس بن غنم ابن مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ وَيُعْرَفُ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ هذا بجدل الطِّعَانِ:
لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي ... كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا(2/206)
فَأَيُّ النَّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرٍ ... وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ نَعْلِكْ لِجَامَا
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا
وَكَانَ قُصَيٌّ فِي قَوْمِهِ سَيِّدًا رَئِيسًا مُطَاعًا مُعَظَّمًا وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ جَمَعَ قُرَيْشًا مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ مَوَاضِعِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَاسْتَعَانَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى حَرْبِ خُزَاعَةَ وَإِجْلَائِهِمْ عَنِ الْبَيْتِ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى قصي فكان بينهم قتال كثيرة وَدِمَاءٌ غَزِيرَةٌ ثُمَّ تَدَاعَوْا إِلَى التَّحْكِيمِ فَتَحَاكَمُوا الى يعمر بن عوف بن كعب ابن عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَحَكَمَ بِأَنَّ قُصَيًّا أَوْلَى بِالْبَيْتِ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَنَّ كُلَّ دَمٍ أَصَابَهُ قصي من خزاعة وبنى بكر موضوع بشدخه تَحْتَ قَدَمَيْهِ وَأَنَّ مَا أَصَابَتْهُ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ فَفِيهِ الدِّيَةُ مُؤَدَّاةٌ وَأَنْ يُخَلَّى بَيْنَ قُصَيٍّ وَبَيْنَ مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ فَسُمِّيَ يَعْمَرُ يَوْمَئِذٍ الشَّدَّاخَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلِيَ قُصَيٌّ الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكَّةَ وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إِلَى مَكَّةَ وَتَمَلَّكَ عَلَى قَوْمِهِ وَأَهْلِ مَكَّةَ فَمَلَّكُوهُ إِلَّا أَنَّهُ أَقَرَّ الْعَرَبَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ دِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي تَغْيِيرُهُ فَأَقَرَّ آلَ صَفْوَانَ وَعَدْوَانَ وَالنَّسَأَةَ وَمُرَّةَ بْنَ عَوْفٍ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَهَدَمَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ كُلَّهُ قَالَ فَكَانَ قُصَيٌّ أَوَّلَ بَنِي كَعْبٍ أَصَابَ مُلْكًا أطاع له به قومه وكانت إِلَيْهِ الْحِجَابَةُ وَالسِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ وَالنَّدْوَةُ وَاللِّوَاءُ فَحَازَ شَرَفَ مَكَّةَ كُلَّهُ وَقَطَّعَ مَكَّةَ رِبَاعًا بَيْنَ قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ كُلَّ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَنَازِلَهُمْ مِنْ مَكَّةَ.
قُلْتُ: فَرَجَعَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَرُدَّ شَارِدُ الْعَدْلِ بَعْدَ إِيَابِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ بِقُرَيْشٍ الدَّارُ، وَقَضَتْ مِنْ خُزَاعَةَ الْمُرَادَ وَالْأَوْطَارَ، وَتَسَلَّمَتْ بَيْتَهُمُ الْعَتِيقَ الْقَدِيمَ لَكِنْ بِمَا أَحْدَثَتْ خُزَاعَةُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَنَصْبِهَا إِيَّاهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَنَحْرِهِمْ لَهَا وَتَضَرُّعِهِمْ عِنْدَهَا وَاسْتِنْصَارِهِمْ بِهَا وَطَلَبِهِمُ الرِّزْقَ مِنْهَا وَأَنْزَلَ قُصَيٌّ قَبَائِلَ قُرَيْشٍ أَبَاطِحَ مَكَّةَ وَأَنْزَلَ طَائِفَةً مِنْهُمْ ظَوَاهِرَهَا فَكَانَ يُقَالَ قُرَيْشُ الْبِطَاحِ وَقُرَيْشُ الظَّوَاهِرِ فَكَانَتْ لِقُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ جَمِيعُ الرِّئَاسَةِ مِنْ حِجَابَةِ الْبَيْتِ وَسِدَانَتِهِ وَاللِّوَاءِ وَبَنَى دَارًا لِإِزَاحَةِ الظُّلُمَاتِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ سَمَّاهَا دَارَ النَّدْوَةِ إِذَا أَعْضَلَتْ قَضِيَّةٌ اجْتَمَعَ الرُّؤَسَاءُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَاشْتَوَرُوا فِيهَا وَفَصَلُوهَا وَلَا يُعْقَدُ عَقْدُ لِوَاءٍ وَلَا عَقْدُ نِكَاحٍ إِلَّا بِهَا وَلَا تَبْلُغُ جَارِيَةٌ أَنْ تَدَّرِعَ فَتَدَّرِعَ إِلَّا بِهَا وَكَانَ بَابُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِيمَا بَعْدُ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بَعْدَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَبَاعَهَا فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَامَهُ عَلَى بَيْعِهَا مُعَاوِيَةُ، وقال بعت شرف قومك بِمِائَةِ أَلْفٍ؟ فَقَالَ إِنَّمَا الشَّرَفُ الْيَوْمَ بِالتَّقْوَى وَاللَّهِ لَقَدِ ابْتَعْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِزِقِّ خَمْرٍ وَهَا أَنَا قَدْ بِعْتُهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ وَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ ثَمَنَهَا صَدَقَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَيُّنَا الْمَغْبُونُ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْمُوَطَّأِ وكانت اليه سِقَايَةُ الْحَجِيجِ فَلَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مِنْ مَاءِ حِيَاضِهِ وَكَانَتْ زَمْزَمُ إِذْ ذَاكَ مَطْمُوسَةً مِنْ زَمَنِ جُرْهُمٍ قَدْ تَنَاسَوْا أَمْرَهَا مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَوْضِعِهَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ قُصَيٌّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ وَقِيدَ النَّارِ بِالْمُزْدَلِفَةِ لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهَا مَنْ يَأْتِي مِنْ عَرَفَاتٍ والرفادة وَهِيَ إِطْعَامُ الْحَجِيجِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ.(2/207)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَلِكَ أَنَّ قُصَيًّا فَرَضَهُ عليهم فَقَالَ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ جِيرَانُ الله وأهل مكة وأهل الحرم وأن الحجاج ضَيْفُ اللَّهِ وَزُوَّارُ بَيْتِهِ وَهُمْ أَحَقُّ بِالضِّيَافَةِ فَاجْعَلُوا لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا أَيَّامَ الْحَجِّ حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْكُمْ فَفَعَلُوا فَكَانُوا يُخْرِجُونَ لِذَلِكَ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ خَرْجًا فَيَدْفَعُونَهُ إِلَيْهِ فَيَصْنَعُهُ طَعَامًا لِلنَّاسِ أَيَّامَ مِنًى فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ ثُمَّ جَرَى فِي الْإِسْلَامِ إِلَى يَوْمِكَ هَذَا فَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يَصْنَعُهُ السُّلْطَانُ كُلَّ عَامٍ بِمِنًى لِلنَّاسِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْحَجُّ.
قُلْتُ: ثُمَّ انْقَطَعَ هَذَا بَعْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ ثُمَّ أمَرَ بِاخْرَاجِ طَائِفَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَيُصْرَفُ فِي حَمْلِ زَادٍ وَمَاءٍ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْقَاصِدِينَ إِلَى الْحَجِّ وَهَذَا صَنِيعٌ حَسَنٌ مِنْ وُجُوهٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ خالص بيت المال من أحل مَا فِيهِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جَوَّالِي الذِّمَّةَ لِأَنَّهُمْ لَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا.
وَقَالَ قَائِلُهُمْ فِي مَدْحِ قُصَيٍّ وَشَرَفِهِ فِي قَوْمِهِ:
قُصَيٌّ لَعَمْرِي كَانَ يُدْعَى مُجْمِّعًا ... بِهِ جمع الله القبائل من فهر
هموا مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَسُؤْدَدًا ... وَهُمْ طَرَدُوا عَنَّا غُوَاةَ بَنِي بَكْرٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغَ قُصَيٌّ مِنْ حَرْبِهِ انْصَرَفَ أَخُوهُ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ إِلَى بِلَادِهِ بِمَنْ مَعَهُ وَإِخْوَتِهِ مِنْ أَبِيهِ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ حُنٌّ وَمَحْمُودٌ وَجُلْهُمَةُ. قَالَ رِزَاحٌ فِي إِجَابَتِهِ قُصَيًّا:
وَلَمَّا أَتَى مِنْ قُصَيٍّ رَسُولٌ ... فَقَالَ الرَّسُولُ أَجِيبُوا الْخَلِيلَا
نَهَضْنَا إِلَيْهِ نَقُودُ الْجِيَادَ ... وَنَطْرَحُ عَنَّا الْمَلُولَ الثقيلا
نسير بها الليل حتى الصبا ... ح وَنَكْمِي النَّهَارَ لِئَلَّا نَزُولَا
فَهُنَّ سِرَاعٌ كَوِرْدِ الْقَطَا ... يُجِبْنَ بِنَا مِنْ قُصَيٍّ رَسُولًا
جَمَعْنَا مِنَ السِّرِّ مِنْ أَشْمِذَيْنِ [1] ... وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ جمعنا قبيلا
فيا لك حُلْبَةُ مَا لَيْلَةٌ ... تَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ سَيْبًا رَسِيلًا
فَلَمَّا مَرَرْنَ عَلَى عَسْجَرٍ ... وَأَسْهَلْنَ مِنْ مُسْتَنَاخٍ سَبِيلًا
وَجَاوَزْنَ بِالرُّكْنِ مِنْ وَرِقَانَ ... وَجَاوَزْنَ بالعرج حيا حلولا
مررن على الحلي مَا ذُقْنَهُ ... وَعَالَجْنَ مَنْ مَرَّ لَيْلًا طَوِيلًا
نُدَنِّي مِنَ الْعُوذِ أَفْلَاءَهَا ... إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَرِقْنَ الصَّهِيلَا
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى مَكَّةَ ... أَبَحْنَا الرِّجَالَ قَبِيلًا قَبِيلًا
نُعَاوِرُهُمْ ثَمَّ حَدَّ السُّيُوفِ ... وَفِي كل أوب خلسنا العقولا
__________
[1] في السهيليّ الاشمذان جبلان. ويقال اسم قبيلتين.(2/208)
نُخَبِّزُهُمْ [1] بِصِلَابِ النُّسُورِ ... خَبْزَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الذَّلِيلَا
قَتَلْنَا خُزَاعَةَ فِي دَارِهَا ... وَبَكْرًا قَتَلْنَا وَجِيلًا فَجِيلَا
نَفَيْنَاهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمَلِيكِ ... كَمَا لَا يَحِلُّونَ أَرْضًا سُهُولَا
فَأَصْبَحَ سَيْبُهُمْ فِي الْحَدِيدِ ... وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ شَفَيْنَا الْغَلِيلَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ رِزَاحُ إِلَى بِلَادِهِ نَشَرَهُ اللَّهُ وَنَشَرَ حُنًّا، فَهُمَا قَبِيلَا عُذْرَةَ إِلَى الْيَوْمِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فِي ذَلِكَ:
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيٍّ ... بِمَكَّةَ مَنْزِلِي وَبِهَا رَبِيتُ
إِلَى الْبَطْحَاءِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدُّ ... وَمَرْوَتُهَا رَضِيتُ بِهَا رَضِيتُ
فَلَسْتُ لِغَالِبٍ إِنْ لَمْ تَأَثَّلْ ... بِهَا أَوْلَادُ قيذر وَالنَّبِيتُ
رِزَاحٌ نَاصِرِي وَبِهِ أُسَامِي ... فَلَسْتُ أَخَافُ ضَيْمًا مَا حَيِيتُ
وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ عَنِ الْأَشْرَمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حفص: أن رزاحا انما قدم بعد ما نَفَى قُصَيٌّ خُزَاعَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
ثُمَّ لَمَّا كَبِرَ قُصَيٌّ فَوَّضَ أَمْرَ هَذِهِ الْوَظَائِفِ الَّتِي كَانَتْ إِلَيْهِ مِنْ رِئَاسَاتِ قُرَيْشٍ وَشَرَفِهَا مِنَ الرِّفَادَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَاللِّوَاءِ وَالنَّدْوَةِ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ. وَإِنَّمَا خَصَّصَهُ بِهَا كُلِّهَا لِأَنَّ بَقِيَّةَ إِخْوَتِهِ عَبْدَ مناف وعبد الشمس وَعَبْدًا كَانُوا قَدْ شَرُفُوا فِي زَمَنِ أَبِيهِمْ وَبَلَغُوا فِي قُوَّتِهِمْ شَرَفًا كَبِيرًا فَأَحَبَّ قُصَيٌّ أَنْ يُلْحِقَ بِهِمْ عَبْدَ الدَّارِ فِي السُّؤْدُدِ فَخَصَّصَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ إِخْوَتُهُ لَا يُنَازِعُونَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمَّا انْقَرَضُوا تَشَاجَرَ ابْنَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا إِنَّمَا خَصَّصَ قُصَيٌّ عَبْدَ الدَّارِ بِذَلِكَ لِيُلْحِقَهُ بِإِخْوَتِهِ فَنَحْنُ نَسْتَحِقُّ مَا كَانَ آبَاؤُنَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَقَالَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ هَذَا أَمْرٌ جَعَلَهُ لَنَا قُصَيٌّ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَانْقَسَمَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ فِرْقَتَيْنِ فَفِرْقَةٌ بايعت عَبْدِ الدَّارِ وَحَالَفَتْهُمْ وَفِرْقَةٌ بَايَعَتْ بَنِي عَبْدِ مناف وحالفوهم عَلَى ذَلِكَ وَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الْحِلْفِ فِي جَفْنَةٍ فِيهَا طِيبٌ ثُمَّ لَمَّا قَامُوا مَسَحُوا أَيْدِيَهُمْ بِأَرْكَانِ الْكَعْبَةِ فَسُمُّوا حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَبَنُو زُهْرَةَ وَبَنُو تَيْمٍ وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ وَكَانَ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بَنُو مَخْزُومٍ وَبَنُو سَهْمٍ وَبَنُو جُمَحَ وَبَنُو عَدِيٍّ وَاعْتَزَلَتْ بَنُو عَامِرِ ابن لُؤَيٍّ وَمُحَارِبُ بْنُ فِهْرٍ الْجَمِيعَ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ اصْطَلَحُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ الرِّفَادَةُ وَالسِّقَايَةُ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَأَنْ تَسْتَقِرَّ الْحِجَابَةُ وَاللِّوَاءُ وَالنَّدْوَةُ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَانْبَرَمَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ.
__________
[1] قوله نخبزهم. قال السهيليّ: أي نسوقهم سوقا شديدا.(2/209)
وحكى الأموي عن الاشرم عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْ خُزَاعَةَ أَنَّ قُصَيًّا لَمَّا تَزَوَّجَ حُبَّى بِنْتَ حليل ونقل حُلَيْلٌ عَنْ وِلَايَةِ الْبَيْتِ جَعَلَهَا إِلَى ابْنَتِهِ حُبَّى وَاسْتَنَابَ عَنْهَا أَبَا غُبْشَانَ سُلَيْمَ بْنَ عمرو بن لؤيّ ابن ملكان بن قصي بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فَاشْتَرَى قُصَيُّ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْهُ بِزِقِّ خَمْرٍ وَقَعُودٍ فَكَانَ يُقَالَ (أَخْسَرُ مِنْ صَفْقَةِ أَبِي غُبْشَانَ) وَلَمَّا رَأَتْ خُزَاعَةُ ذَلِكَ اشْتَدُّوا عَلَى قُصَيٍّ فَاسْتَنْصَرَ أَخَاهُ فَقَدِمَ بِمَنْ مَعَهُ وَكَانَ مَا كَانَ ثُمَّ فَوَّضَ قُصَيٌّ هَذِهِ الْجِهَاتِ الَّتِي كَانَتْ إِلَيْهِ مِنَ السِّدَانَةِ وَالْحِجَابَةِ وَاللِّوَاءِ وَالنَّدْوَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالسِّقَايَةِ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الدَّارِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَإِيضَاحُهُ وَأَقَرَّ الْإِجَازَةَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فِي بَنِي عَدْوَانَ وَأَقَرَّ النَّسِيءَ فِي فُقَيْمٍ وَأَقَرَّ الْإِجَازَةَ وَهُوَ النَّفْرُ فِي صُوفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهُ مِمَّا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ قُصَيٌّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الدَّارِ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدًا وَتَخْمُرَ وَبَرَّةَ، وَأُمُّهُمْ كُلُّهُمْ حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيُّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ وَلِيَ الْبَيْتَ مِنْ خُزَاعَةَ وَمِنْ يَدِهِ أَخَذَ الْبَيْتَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ. قَالَ ابْنُ هشام: فَوَلَدَ عَبْدُ مَنَافِ بْنُ قُصَيٍّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ هَاشِمًا وَعَبْدَ شَمْسٍ وَالْمُطَّلِبَ وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهُ وَاقِدَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْمَازِنِيَّةُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَوُلِدَ لِعَبْدِ مَنَافٍ أَيْضًا أَبُو عَمْرٍو وَتُمَاضِرُ وَقِلَابَةُ وَحَيَّةُ وَرَيْطَةُ وَأُمُّ الْأَخْثَمِ وَأُمُّ سُفْيَانَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَوَلَدَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَخَمْسَ نِسْوَةٍ عَبْدَ المطلب وأسدا وأبا صيفي ونضلة والشفا وَخَالِدَةَ وَضَعِيفَةَ وَرُقَيَّةَ وَحَيَّةَ فَأُمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرُقَيَّةَ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ لبيد بن خداش ابن عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَذَكَرَ أُمَّهَاتِ الْبَاقِينَ قَالَ وَوَلَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَشَرَةَ نَفَرٍ وَسِتَّ نِسْوَةٍ وَهُمُ الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ لَا عِمْرَانَ وَالزُّبَيْرُ وَالْحَارِثُ وَكَانَ بِكْرَ أَبِيهِ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى وَجَحْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَجْلٌ وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْغَيْدَاقِ لِكَثْرَةِ خَيْرِهِ وَالْمُقَوِّمُ وَضِرَارٌ وَأَبُو لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى وَصْفِيَّةُ وَأُمُّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ وَعَاتِكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَأَرْوَى وَبَرَّةُ وَذَكَرَ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَى أَنْ قَالَ وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرِ وَجَمِيعِ النِّسَاءِ إِلَّا صَفِيَّةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عائذ بن عمران ابن مخزوم بن يقظة بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ قَالَ فَوَلَدَ عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَأُمُّهُ آمِنَةُ بنت وهب بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ثُمَّ ذَكَرَ أُمَّهَاتِهَا فَأَغْرَقُ إِلَى أَنْ قَالَ فَهُوَ أَشْرَفُ وَلَدِ آدَمَ حَسَبًا وَأَفْضَلُهُمْ نَسَبًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ شَدَّادٍ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن الله اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا من كنانة واصطفى هاشما من قريش وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَوْلِدِهِ الْكَرِيمِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَسَنُورِدُ عِنْدَ(2/210)
سَرْدِ النَّسَبِ الشَّرِيفِ فَوَائِدَ أُخَرَ لَيْسَتْ هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
ذِكْرُ جُمَلٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا كَانَ مِنْ أَخْذِ جُرْهُمٍ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ طَمِعُوا فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ بَنَاتِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْ تَوَثُّبِ خُزَاعَةَ عَلَى جُرْهُمٍ وَانْتِزَاعِهِمْ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْهُمْ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ ذَلِكَ إِلَى قُصَيٍّ وَبَنِيهِ وَاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي أَيْدِيهِمْ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ تِلْكَ الْوَظَائِفَ عَلَى ما كانت عليه.
باب ذكر جماعة مشهورين كانوا في الْجَاهِلِيَّةِ
خَبَرُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ
الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أنه كان كَانَ نَبِيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ التُّسْتَرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: جَاءَتْ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَسَطَ لَهَا ثَوْبَهُ وَقَالَ بِنْتُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ قَيْسٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ذُكِرَ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ذَاكَ نَبِيٌّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ. ثُمَّ قَالَ وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ثِقَةً فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَدِيءَ الْحِفْظِ وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُدْخِلُ فِي أَحَادِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْبَزَّارُ: وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَهْدِيٍّ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ عَبْسٍ يُقَالَ لَهُ خَالِدُ بن سنان قال لقومه: إني أطفئ عنكم نار الحرتين فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ [1] وَاللَّهِ يَا خَالِدُ مَا قُلْتَ لَنَا قَطُّ إِلَّا حَقًّا فما شأنك وشأن نار الحرتين تَزْعُمُ أَنَّكَ تُطْفِئُهَا فَخَرَجَ خَالِدٌ وَمَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ [2] قَوْمِهِ فِيهِمْ عِمَارَةُ بْنُ زِيَادٍ فَأَتَوْهَا فَاذَا هِيَ تَخْرُجُ مِنْ شِقِّ جَبَلٍ فَخَطَّ لَهُمْ خَالِدٌ خُطَّةً فَأَجْلَسَهُمْ فِيهَا فَقَالَ إِنْ أَبْطَأْتُ عَلَيْكُمْ فَلَا تَدْعُونِي بِاسْمِي فَخَرَجَتْ كَأَنَّهَا خَيْلٌ شُقْرٌ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَاسْتَقْبَلَهَا خَالِدٌ فَجَعَلَ يَضْرِبُهَا بِعَصَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: بَدَا بَدَا بَدَا كُلُّ هُدَى زَعَمَ ابْنُ رَاعِيَةِ الْمِعْزَى أتى لا أخرج منها وثيابي بيدي حَتَّى دَخَلَ مَعَهَا الشَّقَّ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادٍ وَاللَّهِ إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَدْ خَرَجَ إِلَيْكُمْ بَعْدُ قَالُوا فَادْعُوهُ بِاسْمِهِ. قَالَ فَقَالُوا إِنَّهُ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَهُ بِاسْمِهِ فَدَعَوْهُ بِاسْمِهِ فَخَرَجَ وَهُوَ آخِذٌ بِرَأْسِهِ فَقَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَدْعُونِي بِاسْمِي فَقَدْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُونِي فَادْفِنُونِي فَاذَا مَرَّتْ بِكُمُ الْحُمُرُ فِيهَا حِمَارٌ أَبْتَرُ فَانْبِشُونِي فَإِنَّكُمْ تَجِدُونِي حَيًّا فَدَفَنُوهُ فَمَرَّتْ بِهِمُ الْحُمُرُ فِيهَا حِمَارٌ أَبْتَرُ فَقُلْنَا انْبِشُوهُ فَإِنَّهُ أَمَرَنَا
__________
[1] هو عمارة بن زياد كما صرح به الحاكم في المستدرك انتهى.
[2] عدتهم ثلاثون كما في المستدرك انتهى.(2/211)
أَنْ نَنْبِشَهُ فَقَالَ لَهُمْ عُمَارَةُ لَا تَنْبِشُوهُ لَا وَاللَّهِ لَا تُحَدِّثُ مُضَرُ أَنَّا نَنْبُشُ مَوْتَانَا وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُمْ خَالِدٌ إِنَّ في عكن امْرَأَتِهِ لَوْحَيْنِ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُّ فَانْظُرُوا فِيهِمَا فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ مَا تَسْأَلُونَ عَنْهُ قَالَ وَلَا يَمَسَّهُمَا حَائِضٌ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى امْرَأَتِهِ سَأَلُوهَا عَنْهُمَا فَأَخْرَجَتْهُمَا إِلَيْهِمْ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَهَبَ مَا كَانَ فِيهِمَا مِنْ عِلْمٍ.
قَالَ أَبُو يُونُسَ: قَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ سُئِلَ عَنْهُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك نَبِيٌّ أَضَاعَهُ قَوْمُهُ قَالَ: أَبُو يُونُسَ: قَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ إِنَّ ابْنَ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنِ أَخِي فَهَذَا السِّيَاقُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَالْمُرْسَلَاتُ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ نَبِيٌّ لَا يُحْتَجُّ بِهَا هَاهُنَا وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى بن مَرْيَمَ أَنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ من نَذِيرٍ من قَبْلِكَ) 28: 46 وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ بَعْدَ إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا فِي الْعَرَبِ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ ابْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بَانِي الْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ قِبْلَةً لِأَهْلِ الْأَرْضِ شَرْعًا وَبَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ لِقَوْمِهِمْ حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ بَشَّرَ بِهِ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ بِعَيْنِهِ يُرَدُّ مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ إِرْسَالِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ يُقَالَ لَهُ شُعَيْبُ بْنُ ذِي مِهْذَمِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ صَاحِبُ مَدْيَنَ وَبُعِثَ إِلَى الْعَرَبِ أَيْضًا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ فكذبوهما فسلط الله على العرب بخت نصّر فَنَالَ مِنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ نَحْوَ مَا نَالَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ فِي أَخْبَارِ خُزَاعَةَ بَعْدَ جُرْهُمٍ.
ذِكْرُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَحَدِ أَجْوَادِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَهُوَ حَاتِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَشْرَجِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بن أحزم بن أبى أحزم [1] واسمه هرومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ طيِّئ أَبُو سفّانة الطائي والدعدى بْنِ حَاتِمٍ الصَّحَابِيِّ كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ لِحَاتِمٍ مَآثِرُ وَأُمُورٌ عَجِيبَةٌ وَأَخْبَارٌ مُسْتَغْرَبَةٌ فِي كَرَمِهِ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ السُّمْعَةَ وَالذِّكْرَ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ وَاقَدٍ الْقَيْسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو نصر هُوَ النَّاجِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذُكِرَ حَاتِمٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ذاك أَرَادَ أَمْرًا فَأَدْرَكَهُ (حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ وَاقَدٍ عَنْ أَبِي نصر النَّاجِيِّ وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهُ حَمَّادٌ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ فَرَّقَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ بَيْنَ أبى نصر النَّاجِيِّ وَبَيْنَ أَبِي نَصْرٍ حَمَّادٍ وَلَمْ يُسَمِّ الناجي
__________
[1] كذا بالأصول وبلوغ الارب للآلوسى بالحاء المهملة والمنقول عن الأغاني بالخاء المعجمة انتهى.(2/212)