علقمة والأسود وعمرو بن ميمون من التابعين، ولعل سببه عندهم كما قال السبكي إيثار الزيارة، وممن اختار البداءة بمكة ثم إتيان المدينة والقبر الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، ففي فتاوى أبي اللّيث السّمرقندي: روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال:
الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة، فإذا قضى نسكه مر بالمدينة، وإن بدأ بها جاز، فيأتي قريبا من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقوم بين القبر والقبلة.
وقد أوضح السبكي أمر الإجماع على الزيارة قولا وفعلا، وسرد كلام الأئمة في ذلك، وبين أنها قربة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب فقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ [النساء: 64] الآية دالة على الحث بالمجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستغفار عنده، واستغفار لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين؛ لقوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] فإذا وجد مجيئهم فاستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته. وقوله: (اسْتَغْفَرَ لَهُمُ) معطوف على قوله: (جاؤُكَ) فلا يقتضي أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنا لا نسلم أنه لا يستغفر بعد الموت؛ لما سبق من حياته ومن استغفاره لأمته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه، ويعلم من كمال رحمته أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه.
والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة، واستحبوا لمن أتى القبر أن يتلوها ويستغفر الله تعالى، وحكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمة عن العتبي، واسمه محمد بن عبيد الله بن عمرو، أدرك ابن عيينة وروى عنه، وهي مشهورة حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، واستحسنوها، ورأوها من أدب الزائر، وذكرها ابن عساكر في تاريخه، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن، وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إلى قوله رَحِيماً وإني جئتك مستغفرا ربك من ذنوبي، متشفعا بك، وفي رواية: وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم(4/185)
ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في نومي وهو يقول: الحق الرجل وبشّره بأن الله غفر له بشفاعتي، فاستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده.
قلت: بل قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه مصباح الظلام: إن الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه وما وعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النساء: 64] الآية، وقد ظلمت وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: إنه قد غفر لك، انتهى.
وروى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله الكرخي عن علي ابن محمد بن علي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي قال: حدثني أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن ابن صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فذكره.
وأما السنة فما سبق من الأحاديث في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بخصوصه وقد جاء في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم سيد القبور وداخل في عموم ذلك.
وأما الإجماع فقال عياض رحمه الله تعالى: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة بين المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها، انتهى.
وأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها.
وقد اختلفوا في النساء، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلة الخاصة به كما سبق، قال السبكي: ولهذا أقول: إنه لا فرق في زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم بين الرجال والنساء، وقال الجمال الريمي في التقفية: يستثنى أي من محل الخلاف- قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فإن زيارتهم مستحبة للنساء بلا نزاع، كما اقتضاه قولهم في الحج: يستحب لمن حج أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيقال معاياة: قبور يستحب زيارتها للنساء بالاتفاق، وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين وهو الدمنهوري الكبير، وأضاف إليه قبور الأولياء والصالحين والشهداء، انتهى.
وأما القياس فعلى ما ثبت من زيارته صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع وشهداء أحد، وإذا استحب زيارة قبر غيره فقبره صلى الله عليه وسلم أولى؛ لما له من الحق ووجوب التعظيم، وليست زيارته إلا(4/186)
لتعظيمه والتبرك به، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملائكة الحافين به، وذلك من الدعاء المشروع له.
والزيارة قد تكون لمجرد تذكر الآخرة، وهو مستحب؛ لحديث «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» . وقد تكون للدعاء لأهل القبور كما ثبت من زيارة أهل البقيع، وقد تكون للتبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح، وقال أبو محمد الشارمساحي المالكي: إن قصد الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم وقبور الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال السبكي: وهذا الاستثناء صحيح، وحكمه في غيرهم بالبدعة فيه نظر.
قلت: قد ذكر هذا الاستثناء ابن العربي أيضا، فقال: ولا يقصد يعني زائر القبر الانتفاع بالميت فإنها بدعة، وليس لأحد على وجه الأرض إلا لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، نقل ذلك عنه الحافظ زين الدين الحسيني الدمياطي، ثم تعقبه بأن زيارة قبور الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء وسائر المرسلين للبركة أثر معروف.
وقد قال حجة الإسلام الغزالي: كلّ من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد موته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، انتهى.
وقد تكون الزيارة لأداء حق أهل القبور، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبه في دار الدنيا» وسبق عن ابن عباس مرفوعا «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» ورأيت بخط الأقشهري: روى بقيّ بن مخلد بسنده إلى محمد بن النعمان عن أبيه مرفوعا «من زار قبر أبويه في كل جمعة أو أحدهما كتب بارا وإن كان في الدنيا قبل ذلك بهما عاقا» .
قال السبكي: وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فيها هذه المعاني الأربعة فلا يقوم غيرها مقامها.
وقد قال عبد الحق الصقلي عن أبي عمران المالكي، قال: إنما كره مالك أن يقال «زرنا قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم» لأن الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها، وزيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واجبة، قال عبد الحق: يعني من السنن الواجبة، انتهى.
واختار عياض أن كراهة مالك لذلك لإضافة الزيارة إلى القبر، وأنه لو قال «زرنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم» لم يكره؛ لحديث «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر قطعا للذريعة.(4/187)
قال السبكي: ويشكل عليه حديث «من زار قبري» إلا أن يكون لم يبلغ مالكا، أو لعله يقول: المحذور في قول غيره صلى الله تعالى عليه وسلم، مع أن ابن رشد نقل عن مالك أنه قال: وأكره ما يقول الناس زرت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأعظم ذلك أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يزار.
قال ابن رشد: ما كره مالك هذا إلا من وجه أن كلمة أعلى من كلمة، فلما كانت الزيارة تستعمل في الموتى وقد وقع من الكراهة ما وقع كره أن يذكر مثل ذلك في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: كرهه لأن المضي إلى قبره ليس ليصله بذلك ولا لينفعه، وإنما هو رغبة في الثواب، انتهى ملخصا.
والأخير هو المختار في تأويل كلام مالك كما قاله السبكي، قال: والمختار عندنا أنه لا يكره إطلاق هذا اللفظ.
ويستدل أيضا بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، على مشروعية السفر للزيارة وشدّ الرحال إليها، على ما سبق تقريره بشموله المجيء من قرب ومن بعد، وبعموم قوله «من زار قبري» وقوله في الحديث الذي صححه ابن السكن «من جاءني زائرا» وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر إليها كذلك، وقد ثبت خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لزيارة قبور الشهداء، فإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد، وحينئذ فقبره صلى الله تعالى عليه وسلم أولى، وقد انعقد الإجماع على ذلك؛ لإطباق السلف والخلف عليه. وأما حديث «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فمعناه لا تشدوا الرحال إلى مسجد إلا إلى المساجد الثلاثة، إذ شدّ الرحال إلى عرفة لقضاء النسك واجب بالإجماع، وكذلك سفر الجهاد والهجرة من دار الكفر بشرطه، وغير ذلك، وأجمعوا على جواز شد الرحال للتجارة ومصالح الدنيا.
وقد روى ابن شبة بسند حسن أن أبا سعيد يعني الخدري رضي الله تعالى عنه- ذكر عنده الصلاة في الطور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمطيّ أن تشدّ رحالها إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» فهذا الحديث صريح فيما ذكرناه، على أن في شدّ الرحال لما سوى هذه المساجد الثلاثة مذاهب: نقل إمام الحرمين عن شيخه أنه أفتى بالمنع، قال: وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم، وقال الشيخ أبو علي: لا يكره ولا يحرم، وإنما أبان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة، وما عداها ليس قربة.(4/188)
قال السبكي: ويمكن أن يقال: إن قصد بذلك التعظيم فالحق ما قاله الشيخ أبو محمد؛ لأنه تعظيم لما لم يعظمه الشرع، وإن لم يقصد مع عينه أمر آخر فهذا قريب من العبث؛ فيترجح ما قاله أبو علي.
وذهب الداودي إلى أن ما قرب من المساجد الفاضلة من المصر فلا بأس بإتيانه مشيا وركوبا، استدل بمسجد قباء لأن شد الرحال لا يكون لما قرب غالبا، ونقل عياض أنه إنما يمنع إعمال المطيّ للناذر، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يصح نذر ما سوى المساجد الثلاثة، ومذهب ليث بن سعد صحة ذلك مطلقا، وقال بعضهم: يلزم ما لم يكن شد رحل كمسجد قباء وهو قول محمد بن مسلمة المالكي.
وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما سئل عمن جعل على نفسه مشيا إلى مسجد قباء وهو بالمدينة، فألزمه ذلك، وأمره أن يمشي، قال ابن حبيب في الواضحة: فكذلك من نذر أن يمشي إلى مسجده الذي يصلي فيه مكتوبته، وليس بلازمه فيما نأى عنه من المساجد لا ماشيا ولا راكبا. قال السبكي: هذا كله في قصد المكان لعينه، أو قصد عبادة فيه تمكن في غيره، أما قصده بغير نذر لغرض فيه كالزيارة وشبهها فلا يقول أحد فيه بتحريم ولا كراهة، مع أن السفر بقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم غايته مسجد المدينة؛ لأنها إنما تكون فيه لمجاورته القبر الشريف، وغرض الزائر التبرك بالحلول في ذلك المحل، والتسليم على من بذلك القبر الشريف، وتعظيم من فيه كما لو كان حيا بالحياة المألوفة فسافر إليه، وليس القصد تعظيم بقعة القبر لعينها.
وقال الماوردي: قال أصحابنا عند ذكر من يلي أمر الحج: فإذا قضى الناس حجهم أمهلهم الأيام التي جرت عادتهم بها، فإذا رجعوا سار بهم على طريق مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رعاية لحرمته، وقياما بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة، وعبادات الحجيج المستحسنة، وقال القاضي الحسين: إذا فرغ من الحج فالسنة أن يقف بالملتزم ويدعو، قال: ثم يأتي المدينة، ويزور قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقال القاضي أبو الطيب: ويستحب أن يزور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن يحج ويعتمر، وقال المحاملي في التجريد: ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة، فإذا قضى نسكه مر بالمدينة إلى آخره.
والحنفية قالوا: إن زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أفضل المندوبات(4/189)
والمستحبات، بل تقرب من درجة الواجبات، وكذلك نص عليه المالكية والحنابلة، وأوضح السبكي نقولهم وسردها في كتابه في الزيارة، ولا حاجة إلى تتبع ذلك مع الإجماع عليه.
فإن قيل: روى عبد الرزاق أن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم رأى قوما عند القبر، فنهاهم، وقال: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا عليّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني» وروى أبو يعلى عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما، أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيدخل فيها فيدعوه، فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» وروى القاضي إسماعيل في الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن سهل بن أبي سهيل قال: جئت أسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن حسن رضي الله تعالى عنهما يتعشى، وبيته عند بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية: رآني الحسن بن الحسن رضي الله تعالى عنهما عند القبر، وهو في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها يتعشى فقال: هلمّ إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال:
مالي رأيتك عند القبر؟ وفي رواية: مالي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت فسلم عليه وفي رواية «إذا دخلت المسجد فسلم عليه» ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم مقابر الحديث» ثم قال: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
قلنا: روى القاضي إسماعيل أيضا في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بسنده إلى عليّ بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم أن رجلا كان يأتي كل غداة؛ فيزور قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ويصلي عليه، ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علي بن الحسين، فقال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: ما يحملك على هذا؟ قال:
أحب التسليم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما، هل لك أن أحدثك حديثا عن أبي؟ قال: نعم، قال له علي بن الحسين رضي تعالى عنهما: أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تجعلوا قبري عيدا الحديث» .
فهذا يبين أن ذلك الرجل زاد في الحد، فيكون علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما موافقا لما سيأتي عن مالك من كراهة الإكثار من الوقوف بالقبر، وليس إنكارا(4/190)
لأصل الزيارة، أو أنه أراد تعليمه أن السلام يبلغه مع الغيبة لما رآه يتكلف الإكثار من الحضور.
وعلى ما ذكرناه يحمل ما ورد عن حسن بن حسن رضي الله تعالى عنه، بدليل قوله «إذا دخلت فسلم عليه» ولأن يحيى الحسيني روى في كتابه عن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جده أنه كان إذا جاء يسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقف عند الأسطوانة التي تلي الروضة، ثم يسلم، ثم يقول: هاهنا رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المطري وغيره: وهذا موقف السلف قبل إدخال الحجر في المسجد. وسبق في الكلام على المسمار المواجه للوجه الشريف بيان الموضع الذي كان يقف عنده علي بن الحسين من جهة الوجه الشريف أيضا، وقال يحيى في أخبار المدينة له: حدثنا هرون بن موسى الفروي قال: سمعت جدي أبا علقمة يسأل: كيف كان الناس يسلّمون علي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يدخل البيت في المسجد؟ فقال: كان يقف الناس على باب البيت يسلمون عليه، وكان الباب ليس عليه غلق، حتى هلكت عائشة رضي الله تعالى عنها.
قلت: وكيف يتخيل في أحد من السلف المنع من زيارة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى، فضلا عن زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم؟ وما روي عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أنه قال «ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يكره إتيانه» محمول على تقدير صحته على ما سيأتي عن مالك من كراهة الوقوف بالقبر لمن لم يقدم من سفر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا قبري عيدا» قال الحافظ المنذري: يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين، قال: ويؤيده قوله «لا تجعلوا بيوتكم قبورا» أي لا تتركوا الصلاة فيها حتى تجعلوها كالقبور التي لا يصلى فيها، قال السبكي: ويحتمل أن يكون المراد لا تتخذوا له وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه، ويحتمل أيضا أن يراد لا تتخذوه كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد، بل لا يأتي إلا للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه.
قلت: وقد كانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته للزيارة، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم حي الدارين، بل روى أحمد بإسنادين أحدهما(4/191)
برجال الصحيح عن يعلى بن مرة من حديث قال فيه: ثم سرنا فنزلنا منزلا، فنام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له، فقال: هي شجرة استأذنت ربها عز وجل أن تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها. فإذا كان هذا حال شجرة فكيف بالمؤمن المأمور بتعظيم هذا النبي الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم الممتلئ بالشوق إليه؟ وحديث حنين الجذع تقدم ذكره في محله. وقال القاضي ابن كج من أصحابنا: إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فعندي يلزمه الوفاء وجها واحدا، وإذا نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان. قال السبكي: لم ير لغيره من أصحابنا خلافه، والقطع بذلك هو الحق؛ للأدلة الخاصة في ذلك، ومن يشترط في النذر أن يكون مما وجب جنسه بالشرع ويقول «إن الاعتكاف كذلك؛ لوجوب الوقوف» فقد يقول: إن زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب جنسها وهي الهجرة إليه في حياته.
ووجه الخلاف في قبر غيره تشبيهه بزيارة القادمين وإفساد السلام ونحو ذلك مما لم يوضع قربة مقصودة وإن كان قربة من حيث ترغيب الشرع فيه لعموم فائدته، وعلى هذا يكون الأصح لزومه بالنذر كما في تلك المسائل.
وقال العبدي من المالكية في شرح الرسالة: وأما النذر للمشي إلى المسجد لحرام والمشي إلى مكة فله أصل في الشرع وهو الحج والعمرة، والمشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس، وليس عنده حج ولا عمرة، فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاثة لزمه، فالكعبة متفق عليها، ويختلف أصحابنا وغيرهم في المسجدين الآخرين، قال السبكي: والخلاف الذي أشار إليه في نذر إتيان المسجدين الآخرين لا في الزيارة.
وفي كتاب تهذيب الطالب لعبد الحق: رأيت في بعض المسائل التي سئل عنها الشيخ أبو محمد بن أبي زيد، قيل له في رجل استؤجر بمال ليحج به وشرطوا عليه الزيارة، فلم يستطع تلك السنة أن يزور لعذر منعه من ذلك. قال: يردّ من الأجرة بقدر مسافة الزيارة، قال الحاكي لذلك عنه: وقال غيره من شيوخنا: عليه أن يرجع ثانية حتى يزور، وقال ابن عبد الحق: انظر، إن استؤجر للحج لسنة بعينها فهاهنا يسقط من الأجرة ما يخص الزيارة، وإن استؤجر على حجة مضمونة في ذمته فهاهنا يرجع ويزور، وقد اتفق النقلان، قال السبكي: وهذا فرع حسن، والذي ذكره أصحابنا أن الاستئجار على الزيارة لا يصح؛ لأنه عمل غير مضبوط ولا مقدر بشرع، والجعالة إن وقعت على نفس الوقوف لم يصح أيضا؛(4/192)
لأن ذلك مما لا يصح فيه النيابة عن الغير، وإن وقعت الجعالة على الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم كانت صحيحة؛ لأن الدعاء مما يصح النيابة فيه، والجهل بالدعاء فيه لا يبطلها، قاله الماوردي في الحاوي.
قال السبكي: وبقي قسم ثالث لم يذكره، وهو إبلاغ السلام، ولا شك في جواز الإجارة والجعالة عليه كما كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يفعل، وأن الظاهر أن مراد المالكية هذا، وإلا فمجرد الوقوف من الأجير لا يحصل للمستأجر غرضا، انتهى.
وذكر الديلمي في التقفية: أن حاصل ما في مسألة الاستئجار للزيارة ثلاثة أوجه للصحاب: أصحها فيما حكاه ابن سراقة في مختصره جواز ذلك، واختاروه الإمام محمد بن أبي بكر الأصبحي صاحب الإيضاح والمفتاح وأفتى به، والثاني لا يجوز، وبه قطع الماوردي، قال: لأنه عمل غير مضبوط، والثالث وبه قال الإمام عليّ بن قاسم الحكمي، واختاره صاحب الأصبحي أنه يا بني على ما إذا حلف لا يكلم فلانا فكاتبه أو راسله، والصحيح عند الأكثرين أنه لا يحنث، فلا يصح الاستئجار، وإن قلنا يحنث صح الاستئجار.
قلت: وهذا البناء ضعيف؛ لأن مبنى الأيمان على العرف، وأما ذلك فقربة مقصودة كما أن المكاتبة والمراسلة يحصل بهما التودد والصّلة، وإن لم يسم كلاما، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث في توسّل الزائر،
وتشفعه به صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ربه تعالى، واستقباله صلى الله عليه وسلم في سلامه وتوسله ودعائه.
اعلم أن الاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم وبجاهه وبركته إلى ربه تعالى من فعل الأنبياء والمرسلين، وسير السلف الصالحين، واقع في كل حال، قبل خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم وبعد خلقه، في حياته الدنيوية ومدة البرزخ وعرصات القيامة.
الحال الأول:
ورد فيه آثار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولنقتصر على ما رواه جماعة منهم الحاكم وصحح إسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحبّ الخلق إليك، فقال الله(4/193)
تعالى: صدقت يا آدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، إذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك» رواه الطبراني وزاد «وهو آخر الأنبياء من ذريتك» .
قال السبكي: وإذا جاز السؤال بالأعمال كما في حديث الغاز الصحيح وهي مخلوقة فالسؤال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أولى، وفي العادة أن من له عند شخص قدر فتوسل به إليه في غيبته فإنه يجيب إكراما للمتوسّل به، وقد يكون ذكر المحبوب أو المعظم سببا للإجابة، ولا فرق في هذا بين التعبير بالتوسل أو الاستغاثة أو التشفع أو التوجه، ومعناه التوجه به في الحاجة، وقد يتوسل بمن له جاء إلى من هو أعلى منه.
الحال الثاني:
التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد خلقه في مدة حياته في الدنيا. منه ما رواه جماعة منهم النسائي والترمذي في الدعوات من جامعه عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم شفعه فيّ. قال الترمذي. حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه البيهقي، وزاد: فقام وقد أبصر، وفي رواية: ففعل الرجل فبرأ.
الحال الثالث:
التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته، روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف المتقدم أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في حاجة له، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له ابن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان، فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأدخل على عثمان رضي الله تعالى عنه، فأجلسه معه على الطّنفسة، فقال: حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته فيّ، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت دعوت أو تصبر، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال له النبي صلى الله تعالى عليه(4/194)
وسلم: ائت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات، قال ابن حنيف فو الله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط، ورواه البيهقي من طريقين بنحوه.
قال السبكي: والاحتجاج من هذا الأثر بفهم عثمان ومن حضره الذين هم كانوا أعلم بالله ورسوله وبفعلهم.
قلت: وقد سبق في قبر فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في دعائه إليها «بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي» وأن في سنده روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وفيه دلالة ظاهرة للحال الثاني بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وكذا للحال الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم «الأنبياء الذين من قبلي» .
وقد يكون التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة بمعنى طلب أن يدعو كما كان في حياته، وذلك فيما رواه البيهقي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار، ورواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك الدار، قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام فقال: ائت عمر فاقرئه السلام وأخبره أنهم مسقون، وقل له: عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل عمر رضي الله تعالى عنه فأخبره، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه.
وروى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ومحل الاستشهاد طلب الاستسقاء منه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في البرزخ ودعاؤه لربه في هذه الحالة غير ممتنع، وعلمه بسؤال من يسأله قد ورد، فلا مانع من سؤال الاستسقاء وغيره منه كما كان في الدنيا.
وسبق في الفصل الحادي والعشرين من الباب الرابع ما رواه أبو الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: فانظروا إلى قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فاجعلوا بينه كوّة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا الخبر المتقدم.
وقد يكون التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم بطلب ذلك الأمر منه، بمعنى أنه(4/195)
صلى الله تعالى عليه وسلم قادر على التسبب فيه بسؤاله وشفاعته إلى ربه فيعود إلى طلب دعائه وإن اختلفت العبارة. ومنه قول القائل له: أسألك مرافقتك في الجنة الحديث، ولا يقصد به إلا كونه صلى الله تعالى عليه وسلم سببا وشافعا.
الحال الرابع:
التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم في عرصات القيامة فيشفع إلى ربه تعالى، وذلك مما قام الإجماع عليه وتواردت به الأخبار. وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أوحى الله إلى عيسى: يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركته من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا أني خلقت محمدا ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن.
قلت: فكيف لا يستشفع، ولا يتوسل بمن له هذا المقام والجاه عند مولاه؟ بل يجوز التوسل بسائر الصالحين كما قاله السبكي، وإن نقل بعضهم عن ابن عبد السلام ما يقتضي أن سؤال الله بعظيم من خلقه ينبغي أن يكون مقصورا على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد روى ابن النعمان في مصباح الظلام قصة استسقاء عمر رضي الله تعالى عنه بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وتعالى وسلم نحو ما في الصحيح، وأن الحافظ أبا القاسم هبة الله بن الحسن رواها من طرق، وفي بعضها عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا قحط استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، ويقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فاسقنا، قال: فيسقون.
وفي رواية له عن ابن عباس أن عمر رضي الله تعالى عنهم قال: اللهم إنا نستسقيك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم، ونستشفع إليك بشيبته، فسقوا وفي ذلك يقول عباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سقى الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقي بشيبته عمر
وروي أن العباس رضي الله تعالى عنه قال في دعائه: وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد أحد الرواة عن مالك فيما يظهر قال:
ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدّب قوما فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الآية، ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ(4/196)
أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات: 3] الآية، وذم قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) الآية، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله تعالى وسلم؟ فقال: لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله تعالى قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [النساء: 64] الآية.
فانظر هذا الكلام من مالك، وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم واستقباله عند الدعاء، وحسن الأدب التام معه.
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب:
باب زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكر آداب الزيارة، وقال: ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته، ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره، وذكر كيفية السلام والدعاء. منه: اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك عليه السلام وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ الآية، وإني قد أتيت نبيك مستغفرا، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم، وذكر دعاء طويلا.
وقال أبو منصور الكرماني من الحنفية: إن كان أحد أوصاك بتبليغ التسليم تقول:
السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان، يستشفع بك إلى ربك بالرحمة والمغفرة فاشفع له.
وقال عياض: قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو، ويسلم ولا يمس القبر بيده، وفي رواية نقلها عياض عن المبسوط أنه قال: لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، لكن يسلم ويمضي.
قلت: وهي مخالفة أيضا لما تقدم في مناظرة المنصور لمالك، وكذا لما نقله ابن الموار في الحج فيما جاء في الوداع، فإنه قال: قيل لمالك: فالذي يلتزم أترى له أن يتعلق بأستار الكعبة عند الوداع؟ قال: لا، ولكن يقف ويدعو، قيل له: وكذلك عند قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال: نعم، انتهى. وحمل بعضهم رواية المبسوط على من لم يؤمن منه سوء الأدب في دعائه عند القبر.
نقل ابن يونس المالكي عن ابن حبيب في باب فرائض الحج ودخول المدينة أنه قال:
ثم اقصد إذا قضيت ركعتيك إلى القبر من وجاه القبلة، فادن منه وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثن عليه وعليك السكينة والوقار، فإنه صلى الله عليه وسلم يسمع ويعلم وقوفك بين يديه، وتسلم على أبي بكر وعمر وتدعو لهما.(4/197)
وقال النووي في رؤوس المسائل: عن الحافظ أبي موسى الأصبهاني أنه روى عن مالك أنه قال: إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيستدبر القبلة، ويستقبل النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي عليه ويدعو.
وقال إبراهيم الحربي في مناسكه: تولى ظهرك القبلة، وتستقبل وسطه- يعني القبر-.
وروى أبو القاسم طلحة بن محمد في مسند أبي حنيفة بسنده عن أبي حنيفة قال: جاء أيوب السختياني فدنا من قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فاستدبر القبلة، وأقبل بوجهه إلى القبر، وبكى بكاء غير متباك.
وقال المجد اللغوي: روى عن الإمام الجليل أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: قدم أيوب السختياني وأنا بالمدينة فقلت: لأنظرنّ ما يصنع، فجعل ظهره مما يلي القبلة ووجهه مما يلي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى غير متباك، فقام مقام رجل فقيه.
قلت: فهذا يخالف ما ذكره أبو الليث السمرقندي في الفتاوى عطفا على حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة من أن المسلّم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستقبل القبلة، وقال السروجي الحنفي: يقف عندنا مستقبل القبلة، قال الكرماني الحنفي منهم: ويقف عند رأسه ويكون وقوفه بين المنبر والقبر مستقبل القبلة.
وعن أصحاب الشافعي وغيره: يقف وظهره إلى القبلة ووجهه إلى الحظيرة، وهو قول ابن حنبل، انتهى.
وقال محقق الحنفية الكمال بن الهمام: إن ما نقل عن أبي الليث من أنه يقف مستقبل القبلة مردود بما روى أبو حنيفة في مسنده عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: من السنة أن تأتي قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل القبلة، وتجعل ظهرك إلى القبلة، وتستقبل القبر بوجهك، ثم تقول: السلام عليك أيها النبي الكريم ورحمة الله وبركاته.
وقال ابن جماعة في منسكه الكبير: ومذهب الحنفية أنه يقف للسلام والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الرأس المقدس بحيث يكون عن يساره، ويبعد عن الجدار قدر أربعة أذرع، ثم يدور إلى أن يقف قبالة الوجه المقدس مستدبر القبلة، فيسلم ويصلي عليه صلى الله عليه وسلم. وشذ الكرماني من الحنفية فقال: إنه يقف للسلام عليه صلى الله عليه وسلم مستدبر القبر المقدس مستقبل القبلة، وتبعه بعضهم، وليس بشيء، فاعتمد على ما نقلته، انتهى.
واعتمد السبكي ما تقدم من نسبة ما قاله الكرماني للحنفية، قال: واستدلوا بأن ذلك(4/198)
جمع بين العبارتين، قال: وقول أكثر العلماء هو الأحسن: فإن الميت يعامل معاملة الحي، والحي يسلم عليه مستقبلا، فكذلك الميت، وهذا لا ينبغي أن يتردد فيه، انتهى.
وذكر المطري أن السلف كانوا إذا أرادوا السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل إدخال الحجرات في المسجد وقفوا في الروضة مستقبلين السارية التي فيها الصندوق الخشب، أي لكونها في جهة الرأس الشريف، مستدبرين الروضة وأسطوان التوبة. وتقدم من رواية يحيى عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يفعل نحو ذلك، وروى يحيى بسند جيد عن أبي علقمة الغروي الكبير قال: كان الناس قبل أن يدخل البيت في المسجد يقفون على باب البيت يسلمون.
قلت: وذلك لتعذر استقبال الوجه الشريف حينئذ، ولذا قال المطري: فلما أدخل بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد وأدخلت حجرات أزواجه رضوان الله عليهن وقف الناس مما يلي وجه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، واستدبروا القبلة للسلام عليه، فاستدبار القبلة في الحالة مستحب كما في خطبة الجمعة والعيدين وسائر الخطب المشروعة كما قاله ابن عساكر في التحفة.
وروى ابن زبالة عن سلمة بن وردان قال: رأيت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما إذا سلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي فيقوم أمامه. وفي كلام أصحابنا أن الزائر يستقبل الوجه الشريف في السلام والدعاء والتوسل، ثم يقف بعد ذلك مستقبل القبلة والقبر عن يسار والمنبر عن يمينه فيدعو أيضا كما سنشير إليه.
خاتمة: في نبذ مما وقع لمن استغاث بالنبي ص أو طلب منه شيئا عند قبره،
فأعطى مطلوبه ونال مرغوبه، مما ذكره الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابة «مصباح الظلام، في المستغيثين بخير الأنام» .
فمن ذلك ما قال: اتفق الجماعة من علماء سلف هذه الأمة من أئمة المحدّثين والصوفية والعلماء بالله المحققين، قال محمد بن المنكدر: أودع رجل أبى ثمانين دينارا وخرج للجهاد، وقال لأبي: إن احتجت أنفقها إلى أن أعود، وأصاب الناس جهد من الغلاء، فأنفق أبي الدنانير، فقدم الرجل وطلب ماله، فقال له أبي: عد إليّ غدا، وبات في المسجد يلوذ بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرة وبمنبره مرة، حتى كاد أن يصبح، يستغيث بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فبينما هو كذلك وإذا بشخص في الظلام يقول: دونكها يا أبا محمد، فمد أبي يده فإذا هو بصرّة فيها ثمانون دينارا، فلما أصبح جاء الرجل فدفعها إليه.(4/199)
وقال الإمام أبو بكر بن المقرئ: كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا على حالة، وأثّر فينا الجوع، وواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرت قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت: يا رسول الله الجوع، وانصرفت، فقال لي أبو القاسم: اجلس، فإما أن يكون الرزق أو الموت، قال أبو بكر: فقمت أنا وأبو الشيخ والطبراني جالس ينظر في شيء، فحضر بالباب علوى، فدقّ ففتحنا له، فإذا معه غلامان مع كل واحد زنبيل فيه شيء كثير، فجلسنا وأكلنا وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فولى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال العلوي: يا قوم أشكوتم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأمرين أن أحمل بشيء إليكم.
وقال ابن الجلاد: دخلت مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبي ناقة، فتقدمت إلى القبر وقلت: ضيفك، فغفوت فرأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأعطاني رغيفا، فأكلت نصفه، وانتبهت وبيدي النصف الآخر.
وقال أبو الخير الأقطع: دخلت مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا بفاقة، فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا، فتقدمت إلى القبر، وسلمت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر، وقلت: أنا ضيفك يا رسول الله، وتنحّيت ونمت خلف القبر، فرأيت في المنام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلي بن أبي طالب بين يديه، فحركني عليّ وقال: قم، قد جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقمت إليه وقبلت بين عينيه، فدفع إليّ رغيفا، فأكلت نصفه، وانتبهت فإذا في يدي نصف رغيف.
وقال أبو عبد الله محمد بن أبي زرعة الصوفي: سافرت مع أبي ومع أبي عبد الله بن خفيف إلى مكة، فأصابتنا فاقة شديدة، فدخلنا مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وبتنا طاوين، وكنت دون البلوغ، فكنت أجئ إلى أبي غير دفعة وأقول: أنا جائع، فأتى أبي الحظيرة وقال: يا رسول الله أنا ضيفك الليلة، وجلس على المراقبة، فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة، فسئل عنه فقال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فوضع في يدي دراهم، وفتح يده، فإذا فيها دراهم، وبارك الله فيها إلى أن رجعنا إلى شيراز، وكنا ننفق منها.
وقال أحمد بن محمد الصوفي: تهت في البادية ثلاثة أشهر، فانسلخ جلدي، فدخلت المدينة، وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وعلى صاحبيه ثم نمت فرأيته صلى الله عليه وسلم في النوم(4/200)
فقال لي: يا أحمد، جئت؟ قلت: نعم، وأنا جائع وأنا في ضيافتك، قال: افتح كفيك، ففتحتهما فملأهما دراهم، فانتهت وهما مملوءتان، وقمت فاشتريت خبزا حواريا وفالوذجا، وأكلت، وقمت للوقت ودخلت البادية.
وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه بسنده إلى أبي القاسم ثابت بن أحمد البغدادي، قال: إنه رأى رجلا بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصبح عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيه:
الصلاة خير من النوم، فجاءه خادم من خدم المسجد فلطمه حين سمع ذلك، فبكى الرجل، وقال: يا رسول الله في حضرتك يفعل بي هذا الفعل؟ ففلج الخادم، وحمل إلى داره فمكث ثلاثة أيام ومات.
قلت: والواقعة التي نقلها ابن النعمان عن أبي بكر المقرئ رواها ابن الجوزي في كتابه الوفاء بإسناده إلى أبي بكر المقري، وبقية الوقائع المذكورة ذكرها غيره أيضا.
ومن ذلك ما ذكر ابن النعمان أنه سمعه ممن وقع له أو عنه بواسطة فقال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد يقول: كنت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ثلاثة من الفقراء فأصابتنا فاقة، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله ليس لنا شيء، ويكفينا ثلاثة أمداد من أي شيء كان، فتلقاني رجل فدفع إليّ ثلاثة أمداد من التمر الطيب.
وسمعت الشريف أبا محمد عبد السلام بن عبد الرحمن الحسيني الفاسي يقول:
أقمت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام لم أستطعم فيها، فأتيت عند منبره صلى الله عليه وسلم فركعت ركعتين وقلت: يا جدي جعت وأتمنى عليك ثردة، ثم غلبتني عيني فنمت، فبينا أنا نائم وإذا برجل يوقظني، فانتبهت فرأيت معه قدحا من خشب وفيه ثريد وسمن ولحم وأفاويه، فقال لي: كل، فقلت له: من أين هذا؟ فقال: إن صغاري لهم ثلاثة أيام يتمنون هذا الطعام، فلما كان اليوم فتح الله لي بشيء عملت به هذا، ثم نمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: إن أحد إخوانك تمنى على هذا الطعام فأطعمه منه.
وسمعت الشيخ أبا عبد الله محمد بن أبي الأمان يقول: كنت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم خلف محراب فاطمة رضي الله تعالى عنها، وكان الشريف مكثر القاسمي قائما خلف المحراب المذكور، فانتبه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعاد علينا متبسما، فقال له شمس الدين صواب خادم الضريح النبوي: فيم تبسمت؟ فقال: كانت بي فاقة، فخرجت من بيتي فأتيت بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها، فاستغثت بالنبي صلى الله عليه وسلم وقلت: إني جائع، فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني قدح لبن فشربت حتى رويت، وهذا هو فبصق اللبن من فيه في كفي، وشاهدناه من فيه.(4/201)
وسمعت عبد الله بن الحسن الدمياطي يقول: حكى لي الشيخ الصالح عبد القادر التنيسي بثغر دمياط قال: كنت أمشي على قاعدة الفقير، فدخلت إلى مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وشكوت له ضرري من الجوع، واشتهيت عليه الطعام من البر واللحم والتمر، وتقدمت بعد الزيارة للروضة فصليت فيها، وبت فيها، فإذا شخص يوقظني من النوم، فانتبهت ومضيت معه، وكان شابا جميلا خلقا وخلقا، فقدم إلى جفنة تريد وعليها شاة وأطباق من أنواع التمر صيحاني وغيره وخبزا كثيرا من جملته خبز أقراص سويق النبق، فأكلت فملأ لي جرابي لحما وخبزا وتمرا، وقال:
كنت نائما بعد صلاة الضحى فرأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام وأمرني أن أفعل لك هذا، ودلّني عليك، وعرفني مكانك بالروضة، وقال لي: إنك اشتهيت هذا وأردته.
وسمعت صديقي علي بن إبراهيم البوصيري يقول: سمعت عبد السلام بن أبي القاسم الصقلي يقول: حدثني رجل ثقة نسي اسمه، قال: كنت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لي شيء، فضعفت، فأتيت إلى الحجرة وقلت: يا سيد الأولين والآخرين، أنا رجل من أهل مصر ولي خمسة أشهر في جوارك، وقد ضعفت، فقلت: أسأل الله وأسألك يا رسول الله أن يسخر لي من يشبعني أو يخرجني، ثم دعوت عند الحجرة بدعوات، وجلست عند المنبر فإذا برجل قد دخل الحجرة فوقف يتكلم بكلام، ويقول: يا جداه يا جداه، ثم جاء إلي وقبض على يدي وقال لي: قم، فقمت وصحبته، فخرج بي من باب جبريل، وعدا إلى البقيع وخرج منه فإذا بخيمة مضروبة وجارية وعبد، فقال لهما: قوما فاصنعا لضيفكما عيشه فقام العبد وجمع الحطب وأوقد النار، وقامت الجارية وطحنت وصنعت ملة، وشاغلني بالحديث حتى أتت الجارية بالملة فقسمها نصفين وأتت الجارية بعكّة فيهما سمن فصبّ على الملة وأتت بتمر صيحاني فصنعها جيدا، وقال لي: كل، فأكلت شيئا قليلا، فصدرت، فقال لي: كل، فأكلت، ثم قال لي: كل، فقلت: يا سيدي لي أشهر لم آكل فيها حنطه، ولا أريد شيئا، فأخذ النصف الثاني وضم ما فضل مني من الملة وأتى بمزود وصاعين من تمر فوضعهما في المزود، وقال لي: ما اسمك؟ فقلت:
فلان، فقال: بالله عليك لا تعد تشكو إلى جدي فإنه يعز عليه ذلك، ومن الساعة متى جعت يأتيك رزقك حتى يسبب الله لك من يخرجك، وقال للغلام: خذه وأوصله إلى حجرة جدي، فغدوت مع الغلام إلى البقيع، فقلت له: ارجع قد وصلت، فقال: يا سيدي الله الأحد ما أقدر أفارقك حتى أوصلك إلى الحجرة لئلا يعلم النبي صلى الله(4/202)
تعالى عليه وسلم سيدي بذلك، فأوصلني إلى الحجرة، وودعني ورجع، فمكثت آكل من الذي أعطاني أربعة أيام، ثم جعت بعد ذلك، فإذا بالغلام قد أتاين بطعام، ثم لم أزل كذلك كلما جعت أتاني بطعام حتى سبب الله لي جماعة خرجت معهم إلى ينبع.
وروى ابن النعمان أيضا بسنده إلى أبي العباس بن نفيس المقرئ الضرير قال: جعت بالمدينة ثلاثة أيام، فجئت إلى القبر وقلت: يا رسول الله، جعت، ثم نمت ضعيفا، فركضتني جارية برجلها، فقمت إليها فقالت: أعزم، فقمت معها إلى دارها، فقدمت إلي خبز برّ وتمرا وسمنا وقالت: كل يا أبا العباس، قد أمرني بهذا جدي صلى الله عليه وسلم، ومتى جعت فأت إلينا.
قال أبو سليمان داود في مصنفه في الزيارة بعد روايته لذلك كله: إنه قد وقع في كثير مما ذكر وأمثاله أن الذي يأمره صلى الله عليه وسلم في ذلك إنما يكون من الذرية الشريفة، لا سيما إذا كان المتناول طعاما؛ لأن من تمام جميل أخلاق الكرام إذا سئلوا القرى البداءة بأنفسهم، ثم بمن يكون منهم، فاقتضى خلقه الكريم أن إعطاء سائل القرى يكون منه ومن ذريته الكريمة.
قلت: والحكايات في هذا الباب كثيرة، بل وقع لي شيء منها: أني كنت بالمسجد النبوي عند قدوم الحاج المصري للزيارة، وفي يدي مفتاح الخلوة التي فيها كتبي بالمسجد: فمر بي بعض علماء المصريين ممن كان يقرأ على بعض مشايخي، فسلمت عليه، فسألني أن أمشي معه إلى الروضة الشريفة وأقف معه بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ففعلت، ثم رجعت فلم أجد المفتاح، وتطلبته في الأماكن التي مشيت إليها فلم أجده، وشق علي ذهابه في ذلك الوقت الضيق مع حاجتي إليه، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: يا سيدي يا رسول الله، ذهب مفتاح الخلوة، وأنا محتاج إليه وأريده من بابك، ثم رجعت فرأيت شخصا قاصدا الخلوة، فظننته بعض من أعرفه، فمشيت إليه، فلم أجده إياه، ووجدت صغيرا لا أعرفه بقرب الخلوة بيده المفتاح، فقلت له: من أين لك هذا؟
فقال: وجدته عند الوجه الشريف، فأخذته منه.
ومن هذا النوع ما اتفق لي في سكناي تلك الخلوة في ابتداء الأمر وغير ذلك مما يطول ذكره.
وأنشدت مرة بين يديه صلى الله عليه وسلم في قضية أوذيت فيها قصيدة أولها:
يضام بحيكم يا عرب رامه ... نزيل أنتم صرتم مرامه
ويعدو من أعاديه عليه ... عداة صار قصدهم اهتضامه(4/203)
وأنتم عز من ينمي إليكم ... ومن أبوابكم حاز احترامه
وفي حرم بساحتسكم مقيم ... فلا يبغي العراق ولا شامه
وحبكم تحكم في حشاه ... وحبكم لذا أضحى غرامه
وليس له ملاذ أو نصير ... يجرد دون نصرته حسامه
سواكم آل غالب الموالي ... حماة الجار إن لحقته ضامه
ليوث الحرب إن مدت حراب ... غيوث المحل إن يخلب غمامه
بحقكم وذاك أجل حقّ ... له انتصروا فأنتم من تهامه
كرام مكرمون بخير رسل ... عظيم الجار موفيه ذمامه
وهي طويلة تزيد على ستين بيتا، ومنها:
له حرم به كرم مفاض ... لساكنه فقد حاز الكرامه
به قد صار عندكم نزيلا ... ويرجو نصركم فيما أضامه
جواركم عدت فيه الأعادي ... عليه إذ رأوا منه الإقامة
بحضرتكم فلا يبغي انتقالا ... ولكن قد أطال لها التزامه
وكادوه بما لم يخف عنكم ... ليقصوا عن عراصكم خيامه
فأنجز لي رسول الله نصري ... لتهنأ لي بذا الحرم الإقامه
ويكبت من عداتي شامتوهم ... وتعظم في قلوبهم الندامة
فقد أملت جاهك يا ملاذي ... لذا ولكل هول في القيامة
وحاشا أن تخيب لي رجاء ... وأنت الغوث من عرب برامه
كريم إن أضيم له نزيل ... فنصر الله يقدمه أمامه
ومن عاداته نصري وجبري ... وعادة مثله أبدا مدامه
فرأيت عقب ذلك مناما يؤذن بالنصر العظيم، ثم رأيته في اليقظة، ولله الحمد والمنة.
وقال الفقيه أبو محمد الإشبيلي في مؤلفه في فضل الحج: إنه نزل برجل من أهل غرناطة علة عجز عنها الأطباء وأيسوا من برتها، فكتب عنه الوزير أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال كتابا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله فيه الشفاء لدائه والبرء مما نزل به، وضمنه شعرا، وهو:
كتاب وقيذ من زمانة مستشف ... بقبر رسول الله أحمد يستشفي
لقد قدم قد قيّد الدهر خطوها ... فلم يستطع إلا الإشارة بالكف
ولما رأى الزوار يبتدرونه ... وقد عاقه عن ظعنه عائق الضعف(4/204)
بكى أسفا واستودع الركب إذ غدا ... تحية صدق تفعم الركب بالعرف
فيا خاتم الرسل الشفيع لربه ... دعاء مهيض خاشع القلب والطرف
عتيقك عبد الله ناداك ضارعا ... وقد أخلص النجوى وأيقن بالعطف
رجاك لضر أعجز الناس كشفه ... ليصدر داعيه بما جاء من كشف
لرجل رمى فيها الزمان فقصرت ... خطاه عن الصف المقدم في الزحف
وإني لأرجو أن تعود سوّية ... بقدرة من يحيي العظام ومن يشفي
فأنت الذي نرجو حيا وميتا ... لصرف خطوب لا تريم إلى صرف
عليك سلام الله عدة خلقه ... وما يقتضيه من مزيد ومن ضعف
قال: فما هو إلا أن وصل الركب إلى المدينة، وقرئ على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هذا الشعر، وبرأ الرجل في مكانه، فلما قدم الذي استودعه إياه وجده كأنه لم يصبه ضر قط.
الفصل الرابع في آداب الزيارة والمجاورة، وهي كثيرة
منها الآداب المتعلقة بسفرها، وهي كما في سائر الأسفار: من الاستخارة، وتجديد التوبة، والخروج من المظالم، واستحلال المعاملين، والتوصية، وإرضاء من يتوجه إرضاؤه، وإطابة النفقة، والتوسعة في الزاد على نفسه ورفيقه وجماله، وعدم المشاركة فيه، وتوديع الأهل والإخوان والتماس أدعيتهم، وتوديع المنزل بركعتين، ويقرأ بعد السلام آية الكرسي ولإيلاف قريش، ثم يدعو ويسأل الإعانة والتوفيق في سائر أموره، ويقول:
اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكابة المنظر وسوء المنقلب، اللهم اقبض لنا الأرض وهون علينا السفر، فإذا نهض من جلوسه قال: اللهم بك انتشرت، وإليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمني، وما أهتم له، وما أنت أعلم به مني، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير حيثما توجهت.
ويستحب أن يتصدق عند الخروج من منزله بشيء وإن قل، وأن يحرص على رفيق موافق، راغب في الخير، كاره للشر، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، إلى غير ذلك من آداب السفر.
ومنها: إخلاص النية، وخلوص الطوية، فإنما الأعمال بالنيات، فينوي التقرب إلى الله تعالى بزيارة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.(4/205)
ويستحب أن ينوي مع ذلك التقرب بالمسافرة إلى مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم، وشد الرحل إليه، والصلاة فيه، كما قاله أصحابنا منهم ابن الصلاح والنووي، قال ابن الصلاح: ولا يلزم من هذا خلل في زيارته على ما لا يخفى.
ونقل شيخ الحنفية الكمال بن الهمام من مشايخهم أنه ينوي مع زيارة القبر زيارة المسجد، ثم قال: إن الأولى عنده تجريد النية لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، ثم إن حصل له إذا قدم زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله في مرة أخرى ينويهما فيها؛ لأن ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله صلى الله تعالى عليه وسلم، وليوافق ظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تحمله حاجة إلا زيارتي» انتهى.
وفيه نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حث أيضا على قصد مسجده، ففي امتثاله تعظيمه أيضا.
وقوله «لا تحمله حاجة» أي لم يحث الشرع عليها، وقد لا يسمح له الزمان بزيارة المسجد، فليغتنم قصد ذلك مع الزيارة، بل ينوي أيضا الاعتكاف فيه ولو ساعة، وأن يعلّم فيه خيرا أو يتعلمه، وأن يذكر الله فيه ويذكر به.
ويستحب إكثار الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وختم القرآن إن تيسر، والصدقة على جيرانه صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما يستحب للزائر فعله؛ فينوي به التقرب أولا ليثاب على القصد، فنية المؤمن خير من عمله، وينوي اجتناب المعاصي والمكروهات حياء من الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم.
ومنها: أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة الحبيب الشفيع كل عام بالوصول إلى ذلك الجناب الرفيع؛ فالشوق إلى لقائه وطلب الوصول إلى فنائه من أظهر علامات الإيمان.
وأكثر وسائل الفوز يوم الفزع الأكبر بالأمن والأمان، وليزدد شوقا وصبابة وتوقا، وكلما ازداد دنوا ازداد غراما وحنوا.
ومنها: أن يقول إذا خرج من بيته: بسم الله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إليك خرجت وأنت أخرجتني، اللهم سلمني وسلم مني، وردّني سالما في ديني كما أخرجتني، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضلّ، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ، عزّ جارك وجل ثناؤك وتبارك اسمك ولا إله غيرك، وكذا يقول الدعاء المستحب لقاصد المسجد.
ومنها: الإكثار في المسير من الصلاة والتسليم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يستغرق أوقات فراغه في ذلك وغيره من القربات.
ومنها: أن يتتبع ما في طريقه من المساجد والآثار المنسوبة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فيحيّيها بالزيارة، ويتبرك بالصلاة فيها، وقد استقصيناها فيما سبق.(4/206)
ومنها: إذا دنا من حرم المدينة وشاهد أعلامها ورباها وآكامها فليستحضر وظائف الخضوع والخشوع مستبشرا بالهنا وبلوغ المنى، وإن كان على دابة حرّكها أو بعير أوضعه تباشرا بالمدينة، ولله در القائل:
قرب الديار يزيد شوق الواله ... لا سيما إن لاح نور جماله
أو بشّر الحادي بأن لاح النّقا ... وبدت على بعد رؤوس جباله
فهناك عيل الصّبر من ذي صبوة ... وبدا الذي يخفيه من أحواله
وليجتهد حينئذ في مزيد الصلاة والسلام، وترديد ذلك كلما دنا من الربا والأعلام.
ولا بأس بالترجّل والمشي عند رؤية ذلك المحلّ الشريف والقرب منه، كما يفعله بعضهم؛ لأن وفد عبد القيس لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا عن الرواحل، ولم ينكر عليهم، وتعظيمه بعد الوفاة كتعظيمه في الحياة.
وقال أبو سليمان داود المالكي في الانتصار: إن ذلك يتأكد فعله لمن أمكنه من الرجال، وإنه يستحب تواضعا لله تعالى وإجلالا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم.
وحكى عياض في الشفا أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائرا وقرب من بيوتها ترجّل باكيا منشدا:
ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبّا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا
ومنها: إذا بلغ حرم المدينة الشريفة فليقل بعد الصلاة والتسليم: اللهم هذا حرم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي حرمته على لسانه، ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلي ما هو في حرم البيت الحرام، فحرمني على النار، وآمنّي من عذابك يوم تبعث عبادك، وارزقني من بركاته ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك، ووفقني لحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات. ثم تشتغل بالصلاة والتسليم. وإن كان طريقه على ذي الحليفة فلا يجاوز المعرس حتى ينيخ به، وهو مستحب، كما قاله أبو بكر الخفاف في كتاب الأقسام والخصال والنووي وغيرهما.
وقال صاحب الطراز من المالكية: من آداب الزائر الغسل، ولباس أنظف الثياب.
وقال أبو عبد الله السامري الحنبلي في باب الزيارة من المستوعب: وإذا قدم مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم استحبّ له أن يغتسل لدخولها.
وقال في الإحياء: وليغتسل قبل الدخول من بئر الحرة، وليتطيب، وليلبس أحسن ثيابه.(4/207)
وقال الكرماني من الحنفية: فإن لم يغتسل خارج المدينة فليغتسل بعد دخولها.
وفي حديث قيس بن عاصم أنه لما قدم مع وفده أسرعوا هم بالدخول، وثبت هو حتى أزال مهنته وآثار سفره ولبس ثيابه، وجاء على تؤدة ووقار، ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فرضي له ذلك وأثنى عليه بقوله «إن فيك لخصلتين يحبهما الله:
الحلم، والأناة» .
وفي حديث المنذر بن ساوي التميمي أنه وفد من البحرين مع أناس، فذهبوا مع سلاحهم فسلموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووضع المنذر سلاحه ولبس ثيابا كانت معه ومسح لحيته بدهن، فأتى نبي الله صلى الله عليه وسلم الحديث.
ويتجنب ما يفعله بعض الجهلة، من التجرد عن المخيط تشبها بحال الإحرام.
ومنها: إذا شاهد القبة المنيفة، وشارف المدينة الشريفة، فيلزم الخشوع والخضوع مستحضرا عظمتها، وأنها البقعة التي اختارها الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وحبيبه وصفيه، ويمثل في نفسه مواقع أقدام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ترداده فيها، وأنه ما من موضع يطؤه إلا وهو موضع قدمه العزيزة، فلا يضع قدمه عليه إلا مع الهيبة والسكينة، متصوّرا خشوعه صلى الله تعالى عليه وسلم وسكينته في المشي وتعظيم الله عز وجل له حتى قرن ذكره بذكره وأحبط عمل من انتهك شيئا من حرمته، ولو برفع صوته فوق صوته، ويتأسف على فوت رؤيته في الدنيا، وأنه من رؤيته في الآخرة على خطر لسوء صنعه وقبح فعله، ثم يستغفر لذنوبه، ويلتزم سلوك سبيله، ليفوز بالإقبال عند اللقاء ويحظى بتحية المقبول من ذوي البقاء.
ومنها: أن لا يخل بشيء مما أمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب عند انتهاك حرمة من حرمه أو تضييع شيء من حقوقه صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن من علامات المحبة غيرة المحبّ لمحبوبه، وأقوى الناس ديانة أعظمهم غيرة، وإذا خلا القلب من الغيرة فهو من المحبة أخلى، وإن زعم المحبة فهو كاذب.
ومنها: أن يقول عند دخوله من باب البلد: بسم الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، حسبي الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.(4/208)
وليحرص على ذلك كلما قصد المسجد؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعا أن من قال ذلك في مسيره إلى المسجد وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، ويقبل الله عليه بوجهه. ثم ليقو في قلبه شرف المدينة وأنها حوت أفضل بقاع الأرض بالإجماع، وأن بعض العلماء قال: إن المدينة أفضل أمكنة الدنيا.
أرض مشى جبريل في عرصاتها ... والله شرّف أرضها وسماءها
ومنها: أن يقدم صدقة بين يدي نجواه، ويبدأ بالمسجد الشريف قبل أن يقدم على أمر من الأمور، أو شيء هو إلى مباشرته في ذلك الوقت غير مضطر أو مضرور؛ فإذا شاهد المسجد النبوي والحرم الشريف المحمدي فليستحضر أنه آت مهبط أبي الفتوح جبريل، ومنزل أبي الغنائم ميكائيل، والموضع الذي خصه الله بالوحي والتنزيل، فليزدد خضوعا وخشوعا يليق بهذا المقام، ويقتضيه هذا المحلّ الذي ترتعد دونه الأقدام، ويجتهد في أن يوفى للمقام حقه من التعظيم والقيام.
ومنها: ما قاله القاضي فضل الدين بن النصير الغوري من أن دخول الزائر من باب جبريل أفضل أيضا، أي لما سبق فيه عند ذكر الأبواب، وجرت عادة القادمين من ناحية باب السلام بالدخول منه، فإذا أراد الدخول فليفرغ قلبه، وليصف ضميره، ويقدم رجله اليمنى، ويقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبنوره القديم، من الشيطان الرجيم، بسم الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، رب وفّقني وسددني وأصلحني وأعنّي على ما يرضيك عني، ومنّ عليّ بحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ولا يترك ذلك كلما دخل المسجد أو خرج منه، إلا أنه يقول عند خروجه: وافتح لي أبواب فضلك، بدل قوله «أبواب رحمتك» .
ومنها: إذا صار في المسجد فلينو الاعتكاف مدة لبثه به وإن قلّ على مذهب الشافعي؛ ليحوز ما فيه من الفضل، ثم ليتوجه إلى الروضة المقدسة، وإن دخل من باب جبريل فليقصدها من خلف الحجرة الشريفة مع ملازمة الهيبة والوقار، وملابسة الخشية والانكسار، والخضوع والافتقار، ثم ليقف في مصلّى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن كان خاليا، وإلا ففيما يلي المنبر من الروضة وإلا ففي غيرهما، فيصلي تحية المسجد ركعتين خفيفتين، قال الكرماني: يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وفي(4/209)
الثانية الإخلاص، فإن أقيمت مكتوبة أو خاف فوتها بدأ بها، وحصلت التحية بها، فإذا فرغ حمد الله، وأثنى عليه على ما منحه من هذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة.
قال الكرماني وصاحب الاختيار من الحنفية: إنه يسجد بعد الركعتين شكرا لله تعالى، ويبتهل إليه في أن يتمم له ما قصد من الزيارة مع القبول، وأن يهب له من مهمات الدارين نهاية السّول.
ونقل الزين المراغي عن بعض مشايخه أن محل تقديم التحية على الزيارة إذا لم يكن مروره قبالة الوجه الشريف، فإن كان ذلك استحبت الزيارة أولا، مع أن بعض المالكية رخّص في تقديم الزيارة على الصلاة، وقال: كل ذلك واسع.
والحجة في استحباب تقديم التحية ما نقله البرهان ابن فرحون عن ابن حبيب أنه قال في كتاب الصلاة: حدثني مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسلم عليه وهو بفناء المسجد، فقال: أدخلت المسجد فصليت فيه؟ قلت: لا، قال: فاذهب فادخل المسجد وصل فيه ثم ائت فسلم علي.
وقال اللخمي في التبصرة في باب من جاء مكة ليلا: ويبتدئ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بتحية المسجد قبل أن يأتي القبر ويسلم، هذا قول مالك. وقال ابن حبيب: يقول إذا دخل: بسم الله، والسلام على رسول الله، يريد أن يبتدئ بالسلام من موضعه، ثم يركع، ولو كان دخوله من الباب الذي بناحية القبر ومروره عليه فوقف فسلم ثم عاد إلى موضع يصلي فيه لم يكن ضيقا، انتهى.
قلت: وليس في كلام ابن حبيب مخالفة لما ذكره مالك؛ إذ مراده أن الداخل من باب المسجد يستحب له الصلاة عليه؛ لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وليصل، وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم» ولأن ابن حبيب ذكر بعد ذلك صلاة التحية، ثم الوقوف بالقبر، والسلام، والله تعالى أعلم.
ومنها: أن يتوجه بعد ذلك إلى القبر الكريم، مستعينا بالله تعالى في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم، فيقف بخشوع وخضوع تامين تجاه مسمار الفضة الذي بجدار الحجرة المتقدم بيانه في محله لجعله في موضع محاذاة الوجه الشريف، وربما منع باب المقصورة التي حول الحجرة الشريفة الواقف للزيارة خارجها من مشاهدة ذلك المسمار إلا بتأمل يشغل القلب ويذهب الخشوع فليقصد المصرعة الثانية من باب المقصورة القبلي(4/210)
الذي على يمين مستقبل القبر الشريف، فإذا استقبلها كان محاذيا له، والزيارة من داخل المقصورة أولى؛ لأنه موقف السلف.
والمنقول أن الزائر يقف على نحو أربعة أذرع من رأس القبر، وقال ابن عبد السلام:
على نحو ثلاثة أذرع، وعلى كل حال فذلك من داخل المقصورة بلا شك. وقال ابن حبيب في الواضحة: واقصد القبر الشريف من وجاه القبلة وادن منه. وقال في الإحياء بعد بيان موقف الزائر بنحو ما قدمناه: فينبغي أن تقف بين يديه كما وصفنا، وتزوره ميتا كما كنت تزوره حيا، ولا تقرب من قبره إلا ما كنت تقرب من شخصه الكريم لو كان حيا، اه.
ولينظر الزائر في حال وقوفه إلى أسفل ما يتقبل من جدار الحجرة الشريفة، ملتزما للحياء والأدب التام في ظاهره وباطنه، قال الكرماني من الحنفية: ويضع يمينه على شماله كما في الصلاة.
وقال في الإحياء: واعلم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بحضورك وقيامك وزيارتك، وأنه يبلغه سلامك وصلاتك، فمثل صورته الكريمة في خيالك، وأخطر عظيم رتبته في قلبك؛ فقد روى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله تعالى وكّل بقبره ملكا يبلغه السلام ممن يسلم عليه من أمته، هذا في حق من لم يحضر قبره، فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقا إليه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة غرته الكريمة؟ انتهى.
ثم يسلم الزائر، ولا يرفع صوته ولا يخفيه، بل يقتصد فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وأصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله الصالحين، جزالك الله عنا يا رسول الله أفضل ما جزى به نبيا ورسولا عن أمته، وصلّى عليك كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون أفضل وأكمل ما صلي على أحد من الخلق أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمّة، وجاهدت في الله حق جهاده، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون، اللهم صلّ على سيدنا محمد نبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم(4/211)
وعلى آل إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
ومن عجز عن حفظ هذا أو ضاق الوقت عنه اقتصر على بعضه كما قاله النووي، قال: وأقله السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وغيره من السلف الاقتصار جدا، وعن مالك «يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» .
ونقل البرهان ابن فرحون عن أبي سعيد الهندي من المالكية قال فيمن وقف بالقبر:
ولا يقف عنده طويلا، ثم ذكر سلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ثم قال: وهذه طريقة ابن عمر، وتبعه مالك في ترك تطويل القيام، واختار بعضهم التطويل في السلام، وعليه الأكثرون.
وقال ابن حبيب فيما نقل عياض: ثم تقف بالقبر متواضعا متوافرا، فتصلي عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وتثني بما يحضرك، قال ابن فرحون: وقال ابن حبيب: يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك وسلم يا رسول الله أفضل وأزكى وأعلى وأنمى صلاة صلاها على أحد من أنبيائه وأصفيائه أشهد يا رسول الله أنك قد بلغت ما أرسلت به، ونصحت الأمة، وعبدت ربك حتى أتاك اليقين، وكنت كما نعتك الله في كتابه حيث قال لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] فصلوات الله وملائكته وجميع خلقه في سمواته وأرضه عليك يا رسول الله، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يا أبا بكر ويا عمر، جزاكما الله عن الإسلام وأهله أفضل ما جزى وزيري نبي على وزارته في حياته وعلى حسن خلافته إياه في أمته بعد وفاته؛ فقد كنتما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزيري صدق في حياته، وخلفتماه بالعدل والإحسان في أمته بعد وفاته، فجزاكما الله على ذلك مرافقته في جنته وإيانا معكم برحمته، انتهى.
وذكر المطري والمجد تسليما يشتمل على أوصاف كثيرة، وأوصافه صلى الله تعالى عليه وسلم غير منحصرة، وهي شهيرة، والحال يضيق عن الاستقصاء؛ فلذلك اقتصرنا على ما قدمناه.
وقال النووي عقب ما تقدم عنه: ثم إن كان قد أوصاه أحد بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان، أو فلان بن فلان يسلم عليك يا رسول الله، ونحوه من العبارات، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيصير تجاه أبي بكر(4/212)
رضي الله تعالى عنه فيقول: السلام عليك يا أبا بكر صفيّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وثانيه في الغار، ورفيقه في الأسفار، جزالك الله عن أمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خير الجزاء، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيقول: السلام عليك يا عمر الفاروق، الذي أعز الله به الإسلام، جزاك الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.
هذا ما ذكره النووي وغيره من أصحابنا وغيرهم. ولعل ابن حبيب- حيث ذكر التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ضجيعيه جملة يرى اصطفاف القبور سواء كما هو إحدى الروايات المتقدمة.
قال النووي وغيره: ثم يرجع الزائر إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيتوسل به في حق نفسه، ويستشفع إلى ربه سبحانه وتعالى. قال: ومن أحسن ما يقول ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له، وسبق له ذكر في الفصل الثاني.
قلت: وليجدد التوبة في ذلك الموقف، ويسأل الله تعالى أن يجعلها توبة نصوحا، ويستشفع به صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ربه في قبولها، ويكثر الاستغفار والتضرع بعد تلاوة قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إلى قوله رَحِيماً [النساء: 64] مع ما سبق في حكاية العتبي، ويقول: نحن وفدك يا رسول الله وزوّارك، جئناك لقضاء حقك، والتبرك بزيارتك، والاستشفاع بك إلى ربك تعالى، فإن الخطايا قد أثقلت ظهورنا، وأنت الشافع المشفع الموعود بالشفاعة العظمى والمقام المحمود، وقد جئناك ظالمين لأنفسنا، مستغفرين لذنوبنا، سائلين منك أن تستغفر لنا إلى ربك، فأنت نبينا وشفيعنا فاشفع لنا إلى ربك، واسأله أن يميتنا على سنتك ومحبتك، ويحشرنا في زمرتك، وأن يوردنا حوضك غير خزايا ولا نادمين.
وروى يحيى الحسيني وغيره عن ابن أبي فديك قال: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] صلى الله تعالى على محمد وسلم، وفي رواية: صلى الله عليك يا محمد، يقولها سبعين مرة، ناداه ملك، صلى الله عليك يا فلان، لم تسقط لك اليوم حاجة.
قلت: فينبغي تقديم ذلك على الدعاء والتوسل، قال بعضهم: لكن الأولى أن يقول:
صلى الله وسلم عليك يا رسول الله، وإن كانت الرواية «يا محمد» تأدبا؛ أي لأن من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا ينادى باسمه، بل يقال: يا رسول الله، يا نبي الله، ونحوه، والذي يظهر أن هذا في نداء لا يقترن به الصلاة والسلام.(4/213)
قال المجد: وروينا عن الأصمعي قال: وقف أعرابي مقابل قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: اللهم إن هذا حبيبك وأنا عبدك والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سرّ حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك، وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك، اللهم إن العرب الكرام إذا مات فيهم سيد أعتقوا على قبره، وإن هذا سيد العالمين فأعتقني على قبره، قال الصمعي فقلت: يا أخا العرب إن الله قد غفر لك وأعتقك بحسن هذا السؤال.
قال المجد: ويجلس إن طال القيام به، فيكثر من الصلاة والتسليم.
ونقل في شرح المهذب عن كتاب آداب زيارة القبور لأبي موسى الأصفهاني أن الزائر بالخيار، إن شاء زار قائما، وإن شاء قعد كما يزور الرجل أخاه في الحياة، فربما جلس عنده وربما زار قائما ومارا، انتهى.
قال المجد: ويأتي بأتم أنواع الصلاة وأكمل كيفياتها، والاختلاف في ذلك مشهور، قال: والذي اختاره لنفسي: اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه، الصلاة المأثورة، أي التي أخبر بها السائل عن كيفية الصلاة عليه: عدد ما خلقت وعدد ما أنت خالق، وزنة ما خلقت وزنة ما أنت خالق، وملء ما خلقت وملء ما أنت خالق، وملء سمواتك وملء أرضك، ومثل ذلك، وأضعاف ذلك، وعدد خلقك، وزنة عرشك، ومنتهى رحمتك، ومداد كلماتك، ومبلغ رضاك، وحتى ترضى، وعدد ما ذكرك به خلقك في جميع ما مضى، وعدد ما هم ذاكروك فيما بقي في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات ونسم ونفس ولمحة وطرفة من الأبد إلى الأبد أبد الدنيا والآخرة وأكثر من ذلك، لا ينقطع أوله ولا ينفد آخره، ثم يقول ذلك مرة أو ثلاث مرات، ثم يقول: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كذلك، ثم يتلو بين يدي سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما تيسر من القرآن المجيد، ويقصد الآي والسور الجامعة لصفات الإيمان ولمعاني التوحيد، انتهى.
وقال النووي عقب ما تقدم عنه: ثم يتقدم يعني بعد فراغ الدعاء والتوسل قبالة الوجه الشريف إلى رأس القبر، فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويمجده، ويدعو لنفسه بما أهمه وما أحبه، ولوالديه، ولمن شاء من أقاربه وأشياخه وإخوانه وسائر المسلمين. وفي كتب الحنفية وغيرهم نحو هذا.
وقال العز بن جماعة: وما ذكروه من العود إلى قبالة الوجه الشريف ومن التقدم إلى رأس القبر المقدس للدعاء عقب الزيارة لم ينقل عن فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين رحمهم الله تعالى.(4/214)
قلت: أما الدعاء والتوسل هناك فله أصل عنهم، والذي لم ينقل إنما هو هذا الترتيب المخصوص والظاهر أن المراد بذلك تأخير الدعاء عن السلام على الشيخين والجمع بين موقفي السلف: الأول الذي كان قبل إدخال الحجر، والثاني الذي كان بعده، وهو حسن، بل سبق أوائل سادس فصول الباب الخامس من رواية ابن شبة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين فرغ من دفن ابنه إبراهيم قال عند رأسه: السلام عليكم، وهو ظاهر في السلام من جهة الرأس.
ومنها: أن يأتي المنبر الشريف، ويقف عنده، ويدعو الله تعالى، ويحمده على ما يسّر له، ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويسأل الله سبحانه وتعالى من الخير أجمع، ويستعيذ به، كما قاله ابن عساكر، زاد الأقشهري عقبه: كما كانت الصحابة تفعل. يشير إلى ما رواه عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد يأخذون برمانة المنبر الصلعاء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسكها بيده، ثم يستقبلون القبلة ويدعون.
وفي الشفاء لعياض عن أبي قسيط والعتبي رحمهما الله: كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم إذا خلا المسجد حبسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون.
وقال النووي عقب ما تقدم عنه: ثم يأتي الروضة فيكثر فيها من الدعاء والصلاة، ويقف عند القبر ويدعو.
قلت: ويقف أيضا ويدعو عند أسطوان المهاجرين، ويتبرك بالصلاة عندها وكذا أسطوان أبي لبابة، وأسطوان المحرس، وأسطوان الوفود، وأسطوان التهجد بعد أن يسلم على فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها عند المحراب الذي في بيتها داخل المقصورة؛ للقول بدفنها هناك كما سبق.
ومنها: أن يجتنب لمس الجدار، وتقبيله، والطواف به، والصلاة إليه، قال النووي:
لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله تعالى عليه وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر، قاله الحليمي وغيره، قال: ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، انتهى.
وفي الإحياء: مسّ المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود، وقال الأقشهري: قال الزعفراني في كتابه: وضع اليد على القبر ومسّه وتقبيله من البدع التي تنكر شرعا.(4/215)
وروي أن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه رأى رجلا وضع يده على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فنهاه، وقال: ما كنا نعرف هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنكره مالك والشافعي وأحمد أشدّ الإنكار.
وقال بعض العلماء: إنه إن قصد بوضع اليد مصافحة الميت يرجى أن لا يكون به حرج، ومتابعة الجمهور أحق، انتهى.
وفي تحفة ابن عساكر: ليس من السنة أن يمس جدار القبر المقدس، ولا أن يقبّله، ولا يطوف به كما يفعله الجهال، بل يكره ذلك، ولا يجوز، والوقوف من بعد أقرب إلى الاحترام، ثم روى من طريق أبي نعيم قال: أنبأنا عبد الله بن جعفر بن فارس حدثنا أبو جعفر محمد بن عاصم حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله بن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يكره أن يكثر مس قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
قال البرهان بن فرحون بعد ذكره: وهذا تقييد لما تقدم، وهو عن ابن عمر في القبر نفسه، فالجدر الظاهرة أخف، إذا لم يكثر منه، قال: وهو دال على قرب موقف الزائر، ويفسر معنى الدنو الذي عبر به مالك، انتهى.
وقال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل- قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ قال: لا أعرف هذا، قلت: فالمنبر، قال: أما المنبر فنعم، قد جاء فيه شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه مسح المنبر، ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة، أي رمانة المنبر قبل احتراقه.
ويروى عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسن ذلك، قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر، وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه، ويقومون ناحيته، ويسلمون، فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذلك، نقله ابن عبد الهادي عن تأليف ابن تيمية.
وقال العز بن جماعة بعد ذكر ما سبق عن النووي: وقال السروجي الحنفي: لا يلصق بطنه بالجدار، ولا يمسه بيده، وقال عياض في الشفاء: ومن كتاب أحمد بن سعيد الهندي فيمن وقف بالقبر: لا يلصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا، وقال ابن قدامة من الحنابلة في المغني: ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يقبله، قال أحمد: ما أعرف هذا، قال الأثرم: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا(4/216)
يمسون قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل يقومون من ناحيته فيسلمون، قال أبو عبد الله: وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذلك، انتهى. قال العز: في كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه رواية أبي علي بن الصوف عنه، قال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبرك بمسه، ويقبله، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى، قال: لا بأس به، قال العز بن جماعة: وهذا يبطل ما نقل عن النووي من الإجماع.
قلت: النووي لم يصرح بنقل الإجماع، لكن قوة كلامه تفهمه.
وقال السبكي في الرد على ابن تيمية في مسألة الزيارة: إن عدم التمسّح بالقبر ليس مما قام الإجماع عليه؛ فقد روى أبو الحسين يحيى بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله الحسيني في أخبار المدينة قال: حدثني عمر بن خالد حدثنا أبو نباتة عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: أقبل مروان بن الحكم. فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فقال: نعم، إني لم آت الحجر، ولم آت اللّبن، إنما جئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله، قال المطلب: وذلك الرجل أبو أيوب الأنصاري. قال السبكي: وأبو نباتة يونس بن يحية، ومن فوقه ثقات، وعمر بن خالد لم أعرفه، فإن صح هذا الإسناد لم يكره مس جدار القبر، وإنما أردنا بذكره القدح في القطع بكراهة ذلك، انتهى.
قلت: سبق في الفصل قبله أن أحمد رواه بأتم من ذلك عن عبد الملك بن عمرو وهو ثقة عن كثير بن زيد، وقد حكم السبكي بتوثيقه، فإنه الذي فوق أبى نباتة في إسناد يحيى، وقد وثقه جماعة، لكن ضعفه النسائي كما سبق.
وتقدم أيضا أن بلالا رضي الله تعالى عنه لما قدم من الشام لزيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أتى القبر، فجعل يبكي عنده، ويمرغ وجهه عليه، وإسناده جيد كما سبق.
وفي تحفة ابن عساكر من طريق طاهر بن يحيى الحسيني قال: حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لما رمس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها، فوقفت على قبره صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينيها وبكت، وأنشأت تقول:(4/217)
ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا
صبّت عليّ مصائب لو أنها ... صبّت على الأيام عدن لياليا
ذكر الخطيب بن حملة أنّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف، وأن بلالا رضي الله تعالى عنه وضع خديه عليه أيضا، ثم قال: ورأيت في كتاب السؤالات لعبد الله بن الإمام أحمد، وذكر ما تقدم عن ابن جماعة نقله عنه، ثم قال: ولا شك أن الاستغراق في المحبة يحمل على الإذن في ذلك، والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم، والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته، فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرون إليه، وأناس فيهم أنة يتأخرون، والكل محل خير، انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فسبق في الأدب، وأما غيره فنقل عن أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقبره، فلم ير به بأسا، واستبعد بعض أتباعه صحته عنه. ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين.
ونقل الطيب الناشري عن المحب الطبري أنه يجوز تقبيل القبر ومسه؟ قال: وعليه عمل العلماء الصالحين، وأنشد:
لو رأينا لسليمى أثرا ... لسجدنا ألف ألف للأثر
وقال آخر:
أمرّ على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
ونقل بعضهم عن أبي خيثمة قال: حدثنا مصعب بن عبد الله حدثنا إسماعيل بن يعقوب التيمي قال: كان ابن المنكدر يجلس مع أصحابه، قال: وكان يصيبه الصمات، فكان يقوم كما هو يضع خده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنه يصيا بني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يأتي موضعا من المسجد في الصحن فيتمرغ فيه ويضطجع، فقبل له في ذلك، فقال: إني رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الموضع، أراه قال «في النوم» انتهى.
ومنها: اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم، قال ابن جماعة: قال بعض العلماء: إنه من البدع، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر، لم(4/218)
يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعه، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، قال: وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف، واستشهد لذلك بالشعر، انتهى.
قلت: وقد شاهدت بعض جهال القضاة فعل ذلك بحضرة الملأ، وزاد عليه وضع الجبهة كهيئة الساجد، فتبعه العوام، ولا قوة إلا بالله.
ومنها: أن لا يمر بقبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقف ويسلم عليه، سواء مر من داخل المسجد أو من خارجه، ويكثر من قصده وزيارته.
روى الأقشهري بسنده لابن أبي الدنيا قال: حدثني الحسين بن عبد العزيز قال:
حدثنا الحارث بن سليمان قال: أنبأنا ابن وهب قال: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد أن أبا حازم حدثه أن رجلا أتاه فحدثه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي حازم: أنت المارّ بي معرضا لا تقف تسلم عليّ؟ فلم يدع ذلك أبو حازم منذ بلغته هذه الرؤيا.
وفي كتاب الجامع من البيان لابن رشد شرح العتبية، ما لفظه: وسئل- يعني مالكا عن المار بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أترى أن يسلم كلما مر؟ قال: نعم، أرى ذلك، عليه أن يسلم كلما مر به، وقد أكثر الناس من ذلك، فإذا لم يمر به فلا أرى ذلك، وذكر حديث «اللهم لا تجعل قبري وثنا» الحديث.
قال: فقد أكثر الناس من هذا، فإذا لم يمر عليه فهو في سعة من ذلك، قال: وسئل عن الغريب يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم، فقال: ما هذا من الأمر، ولكن إذا أراد الخروج، قال ابن رشد: المعنى في ذلك أنه يلزمه أن يسلم عليه كلما مر به متى ما مر، وليس عليه أن يأتي ليسلم عليه إلا للوداع عند الخروج، ويكره أن يكثر المرور به، والسلام عليه، والإتيان كل يوم إليه؛ لئلا يجعل القبر بفعله ذلك كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه، وقد نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك بقوله «اللهم لا تجعل قبري وثنا» الحديث.
وقال عياض في الشفاء: قال مالك في كتاب محمد: ويسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل وخرج، يعني في المدينة، وفيما بين ذلك، وقال مالك في المبسوط: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء، وقال فيه أيضا: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فيصلي عليه، ويدعو له ولأبي بكر وعمر رضي الله(4/219)
تعالى عنهما، فقيل له: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه ويفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو المرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
قال الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم.
قال السبكي: والمتلخّص من مذهب مالك أن الزيارة قربة، ولكنه على عادته في سد الذرائع يكره منها الإكثار الذي قد يفضي إلى محذور، والمذاهب الثلاثة يقولون باستحبابها واستحباب الإكثار منها؛ لأن الإكثار من الخير خير.
وقال النووي في زيارة القبور من الأذكار: ويستحب الإكثار من الزيارة، وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل. وسبق في الفصل العشرين من الباب الرابع قول عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في خبر هدم جدار الحجرة: كنت أخرج كل ليلة من آخر الليل حتى آتي المسجد فأبدأ بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم عليه، ثم آتي مصلاي فأجلس به حتى أصلي الصبح.
وروى ابن زبالة عن عبد العزيز ببن محمد قال: رأيت رجلا من أهل المدينة يقال له محمد بن كيسان يأتي إذا صلّى العصر من يوم الجمعة- ونحن جلوس مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن فيقوم عند القبر فيسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ويدعو حتى يمسي، فيقول جلساء ربيعة: انظروا إلى ما يصنع هذا؟ فيقول: دعوه فإنما للمرء ما نوى.
وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال ابن عجلان لبعض الأمراء: إنك تطيل ثيابك، وتطيل الخطبة، وتكثر المجئ إلى قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلو كان فيه العجلان ما أتيته.
ومنها: إكثار الصلاة والتسليم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإيثار ذلك على سائر الأذكار، ما دام هناك.
ومنها: اغتنام ما أمكن من الصيام ولو يسيرا من الأيام.
ومنها: الحرص على فعل الصلوات الخمس بالمسجد النبوي في الجماعة، والإكثار من النافلة فيه، مع تحري المسجد الذي كان في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم، إلا أن يكون الصفّ الأول خارجه فهو أولى، وإن أمكنه ملازمة المسجد، وأن لا يفارقه إلا(4/220)
لضرورة، أو مصلحة راجحة، فليغتنم ذلك، وكلما دخله فليجدد نية الاعتكاف، ولله در القائل:
تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصّل ما استطعت من ادخار
قال ابن عساكر: وليحرص على المبيت في المسجد ولو ليلة يحييها بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن والتضرّع إلى الله تعالى والحمد والشكر على ما أعطاه، وعلى أن يختم القرآن العزيز في المسجد لأثر فيه، اه.
وقال أبو مخلد: كانوا يحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم فيها القرآن قبل أن يخرج: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس، وأخرجه سعيد بن منصور.
ومنها: أن لا يستدبر القبر المقدس في صلاة ولا في غيرها من الأحوال، ويلتزم الآداب شريعة وحقيقة في الأقوال والأفعال.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: وإذا أردت صلاة فلا تجعل حجرته صلى الله تعالى عليه وسلم وراء ظهرك، ولا بين يديك، قال: والأدب معه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته مثله في حياته، فما كنت صانعه في حياته فاصنعه بعد وفاته: من احترامه، والإطراق بين يديه، وترك الخصام، وترك الخوض فيما لا ينبغي أن يخوض فيه في مجلسه، فإن أبيت فانصرافك خير من بقائك.
ومنها: أن يجتنب ما يفعله جهلة العوام من التقرب بأكل التمر الصيحاني في المسجد وإلقاء النوى به.
قال النووي وغيره: من جهالات العمة وبدعتهم تقر بهم بأكل التمر الصيحاني في الروضة الكريمة، وقطعهم شعورهم، ورميها في القنديل الكبير، وهذا من المنكرات المستشنعة.
ومنها: إدامة النظر إلى الحجرة الشريفة؛ فإنه عبادة قياسا على الكعبة المعظمة كما قاله المجد، قال: فينبغي لمن كان بالمدينة إدامة ذلك إذا كان في المسجد: وإدامة النظر إلى القبة الشريفة إذا كان خارجا مع المهابة والحضور.
ومنها: ما قاله النووي أنه يستحب الخروج كل يوم إلى البقيع، ويكون ذلك بعد السلام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا انتهى إلى البقيع قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، هذا محصل ما(4/221)
ورد، زاد القاضي حسين: اللهم رب هذه الأجساد البالية والعظام النّخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليها روحا منك وسلاما مني، اللهم برد مضاجعهم عليهم واغفر لهم. ثم يزور قبور السّلف الظاهرة بالبقيع، كقبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعثمان والعباس والحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وغيرهم، رضي تعالى عنهم، ويختم بصفية عمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، انتهى.
وقال العلامة فضل الدين بن القاضي نصير الدين الغوري: وإذا أراد زيارة البقيع يخرج من باب البلد، ويأتي قبة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم، وذكر بعده إتيان بقية القبور، ثم قال: ثم يختم زيارة البقيع بالسلام على صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
فاقتضى سياقه البداءة بسيدنا العباس ومن عنده من الحسن وغيره رضي الله تعالى عنهم، ولعله لكون مشهدهم أول المشاهد التي يلقاها الخارج من البلد، فإنه يكون على يمينه، فمجاوزتهم من غير سلام عليهم جفوة، فإذا سلك تلك الطريق سلم على من يمر به بعدهم، فيكون مروره على صفية رضي الله تعالى عنها في رجوعه فيختم بها.
وقال البرهان بن فرحون: أول المشاهد وأولاها بالتقديم مشهد سيدنا أمير المؤمنين عثمان بن عفان؛ لأنه أفضل الناس بعد أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم، قال:
واختار بعضهم البداءة بقبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
فتلخّص فيمن يبدأ به ثلاثة آراء، وسبق أن مشهد سيدنا إسماعيل بن جعفر الصادق غربي مشهد العباس، إلا أنه صار داخل سور المدينة، ومشاهد البقيع كلها خارج السور، فليختم الزائر به إذا رجع، ويذهب إلى زيارة مشهد سيدنا مالك بن سنان ومشهد النفس الزكية فإنهما ليسا بالبقيع كما سبق.
ومنها: أنه يستحب أن يأتي قبور الشهداء بأحد، قال النووي وغيره: وأفضلها يوم الخميس.
قلت: ولم يظهر لي وجه تخصيصه، ثم رأيت الغزالي في الإحياء في زيارة القبور قال: كان محمد بن واسع يزور يوم الجمعة، فقيل له: لو أخرت إلى يوم الإثنين، فقال:
بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبله ويوما بعده، انتهى. فلما كان المطلوب في يوم الجمعة التبكير للجمعة وقبور الشهداء بعيدة، والمطلوب في يوم السبت الذهاب لمسجد قباء كما سيأتي، فاختص الخميس بذلك، ويبدأ بحمزة عم رسول الله(4/222)
صلى الله تعالى عليه وسلم، ويبكر بعد صلاة الصبح في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى يعود ويدرك جماعة الظهر فيه، قال الكمال بن الهمام محقق الحنفية: ويزور جبل أحد نفسه؛ ففي الصحيح «أحد جبل يحبنا ونحبه» .
ومنها: أنه يستحب استحبابا متأكدا كما قال النووي- أن يأتي مسجد قباء، وفي يوم السبت أولى، ناويا التقرب بزيارته والصلاة فيه، وإذا قصد إتيانه توضأ وذهب، ولا يؤخر الوضوء حتى يصل إليه.
ومنها: أن يأتي بقية المساجد والآثار المنسوبة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة مما علمت عينه أو جهته، وكذا الآبار التي شرب منها صلى الله تعالى عليه وسلم أو توضأ أو اغتسل، فيتبرك بمائها، صرح جماعة من الشافعية وغيرهم باستحباب ذلك كله، وقد كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يتحرّى الصلاة والنزول والمرور حيث حل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونزل وغير ذلك.
ومأخذ ما نقل عن مالك مما يخالف هذا سدّا للذريعة، تبعا لعمر رضي الله تعالى عنهما، ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن المعرور بن سويد أنه خرج مع عمر رضي الله تعالى عنه في حجة حجها، فلما رجع من حجّته رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار الأنبياء بيعا، من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل، ومن لم تعرض له فليمض.
وقال عياض في الشفاء: ومن إعظامه صلى الله تعالى عليه وسلم وإكباره إعظام جميع أشيائه، وإكرام جميع مشاهده وأمكنته ومعاهده، وما لمسه صلى الله تعالى عليه وسلم بيده أو عرف به، انتهى.
قلت: ذلك بزيارة تلك المشاهد والتبرك بها، ولله در القائل:
خليليّ هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما، ثم انزلا حيث حلّت
ومسّا ترابا طال ما مسّ جلدها ... وظلّا وبيتا حيث باتت وظلّت
ولا تيأسا أن يمحو الله عنكما ... ذنوبا إذا صلّيتما حيث صلّت
وذكر خليل المالكي في منسكه استحباب زيارة البقيع، ومسجد قباء، وغير ذلك، ثم قال: وهذا إنما يكون فيمن كثرت إقامته بالمدينة، وإلا فالمقام عنده عليه الصلاة والسلام أحسن؛ ليغتنم مشاهداته صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد قال ابن أبي جمرة: لما دخلت مسجد المدينة ما جلست إلا الجلوس في الصلاة، وما زلت واقفا هناك حتى رحل(4/223)
الركب، ولم أخرج إلى بقيع ولا غيره، ولم أر غيره صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد كان خطر لي أن أخرج إلى البقيع، فقلت: إلى أين أذهب؟ هذا باب الله تعالى مفتوح للسائلين والمتضرعين، وليس ثمّ من يقصد مثله.
قلت: والحق أن من منح دوام الحضور والشهود وعدم الملل فاستمراره هناك أولى وأعلى، وإلا فتنقّله في تلك البقاع أولى، وبه يستجلب النشاط ودفع الملل، ولذلك نوّع الله لعباده الطاعات، والله أعلم.
ومنها: أن يلاحظ بعقله مدة إقامته بالمدينة جلالتها، وأنها البلدة التي اختارها الله لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم في الحياة وبعد الوفاة، ويستحضر تردّده صلى الله تعالى عليه وسلم فيها، ومشيه في بقاعها، ومحبته لها، وتردد جبرائيل عليه السلام فيها بالوحي، فيحبها وسائر منازلها وأوديتها وجبالها، سيما ما أثبت له صلى الله تعالى عليه وسلم المحبة من ذلك.
ومنها: أن لا يركب بها دابة مهما قدر على المشي، بل يؤثره على الركوب، كما رأى ذلك مالك رحمه الله تعالى؛ فإنه كان لا يركب بها دابة، ويقول: أخشى أن يقع حافرها في محل مشي فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفي رواية عن الشافعي رحمه الله تعالى قال: رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان وبغال مصر، ما رأيت أحسن منها، فقلت له: ما أحسنها فقال: هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله، فقلت: دع لنفسك منها دابة تركبها، فقال: أستحيي من الله أن أطأ تربة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحافر دابة.
ومنها: محبة أهل المدينة وسكانها، ومحبة مجاوريها وقطّانها، وتعظيمهم، سيما العلماء والصلحاء والأشراف والفقراء وسدنة الحجرة وخدّامها، قال المجد: وهلم جرا إلى عوامها وخواصها، وكبارها وصغارها، وزراعها وجرافها، وباديتها وحاضرتها، كل منهم على حسب حاله ورتبته وقرابته ودنوه من قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتربته، وتعظيمه لشعار دينه وشريعته، وقيامه بمصالح أمته ومناجح ملته، إلى من لا يبقى له مزية سوى كونه في هذا المحل العظيم، وجارا لهذا النبي الكريم، صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخلق بها مزية أن يجلّ صاحبها، قال: وهؤلاء يثبت لهم حق الجوار، وإن عظمت إساءتهم فلا يسلب عنهم اسم الجار، وقد عمّم صلى الله عليه وسلم في قوله «مازال يوصيني جبرائيل بالجار» ولم يخصص جارا دون جار، قال: وكل ما احتج به محتج من رمي عوامهم بالابتداع وترك الاتباع فإنه إذا ثبت في شخص مثلا لا يترك إكرامه، فإنه لا يخرج(4/224)
إكرامه عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيف دار، بل يرجى له أن يختم له بالحسنى، ويمنح ببركة هذا القرب الصوريّ قرب المعنى.
فيا ساكني أكناف طيبة كلّكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
ومنها: أن يتصدق عليهم بما أمكنه، فإنه مستحب كما ذكره النووي وابن عساكر وغيرهما، وسبق ما يقتضي مضاعفة الصدقة بالمدينة، قال النووي في شرح المهذب:
ويخص أقاربه صلى الله عليه وسلم بمزيد؛ لحديث زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أذكّركم الله في أهل بيتي» رواه مسلم، وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه قال: ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته، رواه البخاري.
ومنها: المجاورة بها فإنها مستحبة لمن قدر مع رعاية الأدب كما تقدم في ثاني فصول الباب الثاني عن النووي.
ومنها: انشراح الصدر ودوام السرور واستمرار الفرح بمجاورة هذا النبي الكريم والحلول بحضرته الشريفة، والإكثار من الدعاء بالتوفيق بشكر هذه النعمة، مع قرنها بحسن الأدب اللائق بتلك الحضرة، والرغبة إلى الله تعالى في جبر التقصير عن القيام بواجب حقها، والاعتراف بالقصور عن حال السلف الماضين، وكثرة التفكر في حالهم ومناقبهم وآدابهم.
ومنها: أن يزمّ نفسه مدة مقامه في ذلك المحل الشريف بزمام الخشية والتعزيز والتعظيم، ويخفض جناحه ويغض من صوته في ذلك الموطن الشريف العظيم، ويلحظ قول الله عز وعلا إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات: 3] وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] قال ثابت بن قيس: أنا والله كنت أرفع صوتي عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإني أخشى أن يكون الله تبارك وتعالى قد غضب عليّ، قال: فحزن واصفر، قال: ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقيل: يا نبي الله إنه يقول: أخشى أن أكون من أهل النار، قال: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجلا من أهل الجنة.
وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: لما نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قال أبو بكر: آليت أن لا أكلّم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا كأخي السرار.(4/225)
وقد تقدم قول مالك رضي الله تعالى عنه في مناظرة المنصور، وأن حرمته صلى الله تعالى عليه وسلم ميتا كحرمته حيا.
ومنها: الحرص على فعل أنواع الخيرات بحسب الإمكان في ذلك المكان، من عيادة مريض، وتشييع جنازة، ومعونة ضعيف، وإغاثة ملهوف، والإحسان إلى المقيمين والواردين، وإكرام الزائرين، ومواسة فقرائهم ولو بلقمة أو تمرة أو سقي الماء إن أمكنه، إلى غير ذلك من أنواع الخير والمعروف.
ومنها: أن لا يضيق على من بها من الفقراء والمحتاجين، بسكنى الأربطة والأخذ من الصدقات، إلا أن يحتاج لذلك فيقتصر على قدر الحاجة، قاله الأقشهري، وهو حسن، قال: ولا ينتحل نحلة صورتها صورة عبادة ومحصولها فائدة دنيوية كإمامة وأذان وتدريس وقراءة ختمة أو خدمة في الحرم، إلا أن يخلص النية في ذلك، أو يكون عاجزا عن قوته، فيأخذ من الصدقات قوته، وما لا بد منه، من غير تعرض لها ولا إشراف نفس.
ومنها: أنه متى اختار الرجوع، وعزم على النهوض إلى وطنه أو غيره، فالمستحب كما قاله النووي وغيره- أن يودع المسجد الشريف بركعتين، ويكون ذلك في المصلى الشريف النبوي، أو ما قرب منه من الروضة الشريفة، ثم يحمد الله تعالى، ويصلى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، ويدعو بما أحب، ويقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتقوى، ومن العمل ما تحب وترضى. اللهم كن لنا صاحبا في سفرنا، وخليفة على أهلنا. اللهم ذلّل لنا صعوبة سفرنا، وأطو عنا بعده. اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكابة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال. اللهم اصحبنا بنصح، واقبلنا بذمة. اللهم اكفنا ما أهمّنا وما لا نهتم له، وارجعنا سالمين مع القبول والمغفرة والرضوان، ولا تجعله آخر العهد بهذا المحل الشريف، ويعيد السلام والدعاء المتقدم في الزيارة، ويقول بعده اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بحرم رسولك صلى الله تعالى عليه وسلم وحضرته الشريفة، ويسّر لي للعود إلى الحرمين سبيلا سهلة، وارزقني العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وقال الكرماني من الحنفية: إذا اختار الرجوع يستحب له أن يأتي القبر الشريف ويقول بعد السلام والدعاء: ودّعناك يا رسول الله غير مودّع ولا سامحين بفرقتك، نسألك أن تسأل الله تعالى أن لا يقطع آثارنا من زيارة حرمك، وأن يعيدنا سالمين غانمين إلى أوطاننا، وأن يبارك لنا فيما وهب لنا، وأن يرزقنا الشكر على ذلك. اللهم لا تجعل هذا(4/226)
آخر العهد من زيارة قبر نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: ثم يتوجه إلى الروضة، ويصلي ركعتين عند الخروج، ويسأل الله العود مع السلامة والعافية.
قلت: وهو صريح في تقديم وداع النبي صلى الله عليه وسلم على توديع المسجد بالركعتين، ومقتضى كلام النووي وغيره ما قدمناه، وممن صرح بمقتضاه في تقديم الصلاة على توديعه صلى الله تعالى عليه وسلم أبو سليمان داود الشاذلي من المالكية في كتابه النيات والانتصار، والأصل في ذلك كما أشار إليه ابن عساكر حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «كان لا ينزل منزلا إلا ودّعه بركعتين» .
ومنها: أن ينصرف عقب ذلك تلقاء وجهه، ولا يمشي القهقرى إلى خلفه، ويكون متألما متحزنا على فراق الحضرة النبوية، متأسفا على ما يفوته من تركه ملازمتها، وهناك تظهر من المحبين سوابق العبرات، ويتصعد من بواطنهم لقوة الوجد لواحق الزفرات.
وأنشد أبو الفضل الجوهري في توديعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت كيف نكرر التوديعا
لعلمت أن من الدموع محدّثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا
وقال العز بن جماعة: أنشدني والدي يعني البدر بن جماعة- لنفسه وهو يبكي عند وداعه لسفره من المدينة الشريفة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام:
أحنّ إلى زيارة حيّ ليلى ... وعهدي من زيارتها قريب
وكنت أظن قرب الدار يطفي ... لهيب الشوق فازداد اللهيب
ولله در القائل:
أرسلت أعيني دموعا غزارا ... وحوت أضلعي لهيبا ونارا
وتناآى صبري وهل بعد بعد ... يجد الصب سلوة واصطبارا
يا ديار الأحباب كان اختياري ... أن أراك المساء والأبكارا
ذاك لو يسمح الزمان، ولكن ... ليس لي أن أعارض الأقدارا
ليس نأيي رضى وعن طيب نفس ... إنما كان بالقضاء اضطرارا
واختياري أن لا أفارقك الده ... ر ولكن لا أملك الاختيارا
فعسى الله أن يمن بعود ... فعساه يطفي لهيبا ونارا
ومنها: أن يستصحب منه هدية ليدخل بها السرور على أهله ومعارفه، من غير أن يتكلفها، سيما ثمار المدينة ومياه آبارها النبوية، ولا يستصحب شيئا من تراب حرم المدينة ولا من الأكر المعمولة منه، قال النووي: وكذا الأباريق والكيزان وغير ذلك من التراب والأحجار فإنه لا يجوز.(4/227)
قلت: وقد سبق واضحا في الحرم، واستدلوا لاستحباب استصحاب الهدية بحديث ضعيف رواه الدارقطني عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال «إذا سافر أحدكم فليهد لأهله، وليطرفهم ولو كانت حجارة» وذكر الغزالي في الإحياء سببا لذلك، وهو تشوف النفوس إلى ذلك، خصوصا الأولاد ونحوهم.
ومنها: أن يتصدق بشيء مع خروجه من المدينة الشريفة، وينوي حينئذ ملازمة التقوى، والاستعداد للقاء الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في يوم الميعاد، وليحذر كل الحذر بعد ذلك من مقارفة الذنوب، فإن النّكسة أشد من المرض، وليحافظ على الوفاء بما عاهد الله تبارك وتعالى عليه، ولا يكون خوّانا أثيما فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما.
ومنها: أن يكون مع ذلك دائم الأشواق لذلك المزار، ومشاهدة عظيم تلك الآثار، متعلق القلب بالعود إلى تلك الديار، ينمي شوقه بتأمل ما نقل في ذلك من الأخبار والآثار، وما نظم فيه من نفائس الأشعار.
ومن أعذبها وأعجبها قصيدة الإمام الولي العارف بالله أبي محمد البكري، وقد أخبرني بها جماعة من المشايخ الأجلّاء المسندين منهم شيخنا الشيخ الإمام العلامة شيخ المحدثين بالمسجد النبوي ناصر الدين أبو الفرج محمد ابن الإمام العلامة قاضي طيبة زين الدين أبي بكر بن الحسين العثماني المراغي سماعا عليه بالروضة الشريفة النبوية، قال:
أخبرني والدي إذنا إن لم يكن سماعا قال: أخبرني شيخنا الحافظ أبو السيادة عبد الله عفيف الدين بن محمد بن أحمد المطري قراءة عليه، قال: أخبرني الشيخ الإمام العارف أبو محمد عبد الله بن عمر بن موسى البكري سماعا غير مرة، قال:
دار الحبيب أحقّ أن تهواها ... وتحنّ من طرب إلى ذكراها
وعلى الجفون متى هممت بزورة ... يا ابن الكرام عليك أن تغشاها
فلأنت أنت إذا حللت بطيبة ... وظللت ترتع في ظلال رباها
مغنى الجمال مني الخواطر والتي ... سلبت عقول العاشقين حلاها
لا تحسب المسك الذكي كتربها ... هيهات أين المسك من ريّاها
طابت فإن تبغي التطيب يا فتى ... فأدم على الساعات لثم ثراها
وابشر ففي الخبر الصحيح مقررا ... أن الإله بطابة سماها
واختصها بالطيبين لطيبها ... واختارها ودعا إلى سكناها
لا كالمدينة منزل، وكفى لها ... شرفا حلول محمد بفناها(4/228)
حظيت بهجرة خير من وطئ الثرى ... وأجلهم قدرا، فكيف ثراها؟
كل البلاد إذا ذكرت كأحرف ... في اسم المدينة لا خلت معناها
حاشى مسمى القدس فهي قريبة ... منها، ومكة إنها إياها
لا غرو إلا أن تم لطيفة ... مهما بدت يجلو الظلام سناها
جزم الجميع بأن خير الأرض ما ... قد حاط ذات المصطفى وحواها
ونعم، لقد صدقوا، بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكى مأواها
وبهذه ظهرت مزية طيبة ... فغدت وكل الفضل في معناها
حتى لقد خصت بروضة جنة ... الله شرفها بها وحباها
ما بين قبر للنبي ومنبر ... حيا الإله رسوله وسقاها
هذي محاسنها فهل من عاشق ... كلف شحيح باخل بنواها
إني لأرهب من توقّع بينها ... فيظل قلبي موجعّا أوّاها
ولقلما أبصرت حال مودّع ... إلا رثت نفسي له وشجاها
فلكم أراكم غافلين جماعة ... في إثر أخرى طالبين هواها
قسما لقد أذكى فؤادي بينكم ... نارا، وفجر مقلتيّ مياها
إن كان مزعجكم طلاب معيشة ... فالخير كل الخير في مثواها
أو خفتم ضرا بها فتأملوا ... بركات بلغتها فما أزكاها
إلا إذا يبغى الكثير لشهوة ... ورفاهة لم يدر ما عقباها
والعيش ما يكفي، وليس هو الذي ... يطغى النفوس ولا خسيس مناها
يا رب أسأل منك فضل قناعة ... بيسيرها وتحببا لحماها
ورضاك عني دائما، ولزومها ... حتى توافى مهجتي أخراها
فأنا الذي أعطيت نفسي سؤلها ... وقبلت دعوتها، فيا بشراها
بجوار أوفى العالمين بذمة ... وأعز من بالقرب منه يباهى
من جاء بالآيات والنور الذي ... داوى القلوب من العمى فشفاها
أولى الأنام بخطة الشرف التي ... تدعى الوسيلة خير من يعطاها
إنسان عين الكون، سر وجوده ... يس إكسير المحامد طه
حسبي، فلست أفي بذكر صفاته ... ولو أن لي عدد الحصا أفواها
كثرت محاسنه فأعجز حصرها ... وغدت وما نلفي لها أشباها
إني اهتديت من الكتاب باية ... فعلمت أن علاه ليس يضاهى
ورأيت فضل العالمين محددا ... وفضائل المختار لا تتناهى(4/229)
كيف التقصي والوصول لمدح من ... قال الإله له وحسبك جاها
(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما) ... فيما يقول (يُبايِعُونَ اللَّهَ)
هذا الفخار فهل سمعت بمثله ... واها لنشأته الكريمة واها
صلوا عليه وسلموا؛ فبذلكم ... تهدى النفوس لرشدها وغناها
صلى عليه الله غير مقيد ... وعليه من بركاته أنماها
وعلى الأكابر آله سرج الهدى ... أحبب بعترته ومن والاها
وكذا السلام عليه، ثم عليهم ... وعلى عصابته التي زكاها
أعني الكرام أولي النهي أصحابه ... فئة التقي ومن اهتدى بهداها
والحمد لله الكريم، وهذه ... نجزت وظني أنه يرضاها
قال البدر بن فرحون أحد أصحاب ناظمها سيدي أبي محمد البكري: إن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام، قال البدر: وأشك هل كان هو الشيخ أو غيره، وأنشد هذه القصيدة، فلما بلغ آخرها قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «رضيناها رضيناها» .
قلت: فلذلك ختمت بها كتابي هذا عسى أن يكون مرضيا عند سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فيلحظه بعين القبول، لأنال منه من الرضوان غاية المأمول، ولله در القائل:
إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا عليّ لئامها
اللهم جد علينا برضوانك، واجعلنا في حرزك وأمانك، وتفضل علينا بجودك وإحسانك، بمجاورة حبيبك المصطفى في الدارين، والفوز من اتباع سنته بما تقربه العين، وثبت قلوبنا على الهدى، وسلمها من الزيغ والرّدى، ونجنا من الفتن والبلوى، وخلصنا من كدورات هذه الحياة الدنيا، ووفقنا للقيام بما أمرتنا قولا وفعلا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وسامحنا بجودك وكرمك إنك أنت الجواد الكريم، وافعل ذلك بوالدينا ومشايخنا وأحبابنا وجميع المسلمين، سيما من اشتغل بهذا الكتاب، ورغب فيه من الطلاب، جعله الله خالصا لوجهه الكريم، موصّلا للفوز بجنات النعيم، وحفظه من الحاسدين، بالكرام الكاتبين، وحماه من السراق، كما من بسلامته من الاحتراق.
وقد سلكت فيه إيضاح العبارات، مع سلامتها من الركّة والغرابات، ليسهل تناوله، وتورد على العموم مناهله، وحذفت الأسانيد من أحاديثه اكتفاء بتخريجها، والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها.(4/230)
وكأني بمن لا يميل طبعه المنحرف إلى الفقيهات، قد عاب علينا بما أوردناه فيه، من أحكام الحرم وغيره، وكذا ما ذكرناه من منازل المهاجرين والأنصار والدور المباركات، وأسماء البقاع والجهات البعيدات، وإن كانت من التوابع والمضافات، وما درى موقع ذلك عند ذوي العنايات، والهمم العاليات، ومن جهل شيئا عاداه، والحمد لله على ما أولاه.
قال مؤلفه رحمه الله تعالى: فرغت من تأليفه في اليوم المبارك الرابع والعشرين من جمادى الآخرة عام ست وثمانين وثمانمائة بالمدينة الشريفة، ثم بلغني بعد الرحلة إلى مكة المشرفة في شهر رمضان منها ما أصيب به المسلمون من حريق المسجد فألحقته في محله، وسأتبعه بما يتعلق به من العمارة المتوقعة إن شاء الله تعالى.
قال مؤلفه: وكان الفراغ من تبييضه على يد مؤلفه بالمسجد الحرام المكي تجاه الكعبة المعظمة في سلخ شوال المبارك، عام ست وثمانين وثمانمائة، ثم ألحقت فيه ما سبق ذكره من العمارة المتجددة، وما ترتب عليها في محالها بعد رجوعي إلى المدينة الشريفة سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد تم بحمد ذي القدرة والجبروت، الذي بيده ملكوت السموات والأرض- تحقيق هذا الكتاب المبارك إن شاء الله في شهر رمضان المعظم من سنة 1374 هـ، والله سبحانه ولي التوفيق والسداد، وكان من عجائب المصادفات أن شرعت حكومة المملكة العربية السعودية بأمر كريم صدر من جلالة الملك المعظم سعود بن عبد العزيز آل سعود، في ترميم بعض مواطن من حرم النبي صلى الله عليه وسلم وعظم وبارك وكرم وتوسعته، فأحببنا أن نضيف تفصيل ذلك إلى هذا الكتاب كما أضاف المؤلف تفاصيل العمارة التي حدثت في زمانه، وجعلنا إضافتنا في أخريات الكتاب؛ لأننا لا نرى من حقنا أن نضيف في أثناء الكتاب ما ليس من عمل صاحبه، والله يتقبل منا ويجزينا بما هو أهله من الكرم والجود والإحسان، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.(4/231)
فهرس الجزء الرابع
الفصل الثامن 3
حرف الألف 3
حرف الباء 16
حرف التاء 34
حرف الثاء 39
حرف الجيم 44
حرف الحاء 51
حرف الخاء 63
حرف الدال 73
حرف الذال 75
حرف الراء 76
حرف الزاي 85
حرف السين 87
حرف الشين 95
حرف الصاد 101
حرف الضاد 106
حرف الطاء 107
حرف الظاء 108
حرف العين 109
حرف الغين 120
حرف الفاء 123(4/232)
حرف القاف 127
حرف الكاف 134
حرف اللام 136
حرف الميم 137
حرف النون 151
حرف الهاء 157
حرف الواو 158
حرف الياء 162
الباب الثامن: في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أربعة فصول 166
الفصل الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة نصا 166
الحديث الأول 166
الحديث الثاني 168
الحديث الثالث 168
الحديث الرابع 169
الحديث الخامس 170
الحديث السادس 170
الحديث السابع 170
الحديث الثامن 171
الحديث التاسع 171
الحديث العاشر 171
الحديث الحادي عشر 172
الحديث الثاني عشر 172
الحديث الثالث عشر 172
الحديث الرابع عشر 173
الحديث الخامس عشر 173(4/233)
الحديث السادس عشر 174
الحديث السابع عشر 174
الفصل الثاني: في بقية أدلة الزيارة، وإن لم تتضمن لفظ الزيارة نصا 175
الفصل الثالث: في توسل الزائر 191
الفصل الرابع: في آداب الزيارة والمجاورة، وهي كثيرة 203(4/234)