المسجد رواقان ونقص من المسقف الشامي من ناحية الصحن رواق، فيزيد على ما تقدم عشرة أساطين، وذلك خارج عن الأساطين التي أحدثت لأجل السقف البارز في رحبة المسجد أمام الباب الشامي من المقصورة المستديرة على الحجرة الشريفة.
وحدث في العمارة المتجددة بعد الحريق إسقاط أسطوان كانت بين الأسطوان التي إليها المصلّى النبوي وبين المحراب العثماني، وضم بعض أساطين أخرى إلى الأساطين التي هناك، وفيما حول الحجرة الشريفة، وإبدال بعضها بدعائم على ما سبقت الإشارة إليه في الفصل التاسع والعشرين مع ما حدث من التغيير في أساطين المسقف القبلي، وكانت أساطين المسجد كلها- كما قال ابن جبير في وصفها- أعمدة متصلة بالسمك دون قسي ينعطف عليها، فكأنها دعائم قوائم، وهي من حجر منحوت قطعا ململمة مثقبة، يوضع أنثى في ذكر، أي بأعمدة الحديد، ويفرغ بينها الرصاص إلى أن يتصل عمودا قائما، ويكسى بغلالة جيار، ويبالغ في صقلها ودلكها، فتظهر كأنها رخام أبيض.
قلت: وأراد بالقسي ما نسميه اليوم بالقناطر المعقودة حول صحن المسجد، وأما الأساطين الداخلة في الأروقة فإنها متصلة بالسقف، سوى الرواقين اللذين يليان رحبة المسجد من المسقف القبلي، ثم جعل المسقف القبلي كنسبتهما بعد العمارة المتجددة بعد الحريق الثاني كما سبق.
وقد عبر ابن النجار- تبعا لمن قبله- عن تلك العقود بالطاقات، فقال: وأما طاقاته أي المحيطة بالصحن ففي القبلة إحدى عشرة طاقة، وفي الشامي مثلها، وفي المشرق والمغرب- أي كل جانب منهما- تسع عشر طاقة، وبين كل طاق وطاق أسطوان، ورأس الطاقات مسدود بشبابيك من خشب.
قلت: وهو موافق لكلام ابن زبالة فيما يلي المشرق والمغرب، مخالف له فيما يلي القبلة والشام؛ فإنه قال: وعدد طاقاته مما يلي القبلة اثنتا عشرة طاقة، ومما يلي الشام اثنتا عشرة، ومما يلي المشرق تسع عشرة، ومما يلي المغرب تسع عشرة، فذلك اثنتان وستون طاقة، انتهى.
وهذا لا يتم إلا على تقدير أن يكون المسقف الغربي ثلاثة أروقة فقط كالمسقف الشرقي، فتكون العقود التي تلي القبلة والشام اثني عشر، وما تقدم في عدد الأساطين ينافيه؛ فالصواب ما ذكره ابن النجار.
وعدد قناطره المحيطة برحبته اليوم من جهة القبلة والشام موافق لما ذكره ابن النجار؛ فإنها من كل جانب إحدى عشرة، غير أن باب المقصورة الشامي وما أحدث له من السقف أمامه سد واحدة من تلك القناطر القبلية.
وأما عدد قناطره من المشرق والمغرب فقد نقصت واحدة من كل جهة؛ لما تقدم من(2/204)
زيادة الرواقين بالمسقف القبلي، ونقص رواق من المسقف الشامي، فصار عدد القناطر في كل جانب منهما ثماني عشرة قنطرة.
والمسدود اليوم بالشبابيك من رؤوس القناطر إنما هو رؤوس القناطر القبلية وبعض ما يليها من القناطر الشرقية، ثم زال ذلك في الحريق الثاني، وقد ذكر ابن زبالة عن محمد بن إسماعيل قال: أدركت المسجد كان يضيق عن الناس يوم الجمعة حتى يصلي بعضهم في دار القضاء، وهي يومئذ مبنية، وفي دار ابن مكمل، وفي دار النحامين، وفي دار عاتكة، قال:
فلما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة أمر بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رؤوس كقريات الفساطيط، وجعلت في الطّيقان- أي القناطر المتقدم ذكرها- فكانت الريح تدخل فيها، فلا يزال العمود يسقط على الإ، سان، فغيّرها وأمر بستور هي أكثف من تلك الستور وبحبال، فأتى بها من جدة من حبال السفن القنبار، وجعلت على سبيك حبالها اليوم، فكانت تجعل على الناس كل جمعة، فلم يزل كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر بها فقطعت درارع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمان هرون أمير المؤمنين فأحدث هذه الأستار، ولم يكن يعني صحن المسجد يستر زمان بني أمية.
قلت: وهذا شيء قد انقطع قديما لعدم الاحتياج إليه لما قلّ الناس بالمدينة، حتى إن كثيرا من الأروقة لا يمتلئ بالناس.
وبالمسجد اليوم ستارة بالقرب من باب الحجرة الشامي ترخى على ما يليه من القناطر الشرقية لتقي من يجلس هناك من خدام المسجد حر الشمس.
وقال ابن زبالة ويحيى: وكان ماء المطر إذا كثر في صحن المسجد يغشى السقائف التي في القبلة، وكانت حصباء تلك الناحية تسيل إلى صحن المسجد، فجعل بين القبلة والصحن لاصقا بالسواري حجاب من حجارة من المربعة التي في غربي المسجد إلى المربعة التي في شرقيه على القبر، فمنع الماء من الصحن أن يغشى القبلة ومن حصباء القبلة أن يصير إلى الصحن. وعبارة يحيى: فأمر أبو البحتري بحجارة فجعلت ردا لذلك الماء الذي كان يدخل والحصباء التي كانت تسيل فيما بين المربعة التي كانت عند القبر والمربعة التي في غربي المسجد، وجعل ذلك لاصقا بالسواري.
قلت: والمراد أنه جعل أحجار الحجاب المذكور فيما بين السواري التي تلي رحبة المسجد من المشرق إلى المغرب، وقد كانت مربعة القبر أول السواري المذكورة من جهة المشرق؛ لأنها في صف أسطوان الوفود كما قدمناه، وذلك الصف كان آخر المسقف القبلي، وكانت المربعة الغربية في آخر السواري المذكورة مما يلي المغرب، وهي الأسطوان المثمنة اليوم(2/205)
التي بينها وبين ركن صحن المسجد الغربي اليوم أسطوانتان بسبب زيادة الرواقين المتقدم ذكرهما في مؤخر المسقف المذكورة، وهذا الحجاب المذكور قد اندفن اليوم فلا يظهر منه شيء، والظاهر أنه كان بين السواري المطيفة بصحن المسجد من المشرق والمغرب حجاب مثل ذلك، وكانت بقاياه ظاهرة فيما يلي الدكاك من المسقفين المذكورين قبل حدوث ما سبق من الدكاك بهما، والمسقف القبلي اليوم أرضه عالية على ما يليه من الصحن يسيرا؛ فلا يغشاه مياه الأمطار، لكن وطأه متولي العمارة بعد الحريق الثاني حتى ساوى به أرض المصلى الشريف كما سبق، فاحتاج إلى عمل حجاب من الأحجار بين السواري التي تلي رحبة المسجد من جهة القبلة وما حولها.
عدد بالوعات المسجد
وأما عدد البالوعات بصحن المسجد فقد ذكر ابن زبالة ويحيى أن به أربعا وستين بالوعة لماء المطر عليها أرحاء لها صمائم من حجارة يدخل الماء من خلالها.
قلت: ولا يظهر به اليوم غير بالوعة واحدة لها فوّهتان، وهي عند الحجرين المتقدم ذكرهما في تجديد المسجد، وإحدى الفوهتين إلى جانب الحجرين من القبلة، والثانية إلى جانبهما من جهة الشام، ويجتمعان في بئر واحدة هناك، وعليهما حجران كالأرحاء، وفي أسفل ما على فوهتيهما من ذلك مشبك يدخل الماء من خلاله ليمنع نزول الحصباء هناك، ومع ذلك فقد بحروها في العمارة المتقدم ذكرها أولا، فخرج منها شيء كثير من الحصباء.
سقايات المسجد
وأما السقايات التي كانت به فذكر ابن زبالة أنه كان في صحن المسجد في زمنه تسع عشرة سقاية، وذلك في صفر سنة تسع وتسعين ومائة، منها ثلاث عشرة أحدثتها خالصة، وهي أول من أحدث ذلك، ومنها ثلاث سقايات لزيد البربري مولى أمير المؤمنين، ومنها سقاية لأبي البحتري وهب بن وهب، ومنها سقاية لشجن أم ولد هارون أمير المؤمنين، ومنها سقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر. وقد أورد ذلك ابن النجار مترجما عليه بذكر السقايات التي كانت في المسجد، ثم قال: وأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه. قال: وفيه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب ينزل إليها بدرج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها تأتي من العين، ولا يكون الماء فيها إلا في أيام المواسم إذا جاء الحاج، وبقية السنة تكون فارغة. عملها بعض الأمراء بالشام، واسمه شامة. قال: وعملت الجهة أم الخليفة الناصر لدين الله في مؤخر المسجد سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئرا، وفتحت لها بابا إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام، انتهى.(2/206)
قلت: الذي يظهر من كلام ابن زبالة أنه أراد بالسقايات ما يجعل لأجل الشرب، وظاهر ما ذكره ابن النجار أن المراد بذلك ما يجعل للوضوء. وذكره لما عملته أم الخليفة الناصر لدين الله صريح في ذلك، فإنه يعني بذلك الميضأة التي بابها في حائط المسجد الشامي، وكان لها باب آخر من خارج سد قديما، وهو ظاهر فيما يلي المسجد من المغرب.
وقوله «فيها عدة بيوت» أي عدد الأخلية التي بها.
وقوله أولا «فأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه» الظاهر أنه يريد السقاية التي كانت للشرب بوسط المسجد.
وقد ذكرها البدر بن فرحون فقال: ولقد كان في وسط المسجد سقاية يحمل إليها الماء من العين بناها شيخ الخدام في ذلك الوقت، ووقف عليها أوقافا من ماله وكانت متقدمة على النخل تقديرها خمسة عشر ذراعا في مثلها، وجعل في وسطها مصرفا للماء مرخما، ونصب فيها مواجير للماء وأزيارا ودوارق وأكوازا، وحجّرها بالخشب والجريد، وجعل لها غلقا من حديد، واستمرت السنين العديدة، فكثر الشر فيها، والتزاحم عندها، وصار يدخلها من يتوضأ فيها فربما يزيل فيها الأذى، من استقرب المدى، ثم تعدى الحال وزاد شرها. وذكر فتنة اتفقت للخدام مع بعض الأشراف بسببها، قال: فلما غلبت مفسدتها على مصلحتها أزيلت عن اجتماع من القاضي شرف الدين الأميوطي والشيخ ظهير الدين، انتهى.
وأما البركة التي ذكرها ابن النجار فإنها مذكورة في كلام المطري، واقتضى كلامه نسبتها لابن أبي الهيجاء، فإنه ذكر ما سيأتي عنه في الكلام على العين الزرقاء من أن ابن أبي الهيجاء في حدود الستين وخمسمائة أمدّ منها شعبة وأوصلها إلى الرحبة التي عند المسجد من جهة باب السلام، يعني سوق المدينة اليوم. ثم قال: وكان قد جعل منها شعبة صغيرة تدخل إلى صحن المسجد، وجعل لها منهلا بدرج عليه عقد يخرج الماء من فوارة يتوضأ منها من يحتاج إليه، فحصل بذلك انتهاك حرمة المسجد الشريف من كشف العورات والاستنجاء في المسجد، فسدّت لذلك، انتهى.
قلت: وقد رأيت آثار درجها في غربي النخيل التي بصحن المسجد قريبا منها، وليس بالمسجد اليوم شيء من السقايات إلا ما يحمل إليه من الدوارق المسبّلة فيشربها الناس في أوقات مخصوصة، إلا أن خزانة الخدام الآتي ذكرها لا يزال بها ماء لأجل شربهم. ثم لما عمر سلطان زماننا الأشرف مدرسته التي بين باب الرحمة وباب السلام جعل فيها سبيلا مما يلي باب الرحمة له شباك إلى المسجد.(2/207)
حواصل المسجد
وأما الحواصل والخزائن التي بالمسجد الشريف ففيه القبة التي بصحنه، وقد مر ذكرها، وغالب ما يوضع فيها اليوم زيت وقود المسجد، وتقدم أن المصحف المنسوب إلى عثمان رضي الله تعالى عنه موضوع بها.
وبالمسجد أيضا أمام كل من المنارات الأربع خزانة، إلا أن ما أمام المنارتين القبليتين من ذلك أصلي، بخلاف المنارتين الشاميتين فإنه محدث، ولذلك قال البدر بن فرحون: وما أحق بالإزالة ما أحدث بالمنارتين الشاميتين؛ إذ قدم بابهما على بابيهما الأصليين، وجعل ما بين البابين في كل منارة خلوة اقتطع بها جانب من المسجد كبير لا شك في تحريمه، انتهى.
وفي جهة المغرب أيضا إلى جانب باب المنارة الشمالية الغربية المعروفة بالخشبية- سميت بذلك لأن حد الخشبتين كان يؤذن بها- خزانة صغيرة يضع بعض الخدام فرشهم فيها، وربما أقام بها من يريد الاعتكاف بالمسجد ويليها في جهة المغرب أيضا حاصلان كبيران يوضع فيهما القناديل الزجاج وبعض آلات المسجد، وفي الأول منهما مما يلي الخزانة المذكورة وضعت كتبي، وكنت أجلس به للمطالعة والاعتكاف فإنه من المسجد، واتفق لي في سبب الإقامة به أمر ليس هذا محل ذكره.
ويقابل ذلك في جهة المشرق مما يلي المنارة المعروفة بالسنجارية خلوة كبيرة فيها فرش الخدام أيضا، وإلى جانبها خزانتان إحداهما بيد من تكون له النوبة من الفراشين يضع فيها فوانيس المسجد ونحوها، والثانية بيد الخدام أيضا، وفي جهة المشرق قريبا من باب جبريل بينه وبين باب النساء خزانة يضع فيها الخدام الماء لشربهم وبعض فرشهم وأمتعتهم، وهي المذكورة في كلام ابن جبير حيث قال: وفي الجهة الشرقية بيت مصنوع من عود هو موضع مبيت بعض السّدنة الحارسين للمسجد المبارك، قال: وسدنته فتيان أحابيش وصقالبة ظراف الهيئة نظاف الملابس والشارات، انتهى، وإلى جانب الخزانة المذكورة صندوق يوضع فيه ما يستخرج من القبة من الزيت للوقود في كل ليلة.
وفي غربي المسجد بين باب الرحمة وباب السلام حاصل يوضع فيه النورة، يعرف بابه بخوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فإنها كانت في محاذاته كما تقدم، فلما زيد في المسجد جعلوا هناك خوخة في المسجد تحاذي الخوخة الأولى وقد جعل لذلك ثلاثة أبواب عند عمارة المدرسة الأشرفية، ومحل الخوخة من ذلك الباب الثالث من على يسارك إذا دخلت من باب السلام.
قناديل المسجد
وأما عدد قناديله فذكر ابن زبالة أنها مائتان وتسعون قنديلا في زمانه، وجملتها في(2/208)
زماننا مائتا قنديل وستة وخمسون قنديلا، هذه الدائمة، ونحو المائة قنديل يسرجونها في بعض الأوقات، ويجعلون في كل قنطرة من القناطر التي تلي صحن المسجد من مقدمه وجنبتيه ثلاثة قناديل، ويقتصرون في بعض الأوقات على واحد في كل قنطرة كما في القناطر التي في مؤخر المسجد، سيما إذا قلّ عندهم الزيت، وحدث بعد الحريق الثاني زيادة سلاسل كثيرة معدة لتعليق القناديل بها، وبصحن المسجد أربعة مشاعيل اثنان في جهة القبلة واثنان في جهة الشام، وكل واحد كالأسطوانة، وبأعلاه مسرجة عظيمة تشعل في ليالي الزيارات المشهورة، ولا أدري ابتداء حدوث ذلك، ويزيدون تنانير وبزاقات في مقدم الروضة وما حولها، ويحتفلون بذلك سيما في ليلة سبع وعشرين من رمضان، ويسرجون في كل ليلة منه نحو أربعين شمعة، ويضعونها على شمعدانات كبار في قبلة الروضة والحجرة، وفي غربي المنبر، وبعضها في محراب الحنفية الآتي ذكره.
وللمسجد فوانيس عدتها ستة، يطوف بها الخدام بعد صلاة العشاء الآخرة لإخراج الناس من المسجد عند غلق أبوابه، ولا يدعون به إلا الخدام ومن له نوبة من أرباب وظائفه.
وذكر البدر بن فرحون في ترجمته شبل الدولة كافورا المظفري شيخ الخدام المعروف بالحريري أن من آثاره الحسنة تبطيل الطوف بالشعل من جريد النخل وتبديلها بالفوانيس التي يطوفون بها اليوم كل ليلة، وذلك أنهم كانوا قبل الحريري وصدرا من ولايته يأخذ عبيد الخدام وبعض الفراشين شعلا من سعف النخل فيطوفون بها عوض الفوانيس اليوم يجرون بها كأشد ما يكون من الجري، فإذا وصلوا باب النساء خرجوا بها وخبطوا ما بقي معهم منها، وكانت تسود المسجد وتسود بابه أيضا، وفيها من البشاعة ما لا يخفى، فأمر بالفوانيس عوضها رحمه الله تعالى.
في صحن المسجد نخيل مغروسة
وبصحن المسجد نخيل مغروسة، ولم أدر ابتداء حدوث ذلك، إلا أن ابن جبير قال في رحلته عند ذكر القبة التي بصحن المسجد ما لفظه: وبإزائها في الصحن خمس عشرة نخلة، انتهى.
وقال البدر ابن فرحون: إن أول من أدرك من مشايخ الخدام الشيخ عزيز الدولة، قال: وفي أيامه غرس كثير من هذا النخل الذي بالمسجد اليوم، وكان منه شيء قبل العزيزي، ومات أكثره، انتهى.
وذكر المجد عزيز الدولة وقال: إن غرس أكثر هذا النخل كان في زمانه، ثم قال:
وكأنه لم يتعرض أحد لإنكار هذه البدعة إجلالا لشأنه، أو خوفا من لسانه، أو تمكينا له من(2/209)
الاقتداء بمن غرسه قبله وخنق في عنقه من هذا المنكر حبله، وقد انجعفت تلك النخيل لهبوب عاصفة هبت في أواخر مشيخة ياقوت الرسولي، ثم أعيد الغراس، ووقع الإنكار من بعض الناس، لكن لم يصادف كلامه محلا من الإشارة والإفادة، ولعله سوغ حملا على احتمال أنه لم يغرس أولا إلا بنوع من الاستحقاق، لكن لا يخفى ما في اعتماد الاحتمال البعيد من قلة التقى.
قلت: وقد أراد طوغان شيخ أن يزيد فيه سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة، فأنكرت ذلك، وقام بعض أهل الخير في المنع منه، فبطل ذلك ولله الحمد.
أئمة المسجد
ولم يزل المسجد النبوي بإمام واحد يصلي بالناس في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويتقدم أيام الموسم إلى المحراب العثماني، حتى سعى طوغان شيخ المذكور في إحداث محراب للحنفية في دولة الأشرف إينال، فقام أهل المدينة في منعه، وساعدهم على ذلك من أرباب الدولة المصرية صاحب الشيم المرضية جمال الدين يوسف ناظر الخواص الشريفة، تغمده الله برحمته، فلم يتم لطوغان المذكور ذلك، فلما توفي المشار إليه أعاد طوغان السعي في الدولة المذكورة، فبرزت المراسيم به بعد الستين وثمانمائة، واستمر إلى زماننا فيصلي إمامه الصلوات الخمس عقب انصراف إمام المحراب النبوي، وهو إمام الشافعية، إلا في التراويح فيصليان معا، وهذا الأمر دبّ إلى المدينة الشريفة من مكة المشرفة.
وقد قال الزركشي: إن السبب في حدوث ذلك بها أن الإمام كان في ذلك الوقت مبتدعا، فعندما امتنع الناس من إقامة الجماعة مع إمامهم الذي أقاموه سمحوا للناس في اتخاذ أئمة لأنفسهم، واستمر الأمر عليه، وكذا جرى مثله في بيت المقدس وجامع مصر قديما، انتهى.
وقد بينا حكم ذلك في كتابنا الموسوم «بدفع التعرض والإنكار، لبسط روضة المختار» .
عرض جدار المسجد
وقال ابن زبالة ويحيى: وعرض منقبة جدار المسجد مما يلي المغرب ذراعان ينقصان شيئا، وعرض منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربعة أصابع، وإنما زيد فيه لأنها من ناحية السيل.
قلت: وهذا لأن السيل كان يغشى المسجد من تلك الجهة، ولهذا سقط جدار الحجرة الشرقي كما قدمناه، وسقط أيضا جدار المسجد من الناحية المذكورة كما قدمناه من قول ابن(2/210)
زبالة «أخاف المسجد من شرقيه في سلطان محمد بن عبد الله الربعي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب من ناحية موضع الجنائز فأمر به فبنى» انتهى.
وقد قدمنا في زيادة الوليد ما رواه يحيى من طريق ابن زبالة في ذرع عرض المسجد، وبينا فساده، والصواب ما ذكره ابن زبالة في أواخر الكلام على المسجد؛ فإنه ذكر ذرع مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم الأول عرضا وطولا، ثم قال: وذرع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليوم ذرع عرضه من مقدمه في القبلة بين المشرق والمغرب مائة وخمسة وستون ذراعا، ينقص مؤخره عن مقدمه خمسة وثلاثين ذراعا، وطوله من اليمن إلى الشام مائتان وأربعون ذراعا.
قلت: وقد حررت ذرعه فكان عرضه من مقدمه في القبلة مائة ذراع وسبعة وستين ذراعا ونصفا، فيزيد على ما ذكره ابن زبالة ذراعين ونصفا، وذلك لاختلاف الأذرعة أو لرخاوة الحبل الذي وقع القياس به، ونحو ذلك.
وكان عرضه من مؤخره في الشام مائة وخمسة وثلاثين ذراعا فيزيد على ما ذكره خمسة أذرع.
وكان طوله من القبلة إلى الشام مائتي ذراع وثلاثة وخمسون ذراعا، فيزيد على ما ذكره ابن زبالة ثلاثة عشر ذراعا.
وقد ذكر ابن النجار ما يوافق ذرعنا هذا مع مخالفة يسيرة فقال: طول المسجد اليوم من قبلته إلى الشام مائتا ذراع وأربعة وخمسون ذراعا وأربعة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه- يعني في مقدمه- مائة ذراع وسبعون ذراعا صافية، انتهى.
قال ابن زبالة: وطول رحبة المسجد- يعني صحنه- من اليمن إلى الشام مائة وخمسة وستون ذراعا، وعرضها بين المشرق والمغرب ثمان وتسعون ذراعا، انتهى.
وذكر ابن النجار أن طولها مائة وتسعة وخمسون ذراعا وثلاثة أصابع، وعرضها سبع وتسعون ذراعا راجحة.
قلت: وطول رحبة المسجد اليوم من القبلة إلى الشام مائة ذراع واثنان وخمسون ذراعا ونصف ذراع، فإذا أضفت لذلك عرض الرواق الذي زيد في الرحبة على ما قدمناه من أنه زيد فيها رواقان من ناحية ونقص رواق من ناحية والرواق نحو تسعة أذرع فيكون جملة ذلك مائة وأحدا وستين ذراعا ونصفا، وذلك نحو ما ذكره ابن النجار.
وأما عرض الرحبة اليوم من مقدم المسجد فخمسة وتسعون ذراعا بتقديم التاء على السين، والله تعالى أعلم.
وذكر ابن النجار أن طول المسجد في السماء خمسة وعشرون ذراعا، ومراده ارتفاعه من أرضه إلى أعلى شرفاته؛ لأنه ذكر في موضع آخر ما يقتضي أن ارتفاعه من أرض المسجد إلى(2/211)
سقفه أحد وعشرون ذراعا، فيكون سمك السقف والحائط الذي عليه الشراريف حول صحن المسجد أربعة أذرع، والذي بين أرض مقدم المسجد وسقفه بعد خفض أرضه عقب الحريق الثاني اثنان وعشرون ذراعا، وتقدم في زيادة عمر رضي الله عنه ما يقتضي أنه كان بينهما في زمانه أحد عشر ذراعا، ولم أقف على ذكر ما جعله عثمان رضي الله تعالى عنه بينهما، وذرع ما بين الأرض المحيطة بالمسجد من خارجه وأعلى سترة جداره من جهة المغرب ثمانية وعشرون ذراعا؛ فهذا سمك المسجد من خارجه، والله أعلم.
وقد تقدم ذكر منابر المسجد وذرعها في زيادة الوليد.
الفصل الثاني والثلاثون في أبواب المسجد وما سد منها، وما بقي، وما يحاذيها من الدور قديما وحديثا
أبواب المسجد
تقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل للمسجد الشريف ثلاثة أبواب: بابا في مؤخره، والباب الذي يدعى باب عاتكة ويقال له باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو باب آل عثمان.
وقد اقتضى كلام المؤرخين أن هذين البابين لم يحولا عن مكانهما، بل لما زيد في المسجد من جهتهما جعلا في محاذاة محلهما الأول.
وقد قدمنا في زيادة عمر رضي الله عنه أنه جعل الأبواب ستة: بابين عن يمين القبلة، وبابين عن يسارها، وبابين خلف القبلة، وأنه لم يغير باب عاتكة ولا باب عثمان، بل زاد في جهة باب عاتكة الباب الذي عند دار مروان وهو باب السلام، وزاد بعد باب عثمان الباب المعروف بباب النساء، فهذان البابان هما المزيدان في المغرب والمشرق.
وسبق أيضا أن عثمان رضي الله تعالى عنه أقر هذه الأبواب على حالها، ولم يزد فيها شيئا.
ولم يذكر ابن زبالة ولا يحيى ولا رزين ما زاده الوليد من الأبواب، ولا ما زاده المهدي حين زاد في المسجد، إلا أن ابن النجار قال: وأما أبواب المسجد فكانت بعد زيادة المهدي فيه، وذكر تسعة عشر بابا غير باب خوخة أبي بكر رضي الله عنه، كما سيأتي، وبين أماكنها كما سنشير إليه.
وقال المطري وتبعه المراغي والمجد: لما بنى الوليد بن عبد الملك المسجد ووسعه جعل له عشرين بابا، وذكر الأبواب المذكورة بعينها مع الخوخة المذكورة، وهذا وهم؛ لأن المنقول في هذه الأبواب أنها إنما كانت في زيادة المهدي، وهي التي استقر عليها الحال في أمر(2/212)
المسجد، وأيضا فما سيأتي في وصف الأبواب التي في جهة الشام وما يليها من جهة المشرق والمغرب لا يتصور أن يكون في زمن الوليد؛ لما تقدم من أن المهدي هو الذي زاد ذلك، والمطري موافق عليه، فكيف يذكر وصف تلك الأبواب فيما نسبه للوليد، وسيأتي أيضا أن أحد هذه الأبواب- وهو باب زياد- إنما فتحه زياد في ولاية أبي العباس المنصور.
والحاصل من كلام من كان قبل المطري من المؤرخين أن الذي استقر عليه أمر المسجد بعد انتهاء زياداته كانت شارعة في رحبة دار القضاء ولا ينافي ذلك قول ابن زبالة. وفي المسجد- يعني في زمنه- أربعة وعشرون بابا لأنه قال في تفصيلها: منها ثمانية من ناحية المشرق، ومما يلي القبلة: باب يدخل منه الأمراء من ناحية باب مروان إلى المقصورة، وعن يسار القبلة الباب الذي تدخل منه المقصورة من موضع الجنائز، وعن يمين القبلة باب بحذائه سواء في الطرف الآخر أي في مقابلته يدعى باب زيت القناديل، ذكروا أن مروان عمله، وخوخة آل عمر تحت المقصورة، ومما يلي المغرب ثمانية أبواب منها الخوخة التي تقابل يمين خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومما يلي الشام أربعة، انتهى كلام ابن زبالة؛ فغيره لم يعد الباب الذي كان في القبلة شارعا في دار مروان؛ لأنه باب دار، وكذا خوخة آل عمر؛ لأنها للدار لا للمسجد، وكذا باب زيت القناديل؛ لأنه باب خزانة للمسجد لا يدخل منه عامة الناس، وكان موضعه عند زاوية الجدار الغربية مما يلي القبلة وجدوه عند عمارة المنارة التي بباب السلام وسد بجدارها.
وأما الباب الذي ذكره عن يسار القبلة فيؤخذ من كلامه أنه كان في المشرق مقابلا لباب زيت القناديل وأنه خاص بالمقصورة، ولو كان بابا عاما لعده في الأبواب التي في جهة المشرق، وقد ظهر هذا الباب عند هدم المنارة الشرقية بعد الحريق الذي أدركناه، وهو باب صغير وجد مسدودا عند زاوية جدار المسجد الشرقية، وكأن الدخول كان منه إلى الخزانة التي تحت المنارة الشرقية اليمانية ثم منها إلى المقصورة، ولهذا لما بسط ابن زبالة الكلام على أبواب المسجد في موضع آخر لم يذكر هذه الأبواب الأربعة، بل اقتصر على العشرين.
فلنذكر ما ذكره وغيره فيها وما زاده المطري في بيانها مما يعرف بمحلها ثم نفرد خوخة آل عمر بالكلام عليها، فنقول:
باب النبي صلّى الله عليه وسلّم
الأول: وهو مبتدأ أبواب جهة المشرق مما يلي القبلة، باب النبي صلّى الله عليه وسلّم، سمي بذلك لكونه في مقابلة حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها التي بها قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا لكونه دخل منه؛ إذ لا وجود له في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وقد سد عند تجديد الحائط الشرقي، وجعل مكانه شباك(2/213)
يقف الإنسان عنده من خارج، فيرى الحجرة الشريفة، كذا قاله المطري ومن بعده، وسيأتي ما يخالفه.
باب علي
الثاني: باب علي رضي الله عنه، كان يقابل بيته الذي خلف بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد سد أيضا عند تجديد الحائط، وما ذكرنا من أن باب النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدم على هذا الباب للقبلة صرح به المطري ومن تبعه، وهو الذي تقتضيه المناسبة التي ذكروها للتسمية بذلك، لكن صرح ابن النجار بخلافه، فقال في عدّ أبواب جهة المشرق: باب علي، ثم باب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم باب عثمان، ثم باب مستقبل دار ريطة، إلى آخر الترتيب الآتي، ومأخذه في ذلك أن ابن زبالة ويحيى ذكرا ما كان مكتوبا على جدارات المسجد فقالا: وفي الزيادة الشرقية في جوف المسجد بين باب علي وباب النبي صلّى الله عليه وسلّم مكتوب، وذكرا ما كان مكتوبا.
ثم قالا: وبين باب النبي صلّى الله عليه وسلّم وباب عثمان مكتوب، وذكرا ما كان مكتوبا.
ثم ذكر أيضا في الكتابة من خارج الجدار على الأبواب نحو هذا، وقالا أيضا: إن في القبلة من خارج المسجد في موضع الجنائز حيث يصلي على الموتى عند باب علي بن أبي طالب مكتوب بعد البسملة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 190] الآية فاقتضى ذلك أن باب علي هو أول أبواب هذه الجهة، وأن باب النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الثاني منها، والذي حمل المطري ومن تبعه على مخالفة ذلك ما قدمناه عنه من رعاية تلك المناسبة، ويحتمل:
أن بيت علي رضي الله عنه كان ممتدّا في شرقي حجرة عائشة رضي الله عنها إلى موضع الباب الأول فسمي باب علي بذلك، ويدل له ما تقدم عن ابن شبة في الكلام على بيت فاطمة رضي الله عنها من أنه كان فيما بين دار عثمان التي في شرقي المسجد وبين الباب المواجه لدار أسماء، ويكون تسمية الباب الثاني بباب النبي صلّى الله عليه وسلّم لقربه من بابه، والله أعلم.
باب عثمان باب جبريل
الثالث: باب عثمان، وهو الباب الذي وضع قبالة الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد قدمنا عن ابن زبالة ويحيى أن الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم هو باب آل عثمان ولذا أطلق عليه في رواية ليحيى في زيادة عثمان أنه باب النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد ظهر درج عند باب مقصورة الحجرة الشامي في مقابلة الباب المذكور بسبب الحفر للدعامة التي هناك، والظاهر أنه درج الباب المذكور قبل تحويله؛ لكونه في موازاة جدار المسجد الأول كما يؤخذ مما سبق من حدوده، وسمي بذلك لمقابلته لدار عثمان بن عفان، وسيأتي أنها كانت من الطريق التي تسلك إلى البقيع التي عن يسار الخارج من هذا الباب إلى الطريق التي في شامي(2/214)
المدرسة الشهابية، والذي يقابل هذا الباب اليوم من دار عثمان رباط أنشأه جمال الدين محمد بن أبي المنصور الأصفهاني المعروف بالجواد وزير بني زنكي.
قال المطري: وقفه على فقراء العجم، وجعل له فيه تربة لها شباك في جهة الشباك المتقدم ذكره في مقابلة القبر الشريف. ولما مرض وهو في السجن قال للشيخ أبي القاسم الصوفي: كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر، يعني أنه فرح بأن يأتيه الموت وهو على تلك الحالة، وقال له: إن بيني وبين أسد الدين شركوه- يعني عم صلاح الدين بن أيوب- عهدا أن من مات قبل صاحبه حمله صاحبه الحي إلى المدينة الشريفة فدفنه فيها في التربة التي عملها، فإن أنا مت فامض إليه فذكره، فلما توفي سار الشيخ إلى أسد الدين في هذا المعنى، فأعطاه مالا صالحا ليحمله به إلى مكة والمدينة الشريفتين، وأمر أن يحج معه جماعة من الصوفية، ومن يقرأ بين يدي تابوته عند النزول والرحيل وقدوم مدينة تكون في الطريق، وينادى بالصلاة عليه في البلاد، فلما كان في الحلة اجتمع الناس للصلاة عليه، فإذا شاب قد ارتفع على موضع عال ونادى بأعلى صوته:
سرى نعشه فوق الرقاب، وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله
يمرّ على الوادي فتثني رماله ... عليه، وبالنادي فتثنى أرامله
فلم ير باك أكثر من ذلك اليوم، ثم وصلوا به إلى مكة فطافوا به حول الكعبة، وصلوا عليه بالحرم، وحملوه إلى المدينة فصلوا عليه ودفنوه بتربته المذكورة.
وكانت وفاته في سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وكان له آثار حسنة سيما بالحرمين الشريفين، وعمل للمدينة الشريفة السور الآتي ذكره، وسنذكر هناك شيئا من ترجمته.
وفي قبلة رباطه من دار عثمان أيضا تربة اشترى أرضها أسد الدين شيركوه بن شاذي عم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي، وحمل إليها هو وأخوه نجم الدين أيوب والد صلاح الدين بعد موتهما ودفنا فيها سنة ست وسبعين وخمسمائة، وتوهم الذهبي أنهما دفنا بالبقيع فجزم به في العبر.
وبقية دار عثمان من القبلة دار إلى جانب هذه التربة موقوفة على خدام الحرم الشريف يسكنها مشايخهم، وهذه دار عثمان الكبرى المقابلة لهذا الباب، وسيأتي ذكر داره الصغرى التي في موضعها رباط المغاربة. ويعرف هذا الباب أيضا بباب جبريل عليه السلام.
قلت: ولم يبينوا سبب تسميته بذلك، ولعل سببها ما سبق في الفصل الرابع والعشرين من قول أبي غسان: إن علامة مقام جبريل التي يعرف بها اليوم أنك تخرج من الباب الذي يقال له باب آل عثمان فترى على يمينك إذا خرجت من ذلك الباب على ثلاثة أذرع وشبر وهو من الأرض على نحو من ذراع وشبر حجرا أكبر من الحجارة التي بها جدار المسجد،(2/215)
مع ما قدمناه أيضا من أن الأصل في ذلك أن جبريل عليه السلام في غزوة بني قريظة أتى على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، ولم يكن ثم حينئذ غير الباب المذكور وروى ابن زبالة عن المطلب بن عبد الله أن حارثة بن النعمان مرّ والنبي صلّى الله عليه وسلّم مع جبريل في موضع الجنائز، فمر ولم يسلم، فقال جبريل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أهو ممن شهد بدرا؟
قال: نعم، قال: فكيف هو في أمتك؟ أيرون لهم به؟ قال: نعم، قال: ما زالت الملائكة الذين شهدوا بدرا معك يرى لهم، قال: فجاء حارثة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل رأيت الرجل الذي كان معي؟ قال: نعم وشبهته بدحية الكلبي، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإنه جبريل، وقد قال لو سلم لرددنا عليه، فقال: ما منعني من السلام إلا أني رأيتك تحدّث معه فكرهت أن أقطعه عنك، وروى البيهقي في الدلائل عن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه جبريل جالس في المقاعد، فسلمت عليه ومررت، فلما رجعنا وانصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لي: هل رأيت الذي كان معي؟ قلت: نعم، قال: فإنه جبريل عليه السلام، وقد ردّ عليك السلام.
وكان مكتوبا على هذا الباب من خارجه بعد البسملة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] الآيتين.
باب ريطة (باب النساء)
الرابع: باب ريطة بفتح الراء ابنة أبي العباس السفاح، كان يقابل دارها، ويعرف بباب النساء، وسبب تسميته بذلك ما رواه أبو داود من طريق عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو تركنا هذا الباب للنساء، قال: نعم، فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. ثم قال أبو داود عقبه: وقال غير عبد الوارث، وهو أصح، ثم رواه من طريق إسماعيل عن أيوب عن نافع عن ابن عمر «قال قال عمر» بمعناه، قال:
وهو أصح. ثم رواه أيضا من طريق بكير عن نافع قال: إن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء، وهذا هو المعتمد؛ لما تقدم من أنه لم يكن في زمنه صلّى الله عليه وسلّم في شرقي المسجد غير باب آل عثمان. وقد روى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن ابن عمر قال:
سمعت عمر حين بنى المسجد يقول: هذا باب النساء، فلم يدخل منه ابن عمر حتى لقي الله، وكان لا يمر بين أيدي النساء وهن يصلين.
ودار ريطة التي كانت مقابلة لهذا الباب قال المطري: كانت دار أبي بكر الصديق، ونقل أنه توفي فيها، وهي الآن مدرسة للحنفية بناها يازكوح أحد أمراء الشام، وعمل له فيها مشهدا نقل إليه من الشام، والطريق إلى البقيع بينها وبين دار عثمان، نقل ذلك ابن زبالة.(2/216)
قلت: وما ذكره من نسبة الدار المذكورة لأبي بكر الصديق سيأتي مستنده مع بيان ما فيه.
وفي أعلى هذا الباب من خارجه لوح من الفسيفساء مكتوب فيه آية الكرسي من بناء المسجد القديم، وقد زال عند الحريق الثاني.
الخامس: باب كان يقابل دار أسماء بنت الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنهم، كانت من جملة دار جبلة بن عمرو الساعدي، ثم صارت لسعد بن خالد بن عمر بن عثمان، ثم صارت لأسماء المذكورة، وهي اليوم رباط للنساء، وقد سدّ هذا الباب أيضا عند تجديد الحائط الشرقي من المنارة الشرقية الشمالية إلى هذا الباب المذكور في أيام الناصر لدين الله سنة تسع وثمانين وخمسمائة، كذا قاله المطري ومن تبعه، وظاهر كلام ابن جبير أن سد هذا الباب وغيره من الأبواب كان قبل الثمانين وخمسمائة؛ لأن رحلة ابن جبير كانت قبل الثمانين كما قدمناه، وقد قال فيها: وللمسجد المبارك تسعة عشر بابا أي غير خوخة أبي بكر لم يبق منها مفتوحا غير أربعة، في المغرب منها اثنان، وفي المشرق اثنان، انتهى. لكنه قال بعد ذلك: وفي القبلة باب واحد صغير مغلق، يعني باب دار الإمارة. ثم قال: وفي المغرب خمسة مغلقة أيضا، وفي المشرق خمسة أيضا مغلقة، وفي الشام أربعة مغلقة أيضا، انتهى. فتبين أنها كانت في زمنه غير مسدودة لكنها مغلقة، فيكون سدّها حدث في التاريخ الذي ذكره المطري، والله أعلم.
باب سادس
السادس: باب كان يقابل دار خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وقد دخل في بناء الحائط المذكور، والدار المذكورة اليوم رباط الرجال، ومعها في جهة الشمال دار عمرو ابن العاص كما سيأتي بيانه، ويعرف الرباط المذكور اليوم برباط السبيل، وكذا رباط النساء المتقدم ذكره يعرف بذلك أيضا، والرباطان المذكوران بناهما القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري رحمه الله تعالى. وذكر ابن زبالة ويحيى أنه كتب على نجاف هذا الباب من داخل «مما أمر به المهدي محمد أمير المؤمنين مما عمل البصريون سنة اثنتين وستين ومائة ومبتدأ زيادة المهدي في المسجد.
قلت: وكتابة ذلك عليه تقتضي أنه الذي أحدثه وما بعده، وأنه أول زيادته كما تقدم.
باب سابع
السابع: باب كان يقابل زقاق المناصع دخل أيضا في الحائط بعد تجديده، وزقاق المناصع كان بين دار عمرو بن العاص وأبيات الصوافي، وعبر عنها المطري بدار موسى بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي لأمر توهمه من كلام ابن زبالة(2/217)
كما سنوضحه إن شاء الله تعالى، والزقاق اليوم ينفذ إلى دار الحسن بن علي العسكري، وتعرف اليوم بحوش الحسن، وكان الزقاق المذكور ينفذ إلى المناصع خارج المدينة، وهو كان متبرزا للنساء بالليل على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأبيات الصوافي هذه التي عبر عنها المطري بدار موسى بن إبراهيم سيأتي أن بعضها اليوم رباط للرجال أنشأه القاضي محيي الدين أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن اللخمي البيساني، ودخل هذا الباب أيضا في الحائط عند تجديده.
باب ثامن
الثامن: باب كان يقابل أبيات الصوافي دخل في الحائط أيضا عند تجديده، وأبيات الصوافي تقدم أن بعضها الذي يلي دار عمرو بن العاص هو رباط الفاضل، وبعضها الآخر وهو الذي كان يقابل هذا الباب هو المعروف اليوم بدار الرسام التي وقفها الشيخ صفي الدين السلامي على أقاربه ثم على الفقراء، وفي شاميها الباب الذي يدخل منه إلى رباطي النخلة، وهما رباطا السلامى، وقد عبر المطري عن ذلك بقوله: «وهي- يعني أبيات الصوافي- في دور كانت بين موسى بن إبراهيم المخزومي وبين عبيد الله بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم» قال:
وموضع هذه الدور اليوم دار اشتراها الشيخ صفي الدين أبو بكر بن أحمد السلامي رحمه الله ووقفها على قرابته السلاميين، انتهى.
وسيأتي أن أبيات الصوافي هي الدور التي كان فيها قهطم، وأنها كانت بين دار عمرو بن العاص ودار موسى بن إبراهيم المخزومي المشتركة بينه وبين عبيد الله بن الحسين، وأن هذه الدار المشتركة كانت أول الدور في جهة المشرق مما يلي الشام، فأبيات الصوافي هي دار قهطم، وفي موضعها ما قدمناه من رباط الفاضل ودار السلامي. وأما الدار المشتركة ففي موضعها اليوم الميضأة المعطلة وبيت الرئيس إبراهيم الذي بين الميضأة والزقاق الذي يلي دار المضيف كما سيأتي بيانه، ودار المضيف هي آخر الدور التي في جهة الشام، والدار المشتركة كانت ملاصقة لها، وسيأتي بيان منشأ ما وقع للمطري، وهذا الباب آخر الأبواب التي كانت في جهة المشرق.
أبواب المسجد الشامية
وقد طوى المطري الكلام على الأبواب الشامية، فقال: وفي شمالي المسجد أربعة أبواب سدت أيضا عند تجديد الحائط الشمالي، وليس في شمالي المسجد اليوم باب إلا باب سقاية عمرتها أم الإمام الناصر.
وسبب عدم كلام المطري على الأبواب الشامية أن ابن زبالة لم يذكر ما يقابلها من(2/218)
الدور، لكن ظهر لي أنه يؤخذ من كلامه وكلام ابن شبة في الدور المطيفة بالمسجد، فلنذكر ما استنفدنا منهما في ذلك، فنقول:
باب تاسع
التاسع: باب كان في دبر المسجد، وهو أول أبواب الشام مما يلي المشرق، وكان يقابل دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهي دار جده عبد الرحمن التي كان ينزل بها ضيفان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي، وبقية دار ابن مسعود، وفي موضعهما الدار المعروفة بدار المضيف وما في غربيها من رباط الظاهرية.
باب عاشر
العاشر: باب كان يقابل دار أبي الغيث بن المغيرة، وفي موضعها اليوم الرباط المعروف برباط الظاهرية والشرشورة.
الباب الحادي عشر
الحادي عشر: باب كان يقابل ما يلي دار أبي الغيث من أبيات خالصة مولاة أمير المؤمنين، وموضع ذلك المارستان الذي أنشأه أبو جعفر المنتصر بالله سنة سبع وعشرين وستمائة.
الباب الثاني عشر
الثاني عشر: باب كان في مقابلة بقية أبيات خالصة وفي موضع ذلك اليوم بيت وزقاق يتوصل منه إلى الرباط الذي أنشأه الشيخ شمس الدين الشستري. وهذا الباب آخر الأبواب التي كانت في جهة الشام، وكلها اليوم مسدودة كما تقدم، وما يوجد اليوم من الدور والأبنية الملاصقة لجدار المسجد المذكور كلها حادثة كما يؤخذ من كلام متقدمي المؤرخين، ولم أقف على ابتداء حدوث ذلك.
الباب الثالث عشر
الثالث عشر: وهو أول أبواب المغرب مما يلي الشام باب كان يقابل دار منيرة وكانت من دور عبد الرحمن بن عوف، ثم صارت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ثم صارت لمنيرة مولاة أم موسى، وفي موضعها اليوم الدار التي صارت لشيخنا العارف بالله سيدي عبد المعطي المغربي نزيل مكة المشرفة، ثم انتقلت للسيد الشريف العلامة محيي الدين قاضي الحنابلة بالحرمين الشريفين، وما في قبلتها إلى الباب الذي يدخل منه إلى دور القياشين التي للخواجا قاوان، وهذا الباب مسدود كما هو مشاهد من خارج المسجد.(2/219)
الباب الرابع عشر
الرابع عشر: باب كان يقابل دار منيرة أيضا كما صرح به ابن زبالة ويحيى، ووهم المجد فجعله الذي بعده، وموضع ما يقابله اليوم من دار منيرة الدار الموقوفة على الخدام التي في قبلة الزقاق الذي يدخل منه إلى دور القياشين، وهذا الباب مسدود اليوم كما يظهر من خارج المسجد أيضا، وبذلك يعلم أن محلهما من ذلك الجدار لم يجدد.
الباب الخامس عشر
الخامس عشر: باب كان يقابل دار نصير صاحب المصلى وهو مولى المهدي وكانت هذه الدار منزلا لسكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، وفي موضعها اليوم الدار التي عن يسار الداخل من زقاق دور القياشين والدار التي تعرف اليوم بدار تميم الداري، وقد آلت إليّ ثم وقفتها، وهي الآن منزلي، ولم أقف على أصل في تسميتها بذلك، وهذا الباب في مقابلة الدار المعروفة بدار تميم من دار نصير، وهو مسدود اليوم، وبقيت منه قطعة تظهر من خارج المسجد، ودخل باقيه عند تجديد الحائط من باب عاتكة إليه.
الباب السادس عشر
والسادس عشر: باب كان يقابل دار جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك، وقد دخل في داره هذه فارغ أطم حسان بن ثابت كما قاله ابن زبالة، وفي موضعها اليوم المدرسة الكلبرجية التي أنشأها السلطان شهاب الدين أحمد سلطان كلبرجة من بلاد الهند في سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة، وهذا الباب دخل في الحائط عند تجديده، وأسقطه المطري مع أنه مذكور في كلام ابن زبالة ويحيى، ولما أسقطه زاد بدله بابا لا وجود له في كلام من قبله، على ما سيأتي التنبيه عليه.
باب عاتكة (باب السوق) (وباب الرحمة)
السابع عشر: باب عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية، كان يقابل دار عاتكة المذكورة، ثم صارت هذه الدار ليحيى بن خالد البرمكي والد جعفر، ودخلت في دار جعفر المتقدم ذكرها، وتوهم الزين المراغي من نسبتها لجعفر بن يحيى ومن كون أطم حسان دخل في دار جعفر بن يحيى أنها محل أطمه، وليس كذلك لما قدمناه، وفي موضعها اليوم دار من أوقاف الخدام في قبلة المدرسة الكلبرجية تواجه يمين الخارج من باب المسجد المذكور، وقد استبدلها الشيخ الزيني بن مزهر بإزالة ديوان الإنشاآت وما غربيها من الدور، واتخذ ذلك مدرسة ورباطا وأروقة على يد صاحبنا العلامة الشيخ نور الدين المحلي نفع الله به، ويعرف هذا الباب قديما أيضا بباب السوق، كما يؤخذ مما سيأتي في باب زياد، لأن سوق المدينة كانت في المغرب في جهته. ويعرف قديما أيضا بباب الرحمة؛ فإن يحيى ذكر في بناء النبي(2/220)
صلّى الله عليه وسلّم لمسجده أنه صلّى الله عليه وسلّم جعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال باب الرحمة، هذا لفظه. وأطبق على وصفه بذلك من بعده من المؤرخين، حتى صار في زماننا هو الأغلب عليه، ومع ذلك فلم أر في كلام أحد بيان السبب في تسميته بذلك، وسألت عنه من لقيته من المشايخ فلم أجد عند أحد منهم علما من ذلك، ثم ظهر لي معناه بحمد الله تعالى، وذلك أن البخاري روى في صحيحه عن أنس بن مالك أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، ولما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبعا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة- يعني الثانية- ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يخطب- الحديث- بطوله، وسنبين في باب زياد- وهو الذي يلي هذا- أن دار القضاء كان محلها بين باب الرحمة وباب السلام، وقد تقرر أنه لم يكن للمسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الجهة إلا الباب المعروف بباب الرحمة؛ فظهر أن هذا الرجل الطالب لإرسال المطر وهو رحمة إنما دخل منه، وقد أنتج سؤاله حصول الرحمة، وأنشأ الله السحاب الذي كان سببا فيها من قبله أيضا؛ لأن سلعا في غربي المسجد، فسمي والله أعلم بباب الرحمة لذلك، لكن في رواية البخاري عن أنس أيضا أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ومقتضاها أنه دخل من الباب الذي كان في شامي المسجد؛ لقرب إطلاق مواجهته للمنبر عليه، لكن ذلك الباب ليس نحو دار القضاء، فليجمع بين الروايتين بأن الواقعة متعددة كما اقتضاه كلام بعضهم، أو بأنه وقع التجوز في إطلاق كون ذلك الباب وجاه المنبر، أو بأن باب الرحمة كان كما قدمناه في آخر جهة المغرب مما يلي الشام، فجاء ذلك الداخل من جهته ودخل منه، ثم رأى أن قيامه بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر لا يتم له إلا بتخطي الصفوف، فعرج إلى الباب الآخر المواجه للمنبر، لغلب إطلاق باب الرحمة على الباب الذي في جهة مجيئه؛ لاعتضاده بما تقدم من مجيء السحاب من قبله، والله أعلم.
باب زياد (باب القضاء)
والثامن عشر: باب كان يعرف بباب زياد وقد سد أيضا عند تجديد الحائط الذي هو فيه وكان بين خوخة أبي بكر الآتي ذكرها وبين الباب الذي قبله وسمي بذلك لما رواه ابن شبة عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن عمه قال: كانت رحبة القضاء لعمر رضي الله(2/221)
عنه- يعني دارا له- وأمر حفصة وعبد الله ابنيه رضي الله عنهما أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه، فإن بلغ ثمنها دينه وإلا فاسألوا فيه بني عدي بن كعب حتى تقضوه، فباعوها من معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وكانت تسمى دار القضاء، قال ابن أبي فديك: فسمعت عمي يقول: إن كانت لتسمى دار قضاء الدين. قال: وكان معاوية اشتراها عند ولايته، فلم تزل حتى قدم زياد بن عبد الله المدينة سنة ثمان وثلاثين ومائة، فهدمها وجعلها رحبة للمسجد، وفتح فيها الباب الذي إلى جنب الخوخة الصغيرة، وجعل هدمها على أهل السوق، قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك: فأخذ مني في هدمها أربعة دوانق، قال ابن أبي فديك: وأخبرني أيضا كما أخبرني عمي عبيد الله بن عمر ابن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال: وأشار لي عبيد الله إلى صندوق في بيته وقال: في هذا الصندوق إبرا آت من ذلك الدين. وروى أيضا عن عبد العزيز بن مروان أن دار القضاء كانت لعبد الرحمن بن عوف، قال: وهي اليوم رحبة لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غربيه مما يلي دار مروان. وروي عن سهلة بنت عاصم أنها إنما سميت دار القضاء لأن عبد الرحمن اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية، فصارت بعد في الصوافي، وكانت الدواوين فيها وبيت المال، فهدمها أبو العباس أمير المؤمنين وصيّرها رحبة للمسجد، فهي اليوم كذلك.
وروى ابن زبالة خبر ابن أبي فديك الأول مقتصرا عليه من طريق محمد بن إسماعيل- يعني ابن أبي فديك- عن ابن عمر أن عمر توفي وترك عليه ثمانية وعشرين ألفا، فدعا عبد الله وحفصة فقال: إني قد أصبت من مال الله شيئا، وأنا أحب أن ألقى الله وليس في عنقي منه شيء، فبيعا فيه حتى تقضياه، فإن عجز عنه مالي فسلا فيه بني عدي، فإن بلغ وإلا فلا تعدوا قريشا، فخرج عبد الله بن عمر إلى معاوية فباع منه دار عمر التي يقال لها دار القضاء، وباع ماله بالغابة، فقضى دينه؛ فكان يقال: «دار قضاء دين عمر» وهي رحبة القضاء.
قال محمد بن إسماعيل: فهدم زياد بن عبيد الله إذ كان واليا لأبي العباس على المدينة في سنة ثمان وثلاثين ومائة دار القضاء، وكانت تكرى من تجار أهل المدينة، فهدمها زياد وجعلها رحبة للمسجد، وفتح الباب الذي إلى جنب الخوخة- الخبر المتقدم.
قلت: وما تضمنه هذا الخبر من تاريخ هدم الدار وعمل الباب المذكور فيها ربما يخالف ما ذكره ابن زبالة ويحيى فيما كتبا على أبواب المسجد، فإنهما قالا: وعلى باب زياد في لوح من ساج مضروب بمسامير مكتوب من خارج، ثم ذكرا من جملة المكتوب: أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله بعمل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمارة هذه الرحبة توسعة لمسجد(2/222)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولمن حضره من المسلمين في سنة إحدى وخمسين ومائة ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، إلى آخر ما ذكراه.
قلت: وزياد هذا هو زياد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي خال السفاح، وكانت ولايته على المدينة ومكة من قبل أبي العباس المنصور في سنة ثمان وثلاثين ومائة؛ فقول ابن أبي فديك في رواية ابن شبة «فلم يزل حتى قدم زياد بن عبيد الله سنة ثمان وثلاثين» مبيّن لتاريخ قدومه فقط، وقوله «فهدمها» يعني في مدة ولايته؛ فليس فيه تعرض لأن الهدم كان في ذلك التاريخ؛ فلا يخالف ما كتب على الباب المذكور، وليحمل أيضا قوله في رواية ابن زبالة «فهدم زياد بن عبيد الله إذ كان واليا في سنة ثمان وثلاثين ومائة» على أن المراد بيان ابتداء ولايته، لا تاريخ الهدم، جمعا بين الكلامين، والرواية الأولى أقرب إلى التأويل من هذه.
وقد ذكر ابن زبالة في روايته المتقدمة عن محمد بن إسماعيل أنه قال: إن زياد بن عبيد الله جعل السّتور على الأبواب الأربعة: باب دار مروان أي المعروف بباب السلام، والخوخة أي المجعولة في محاذاة خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وباب زياد أي المذكور، وباب السوق أي وهو باب الرحمة كما يؤخذ من كلام يحيى.
وقال المجد في ترجمة دار القضاء: هي دار مروان بن الحكم، وكانت لعمر بن الخطاب فبيعت في قضاء دينه، وقد زعم بعضهم أنها دار الإمارة، وهو محتمل لأنها صارت لأمير المدينة.
قلت: دار مروان هي الآتية في قبلة المسجد، وليست هذه بلا شك، ولعل المراد أن مروان ملك دار القضاء فنسبت إليه، وهو غير معروف، إلا أن الحافظ بن حجر نقل عن ابن شبة أنها صارت لمروان وهو أمير المدينة، قال: فلعل ذلك شبهة من قال «إنها دار الإمارة» فلا يكون غلطا، وقال في المشارق: وقد غلط فيها بعضهم فقال يعني دار الإمارة.
قلت: والذي رأيته في ابن شبة إنما هو صيرورتها لمعاوية كما قدمناه، مع أن المشهور قديما بدار الإمارة إنما هي دار مروان التي في قبلة المسجد، وتقدم أن الأمراء كانوا يدخلون من باب منها إلى المقصورة، وتوهم البرهان ابن فرحون أنها رحبة دار القضاء، فقال: قال ابن حبيب: وما كان من مضى- يعني من القضاة- يجلسون في رحاب المسجد، بل إما عند موضع الجنائز، يريد خارج باب جبريل، وإما رحبة دار مروان التي تسمى رحبة القضاء، وقد جعل ذلك في هذا الوقت ميضأة، انتهى. وهو وهم؛ لأن الذي جعل ميضأة هو نفس دار مروان كما سيأتي، وبالجملة فلا خلاف في كون دار القضاء هي الرحبة التي كانت في غربي المسجد إلى باب مروان.(2/223)
ويؤخذ مما تقدم أن هذه الرحبة كانت في محاذاة باب زياد وما بعد، إلى باب السلام.
ويؤخذ مما سيأتي في الدور المطيفة بالمسجد أنها كانت ممتدة إلى باب الرحبة أيضا، وهو مقتضى ما أخبر به بعض مشايخ المدينة أنه لم يزل يسمع أنه لم يكن بين باب الرحمة وباب السلام دار تلاصق المسجد.
قلت: فموضع هذه الرحبة اليوم دار الشباك الملاصقة لباب الرحمة، وما يليها من المدرسة الجوبانية والحصن العتيق.
ودار الشباك أنشأها شيخ الخدام كافور المظفري، المعروف بالحريري، بعد السبعمائة، وجعل لها شباكا إلى المسجد، وليس حول المسجد دار لها شباك في جدار المسجد إلا هي، والذي يظهر أن باب زياد كان في موضع شباكها أو إلى جانبه القبلي.
وأما المدرسة الجوبانية فابتناها جوبان أتابك العساكر المغلية في سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وجعل له فيها تربة ملاصقة لجدار المسجد بين دار الشباك والحصن العتيق، وهي- أعني التربة- من جملة رحبة القضاء، واتخذ فيها شباكا في جدار المسجد، وهو مسدود اليوم، ولم يدفن فيها بعد أن حمل إليها في تابوت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة من بغداد بأمر السلطان أبي سعيد فدخلوا به مكة وطافوا به حول البيت كما فعل بالجواد الأصفهاني، وذلك صحبة الحاج العراقي، فلما وصلوا به المدينة منعهم أميرها من ذلك حتى يشاور السلطان الناصر، كذا قاله بعضهم، وقال الصلاح الصفدي: لما بلغ الملك الناصر أمر تجهيزه ليدفن في المدينة جهز الهجن إلى المدينة، وأمرهم ألايمكن من الدفن في تربته، فدفن في البقيع.
وذكر لي بعض الناس أن علة المنع من دفنه بتربته أنه إذا وضع فيها للقبلة كانت رجلاه إلى الجهة الشريفة؛ لأن تربته في غربي المسجد، بخلاف الجواد وغيره ممن دفن في شرقي المسجد، فإن رؤوسهم إلى جهة الأرجل الشريفة، والله أعلم.
وأما الحصن العتيق فإنه كان منزلا لأمراء المدينة، ثم انتقل إلى السلطان غياث الدين سلطان بنجالة أبي المظفر أعظم ابن السلطان اسكندر، وابتناه مدرسة في سنة أربعة عشرة وثمانمائة، وتوفي في تلك السنة، ويقال: إن غيره سبقه إلى جعله رباطا قبل ذلك.
ثم اقتضى رأي متولي العمارة بعد الحريق الحادث في زماننا استبدال دار الشباك المذكورة وما يليها من الجوبانية وجميع الحصن العتيق عند هدم ما يلي ذلك من جدار المسجد الغربي، وعمل ذلك مدرسة ورباطا للسلطان الأشرف فيما بين باب السلام وباب الرحمة كما سبق في الفصل التاسع والعشرين.
واعلم أن المطري زاد هنا بابا بدل الباب الذي أسقطه قبل باب عاتكة فقال: إنه كان(2/224)
بين باب عاتكة وخوخة أبي بكر الآتية بابان سدّا عند تجديد الحائط، وتبعه على ذلك من بعده، والذي اقتضاه كلام ابن زبالة ويحيى وابن النجار أنه ليس بين باب عاتكة وبين الخوخة سوى باب زياد، ولهذا لما أسقط ابن النجار ذكر الخوخة من الأبواب وجعل أبواب هذه الجهة سبعة قال: الخامس باب عاتكة، السادس باب زياد، السابع باب مروان، انتهى.
وبه يعلم أن الصواب ما قدمناه، والله أعلم.
خوخة تجاه خوخة أبي بكر
التاسع عشر: الخوخة المجعولة تجاه خوخة أبي بكر رضي الله عنه لما زيد في المسجد، وهو معنى ما تقدم عن ابن زبالة حيث قال في عدد الأبواب: ومما يلي المغرب ثمانية أبواب، ومنها الخوخة التي تقابل يمنى خوخة أبي بكر.
قلت: وكانت شارعة في رحبة دار القضاء كما قدمناه من كلام ابن زبالة وقدمنا أيضا في زيادة عمر رضي الله عنه عن أبي غسان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أن عمه أخبره أن الخوخة الشارعة في دار القضاء في غربي المسجد خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أي: المجعولة في محاذاة خوخته.
قال ابن زبالة في ذكر الكتابة على أبواب المسجد: وليس على الخوخة لا من داخل المسجد ولا من خارجه كتابة، وقد قدمنا أن لهذه الخوخة اليوم بابا مما يلي المسجد، وأنه باب حاصل يعرف بحاصل النورة، وهي معروفة بخوخة أبي بكر، ويؤخذ مما تقدم أن ذلك الحاصل من دار القضاء، وبابه اليوم هي الفتحة الثالثة من الفتحات التي على يسار الداخل من باب السلام، جعل باب في موضع الخوخة يدخل منه للمسجد، وبعده شباك، ثم باب يدخل منه للمدرسة الأشرفية.
العشرون: باب مروان، سمي بذلك لملاصقته لداره التي كانت في قبلة المسجد مما يلي الباب المذكور، وبعضها ينعطف على المسجد من جهة المغرب، وفي موضعها اليوم الميضأة التي أنشأها المنصور قلاوون الصالحي عام ست وثمانين وستمائة، ويعرف الباب المذكور أيضا بباب السلام، وباب الخشوع، قاله المطري. وفي رحلة ابن جبير أنه يعرف بباب الخشية، اه. والزوار غالبا إنما يدخلون منه؛ لكونه أقصد إلى طريقهم من باب المدينة، فلا يخفى مناسبة تسميته بذلك كله.
قال المطري: ولم يكن في القبلة حتى إلى اليوم باب إلا خوخة آل عمر، أو خوخة لمروان عند داره في ركن المسجد الغربي، شاهدناها عند بناء المنارة الكبيرة المستجدة، كان يدخل من داره إلى المسجد منها، وقد انسدت بحائط المنارة الغربي.
قال الزين المراغي: وينبغي الاعتراض على من أطلق أن مروان كان يدخل منها(2/225)
للمسجد؛ لأن مروان قتلته زوجته أم خالد بن يزيد آمنة بنت علقمة، ويقال: فاختة بنت هاشم، وقيل: مات مطعونا، وقيل: مطعونا، في نصف رمضان سنة خمس وستين.
وكانت مدة خلافته تسعة أشهر، وذلك قبل أن يزيد ولد ولده الوليد بن عبد الملك ابن مروان في المسجد بنحو من ثلاثين سنة، ولا شك أنها خوخة آل مروان؛ فالصواب أنه كان يدخل من مثلها، لا منها، وكأن هذا الباب هو المراد بقول ابن زبالة: وباب في قبلة المسجد يخرج منه السلطان إلى المقصورة.
قلت: أما ما ذكره المطري من أنه لم يكن في قبلة المسجد باب- يعني فيما مضى إلى زمنه- إلا خوخة آل عمر؛ فمردود بما قدمناه عن ابن زبالة؛ فإنه فصل الأبواب الزائدة على العشرين فجعل منها الباب الذي كان في القبلة يدخل منه الأمراء من ناحية دار مروان، ثم ذكر البابين اللذين عن يمين القبلة وعن يسارها يدخل منهما إلى المقصورة، والباب الذي عن يمين القبلة هو هذا الذي أدركه المطري؛ فلا يصح ما ذكره الزين المراغي من حمل كلام ابن زبالة في الباب الذي ذكره في القبلة عليه؛ لأنه قد غاير بينهما، وأما استدراك المراغي على القول بأن مروان كان يدخل من الباب الذي ذكره المطري فصحيح، وقد تقدم عن ابن زبالة أنه يسمى باب بيت زيت القناديل. والذي يظهر كما قال المراغي أنه جعل في مقابلة باب اتخذه مروان هناك أيضا؛ لأن ابن زبالة روى أن مروان لما بنى داره جعل لها خوخة في القبلة، ثم قال: أخشى أن أمنعها، أي لكونها في القبلة، فجعل لها بابا على يمينك حين تدخل: أي وهو الباب المتقدم وصفه، ثم قال: أخشى أن أمنع المسجد، فجعل الباب الثالث الذي يلي باب المسجد، يعني الملاصق لباب السلام من خارجه، وفي موضعه اليوم السقاية المقابلة لباب مدرسة الحصن العتيق، وهذا سبب المناسبة في تسمية رحبة القضاء برحبة دار مروان؛ لمقابلتها لبابه هذا.
وروى ابن زبالة عن إسحاق بن مسلم أن عمر بن عبد العزيز لما بنى المسجد أراد أن يجعل في الأبواب حلقا، ويجعلها في الدروب؛ لئلا يدخلها الدواب، فعمل الحلقة التي في باب المسجد مما يلي دار مروان، ثم بدا له فتركها.
قلت: المراد بذلك السلسلة الحديد المجعولة بجنبتي عقد باب السلام تمنع الدواب من الدخول. وفي باب الرحمة اليوم آثار سلسلة كانت هناك، وسلسلة باب السلام ترفع في أيام الموسم؛ لأنه اتفق في سنة أربع وخمسين وثمانمائة ازدحام الناس عندها فهلك جماعة، وكان أمام باب السلام من داخله درابزين شبيه بالدرابزين الذي كان من داخل باب جبريل، وكان الناس لا ينزعون نعالهم إلا عنده، وكذلك كان مثله أمام باب الرحمة من داخله أيضا؛ فجعل الأمير بردبك المعمار أيام عمارته للظاهر جقمق هذه الأحجار المصفوفة إفريزا عند(2/226)
طرف عقد باب السلام مما يلي باب الحصن العتيق، وجعل ما أمام الباب مما يحاذي العقد المذكور رحبة بالمسجد، وصار الناس ينزعون النعال عندها، وعمل عند عقد باب الرحمة مثل ذلك، ورفع ذلك الدرابزين، وكان ما بين الدرابزين وباب الرحمة منخفضا عن أرض المسجد فسواه بأرض المسجد كما هو اليوم، فاحتاج إلى رفع عتبته، فزاد العتبة المتخذة فوق العتبة الأصلية، وقصر شيئا من أسفل الباب، وذلك ظاهر فيه اليوم، وحصل بذلك صيانة للمسجد، واتخذ أيضا الرحبة التي أمام باب النساء، ورفع الدرابزين الذي كان من داخله، واتخذ لباب جبريل الرحبة التي أمامه، ولم يرفع الدرابزين؛ لأن الناس لم يكونوا يمشون بنعالهم إليه، ثم أزيل درابزينه أيضا عند عمارته بعد الحريق الثاني، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث والثلاثون في خوخة آل عمر رضي الله تعالى عنه المتقدم ذكرها، وما يتعين من سدّها في زماننا
تحديد موضع خوخة آل عمر
اعلم أنها اليوم هي التي يتوصّل إليها من الطابق الذي بالرواق الثاني من أروقة القبلة، وهو الرواق الذي يقف الناس اليوم فيه للزيارة أمام الوجه الشريف بالقرب من الطابق المذكور. والذي يتلخص مما قدمناه في زيادة عثمان رضي الله عنه والوليد والمهدي أن الأصل في ذلك أنه لما احتيج لدار حفصة- يعني حجرتها- قالت: كيف بطريقي إلى المسجد، فقيل لها: نعطيك أوسع من بيتك، ونجعل لك طريقا مثل طريقك، فأعطيت دار عبيد الله بن عمر، أي التي صارت إليه بعد حفصة، وكانت مربدا، هذا ما رواه ابن زبالة.
وقد قدمنا في زيادة الوليد من رواية ابن زبالة أن عمر بن عبد العزيز بعث إلى رجال من آل عمر، وأخبرهم أن أمير المؤمنين كتب إليه أن يبتاع بيت حفصة، وكان عن يمين الخوخة أي من داخل المسجد، فقالوا: ما نبيعه بشيء، قال: إذا أدخله في المسجد، قالوا:
أنت وذاك، فأما طريقنا فإنا لا نقطعها، فهدم البيت، وأعطاهم الطريق ووسّعها لهم.
وقدمنا أيضا ما رواه يحيى عن مالك بن أنس من أن الحجّاج الثقفي هو الذي ساوم عبيد الله بن عبد الله بن عمر في هذا البيت وهدمه. وفي رواية ليحيى أن عمر بن عبد العزيز لما وصل في العمارة إلى دار حفصة قال له عبيد الله: لست أبيع هذا هو حق حفصة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسكنها، فقال عمر: ما أنا بتارككم أو أدخلها المسجد، فلما كثر الكلام بينهما قال لهم عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الرقيق، وما بقي من الدار فهو لكم، ففعلوا.(2/227)
وقال المطري: إن الوليد لما حج وطاف في المسجد رأى هذا الباب في القبلة فقال لعمر: ما هذا الباب؟ فذكر له ما جرى بينه وبين آل عمر في بيت حفصة، وكان جرى بينه وبينهم فيه كلام كثير، وجرى الصلح على ذلك، فقال له الوليد: أراك قد صانعت أخوالك.
وقد قدمنا من رواية ابن زبالة الإشارة إلى هذا، وقدمنا من روايته أيضا عن عبد العزيز بن محمد أنه كان يسمع عبيد الله بن عمر يقول: لا أماتني الله حتى أراني سدها.
وتقدم أن تلك الخوخة لم تزل طريق آل عمر إلى دارهم حتى عمل المهدي المقصورة على الرواق القبلي.
قال المطري: فمنعوهم الدخول من بابهم، فجرى في ذلك أيضا كلام كثير تقدمت الإشارة إليه، اصطلحوا على سدّ الخوخة من أعلاها في جدار المسجد، وأن يخفضوها في الأرض ويجعلوا على أعلاها في موضع الباب الأول شباك حديد في القبلة، وحفروها كالسرب، فتخرج خارج المقصورة في الرواق الثاني من أروقة القبلة، ولها ثلاث درجات عند بابها في جوف السرب بالمسجد، وهو الطابق الموجود اليوم، وعليه قفل من حديد، ولا يفتح إلا أيام قدوم الحاج للزيارة، قال المطري: وهي طريق آل عمر إلى دارهم التي تسمى اليوم دار العشرة، وإنما هي دار آل عبد الله بن عمر، انتهى.
قلت: وعلى هذا السرب من خارج المسجد باب في جدار المسجد أيضا، وأمامه دهليز يتوصل منه إلى شارع فيه دور كثيرة سنشير إلى بعضها في ذكر الدور المطيفة بالمسجد.
اتخاذ بعض الناس بابا وسيلة للتدجيل
وقد اختلقوا لتلك الدور أسماء، حتى قالوا في بعضها: هو بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبعضها نسبوه إلى فاطمة ابنته رضي الله تعالى عنها. ويتخذ بعض أهل تلك الدور على ما بلغني كحلا في نقرة من الجدار ويقولون للحجاج: هذه مكحلة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، ويشيرون أيضا إلى رحا عندهم فيقولون: هذه رحا فاطمة الزهراء، أخبرني بذلك من لبّسوا عليه الأمر وأخبروه بهذه الأكاذيب حتى أعطاهم شيئا. ويجلس عند ذلك الطابق بالمسجد شخص ليس هو اليوم من ذرية آل عمر؛ لأن من كان بيدهم مفتاح هذا الطابق من آل عمر قد انقرضوا، وبقيت منهم زوجة هذا الشخص الذي يجلس عند هذا الطابق، ثم توفيت وتركت أولادا منه، فاستمر المفتاح بيده، فيستنيب من يجلس عند هذا الطابق ويفتحه أيام الموسم، ويقف عنده جماعة يزوّرون الحجاج ويأخذون من الداخلين منه شيئا شبيها بالمكس؛ فإن الجالس عنده لا يمكن أحدا من الدخول منه إلا ببذل شيء يرضيه، وما حال(2/228)
الحاج الغريب إذا رأى مثل هذا الباب بدرج تحت الأرض في المسجد وقيل له: إنه يصل إلى بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيت ابنته؟
وقد اشتهر ذلك عند أهل المدينة حتى إن أحدا منهم لا يكره، فيود الغريب المسكين لو بذل روحه في الوصول لذلك، وربما لم يكن معه شيء، فيتجشم المشقة في الوصول لذلك، فقد أخبرني صاحبنا الشيخ المبارك أبو الجود بركات الجيعاني أنه قدم المدينة قديما قبل أن يجاور بها، قال: فلم أملك نفسي أن دخلت في هذا الطابق فطبقه الجالس عنده على ظهري حتى كاد يقصمه لأنه لم يعطه شيئا. وأخبرني هو وغيره ممن أثق به أنه يقع في أسفله من الإزدحام واختلاط النساء بالرجال ما لا يوصف مع ضيقه، حتى إن الماشي فيه يحتاج إلى الانحناء.
وأخبرني بعضهم: أنه رأى فيه منكرا شينعا، وهو أن بعض الأحداث يمشي خلف النساء مع الازدحام، وكون المشي على تلك الهيئة؛ فيقع ما لا يرضي الله ولا رسوله بين يديه صلّى الله عليه وسلّم. وكيف يتمادى الناس على إقرار ذلك الآن؟ وهو ليس إلا لمجرد ما ذكرناه، فإنه كان بابا لدار، ولأن من هو بيده لا يملك شيئا من تلك الدور، ولو كان مالكها فليس وضعه لسوى دخول أهل تلك الدور منه، فإنه لم يجعل إلا ليدخل منه آل عمر إلى المسجد، لا لأن يأخذوا فلوسا على من يخرج من المسجد مارا منه، فقد كانوا منزهين عن ذلك. ثم لو سلمنا أن تلك الدور مستحقة للزيارة فزيارتها متيسرة من خارج المسجد، وكيف يتخذ المسجد طريقا، ويخص منه ما يكون بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم على تلك الحالة المنكرة لأجل شيء خسيس من الدنيا؟ ونحن نفديه صلّى الله عليه وسلّم بأنفسنا فضلا عن أموالنا، وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب التي كانت شارعة في المسجد إلا خوخة أبي بكر وإلا باب علي كما قدمناه، مع أن أهل تلك الأبواب إنما كان قصدهم بها التوصل إلى المسجد، فكيف يبقى باب بين يديه صلّى الله عليه وسلّم لا نفع له إلا أخذ شيء من الحطام على المرور منه؟ هذا ما لا يرضاه مؤمن يرى تعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
ثم إن هذا الطابق له قفل، وما حوله من الخشب فيه نوع نتوء، فقد رأيت من لا أحصيه من الخلق يتعثرون به، وربما سقط بعضهم لوجهه، ثم إنه إذا كثر الدوس عليه في ليالي الزيارات كليلة النصف من شعبان ونحوها يرتج تحت الأرجل حتى تزلزل الأرض زلزالها، وذلك يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد قدمنا أن عائشة رضي الله عنها كانت تسمع الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: وما عمل عليّ مصراعي داره إلا بالمناصع- وهو متبرز النساء ليلا خارج سور المدينة- توقيا لذلك.(2/229)
وروى يحيى في كتابه عن محمد بن يحيى بن زيد النوفلي عن أبيه عن الثقة عنده أن عائشة رضي الله عنها ذكرت أن بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم دعت نجارا فعلّق ضبة لها، وأن النجار ضرب المسمار في الضبة ضربا شديدا، وأن عائشة رضي الله عنها صاحت بالنجار كلمته كلاما شديدا وقالت: ألم تعلم أن حرمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميتا كحرمته حيّا؟ فقالت الآخرى: وماذا سمع من هذا؟ قالت: إنه ليؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوت هذا الضرب اليوم ما يؤذيه لو كان حيا.
حج السلطان قايتباي
ولم أزل منذ قدمت المدينة أنكر هذا الأمر بالقلب واللسان وكتابة البنان، ولكن لم أجد على ذلك معينا، لرسوخ الطباع العامية في التمسك بالعوائد الماضية من غير روية، وقد نبهت على إنكار ذلك في كتابي «الوفا، بما يجب لحضرة المصطفى» صلّى الله عليه وسلّم، ثم شافهت في أمره مولانا الهمام، سلطان ممالك الإسلام، ذا الشجاعة التي شاعت عجائبها، والشهامة التي ذاعت غرائبها، سلطان الإسلام والمسلمين، ووجهة القاصدين والآملين، السلطان الملك الأشرف قايتباي، جعل الله الممالك منظومة في سلك ملكه، وأقطار الأرض جارية في حوزه وملكه، فإنه لما حج سنة أربع وثمانين وثمانمائة بدأ بالمدينة النبوية لزيارة التربة المصطفوية على الحال بها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، فقدمها طلوع الفجر من يوم الجمعة الميمون الثاني والعشرين من ذي القعدة الحرام، فلبس لدخولها حلل التواضع والخشوع، وتحلى بما يجب لتلك الحضرة النبوية من الهيبة والخضوع، فترجّل عن جواده عند باب سورها، ومشى على أقدامه بين رباعها ودورها، حتى وقف بين يدي الجناب الرفيع، الحبيب الشفيع، صلّى الله عليه وسلّم، وناجاه بالتسليم، وفاز من ذلك بالحظ الجسيم، ثم ثنى بضجيعيه رضي الله تعالى عنهما بعد أن صلّى بالروضة الشريفة التحية، وعفّر وجهه في ساحتها السنية، وعرض عليه الدخول إلى المقصورة المستديرة حول جدار القبور الشريفة، المعروفة اليوم بالحجرة المنيفة، فتعاظم ذلك، وقال: لو أمكنني أن أقف في أبعد من هذا الموقف وقفت، فالجناب عظيم، ومن ذا الذي يقوم بما يجب له من التعظيم؟ ثم صلّى صبح الجمعة في الصف الأول بين فقراء الروضة عند أسطوان المهاجرين بالقرب من مصلاي، كان بيني وبينه إمامه شيخ الشيوخ الإمام العلامة نادرة الزمان وعين الأعيان برهان الدين الكركي، فسح الله في أجله، وأدام النفع به، ولم يكن بيني وبينه سابق معرفة، حتى إني لم أبدأه بسلام ولا كلام، وكذلك السلطان أعزه الله أنصاره وضاعف اقتداره، لم أتعرف إليه، ولم يكن ذلك في خلدي ولا عزمت عليه، ثم توجه السلطان بجماعته لزيارة عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمزة بن عبد المطلب ومن يليه من شهداء أحد رضوان الله عليهم، فمشى مترجلا(2/230)
كعادته، حتى خرج من باب المدينة، ولم يزل ذلك دأبه، فلم يركب بالمدينة جوادا حتى خرج منها، فلما كان وقت صلاة الجمعة حضر في ذلك المصلى فكان بيني وبينه إمامه المشار إليه أيضا، ثم قرأ شخص على شيخ المحدثين العلامة شمس الدين ابن شيخنا أبي الفرج العثماني مجلس ختم البخاري، وكأن الإمام المشار إليه تفرّس فيّ الاتصاف بطلب العلم، ففاتحني الكلام في بعض المسائل العلمية المتعلقة بذلك، فجاريته فيها، فرأيت كماله واضح البرهان، وفضله ظاهر العنوان، مع كمال الإنصاف في البحث، فانتسجت المودة حينئذ، ثم قام الإمام المشار إليه، واستمر السلطان جالسا، ثم بدأنا بالملاطفة، وشرفنا بالمحادثة، وخاض في شيء من العلم، فرأيت من تواضعه وحلمه وثقوب فهمه ما فاق الوصف، فأنشدته قول بعضهم:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر
ثم التقينا، فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
وأنهيت إليه أمر الطابق المذكور، وقلت في نفسي: لعل الله تعالى أرسل هذا السلطان المسعود وجمعني به من غير قصد ليفوز بتنزيه الحضرة الشريفة من ذلك، ويكون ذلك في صحائفه، وقد قدمنا ما حاوله الملوك الماضون من سدّه مع أن المفاسد التي قدمناها لم تكن موجودة في زمنهم، وإنما تركوه كما قدمناه لمانع، ولا مانع من سده اليوم بحمد الله تعالى، فوعد بذلك. ثم وقع الاجتماع بالإمام المشار إليه فكلمته في ذلك، وقلت له: بلغني أن من بيده مفتاح الطابق المذكور يجتمع له في كل سنة نحو عشرة دنانير من هذا الطابق، ولي معلوم في جهة هذا قدره في كل سنة، فأنا أنزل عنه لمن بيده ذلك المفتاح تطييبا لخاطره، فذكر ذلك للسلطان، فقال: نحن نرضيه من عندنا، ثم إنه نصره الله تعالى حضر لصلاة المغرب، فتفضل بالبداءة بالكلام، ولم يكن إمامه حاضرا، ولكنه سبق منه التربية التامة عنده، فسألني عن الآية المنقوشة في المصلى الشريف، وهي قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] الآية هل نزلت قبل المعراج وفرض الصلاة أم بعد ذلك؟ وكيف كان الاستقبال قبل نزولها؟ فشرعت في الجواب، فأقيمت الصلاة في أثناء ذلك، فلما قضى صلاته تنفل بست ركعات، ثم أقبل عليّ طالبا للجواب، فذكرت له تاريخ نزولها بالمدينة، وما فيه من الخلاف، وأن فرض الصلاة ليلة في المعراج كان بمكة، وما ذكروه في أمر استقبال بيت المقدس، وما حكي من الخلاف في تعدد نسخ القبلة، وصلاته صلّى الله عليه وسلّم بمكة بين الركنين اليمانيين جاعلا الكعبة بينه وبين بيت المقدس، إلى غير ذلك من الفوائد التي قدمناها في محلها من كتابنا هذا، واستمريت معه كذلك حتى صلينا العشاء الآخرة، فحصل منه في ذلك المجلس من الإكرام ما أرجو له به كمال المجازاة من صاحب الحضرة الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه.(2/231)
وفرق بالمدينة الشريفة مالا جزيلا ستة آلاف دينار أو أكثر، ودفع إليّ على يد إمامه المشار إليه من ذلك جزآ وافرا، وتكلمات معه في رفع مكوس المدينة وتعويض أميرها عن ذلك شيئا، فأفهم الوعد به، وسألني عن أمر دار العباس التي اشتريت له، وكانت سببا في قتل القضائي الزكوي تغمده الله تعالى برحمته لعدم السياسة في أخذها، فأخبرته بحقيقة الحال، فقال: لم لم تكتب إلّي بهذا؟ فاعتذرت له بعذر قبله، وتبرأ من جميع ما فعلوا فيها، ووعد بما يكون فيه صلاح أمرها، ثم وفى بذلك بعد عوده، فزادهم مبلغا كثيرا رضوا به، وتفضل بالتشريف بطلب الكتابة إليه بما يكون فيه صلاح أحوال المدينة والتنبيه على من يردها من المحتاجين.
ثم توجه في الرابع والعشرين من الشهر المذكور مصحوبا بالسلامة إلى مكة المشرفة ماشيا على أقدامه بين فقراء المدينة وفقهائها حتى خرج من باب المدينة، فوقف هناك، وقرأنا له الفاتحة، ثم ركب جواده، أدام الله تأييده وحرسه من الردى، وأنار له طرق الحق والهدى.
ثم قدمت مكة صحبة الحاج الشامي فوجدته قد سلك بها مسلك التواضع أيضا، وتصدق فيها بمال جزيل أكثر مما تصدق بالمدينة الشريفة.
ولما اجتمعت بإمامه المشار إليه بمكة المشرفة تذاكرنا الصدقة الشريفة بالمدينة الشريفة وعمومها، وما حصل بها من النفع، فذكرت له أن أربعة من فقراء المغاربة لم يأخذوا شيئا لملازمتهم لرباطهم، وعدم إتيانهم لمن كان يفرق، وأن شخصا آخر مستحقا كنت أود لو حصل له أكثر مما دفع له، فبلغ ذلك السلطان، فلما كان في أوسط أيام منى توجهت لوداع الإمام المشار إليه، فأشار بموادعة السلطان، فقلت له: أخشى أن يتوهم أن المجيء لقصد آخر، فقال: لا بد من موادعته، فتوجهنا إليه فحصل منه من الإكرام ما أطلب له الجزاء عليه من أكرم الأكرمين، ثم قال: أنتم ذكرتم للإمام كيت وكيت، فلم ينس ما تقدم ذكره من أمر جماعة الفقراء، فقلت له: نعم، فأمر لهم بمائة دينار أقسمها عليهم لكل واحد عشرون دينارا، ثم قال: هل بقي أحد؟ فقلت له: ما أستحضر أحدا، ورأيت له اهتماما تاما بتعميم جيران الحضرة الشريفة، ووادعني قائما وسأل عن أمر الطابق المذكور لما قدمنا مكة، وأمر بأن لا يفتح، وأن يسد بعد ذلك، فلما بلغ شيخ الخدام بالمدينة الشريفة منع من فتحه عند قدوم الحاج المصري في هذا العام، ولكن بقي سده، فإن الطريق في قطع الشر قلع أصوله، وقد وعد بسده.
وقف السلطان قايتباي لأهل المدينة المنورة
ثم إن السلطان أيده الله تعالى رجع إلى مصر مصحوبا بتأييد الله ونصره، فبلغنا أنه(2/232)
أبرز بعد وصوله ستين ألف دينار ليشتري بها أماكن تكون أوقافا يحمل ريعها إلى الحضرة الشريفة، ويعمل بها سماط كسماط الخليل عليه السلام، وهذا أمر لم يسبقه إليه أحد من ملوك الإسلام، والمسؤول من الله تعالى أن ييسر له ذلك.
وقد ألحقنا في الفصل التاسع والعشرين ما برزت به المراسيم الشريفة من إبطال المكوس، وتعويض أمير المدينة الشريفة عنها، وأنه وقف أماكن كثيرة يتحصل منها نحو سبعة آلاف وخمسمائة إردب من الحب كل سنة لعمل السماط المذكور، وليصرف من ذلك كفاية أرباب البيوت بالمدينة الشريفة، ثم وصول البهائي أبي البقاء بن الجيعان عظم الله شأنه بجملة من ذلك والصرف والتقرير وعمل السماط على الوجه السابق، والمرجو من الله تعالى دوام ذلك له؛ فإن الله تعالى قد أجرى على يديه من الخيرات ما لم يجتمع لأحد من الملوك قبله فمن ذلك ما تقدم من العمارة بالمسجد النبوي والحجرة الشريفة، وإبطال هذا الطابق المتقدم وصفه، ومن العجب أن من كان بيده هذا الطابق توجه إليه بمصر وسأل أن يمكّن من فتحه، فلم يجبه لذلك، وقرر له في الذخيرة بضعة عشر دينارا كل سنة عوضا عما كان يحصل له منه، ثم وردت المراسيم الشريفة بالإخبار بذلك، والأمر بسده، ولكن شق على بعض أهل الحظوظ النفسية تمام هذا الأمر والمتسبب فيه الفقير الحقير، فتسبب في تأخيره، فمات شيخ الخدام إنال الإسحاقي ولم يسده، فلما قدمت مصر عام سبع وثمانين وثمانمائة أنهيت للسلطان أن الطابق لم يسد، وخشيت أن يغضب بسبب ذلك على بعض الناس، فاعتذرت بأن موجب التأخير وفاة شيخ الحرم، فبرزت مراسيمه الشريفة لشيخ الحرم ومتولي العمارة الشمس بن الزمن بسده بالبناء، بحيث لا يفتح أبدا، وكان المعاكس في هذا الغرض قد أمال متولي العمارة إليه مع ما سبق في الفصل الثامن والعشرين من إيغار صدره مني، وكان هذا الطابق قد احترق وارتدم بعد أمر السلطان بسده في حريق سنة ست وثمانين وثمانمائة، وأثرت النار في قبوه تأثيرا عظيما، فأعاده متولي العمارة وأحكمه، وجعل له بابا، فلما وردت عليه المراسيم الشريفة بما سبق على يديّ أجاب بأنه يراجع السلطان في ذلك لأن تلك الدور صارت له.
ثم إن شيخ الحرم أنهى إلى السلطان ذلك، فبرزت المراسيم الشريفة بسده واللوم على تأخيره مع تكرر الأمر بذلك، فأمره متولي العمارة بتأخير ذلك ليراجع السلطان فيه، وقال:
إنه يجعل تلك الدور مزارات ليتم له ما أراده من بقاء ذلك الطابق، وتعجب الناس من إقدامه عليه، ثم بلغ السلطان ذلك مع أمور يطول شرحها؛ فغضب غضبا شديدا وبرز مرسومه بسده والوعيد التام على تأخيره، فسده شيخ الحرم بالبناء المحكم من خارج المسجد، ونزع باب طابقه، وردمه بالأتربة حتى ساوى أرض المسجد، ولم يبق له أثر، وذلك في رابع(2/233)
ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، وسرّ أهل الخير بذلك، وتضاعفت أدعيتهم للسلطان نصره الله تعالى، وهذا من أعظم محاسنه.
من آثار قايتباي بالحرمين الشريفين
ومن ذلك إجراء عين خليص بعد انقطاعها مرة بعد أخرى، وهي من أحسن مناهل الحج وأعذبها، وكذلك بركة الروحاء.
ومن ذلك عمارة مسجد الخيف بعد أن تهدم بأجمعه، وإنشاء المنارة والسبيل اللذين عند بابه، وإجراء المعلوم لمن يؤذّن بتلك المنارة ولمن يؤم بالمسجد المذكور.
ومن ذلك إحداث الظل بمقدم مسجد نمرة المنسوب لإبراهيم الخليل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وقد كان الحجاج يقاسون به شدة من حر الشمس في ذلك اليوم، فالله تعالى يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
ومن ذلك إجراء عين عرفة من بطن نعمان، بعد أن دثرت وانمحت معالمها واندرست، وعمارة بركها ومجاريها، حتى فاضت الأنهار بأقاصيها وأدانيها، وأوصلها إلى مسجد نمرة، وأنشأ به صهريجا يجتمع فيه الماء، فأذهب بذلك عن الحج الأعظم الظمأ، وقد كنت أرى الفقراء في كل سنة في ذلك اليوم لا يسألون غالبا إلا الماء، وكان من أعز الأشياء هناك، فلم يبق له طالب، ولله الحمد، سقاه الله بذلك من حوض الكوثر.
ومن ذلك المدرسة والرباط اللذان عمر هما بمكة المشرفة، ولا نظير لهما فيها.
ومن ذلك حجه في هذا العام، فإن ذلك لم يقع لأحد من ملوك مصر من نحو مائة وخمسين سنة، وكان آخر من حج منهم الملك الناصر محمد بن قلاوون، حج ثلاث حجات:
أولاها سنة عشر وسبعمائة، وثانيتها سنة عشرين، وثالثتها سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، ولم يحج أحد بعد ذلك من سلاطين مصر، وأرجو أن يفسح الله في أجل سلطاننا هذا حتى يدرك ذلك، ويتم له ما نواه من الخير بالحضرة النبوية.
وقد أنشأ بثغر اسكندرية برجا عظيما لم يسبق إليه، وشحنه بالأسلحة والجند.
ولما توجهت إلى زيادة بيت المقدس رأيت له فيه وفيما بين مصر وبينه من الآثار العظيمة ما لم أره من غيره من الملوك من المدارس والمساجد والقناطر، وهذا المحل لا يحتمل بسط ذلك، وإنما ذكرنا من آثاره الجميلة ما يتعلق بالحجاز لأنه محل الغرض.
وهو ملك مطاع، محظوظ، صبور، غير عجل، كثير الحياء والوقار والمهابة، إذا حاول أمرا لا يسرع فيه، بل يتأنى كثيرا، ويعظم أهل العلم ويجلهم.
وإنما أمتعنا بذكر ذلك هنا ليكون سببا في حث الواقف على ذلك على الدعاء لهذا الملك السعيد بإنجاح المطالب، ونيل المارب، ولتنبعث همة من جاء بعده من الملوك على أن(2/234)
يقتدي به في الخير فيصنع مثل ما صنعه، ونسأل الله تعالى أن يفسح في أجله، فقلّ أن يأتي بعده مثله.
الفصل الرابع والثلاثون فيما كان مطيفا بالمسجد الشريف من الدور، وما كان من خبرها، وجلّ ذلك من منازل المهاجرين رضي الله تعالى عنهم
رسول الله يخط دور المدينة
روى ابن سعد في طبقاته عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطّ الدور بالمدينة، فخط لبني زهرة في ناحية مؤخر المسجد، فكان لعبد الرحمن بن عوف الحش، والحش: نخل صغار لا يسقى.
وعنه أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خط الدور؛ فخط لبني زهرة في ناحية مؤخر المسجد؛ فجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود هذه الخطة عند المسجد.
وقال ياقوت: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا إلى المدينة أقطع الناس الدور والرّباع؛ فخط لنبي زهرة في ناحية من مؤخر المسجد، وكان لعبد الرحمن بن عوف الحش المعروف به، وجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود الهذليّين الخطة المشهورة بهم عند المسجد، وأقطع الزبير ابن العوام بقيعا واسعا، وجعل لطلحة بن عبيد الله موضع دوره، ولأبي بكر الصديق موضع داره عند المسجد، وأقطع كل واحد من عثمان بن عفان وخالد بن الوليد والمقداد وغيرهم مواضع درهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع أصحابه هذه القطائع، فما كان في عفائن الأرض فإنه أقطعهم إياه، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له فكان يقطع من ذلك ما شاء، وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان وهب له ذلك وأقطعه صلّى الله عليه وسلّم، انتهى.
دار آل عمر بن الخطاب
فأول الدور الشوارع حول المسجد من القبلة دار عبد الله بن عمر بن الخطاب التي فيها الخوخة المتقدم وصفها، وليست الدار المذكورة اليوم بيد أحد من آل عمر كما قدمناه، وقدمنا أن موضع هذه الدار كان مربدا أعطيته حفصة رضي الله تعالى عنها بدل حجرتها لما احتيج إلى إدخالها في المسجد، وفي رواية أن آل عمر أعطوا بدلها دار الرقيق وما بقي منها.
وقال ابن غسان، فيما نقله ابن شبة: وأخبرني مخبر أن تلك الدار- يعني دار آل عمر- كانت مربدا يتوضأ فيه أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما توفي استخلصته حفصة رضي الله عنها(2/235)
بثلاثين ألف درهم، فورثها عنها عبد الله بن عمر؛ فهي التي قال فيها عبد الله في كتاب صدقته: وتصدق عبد الله بداره التي عند المسجد التي ورث من حفصة.
بيت لأبي بكر الصديق صار لآل عمر
قال: وأخبرني مخبر قال: كان بيت أبي بكر الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سدوا عني هذه الأبواب- الحديث» بيد عبد الله بن عمر، وهو البيت الذي على يمينك إذا دخلت دار عبد الله من الخوخة التي في المسجد، فتلقاك هناك خوخة في جوف الخوخة التي هي الطريق مبوّبة، فتلك الخوخة خوخة أبي بكر.
قال: وكانت حفصة ابتاعت ذلك المسكن من أبي بكر مع الدار التي فوق هذه، أي التي في قبلتها كما سنبينه، قال: وتصدقت بتلك الدار على ولد عمر.
قلت: هذه الرواية الأخيرة ضعيفة كما قدمناه؛ ولذلك لم يبين قائلها، ولأنه في دور بني تيم لما ذكر دار أبي بكر التي ورد فيها الحديث المذكور لم يذكر هذه الرواية، بل اقتصر على الرواية المشهورة في أنها في غربي المسجد؛ فإن الخوخة الواردة فيها الحديث هي الشارعة في رحبة دار القضاء، ولذلك لما زادوا في المسجد أرادوا محاكاتها، فجعلوها خوخة شارعة هناك، ولم يجعلوها كبقية أبواب المسجد، ولأنه جزم في دور أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن عائشة رضي الله عنها اتخذت الدار التي يقال لها دار عائشة بين دار الرقيق وبين دار أسماء بنت أبي بكر فتصدقت بها.
قلت: فإن كانت دار الرقيق هي بيت حفصة فبيت عائشة إلى جنبه، والمعروف عند الناس أن البيت الذي على يمين الخارج من خوخة آل عمر المذكورة هو بيت عائشة رضي الله عنها، فلعل الاشتباه في نسبته إلى أبي بكر رضي الله عنه نشأ من ذلك، مع أن الذي اقتضاه كلام المؤرخين أن البيت المذكور عن يمين الخوخة هو بيت آل عمر، وأن دار عائشة ليست في هذا المحل، وهذه الدار المذكورة- أعني التي على يمين الداخل من الخوخة- وقف ناظره شيخ الخدام، وبلغني أن واقفها اشترط ألايسكنها متزوج، وبابها اليوم شارع في القبلة، ولها شباك عن يمين الخوخة لعله كان في موضع بابها الأول لما كانت الخوخة شارعة في الدار المذكورة، وأما البيت الذي عن يسار الخوخة فوقفة أيضا ناظره شيخ الخدام، وبابه ليس شارعا عند الخوخة، بل بعيد منها في المغرب، وهو آخر الدور الآتي ذكرها، ومقتضى ما سيأتي عن ابن شبة وابن زبالة أن الدار المعروفة اليوم بدار عائشة والدارين اللتين إلى جانبها الغربي في قبلة المسجد من جملة دار آل عمر؛ لأنهما قالا: في الدور الشوارع من القبلة دار عبد الله بن عمر، ثم دار مروان الآتي ذكرها، وأما الدار الثانية التي تقدمت الإشارة إليها في كلام أبي غسان من دور حفصة فوق هذه فقد ذكرها بقوله: وكانت لحفصة(2/236)
الدار التي بين زقاق عبد العزيز بن مروان الذي أدخل في دار مروان دار الإمارة وبين زقاق عاصم بن عمر بابها شارع قبالة دير أطم بني النجار الذي يدعى فويرعا، فتصدقت بها على ولد عمر؛ فهي بأيديهم صدقة منها.
قلت: وهذا الوصف منطبق اليوم على دار قاضي الشافعية أبي الفتح بن صالح وما لاصقها من جهة الشام؛ لأن زقاق عاصم هو الزقاق الشارع باب هذه الدار فيه الآخذ منها إلى جهة القبلة والميضأة، ولأن فويرعا كان فيما بينها وبين المدرسة الشهابية كما سيأتي بيانه، وعلى هذا فزقاق عاصم هو الذي في شاميها، دخل بعضه فيما حاذى دار مروان، وبقي منه ما يفرق بين دار آل عمر هذه والدار التي لها الخوخة، والله أعلم.
دار مروان بن الحكم
ثم يلي دار عبد الله بن عمر ذات الخوخة في قبلة المسجد من غربيها دار مروان بن الحكم، قال ابن زبالة: وكان بعضها للنحام- يعني نعيم بن عبد الله من بني عدي- وبعضها من دار العباس بن عبد المطلب، فابتاعها مروان فبناها وجعل فيها دارا لابنه عبد العزيز بن مروان، ثم ذكر خبر أبوابها المتقدم ذكره في أبواب المسجد.
وروى ابن زبالة في ذيل زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد، عن غير واحد منهم محمد بن إسماعيل عن أبيه أنه كانت فيها نخلات، فابتاع مروان من آل النحام كل نخلة وموضعها بألف درهم، وكن ثمانيا أو اثنتي عشرة، فرأى الناس أن مروان قد أغلى، فلما وجب له البيع عقرهن وبناها دارا فغبطه الناس.
ونقل ابن شبة عن بعضهم أن دار مروان بن الحكم التي ينزلها الولاة إلى جنب المسجد- يعني الدار المذكورة- كانت مربدا لدار العباس التي دخلت في المسجد، فابتاعها مروان، فسمعت من يقول: كانت القبة التي كانت في دار مروان وحجرتها التي تلي المسجد عن يسار من دخل الدار للنحام أخي بني عدي بن كعب، وكانت فيها نخلات، فابتاعها مروان من النحام بثلاثمائة ألف درهم، وأدخلها في داره، فذلك الموضع ليس من المربد الذي ابتاع من العباس.
وذكر ابن شبة في موضع آخر أن دار مروان صارت في الصّوافي، أي: لبيت المال.
قلت: وفي موضعها اليوم كما قدمناه الميضأة التي في قبلة المسجد عند باب السلام، وما في شرقيها إلى دور آل عمر، قال ابن زبالة وابن شبة: وإلى جنبها- يعني: دار مروان- في المغرب دار يزيد بن عبد الملك التي صارت لزبيدة، وكان في موضعها دار لآل أبي سفيان ابن حرب، كانت أشرف دار بالمدينة بناء وأذهبه في السماء. ودار كانت لآل أبي أمية بن المغيرة، فابتاعها يزيد، وأدخلها في داره، وهدمها، وكان بعض أهل المدينة وفد على(2/237)
يزيد ابن عبد الملك وقد فرغوا من بناء داره، فسأله عنها، فقال: ما أعرف لك أصلحك الله بالمدينة دارا، فلما رأى ما في وجهه قال: يا أمير المؤمنين، إنها ليست بدار، ولكنها مدينة، فأعجب ذلك يزيد.
دار رباح ودار المقداد
قلت: وفي موضع هذه الدار اليوم ما يقابل الميضأة في المغرب من دار الأشراف العباسا والدار الملاصقة لها في المغرب المشتراتين للسلطان، وقد أضافوا إليهما ما في قبلتهما من الدور.
وقد ذكر ابن شبة أن رباحا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتخذ دارا على زاوية دار يزيد بن عبد الملك الغربية اليمانية، وأن المقداد بن الأسود حليف بني زهرة اتخذ دارا بين بيت رباح مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين زقاق عاصم، فتكون هذه الدار على زاوية دار يزيد الشرقية اليمانية، فهما من جملة ما اشترى للسلطان اليوم. وبين الميضأة وبين هذه الدور زقاق لعله متصل بزقاق عاصم بن عمر، إلا أن ابن زبالة وابن شبة لم يذكراه، قالا: ثم وجاه دار يزيد دار أويس بن سعد بن أبي سرح العامري. قال ابن شبة في هذه الدار: أخبرت أنها كانت لمطيع بن الأسود فناقل بها العباس إلى الدار التي بالبلاط يقال لها دار مطيع، وزاده عشرة آلاف درهم، ثم باعها العباس من عبد الله بن سعد بن أبي سرح بثلاثين ألف درهم، فسكنها بنو أخيه؛ فهي الدار التي يقال لها دار أويس عند دار يزيد بن عبد الملك بالبلاط، وقد سمعنا من يذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقطع مطيعا داره تلك، فالله أعلم أي ذلك كان.
قلت: وموضع دار أويس اليوم المدرسة الباسطية التي أنشأها القاضي عبد الباسط سنة بضع وأربعين وثمانمائة، وما في شرقيها من مؤخر المدرسة المعروفة اليوم بالحصن العتيق المتقدم ذكرها، فذلك كله يواجه دار يزيد المذكورة، ويفصل بينهما بلاط باب السلام.
دار مطيع بن الأسود
قالا: ثم إلى جنب دار أويس- أي في المغرب- دار مطيع بن الأسود العدوي، أي المتقدم ذكر قصتها وأنها كانت للعباس رضي الله تعالى عنه، قال ابن شبة: أي: المتقدم ذكر قصتها وأنها كانت للعباس رضي الله تعالى عنه، قال ابن شبة: ويقال لها دار أبي مطيع، وعندها أصحاب الفاكهة، وزاد في قصتها أنه بلغه أيضا أن حكيم بن حزام ابتاعها هي وداره التي من ورائها بمائة ألف درهم، فشركه ابن مطيع، فقاومه حكيم، فأخذ ابن مطيع داره بالثمن كله وبقيت دار حكيم في يده ربحا، فقيل لحكيم: خدعك، فقال: دار بدار ومائة ألف درهم، وكان يقال لدار أبي مطيع العنقاء، قال لها الشاعر:
إلى العنقاء دار أبي مطيع(2/238)
وبين يدي دار أبي مطيع أبيات ليزيد بن عبد الملك فيها الغسالون، يقال: إن يزيد كان ساوم آل مطيع بدارهم، فأبوا أن يبيعوها، فأحدث عليهم تلك البيوت، فسدّ وجه دارهم، فهي تدعى أبيات الضّرار، وهي مما صار للخيزران.
قلت: وموضع دار أبي مطيع اليوم الدار التي في غربي المدرسة الباسطية التي اشتراها وكيل الخواجا ابن الزمن، وفي غربيها سوق المدينة اليوم، وهو من البلاط، وموضعه عندها هو المراد بقول ابن شبة: وعندها أصحاب الفاكهة، فكأن الفاكهة كانت تباع فيه حينئذ.
دار حكيم بن حزام
وأما دار حكيم التي ذكر أنها من ورائها فمحلها اليوم الدار التي في شامي هذه الدور التي عندها درج العين بالسوق المذكور، قال ابن شبة في دور بني أسد: واتخذ حكيم بن حزام داره الشارعة على البلاط إلى جنب دار مطيع بن الأسود، بينها وبين دار معاوية بن أبي سفيان، يحجز بينها وبين دار معاوية الطريق، ومراده بالبلاط الموضع الذي به سوق المدينة اليوم أمام المدرسة الزمنية الممتد منها إلى الشام.
وقوله «يحجز بينها- أي: دار حكيم ودار مطيع- وبين دار معاوية الطريق» أي: البلاط المذكور؛ فالظاهر: أن دار معاوية هذه هي المقابلة لها بين الدارين في المغرب، وهناك في مقابلتها اليوم رباط جدد أنشأه الفخر ناظر الجيوش بمصر سنة تسع عشرة وسبعمائة بابه شارع في سوق المدينة اليوم ودار خربة.
وقال ابن شبة أيضا في دور بني عدي بن كعب: اتخذ النعمان بن عدي داره التي صارت لمحمد بن خالد بن برمك وبناها، وفي الشارعة عند الخياطين بالبلاط عند أصحاب الفاكهة ابتاعها من آل النحام وآل أبي جهم، وكانت صارت لهم مواريث، انتهى.
دار عبد الله بن مكمل
ومحل هذه الدار إما الدار الخربة التي إلى جانب الرباط الشارع في السوق، أو المدرسة الزمنية، والله أعلم.
ولنرجع إلى ذكر الدور المطيفة بالمسجد.
قال ابن شبة: وفي غربي المسجد دار عبد الله بن مكمل الشارعة في رحبة القضاء، وهي مما يتشاءم به، وذلك مما نشأ عن بنائها.
وقال في دور بني زهرة: كان عبد الرحمن بن عوف وهبها لابن مكمل، فباعها آله من المهدي؛ فهي بأيدي ولده اليوم خراب إلى جنب المسجد، أي قبل أن تبنى رحبة القضاء.
قال: وهي التي يقولون: إن أهلها قالوا: يا رسول الله، اشتريناها ونحن جميع فتفرقنا، وأغنياء فافتقرنا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتركوها فهي ذميمة.(2/239)
وقال ابن زبالة: هي التي يجلس إلى ركحها «1» صاحب الشرط، وإليها أصحاب الفاكهة، وهم يهابون بناءها ويتشاءمون بها؛ فهي على حال ما اشتريت عليه.
وقد ترجم في الموطأ لما يتقى من الشؤم، وروى فيه عن يحيى بن سعيد أن امرأة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقلّ العدد وذهب المال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوها ذميمة» ورواه البزار بنحوه عن ابن عمر، إلا أنه قال فيه: إن قوما جاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وزاد فيه: فقالوا: يا رسول الله كيف ندعها؟ قال:
«بيعوها أو هبوها» .
وقال البزار: أخطأ فيه صالح بن أبي الأخضر، والصواب أنه من مرسلات عبد الله بن شداد، وروى الطبراني نحوه عن سهل بن حارثة الأنصاري، وفيه يعقوب بن حميد بن كاسب وثقه ابن حبان وغيره وضعفه جماعة.
قلت: وفي موضع دار ابن مكمل اليوم المدرسة المعروفة بالجوبانية من بابها إلى آخر رباطها الذي في غربيها، بل يؤخذ مما سبق عن ابن زبالة من جلوس أصحاب الفاكهة إليها أنها كانت تمتد إلى سوق الصواغين اليوم؛ لما تقدم من بيان أصحاب الفاكهة، ولما سيأتي في الدار التي بعدها.
دار النحام
وفي المغرب أيضا دار النحام العدوي. وعبارة ابن زبالة وابن شبة: وفي غربي المسجد دار ابن مكمل ودار النحام، الطريق بينهما قدر ستة أذرع.
وقال ابن شبة في دور بني عدي: واتخذ النحام نعيم بن عبد الله داره التي بابها وجاه زاوية رحبة دار القضاء، وشرقيها الدار التي قبضت عن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك التي كانت بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية فهي بيد ولده على حوز الصدقة.
قال: وأخبرني مخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حازها له قطيعة منه.
قلت: ودار جعفر المذكورة هي المواجهة لباب الرحمة؛ فعلم بذلك أن دار النحام هذه كانت في مقابلة باب المدرسة الجوبانية المتقدم ذكرها في بيان رحبة القضاء عند ذكر باب زياد، وأن الطريق التي بين دار النحام ودار ابن مكمل هي البلاط الآخذ من باب الرحمة إلى السوق، وعلم بذلك أن رحبة القضاء كانت تمتد من جهة باب الرحمة إلى باب الجوبانية.
دار جعفر بن يحيى
ثم إلى جنب دار النحام دار جعفر بن يحيى التي دخل فيها بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية. وأطم حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه المسمى بفارع.
__________
(1) الرّكح: الرّكن. والناحية والجانب. والساحة والفناء. (ج) أركاح وركوح.(2/240)
قلت: وقد تقدم بيان محلها في باب الرحمة، وأنه اليوم هو البيت المواجه لباب الرحمة، وهو كان موضع بيت عاتكة، وما في شامية من المدرسة الكبرجية وهو موضع الأطم.
دار نصير
ثم إلى دار جعفر بن يحيى دار نصير صاحب المصلى، كانت بيتا لسكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، ثم إلى جنبها الطريق إلى دار طلحة بن عبيد الله ستة أذرع.
قلت: وقد تقدم في أبواب جهة المغرب أن في محل دار نصير اليوم الدار المعروفة بتميم الداري، والتي في شاميها إلى الطريق التي تدخل منها إلى دور القياشين التي صارت للخواجا قاوان، وهذه الطريق هي المرادة هنا، وتلك الدور هي دور طلحة بن عبيد الله، وفي شرقيها دار منيرة الآتي ذكرها.
قال ابن شبة في دور بني تيم: واتخذ طلحة بن عبيد الله داره بين دار عبد الله بن جعفر التي صارت لمنيرة وبين دار عمر بن الزبير بن العوام، ففرقها ولده من بعده ثلاثة أدور، فصارت الدار الشرقية اللاصقة بدار منيرة ليحيى بن طلحة، وصارت التي تليها لعيسى بن طلحة، وصارت الآخرى لإبراهيم بن محمد بن طلحة.
قلت: ودار عمر بن الزبير التي في غربي دار طلحة ملاصقة لدار عروة بن الزبير، قال ابن شبة: اتخذهما الزبير وتصدق بهما عليهما وعلى أعقابهما، وهما متلازقتان عند خوخة القوارير، انتهى.
وفي نهاية الطريق إلى دور القياشين خوخة كانت شارعة في المغرب عند سوق العطارين، الظاهر أنها المراد بخوخة القوارير.
دار منيرة مولاة أم موسى
ثم إلى جنب الطريق إلى دور طلحة دار منيرة مولاة أم موسى، كانت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
قلت: وقد بينا محلها في أول أبواب المسجد من جهة المغرب، ويستفاد منه أنها كانت من طريق دور القياشين إلى ما يحاذي نهاية المسجد.
ثم إلى جنبها خوخة آل يحيى بن طلحة.
قلت: وهناك اليوم زقاق لطيف خلف الفرن المحاذي لقرب مؤخر المسجد من المغرب، يعرف بزقاق عانقيني، هو المراد بذلك؛ لأن بعض الدور التي فيه يسلك منها إلى دور القياشين التي هي دور طلحة.
حش طلحة
ثم إلى جنب خوخة آل يحيى بن طلحة بن أبي طلحة الأنصاري وهو اليوم خراب صوافي عن آل ابن برمك.(2/241)
قلت: والظاهر أن في محله اليوم الفرن المتقدم ذكره وما حوله.
وقد قدمنا في زيادة المهدي ما ذكره ابن شبة في إدخاله صدر دار آل شرحبيل بن حسنة التي كانت لأم حبيبة رضي الله تعالى عنها في مؤخر المسجد.
قال ابن شبة عقب ذلك: ثم باعوا بقيتها من يحيى بن خالد بن برمك فهدمها حين هدم حش طلحة، ثم صارت براحا في الصوافي، ثم بنى في موضعها الناس بأكثر من أصحاب الصوافي؛ فعلم بذلك أن حش طلحة كان ينعطف على المسجد من جهة الشام، وسيأتي في ذكر البلاط ما يصرح بذلك، والظاهر أن بقية دار شرحبيل من الحش المذكور هو ما حاذى الميضأة التي في شامي المسجد من المغرب، بدليل ما سيأتي، والله أعلم.
ثم إلى جنب حش طلحة الطريق خمسة أذرع.
قلت: وهذه الطريق هي التي في شامي الميضأة المتقدم ذكرها، يتوصل منها إلى رباط الشيخ شمس الدين الششتري.
أبيات خالصة
ثم إلى جنب الطريق أبيات خالصة مولاة أمير المؤمنين، وهي دار حباب مولى عتبة بن غزوان.
قلت: وفي موضعها اليوم دار أحد رئيسي مؤذني المسجد، وما يليها من المارستان الذي أنشأه المنتصر بالله، وما يليه من رباط الظاهرية، كما تقدم في ذكر أبواب المسجد.
دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف
ثم إلى جنب أبيات خالصة دار أبي الغيث بن المغيرة بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهي صدقة.
وذكر ابن شبة في دور بني زهرة أن من دور عبد الرحمن بن عوف التي اتخذها الدار التي يقال لها الدار الكبرى دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف بحش طلحة.
قال: وإنما سميت الدار الكبرى لأنها أول دار بناها أحد من المهاجرين بالمدينة، وكان عبد الرحمن ينزل فيها ضيفان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكانت أيضا تسمى دار الضيفان، فسرق فيها بعض الضيفان، فشكا ذلك عبد الرحمن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد بنى فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده فيما زعم الأعرج، وهي بيد بعض ولد عبد الرحمن بن عوف.
قلت: وهي غير دار عبد الرحمن بن عوف المعروفة بدار مليكة التي تقدم أنها دخلت في المسجد.
وفي شامي المسجد اليوم مما يلي الشرق دار تعرف بدار المضيف، فلعل تسميتها بذلك لكونها في موضع دار الضيفان المذكورة، لكن ذكر الدار الآتية بعدها قبل جهة المشرق يبعد(2/242)
ذلك، فكأن الجانب الغربي من دار المضيف وما حوله في المغرب من الساباط وبعض رباط الظاهرية في موضع الدار المذكورة.
ثم إلى جنب دار أبي الغيث بقية دار عبد الله بن مسعود، كانت لجعفر بن يحيى، وقد قبضت صافية عنه.
قلت: قد قدمنا أنها كانت تدعى دار القراء، وأن بعضها دخل في زيادة الوليد، وبقيتها في زيادة المهدي، فكأن المراد بعض بقيتها، بدليل ما هنا، ومع ذلك فأنا أستبعد أن يبقى منها بقية في جهة الشام، سيما إذا كان المهدي قد زاد مائة ذراع.
ثم يضاف لذلك ما زاده الوليد منها، وعرض الرحبة التي في شامي المسجد، وأيّ دار يكون طولها هذا المقدار فضلا عن أن يبقى بعد ذلك منها بقية؟ وموضع ما وصفوه اليوم هو ما يلي المشرق من الدار المعروفة بدار المضيف المتقدم ذكرها، والله أعلم.
دار موسى المخزومي
قال ابن زبالة وابن شبة: ثم من المشرق دار موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، كان ابتاعها هو وعبيد الله بن حسين بن علي بن حسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، فتقاوماها، فظن عبيد الله أن موسى لا يريد إلا الربح، فأسلمها عبيد الله فصارت لموسى.
قلت: وظاهر ذلك أن الدار المذكورة أول جهة المشرق مما يلي الشام، وفي موضعها اليوم- كما قدمناه في ذكر أبواب المسجد- بيت بعض رئيسي المؤذنين الذي يلي دار المضيف، وما يليه من الميضأة المعطلة اليوم، وبين ذلك وبين دار المضيف زقاق يعرف بخرق الجمل يتصل إلى الدور الملاصقة لسور المدينة، ولعله المعروف قديما بزقاق جمل؛ فإن ابن شبة ذكر أن فاطمة بنت قيس اتخذت دارا بين دار أنس بن مالك وبين زقاق جمل، ودار أنس بن مالك ذكر أنها في بني جديلة، وهي في شامي سور المدينة.
ثم إلى جنب دار موسى أبيات قهطم دار موسى ودار عمرو بن العاص، وهي- يعني دار عمرو- صدقة من عمرو، وهي اليوم صوافي: أي أبيات قهطم، هذه عبارة ابن شبة.
وعبارة ابن زبالة «وإلى جنبها أبيات فيها قهطم، وهو صوافي» .
والطريق بين دار موسى بن إبراهيم وبين دار عمرو بن العاص السهمي، وهي اليوم لهم صدقة.
أبيات الصوافي
قلت: وأبيات قهطم هي التي سماها ابن زبالة في ذكر الكتابة على أبواب المسجد أبيات الصوافي، وسمى الطريق التي ذكرها هنا بزقاق المناصع، لكن كلام ابن شبة يقتضي(2/243)
كون أبيات قهطم المذكورة بين دار موسى وبين دار عمرو بن العاص؛ فتكون الطريق المذكورة بين أبيات قهطم وبين دار عمرو بن العاص، فلنحمل كلام ابن زبالة على ذلك، ويكون قوله «والطريق بين دار موسى» يعني وما يليها من أبيات قهطم وبين دار عمرو بن العاص.
دار خالد بن الوليد
وقد قدمنا أن في محل أبيات الصوافي رباط الفاضل والدار المعروفة بدار الرسام وقف السلامي والباب الذي يدخل منه إلى رباط السلامي، وموضع دار عمرو بن العاص اليوم مؤخر رباط السبيل الذي يسكنه الرجال، وهو مما يلي الشام منه، والطريق التي بينه وبين رباط الفاضل هي زقاق المناصع، وليست اليوم نافذة كما تقدم؛ ويؤخذ مما قدمناه في زيادة المهدي أنه كان عندها رحبة تسمى برحبة المشارب، والله أعلم.
ثم إلى جنب دار عمر ودار خالد بن الوليد. قال ابن شبة وابن زبالة: وهي بيد بني أتوب بن سلمة- يعني ابن عبد الله بن الوليد بن المغيرة- زاد ابن زبالة: أن أيوب بن سلمة اختصم فيها هو وإسماعيل بن الوليد بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة، يقول أيوب: هي ميراث وأنا أرثها دونكم بالقعد، أي لأنه أقرب عصوبة، ويقول إسماعيل: هي صدقة، أي فيدخل فيها القريب وإن بعد، فأعطيها أيوب ميراثا بالقعد، انتهى.
وهذا لأن أيوب المذكور كما ذكر ابن حزم وارث آخر من بقي من ولد خالد بن الوليد، قال: لانقراض ولد عمه خالد بن الوليد كلهم. قال: وكان قد كثر ولد خالد بن الوليد حتى بلغوا نحو أربعين رجلا، وكانوا كلهم بالشام، ثم انقرضوا كلهم في طاعون وقع فلم يبق لأحد منهم عقب، انتهى. وروى ابن زبالة عن يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: شكا خالد بن الوليد ضيق منزله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ارفع البناء في السماء وسل الله السّعة» ورواه ابن شبة، إلا أنه قال: فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتسع في السماء» وذكر من رواية الواقدي أن خالد بن الوليد حبس داره بالمدينة لا تباع ولا توهب.
قلت: وفي موضعها اليوم مقدم رباط السبيل المتقدم ذكره، وذلك يدل على صغرها، بخلاف غيرها من الدور، ولذلك شكا ضيقها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
دار أسماء بنت حسين
ثم إلى جنبها دار أسماء بنت الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكانت من دار جبلة بن عمر الساعدي.
قلت: وقد قدمنا ذكر حالها، وبيان محلها، في خامس أبواب المسجد.(2/244)
دار ريطة
ثم إلى جنبها دار ريطة بنت أبي العباس، وكانت من دار جبلة ودار أبي بكر الصديق، قاله ابن زبالة.
قلت: مراده أنه أدخل في دار ريطة من شرقيها ما يليها من دار أبي بكر الصديق [لا] أن دار أبي بكر كانت على سمتها في محاذاة المسجد، كما توهمه المطري فجعل دار ريطة هي دار أبي بكر، وأنها المدرسة المقابلة لباب النساء كما قدمناه عنه، والصواب أن دار أبي بكر كانت خلف المدرسة المذكورة في جهة المشرق؛ لأن ابن شبة قال في دور بني تيم: اتخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه دارا في زقاق البقيع قبالة دار عثمان رضي الله عنه الصغرى، وذكر أن دار عثمان الصغرى هي التي بنحو زقاق البقيع إلى جنب دار آل حزم الأنصاريين.
وذكر في خبر مقتل عثمان رضي الله عنه ما يقتضي أن هذه الدار الصغرى كانت متصلة بداره الكبرى الآتي ذكرها، وأن قتلته تسوّروا ودخلوا عليه منها. وفي موضعها اليوم الرباط المعروف برباط المغاربة، ويعرف برباط سيدنا عثمان؛ فعلم بذلك أن دار أبي بكر كانت في مقابلة ذلك من جهة الشام؛ فتكون في محل الدور التي في شرقي المدرسة المذكورة إلى ما يحاذي الرباط المذكور، ولا يبعد أن يكون بعضها دخل في المدرسة المذكور، ودار أبي بكر هذه هي المرادة بما رواه ابن سعد في طبقاته عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه مرض مرضه الذي مات فيه وهو نازل يومئذ في داره التي قطع له النبي صلّى الله عليه وسلّم وجاه دار عثمان بن عفان، أي الصغرى، والله أعلم.
دار عثمان بن عفان
ثم الطريق بين دار ريطة وبين دار عثمان- يعني العظمى- خمسة أذرع، قاله ابن زبالة وابن شبة. ونقل المطري عن ابن زبالة أن الطريق بينهما سبعة أذرع، والذي ذكره ابن زبالة ما قدمناه، وهي اليوم نحو ذلك، ويعرف بطريق البقيع.
ثم دار عثمان رضي الله عنه. وروى ابن سعد في طبقاته عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: لما أقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدور بالمدينة خطّ لعثمان بن عفان داره اليوم، ويقال:
إن الخوخة التي في دار عثمان اليوم وجاه باب النبي صلّى الله عليه وسلّم التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج منها إذا دخل بيت عثمان، هذا لفظ ابن سعد.
قلت: وهذه الدار هي التي عبر عنها ابن شبة بقوله «واتخذ عثمان رضي الله عنه داره العظمى التي عند موضع الجنائز فتصدق بها على ولده فهي بأيديهم صدقة» وقد قدمنا أن في محلها اليوم رباط الأصفهاني وتربة أسد الدين شير كوه عم السلطان صلاح الدين بن أيوب ومعه فيها والد صلاح الدين أيضا، والدار التي يسكنها مشايخ الخدام.(2/245)
دار أبي أيوب الأنصاري
ثم بعد دار عثمان في القبلة الطريق خمسة أذرع، أو نحو ذلك، ثم منزل أبي أيوب الأنصاري الذي نزله النبي صلّى الله عليه وسلّم، وابتاعه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وجعل فيه ماءه الذي يسقى في المسجد.
قلت: قد قدمنا في الفصل الرابع عشر من الباب الثالث شرح حال هذه الدار، وأن الملك المظفر شهاب الدين غازي اشترى عرصتها وبناها مدرسة ووقفها على المذاهب الأربعة.
دار جعفر الصادق
ثم إلى جنب منزل أبي أيوب دار جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم التي يسقى فيها الماء، التي تصدق بها جعفر، وكانت لحارثة بن النعمان الأنصاري.
قلت: في موضعها اليوم العرصة الكبيرة التي في قبلة المدرسة الشهابية، وفيها محراب قبلة مسجد جعفر الصادق وأثر محاريب، وهي الآن ملك الأشراف المنايفة، ثم انتقلت منهم للشجاعي شاهين الجمالي شيخ الحرم، ابتناها مسكنا له.
دار حسن بن زيد
وقبالتها- أي: في المغرب- دار حسن بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وهو أطم كان حسن ابتاعه فخاصمه فيه أبو عوف النجاري، فهدمه حسن، فجعله دارا.
قلت: وهو الأطم الذي يدعى بفويرع، وفي موضع هذه الدار اليوم بيت الأشراف المنايفة الذي عليه ساباط متصل بالمدرسة الشهابية، والبيت الذي في قبلته وما في غربيها إلى دار القضاة بني صالح.
دار فرج الخصي
والطريق خمسة أذرع بينها- أي: بين دار حسن المذكورة- وبين دار فرج الخصي أبي مسلم مولى أمير المؤمنين، وكانت دار فرج من دور إبراهيم بن هشام، وهي قبلة الجنائز، كان فيها سرب تحت الأرض يسلكه إبراهيم إلى داره دار التماثيل التي كان ينزل بها يحيى بن حسين بن زيد بن علي.
قلت: أما الطريق المذكورة فهي الآخذة من باب المدرسة الشهابية إلى بيت بني صالح، ودار فرج المذكورة هي الرباط المعروف برباط مراغة، والطريق المذكورة بينه وبين دار المنايفة، وأما دار التماثيل التي كان يتوصل إليها ابن هشام بالسرب المذكور فلم يبينها ابن(2/246)
زبالة ولا ابن شبة، غير أنه كان شخص شرع في عمارة الميضأة التي بباب السلام المتقدم ذكرها في دار مروان فوجد سربا تحت الأرض مقبوا عند ركنها القبلي مما يلي المغرب، وعنده باب الخربة المعروفة بدار الخرازين، وشرعوا في عمارتها- أي دار الخرازين- بدلا من رباط الحصن العتيق. وقد دخلتها قبل هدمها، فرأيت فيها صناعات غريبة في البناء من صناعات الأقدمين، فترجّح عندي بقرينة وجود السرب عندها ووجود ذلك بها أنها المرادة بدار التماثيل، والله أعلم.
دار عامر بن الزبير بن العوام
ثم إلى جنب دار فرج الخصي دار عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام، وكان ابن هشام- حين بنى داره- أخذ بعض حق عامر، فقال له عامر: فأين طريقي؟ قال: في النار، قال عامر: تلك طريق الظالمين.
قلت: وموضعها اليوم البيت الموقوف الذي بيد الخدام، وهو عن يسار الخارج من خوخة آل عمر، ويسمونه اليوم بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم ترجع إلى دار عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه من حيث ابتدأت.
قلت: وذكر ابن شبة في دور بني هاشم أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه اتخذ الدار التي صارت لآل فرافصة الحنفيين ولآل وردان دبر زقاق عاصم بن عمر، اه.
وقد تقدم في ذكر سدّ الأبواب إلا ما استثنى ما يقتضي أن حمزة رضي الله تعالى عنه كان له طريق إلى المسجد، وتقدم بيان زقاق عاصم؛ فتحصل من ذلك أن دار حمزة رضي الله تعالى عنه كانت في قبلة المسجد، وهي غير معلومة المحل، والله أعلم.
الفصل الخامس والثلاثون في البلاط، وبيان ما ظهر لنا مما كان حوله من منازل المهاجرين
تحديد مكان البلاط
وقد بوّب البخاري في صحيحه لمن عقل بعيره على البلاط أو باب المسجد، وأورد فيه حديث جابر قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، فدخلت إليه، وعقلت الجمل في ناحية البلاط، وبوب أيضا للرجم بالبلاط، وأورد فيه حديث اليهوديين اللذين زنيا، قال ابن عمر: فرجما عند البلاط. وفي رواية لابن عمر: فرجما قريبا من موضع الجنائز.
وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجم اليهوديين عند باب المسجد.
وفي الحديث أن عثمان رضي الله تعالى عنه أتى بماء فتوضأ بالبلاط.
وهذا كله مقتض لأن البلاط كان قديما قبل ولاية معاوية رضي الله عنه.(2/247)
وفيما قدمناه ما يبين أنه كان في شرقي المسجد في ناحية موضع الجنائز، وظاهر كلام ابن زبالة وابن شبة أن أول حدوثه في زمن معاوية رضي الله عنه؛ فإنهما رويا عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله قال: بلّط مروان بن الحكم البلاط بأمر معاوية رضي الله عنه، وكان مروان بلط ممر أبيه الحكم إلى المسجد، وكان قد أسن وأصابته ريح، فكان يجر رجليه فتمتلئان ترابا، فبلطه مروان بذلك السبب، فأمره معاوية بتبليط ما سوى ذلك مما قارب المسجد ففعل، وأراد أن يبلط بقيع الزبير فحال ابن الزبير بينه وبين ذلك، وقال:
تريد أن تنسخ اسم الزبير، ويقال: بلاط معاوية؟ قال: فأمضى مروان البلاط، فلما حاذى دار عثمان بن عبيد الله ترك الرحبة التي بين يدي داره فقال له عبد الرحمن بن عثمان: لئن لم تبلّطها لأدخيلنها في داري، فبلطها مروان.
واقتصر عياض في بيان البلاط على ما في غربي المسجد منه، فقال: البلاط موضع مبلط بالحجارة بين المسجد والسوق بالمدينة، انتهى.
وقد تبع في ذلك أبا عبيد البكري، وفيه نظر؛ لأن مقتضى الأحاديث المتقدمة إرادة ما في شرقي المسجد منه، ومع ذلك فهو في شرقي المسجد وغربيه والشام.
وقال ابن شبة: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا من يوثق به من أهل العلم أن الذي بلط حوالي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أمر بذلك مروان بن الحكم، وولي عمله عبد الملك بن مروان، وبلط ما حول دار عثمان بن عفان الشارعة على موضع الجنائز.
حدود البلاط
وحدّ ذلك البلاط الغربي: ما بين المسجد إلى خاتم الزوراء عند دار العباس بن عبد المطلب بالسوق. وحده الشرقي إلى دار المغيرة بن شعبة رضي الله عنه التي في طريق البقيع من المسجد. وحده اليماني إلى حد زاوية دار عثمان بن عفان الشارعة على موضع الجنائز.
وحده الشامي وجه حش طلحة خلف المسجد، وهو في المغرب أيضا إلى حد دار إبراهيم ابن هشام الشارعة على المصلي.
وللبلاط أسراب ثلاثة تصب فيها مياه المطر؛ فواحد بالمصلى عند دار إبراهيم بن هشام، وآخر على باب الزوراء عند دار العباس بن عبد المطلب بالسوق، ثم يخرج ذلك الماء إلى ربيع في الجبانة عند الحطابين، وآخر عند دار أنس بن مالك في بني جديلة عند دار بنت الحارث، اه.
ويؤخذ من ذلك أن البلاط كان من المغرب فيما بين المسجد وبين الدور المطيفة به.
ويمتد البلاط الآخر من باب الرحمة إلى أن يصل إلى الصواغ وسوق العطارين اليوم،(2/248)
ويستمر كذلك إلى حد سوق المدينة الأول عند أحجار الزيت ومشهد مالك بن سنان؛ فهناك خاتم الزوراء عند دار العباس، وهو خاتم البلاط، وذلك ما بين مشهد مالك بن سنان والدور المواجهة له كما سنبينه في ذكر سوق المدينة، وهو موجود اليوم في تلك الجهة.
ويمتد أيضا البلاط الآخذ من باب السلام إلى أن يصل إلى المدرسة الزمنية، وينعطف لجهة الشام حتى يتصل بالبلاط الممتد من باب الرحمة لجهة سوق الصواغ والعطارين، وهذا الجانب منه هو الذي تقدمت الإشارة إليه بأن عنده أصحاب الفاكهة.
وفي طبقات ابن سعد عن محمد بن عمرو في دار حكيم بن حزام المتقدم ذكرها فيه أنها عند بلاط الفاكهة عند زقاق الصواغين، انتهى.
ثم يمتد البلاط الآخذ من باب السلام في الاستقامة من المدرسة الزمنية فيمر بالموضع المعروف اليوم بسويقة، فيجاوز باب المدينة المعروف بباب سويقة حتى يصل إلى المصلى، وهذا معنى قوله «وهو في المغرب أيضا إلى حد دار إبراهيم بن هشام الشارعة على المصلى» .
وهذه الناحية من البلاط الغربي هي المسماة بخط البلاط الأعظم، وما كان عن يمين الماشي في هذا البلاط قاصدا باب السلام فهو الذي يعبر عنه بميمنة البلاط الأعظم، وما كان عن يساره فهو الذي يعبر عنه بميسرة البلاط الأعظم.
وأما البلاط الشرقي فحده من القبلة ظاهر عند زاوية الدار التي يسكنها مشايخ الخدام من دار عثمان وزاوية رباط مراغة.
ومن المشرق يمتد في زقاق البقيع إلى خارج باب رباط المغاربة عند ما يعطف من آخر الدور التي قدمنا أنها في محل دار أبي بكر رضي الله عنه المقابلة لرباط المغاربة، ولعل دار المغيرة بن شعبة هي التي تواجهك حين تعطف هناك، ثم تكون على يسارك وأنت ذاهب إلى البقيع في مقابلة الرباط المعروف برباط الصادر والوارد، ولعل البلاط كان متصلا بها.
وقد قال ابن شبة في دور بني عبد شمس: إن عثمان رضي الله تعالى عنه اتخذ أيضا دار المغيرة بن شعبة التي بالبقيع فعارض المغيرة إلى دار عثمان بن عفان التي يقال لها دار عمرو ابن عثمان التي بين دار المغيرة بن شعبة اليوم وبين دار زيد بن ثابت من الأنصار، انتهى.
فدار المغيرة التي ناقل بها عثمان ليست المرادة؛ لأنه قال فيها «إنها بالبقيع» وذكر في هذه التي حدد بها البلاط أنها بزقاق البقيع.
وأيضا قد قدمنا قول محمد بن عقيل في خبره في سقوط جدار الحجرة «حتى إذا كنت عند دار المغيرة بن شعبة لقيتني رائحة لا والله ما وجدت مثلها قط» فإنه يدل على قرب دار المغيرة من المسجد.(2/249)
وأيضا فمن الشائع بين الناس اليوم نسبتهم إلى عثمان رضي الله تعالى عنه الدار التي في شرقي الدار التي قلنا لعلها دار المغيرة بينها وبينها ساباط، ولعلها التي كانت لعثمان وناقل بها المغيرة إلى داره التي بالبقيع، وقد قال في وصفها «إنها بين دار المغيرة اليوم ودار زيد بن ثابت» فتكون دار زيد بن ثابت هي التي تلي ذلك في المشرق أيضا على يسار الذاهب إلى البقيع، وما عن يمينه مما يلي رباط المغاربة دور آل حزم من الأنصار.
وقد قال ابن شبة: إن عتبة بن غزوان حليف بني نوفل بن عبد مناف اتخذ داره التي بالبقيع إلى شرقي دور آل حزم الأنصار؛ فتكون على يمين الذاهب إلى البقيع بعد دور آل حزم.
فأما البلاط الشامي فمحله ظاهر بين المسجد والدور التي قدمناها في شاميه، لكن حدث فيه دور لاصقة بالمسجد بعد سد الأبواب التي في تلك الجهة كما قدمناه.
وأما ما ذكره ابن شبة من أن الماء الذي يصب في السرب الذي بالمصلى والسرب الذي عند دار العباس يخرج إلى ربيع في الجبانة عند الحطابين فالمراد أنه يخرج إلى الربيع المذكور في شامي سوق المدينة عند سوق الحطابين قرب ثنية الوداع، لما سيأتي في ترجمة الجبانة.
وقوله «إن السرب الآخر عند دار أنس بن مالك في بني جديلة عند دار بنت الحارث» فأما دار أنس فلم يتحرر لي معرفتها، غير أنه سيأتي في بئره- وكانت في داره- ما ترجح عندنا في محلها؛ فيؤخذ منه أن داره كانت عند البئر المعروفة اليوم بالرباطين خلف الحديقة المعروفة بالرومية في شامي سور المدينة.
وأما دار بنت الحارث فلم أعلم محلها، وعلى ما ذكرناه في دار أنس تكون في محل الحديقة المعروفة بالرومية أو ما حولها. ودار بنت الحارث هذه لها ذكر في أماكن كثيرة، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم ينزل بها الوفود، وجعل بها أسرى بني قريظة حتى خندق لهم الخنادق بالسوق وقتلوا.
وروى ابن زبالة عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى نفر من أصحابه من قريش والأنصار وهم في دار بنت الحارث، فلما رأوه أوسعوا له- الحديث.
وبنت الحارث: اسمها رملة. وهذه الأسراب الثلاثة لا يعرف منها شيء اليوم.
وقد علا الكبس على كثير من البلاط، ولم يبق ظاهرا منه إلا ما حول المسجد النبوي وشيء من جهة بيوت الأشراف ولاة المدينة. وله بلاليع يجتمع الماء فيها، فإذا كثرت الأمطار تجتمع حول المسجد لامتلاء تلك البلاليع، فيصير أمام أبواب المسجد كالغدران الكبار، خصوصا في شرقي المسجد، فحفر الشمس بن الزمن متولي العمارة الشريفة البلّاعة التي في(2/250)
شرقي المسجد وتتبع ما حولها، فوجد سربا تحت الأرض آخذا من شرقي المسجد إلى جهة زقاق المناصع، وتتبعه حتى وصل إلى الحوش المعروف اليوم بحوش الحسن، فوجد الناس قد بنوا هناك، ولم يتمكنوا من تتبعه إلا بهدم الأبنية فتركوه، وهذا هو السرب الذي تقدم أنه كان يخرج عند دار أنس بن مالك في بني جديلة.
ثم إن متولي العمارة حفر سربا لتلك البلاليع التي عند أبواب المسجد، وأوصلها بالسرب الذي يسير فيه وسخ العين؛ فحصل بذلك غاية النفع، وصار الماء لا يقف بعد ذلك بأبواب المسجد، ووجد البلاط الأول على أكثر من نصف قامة من الأرض فيما يلي الصاغة وسوق العطارين، وكذا في شامي المسجد.
وأما الدور المطيفة بالبلاط الأعظم- وهو الآخذ من باب السلام إلى المصلى- ففي قبلة منازل بني زريق، وسيأتي من كلام ابن شبة نقلا عن أبي غسان أن ذرع ما بين مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي عنده دار مروان وبين المسجد الذي يصلي فيه العيد بالمصلى ألف ذراع، وقد ذرعناه فكان كذلك، لكن الذي يظهر أن البلاط لم يكن متصلا بمسجد المصلى؛ لأنه ذكر أن نهايته دار ابن هشام، ولم تكن الدور متصلة بنفس المسجد.
بيان الدور المطيفة بالبلاط
فأول الدور المطيفة بهذا البلاط مما يلي المصلى في ميسرته دار إبراهيم بن هشام المخزومي.
وفي ميمنته في قبلتها جانحا إلى المغرب دار سعد بن أبي وقاص، والطريق بينهما.
ودار سعد هذه قال ابن شبة: إنها هي التي في دبر دار جبى، ولها فيها طريق مسلمة.
قال: وسمعت من يقول: كانتا دارا واحدة لسعد، وإن عمر بن الخطاب كان قاسمه إياها، وكانت دار جبى قسيمة هذه الدار حين قاسمه ماله مقدم سعد من العراق، فاشترى دار جبى عثمان بن عفان، ثم صارت لعمرو بن عثمان، وكانت جبى أرضعت عمرا فوهبها لها، فكانت بيدها، حتى سمعت نقيضا في سقف بيتها فقالت لجاريتها: ما هذا؟ قالت:
السقف يسبح، قالت: ما سبح شيء قط إلا سجد! فخرجت، فاضطربت خباء بالمصلى، ثم باعت الدار من بعض ولد عمر بن الخطاب. قال: وسمعت من يقول: إن عثمان نفسه أقطعها إياها.
ثم يليها في ميمنة البلاط المذكور دار لسعد بن أبي وقاص أيضا، وكانت لأبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فناقله أبو رافع إلى داريه بالبقال، وكانتا دارا لسعد.
وفي ميسرة البلاط في مقابلة هذه الدار دار لسعد أيضا، والطريق بينهما عشرة أذرع، ودور سعد صدقة.(2/251)
وقد ذكر ابن شبة كتاب وقفها. وبقي من دوره دار أخرى قال ابن شبة: واتخذ سعد أيضا دارا بالمصلى، بين دار عبد الحميد بن عبيد الكناني وبين الزقاق الذي يسلك في بني كعب عند الحمارين، وفتح في طائفة من أدنى داره بابا في الزقاق، حتى صارت كأنها داران.
قلت: وسيأتي ذكر منازل بني كعب، وذكر الحمارين، ويعلم من مجموع ذلك أن زقاق الحمارين كان في قبلة البيوت التي بالمصلى والبيوت التي في قبلة البلاط ببين زريق.
ثم يلي دار سعد التي كانت لأبي رافع في ميمنة البلاط المذكور دار آل خراش من بني عامر ابن لؤي، وتعرف بدار نوفل بن مساحق بن عمرو العامري وفي دبرها من جهة القبلة كتّاب عروة رجل من اليمن، كان يعلم. وفي كتاب عروة مسجد بني زريق، وعنده دار رفاعة بن رافع. ودار آل خراش هذه هي التي عناها ابن شبة بقوله: وقال- يعني أبا غسان-: وحدثني عبد العزيز أن رافع بن مالك الزرقي قتل بأحد فدفن في بني زريق، قال: وقيل: إن موضع قبره اليوم في دار آل نوفل بن مساحق التي في بني زريق في كتاب عروة، وصارت للعباس بن محمد. ثم يلي دار آل خراش في الميمنة أيضا دار الربيع التي يقال لها دار حفصة، وهي مولاة لمعاوية بن أبي سفيان، كانت تسكنها فنسبت إليها قبل، وكانت هذه الدار قطيعة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان بن أبي العاص الثقفي، فابتاعها من ولده معاوية بن أبي سفيان وكانت معها لعثمان أيضا دار آل خراش المتقدمة إلى جنبها، ويقال: إنه ابتناها في قطيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم إياه أيضا. وفي الميسرة في شامي الدارين المذكورين مقابلا لهما دار نافع بن عتبة بن أبي وقاص التي ابتاعها الربيع مولى أمير المؤمنين من ولد نافع، وتعرف أيضا بدار الربيع. وفي دبر الدار المتقدمة التي يقال لها دار حفصة من القبلة دار عبد بن زمعة، قال ابن شبة: واتخذ عبد بن زمعة داره التي في كتاب عروة إلى حدها الشامي، فتكون دار حفصة بينها وبين البلاط بابها لازق في كتاب عروة، أي في غربيها. وفي قبلة دار عبد بن زمعة دار ابن مشنو، قال ابن شبة أيضا: واتخذ عبد الرحمن بن مشنو داره التي في كتاب عروة حدها من الشام دار عبد بن زمعة، وحدّها من المشرق كتاب إسحاق الأعرج بابها لاصق في كتاب عروة أي في غربيها أيضا، وهي صدقة منه. وفي قبلة دار ابن مشنو دار عمار بن ياسر فإنها حد دار ابن مشنو من القبلة، قال ابن شبة: واتخذ عمار ابن ياسر داره التي في بني زريق، وكانت من دور أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبابها وجاه دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أي الذي في شرقيها، وكانت أم سلمة أعطته إياها، ولها خوخة شارعة في كتاب عروة أي في المغرب وهي خوخة عمار نفسه، انتهى؛ فهذه الدور الثلاثة مصطفة في القبلة خلف دار حفصة المذكورة، وخلف الدار الآتية بعدها، وبينهن من(2/252)
المغرب كتاب عروة ومسجد بني زريق، ومن المشرق زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث الآتي ذكره.
وذكر ابن شبة ما حاصله أن دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي في بني زريق، فيما بين دار ابن أم كلاب الشارعة على المصلى إلى دار رفاعة بن رافع الأنصاري قبالة مسجد بني زريق.
ثم يلي دار الربيع التي يقال لها دار حفصة في ميمنة البلاط دار أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ثم يليها في الميمنة أيضا زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وداره هي التي تقدم أنها تقابل دار عمار بن ياسر في الشرق، وبينها وبين البلاط الداران الآتي ذكرهما، وهذا الزقاق سيأتي له ذكر في رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من صلاة العيد.
وكذا دار أبي هريرة هذه، قال ابن شبة: اتخذ أبو هريرة الدوسي دارا بالبلاط بين الزقاق الذي فيه دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وبين خط البلاط الأعظم، فباعها ولده من عمر بن بزيع.
والذي ظهر لي بعد التأمل فيما ذكره ابن شبة في هذه الدور- بقرينة ما سنذكره إن شاء الله تعالى- أن زقاق عبد الرحمن بن الحارث هو أول زقاق يلقاك عن يمينك إذا دخلت من باب المدينة اليوم تريد المسجد، وظهر لي أيضا أن دار هشام والدار الثانية التي تليها في الميسرة وبعض الثالثة كنّ من خارج سور المدينة، وكذلك ما يقابل ذلك في الميمنة من داري سعد وبعض دار آل خراش.
ثم يلي زقاق عبد الرحمن بن الحارث في ميمنة البلاط دار عبد الله بن عوف. ثم يليها في الميمنة زقاق أبي أمية بن المغيرة، قال ابن شبة في دور بني زهرة: واتخذ عبد الله بن عوف ابن عبد عوف دارا بالبلاط بين زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وبين زقاق دار أبي أمية بن المغيرة، ويقال لها: دار طلحة بن عبد الله بن عوف؛ فهي صدقة بأيدي ولده إلا شيئا خرج منها صار لبكار بن عبد الله بن مصعب الزبيري. ويلي دار أبي أمية التي نسب إليها الزقاق المذكور في قبلتها دار الحويطب بن عبد العزى بينها وبين دار سعيد بن عمرو بن نفيل، وهما شارعتان في خط الحمارين الشارع إلى دار ابن عتبة ببني زريق شرقي دار أبي أمية، وفي شرقيها أيضا دار صهيب بن سنان، وكانت لأم سلمة رضي الله تعالى عنها، وكل هذه الدور في بني زريق.
ولنرجع إلى جهة الميسرة فنقول: وفي الميسرة في مقابلة دار أبي هريرة وبعض التي قبلها دار حويطب بن عبد العزى، وهي غير داره السابقة، وتلك ليست في البلاط كما قدمناه، قال ابن شبة في دور بني عامر بن لؤي: واتخذ حويطب بن عبد العزى داره التي بين دار(2/253)
عامر ابن أبي وقاص وعتبة بن أبي وقاص، بالبلاط منها البيت الشارع على خاتمة البلاط بين الزقاق الذي إلى دار آمنة بنت سعد وبين دار الربيع مولى أمير المؤمنين، وهي صدقة منه على ولده، انتهى. ولم يذكر لعتبة بن أبي وقاص دارا بالمدينة. والذي انتقل إلى المدينة واتخذ بها الدار إنما هو ابنه نافع، وداره هي المتقدم ذكرها التي صارت للربيع؛ فهي المرادة.
وقال في بيان دار عامر بن أبي وقاص الزهري: واتخذ عامر بن أبي وقاص داره التي في زقاق حلوة بين دار حويطب بن عبد العزى وبين خط الزقاق الذي فيه دار آمنة بنت سعد بن أبي سرح، انتهى.
فيتلخص من ذلك أن دار حويطب المذكورة في شرقي دار الربيع المتقدمة في الميسرة وإلى جانبها خاتمة البلاط، وهو اليوم الزقاق الذي بين سور المدينة وبين البيوت المقابلة له ولمشهد سيدنا مالك بن سنان على يسارك عند ما تدخل من باب المدينة، وأن من دار حويطب بيتا خلفها من جهة جانبها الغربي شارعا على خاتمة البلاط المذكورة، وخلفه من جهة الشام الزقاق الذي فيه دار آمنة، وتكون دار عامر بن أبي وقاص خلف دار حويطب من جهة جانبها الشرقي، ويكون زقاق حلوة في شرقيهما، ولعله المعروف اليوم بزقاق الطول؛ لانطباق الوصف المذكور عليه، وسيأتي لزقاق حلوة ذكر في الآبار.
ثم في الميسرة أيضا دار عبد الله بن مخرمة قال ابن شبة في دور بني عامر بن لؤي:
اتخذ عبد الله بن مخرمة داره التي في البلاط الشارع بابها قبالة دار عبد الله بن عوف التي فيها بنو نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، وخرج عنهم بعضها فهو في يد ورثة عمر بن بزيع مولى أمير المؤمنين.
ولنرجع إلى جهة الميمنة فنقول: ثم إلى زقاق دار أبي أمية في الميمنة من شرقيه دار خالد بن سعيد الأكبر بن العاص التي يقال لها دار سعيد بن العاص الأصغر بن سعيد بن العاص، ويقال لها دار ابن عتبة، وإنما ورثها عبد الله بن عتبة عن عمه خالد بن سعيد.
ويقابلها في الميسرة دار أم خالد التي لآل خالد بن الزبير بن العوام، ورثوها عن أمهم أم خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: إنهما قطيعة من النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم يلي دار خالد بن سعيد في الميمنة دار أبي الجهم، ثم دار نوفل بن عدي، ثم دار آل المنكدر التّيمي. قال ابن شبة في دور بني عدي: واتخذ أبو الجهم داره التي بين دار سعيد بن العاص التي يقال لها دار ابن عتبة وبين دار نوفل بن عدي بابها شارع في البلاط.
قلت: وهذه الدار هي المرادة بما رواه مالك في الموطأ عن عمه أبي سهل بن مالك بن أبي عامر عن أبيه: كنا نسمع قراءة عمر بن الخطاب ونحن عند دار أبي جهم بالبلاط، وكذا بما رواه البيهقي عن موسى بن عقبة أن رجال بني قريظة قتلوا عند دار أبي جهم التي(2/254)
بالبلاط، ولم يكن يومئذ بلاط، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق.
وقال ابن شبة في دور بني أسد: واتخذ نوفل بن عدي بن أبي حبيش دارين: إحداهما التي بالبلاط عند أصحاب الرباع بين دار المنكدر التيمي وبين دار آل أبي جهم العدويين، والدار الآخرى في بني زريق وجاه الكتاب الذي يقال له كتاب آل زيان بين منزل أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام الذي صار لبني عبيد بن عبد الله بن الزبير وبين حد الزقاق الذي عند الحمارين، دبرهما دار هانئ التي بأيدي آل جبر، انتهى.
وهذه الأمور التي ذكرها في الدار الثانية حول ما خلف دار سعيد بن العاص المسماة دار ابن عتبة من جهة القبلة، والزقاق الذي ذكره هناك عند الحمارين يمتد في المغرب إلى المصلّى في قبلة دور سعد بن أبي وقاص.
وقد ذكر ابن شبة أيضا أن دار رويشد الثقفي التي يقال لها القمقم في كتاب ابن زيان هي التي حرّقها عليه عمر بن الخطاب في الشراب، وكان رويشد حمارا، وفي غربي هذه الدار أدنى دار علي بن عبد الله بن أبي فروة، وشرقيها الطريق بينها وبين بيوت آل مصبح، ويمانيها دار الأويسيين التي لسكن خالد بن عبد الله الأويسي، وشاميها قبلة بيوت آل مصبح التي بينها وبين دار موسى بن عيسى، وبيوت آل مصبح ذكرها في دور بني عامر ابن لؤي فقال: واتخذ ابن أم مكتوم دارا هي البيوت التي للمصبحين بين دار آل زمعة بن الأسود وبين شرقي القمقم، انتهى. وهذه الأمور أيضا حول الدور المتقدمة في بني زريق.
وقوله في دار نوفل الأولى وهي المقصودة لأنها التي في ميمنة البلاط وأنها عند أصحاب الرباع، لم أعلم المراد به، غير أن في طبقات ابن سعد أن دار حويطب بن عبد العزى المتقدم ذكرها في الميسرة عند أصحاب المصاحف، فإنه قال في ترجمته: وله دار بالبلاط عند أصحاب المصاحف، فلعل المراد بالرباع المصاحف؛ لأن المصحف يسمى ربعة؛ فيستفاد منه أن هذه الناحية من البلاط ميمنة وميسرة تسمى بذلك، لكن قال ابن شبة في دور العباس بن عبد المطلب ما لفظه: وقد سمعت من يذكر أن دار فضالة بن الحكم بن أبي العاص التي بالبلاط الخربة التي عند أصحاب الرباع على يمين من سلك إلى بني جديلة كانت مربدا للعباس رضي الله عنه، ويقال: إنها كانت مربدا لنعم الصدقة، انتهى.
وهو يقتضي أن أصحاب الرباع ليسوا في البلاط الأعظم، لأنه ليس فيه مسلك إلى بني جديلة، وإنما يتوصل منه إلى بني جديلة بعد إتيان البلاط الآخر الذي هو موضع سوق المدينة اليوم عند درج العين، وقد تقدم أن ذلك يسمى بموضع الفاكهة، والله أعلم.
هذا ما علمته من الدور التي بهذا البلاط، وفي الاقتصار عليها كفاية؛ لأن المقصود(2/255)
المهم لنا من ذلك ما يتعلق ببيان مسجد بني زريق، وبطريق النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذهابه إلى المصلى ورجوعه منها كما سيظهر لك.
وأما البلاط الممتد في المغرب إلى سوق المدينة القديم فكان عند خاتمة دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كما تقدم.
وقال ابن شبة في دور العباس: ومنها الدار التي بالزوراء سوق المدينة عند أحجار الزيت، أقطعها له عمر بن الخطاب، قال: وقد بلغني أن دار طلحة بن عمر بالبلاط كانت مربدا لدار العباس هذه، فابتاعها عمر من بعض بنيه. ويقوي ذلك أن المنصور أبا جعفر ابتاع تلك الدار من ولد طلحة بن عمر بأربعين ألف دينار.
ثم ذكر للعباس دارا أخرى ليست في البلاط، لكنها في شامي هذه الدار، فقال:
ومنها الدار التي إلى جنب دار آل قارط حلفاء بني زهرة، بينها وبين خطة بني ضمرة، وهي التي كان عبد الله بن عباس يسكن وجعلت المحررة هناك لطعام كان ابن عباس يطعمه.
قلت: وإنما ذكرنا هاتين الدارين لما سيأتي من ذكرهما في الدار التي أخذ بها هشام بن عبد الملك سوق المدينة.
ويستفاد مما سيأتي في ترجمة أحجار الزيت أن دار العباس التي عند خاتمة البلاط المذكور كانت بقرب مشهد سيدنا مالك بن سنان في شرقيه، وسيأتي أنه دفن عند مسجد أصحاب العباء، أي: الذين يبيعون العبي، وهنا لك كانت أحجار الزيت.
الفصل السادس والثلاثون فيما جاء في سوق المدينة التي تصدق به النبي صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين، وذكر دار هشام بن عبد الملك التي أخذ بها السوق
الرسول ينشئ السوق
روى عمر بن شبة عن عطاء بن يسار قال: لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل للمدينة سوقا أتى سوق بني قينقاع، ثم جاء سوق المدينة فضربه برجله وقال: هذا سوقكم؛ فلا يضيق، ولا يؤخذ فيه خراج.
وروى ابن زبالة عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط أن السوق كانت في بني قينقاع حتى حول السوق بعد ذلك.
أسواق المدينة في الجاهلية
وقال ابن شبة: قال أبو غسان: وكان بالمدينة في الجاهلية سوق بزبالة من الناحية التي تدعى يثرب، وسوق بالجسر في بني قينقاع، وبالصفاصف بالعصبة سوق، وسوق يقوم في(2/256)
موضع زقاق ابن حيين كانت تقوم في الجاهلية وأول الإسلام، وكان يقال لذلك الموضع:
مزاحم.
وروى ابن شبة أيضا عن صالح بن كيسان قال: ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبة في موضع بقيع الزبير فقال: هذا سوقكم. فأقبل كعب بن الأشرف فدخلها وقطع أطنابها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا جرم لأنقلنّها إلى موضع هو أغيظ له من هذا، فنقلها إلى موضع سوق المدينة، ثم قال: هذا سوقكم، لا تتحجروا، ولا يضرب عليه الخراج.
وعن أبي أسيد أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني قد رأيت موضعا للسوق، أفلا تنظر إليه؟ قال: فجاء به إلى موضع سوق المدينة اليوم- أي في زمنهم- قال:
فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم برجله وقال: هذا سوقكم؛ فلا ينقص منه، ولا يضربن عليه خراج.
وروى ابن زبالة عن عباس بن سهل عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى بني ساعدة فقال: إني قد جئتكم في حاجة تعطوني مكان مقابركم فأجعلها سوقا، وكانت مقابرهم ما حازت دار ابن أبي ذئب إلى دار زيد بن ثابت، فأعطاه بعض القوم، ومنعه بعضهم، وقالوا: مقابرنا ومخرج نسائنا، ثم تلاوموا فلحقوه وأعطوه إياه، فجعله سوقا.
قلت: وسيأتي ما يبين أن دار ابن أبي ذئب ودار زيد بن ثابت كانتا في شرقي السوق، الأولى عند أثنائه مما يلي الشام، والثانية عند أثنائه مما يلي القبلة؛ فليست المقابر المذكورة سوق المدينة كله، بل بعضه. وقد قدمنا في منازل بني ساعدة أن ابن زبالة نقل أن عرض سوق المدينة ما بين المصلى إلى جرار سعد، وهي جرار كان يسقي الناس فيها الماء بعد موت أمه، وقدمنا أن الذي يترجح أن المصلى حده من جهة القبلة، وأن جرار سعد حده من جهة الشام؛ فتكون جرار سعد قرب ثنية الوداع، وقد قوى الآن ذلك عندي جدّا، لما سيأتي في ذكر دار هشام.
وروى ابن شبة أيضا وابن زبالة عن محمد بن عبد الله بن حسن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تصدق على المسلمين بأسواقهم.
وروى ابن زبالة عن خالد بن الياس العدوي قال: قرئ علينا كتاب عمر بن عبد العزيز بالمدينة: إنما السوق صدقة فلا يضربن على أحد فيه كراء.
وعن ابن أبي ذئب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ على خيمة عند موضع دار المنبعث فقال: ما هذه الخيمة؟ فقالوا: خيمة لرجل من بني حارثة كان يبيع فيها التمر، فقال: حرقوها، فحرقت. قال ابن أبي ذئب: وبلغني أن الرجل محمد بن مسلمة.
وروى ابن شبة عن أبي مردود عبد العزيز بن سليمان أن عمر بن الخطاب رأى كير حداد في السوق، فضربه برجله حتى هدمه، وقال: أتنتقص سوق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟(2/257)
وروى ابن زبالة عن حاتم بن إسماعيل عن حبيب قال: مر عمر بن الخطاب على باب معمر بالسوق، وقد وضع على بابه جرة، فأمر بها أن تقلع، فخرج إليه معمر فقال: إنما هذه جرة يسقي فيها الغلام الناس، قال: فنهاه عمر أن يحجر عليها أو يحوزها. قال: فلم يلبث أن مر عليها وقد ظلل عليها، فأمر عمر بالجرة والظل فنزعهما.
وعن عبد الله بن محمد قال: كان الراكب ينزل بسوق المدينة فيضع رحله، ثم يطوف بالسوق ورحله بعينه يبصره، لا يغيبه عنه شيء.
وروى أيضا قصة أخذ معاوية رضي الله تعالى عنه لدار النقصان من صحن سوق المدينة.
وروى أيضا عن محمد بن طلحة وغيره قال: أحدث إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة في سلطان هشام بن عبد الملك، وهو يومئذ وال له على المدينة، دارا أخذ بها سوق المدينة، وسدّ بها وجوه الدور الشوارع في السوق، وكتب إلى هشام يذكر له عليها وعظيم قدرها، فكتب إليه هشام يأمره بإمضائها وإمضاء عين السوق، وكان أحدثها في سكك أهل المدينة، ودخلت في بعض منازلهم، فكتب إليه أن أمضها وإن كانت في بطونهم.
قلت: ونقل ابن شبة عن أبي غسان أنه قال: كان الذي هاج هشام بن عبد الملك على بناء داره التي كانت بالسوق أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل كان خال هشام بن عبد الملك، وكان ولاه المدينة، فكتب إليه إبراهيم، فذكر أن معاوية بن أبي سفيان بنى دارين بسوق المدينة يقال لإحداهما دار القطران والآخرى دار النقصان، وضرب عليهما الخراج، وأشار عليه أن يا بني دارا يدخل فيها سوق المدينة، فقبل ذلك هشام، وبناها، وأخذ بها السوق كله، انتهى.
وقال ابن زبالة عقب ما تقدم: فابتدأ الدار من خاتمة البلاط أي الذي عند دار العباس بالزوراء بقرب مشهد مالك بن سنان رضي الله عنه، فيكون هذا الجدار في شرقي السوق، وهذا أول الجدار المذكور مما يلي القبلة، وما سيأتي فيه دال على أنه استمر يمده إلى جهة الشام، وليس ابتداء هذا الجدار من القبلة أول السوق لما سيأتي، بل بقي منه بقية في جهة القبلة إلى المصلى سيأتي ذكرها.
قال ابن زبالة عقب ذكره لابتداء الدار من خاتمة البلاط: فمضى بها حتى سد بها وجه دار العباس بن عبد المطلب، أي التي عند خاتمة البلاط ودار نخلة، وكانت لآل شيبة بن ربيعة، وإنما سميت دار نخلة لنخلة كانت فيها. ثم دار معمر العدوي التي كان يجلس صاحب السوق بفنائها. ثم دار خالد بن عقبة التي بفنائها أصحاب الرقيق.(2/258)
وجعل لبني ساعدة طريقا مبوبة، ثم أخذ وجه دار ابن جحش. ثم وجه دار ابن أبي فروة التي كانت لعمر بن طلحة بن عبيد الله، ثم وجد دار ابن مسعود، ثم وجه دار زيد بن ثابت، وجعل للطريق منفذا مبوبا. ثم وجه دار جبير بن مطعم التي فيها أصحاب العباء.
ثم وجه دار القارظيين. ثم وجه دار العباس بن عبد المطلب، أي الثانية التي كان عبد الله بن عباس يسكنها، وجعل لبني ضمرة طريقا مبوبا. ثم وجه دار ابن أبي ذئب. ثم دار آل شويفع. ثم صدقة الزبير، وجعل لبني الديل طريقا مبوبا.
قلت: وهذا الطريق عند نهاية هذا الجدار الشرقي مما يلي الشام قرب ثنية الوداع، والطرق المذكورة قبله كلها في الجدار المذكور خططها في المشرق.
ثم بين ابن زبالة ما يقابل هذا الجدار في المغرب مبتدئا بما يقابله من جهة القبلة، ثم إلى الشام فقال عقب ما تقدم:
ثم أخذ بها من الشق الآخر، فأخذ وجه الزوراء ووجه دار ابن نصلة الكناني. ثم على الطاقات حتى ورد بها خيام بني غفار، وجعل لمخرج بني سلمة من زقاق ابن جبير بابا مبوبا عظيما يغلق. ثم مضى بها على دار النقصان ودار نويرة، وجعل لسكة أسلم بابا مبوبا. ثم مضى بها على دار ابن أزهر ودار ابن شهاب ودار نوفل بن الحارث حتى جاوز بها دار حجارة، وكانت لعبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، حتى إذا جاوز بها دار حجارة جعل لها بابا عظيما يقابل الثنية.
قلت: يعني ثنية الوداع، وهذا الباب في جهة الشام كما صرح به ابن شبة فقال، عقب ما تقدم: وجعل لها بابا شاميا خلف شامي زاوية دار عمر بن عبد العزيز بالثنية. ثم جعل بينها وبين دار عمر بن عبد العزيز عرضا ثلاثة أذرع، ثم وضع جدارا آخر وجاه هذا الجدار. ثم قاد الأساس بينه وبين الدور كلها ثلاثة أذرع حتى الزقاق الذي يقال له زقاق ابن جبير، جعل عليه بابا، وجعل على الزقاق الذي يقال له زقاق بني ضمرة عند دار آل أبي ذئب بابا. ثم جعل على الزوراء خاتم البلاط أي بابا؛ فيستفاد منه جعل باب هناك، وليس في كلام ابن زبالة تعرض له.
ثم إن ابن زبالة ذكر ما بقي من شقي الدار الغربي والشرقي مما يلي القبلة إلى المصلى، فقال عقب كلامه السابق: ثم ساقها من الشقين جميعا الغربي والشرقي فسد بها وجوه الدور، وأخذ بها السوق فسد بها من الشق الشرقي وجه دار قطران، وكانت من دور معاوية. ثم وجه دار ابن جودان وتلك الدور.
ومن الشق الغربي دار حجارة لكثير بن الصلت، وكانت قبله لربيعة بن دراج الجمحي.
ثم وجه الربعة التي فيها دار آل أبي عثمان حلفاء أزهر بن عبد عوف. ثم جعل للسكة(2/259)
منفذا. ثم وجه دار التمارين، وكانت لمعاوية بن أبي سفيان، وقبله لسعيد بن عبد الرحمن بن يربوع.
فلما بلغ ابن هشام بالدار التمارين وقف، وجعل لها هنالك بابا عظيما يقابل المصلى.
وقال ابن شبة عقب قوله فيما تقدم «وجعل على الزوراء خاتم البلاط» ما لفظه: ثم مد الجدار حتى جاء به على طيقان دار القطران الآخرى الغربي، حتى جاء بها إلى دار ابن سباع بالمصلى التي هي اليوم لخالصة، فوضع ثم بابا أي بالمصلى.
قال: ثم بنى ذلك بيوتا؛ فجعل فيه الأسواق كلها، فكان الذي ولى ابن هشام أي على بنائها سعد بن عبد الرحمن الزرقي من الأنصار، فتم بناؤها إلا شيئا من بابها الذي بالمصلى.
ونقلت أبوابها إليها معمولة من الشام، وأكثرها من البلقاء، انتتهى.
وقال ابن زبالة عقب كلامه السابق: وفعل ذلك في بقيع الزبير، وضرب عليه طاقات، وأكراها، وسد بها وجوه دورهم، وجعل للسكك منفذا يغلق.
قلت: ومراده أنه جعل في فضاء بقيع الزبير دارا كدار السوق، ولا يتوهم من ذلك أن بقيع الزبير من جملة السوق؛ لما سيأتي في ترجمته.
قال ابن زبالة: وجعل لدار السوق حوانيت في أسفلها، وعلالي تكرى للسكن، وحملت أبوابها من البلقاء، فمنها بقية بالمدينة مكتوب فيها البلقاء.
هدم الدار التي وضعت مكان السوق
قال: فبينا الناس لا يدرون بموت هشام إلى أن جاء ابن المكرم الثقفي من الشام بريدا بموته رسولا للوليد بن يزيد، ويبشرهم بالعطاء، فصاح حين دخل الثنية: ألا إن هشاما الأحول قد مات، فوثب الناس على الدار فهدموها، وعلى عين السوق فقطعوها.
وعبارة ابن شبة: فلم تزل- أي تلك الدار- على ذلك حياة هشام بن عبد الملك، وفيها التجار، فيؤخذ منهم الكراء، حتى توفي هشام، فقدم بوفاته ابن مكرم الثقفي، فلما أشرف على رأس ثنية الوداع صاح: مات الأحول، واستخلف أمير المؤمنين الوليد بن يزيد، فلما دخل دار هشام تلك صاح به الناس: ما تقول في الدار؟ قال: اهدموها، فوقع الناس فهدموها، وانتهبت أبوابها وخشبها وجريدها، فلم يمض ثالثة حتى وضعت إلى الأرض.
فقال أبو معروف أحد بني عمرو بن تميم:
ما كان في هدم دار السوق إذ هدمت ... سوق المدينة من ظلم ولا حيف
قام الرجال عليها يضربون معا ... ضربا يفرق بين السور والتحف
ينحطّ منها ويهوي من مناكبها ... صخر تقلب في الأسواق كالخلف
وذكر ابن زبالة هذه الأبيات عن أبي معروف، إلا أنه زاد قبلها ثلاثة أخرى فقال:
وقال أبو معروف:(2/260)
قل للوليد أبي العبّاس قد جمعت ... أيمان قومك بالتسليم في الصحف
ما زلت ترمي ويرمي الناس عن هدف ... حتى وضعت نصال النبل في الهدف
أعطاك ربّك طوعا من قلوبهم ... نصحا تبين قبل الظن والحلف
ما كان في هدم دار السوق إذ هدمت ... الأبيات المتقدمة
بيت أم كلاب
وروى ابن زبالة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برواية الخمر التي أهدى له الدوسي فأهريقت بالسوق عند بيت أم كلاب حيث يهراق الشراب اليوم، وسيأتي في ترجمة أحجار الزيت قول ابن أبي فديك: أدركت أحجار الزيت ثلاثة مواجهة بيت ابن أم كلاب، وهو اليوم يعرف ببيت بني أسد، انتهى، وكأنه غير بيت ابن أم كلاب الذي له ذكر في بني زريق، فهذا السوق هو المراد بما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج بأسرى بني قريظة إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم ضرب أعناقهم في تلك الخنادق، ويظهر مما قدمناه ومما سيأتي في ترجمة الزوراء أن مقدم سوق المدينة مما يلي خاتمة البلاط وما حول ذلك كان يسمى بالزوراء.
البطحاء
وروى ابن شبة عن بعضهم أنه قال: أدركت سوقا بالزوراء يقال له سوق الحرص، كان الناس ينزلون إليها بدرج.
قلت: ورأيت في الأم للشافعي رضي الله تعالى عنه ما يقتضي تسمية سوق المدينة بالبطحاء؛ فإنه روي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة، وكان لهم سوق يقال لها البطحاء، كانت بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل والغنم والسمن، فقدموا فخرج إليهم الناس- الحديث.
بقيع الخيل
وروى ابن شبة من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت في حديث ساقه:
كان يقال لسوق المدينة بقيع الخيل، وهذا الحديث تقدم من رواية ابن زبالة في ذكر دعائه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة وسؤاله نقل وبائها، وفيه: ثم عمد إلى بقيع الخيل- وهو سوق المدينة- فقام فيه ووجهه إلى القبلة، فرفع يديه إلى الله فقال: اللهم حبّب إلينا المدينة- الحديث.
والبقيع هنا بالموحدة التحتية؛ فهو المراد بقول ابن عمر في حديثه الذي رواه الأربعة والحاكم: إني أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، وآخذ مكانها الدراهم- الحديث ولما خفي هذا على كثير من الناس قال بعضهم: إن الظاهر أن المراد النقيع بالنون أي حمى النقيع، قال: لأنه أشبه بالبيع من البقيع الذي هو مدفن، وقال النووي: ليس كما قال، بل هو بقيع الغرقد-(2/261)
بالباء- ولم يكن ذلك الوقت كثرت فيه القبور، انتهى، ولم يذكر أحد من مؤرخي المدينة أنه كان ببقيع الغرقد سوق، مع اعتنائهم بذكر أسواق المدينة في الجاهلية والإسلام؛ فالمعتمد ما قدمناه، والمسمى بالبقيع هنا ما يلي المصلى من سوق المدينة، ويسمى بقيع المصلى أيضا كما سيأتي، ولهذا روى أحمد والطبراني عن أبي بردة بن نيار قال: انطلقنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع المصلى فأدخل يده في طعام ثم أخرجها فإذا هو مغشوش، أو مختلف، فقال: ليس منا من غشنا، ورواه الطبراني أيضا عن أبي موسى قال: انطلقت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق البقيع، فأدخل يده في غرارة، فأخرج طعاما- الحديث، فعبر عن بقيع المصلى بسوق البقيع.
وروى ابن زبالة أيضا في ذكر سوق المدينة عن محمد بن طلحة قال: رأيت عثمان بن عبد الرحمن وإسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد ومحمد بن المنكدر، وزيد بن حصفة يقومون بفناء بركة السوق اليوم قبل أن تكون، يقومون مستقبلين فسألت عثمان بن عبد الرحمن عن ذلك، فقال: قد اختلف علينا في ذلك؛ فقائل يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو هنالك، وقائل يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول هنالك فينظر الناس، إذا انصرفوا من العيد، قال: وكان عامر بن عبد الله بن الزبير يقف عند التبانين فيدعو، وسيأتي في ذكر المصلى ما رواه الشافعي في الأم من طريق عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجع من المصلى يوم عيد فسلك على التمارين من أسفل السوق، حتى إذا كان عند مسجد المصلى الذي هو عند موضع الدار التي بالسوق قام فاستقبل فجّ أسلم فدعا ثم انصرف.
بركة السوق
قلت: وهذا بين أن بركة السوق في شامي فج أسلم، وسيأتي في منازل أسلم ما يبين أن منازلهم في شامي الثنية التي عليها حصن أمير المدينة اليوم، وتقدم في ذكر دار السوق حيث قال فيها في جهة المغرب: وجعل لسكة أسلم بابا ما يبين ذلك، وحينئذ فبركة السوق هي المنهل الذي ينزل إليه بالدرج عند مشهد النفس الزكية من عين المدينة على يسار المار إلى ثنية الوداع، وفي كلام ابن زبالة ما يومئ أن الذي أحدث العين هناك إنما هو إبراهيم بن هشام، وسيأتي في ترجمة أحجار الزيت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء، والله أعلم.
وروى ابن شبة عن أبي هريرة أنه كان يقول: لا يذهب الليل والنهار حتى يخسف برجل بصحن هذا السوق، قال ابن أبي فديك: وكنت أسمع من المشايخ أنه قال والله أعلم: إن ذلك يكون على باب بيت البرادين، ويقال: هو بفناء دار ابن مسعود.
وعن عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد عن جده قال: خرجت مع أبي هريرة حتى إذا(2/262)
كنا عند دار ابن مسعود قال: يا أبا الحارث، إن حبي أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم أخبرني أنه رب يمين بهذه البقعة لا يصعد إلى الله، قال: قلت له: أنّى ذلك يا أبا هريرة؟ قال: أما أني أشهد ما كذبت، قلت: وأنا أشهد.
وروى ابن زبالة عن عبد الرحمن بن يعقوب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء السوق فرأى حنطة مصبرة فأدخل يده فيها، فناله بلل في جوفها، فقال: ما هذا؟ لصاحب الطعام، قال:
أصابني مطر فهو هذا البلل الذي ترى، قال: ألا جعلته على رأس الطعام حتى يراه الناس؟
من غش فليس مني، من غش فليس مني، وأصل الحديث رواه أبو داود وغيره، ولفظه:
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ برجل يبيع طعاما، فسأله كيف تبيع؟ فأخبره فأوحى إليه أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فإذا هو مبلول، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس منا من غش.
وعن ابن المغيرة قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل يبيع طعاما في السوق بسعر هو أرفع من سعر السوق، فقال: تبيع في سوقنا بسعر هو أرفع من سعرنا؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: صبرا واحتسابا؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: أبشروا فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، وإن المحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله.
قلت: وقوله «بسعر هو أرفع» أي بزيادة في المسعر وهو المبيع، ويدل لذلك ما رواه ابن شبة عن ابن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة قال: كان أبي وعثمان بن عفان شريكين يجلبان التمر من العالية إلى السوق، فمر بهم عمر بن الخطاب، فضرب الغرارة برجله وقال: يابن أبي بلتعة زد في السعر وإلا فاخرج من سوقنا.
وروى ابن زبالة عن القاسم بن محمد أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعره، فسعّر له مدّين بدرهم، فقال عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم إذا وضعوا إلى جنبك غدا اعتبروا بسعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك في البيت فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه في الظهر، ثم خرج فأتى حاطبا في منزله فقال: إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير فحيث شئت فبع.
الفصل السابع والثلاثون في منازل القبائل من المهاجرين، ثم اتخاذ السور على المدينة
منازل بني غفار
قال عمر بن شبة: نزل بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة القطيعة التي قطع لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي ما بين دار كثير بن الصلت التي تعرف بدار الحجارة(2/263)
السوق إلى زقاق ابن جبين إلى دار أبي سبرة إلى منازل آل الماجشون بن أبي سلة، وبهذه الخطة مسجد بني غفار صلّى فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو خارج من منزل أبي رهم بن الحصين الغفاري.
قلت: ودار كثير بن الصلت هذه تقدم بيانها في غربي السوق مما يلي القبلة شامي المصلى، وأما زقاق ابن حبين، ففي غربي السوق أيضا مما يلي الشام بالقرب من حصن أمير المدينة، وابن حبين كان مولى للعباس بن عبد المطلب. وأما دار أبي سبرة فلم أعرفها؛ فالظاهر أنها كانت في جهة غربي سوق التمارين. وأما منازل آل الماجشون، فذكر هو في موضع آخر أنها في زقاق الجلادين، وسيأتي في منازل بني كعب أنه شارع على المصلى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واتخذ سباع بن عرفطة الغفاري خطة بالمصلى وهي الدار التي يقال لها دار عبد الملك بن مروان بالمصلى وجهها شارع قبالة الحجامين.
قلت: وذلك في شامي المصلى مما يلي السوق والمغرب لأن ابن شبة قال: إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب اتخذ دارا بالمصلى في موضع الحجامين، ثم ابتاعها معاوية، فزادها في مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أدخلها بعد هشام بن عبد الملك في داره التي أخذ بها السوق ثم هدمت.
ونزل سائر بني غفار محلتهم وهي السائلة من جبل جهينة إلى بطحان وما بين خط دار كثير بن الصلت ببطحان إلى بني غفار؛ فنزلت بنو غفار منزلهم من خط دار كثير بن الصلت إلى أن يفضي إلى جهينة.
قلت: وجبل جهينة لم أعرفه، فإما أن يكون أراد به ما يلي جبيل سلع في مقابلة المصلى ونسبه إلى جهينة لنزولهم عنده، وهناك سائلة تسيل من سلع إذا حصل المطر، وإما أن يكون أراد به أحد الجبلين اللذين في غربي مساجد الفتح لما سيأتي في منازل جهينة. وأما دار كثير بن الصلت ببطحان فقد ذكر في موضع آخر ما يبين أنها كانت على شفير وادي بطحان بالعدوة الغربية، وأن عقبة بن أبي معيط لما جلده عثمان بن عفان في الشراب حلف لا يساكنه إلا وبينهما بطن واد، فناقل كثير بن الصلت بداره هذه إلى دار الوليد بن عقبة التي في قبلة مصلى العيد الذي يصلي به الإمام اليوم، والله أعلم.
منازل بني ليث بن بكر
ونزل بنو أبي عمرو بن نعيم بن مهان من بني عبد الله بن غفار شامي وغربي بني مبشر بن غفار، ومعهم بنو خفاجة بن غفار.
ونزل بنو ليث بن بكر ما بين خط بني مبشر بن غفار إلى خط بني كعب بن عمرو بن خزاعة الذي يسلكك إلى دور الغطفانيين.(2/264)
قلت: يؤخذ مما سيأتي في منازل بني كعب أن منازل بني ليث كانت في قبلة خط بني مبشر، وشامي بني كعب؛ فتكون جهة منازل بني ليث في شامي التمارين وغربيهم، ولعل قول ابن زبالة في دار السوق في جهة المغرب قبل ذكر دار التمارين ثم جعل للسكة منفذا يريد به طريق بني ليث ومن يشركهم في ذلك. وقد قال ابن شبة في دور بني مخزوم: واتخذ أبو شريح الخزاعي حليف بني مخزوم دارا غربيها شارع على بطحان، وشاميها شارع إلى الزقاق الذي يدعى زقاق بني ليث، والله أعلم.
ونزل بنو أحمر بن يعمر بن ليث ما بين مسجدهم إلى سوق التمارين، واتخذوا المسجد الذي في محلتهم يدعى مسجد بني أحمر.
ونزل بنو عمر بن معمر بن ليث ما بين مسجدهم الذي يدعى مسجد بني كدل إلى بطحان إلى منزل بني مبشرين غفار إلى زقاق الجلادين الذي فيه دار الماجشون إلى دار أبي سبرة بن خلف إلى التمارين.
ونزل آل قسيط بن يعمر بن ليث ما بين شامي بني كعب من منازل آل نضلة بن عبيد الله ابن خراش إلى خط كتاب النصر إلى الشارع إلى المصلى إلى بطحان.
ونزل بنو رجيل بن نعيم بطرف المصلى بين غربي دار كثير بن الصلت أي التي هي قبلة المصلى إلى دار آل قليع الأسديين الشارعة على بطحان.
ونزل بنو عتوارة بن ليث- وهم بنو عضيدة- ما بين طرف دار الوليد بن عقبة اليماني ببطحان إلى الحرة إلى زقاق القاسم بن غنام من دار الوليد بن عقبة.
منازل بني ضمرة بن بكر
ونزل بنو ضمرة بن بكر إلا بني غفار محلتهم التي يقال لها بنو ضمرة، وهي شرقي ما بين دار عبد الرحمن بن طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر بالثنية إلى محلة بني الديل بن بكر إلى سوق الغنم الشارع إلى دار ابن أبي ذئب العامري، واتخذوا في محلتهم مسجدا.
منازل بني الديل
ونزل بنو الديل بن بكر في محلتهم- وهي ما بين ضمرة إلى الدار التي يقال لها دار الخرق- حدها زقاق الحضارمة، ويدعى الخط العظيم لها بني ضمرة، إلى جبل في مربد أبي عمار بن عبيس من بني الديل يقال له المستندر إلى دار الصلت بن نوفل النوفلي التي بالجبانة.
قلت: الجبل الذي ذكر أنه يسمى بالمستندر هو الجبل الصغير الذي في شرقي مشهد النفس الزكية بمنزلة الحاج الشامي؛ لانطباق الوصف المذكور عليه، والله أعلم.
ونزل أبو نمر بن عويف من بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة على بني ليث بن بكر فاتخذوا الدار التي يقال لها دار أبي نمر، وهي في خط بني أحمر بن ليث المتقدم ذكره.(2/265)
منازل ابني أفصى
منازل أسلم ومالك ابني أفصى- نزل بنو أسلم ومالك ابني أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر منزلين؛ فنزلت بنو مالك بن أفصى وأمية وسهم ابني أسلم ما بين خط زقاق ابن حبين مولى العباس بن عبد المطلب الشامي من زاوية يقصان التي بالسوق إلى خط جهينة إلى شامي ثنية عثعث.
قلت: قد علم مما سبق في دار السوق أن زقاق ابن حبين في غربي سوق المدينة، وسيأتي في ترجمة ثنية عثعث أنها منسوبة إلى جبل يقال له سليع عليه بيوت أسلم بن أفصى؛ فهي الثنية التي عند الجبيل الذي عليه حصن أمير المدينة اليوم، والمراد من بيوت أسلم منزل هؤلاء، والله أعلم.
ونزلت سائر أسلم، وهم آل بريدة بن الخصيب وآل سفيان- ما بين زقاق الحضارمة إلى زقاق القنبلة.
قلت: وذلك في شرقي مؤخر سوق المدينة مما يلي الشام، وفي جهة زقاق الحضارمة اليوم حديقة تعرف بالحضرمية شامي سور المدينة، وفي شاميها جهة زقاق القنبلة.
ونزلت هذيل بن مدركة ما بين شامي سائلة أشجع وزاوية دور يحيى بن عبد الله بن أبي مريم إلى دار حرام بن مزيلة بن أسد بن عبد العزى بالثنية زاويتها اليمانية، وذلك مجتمعها ومجتمع أسلم.
منازل مزينة ومن حل معها
منازل مزينة ومن حل معها من قيس عيلان بن مضر- ونزل بنو هدبة بن لاطم بن عثمان بن عمرو، إلا بني عامر بن نور بن لاطم بن عثمان، وعثمان نفسه الذي يقال له مزينة، وهي أمه- ما بين زاوية بيت القروي المطل على بطحان الغربية إلى زاوية بيت ابن هبار الأسدي الذي صار لبني سمعان الشرقية إلى خط بني زريق إلى دار الطائفي التي بشق بطحان الشرقي.
ونزل معها في هذه المحلة بنو شيطان بن يربوع من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس وبنو سليم بن منصور وعدوان بن عمرو بن قيس.
وعن شرقي خطة مزينة هذه سليم بن منصور إلى دار خلدة بن مخلد الزرقي، وأدنى دار أم عمرو بنت عثمان بن عفان إلى بيوت نفيس بن محمد مولى بني المعلى في بني زريق من الأنصار، إلى أن تلقى بني مازن بن عدي بن النجار؛ فهؤلاء الذين نزلوا مع مزينة، ودخل بعضهم في بعض، وإنما نزلوا جميعا لأن دارهم في البادية واحدة.(2/266)
قلت: فمنازل مزينة ومن حل معها في غربي مصلى العيد اليوم إلى عدوة بطحان الشرقية ثم في قبلة الدور التي بالمصلى ثم في قبلة بني زريق إلى بني مازن بن النجار.
وقد نزلت بنو ذكوان من بني سليم مع أهل راتج من اليهود، ما بين دار قدامة إلى دار حسن بن زيد بالجبانة.
قلت: ودار قدامة هي المرادة بقول ابن شبة في دور بني جمح «واتخذ قدامة بن مظعون الدار التي فيها المجزرة على فوهة سكة بني ضمرة ودبر دار آل أبي ذئب على يمينك وأنت ذاهب إلى بني ضمرة» والله أعلم.
ونزل بنو أوس بن عثمان بن مزينة بطرف السورين، ما بين دار أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق إلى مفضى السورين إلى الحمارين، الزقاق الذي فيه قصر بني يوسف مولى آل عثمان إلى البقال.
قلت: وهذه الأمور بقرب البقيع، كما سيأتي في تراجمها.
ونزل بنو عامر بن ثور بن ثعلبة بن هدبة بن لاطم ما بين بيت أم كلاب الذي في خط بني رزيق الشارع على المصلى إلى دار مدراقيس الطبيب إلى دار عمرو بن عبد الرحمن بن عوف ودار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ودار هشام بن العاص المخزومي.
قلت: ودار مدراقيس الطبيب لها ذكر في دور بني محارب بن فهر.
قال ابن شبة: واتخذ معمر بن عبد الله بن عامر دارا في بني زريق بين الدار التي يقال لها دار مدراقيس الطبيب ودار أم حسان التي صارت لعمر بن عبد العزيز العمري، وهذه الأماكن في قبلة ما تقدم مما يلي الدور التي في قبلة البلاط في الميمنة وما حولها، ولعل دار أم حسان المذكورة هي الموضع المعروف اليوم بدار حسان في قبلة الدور التي بالبلاط الموالية لدرب سويقة، والله أعلم.
منازل جهينة وبلى- ونزل جهينة بن زيد بن السود بن الحارث بن قضاعة وبلى بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة ما بين خط أسلم الذي بين أسلم وجهينة، إلى دار حرام بن عثمان السلمي الأنصاري التي في بني سلمة إلى الجبل الذي يقال له جبل جهينة إلى يماني ثنية عثعث التي عليها دار ابن أبي حكيم الطيب.
قلت: ذكر دار حرام بن عثمان في بني سلمة يرجح أن المراد بجبل جهينة أحد الجبلين اللذين في غربي مساجد الفتح، وهناك منازل بني حرام من بني سلمة، وقد تقدم بيان ثنية عثعث، وأنها منسوبة إلى الجبل الذي عليه حصن أمير المدينة اليوم، والله أعلم.
منازل قيس بن عيلان- نزلت أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس الشعب الذي يقال له شعب أشجع، وهو ما بين سائلة أشجع إلى ثنية الوداع إلى جوف شعب سلع، وخرج إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحمال التمر فنثره لهم، واتخذت أشجع في محلتها مسجدا.(2/267)
قلت: وما ذكره منطبق إما على شعب سلع الذي في شرقيه، فتكون منازلهم بين خط أسلم الذي في شامي ثنية عثعث وبين جبل سلع وهكذا إلى ثنية الوداع، وإما على شعب سلع الذي في شاميه، وقال عروة بن الزبير: قدمت أشجع في سبعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة فنزلوا شعبهم، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأحمال التمر، فقال: يا معشر أشجع، ما جاء بكم؟ قالوا: يا رسول الله جئناك لقرب ديارنا منك، وكرهنا حربك، وكرهنا حرب قومنا لقلتنا فيهم؛ فأنزل الله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ إلى قوله تعالى: سَبِيلًا [النساء: 90] .
ونقل ابن شبة في تأديب عمر بن الخطاب الرعية في أمر دينهم أن رجلا من أشجع يقال له بقيلة كان غازيا، فبلغه أن جعدة بن عبد الله السلمي يحدث النساء، وأن جواري يخرجن إلى سلع فيحدثهن، ثم يعقل الجارية ويقول: قومي في العقال فإنه لا يصبر على العقال إلا حصان، فتقوم ساعة ثم تسقط، فربما تكشفت، فكتب الأشجعي إلى عمر:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
فما قلص تقمن معقّلات ... قفا سلع لمختلف النّجار
قلائص من بني سعد بن بكر ... أو اسلم أو جهينة أو غفار
يعقّلهنّ جعدة من سليم ... معيدا يبتغي سقط العذاري
قلائصنا هداك الله إنا ... شغلنا عنهم زمن الحصار
يعقّلهن أبيض شيظميّ ... فبئس معقّل الذود الطّواري
فدعا عمر بجعدة فقال: أنت لعمري كما وصف أبيض شيظمي، وسأله فأقرّ فضربه مائة معقولا، وغرّبه إلى الشام، فكلّم فيه، فأذن له على ألايدخل المدينة، ثم أذن له أن يجمع، ثم أذن له أن يدخل في الجمعة مرتين.
وقال ابن إسحاق: الذي كتب بالشعر رجل من هوازن يدعى خيثمة.
منازل بني جشم
ونزلت بنو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس محلتها التي يقال لها بنو جشم، وهي ما بين الزقاق الذي يقال له زقاق سفين إلى الأساس الذي يقال له أساس إسماعيل بن الوليد إلى خوخة الأعراب إلى دور ذكوان مولى مروان بن الحكم.
قلت: ولم أعرف شيئا مما ذكره، غير أنه ذكر في دور بني جمح أن محمد بن حاطب اتخذ الدار التي تدعى دار قدامة في بني زريق شرقيها الدار التي يقال لها دار الأعراب، فلعل خوخة الأعراب وما ذكر معها في تلك الجهة، والله أعلم.(2/268)
ونزلت بنو مالك بن حماد وبنو زنيم وبنو سكين من فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ذئب ابن غطفان المحلة التي يقال لها بنو فزارة، وهي إلى حمام الصعبة إلى سوق الحطابين الذي بالجبانة، ولم ينزلها أحد من بني عدي بن فزارة.
قلت: والذي علمنا جهته من ذلك سوق الحطابين بالجبانة قرب مسجد الراية وثنية الوداع كما سيأتي في ترجمة الجبانة، والله أعلم.
منازل بني كعب بن عمرو، وإخوتهم من بني المصطلق
نزل بنو كعب بن عمرو بن عدي بن عامر ما بين يماني بني ليث بن بكر إلى دار شريح العدوي إلى موضع التمارين بالسوق إلى زقاق الجلادين الشارع على المصلى يمنة ويسرة إلى بطحان إلى زقاق كدام، وكدام: سقاط كان هناك، إلى دار ابن أبي سليم الشارعة على شامي المصلى.
ونزلت بنو المصطلق بن سعد بن عمرو وأخوه كعب بن عمرو رهط جويرية بنت الحارث زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ظاهرة حرة بني عضدة إلى أدنى دار عمر بن عبد العزيز إلى الدار التي يقال لها دار الخرازين.
قلت: وذلك بالحرة الغربية.
سعة المدينة في عهد النبي
ومن تأمل ما ذكر في دور المهاجرين ومنازل القبائل منهم- مع ما سبق في منازل الأنصار- رأى أمرا عظيما فيما كان من عمارة المدينة وسعتها، واتصال بعضها ببعض، وآثار ما كان من العمارة شاهد بذلك اليوم، واسم المدينة صادق على ذلك كله، وسيأتي في ترجمة قباء أنها كانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة الشريفة، أي بما بينها من النخيل، ولهذا لم تكن الجمعة تقام بغير المسجد النبوي، ولو كانت قباء وغيرها من القرى المنفصلة اليوم منفصلة في زمنه صلّى الله عليه وسلّم وبها تلك القبائل من الناس لوجب إقامة الجمعة في كل قرية بها أربعون كما تقرر في موضعه، فقد كانت كلها في حكم البلد الواحد، فسبحان من يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
اتخاذ سور المدينة
ولما طرق المدينة الشريفة الخراب في أطرافها جعلوا لها سورا، قال المجد الفيروزبادي:
سور المدينة الشريفة بناه أولا عضد الدولة بن بويه بعد الستين وثلاثمائة في خلافة الطائع لله بن المطيع لله، ثم تهدم على طول الزمان وتخرب لخراب المدينة، ولم يبق إلا آثاره ورسمه.
وقال المطري في الكلام على مسجد جهينة: إن ناحية جهينة معروفة غربي حصن(2/269)
صاحب المدينة والسور القديم، بينها وبين جبل سلع، وعندها أثر باب للمدينة معروف بدرب جهينة إلى تاريخ كتابه، وهو سنة ست وستين وسبعمائة.
قلت: قد قدمنا ما يخالف ما ذكره في ناحية جهينة؛ لأنا وإن لم نر الباب الذي أشار إليه، لكن رأينا آثار السور القديم قبلي جبل سلع، وقرب الحصن المذكور. ويظهر من حاله أن غالب منازل جهينة وغيرها من المنازل المتقدمة كانت في جوفه، وأنه كان في جهة المغرب على شفير بطحان بالعدوة الشرقية؛ لأن الأقشهري نقل في روضته عن صاحب سور الأقاليم أنه قال: المدينة أقل من نصف مكة، وهي في حرة سبخة الأرض، وبها نخل كثير، ومياه نخيلهم وزرعهم من الآبار يسقي منها العبيد، وعليها سور، والمسجد في نحو من وسطها. ثم ذكر صفة المسجد والقبر الشريف، ثم قال: ومصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يصلي فيه الأعياد من غربي المدينة داخل الباب، انتهى. فكون المصلى داخل الباب شاهد لما ذكرنا، وقد صرح بنحوه الإمام أبو عبد الله الأسدي فإنه ذكر المساجد الخارجة عن المدينة، ثم ذكر المساجد التي بالمدينة فقال: وداخل المدينة مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
سور آل زنكي
وقال المطري بعد ذكره لما تقدم من باب هذا السور القديم: ونقل ابن خلكان أن سور هذا الباب القديم بناه عضد الدولة بن بويه بعد الستين وثلاثمائة من الهجرة في أيام الطائع لله ابن المطيع، ثم تهدم على طول الزمان وخرب لخراب المدينة، ولم يبق إلا آثاره حتى جدد لها جمال الدين محمد بن أبي منصور- يعني الجواد الأصبهاني وزير بني زنكي- سورا محكما حول المسجد الشريف على رأس الأربعين وخمسمائة من الهجرة، ثم كثر الناس من خارج السور، ووصل السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في سنة سبع وخمسين وخمسمائة إلى المدينة الشريفة بسبب رؤيا رآها، وذكر ما قدمناه عنه في خاتمة الفصل التاسع والعشرين.
ثم قال: إنه لما ركب متوجها إلى الشام صاح به من كان نازلا حول السور واستغاثوا وطلبوا أن يا بني عليهم سورا يحفظ أبناءهم وماشيتهم، فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم، فبنى في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكتب اسمه على باب البقيع؛ فهو باق إلى تاريخ هذا الكتاب.
قلت: وهو باق على باب البقيع إلى أن كتبنا كتابنا هذا، وصورته في صفحات الحديد المصفح بها الباب: هذا ما أمر بعمله العبد الفقير إلى الله تعالى محمود بن زنكي بن أقسنقر، غفر الله له، سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وهذا لا يدل على أنه أنشأ السور.
وعبارة البدر بن فرحون عند ذكره لمحاسن نور الدين الشهيد رحمه الله ما لفظه: وبنى(2/270)
أيضا سور بعلبك، وكمل بناء سور المدينة، وهو سورها الموجود اليوم، واسمه مكتوب على باب البقيع، وأما السور الذي داخل المدينة فإنما أحدثه الوزير جمال الدين محمد بن أبي منصور، وكان وزيرا لوالد الملك العادل يعني زنكي ثم استوزره بعد زنكي ولده غازي بن زنكي يعني أخا الملك العادل؛ فهذا يقتضي أن الملك العادل إنما كمل بناء السور الموجود اليوم فقط، ويبعده ما ذكره من بناء الجواد لسوره؛ فإنه لو كان السور المذكور موجودا لكان هو أكمله ولم ينشئ سورا غيره، ومدة بناء السورين المذكورين متقاربة كما يعلم مما قدمناه.
من ماثر الجواد الأصفهاني
وقال المجد: إن الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن أبي شامة قال في كتابه ما صورته:
ومن أعظم الأعمال التي عملها نفعا- يعني وزير الموصل جمال الدين الجواد- أنه بنى سورا على مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنها كانت بغير سور ينهبها الأعراب، وكان أهلها في ضنك وضر معهم.
قال ابن الأثير: رأيت بالمدينة إنسانا يصلي الجمعة، فلما فرغ ترحم على جمال الدين ودعا له، فسألناه عن سبب ذلك، فقال: يجب على كل مسلم بالمدينة أن يدعو له؛ لأننا كنا في ضر وضيق ونكد عيش مع العرب، لا يتركون لأحدنا ما يواريه ويشبع جوعته، فبنى علينا سورا احتمينا به ممن يريدنا بسوء، فاستغنينا، فكيف لا ندعو له؟ قال عقبه: قلت:
وهذا السور الذي بناه جمال الدين هو السور الثاني، والسور الذي بناه الملك العادل نور الدين هو السور الثالث، أي بحسب الزمان، وعلى كل منهما اسم بانيه على الأبواب، وأما السور الأول الذي بناه عضد الدولة فلم يبق منه أثر يعرف به مكانه، انتهى. هكذا نقلته من تاريخ المجد. وبقوله انتهى ظهر أن قوله قلت إلى آخره من كلام ابن أبي شامة، ويحتمل أن يكون من كلام ابن الأثير.
وقال المجد عقبه: قال: وكان الخطيب بالمدينة يقول في خطبته «اللهم صن حريم من صان حرم نبيك بالسور محمد بن علي بن أبي منصور» فلو لم يكن له إلا هذه المكرمة لكفاه فخرا، فكيف وقد أصابت صدقته تخوم الأرض شرقا وغربا وبرا وبحرا؟
وأما شدة عنايته بأهل المدينة فكانت عظيمة، قال ابن الأثير: حكى لي بعض الصوفية ممن كان يصحب الشيخ عمر التشاي شيخ شيوخ الموصل قال: أحضرني الشيخ فقال لي:
انطلق إلى مسجد الوزير بظاهر الموصل واقعد هناك، فإذا أتاك شيء فاحفظه إلى أن أحضر عندك، ففعلت، فإذا قد أقبل جمع كثير من الحمالين يحملون أحمالا من النصافي والخام، وإذا نائب جمال الدين قد جاء مع الشيخ ومعهما قماش كثير وثمانية عشر ألف دينار وعدة كثيرة من الجمال، فقال لي: تأخذ هذه وتسير إلى الرحبة وتوصل هذه الرزمة وهذا الكتاب إلى(2/271)
متوليها فلان، فإذا حضر لك فلان العربي فتوصل إليه هذه الرزمة الآخرى وهذا الكتاب وتسير معه، فإذا أوصلك إلى فلان العربي توصل إليه هذه الرزمة وهذا الكتاب، وهكذا إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فتوصل إلى وكيلي فلان هذه الأحمال، وهذه الكسوات والمال الذي عليه اسم المدينة ليخرجها بمقتضى هذه الجريدة، ثم تأخذ الباقي الذي عليه اسم مكة فتسير إليها فيتصدق به وكيلي بموجب الجريدة الآخرى، فسرنا بذلك إلى وادي القرى، فرأينا هناك جمالا كثيرة تحمل الطعام إلى المدينة، وقد منعهم خوف الطريق، فلما رأونا ساروا معنا إليها فوصلناها والحنطة بها كل صاعين بدينار مصري، والصاع- أي: في ذلك الزمان- خمسة عشر رطلا بالبغدادي، فلما رأوا المال والطعام اشتروا كل سبعة آصع بدينار، فانقلبت المدينة بالدعاء له.
قلت: وقد قدمنا كيفية نقله إلى المدينة الشريفة بعد موته ودفنه بتربته التي برباطه المجاور للمسجد الشريف عند ذكر باب عثمان وهو باب جبريل لمقابلته له، وتقدم ذكره أيضا في ترخيم الحجرة الشريفة.
ومن أعماله الحسنة: تجديد مسجد الخيف، وإجراء عين عرفة، وبناء جدار الحجرة وترخيمه، وتجديد باب الكعبة، وكان النعش الذي حمل فيه هو باب الكعبة القديم، وفيه يقول أبو المجد بن قسيم:
أغرّ تبصر منه الناس في رجل ... واللّيث في بشر، والبدر في غصن
سما بهمته في المكرمات إلى ... علياء تقصر عنها همّة الزّمن
إلى أن قال فيه:
صان المدينة تسويرا وصوّرها ... في الحسن غادة ملك الشام واليمن
وصان بالمال أهليها فما بقيت ... هزلاء إلّا تشكّت كثرة السّمن
أبواب السور
ولسور المدينة اليوم أربعة أبواب غير باب حصن أمير المدينة المعروف بباب السر، وهو باب عظيم كله من الحديد.
وأما الأبواب الأربعة:
فأحدها: [يعرف بدرب المصلى]
الباب الذي غربي المدينة في جهة المصلى عند منزلة الحاج المصري، ويعرف بدرب المصلى، ودرب سويقة، وذرع ما بينه وبين عتبة باب السلام ستمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا، وكان عليه باب متقن أحرقه بعض صبيان الأمير ضغيم سنة عزله، فأخذ أمير المدينة باب الحوش الذي عمره الأمير ضغيم وجعله عليه، ثم عمل باب متقن كالأول في عمارة المسجد المتجددة بعد الحريق الثاني.(2/272)
ثانيها: [يعرف بالدرب الصغير]
الباب الذي في جهة المغرب أيضا عند رحبة حصن أمير المدينة يعرف بالدرب الصغير.
ثالثها: [يعرف بالدرب الكبير]
الباب المعروف بالدرب الكبير، وبالدرب الشامي.
رابعها: [يعرف بدرب البقيع]
الباب المعروف بدرب البقيع في شرقي المدينة، ويعرف بدرب الجمعة، وعليه باب متقن مغشى بصفائح الحديد، والظاهر أنه باق من زمن نور الدين الشهيد لما قدمناه من الكتابة عليه.
وذرع ما بينه وبين عتبة باب المسجد المعروف بباب جبريل أربعمائة ذراع وثلاثة وثلاثون ذراعا.
وفي قبلة سور المدينة موضع باب مسدود اليوم، وكان يعرف بدرب السوارقية.
ولم يزل الملوك يهتمون بعمارة سور المدينة، ويصلحون ما وهى منه.
وقد ذكر الزين المراغي أنه جدّد في سنة خمس وخمسين وسبعمائة في أيام الملك الصالح صالح أحد أولاد الناصر محمد بن قلاوون.
وذكر البدر بن فرحون أن الأمير سعد بن ثابت بن حماد ابتدأ في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة عمل الخندق الذي حول السور المذكور، ومات ولم يكمله، وأكمله الأمير فضل بن قاسم بن حماد في ولايته بعده، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تم- بحمد الله تعالى وحوله- الجزء الثاني من كتاب «وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» صلّى الله عليه وسلّم. ويليه- إن شاء الله- الجزء الثالث، وأوله «الباب الخامس، في مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأعياد» نسأله- جلت قدرته- أن يعين على إكماله، بمنه وفضله وتيسيره، إنه لا ييسر إلى الخير سواه.(2/273)
فهرس الجزء الثاني
الفصل الرابع الروايات في حنين الجذع 3
صانع المنبر 5
موضع الجذع 6
شهرة حديث حنين الجذع 7
الموضع الذي دفن فيه الجذع 7
بدعة اصطنعها الناس بسبب الجذع 7
عود إلى الاختلاف في صانع المنبر 8
أراد معاوية أن ينقل المنبر إلى الشام 10
رفع المنبر ست درجات 10
عدد درجات المنبر 11
مساحة المنبر 12
كسوة المنبر 20
ستور الأبواب كسوة الحجارة 20
الفصل الخامس في فضائل المسجد الشريف 20
المسجد الذي أسس على التقوى 21
فضل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 21
فضل الصلاة في مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم 22
هل فضل الصلاة في المساجد الثلاثة يختص بالفرض؟ 26
مرجع مضاعفة فضل الصلاة 27
هل يختص التضعيف بالصلاة؟ 27
الفصل السادس في فضل المنبر المنيف، والروضة الشريفة 29
معنى كون المنبر على الحوض 31
معنى أن الروضة من رياض الجنة 31
الفصل السابع في الأساطين المنيفة 38
الأسطوان المخلق 38
أسطوان القرعة 39(2/274)
أسطوان التوبة 40
أسطوان السرير 44
أسطوان المحرس 45
أسطوان الوفود 45
أسطوان مربعة القبر 46
أسطوان التهجد 46
الفصل الثامن في الصّفة وأهلها، وتعليق الأقناء لهم بالمسجد 48
وصف الصفة وموضعها 48
أهل الصفة 49
مبدأ تعليق الأقناء 51
الفصل التاسع في الحجرة الشريفة، وبيان إحاطتها بالمسجد الشريف إلا من جهة المغرب 52
المشربة 55
الفصل العاشر في حجرة فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنها 57
الفصل الحادي عشر في الأمر بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد الشريف 60
الفصل الثاني عشر في زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد 67
بين عمر والعباس 68
الفصل الثالث عشر في البطيحاء التي بناها عمر رضي الله عنه بناحية المسجد، ومنعه من إنشاد الشعر ورفع الصوت فيه، وما جاء في ذلك 78
الفصل الرابع عشر في زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه 81
الفصل الخامس عشر في المقصورة التي اتخذها عثمان رضي الله عنه في المسجد وما كان من أمرها بعده 87
الفصل السادس عشر في زيادة الوليد بن عبد الملك على يد عمر بن عبد العزيز 89
الفصل السابع عشر فيما اتخذه عمر في المسجد في زيادة الوليد من المحراب والشّرفات والمنائر، واتخاذ الحرس، ومنعهم من الصلاة على الجنائز فيه 98
أول من أحدث المحراب والشرفات 98
عثمان أول من خلق المسجد ورزق المؤذنين 102
اتخاذ حرس للمسجد 102
الصلاة على الجنائز في المساجد 102
الشيعة غير الأشراف 103(2/275)
الفصل الثامن عشر في زيادة المهدي 105
الفصل التاسع عشر فيما كانت عليه الحجرة الشريفة الحاوية للقبور المنيفة في مبدأ
الأمر 108
أول من بنى جدارا على بيت عائشة 109
الفصل العشرون فيما حدث من عمارة الحجرة بعد ذلك، والحائز الذي أدير عليها 111
الفصل الحادي والعشرون فيما روي من الاختلاف في صفة القبور الشريفة، بالحجرة المنيفة 115
رواية نافع في وضع القبور 115
رواية القاسم بن محمد 116
رواية عثمان بن نسطاس 117
رواية المنكدر بن محمد 117
رواية عمرة عن عائشة 118
رواية أخرى عن القاسم بن محمد 118
رواية عبد الله بن محمد بن عقيل 119
بقي بعدها موضع قبر 121
الملائكة يحفون بالقبر 122
لا ينبغي رفع الصوت في المسجد 122
سنة أهل المدينة في أعوام الجدب 123
الفصل الثاني والعشرون فيما ذكروه من صفة الحجرة الشريفة، والحائز المخمس الدائر عليها، وبيان ما شاهدناه مما يخالف ذلك 123
الفصل الثالث والعشرون في عمارة اتفقت بالحجرة الشريفة على ما نقله الأقشهري عن ابن عاث، وما وقع من الدخول إليها عند الحاجة له وتأزيرها بالرخام 130
الفصل الرابع والعشرون في الصندوق الذي في جهة الرأس الشريف، والمسماة الفضة المواجه للوجه الشريف، ومقام جبريل من الحجرة الشريفة، وكسوتها، وتخليقها 133
كسوة الحجرة النبوية 138
الفصل الخامس والعشرون في قناديل الذهب والفضة التي تعلق حول الحجرة الشريفة، وغيرها من معاليقها 140
القناديل 140
حكم معاليق المسجد النبوي 145
الفصل السادس والعشرون في الحريق الأول القديم المستولي على تلك الزخارف المحدثة(2/276)
بالحجرة الشريفة والمسجد وسقفهما، وما أعيد من ذلك، وما تجدد من توسعة المسقف القبلي بزيادة الرواقين فيه، وغير ذلك 150
سبب الحريق وتاريخه 150
حكمة الله في الحريق 151
الشروع في العمارة بعد الحريق 152
الفصل السابع والعشرون في اتخاذ القبة الزرقاء التي جعلت على ما يحاذي سقف الحجرة الشريفة بأعلى سقف المسجد، تمييزا لها، وإبدالها بالقبة الخضراء والمقصورة الدائرة بالحجرة الشريفة 157
القبة الزرقاء 157
المقصورة الدائرة على الحجرة 159
الفصل الثامن والعشرون فيما تجدد من عمارة الحجرة الشريفة في زماننا على وجه لم يخطر قط بأذهاننا، وما حصل بسببه من إزالة هدم الحريق الأول من ذلك المحل الشريف، ومشاهدة وضعه المنيف، وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة في هذه العمارة 164
الفصل التاسع والعشرون في الحريق الحادث في زماننا بعد العمارة السابقة وما ترتب عليه 175
خاتمة فيما نقل من عمل نور الدين الشهيد لخندق حول الحجرة الشريفة مملوء بالرصاص، وذكر السبب في ذلك، وما ناسبه 185
الفصل الثلاثون في تحصيب المسجد الشريف وذكر البزاق فيه، وتخليقه، وإجماره، وذكر شيء من أحكامه 190
أول تحصيب المسجد النبوي 190
حكم البزاق في المسجد 191
مبدأ تخليق المسجد 193
تخليق القبر 195
تجمير المساجد 195
فرش المساجد 196
الحدث في المسجد 198
القراءة في المصحف بالمسجد 198
بعث المصاحف إلى بالمسجد 199
مصاحف عثمان التي أرسلها إلى الآفاق 200(2/277)
تعليق المصابيح في المسجد وصف عام 201
الفصل الحادي والثلاثون فيما احتوى عليه المسجد من الأروقة والأساطين والبالوعات والسقايات والدروع، وغير ذلك مما يتعلق به من الرسوم 201
وصف عام 201
جدران المسجد 202
عدد أساطين المسجد 203
عدد بالوعات المسجد 206
سقايات المسجد 206
حواصل المسجد 208
قناديل المسجد 208
في صحن المسجد نخيل مغروسة 209
أئمة المسجد 210
عرض جدر المسجد 210
الفصل الثاني والثلاثون في أبواب المسجد وما سد منها، وما بقي، وما يحاذيها من الدور قديما وحديثا 212
أبواب المسجد 212
باب النبي صلّى الله عليه وسلّم 213
باب علي 214
باب عثمان باب جبريل 214
باب ريطة (باب النساء) 216
باب سادس 217
باب سابع 217
باب ثامن 218
أبواب المسجد الشامية 218
باب تاسع 219
باب عاشر 219
الباب الحادي عشر 219
الباب الثاني عشر 219
الباب الثالث عشر 219
الباب الرابع عشر 220(2/278)
الباب الخامس عشر 220
الباب السادس عشر 220
باب عاتكة (باب السوق) (وباب الرحمة) 220
باب زياد (باب القضاء) 221
خوخة تجاه خوخة أبي بكر 225
الفصل الثالث والثلاثون في خوخة آل عمر رضي الله تعالى عنه المتقدم ذكرها، وما يتعين من سدّها في زماننا 227
تحديد موضع خوخة آل عمر 227
اتخاذ بعض الناس بابا وسيلة للتدجيل 228
حج السلطان قايتباي 230
وقف السلطان قايتباي لأهل المدينة المنورة 232
من آثار قايتباي بالحرمين الشريفين 234
الفصل الرابع والثلاثون فيما كان مطيفا بالمسجد الشريف من الدور، وما كان من خبرها، وجلّ ذلك من منازل المهاجرين رضي الله تعالى عنهم 235
رسول الله يخط دور المدينة 235
دار آل عمر بن الخطاب 235
بيت لأبي بكر الصديق صار لآل عمر 236
دار مروان بن الحكم 237
دار رباح ودار المقداد 238
دار مطيع بن الأسود 238
دار حكيم بن حزام 239
دار عبد الله بن مكمل 239
دار النحام 240
دار جعفر بن يحيى 240
دار نصير 241
دار منيرة مولاة أم موسى 241
حش طلحة 241
أبيات خالصة 242
دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف 242
دار موسى المخزومي 243(2/279)
أبيات الصوافي 243
دار خالد بن الوليد 244
دار أسماء بنت حسين 244
دار ريطة 245
دار عثمان بن عفان 245
دار أبي أيوب الأنصاري 246
دار جعفر الصادق 246
دار حسن بن زيد 246
دار فرج الخصي 246
دار عامر بن الزبير بن العوام 247
الفصل الخامس والثلاثون في البلاط، وبيان ما ظهر لنا مما كان حوله من منازل المهاجرين 247
تحديد مكان البلاط 247
حدود البلاط 248
بيان الدور المطيفة بالبلاط 251
الفصل السادس والثلاثون فيما جاء في سوق المدينة التي تصدق به النبي صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين، وذكر دار هشام ابن عبد الملك التي أخذ بها السوق 256
الرسول ينشئ السوق 256
أسواق المدينة في الجاهلية 256
هدم الدار التي وضعت مكان السوق 260
بيت أم كلاب 261
البطحاء 261
بقيع الخيل 261
بركة السوق 262
الفصل السابع والثلاثون في منازل القبائل من المهاجرين، ثم اتخاذ السور على المدينة 263
منازل بني غفار 263
منازل بني ليث بن بكر 264
منازل بني ضمرة بن بكر 265
منازل بني الديل 265
منازل ابني أفصى 266(2/280)
منازل مزينة ومن حل معها 266
منازل بني جشم 268
منازل بني كعب بن عمرو، وإخوتهم من بني المصطلق 269
سعة المدينة في عهد النبي 269
اتخاذ سور المدينة 269
سور آل زنكي 270
من ماثر الجواد الأصفهاني 271
أبواب السور 272(2/281)
الجزء الثالث
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الباب الخامس في مصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأعياد، وغير ذلك من المساجد
التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، مما علمت عينه أو جهته، بالمدينة وما حولها، وما جاء في مقبرتها ومن دفن بها، والمشاهد المعروفة، وفضل أحد والشّهداء به. وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول في المصلّى في الأعياد، وفيه أطراف
[الطرف] الأول: في الأماكن التي صلّى فيها النبي ص العيد.
أول عيد صلاه النبي بالمصلى
قال الواقديّ: أول عيد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصلّى سنة اثنتين من مقدمه المدينة من مكة، وحملت له العنزة وهو يومئذ يصلي إليها في الفضاء، وكانت العنزة للزبير بن العوام، أعطاه إياها النّجاشي فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان يخرج بها بين يديه يوم العيد، وهي اليوم بالمدينة عند المؤذنين، يعني يخرجون بها بين يدي الأئمة في زمانهم.
وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال: لما رجعنا من بني فينقاع ضحينا أول أضحى في ذي الحجة صبيحة عشر، فكان أول أضحى رآه المسلمون، وذبح أهل اليسر من بني سلمة، فعددت في بني سلمة سبع عشرة أضحية.
مكان مصلى العيد
وروى ابن زبالة وابن شبة عن أبي هريرة قال: أول فطر وأضحى صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بالمدينة بفناء دار حكيم بن العداء عند أصحاب المحامل.
وروى الثاني عن ابن أبي فروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ذلك المكان.
وروى الأول عنه ما يقتضيه؛ فإنه روى عن إبراهيم بن أبي أمية قال: أدركت مسجدّا في زمان عثمان عند حرف زاوية أبي يسار عند أصحاب المحامل، وليس ثم مسجد غيره، وذلك المسجد هو الذي صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أضحى، وضحّى هناك هو وأصحابه حتى احتملت ضحاياهم من عنده.
قال: وأخبرني من رأى الأنصار يحملون ضحاياهم من هناك، ثم روى عن ابن أبي(3/3)
فروة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في ذلك المسجد وهو خلف المجزرة التي بفناء دار العداء بن خالد، وبقال لها: دار أبي يسار.
قلت: فالروايات المذكورة متّفقة على الصلاة بالمحلّ المذكور، ودار حكيم بن العداء هي دار أبيه العداء بن خالد بن هوذة بن بكر بن هوازن؛ فلا مخالفة في ذلك، ولم أعلم محل داره، غير أن الظاهر من قوله «عند أصحاب المحامل» أنه موضع بأعلى السوق مما يلي المصلى، وفي أول الروايات المذكورة بيان أن الصلاة فيه كانت في أول الأمر.
تعدد موضع صلاة العيد
وروى ابن زبالة أيضا ما يخالف بالنسبة إلى الأولية عن إبراهيم بن أبي أمية عن شيخ من أهل السنّ والثقة قال: أول عيد صلّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في حارة الدوس عند بيت ابن أبي الجنوب، ثم صلى العيد الثاني بفناء دار حكيم عند دار حفرة داخلا في البيت الذي بفنائه المسجد، ثم صلى العيد الثالث عند دار عبد الله بن درة المزني داخلا بين الدارين دار معاوية ودار كثير بن الصّلت، ثم صلى العيد الرابع عند أحجار كانت عند الحناطين بالمصلى، ثم صلى داخلا في منزل محمد بن عبد الله بن كثير بن الصلت، ثم صلى حيث يصلي الناس اليوم.
وروى ابن شبة من طريق إبراهيم بن أبي أمية مولى بني عامر بن لؤي قال: سمعت ابن باكية يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد عند دار الشفّاء، ثم صلى في حارة الدوس، ثم صلى في المصلى؛ فثبت يصلّى فيه حتى توفاه الله تعالى.
وروى أيضا عن ابن شهاب قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد في موضع آل درة، وهم حي من مزينة، ثم صلى دون ذلك في مكان أطم بني زريق عند أذنه اليسرى.
قلت: قوله «ثم صلى في المصلى فثبت يصلي فيه حتى توفاه الله تعالى» هو بمعنى قوله في الرواية التي قبلها «ثم صلى حيث يصلي الناس اليوم» يعني بالمسجد المعروف بمسجد المصلى.
بين مصلى العيد وباب السلام ألف ذراع
وقد نقل ابن شبة عن شيخه أبي غسّان وهو الكناني من أصحاب مالك أنه قال: ذرع ما بين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عنده دار مروان بن الحكم وبين المسجد الذي يصلي فيه العيد بالمصلى ألف ذراع.
قلت: وقد اختبرته فكان كذلك، وهذا المسجد هو المراد بقوله في حديث ابن عباس في الصحيح «إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى في يوم عيد إلى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت الحديث» وكأنهم كانوا قبل اتخاذ المسجد بذلك المحل جعلوا الصلاة الشريف شيئا يعرف به، وهو المراد بالعلم بفتحتين.
وقال ابن سعد: كانت دار كثير بن الصلت قبلة المصلي في العيد، وهي تطل على(3/4)
بطحان الوادي في وسط المدينة، انتهى. وليس المراد أنها متصلة بوادي بطحان، بل بينهما بعد. ودار كثير هذه كانت قبله للوليد بن عقبة، ثم اشتهرت بكثير بن الصلت، وهو من التابعين، ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فوقع التعريف بداره ليقرب إلى ذهن السامع فهم ذلك، وليس كثير بن الصلت هو الذي اختطها، خلافا لما وقع في كلام الحافظ ابن حجر حيث قال: وإنما بنى كثير بن الصلت داره بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، لكنها لما كانت شهيرة في تلك البقعة وصف المصّلى بمجاورتها، انتهى. ومأخذنا فيما قدمناه قول ابن شبة في دور بني عبد شمس ونوفل: واتخذ الوليد بن عقبة بن أبي معيط الدار التي في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي صلى إليها العيد، وهي يصلي إليها اليوم لآل كثير بن الصلت الكندي، فجلد عثمان الوليد في الشراب، فحلف لا يساكنه إلا وبينهما بطن واد، فعارض كثير بن الصلت بداره هذه إلى دار كثير ببطحان التي يقال لها دار الوليد بن عقبة في شفير الوادي، أي من العدوة الغربية كما بينه في موضع آخر.
تحديد المواضع التي صلى فيها العيد
وأما الموضع المذكور لصلاة العيد أولا عند أصحاب المحامل- وهم الذين يبيعون المحامل ويصنعونها- فيظهر أنه المسجد المعروف اليوم بمسجد علي رضي الله تعالى عنه الآتي ذكره.
وأما الموضع المذكور في الرواية الآخرى عند دار بن أبي الجنوب فلم أعلم محله، غير أن دار ابن أبي الجنوب كانت بالحرّة الغربية التي غربي وادي بطحان كما يؤخذ مما سيأتي في الخندق ومسجد الشجرة والمغرس.
وأما الموضع المذكور في قوله «عند دار عبد الله بن درة المزني إلى آخره» فقد تقدم أن منازل مزينة كانت في غربي المصلى وفي قبلتها. وتقدم أن دار كثير بن الصّلت كانت قبلة المصلى، ودار معاوية رضي الله تعالى عنه كانت في مقابلتها، وسيأتي في بيان طريقه صلى الله عليه وسلم إلى قباء أنه كان يمر على المصلى ثم يسلك في موضع الزقاق بين الدارين المذكورتين؛ فيكون ذلك المحل في قبلة المصلى اليوم: إما من المغرب، وإما من المشرق، والأول هو الأقرب.
وأما بقية المواضع المذكورة فلم أعرف جهاتها، غير أن الذي يظهر أنها حول المصلى، وبعضها بسوق المدينة، لذكر الحناطين فيها، وسيأتي في مشهد مالك بن سنان أنه بطرف الحناطين، والظاهر أن من هذه المواضع المسجد المعروف اليوم بمسجد أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالحديقة المعروفة بالعريضية، كما سيأتي عن المطري.
وأما ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع فصلى ركعتين ثم أقبل(3/5)
علينا بوجهه وخطب وقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر- الحديث؛ فظاهره أن المراد بقيع الغرقد، لكني أستبعده؛ لأن المتقدمين من مؤرخي المدينة لم يذكروا ذلك مع اشتهار هذا الحديث، وكذلك المطري ومن تبعه. وأغرب الحافظ ابن حجر فقال في الكلام على ترجمة البخاري للرجم بالمصلّى: المراد المكان الذي كان يصلى عنده العيد والجنائز، وهو من ناحية بقيع الغرقد، اه.
ومأخذه في ذلك ظاهر هذا الحديث، مع ما ورد من رواية أخرى من الرجم عند موضع الجنائز، وقد تقدم أن موضع الجنائز في شرقي المسجد عند باب جبريل، وليس هو من البقيع، وأما المصلي حيث أطلقت فإنما يراد بها الموضع المعروف الذي قدمناه في غربي المدينة، وبقيع الغرقد في شرقيها، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في موضع آخر على الصواب كما سيأتي عنه في الطرف الثاني، وعلى تقدير أن يكون المراد من حديث البراء المتقدم بقيع الغرقد فهو من المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض السنين، وليس هو المراد إذا أطلق المصلى جزما.
والذي يترجح عندي أن المراد بالبقيع في حديث البراء سوق المدينة؛ لما قدمناه فيه من أنه كان يسمى بقيع الجبل، وهو أحد الأماكن المتقدم ذكرها لصلاة العيد، وكذلك هو المراد من حديث ابن عمر «أني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير» كما قدمناه.
وقال الجمال المطري عقب نقله لما قدمناه عن ابن زبالة: ولا يعرف من المساجد التي ذكر لصلاة العيد إلا هذا المسجد الذي يصلي فيه اليوم، ومسجد شمالية وسط الحديقة المعروفة بالعريضي المتصلة بقبة عين الأزرق، ويعرف اليوم بمسجد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ولعله صلى فيه في خلافته، ومسجد كبير شمالي الحديقة متصل بها يسمى مسجد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ولم يرد أنه رضي الله عنه صلى بالمدينة عيدا في خلافته؛ فتكون هذه المساجد الموجودة اليوم من الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد سنة بعد سنة وعيدا بعد عيد؛ إذ لا يختص أبو بكر وعلي رضى الله عنهما بمسجدين لأنفسهما ويتركان المسجد الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
قلت: ما ذكره من أنه لم يرد أن عليا رضي الله تعالى عنه صلى بالمدينة عيدا في خلافته، أي فلا تظهر نسبة المسجد المذكور إليه، وكأنه لم يقف على ما رواه ابن شبة عن سعد بن عبيد مولى ابن أزهر قال: صليت العيد مع علي رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنه محصور؛ فصلى ثم خطب بعد الصلاة.
وروى أيضا عن الزهري قال: صلى سهل بن حنيف وعثمان محصور الجمعة، وصلى يوم العيد علي بن أبي طالب؛ فالظاهر أنه صلى حينئذ بذلك المكان لكونه أحد المصليات التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه ابتكر الصلاة فيه، والله أعلم.(3/6)
مصلى العيد بالصحراء
ولم يكن المصلي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مسجدّا، بل كانت صحراء لا بناء بها، ونهى صلى الله عليه وسلم عن البناء بها كما سيأتي، ولهذا وقع الرجم بها. وذهب بعض العلماء إلى أن المصلى يثبت لها حكم المسجد، وإن لم يوقف، وهو مردود؛ فإن من شاهد مصلا صلى الله عليه وسلم وما ذكر من امتدادها إلى سوق المدينة كما قدمناه فيه وما بها من الدور والشوارع علم عدم صحة ذلك، وحمل الرجم المذكور في الحديث على أنه وقع بالقرب منها خلاف مقتضى اللفظ والمسجد المتخذ بها اليوم إنما هو في بعضها، وهو المحل الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك المسجدان الآخران، والظاهر أن بناء الثلاثة كان في زمن عمر بن عبد العزيز.
وقد قدمنا ذكر الأول منها، وهو المعروف اليوم بمسجد المصلى فيما نقله ابن شبة عن أبي غسان من الذّرع؛ لما بينه وبين المسجد النبوي.
والثاني المنسوب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالحديقة المذكورة عن يساره مخزن لدواب الحديقة المذكورة، ومدخل الدواب من باب المسجد الذي في شاميه، فيمتهنه أهل الحديقة بمرور البهائم منه، وربما حبسوها فيه، فدخلته مرة فوجدته كالمزبلة، وهو في غاية الامتهان قد امتلأ بروث الدواب وبولها، ولم أجد موضعا للصلاة فيه فتكلمات مع شيخ الخدام الأمير إينال الناظر على الحديقة المذكورة في أن يغير باب المخزن المذكور، ويجعله من خارج المسجد، فأمر فقيهه الفقيه الشهاب أحمد النوسي بالنظر في ذلك، فجعل على الموضع المسقف من المسجد المذكور الذي فيه المحراب جدارا في شاميه يمنع من وصول البهائم إليه، وكان في جدار المسجد الغربي مما يلي القبلة هيئة بابا مشبك، فجعله باب لذلك المحل، وبقيت رحبة المسجد التي في شاميه دهليزا للدواب، فكلمته في ذلك فذكر أنه قيل له: إن المسجد هو ذلك المسقف فقط، وجدران المسجد شاهدة بخلاف ذلك، فليتنبه له.
والمسجد الثالث المنسوب لعلي رضي الله تعالى عنه كان قد تهدّم ودثر حتى صار بعض الحجاج يدفن فيه من يموت في زمن الموسم، فإنه إلى جانب منزلة الحجاج، فجدد بناءه الأمير زين الدين ضغيم المنصوري أمير المدينة الشريفة سنة إحدى وثمانين وثمانمائة.
وأما المسجد الأول المعروف اليوم بمسجد المصلى فلم يزل مصونا، وكان بابه لا يزال مفتوحا فربما يقع له انتهاك، فأمر شيخ الخدام بغلقه، وعمارته الموجودة اليوم لا أدري لمن تنسب، إلا أني رأيت على بابه حجرا قد انمحى بعض الكتابة منه، وفيه «أمر بتجديد هذا المسجد المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم بعد خرابه وذهاب عز الدين شيخ الحرم الشريف النبوي، وذلك في أيام السلطان الملك الناصر حسن بن السلطان محمد بن قلاون الصالحي» وما بعد ذلك قد(3/7)
انمحى. وابتداء ولاية السلطان حسن المذكور في سنة ثمان وأربعين، واستمر إلى أثناء سنة اثنتين وستين وستين وسبعمائة، وهذا المسجد بابه في حائطه الشامي قريبا من محاذاة محرابه، ومن خارج بابه على يمين الداخل منه درج يصعد إلى موضع لطيف على ميمنة الباب المذكور، وقد أصلح ما تشعّث من هذا المسجد الأمير بردبك المعمار سنة إحدى وستين وثمانمائة في دولة الأشرف إينال، وأحدث لذلك الموضع المتقدم وصفه في ميمنة الباب المذكور درجة أخرى يتوصل بها إليه من داخل المسجد، وذلك الموضع هو الذي يقوم عليه الخطيب في يوم العيد، وأحدث الأمير بردبك أيضا أمام ذلك الموضع من خارج المسجد مسقفا ليجلس عليه المبلغون أمام الخطيب، وفي يوم العيد يجتمع أهل السنة من أهل المدينة وأعيانهم بالمصلى المذكور، بحيث لا يبقى خارجه من أهل السنة إلا اليسير مع شيخ الخدام وجماعته، لأن العادة جرت بأن يكون صفهم أمام الخطيب في الجمعة والعيد؛ لما ذكره البدر ابن فرحون من أن أول قاض ولي لأهل السنة القاضي الإمام العلامة السراج عمر بن أحمد الخضر سنة اثنتين وثمانين وستمائة في دولة المنصور قلاوون الصالحي، وكان القضاة قبل ذلك من الشيعة آل سنان، وكانت الخطابة بأيديهم، فانتزع السلطان المشار إليه ذلك منهم للسراج، فكانوا يؤذونه أذى شديدا.
قال ابن فرحون: أدركت من أذاهم له أنهم كانوا يرجمونه بالحصباء وهو يخطب على المنبر، فلما كثر ذلك منهم تقدم الخدام وجلسوا بين أيديهم أمام المنبر، فذلك هو السبب في إقامة صفّ الخدام قبالة الخطيب، وخلفهم غلمانهم وعبيدهم. اه.
وقد استمر ذلك إلى اليوم، فإذا صلى الإمام بأهل المسجد المذكور صلاة العيد انصرف، وخرج من بابه المذكور مخترقا للصفوف متخطّيا للرقاب إلى أن يصعد في أعلى تلك الدرج، فيستدبر القبلة ويستقبل جهة الشام على عادة الخطباء، ثم يخطب هناك، فيصير جميع من في المسجد خلف ظهره، ثم إن أهل المسجد يستدبرون القبلة ويستقبلون ظهره وغالب من يصلي خارج المسجد لا يشاهده أيضا لحيلولة المسقف المحدث أمام ذلك الموضع، وهذا كله مخالف للسنة، ولما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم في هذا المحل من قيامه في مصلاه مستقبلا للناس وهم على صفوفهم كما سنوضحه، ومن زعم أن هذا الوضع في محل قيام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه صلى بذلك المحل على هذه الصفة الموجودة اليوم فقد أخطأ خطأ عظيما وأساء الأدب، فكيف يظن به صلى الله عليه وسلم أنه ينصرف عن أصحابه حتى يستدبرهم أو الكثير منهم ثم يخطب لهم؟ وتترك الصحابة رضي الله تعالى عنهم طلعته البهية ويرضون باستدباره صلى الله عليه وسلم مع قيامه لمخاطبتهم، وهم أعظم الناس أدبا وحرصا على رؤيته الشريفة، وكيف يتفق علماء الإسلام على أن السنة خلاف ذلك كما سيأتي؟ فالمتعين تغيير هذه الهيئة، والله أعلم.(3/8)
الطرف الثاني: فيما جاء من أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بالمصلى على غير منبر مستقبلا للناس.
كيف صلى الرسول العيد؟
قال البخاري في صحيحه، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، ثم روى فيه حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف، فقال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، وإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذته بثوبه، فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له: غيرتم والله، فقال:
أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة، هذا لفظ رواية البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: المراد بقوله إلى المصلى المصلى المعروف بالمدينة بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر بن شبة عن أبي غسان صاحب مالك، وفي رواية ابن حبان من طريق داود: فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه.
قلت: وهذا معنى قوله في رواية البخاري «ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس» يعني أنه يستدبر القبلة ويقف في مصلاه، وقد ترجم البخاري لاستقبال الإمام الناس في خطبة العيد، وأورد فيه طرفا من حديث أبي سعيد المذكور، وقد صرح الأئمة بأن ذلك هو السنة.
قال الزين ابن المنير: وإنما أعاد البخاري هذه الترجمة مع أنه قدم نظيرها في الجمعة لدفع احتمال توهم أن العيد يخالف الجمعة في ذلك، وأن استقبال الإمام في الجمعة يكون ضروريا لكونه يخطب على منبر، بخلاف العيد فإنه يخطب فيه على رجليه لحديث أبي سعيد المذكور، فأراد أن يبين أن الاستقبال سنّة على كل حال.
من أحدث منبر المصلى العيد
قال الحافظ ابن حجر: وهذا يقتضي أنه لم يكن في المصلّى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم منبر إلى أن اتخذ لمروان، ويدل عليه قول أبي سعيد «فلم يزل الناس إلى آخره» . ووقع في المدونة لمالك، ورواه ابن شبة عنه قال: أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان، كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، وهذا معضل، وما في الصحيحين أصح؛ فقد رواه مسلم بنحو رواية البخاري، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان، ولم يطلع على ذلك أبو سعيد، انتهى.
قلت: لكن روى أبو داود وغيره في حديث ذكر أنه غريب وأن سنده جيد عن عائشة(3/9)
رضي الله تعالى عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى. وفي رواية للترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الاستسقاء حتى أتى المصلى فرقى على المنبر؛ فهذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في الاستسقاء بالمصلى على منبر، وكأن ذلك هو المستند لمن أحدث المنبر في خطبة العيد قياسا على الاستسقاء، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم خصّ الاستسقاء بذلك لتيسر رؤيته لعامة الناس فيها، فيقتدون به في تحويل الرداء عند تحويله، وفي كيفية رفع اليدين في الدعاء، ونحو ذلك مما يختص بخطبة الاستسقاء.
قال الحافظ ابن حجر: وقول أبي سعيد «غيرتم والله» صريح في أنه هو المنكر ووقع في رواية مسلم «فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، قال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه» فيحتمل أن يكون المنكر أبو مسعود الذي وقع في رواية عبد الرزاق أنه كان معهما، ويحتمل أن يكون القصة تعددت، ويدل على ذلك المغايرة بين روايتي عياض ورجاء، ففي رواية عياض أن المنبر بني له بالمصلى، وفي رواية رجاء أن مروان أخرج المنبر معه، ولأن إنكار أبي سعيد كان بينه وبينه، وإنكار الآخر وقع على رؤوس الناس.
وقوله: «إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة» يشعر بأن ذلك باجتهاد من مروان.
أول من خطب قبل صلاة العيد
وقد اختلف في أول من خطب قبل الصلاة، فرواية الصحيحين عن أبي سعيد مصرحة بأنه مروان.
وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم، يعني على العادة، فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك، أي صار يخطب قبل الصلاة. وهذه العلة غير التي اعتلّ بها مروان؛ لأن عثمان رضي الله تعالى عته راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم للصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في استماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سبّ من لا يستحق السب، والإفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانا، بخلاف مروان فواظب عليه فلذلك نسب إليه.
وقد أوردنا بقية كلام الحافظ ابن حجر وغيره من الفوائد المتعلقة بذلك في كتابنا الموسوم «بالوفا، بما يجب لحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم» وبينا فيه أن الدرج الموجودة التي يقوم عليها الخطيب اليوم ليست في الموضع الذي بني لمروان؛ لأن مروان وإن قدّم الخطبة على الصلاة(3/10)
فلما له في ذلك من المقصد. وأما جعله المنبر على خلاف السنة وجعله القوم أو بعضهم خلف ظهره فلا ثمرة له، وأيضا فيبعد إقرار من جاء بعده على ذلك، وأيضا لو كان ذلك من فعله لأنكر عليه كما أنكر عليه ما تقدم، ولو سلم أن تلك الدرج في موضع منبر مروان فالسنة تغيير ذلك واتباع ما صح من فعله صلى الله عليه وسلم، كما خولف في أمر الخطبة واتبع بها فعله صلى الله عليه وسلم حيث جعلت بعد الصلاة، والتشبث باستمرار أفعال الناس إنما يكون في شيء لم يعلم حكمه من جهة الشرع، أما ما علم حكمه فالواجب اتباع الشرع فيه، واعتقاد حدوث ما عليه الناس، وتقديره بأقرب زمان، وقد ذم الله تعالى قوما تمسكوا في جحد الحق بفعل سلفهم حيث قال حكاية عنهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] فمن الواجب تطهير هذا المحل الشريف المنسوب للمصطفى صلى الله عليه وسلم عن هذه البدعة الشنعاء، ولذلك بينا بعض الدرج عن يمين القائم في محراب المسجد المذكور كما ذكر العلماء أنه السنة، وتكون مرتفعة بحيث يرى القائم عليها من خارج المسجد، والذي يظهر أن تلك الدرج إنما جعلت للمبلغ، وأن الخطيب إنما كان يقوم فيه على الأرض؛ لأنه الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم، فكأن بعض الخطباء قام عليها بعد ذلك فاستمر الأمر على ذلك، والله أعلم.
الطرف الثالث:
فيما جاء في فضل المصلى الشريف، والدعاء به، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن تضييقه والبناء به.
أورد ابن شبة في ترجمة المصلى عن جناح النجار قال: خرجت مع عائشة بنت سعد بن أبي وقاص إلى مكة، فقالت لي: أين منزلك؟ فقلت لها: بالبلاط، فقالت لي: تمسك به فإني سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما بين مسجدي هذا المسجد ومصلاي روضة من رياض الجنة» .
وقوله في هذه الرواية: «ما بين مسجدي هذا المسجد- إلى آخره» يدفع تأويل من أوّل حديث الأوسط للطبراني بلفظ «ما بين حجرتي ومصلّاي» والحديث الذي رواه ابن زبالة من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها بلفظ «ما بين منبري والمصلى» بأن المراد مصلاه الذي يصلي فيه في المسجد؛ لأنه لا يصح أن يقال: ما بين هذا المسجد والمصلى الذي فيه، ولهذا استدلّت به عائشة بنت سعد على الحث على التمسك بالدور التي بالبلاط، يعني الآخذة من باب السلام إلى المصلى؛ لأنها فيما بين المسجد ومصلى العيد، وإذا كان ما بين المسجدين المذكورين روضة فهما روضة من باب أولى؛ لأن ذلك الفضل إنما حصل لما بينهما بحصوله صلى الله عليه وسلم في ذلك وتردده صلى الله عليه وسلم فيما بينهما، فكيف بمحلّ سجوده وموقفه الشريف؟
وروى ابن شبة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فمر بالمصلّى استقبل القبلة ووقف يدعو.(3/11)
وعن أبي عطاء عن أبيه قال: قال لي سعيد بن المسيب: يا أبا محمد، أتعرف موضع دار كثير بن الصلت؟ قلت: نعم، قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حتى انتهى إلى ذلك الموضع فقام وصفّ أصحابه خلفه فصلى على النجاشي حين مات في أرض الحبشة.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي، فبدأ بالخطبة، ثم صلى وكبر واحدة افتتح بها الصلاة وقال: هذا مجمعنا ومستمطرنا ومدعانا لعيدنا ولفطرنا وأضحانا؛ فلا يا بنى فيه لبنة على لبنة ولا جهة، ورواه ابن زبالة إلا أنه قال: ثم قال: هذا مجتمعنا ومستمطرنا ومدعانا لعيدنا لفطرنا وأضحانا، الحديث.
وروى يحيى عن داود بن أبي الفرات قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فقال: هذا مستمطرنا ومصلّانا لأضحانا وفطرنا، لا يضيق، ولا ينتقص منه شيء.
وسيأتي في ترجمة أحجار الزيت أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى عندها قريبا من الزوراء.
[الطرف الرابع:] بيان طريقي ذهاب النبي للمصلى ورجوعه
الطرف الرابع: فيما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم: كان يذهب إلى هذا المصلى الشريف من طريق ويرجع في أخرى، وبيان كل من الطريقين.
روينا في صحيح البخاري في باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
وروى ابن شبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق ورجع في طريق آخر، وفي رواية «كان يأخذ يوم العيد في طريق ويرجع في طريق آخر» .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد في طريق لم يرجع فيه.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا خرج إلى العيد رجع في غير الطريق الذي أخذ فيه» .
وعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: ركن باب داري هذا أحبّ إليّ من زنتها ذهبا، سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على داري إلى العيد، فجعلها يسارا، فمر على عضادة داري مرتين في غداة واحدة.
قلت: ولا مخالفة بين هذا وبين الرواية الأولى لأن دار أبي هريرة كانت بالبلاط عند زقاق عبد الرحمن بن الحارث كما قدمناه في الدور المحيطة بالبلاط الأعظم، وبعدها إلى جهة المصلى قريبا منها دار سعد بن أبي وقاص.
وقد روى ابن شبة عن يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يأتي العيد(3/12)
ماشيا على باب سعد بن أبي وقاص، ويرجع إلى أبي هريرة» وحينئذ فيمر على دار أبي هريرة في ذهابه ثم في رجوعه؛ لأن الشافعي روى في الأم ومنها نقلت عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، فإذا رجع رجع من الطريق الآخرى على دار عمار بن ياسر» .
ورواه ابن زبالة عن محمد بن عمار بلفظ «كان يخرج إلى المصلى من الطريق العظمى على أصحاب الفساطيط، ويرجع من الطريق الآخرى على دار عمار بن ياسر» وقد قدمنا أن دار عمار بن ياسر في زقاق عبد الرحمن بن الحارث الذي يسلك إلى البلاط عند دار أبي هريرة بابها يقابل دار عبد الرحمن بن الحارث، ولها خوخة في كتّاب عروة، فصحّ مروره صلى الله عليه وسلم عليها مرتين في غداة واحدة مع ذهابه من طريق ورجوعه في أخرى.
وسيأتي في ذكر طريقه صلى الله عليه وسلم إلى قباء ذهابا وإيابا ما يصرح بأنه إذا رجع يمر على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط، يعني من الزقاق المذكور؛ لما قدمناه في وصف البلاط.
والطريق العظمى: - كما قال المطري- هي طريق الناس اليوم من باب المدينة: أي الدرب المعروف بدرب سويقة إلى مسجد المصلى، ولم يتعرض لبيان الطريق الآخرى، وقد منّ الله سبحانه وتعالى ببيانه فله الحمد على ذلك. وهذه الطريق هي المرادة بما رواه ابن زبالة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يذبح أضحيته بيده إذا انصرف من المصلى على ناحية الطريق التي كان ينصرف منها» وتلك الطريق أو المكان الذي كان يذبح فيه مقابل المغرب مما يلي طريق بني زريق، أي أنه إذا انصرف من المصلّى أتى موضعا في غربي طريق بني زريق فذبح، ثم سلك في تلك الطريق، وهي سالكة في بني زريق آخذة من قبلة المصلى إلى أن يمر بدار أبي هريرة كما تقدم، ولهذا روى الواقدي عن عائشة وابن عمر وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم «كان يذبح عند طرف الزقاق عند دار معاوية» أي المتقدم ذكرها. وسور المدينة اليوم مانع من سلوك هذه الطريق في الرجوع. ويستفاد من هذا أن المخالفة بين الطريقين لم تكن في جميعهما، إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وصل إلى محل البلاط الذي عند دار أبي هريرة لم يسلك في بقية الطريق العظمى، وهي الشارعة اليوم إلى باب السلام، بل يأخذ في ميسرة البلاط إلى الشام؛ لأن الظاهر أن غالب تلك الأماكن كانت براحا ثم يعرج إلى جهة داره بعد ذلك. على أن ما ذكرناه في وصف هذه الطريق مقتض لأن طريقه صلى الله عليه وسلم في ذهابه أقصر من طريق رجوعه كما لا يخفى؛ فيعكر على القول بأن المستحب أن يذهب في أطول الطريقين ويرجع في أقصرهما.
وقد روى الشافعي رحمه الله تعالى في الأم عقب ما قدمناه عنه وصف طريق أخرى(3/13)
الرجوع فيها أبعد من الذهاب أيضا بكثير جدّا؛ فإنه روى عقب ذلك عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجع من المصلّى يوم عيد فسلك على التمارين من أسفل السوق، حتى إذا كان عند مسجد الأعرج الذي هو عند موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج أسلم فدعا ثم انصرف.
قال الشافعي عقبه: وأحبّ أن يصنع الإمام مثل هذا، وأن يقف في موضع فيدعو الله مستقبل القبلة، وإن لم يفعل فلا كفارة ولا إعادة عليه، هذا لفظ الأم ومنها نقلت.
ويؤيد هذا ما رواه يحيى عن محمد بن طلحة بن طويل قال: رأيت عثمان بن عبد الرحمن ومحمد ابن المنكدر ينصرفان من العيد فيقومان عند البركة التي بأسفل السوق، قال:
وسألت عثمان بن عبد الرحمن عن ذلك فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عند ذلك المكان إذا انصرف من العيد.
وقد قدمنا عن ابن زبالة في سوف المدينة أن محمد بن المنكدر وعثمان بن عبد الرحمن وجماعة كانوا يقومون بفناء بركة السوق مستقبلين، وأن عثمان بن عبد الرحمن قال: قد اختلف علينا في ذلك؛ فقائل يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هنالك، وقائل يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم هنالك فينظر إلى الناس إذا انصرفوا من العيد.
قلت: وقد بينت رواية الشافعي المذكور أنه كان يدعو هنالك إذا انصرف من العيد، ولا مانع من كونه مع ذلك ينظر إلى الناس المنصرفين من العيد أيضا فلا اختلاف. وقد بينا هناك ما يقتضي أنه كان يسلك على سوق التمارين، وهو في شامي المصلى مما يلي المغرب، وبينا أيضا أن منازل أسلم كانت في غربي سوق المدينة إلى الشام بعد التمارين، وذلك عند حصن أمير المدينة وما سفل منه إلى جهة الشام مما يلي غربي سوق الشاميين عند منزل الحاج الشامي بالموسم، وبينا بركة بركة السوق هي المنهل المدرج الذي على يسار المتوجه إلى ثنيّة الوداع عند مشهد النفس الزكية، والقائم عندها إذا استقبل فجّ أسلم كان مستقبلا للقبلة، ولعل مسجد الأعرج الذي أشار الشافعي في روايته إلى أنه عندها هو الموضع الذي هو قبلة مشهد النفس الزكية، فإنه مسجد، وهو عند موضع البركة، وما علمت المرأة بالأعرج الذي نسب إليه المسجد المذكور.
وقد أنشأ قاضي الحرمين السيد الشريف العلامة محيي الدين عبد القادر الحنبلي الفاسي المكي مسجدّا بمنزلة الحاج الشامي بالقرب من المنهل المذكور في جهة قبلته.
إذا علمت ذلك فهذه الطريق تزيد على الطريق العظمى إلى المصلى بنحو ضعفها، ويمكن سلوكها اليوم في الرجوع من المصلى، بخلاف الطريق السابقة؛ لحيلولة السور.(3/14)
وأهل المدينة اليوم يذهبون من الطريق العظمى، ويرجعون في بعض تلك الطريق السابقة؛ لأنهم يأخذون من جهة قبلة المصلّى إلى المشرق خارج سور المدينة، فيدخلون من درب البقيع، وطريقهم هذه في الرجوع أطول من الذهاب أيضا، ولو سلكوا الطريق المذكورة في رواية الشافعي الثانية لكان أولى، وليحصل الدعاء بذلك المحل الشريف اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن تقدم ذكره من السلف الصالح.
وقد فعلت ذلك في عامنا هذا، فسلكت في الذهاب إلى المصلّى من الطريق العظمى، ورجعت من أسفل السوق إلى أن قمت بفناء بركته المذكورة، ثم انصرفت فدخلت المدينة من الباب الذي يلي حصن أمير المدينة، والخير كله في الاتباع ومجانبة الابتداع، وأي بركة أعظم من ذهاب الإنسان إلى المصلى في ذلك اليوم السعيد في طريق ذهب منها النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ ثم صلاته بمصلّاه الشريف، ثم رجوعه في طريقه التي رجع منها.
وقد قال المجد: وإذا ثبت بما رويناه- يعني من الأحاديث المتقدمة- أن المصلّى الموجود هو مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد، فالصلاة فيه تزداد فضلا ومزية على كل مصلى أيّ ازدياد، ويخص الفائزون بالصلاة فيه من الله تعالى بأسبغ نعم وأياد، ويمنح الحائزون فضل الحضور إليها فواضل قصرت عنها معالي معد وأيادي إياد.
قلت: وأخبرني جماعة من المشايخ منهم شيخنا الكمال أبو الفضل محمد ابن العلامة نجم الدين المرجاني وأخته المسندة أم كمال كماليه والمسندة أم حبيبة زينب ابنة الشهابي أحمد الشونكي وغيرهم إذنا عن المجد المشار إليه قال عقب ما تقدم عنه: أنشدني أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم الحموي كتابة عن أبي البركات أيمن بن محمد بن محمد بن محمد الغرناطي لنفسه:
إنّ عيدا بطيبة وصلاة ... بمصلّى الرسول في يوم عيد
نعم ضاق واسع الشكر عنها ... فهي بشرى لكل عبد سعيد
كم تمنيتها فنلت التمني ... آخر العمر من مكان بعيد
وإذا كان في البقيع ضريحي ... وتوسّدت طيب ذاك الصعيد
فاشهدوا لي بكلّ خير وبشر ... عند ربي ومبدئي ومعيدي
والمسؤول من فضل الله تعالى أن يكمل لأهل هذا المصلى الشريف عظيم منته بجعل منبره المنيف على طريقته صلى الله عليه وسلم وسنته، بمنه وكرمه، آمين.(3/15)
الفصل الثاني في مسجد قباء، وفضله، وخبر مسجد الضّرار
[مسجد قباء، وفضله]
تأسيس مسجد قباء
تقدم تأسيس النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء في الفصل العاشر من الباب الثالث، عند مقدمه صلى الله عليه وسلم قباء، وبسطنا ذلك هناك، فراجعه وذكرنا هناك ما جاء من أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل فيه بنفسه، وأنه أسّسه وجبريل يؤمّ به البيت، وأنه كان يقال: إنه أقوم مسجد قبلة، وأنه صلى الله عليه وسلم أسسه ثانيا بعد تحويل القبلة، وقدمنا أيضا قول عروة في الصحيح في حديث الهجرة الطويل «فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى» .
وفي رواية عبد الرزاق عنه قال «الذين بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف» وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عابد ولفظه «ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال، واتخذ مكانه مسجدّا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو بن عوف، فهو الذي أسس على التقوى» وقدمنا أيضا أنه أول مسجد بناه النبي صلى الله عليه وسلم وصلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا.
قال الحافظ ابن حجر: اختلف في المراد بقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة: 108] فالجمهور على أن المراد مسجد قباء، وهو ظاهر الآية، وتقدم في فضل المسجد النبوي حديث مسلم المشتمل على أن أبا سعيد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال «هو مسجدكم هذا» وفي رواية لأحمد والترمذي عنه: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد المدينة، فسألاه عن ذلك، فقال: هو هذا، وفي ذلك- يعني مسجد قباء- خير كثير، وقدمنا أيضا الجمع بأن كلا من المسجدين قد أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه، وأنهما المراد من الآية، وأن السر في اقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذكر مسجد المدينة دفع توهم اختصاص ذلك بمسجد قباء، كما هو ظاهر ما فهمه السائل وتنويها بمزية مسجده الشريف.
قال الحافظ ابن حجر: والحق أن كلا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة: 108] يؤيد كون المراد مسجد قباء.
وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا في أهل قباء، قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية.
قال الحافظ ابن حجر: فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بما تقدم دفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.(3/16)
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافا؛ لأن كلا منهما أسس على التقوى وكذا قال السهيلي وزاد أن قوله تعالى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يقتضي مسجد قباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حلّ النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة.
روى أحمد وابن شبة، واللفظ لأحمد، عن أبي هريرة قال: انطلقت إلى مسجد التقوى أنا وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لنا: انطلق نحو مسجد التقوى، فانطلقنا نحوه، فاستقبلنا يداه على كاهلي أبي بكر وعمر، فثرنا في وجهه فقال: من هؤلاء يا أبا بكر؟ فقال: عبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وسمرة.
وروى ابن شبة من طرق ما حاصله أن الآية لما نزلت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قباء، وفي رواية أهل ذلك المسجد، وفي رواية بني عمرو بن عوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما بلغ من طهوركم؟ قالوا: نستنجي بالماء» .
وذكر أبو محمد المرجاني الجمع بأن كلا من المسجدين أسّس على التقوى، ثم قال: فقد روي عن عبد الله بن بريدة في قول الله عز وجل فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قال: إنما هي أربعة مساجد، لم يبنهنّ إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبيت أريحاء بيت المقدس، بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة مسجد قباء اللذين أسّسا على التقوى، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وقال يحيى بن الحسين في أخبار المدينة: حدثنا بكر بن عبد الوهاب أنبأنا عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «المسجد الذي أسّس على التقوى من أول يوم هو مسجد قباء، قال الله جل ثناءه فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] وبكر بن عبد الوهاب هو ابن أخت الواقدي صدوق، وعيسى بن عبد الله يظهر لي أنه عيسى بن عبد الله بن مالك وهو مقبول؛ فيكون جده حينئذ عبد الله بن مالك، وهو شيخ مقبول يروى عن علي وابن عمر؛ فالحديث حسن؛ فتعين الجمع بما تقدم، والله أعلم.
ما جاء في أن الصلاة فيه تعدل عمرة
روى الترمذي عن أسيد بن حضير الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي: وفي الباب عن سهل بن حنيف، وحديث أسيد حديث حسن غريب، ولا يعرف لأسيد شيء يصح غير هذا الحديث.
قلت: وأخرجه البيهقي وابن ماجه من طريق أبي بكر بن شيبة بإسناد الترمذي، وهو جيد، بلفظ «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» .
وأخرج ابن حبّان في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه شهد جنازة(3/17)
بالأوساط في دار سعد بن عبادة، فأقبل ماشيا إلى بني عمرة بن عوف بفناء بني الحارث بن الخزرج، فقيل له: أين تؤم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أهل هذا المسجد في بني عمرو بن عوف؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من صلى فيه كان كعدل عمرة» .
ورواه ابن زبالة موقوفا، ولفظه أن عبد الله بن عمر شهد جنازة في الأوساط من بني الحارث بن الخزرج، ثم خرج يمشي، فقالوا له: أين تريد يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أريد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء؛ أنه من صلى فيه ركعتين كان كعدل عمرة.
وأخرج ابن ماجه وعمر بن شبة بسند جيد عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة» .
ورواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
ورواه يحيى من طريقين فيهما من لم أعرفه بلفظ «من توضأ فأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له عدل عمرة» .
ورواه الطبراني في الكبير عن سهل من طريق موسى بن عبيدة- وهو ضعيف- بلفظ «من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل مسجد قباء فيركع فيه أربع ركعات كان ذلك عدل رقبة» .
ورواه ابن شبة عن سهل من طريق موسى بن عبيدة المذكور بلفظ «من توضأ فأحسن وضوءه ثم جاء مسجد قباء فركع فيه أربع ركعات كان له عدل عمرة» .
ورواه أيضا بسند فيه يوسف بن طهمان- وهو ضعيف- عن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من مؤمن يخرج على طهر إلى مسجد قباء لا يريد غيره حتى يصلي فيه إلا كان بمنزلة عمرة» .
وروى الطبراني في الكبير بسند فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي- وهو ضعيف- عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من توضّأ فأسبغ الوضوء ثم عمد إلى مسجد قباء لا يريد غيره، ولا يحمله على الغدوّ إلا الصلاة في مسجد قباء، فصلى فيه أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بأم القرآن كان له كأجر المعتمر إلى بيت الله» .
وقال عمر بن شبة: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا أيوب بن صيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي قال: جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ثم سلم وجلس وجلسنا حوله، فقال: سبحان الله ما أعظم حقّ هذا المسجد، لو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه لصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة» .(3/18)
قال ابن شبة: قال أبو غسان: ومما يقوّي هذه الأخبار ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة قول عبد الرحمن بن الحكم في شعر له:
فإن أهلك فقد أقررت عينا ... من المتعمرات إلى قباء
من اللاتي سوالفهنّ غيد ... عليهنّ الملاحة بالبهاء
تفضيل الصلاة في مسجد قباء على بيت المقدس
ما جاء في تفضيل الصلاة فيه على بيت المقدس، ومغفرة ذنوب من صلى فيه مع المساجد الثلاثة.
روى ابن شبة بسند صحيح من طريق عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول: «لأن أصلّي في مسجد قباء ركعتين أحبّ إليّ من أن آتى بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل» .
ورواه الحاكم عن عامر بن سعد وعائشة بنت سعد سمعا أباهما يقول: لأن أصلي في مسجد قباء أحبّ إليّ من أن أصلي في مسجد بيت المقدس، قال الحاكم: وإسناده صحيح على شرطهما. وهذا شاهد لما روي عن محمد بن مسلمة المالكي أنه قال: إن إتيان مسجد قباء يلزم بالنذر، وجمهور العلماء أن ذلك وإن كان قربة لا يلزم بالنذر.
وعن عاصم قال: أخبرنا أن من صلى في المساجد الأربعة غفر له ذنبه، فقال له أبو أيوب: يا ابن أخي أدلّك على ما هو أيسر من ذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما تقدم من ذنبه» أخرجه أبو حاتم وقال: المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الأقصى، ومسجد قباء.
إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم مسجد قباء
ما جاء في إتيان النبي صلى الله عليه وسلم له راكبا وماشيا، وصلاته فيه، وتعيين الأيام التي كان صلى الله عليه وسلم يأتي قباء فيها هو وغيره من الصحابة.
روينا في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء، أو يأتي قباء، راكبا وماشيا.
زاد في رواية لهما: فيصلي فيه ركعتين.
وروى ابن شبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسجد قباء، فصلى فيه، فجعلت الأنصار يأتون وهو يصلي، فيسلّمون عليه، فخرج عليّ صهيب فقلت: يا صهيب كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردّ على من سلم؟ قال: يشير بيده.
وفي رواية للبخاري والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا وماشيا» وكان عبد الله يفعله.(3/19)
وفي رواية لابن حبّان في صحيحه «كل يوم سبت» . وفيها رد على من قال: إن المراد بالسبت الأسبوع.
وروى ابن شبة عن سعيد بن عمرو بن سليم مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يطرح له على حمار أنبجانّي لكل سبت، ثم يركب إلى قباء» .
ورواه ابن زبالة بنحوه، وزاد «ويمشي حوله أصحابه» .
وروى ابن شبة عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يأتي قباء يوم الإثنين» .
وعن محمد بن المنكدر مرسلا قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان» .
ورواه يحيى عن ابن المنكدر عن جابر متصلا. وفي كتاب رزين عن ابن المنكدر قال:
أدركت الناس يأتون مسجد قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان.
وروى يحيى عن ابن المنكدر نحوه أيضا.
وعن أبي غزية قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يأتي قباء يوم الإثنين ويوم الخميس، فجاء يوما من تلك الأيام فلم يجد فيه أحدا من أهله، فقال: والذي نفسي بيده لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في أصحابه ننقل حجارته على بطوننا، يؤسّسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وجبريل يؤم به البيت، ومحلوف عمر بالله لو كان مسجدنا هذا بطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل، ثم قال: اكسروا لي سعفه واجتنبوا العواهن، أي ما يلي القلب من السّعف، فقطعوا السعفة، فأتى بها، فأخذ رزمة فربطها فمسحه، قالوا: نحن نكفيك يا أمير المؤمنين، قال: لا تكفو نيه.
وفي رواية لرزين عقب قوله: «وجبريل يؤم به البيت» ثم أخذ أي عمر رضي الله تعالى عنه جرائد فجعل يمسح جدرانه وسطحه، فقيل له: نكفيك يا أمير المؤمنين، فقال: لا تكفونيه، أنا أريد أن أكفيكم أنتم مثل هذا، وإن شئتم اعملوا مثل ما أعمل.
وقد استشكل الزين المراغي قوله «وجبريل يؤم به البيت» بأن ذلك كان قبل تحويل القبلة، وقد أشرنا فيما تقدم لجوابه.
وأسند ابن زبالة عن شيخ من بني عمرو بن عوف قال: أتانا عمر بن الخطاب بقباء فقال لخياط بسدّة الباب: انطلق فأتني بجريدة وإياك والعواهن، فأتاه بجريدة، فقشرها وترك لها رأسا فضرب به قبلة المسجد حتى نفض الغبار.
ورواه ابن شبة، إلا أنه قال: عن شيوخ من بني عمرو بن عوف أن عمر رضي الله(3/20)
تعالى عنه جاءهم بقباء نصف النهار، فدخل مسجد قباء، فأمر رجلا يأتيه بجريدة رطبة، الخبر بنحوه.
وروى ابن زبالة عن زيد بن أسلم قال: الحمد لله الذي قرّب منا مسجد قباء، ولو كان بأفق من الآفاق لضربنا إليه أكباد الإبل.
وفي صحيح البخاري: كان سالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهما يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فيهم أبو بكر وعمر.
ورواه ابن شبة عن ابن عمر، ولفظه: وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار في مسجد قباء، فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة رضوان الله عليهم.
وروى أيضا عن أبي هاشم قال: جاء تميم بن زيد الأنصاري إلى مسجد قباء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يصلي بهم، فجاء صلاة الفجر وقد أسفر فقال: ما يمنعكم أن تصلوا؟ ما لكم قد حبستم ملائكة الليل وملائكة النهار؟ قالوا: يمنعنا أنا ننتظر صاحبنا، قال: فما يمنعكم إذا احتبس أن يصلي أحدكم؟ قالوا: فأنت أحقّ من يصلي بنا، قال:
أترضون بذا؟ قالوا: نعم، فصلى بهم، فجاء معاذ فقال: ما حملك يا تميم على أن دخلت عليّ في سربال سربلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن هذا تميم دخل في سربال سربلتنيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقول يا تميم؟ فقال مثل الذي قال لأهل المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا فاصنعوا مثل الذي صنع تميم بهم، إذا احتبس الإمام.
وروى ابن زبالة عن عويم بن ساعدة أن سعد بن عويم بن قيس بن النعمان كان يصلي في مسجد قباء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان عمر بن الخطاب فأمر عمر مجمع بن حارثة أن يصلي بهم بعد أن ردّه، وقال له: كنت إمام مسجد الضّرار، فقال يا أمير المؤمنين كنت غلاما حدثا، وكنت أرى أن أمرهم على أحسن ذلك، وقدّموني لما معي من القرآن، فأمره فصّلى بهم.
المكان الذي كان الرسول يصلي فيه بمسجد قباء
ما جاء في تعيين مصلّاه صلى الله عليه وسلم منه، وصفته وذرعه.
روى ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى الأسطوان الثالثة في مسجد قباء التي في الرحبة.
ونقل ابن شبة عن الواقدي أنه قال: عن مجمع بن يعقوب عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش قال: كان المسجد في موضع الأسطوان المخلّقة الخارجة في رحبة المسجد.
وعن ابن رقيش قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، وقدّم القبلة إلى موضعها اليوم،(3/21)
وقال: جبريل يؤم بي البيت. قال ابن رقيش: فحدثني نافع أن ابن عمر كان بعد إذا جاء مسجد قباء صلى إلى الأسطوان المخلّقة يقصد بذلك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الأول.
قال ابن شبة: قال أبو غسان: وأخبرني من أثق به من الأنصار من أهل قباء أن موضع قبلة مسجد قباء قبل صرف القبلة أن القائم كان يقوم في القبلة الشامية فيكون موضع الأسطوان الشارعة في رحبة مسجد قباء التي في صف الأسطوان المخلقة المقدمة التي يقال لها إن مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرفها.
قال: وأخبرني أيضا أن مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء بعد صرف القبلة كان إلى حرف الأسطوان المخلّق كثير منها المقدمة إلى حرفها الشرقي، وهي دون محراب مسجد قباء عن يمين المصلى فيه.
وروى ابن زبالة عن عبد الملك بن بكر بن أبي ليلى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد قباء إلى الأسطوان الثالثة في الرحبة إذا دخلت من الباب الذي بفناء دار سعد بن خيثمة.
قلت: والباب المذكور هو المسدود اليوم يظهر رسمه من خارج المسجد في جهة المغرب، وكان شارعا في الرواق الذي يلي الرحبة من المسقف القبلي؛ فالأسطوان الثالثة في الرحبة هي الأسطوان التي عندها اليوم محراب في رحبة المسجد؛ لانطباق الوصف المذكور عليها؛ فهي المراد بقول الواقدي «كان المسجد في موضع الأسطوان المخلقة الخارجة في رحبة المسجد وهي التي كان ابن عمر يصلي إليها. ومقتضى ما تقدم عن أبي غسان أن هذه الأسطوانة عندها مصّلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول قبل تحويل القبلة، وأن مصلاه بعد التحويل كان إلى الأسطوانة التي في صفّ هذه الأسطوانة مما يلي القبلة، وهي الثالثة من أسطوان الرحبة المذكورة؛ فإنها الموصوفة بما ذكره من كونها دون المحراب على يمين المصلى فيه، والمصلى إلى حرفها الشرقي يكون محاذيا لمحراب المسجد؛ فالرواق القبلي مزيد في المسجد، وجعلوا المحراب به في محاذاة المصلى الشريف من الأسطوان المذكورة. لكن قوله في الرواية الآخرى «وقدم القبلة إلى موضعها اليوم» يقتضي أنه لم يزد أحد في جهة القبلة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فينبغي أن ينبرك بالصلاة عند محراب القبلة، وعند المحلين من الأسطوانتين المذكورتين.
وقد اقتصر يحيى في بيان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم على الأسطوان التي في الرحبة؛ فذكر رواية ابن زبالة، ثم روى عن معاذ بن رفاعة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الأسطوان الخارجة، وهي في صفّ المخّلقة، وإنما كان موضعها يومئذ كهيئة العريش. ثم ذكر أن موسى بن سلمة حدثه أنه رأى أبا الحسن علي بن موسى الرضي يصلي إلى هذه الأسطوانة(3/22)
الخارجة. ثم قال يحيى: ورأيت غير واحد من أهل بيتي منهم عبد الله وإسحاق ابنا موسى بن جعفر وحسين بن عبد الله بن عبد الله بن حسين يصلون إلى هذه الأسطوانة الخارجة إذا جاؤوا قباء، ويذكرون أنه مصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ورأيت من أهل بيتي من يأتي قباء فيصلي إليها ممن يقتدى به ممن لا أبالي أن لا أرى غيره في الفقه والعلم، انتهى.
وعن يمين مستقبل الأسطوانة المذكورة هيئة محاريب في رحبة المسجد لم أعلم أصلها، وبالرواق الذي يلي الرحبة قريبا من محاذاة محراب المسجد دكّة مرتفعة عن أرض المسجد يسيرا أمامها محراب فيه حجر منقوش فيه قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة: 108] الآية، وبعدها ما لفظه: هذا مقام النبي صلى الله عليه وسلم، جدّد هذا المسجد في تاريخ سنة إحدى وسبعين وستمائة، ولم يتبين اسم من جدد المسجد. وظاهر حال من صنع ذلك في هذا المحل أنه محلّ المصّلى الشريف، وفيما قدمناه ما يرده، وقد اغترّ المجد بذلك فجزم بأن تلك الدكة هي أول موضع صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه حين ألّف كتابه كان غائبا عن المدينة، فوصف تلك الدكة بقوله: وفي صحنه مما يلي القبلة شبه محراب على مصطبة هو أول موضع ركع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه وصفها بأنها في صحن المسجد ليجامع ما تقدم عن المؤرخين في وصف المصلى الشريف. ولا يصح القول بأنها كانت أولا في رحبة المسجد؛ لاحتمال أنه زيد بعده في المسقف القبلي رواق؛ لما سنبينه من أن أروقة المسجد ورحبته كانت على ما هي عليه اليوم، لم يزد فيها شيء بعد ما ذكره المؤرخون.
ثم رأيت ما ذكره المجد بحدوثه في رحلة ابن جبير، وكانت عام ثمان وسبعين وخمسمائة، فتلك الدكة التي يعنيها ابن جبير كانت في صحن المسجد عند الأسطوانة التي إليها اليوم المحراب في رحبة المسجد، فيوافق ما أطبق عليه الناس وكأنها دثرت على طول الزمان، ثم أعيدت في غير محلها فإنه ذكر أنها بصحن المسجد مما يلي القبلة، ووصف أروقة المسجد بما هي عليه اليوم؛ فليست الدكة الموجودة اليوم لحدوثها بعده.
وأما الحظيرة التي بصحن المسجد فلم أر في كلام المتقدمين تعرضا لذكرها، والشائع على ألسنة أهل المدينة أنها مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وبه جزم المجد تبعا لابن جبير في رحلته؛ فقال: وفي وسط المسجد مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعليه حظيرة قصيرة شبه روضة صغيرة يتبرك بالصلاة فيه، انتهى.
وهو محتمل؛ لأن أصل مسجد قباء كان مربدا لكلثوم بن الهدم، وعليه نزل النبي صلى الله عليه وسلم على ما أسلفناه، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسّسه مسجدّا. وقيل فيه غير هذا مما قدمناه.
وقال ابن زبالة: حدثنا عاصم بن سويد عن أبيه قال: وكان مسجد قباء على سبع أساطين، وكانت له درجة لها قبة يؤذن فيها يقال لها النعامة، حتى زاد فيه الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد ذلك.(3/23)
قلت: وعدد كل صف من أساطينه اليوم بين المشرق والمغرب سبع أيضا.
وقال الزين المراغي عقب نقل ذلك عن ابن زبالة: فيحتمل أن هذه- يعني الصفة المذكورة في كلام ابن زبالة- صفة بناته عليه الصلاة والسلام، ويؤكده قولهم «ولم يزل مسجد قباء على ما بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن بناه عمر بن عبد العزيز» أي زمن الوليد.
قلت: وما أيد به الاحتمال المذكور لم أره في كلام أحد من المؤرخين غير المطري ومن تبعه.
وقد روى ابن شبة ما يصرح بخلافه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: إن ما بين الصومعة إلى القبلة زيادة زادها عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
قلت: والصومعة هي المنارة التي في ركنه الغربي مما يلي الشام، وسيأتي في ترجمة غرة أنه اسم أطم لبني عمرو بن عوف ابتنيت المنارة في موضعه.
وقال ابن النجار: كان النبي صلى الله عليه وسلم نزل بقباء في منزل كلثوم بن الهدم، وأخذ مربده فأسسه مسجدّا وصلى فيه، ولم يزل ذلك المسجد يزوره صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه أهل قباء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه.
تجديد مسجد قباء
ولما بنى عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء ووسّعه، وبناه بالحجارة والجص، وأقام فيه الأساطين من الحجارة بينها عواميد الحديد والرصاص، ونقشه بالفسيفساء، وعمل له منارة، وسقفه بالساج، وجعله أروقة، وفي وسطه رحبة، وتهدّم على طول الزمان حتى جدّد عمارته جمال الدين الأصفهاني وزير بني زنكي الملوك ببلاد الموصل.
قلت: وكان تجديد الجواد لمسجد قباء في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، كما قاله المطري.
وفيما قدمناه من صورة ما كتب في محراب الدكة التي بالرواق الذي يلي الرحبة ما يقتضي أنه جدد بعد ذلك في سنة إحدى وسبعين وستمائة.
وبالمسجد منقوش أيضا ما يقتضي أن الناصر بن قلاوون جدّد فيه شيئا سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وجدد غالب سقفه الموجود اليوم الأشرف برسباي على يد ابن قاسم المحلى أحد مشايخ الخدّام سنة أربعين وثمانمائة.
وقد سقطت منارته سنة سبع وسبعين وثمانمائة، فجدّدها متولي العمارة في زماننا الجناب الخواجكي الشمسي بن الزمن- عامله الله بلطفه- في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة في أثناء عمارته السابقة بالمسجد النبوي بعد هدمها إلى الأساس، وهدم الأسطوانة التي كانت لاصقة بها، وكانت تلك الأسطوانة محكمة بالرصاص، وأعيدت بغير رصاص،(3/24)
وأبدلوا من أحجارها ما قدمنا أنهم أدخلوه في أسطوان الصندوق التي في جهة الرأس الشريف بالمسجد النبوي.
وهدم متولى العمارة أيضا ما يلي المنارة المذكورة من سور المسجد إلى آخر بابه الذي يليها في المغرب، وأعاد بناء ذلك، وجدد بعض سقفه، وبنى السبيل والبركة المقابلين للمسجد في المغرب بالحديقة المعروفة بالسراج العيني الموقوفة على قرابته، وقد كانت المنارة الأولى ألطف من هذه فزاد في طولها؛ فإن ابن النجار قال: وطول منارته من سطحه إلى رأسها اثنان وعشرون ذراعا، وعلى رأسها قبة طولها نحو عشرة أذرع، قال: وعرض المنارة من جهة القبلة عشرة أذرع شافّة، ومن المغرب ثمانية، وذكر قبل ذلك أن ارتفاع المسجد في السماء عشرون ذراعا؛ فيكون جملة طول المنارة الأولى اثنين وخمسين ذراعا من أعلاها إلى أسفل الأرض، وهو يقرب لما نقله ابن شبة في وصف المنارة المذكورة، فإنه قال: وطول منارته خمسون ذراعا، وعرضها تسعة أذرع وشبر في تسعة أذرع، انتهى. وذرع هذه المنارة المجددة اليوم من الأرض الخارجة عن المسجد إلى أعلى قبتها أحد وستون ذراعا، وعرضها تسعة أذرع في المشرق والقبلة، وهناك بابها.
ونقل ابن شبة عن أبي غسان أن طول مسجد قباء وعرضه سواء، وهو ست وستون ذراعا. قال: وطول ذرعه في السماء تسعة عشر ذراعا، وطول رحبته التي في جوفه- يعني صحنه- خمسون ذراعا، وعرضها ستة وعشرون ذراعا. وذكر ابن النجار نحوه، فقال:
طول ثمانية وستون ذراعا تشف قليلا، وعرضه كذلك.
قلت: وقد اختبرت ذلك فكان ذرع طوله من المشرق إلى المغرب مما يلي الشام ثمانية وستين ذراعا ونصفا، وكان عرضه من القبلة إلى الشام تسعة وسبعين ذراعا، وذرع طوله بين المشرق والمغرب مما يلي جدار القبلة أرجح من سبعين ذراعا بيسير، وطول ذرعه في السماء من أرض المسجد إلى سقفه تسعة عشر ذراعا، وطوله من خارجه من البلاط الذي في غربيه إلى أعلى شراريفه أربعة وعشرون ذراعا، وذرع طول صحنه من المشرق إلى المغرب أحد وخمسون ذراعا، وعرض صحنه من القبلة إلى الشام ستة وعشرون ذراعا وربع، وهذا الصحن هو الذي عبر عنه أبو غسان بالرحبة في جوفه؛ فصح بذلك أن رحبة المسجد اليوم على ما كانت عليه في زمن أبي غسان وغيره من المؤرخين الذين قدمنا كلامهم، وأن ما قدمناه في بيان مصلّى النبي صلى الله عليه وسلم بكونه عند المحراب الذي بجانب الأسطوانة التي في رحبة المسجد اليوم صحيح، وأن ما قاله المجد من كون تلك الدكة المتقدم وصفها بصحن المسجد غير صحيح.
وقال ابن جبير في رحلته: إن مسجد قباء سبع بلاطات، يعني أروقة كما هو في(3/25)
زماننا، وبيانه أن المسقف القبلي ثلاثة أروقة، والشامي اثنان، وفي المغرب رواق واحد يلي باب المسجد اليوم، وفي المشرق في مقابلته رواق واحد أيضا.
وذكر ابن النجار في عدد أساطينه ما يوافق كونه على سبعة أروقة أيضا؛ فقال: وفي المسجد تسعة وثلاثون أسطوانا، بين كل أسطوان وأسطوان سبعة أذرع شافّة.
قلت: وعددها اليوم كذلك؛ لأن جهة القبلة ثلاثة صفوف كل صف سبعة أساطين بين المشرق والمغرب، وجهة الشام صفان كل صف سبعة أيضا، وفيما يلي الرحبة من المغرب أسطوانتان، وفيما يليها من المشرق أسطوانتان، وجملة ذلك ما ذكره.
ووقع فيما نقله ابن شبة عن ابن عساكر في النسخة التي وقعنا عليها تصحيف في عدد الأساطين، وما قدمناه هو الصواب.
قال ابن النجار: وفي جدرانه طاقات نافذة إلى خارج في كل جانب ثمان طاقات، إلا الجانب الذي يلي الشام فإن الثامنة فيها المنارة.
قلت: ولما أعادوا بناء ما هدموه مما حول المنارة المذكورة في زماننا سدّوا من الجهة الشامية طاقة أخرى مما يلي المنارة المذكورة، وسدّوا مما يليها من جهة المغرب ثلاث طاقات أيضا، فإنهم جعلوا الجدار في بنائهم مصمتا كله، والله أعلم.
بيان ما ينبغي أن يزار بقباء من الآثار تتميما للفائدة دار سعد بن خيثمة
منها: دار سعد بن خيثمة، وقد تقدم أن باب مسجد قباء المسدود في المغرب بفناء دار سعد بن خيثمة، وهي في قبلة مسجد قباء، والجانب الذي يلي هذا الباب المسدود منها يدخله الناس للزيارة ويسمونه مسجد علي رضي الله تعالى عنه، وكأنه المراد بما سيأتي في الفصل الرابع في مسجد دار سعد بن خيثمة.
وروى ابن شبة عن أبي أمامة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «اضطجع في البيت الذي في دار سعد بن خيثمة بقباء» وعن ابن وقش أن النبي صلى الله عليه وسلم «دخل بيت سعد بن خيثمة بقباء، وجلس فيه» وروى ابن زبالة عنه أنه قال: يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من المهراس الذي يلي دار سعد بن خيثمة بقباء.
دار كلثوم بن الهدم
ومنها: دار كلثوم بن الهدم، وهي إحدى الدور التي قبلى المسجد أيضا، يدخلها الناس للزيارة والتبرك. وقد قدمنا نزوله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم بداره لمّا قدم قباء، وكذلك أهله وأهل أبي بكر حين قدموا.(3/26)
بئر أريس
ومنها بئر أريس، وسيأتي ما جاء فيها في الآثار، قال ابن جبير في رحلته: وبإزائها دار عمر، ودار فاطمة، ودار أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم. ولعله يريد أماكن نزولهم قبل التحوّل إلى المدينة، والله أعلم.
ما جاء في بيان طريقه صلى الله عليه وسلم إلى قباء ذاهبا وراجعا طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلي قباء ذاهبا وراجعا
قال أبو غسان فيما نقله ابن شبة: أخبرني الحارث بن إسحاق قال: كان إسحاق بن أبي بكر بن إسحاق يحدث أن مبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركبه إلى قباء أن يمر على المصلى، ثم يسلك في موضع الزقاق بين دار كثير بن الصّلت ودار معاوية بالمصلى، ثم يرجع راجعا على طريق دار صفوان بن سلمة التي عند سقيفة محرق، ثم يمر على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط، قال: فذكر إسحاق أنه رأى الوليد بن عبد الملك سلك هذه الطريق على هذه الصفة في مبدئه ورجعته من قباء.
قلت: وهو يقتضي أن طريقه صلى الله عليه وسلم كانت من جهة الدّرب المعروف اليوم بدرب سويقة في الذهاب والرجوع؛ لأن المصلى ومسجد بني زريق في جهته، وقد سبق في المصلى أن دار كثير بن الصّلت كان قبلة المصلى، وسبق ما يؤخذ منه أن دار معاوية رضي الله عنه كانت مقابلها.
وقوله «حتى يخرج إلى البلاط» أي الآخذ من باب السلام إلى جهة درب سويقة؛ لما سبق في الكلام على المصلي من رجوعه صلى الله عليه وسلم على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط من زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث المتقدم بيانه في الدور التي في ميمنة البلاط المذكور، وكثير من الناس اليوم يسلكون إلى قباء من طريق درب البقيع؛ لكونها أقصد يسيرا.
ذرع الطريق
وقد ذرعت الطريق من هذه الجهة فكان بين عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب جبريل وعتبة باب مسجد قباء سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع بذراع اليد المتقدم تحريره يشفّ يسيرا، وذلك ميلان وخمسا سبع ميل. وسيأتي في ترجمة قباء ما وقع للناس من الخبط في بيان هذه المسافة، فإن أسقطت حصة ما بين باب جبريل وباب درب البقيع من ذلك كانت المسافة بين باب سور المدينة المذكور وباب مسجد قباء ميلين إلا مائتي ذراع وثلاثا وثلاثين ذراعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/27)
[مسجد الضّرار]
ما جاء في مسجد الضّرار مما ينوّه بقدر مسجد قباء بناة مسجد الضرار
روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التوبة: 107] هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدّا فقال لهم أبو عامر: ابنو مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فات بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا فرغنا من بناء مسجدنا فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فأنزل الله عز وجل:
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة: 108] يعني مسجد قباء أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ إلى قوله: عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ يعني قواعده وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة: 109] .
وروى ابن شبة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها لية، كانت تربط حمارا لها فيه، فابتنى سعد بن خيثمة مسجدّا، فقال أهل مسجد الضرار: أنحن نصلي في مربط حمار لية؟ لا، لعمر الله، لكنّا نبني مسجدّا فنصلي فيه حتى يجئ أبو عامر فيؤمّنا فيه، وكان أبو عامر فرّ من الله ورسوله فلحق بمكة، ثم لحق بعد ذلك بالشام فتنصر فمات بها، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً الآيات.
وعن سعيد بن جبير أن بنى عمرو بن عوف ابتنوا مسجدّا، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوه ليصلي فيه، ففعل فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم إخوتهم بنو فلان بن عمرو بن عوف، يشك، فقالوا: لا، نبني نحن مسجدّا وندعو النبيّ صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا، ولعل أبا عامر يصلي فيه، وكان بالشام، فابتنوا مسجدّا، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي، فقام ليأتيهم، وأنزل القرآن وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 107 لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 108 أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 109 لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [التوبة:
107- 110] ، قال: قال عكرمة: إلى أن تقطع قلوبهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 110] .
حرق مسجد الضرار
وأسند الطبري فيما قاله ابن عطية عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم «أقبل من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان(3/28)
أصحاب مسجد الضّرار قد كانوا أتوه وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدّا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما قفل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ابن الدخشم ومعن بن عدي، أو أخا عاصم بن عدي، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه واحرقاه، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف.
وفي رواية ذكرها البغوي أن الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وإحراقه انطلقوا سريعا حتى أتوا سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: انظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهالي، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخيل، فأشعل فيه نارا ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقي فيها الجيف والنتن والقمامة.
وقال ابن النجار: هذا المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء، وكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي صلى الله عليه وسلم، ويستهزئون به.
أسماء بناة مسجد الضرار
قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا: خدام بن خالد، وهو من بني عبيد بن زيد بن مالك ومن داره أخرجه، وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد أي أحد بني عمرو بن عوف، ومعتّب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأذعر، وعياد بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وجار بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، ومخرج ومجاد بن عثمان، سبعتهم من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت من بني أمية بن زيد، انتهى.
وقال بعضهم: إن رجالا من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف كان فيهم نفاق حسدوا قومهم بني عمرو بن عوف، وكان أبو عامر المعروف بالراهب- وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاسق- منهم.
قلت: وهو من بني ضبيعة أحد بني عمرو بن عوف من الأوس، وتقدم أن بني غنم ابن عوف وبني سالم بن عوف من الخزرج وليسوا بقباء، ففي هذا القول نظر.
قال: فكتب أبو عامر وهو بالشام إلى المنافقين من قومه أن يبنوا مسجدّا مقاومة لمسجد قباء وتحقيرا له، فإني ساتي بجيش أخرج به محمدا وأصحابه من المدينة فبنوه وقالوا: سيأتي أبو عامر ويصلي فيه، ونتخذه متعبدا، وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 107] .(3/29)
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً [التوبة: 108] كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وهذا مما يؤيد ما قدمناه من أن المراد من قوله تعالى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى [التوبة: 108] مسجد قباء.
وقال ابن عطية: روى عن ابن عمر أنه قال: المراد بالمسجد المؤسّس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد يعني بقوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ [التوبة: 109] هو مسجد قباء، وأما البنيان الذي أسّس على شفا جرف هار فهو مسجد الضّرار بالإجماع.
وقوله «فانهار به في نار جهنم» قال ابن عطية: الظاهر منه ومما صح من خبرهم وهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدهم أنه خارج مخرج المثل لهم: أي حالهم كمن ينهار بنيانه في نار جهنم. وقيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم، قاله قتادة وابن جريج. وروى عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال: رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه حين انهار حتى بلغ الأرض السابعة، ففزع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أنهم لم يصلّوا فيه أكثر من ثلاثة أيام، وانهار في الرابع. قال ابن عطية: وهذا كله بإسناد لين، والأول أصح.
واسند الطبري عن خلف بن يامين أنه قال: رأيت مسجد المنافقين الذين ذكر في القرآن، ورأيت فيه مكانا يخرج منه الدخان، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور.
وقيل: كان الرجل يدخل فيه سعفة فتخرج سوداء محترقة، ونقل عن ابن مسعود أنه قال: جهنم في الأرض، ثم تلا فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 109] .
الخلاف في موضع مسجد الضرار
قال الجمال المطري: وأما مسجد الضّرار فلا أثر له، ولا يعرف له مكان فيما حول مسجد قباء، ولا غير ذلك.
قلت: وهو كذلك، لكن بالنسبة إلى زمنه وزمننا؛ فقد قال ابن جبير في رحلته: وهذا المسجد مما يتقرب الناس إلى الله برجمه وهدمه وكان مكانه بقباء عارض به اليهود مسجد قباء.
وقوله «اليهود» صوابه المنافقون.
وقال ابن النجار: وهذا المسجد قريب من مسجد قباء، وهو كبير، وحيطانه عالية، وتؤخذ منه الحجارة، وقد كان بناؤه مليحا، انتهى.
وهذا يقتضي وجوده في زمن ابن النجار على تلك الحالة، وقد قال المطري: إنه وهم لا أصل له، وتعقبه المجد بأنه لا يلزم من وجوده زمان ابن النجار كذلك استمراره، وقد(3/30)
تبع ابن النجار في ذلك غيره إن لم يكن شاهده، فهذا البشاري يقول: ومنها مسجد الضّرار يتطوّع العوام بهدمه، وتبعه ياقوت في معجمه، وابن جبير في رحلته، انتهى.
وقال ابن النجار أيضا، في ذكر المساجد المعروفة في زمنه ما لفظه: واعلم أن بالمدينة مساجد خرابا فيها المحاريب وبقايا الأساطين وتنقض وتؤخذ حجارتها: منها مسجد بقباء قريب من مسجد الضّرار فيه أسطوان قائمة.
قلت: وهذا غير معروف اليوم، وهو صريح في اشتهار مسجد الضرار في زمنه بقباء حتى عرف به المسجد المذكور.
ووقع في كلام عياض في المشارق، وتبعه المجد، ما يقتضي أن مسجد الضّرار بذي أوان؛ فإنه قال في ذروان: إن روايته بلفظ ذي أوان وهم. قال: وهو موضع خر على ساعة من المدينة، هو الذي بنى فيه مسجد الضرار، هذا لفظه.
ولعل مراده هو الذي وقع ذكر بنائه به في حديث مسجد الضرار؛ لما قدمناه من أن أصحابه جاؤوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بذي أوان، وأخبروه ببنائه، والله أعلم.
الفصل الثالث في بقية المساجد المعلومة العين في زماننا بالمدينة الشريفة وما حولها
اعلم أن الاعتناء بهذا الغرض متعين؛ فقد قال البغوي من الشافعية: المساجد التي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها لو نذر أحد الصلاة في شيء منها تعين كما تتعين المساجد الثلاثة، واعتناء السلف بتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم معلوم- سيما ما جاء في ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما- وقد استفرغنا الوسع في تتبعها.
فمنها: مسجد الجمعة، ويقال «مسجد الوادي» قد تقدم في الفصل الحادي عشر من الباب الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من قباء مقدمه المدينة أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في بطن الوادي، وادي ذي صلب- بضم أوله- وأن ابن إسحاق قال: إن الجمعة أدركته في وادي رانونا، يعني ببني سالم، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وفي رواية لابن زبالة «فمر على بني سالم فصلى فيهم الجمعة في القبيب ببني سالم، وهو المسجد الذي في بطني الوادي» وفي رواية له «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول جمعة بالناس في القبيب» ببني سالم فهو المسجد الذي بناه عبد الصمد» .
والمراد أن موضع المسجد يسمى بالقبيب، وسيأتي في أودية المدينة أن سيل ذي صلب وسيل رانونا يصلان إلى موضع مسجد الجمعة، فلا مخالفة بين هذه العبارات، وإن غلب اشتهار اسم رانونا على ذلك الموضع دون بقية الأسماء.
وروى ابن شبة عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «جّمع في أول(3/31)
جمعة حين قدم المدينة في مسجد بني سالم في مسجد عاتكة» وعن إسماعيل بن أبي فديك عن غير واحد ممن يثق به من أهل البلد أن أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم حين أقبل من قباء إلى المدينة في مسجد بني سالم الذي يقال له مسجد عاتكة.
وقال المطري: في شمالي هذا المسجد أطم خراب يقال له «المزدلف» أطم عتبان بن مالك، والمسجد في بطن الوادي صغير جدّا، مبني بحجارة قدر نصف القامة، وهو الذي كان يحول السبيل بينه وبين عتبان بن مالك إذا سال؛ لأن منازل بني سالم بن عوف كانت غربيّ هذا الوادي على طرف الحرة، وآثارهم باقية هناك، فسأل عتبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي له في بيته في مكان يتخذه مصلى، ففعل صلى الله عليه وسلم.
قلت: قصة عتبان المشار إليها مروية في الصحيح بلفظ أن عتبان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، الحديث.
وسيأتي في المساجد التي لا تعلم عينها أن بني سالم لهم مسجد آخر هو مسجدهم الأكبر؛ فالذي يظهر أنه المراد من حديث عتبان، وأما هذا فهو مسجدهم الأصغر وقد تهدم بناؤه الذي أشار إليه المطري، فجرده بعض الأعاجم على هيئته اليوم، مقدّمه رواق مسقف فيه عقدان بينهما أسطوان، وخلفه رحبة، وطوله من القبلة إلى الشام عشرون ذراعا، وعرضه من الجدار الشرقي إلى الغربي مما يلي محرابه ستة عشر ذراعا ونصف، وكان سقفه قد خرب فجدده المرحوم الخواجا الرئيس الجواد المفضّل شمس الدين قاوان تغمده الله برحمته.
ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت غسان ليس في الأطم المذكور، بل عند أصله كما سيأتي.
مسجد الفضيخ
ومنها: مسجد الفضيح- بفتح الفاء وكسر المعجمة بعدها مثناة تحتية وخاء معجمة- قال المطري: ويعرف اليوم بمسجد الشمس وهو شرقي مسجد قباء على شفير الوادي، على نشز من الأرض، مرضوم بحجارة سود، وهو مسجد صغير.
وروى ابن شبة وابن زبالة ويحيى في عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلى بمسجد الفضيخ» .
وروى الأولان- واللفظ لابن شبة- عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:
حاصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بني النضير، فضرب قبته قريبا من مسجد الفضيخ، وكان يصلّي في موضع مسجد الفضيخ ستّ ليال، فلما حرمت الخمر خرج الخبر إلى أبي أيوب في نفر من الأنصار، وهم يشربون فيه فضيخا، فحلّوا وكاء السّقاء فهراقوه فيه؛ فبذلك سمي مسجد الفضيخ.(3/32)
قال الزين المراغي: وذلك قبل اتخاذ الموضع مسجدّا، أو كان الإعلام بنجاسة الخمر بعد ذلك لكن المشهور تحريم الخمر في شوال سنة ثلاث، ويقال أربع، وعليه يتمشى؛ لأن غزوة بني النّضير سنة أربع على الأصح.
قلت: الحديث إنما تضمّن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك المحل في حصار بني النضير، ولا يلزم من ذلك اتخاذه مسجدّا حينئذ؛ فيجوز أن يكون بناؤه مسجدّا تأخر إلى أن حرّمت الخمر، على أن أحمد روى في مسنده من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يعني أتى بفضيخ في مسجد الفضيخ فشربه، فلذلك سمي مسجد الفضيخ.
ورواه أبو يعلى ولفظه: أتى بجر فضيخ ينشّ»
وهو في مسجد الفضيخ فشربه، فلذلك سمي مسجد الفضيخ، وفيه عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، صعفّه الجمهور، وقيل فيه: يكتب حديثه، وهو أولى بالاعتماد في سبب تسمية المسجد المذكور بذلك؛ لأن ابن زبالة ضعيف، وأما ابن شبة فرواه من طريق عبد العزيز بن عمران وهو متروك، ولم أر في كلام أحد من المتقدمين تسمية المسجد المذكور بمسجد الشمس.
وقال المجد: لا أدري لم اشتهر بهذا الاسم، ولعله لكونه على مكان عال في شرقي مسجد قباء أول ما تطلع الشمس عليه، قال: ولا يظن ظانّ أنه المكان الذي أعيدت الشمس فيه بعد الغروب لعلي رضي الله تعالى عنه؛ لأن ذلك إنما كان بالصهّباء من خيبر، قال عياض في الشفاء: كان رأس النبي صلى الله عليه وسلم في حجر علي رضي الله تعالى عنه وهو يوحي إليه، فغربت الشمس ولم يكن عليّ صلى العصر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصلّيت يا علي؟ قال: لا، فقال: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس، قالت أسماء:
فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت، ووقعت على الجبال والأرض وذلك بالصهباء في خيبر، قال عياض: خرّجه الطحاوي في مشكل الحديث، وقال: إن أحمد بن صالح كان يقول: لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من علامات النبوة.
قال المجد: فهذا المكان أولى بتسميته بمسجد الشمس دون ما سواه، وصرح ابن حزم بأن الحديث موضوع، قال: وقصة ردّ الشمس على عليّ رضي الله تعالى عنه باطلة بإجماع العلماء وسفه قائله.
قلت: والحديث رواه الطبراني بأسانيد قال الحافظ نور الدين الهيتمي: رجال أحدها رجال الصحيح، غير إبراهيم بن حسن، وهو ثقة، وفاطمة بنت علي بن أبي طالب لم أعرفها، انتهى.
وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن مردويه من
__________
(1) ينش: يغلي ويفور.(3/33)
حديث أبي هريرة، وإسنادهما حسن، وممن صححه الطحاوي وغيره، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، بعد ذكر رواية البيهقي له: وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده له في الموضوعات، انتهى.
وهذا المسجد مربع ذرعه من المشرق إلى المغرب أحد عشر ذراعا، ومن القبلة إلى الشام نحوها.
مسجد بني قريظة
ومنها: مسجد بني قريظة، وهو شرقي مسجد الشمس، بعيد عنه، بالقرب من الحرّة الشرقية، على باب حديقة تعرف بحاجزة هي وقف للفقراء، قاله المطري وقد قدمنا في منازل يهود أن أطم الزبير بن باطا كان في موضع مسجد بني قريظة وعنده خراب أبيات من دور بني قريظة شمالي باب الحديقة المذكورة، وبقربه ناس نزول من أهل العالية، وقد روى ابن شبة من طريق محمد بن عقبة بن مالك عن علي بن رافع وأشياخ قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى في بيت امرأة من الخضر، فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة» فذلك المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم شرقي بني قريظة عند موضع المنارة التي هدمت، هذا لفظ ابن شبة؛ فينبغي الصلاة في مسجد بني قريظة مما يلي محل المنارة في شرقي المسجد.
وقد روى ذلك ابن زبالة عن محمد بن عقبة، إلا أنه لم يعين المحل المذكور، بل قال:
فأدخل الوليد بن عبد الملك حين بنى المسجد ذلك البيت في مسجد بني قريظة، ويحتمل:
أنه صلى الله عليه وسلم صلى في مقدم المسجد أيضا، وإلا لجعلوا ما عند المنارة مقدمة.
قلت: الظاهر أن هذا المسجد هو المذكور في حديث الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتى على حمار، فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار «قوموا إلى سيّدكم أو خيركم» ثم قال «إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك» فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبي ذريتهم، الحديث.
فقوله «قريبا من المسجد» ليس المراد به مسجد المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن به حينئذ، ولذا قال الحافظ ابن حجر: وقوله «فلما بلغ قريبا من المسجد» أي الذي أعدّه النبي صلى الله عليه وسلم أيام محاصرته لبني قريظة للصلاة فيه، وأخطأ من زعم أنه غلط من الراوي لظنه أنه أراد بالمسجد المسجد النبوي بالمدينة فقال: إن الصواب ما وقع عند أبي داود من طريق شعبة بإسناد الصحيح بلفظ «فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم» انتهى. وإذا حمل على ما سبق لم يكن بين اللفظين اتفاق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال ابن النجار: وهذا المسجد اليوم باق بالعوالي، كبير، وفيه ست عشرة أسطوانة قد(3/34)
سقط بعضها، وهو بلا سقف، وحيطانه مهدومة، وقد كان مبنيّا على شكل بناء مسجد قباء، وحوله بساتين ومزارع.
وذكر في ذرعه شيئا الظاهر أنه تحريف فإنه قال: طوله نحو العشرين ذراعا وعرضه كذلك، وهذا لا يطابق ما عليه المسجد اليوم ولا ما قدّمه هو من الوصف ولعله خمن أن ذرعه كذلك في حال غيبته عنه، فقد قال المطري: إن ذرعه نحو من خمسة وأربعين ذراعا، وعرضه كذلك.
قال: وكان فيه أساطين وعقود ومنارة في مثل موضع منارة قباء، فتهدّم على طول الزمان، ووقعت منارته، أثرها اليوم باق تعرف به، وأخذت أحجاره جميعا. قال المطري:
وبقي أثره إلى العشر الأول بعد السبعمائة، فجدّد وبنى عليه حظير مقدار نصف قامة، وكان قد نسي فمن ذلك التاريخ عرف مكانه.
قلت: وهو اليوم على الهيئة التي ذكرها المطري، وقد اختبرت ذرعه فكان من القبلة إلى الشام أربعة وأربعين ذراعا وربعا، ومن المشرق إلى المغرب ثلاثة وأربعين ذراعا، وقد جدّد بناء جداره الشجاعيّ شاهين الجمالي شيخ الحرم النبوي وناظره عام ثلاث وتسعين وثمانمائة.
مشربة أم إبراهيم
ومنها: المسجد الذي يقال له «مشربة أم إبراهيم عليه السلام» .
وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه وابن شبة من طريق أبي غسان عن ابن أبي يحيى عن يحيى بن محمد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى في مشربة أم إبراهيم» .
وروى ابن شبة فيما جاء في صدقات النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن شهاب أن تلك الصّدقات كانت أموالا لمخيريق، كما سيأتي، وعدّ منها مشربة أم إبراهيم، ثم قال: وأما مشربة أم إبراهيم فإذا خلفت بيت مدراس اليهود فجئت مال أبي عبيدة بن عبيد الله بن زمعة الأسدي فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه، وإنما سميت مشربة أم إبراهيم لأن أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ولدته فيها، وتعلّقت حين ضربها المخاض بخشبة من خشب تلك المشربة، فتلك الخشبة اليوم معروفة، انتهى ما رواه ابن شبة عن ابن شهاب.
قال ابن النجار: وهذا الموضع بالعوالي من المدينة بين النخيل، وهو أكمة قد حوّط عليها بلبن، والمشربة: البستان، وأظنه قد كان بستانا لمارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قال في الصحاح: المشربة بالكسر- أي: بكسر الميم- إناء يشرب فيه، والمشربة بالفتح: الغرفة، وكذلك المشربة بضم الراء، والمشارب: العلالي، وليس في كلامه إطلاق ذلك على البستان، والظاهر أنها كانت عليّة في ذلك البستان، وهو أحد صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يناسب ما تقدم من رواية ابن شبة في سبب تسميتها بذلك.(3/35)
وقال ابن عبد البرفي الاستيعاب: ذكر الزبير أن مارية ولدت إبراهيم عليه السلام بالعالية في الماء الذي يقال له اليوم مشربة أم إبراهيم بالقف.
وروت عمرة عن عائشة حديثا فيه ذكر غيرتها من مارية، وأنها كنت جميلة، قالت:
وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان، وكانت جارتنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة النهار والليل عندها، حتى قذعنا لها- والقذع الشتم- فحوّلها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ، ثم رزقها الله الولد وحرمناه منه.
قال المجد: والمشربة المذكورة مسجد شماليّ بني قريظة قريب من الحرّة الشرقية في موضع يعرف بالدشت، بين نخل تعرف بالأشراف القواسم، من بني قاسم بن إدريس بن جعفر أخي الحسن العسكري، قال: وذرعته فكان طوله نحو عشرة أذرع وعرضه أقل من ذلك بنحو ذراع، وليس عليه بناء ولا جدار، وإنما هو عريصة صغيرة على رويبية، وقد حوّط عليها برضم لطيف من الحجارة السود، قال: وعلى شمالي المشربة دار متهدّمة لم يبق من معالمها سوى بعض الجدارن، يظن الناس أنه مكان دار أبي سيف القبر. والذي يغلب على ظني أن ذلك بقايا أطم بني زعوراء، فإن الزبير بن بكار قال ما نصه: وكان بنو زعوراء عند مشربة أم إبراهيم، ولهم الأطم الذي عندها، وبنو زعوراء من قبائل اليهود.
قلت: دار أبي سيف القبر التي كان إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيها إنما هي في دار بني مازن بن النجار كما سيأتي. وما ذكره في وصف المسجد المذكور قريب مما هو عليه اليوم لكنّ ذرعه من القبلة إلى الشام أحد عشر ذراعا، ومن المشرق إلى المغرب أربعة عشر ذراعا راجحة، وفي جهة المشرق منه شقيفة لطيفة، وبالقرب منه في جهة المغرب نخيل تعرف بالزبيريات وسيأتي أنها المال الذي كان للزبير بن العوّام فتصدق به، وفيه مسجده الآني، والله أعلم.
مسجد بني ظفر
ومنها: مسجد بني ظفر من الأوس، ويعرف اليوم بمسجد البغلة، وهو بطرف الحرة الشرقية في شرقي البقيع، طريقه من عند القبة المعروفة بفاطمة بنت أسد أمّ علي رضي الله عنهما بأقصى البقيع، وقد روى يحيى عن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد بني معاوية» أي الآني «ومسجد بني ظفر» .
وقال ابن زبالة: إن إبراهيم بن جعفر حدثه بذلك عن أبيه جعفر المذكور، وروى ابن شبة عن الحارث بن سعيد بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلى في مسجد بني حارثة مسجد بني ظفر» .(3/36)
وروى يحيى عن إدريس بن محمد بن يونس بن محمد الظفري عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «جلس على الحجر الذي في مسجد بني ظفر» وكان زياد بن عبيد الله أن أمر بقلعه حتى جاءته مشيخة بني ظفر وأعلموه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس عليه، فرده، قال: فقلّ امرأة نزر ولدها تجلس عليه إلا حملت. قال يحيى عقبه: مسجد بني ظفر دون مسجد بني عبد الأشهل، قال: وأدركت الناس بالمدينة يذهبون بنسائهم حتى ربما ذهبوا بهنّ بالليل فيجلسن على هذا الحجر.
قلت: ولم أزل أتأمل في سر ذلك حتى اتضح لي بما رواه الطبراني برجال ثقات عن محمد بن فضالة الظفري، وكان ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاهم في مسجد بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في مسجد بني ظفر اليوم ومعه عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأناس من أصحابه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه. فقال: «أي ربّ شهيد على من أنا بين ظهرابيه، فكيف بمن لم أر» ؟
قلت: ولم يزل الناس يصفون الجلوس على ذلك الحجر للمرأة التي لا تلد، ويقصدون ذلك المسجد لأجله، غير أني لم أر فيه حجرا يصلح للجلوس عليه، إلا أن في أسفل كتف بابه عن يسار الداخل حجرا مثبتا من داخله، فكأنه هو المراد، والناس اليوم إنما يقصدون حجرا من تلك الصخور التي هي خارجة في غربيه فيجلسون عليه، وهذا بعيد لأن الرواية المتقدمة مصرّحة بأنه في المسجد.
وقال المطري: وعند هذا المسجد آثار في الحرة من جهة القبلة، يقال: إنها أثر حافر بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي غربيه أي غربي أثر الحافر أثر على حجر كأنه أثر مرفق يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اتّكأ عليه، ووضع مرفقه الشريف عليه، وعلى حجر آخر أثر أصابع، والناي يتبركون بها.
قلت: ولم أقف في ذلك على أصل، إلا أن ابن النجار قال في المسجد التي أدركها خرابا ما لفظه: ومسجدان قريب البقيع، وذكر ما سيأتي عنه في مسجد الإجابة، ثم قال:
وآخر يعرف بمسجد البغلة فيه أسطوان واحد، وهو خراب، وحوله كثير من الحجارة فيها أثر يقولون: إنه أثر حافري بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وقد بني ما تهدّم منه بعد ابن النجار، إلا أنه لم يجعل له سقفا، فليس به شيء من الأساطين. ورأيت فيه حجر رخام عن يمين محرابه قد كتب فيه ما صورته: خلّد الله ملك الإمام أبي جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين. عمر سنة ثلاثين وستمائة، وذرعته(3/37)
فكان مربعا، طوله من القبلة إلى الشام أحد وعشرون ذراعا، ومن المشرق إلى المغرب مثل ذلك، والله أعلم.
مسجد الإجابة
ومنها: مسجد الإجابة، وهو مسجد بني معاوية بن مالك بن عوف من الأوس، كما قدمناه في المنازل مع بيان ما وقع للمطري ومن تبعه من الوهم في جعلهم من بني مالك بن النجار من الخزرج، وبيان منشأ الوهم، وما ناقض المطري به كلامه عند ذكره مسجد بني جديلة، وهو مسجد أبيّ الآتي في الفصل بعده.
وقد روينا في صحيح مسلم من حديث عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربّه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالسّنة فأعطاني، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، فسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها، فهذا سبب تسمية هذا المسجد بمسجد الإجابة.
وروى ابن شبة بسند جيد، وهو في الموطأ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك قال: جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية، وهي قريبة من قرى الأنصار، فقال:
تدرون أين صلّى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا؟ فقلت: نعم، وأشرت له إلى ناحية منه، قال:
فهل تدرون ما الثلاث التي دعا بهن فيه؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني، قلت دعا أن لا يظهر عليهم عدو من غيرهم، وأن لا يهلكهم بالسنين، فأعطيهما، ودعا أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها، قال: صدقت، فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فمرّ بمسجد بني معاوية، فدخل فركع فيه ركعتين، ثم قام فناجى ربّه، ثم انصرف.
ونقل ابن شبة أيضا عن أبي غسان عن محمد بن طلحة أنه قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني معاوية على يمين المحراب نحوا من ذراعين.
قلت: فينبغي أن يتحرّى بالصلاة ذلك المحل، وأن يكون الدعاء فيه قائما بعد الصلاة؛ للرواية المتقدمة.
وهذا المسجد هو المراد بقول ابن النجار في المسجدين اللذين أدركهما خرابا قريب البقيع أحدهما يعرف بمسجد الإجابة وفيه أسطوانات قائمة ومحراب مليح وباقية خراب.
قلت: ليس به اليوم شيء من الأساطين، وقد رمّم ما تخرب منه، وهو في شمالي البقيع على يسار السالك إلى العريض، وسط تلول هي آثار قرية بني معاوية، وذرّعته فكان من المشرق إلى المغرب خمسة وعشرين ذراعا ينقص يسيرا، وكان من القبلة إلى الشام عشرين ذراعا ينقص يسيرا.(3/38)
مسجد الفتح
ومنها: مسجد الفتح، والمساجد التي حوله في قبلته، وتعرف اليوم كلها بمساجد الفتح، والأول المرتفع على قطعة من جبل سلع في المغرب غربيه وادي بطحان، وهو المراد بمسجد الفتح حيث أطلقوه، ويقال له أيضا «مسجد الأحزاب» و «المسجد الأعلى» .
وروينا في مسند أحمد برجال ثقات عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا في مسجد الفتح ثلاثا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه» قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهمّ غليظ إلا توخّيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة، ورواه ابن زبالة والبزار وغيرهما.
وروينا في مسند أحمد أيضا بإسناد فيه رجل لم يسم عن جابر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم «أتى مسجد يعني، الأحزاب، فوضع رداءه وقام، ورفع يديه مدا يدعو عليهم، ولم يصل، ثم جاء ودعا عليهم وصلى» .
وروى ابن شبة عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «قعد على موضع مسجد الفتح وحمد الله ودعا عليهم وعرض أصحابه وهو عليه» .
وعن سعيد مولى المهديين قال: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الجرف، فأدركته صلاة العصر فصلاها في المسجد الأعلى» .
وروى ابن زبالة ويحيى وابن النجار من غير طريقهما عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مرّ بمسجد الفتح الذي على الجبل وقد حضرت صلاة العصر، فرقي فصلى فيه صلاة العصر» .
وروى ابن زبالة عن المطلب مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا في مسجد الفتح يوم الأحزاب حتى ذهبت الظهر وذهبت العصر وذهبت المغرب، ولم يصل منهن شيئا، ثم صلاهن جميعا بعد المغرب» .
قلت: وفيه بيان الشغل الذي أخر لأجله تلك الصلاة؛ فإن المعروف تأخيرها أو تأخير العصر فقط كما في الصحيح من غير بيان هذا السبب، وذلك كان قبل مشروعية صلاة الخوف.
وروى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «دخل مسجد الفتح فخطا خطوة ثم الخطوة الثانية، ثم قام ورفع يديه إلى الله حتى رؤي بياض إبطيه- وكان أعفر الإبطين فدعا حتى سقط رداؤه عن ظهره، فلم يرفعه حتى دعا ودعا كثيرا، ثم انصرف» .
وعن جابر قال: «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء مسجد الفتح نحو المغرب» .
ورواه ابن شبة عنه بلفظ «دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الجبل الذي عليه مسجد الفتح من ناحية المغرب، وصلى من وراء المسجد» أي في الرحبة.(3/39)
قال ابن شبة: قال أبو غسان: وسمعت غير واحد ممن يوثق به يذكر أن الموضع الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجبل هو اليوم إلى الأسطوان الوسطى الشارعة في رحبة المسجد.
قلت: ويستفاد منه: أن الصلاة والدعاء هنالك يتحرّى بهما وسط المسجد في الرحبة مما يلي سقفه، ومقتضى الرواية الأولى أن تكون أقرب إلى جهة المغرب، وإذا ضممت إلى ذلك الرواية المتقدمة من أن صلى الله عليه وسلم «خطا خطوة ثم الخطوة الثانية، ثم قام ورفع يديه» ظهر لك أن طريقه صلى الله عليه وسلم كانت من جهة الدرجة الشمالية.
وروى يحيى عن هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعا يوم الخندق على الأحزاب في موضع الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح» قال يحيى: فدخلت مع الحسين بن عبد الله مسجد الفتح، فلما بلغ الأسطوانة الوسطى من المسجد قال: هذا موضع مصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا فيه على الأحزاب، وكان يصلي فيه إذا جاء مسجد الفتح.
وروى ابن شبة عن جابر قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد المرتفع، ورفع يديه مدا.
وعن سالم أبي النصر قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق «اللهمّ منزّل الكتاب، ومنشئ السحاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» .
وروى ابن زبالة من طريق عمر بن الحكم بن ثوبان قال: أخبرني من صلى وراء النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثم دعا فقال: «اللهم لك الحمد هديتني من الضلالة، فلا مكرم لمن أهنت، ولا مهين لمن أكرمت، ولا معزّ لمن أذللت: ولا مذلّ لمن أعززت، ولا ناصر لمن خذلت، ولا خاذل لمن نصرت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا رازق لمن حرمت، ولا حارم لمن رزقت، ولا رافع لمن خفضت، ولا خافض لمن رفعت، ولا خارق لمن سترت، ولا ساتر لمن خرقت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت» .
وذكر القرطبي دعاء آخر في رواية يتضمن أن الدعاء وقع من النبي صلى الله عليه وسلم هناك في الليلة التي أرسل الله فيها الريح على الأحزاب، ولا مانع من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دعا في تلك الليلة أيضا هناك، ولفظه: ولما اشتد الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق قام عليه الصلاة والسلام على التلّ الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي وتوقّع ما وعده الله من النصر. وقال: من يذهب ليأتينا بخبرهم؟ قال: فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول: «يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، ويا كاشف همي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي» فنزل جبريل فقال: إن الله سمع دعوتك وكفاك هول عدوك، فخرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا(3/40)
كما رحمتني ورحمت أصحابي، وأخبره جبريل بأن الله مرسل عليهم ريحا، فبشر أصحابه بذلك.
قلت: فينبغي أن يدعى بذلك كله هناك، فيقول: اللهم يا صريخ المستصرخين والمكروبين، ويا غياث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين، ويا مجيب دعوة المضطرين، صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، واكشف عني كربي وغمي وحزني وهمي، كما كشفت عن حبيبك ورسولك صلى الله عليه وسلم كربه وحزنه وغمه وهمه في هذا المقام، وأنا أتشفع إليك به صلى الله عليه وسلم في ذلك، يا حنان يا منان يا ذا الجود والإحسان.
ويقدم عليه ما في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يدعو عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات ورب الأرضين رب العرش الكريم» . وكذلك دعاء الشافعي رحمه الله تعالى الذي دعا به عند دخوله على الرشيد في محنته فقد روى أبو نعيم بإسناد من طريق الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا به في يوم الأحزاب، ورفعه غير صحيح كما قال البيهقي، لكنه دعاء عظيم، وفي ألفاظه اختلاف، وقد جمعت بينها وهو «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم» ثم قال «وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي وديعة لي عند الله يؤدّيها إلى يوم القيامة، اللهم إني أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة ومن طوارق الليل والنهار، وطارق الجن والإنس، إلا طارقا يطرق بخير، اللهم أنت غياثي فبك أغوث، وأنت ملاذي فبك ألوذ، وأنت عياذي فبك أعوذ، يا من ذلّت له رقاب الجبابرة، وخضعت له أعناق الفراعنة، أعوذ بجمال وجهك وكرم جلالك من خزيك وكشف سترك، ومن نسيان ذكرك، والاضراب عن شكرك، أنا في حرزك وكنفك وكلاءتك في ليلي ونهاري، ونومي وقراري، وظعني وأسفاري، وحياتي ومماتي، ذكرك شعاري، وثناؤك دثاري، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، تنزيها لاسمك وعظمتك، وتكريما لسبحات وجهك، أجرني من خزيك ومن شر عبادك، واضرب عليّ سرادقات حفظك، وقني سيئات عذابك، وجد علي، وعدني منك بخير يا أرحم الراحمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الكريم، والصلاة على النبي المرتضى محمد وآله وصحبه وسلم» .
قلت: ومما يدل على اشتهار الاستجابة بهذا المسجد في يوم الأربعاء وقصد السلف له في ذلك اليوم حتى النساء ما حكاه الأديب شهاب الدين أبو الثناء محمود في كتابه «منازل الأحباب» من رؤية عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموع امرأة ممن يزور هذا المسجد في يوم الأربعاء مع نسوة المرة بعد الآخرى وذكر قصته في تزوجه بها، وإنشاده:(3/41)
يا للرّجال ليوم الأربعاء أما ... ينفكّ يحدث لي بعد النهي طربا
ما إن يزال غزال فيه يظلمني ... يهوى إلى مسجد الأحزاب منتقبا
يخبّر الناس أنّ الأجر همّته ... وما أتى طالبا للأجر محتسبا
لو كان يبغي ثوابا ما أتى ظهرا ... مضمخا بفتيت المسك مختضبا
وفي كلام الزبير بن بكار ما يقتضي نسبة هذه الأبيات مع زيادة فيها لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي، وأنه كان إمام المسجد المذكور فإنه قال: ولما ولي الحسن بن زيد المدينة منع عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي أن يؤمّ الناس في مسجد الأحزاب، فقال له: أصلح الله الأمير لم منعتني مقامي ومقام آبائي وأجدادي قبلي؟ قال: ما منعك منه إلا يوم الأربعاء، يريد قوله:
يا للرّجال ليوم الأربعاء
وذكر الأبيات الأربعة المتقدمة وزاد عقبها أربعة أخرى، وهي:
فإن فيه لمن يبغي فواضله ... فضلا وللطالب المرتاد مطلبا
كم حرّة درّة قد كنت آلفها ... تسدّ من دونها الأبواب والحجبا
قد ساغ فيه لها مشي النهار كما ... ساغ الشراق لعطشان إذا شربا
اخرجن فيه ولا ترعين ذا كذب ... قد أبطل الله فيه قول من كذبا
قال المجد: وأما تسميته يعني المسجد الأعلى بمسجد الفتح فمحتمل أنه سمّي به لأنه أجيبت فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فكان فتحا على الإسلام أو أنزل الله عليه صلى الله عليه وسلم سورة الفتح هناك، انتهى.
قلت: وبالثاني جزم ابن جبير في رحلته، لكن جاء في خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان قد تقنّع بثوبه يوم الخندق واضطجع لما أتاه أصحابه بخبر بني قريظة، ثم إنه رفع رأسه فقال: بشروا بفتح الله ونصره» كما في مغازي ابن عقبة، فلعل ذلك كان في موضع هذا المسجد، فسمي بذلك لوقوع البشارة بالفتح فيه.
وأيضا فقد روى القرطبي ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل حذيفة ليأتيه بخبر الأحزاب كان بمحل هذا المسجد.
وقد قال ابن عقبة: إن حذيفة لما رجع وجد النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي، ثم انصرف إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد فتح الله عز وجل لهم وأقر أعينهم، اه.
وروى ابن شبة عن أسيد بن أبي أسيد عن أشياخهم أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا على الجبل الذي عليه مسجد الفتح، وصلّى في المسجد الصغير الذي بأصل الجبل على الطريق حين يصعد الجبل» . وروى ابن زبالة عن معاوية ابن عبد الله بن زيد، نحوه.(3/42)
وعن معاذ بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد الفتح الذي على الجبل وفي المساجد التي حوله» .
المساجد التي حول مسجد الفتح
قلت: وظاهره أن المساجد حوله ثلاثة لأنه أقل الجمع، وهو ما صرح به ابن النجار فقال: إن مسجد الفتح على رأس جبل يصعد إليه بدرج، وقد عمر عمارة جديدة، أي عمارة ابن أبي الهيجاء الآتية فإنه أدركها.
قال: وعن يمينه في الوادي نخل كثير، ويعرف ذلك الموضع بالسيحي، أي بالياء آخر الحروف. ومساجد حوله وهي ثلاثة- قبلة الأول منها خراب، وقد هدم وأخذت حجارته، والآخران معموران بالحجارة والجص، وهما في الوادي عند النخل، انتهى.
وقال المطري: إن المسجدين اللّذين في قبلة مسجد الفتح تحته يعرف الأول منهما يعني الذي يلي مسجد الفتح بمسجد سلمان الفارسي، والثاني الذي يلي القبلة- يعني في قبلة مسجد سلمان- يعرف بمسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم ذكر ما تقدم عن ابن النجار من أنه كان معهما مسجد ثالث، ثم قال: وهذا لم يبق له أثر.
قلت: وفي قبلة المسجد المعروف بأمير المؤمنين جانحا إلى جهة المشرق يلحق طرف جبل سلع الذي في قبلة المساجد رضم من حجارة رأينا الناس يتبركون بالصلاة بينها. وقد تأملتها فوجدت في طرفها مما يلي المشرق حجرا من المقام الذي يجعل منه الأساطين، وهو مثبت في الأرض بالجص، فترجح عندي أنه أثر أسطوان، وأن ذلك هو المسجد الذي يشير إليه ابن النجار، وما ذكره المطري من نسبة المسجدين المذكورين لسلمان وعلي رضي الله تعالى عنهما شائع على ألسنة الناس، ويزعمون أن الثالث الذي ذكر المطري أنه لم يبق له أثر مسجد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وبعض العامة يسمى مسجد سلمان بمسجد أبي بكر رضي الله عنه، ولم أقف في ذلك كله على أصل.
قال المطري: ويصعد إلى مسجد الفتح بدرجتين شمالية وشرقية، وكان فيه ثلاث أسطوانات من بناء عمر بن عبد العزيز، فلذلك قال في الحديث «موضع الأسطوانة الوسطى» .
قلت: والمراد أنها ثلاث أساطين بين المشرق والمغرب فمسقفه رواق واحد فقط كما هو عليه اليوم، قال المطري: لكنه تهدّم على طول الزمان فجدّده الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء أحد وزراء العبيديّين ملوك مصر في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وكذلك جدد بناء المسجدين اللذين تحته من جهة القبلة في سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
قلت: واسمه اليوم مرسوم على مسن في أعلى قبلة مسجد الفتح، وفي أعلى قبلة المسجد الذي يليه. وفيه ذكر العمارة في التاريخ المذكور.(3/43)
وأما المسجد الآخر- وهو الذي في قبلتهما، المنسوب لأمير المؤمنين عليّ- فتهدّم بناؤه، فجدّده الأمير زين الدين ضغيم بن حشرم المنصوري أمير المدينة الشريفة في سنة ست وسبعين وثمانمائة، وكان سقفه عقدا، وفيه مسن عليه اسم ابن أبي الهيجاء كالمسجدين الآخرين، فجعل سقفه خشبا على أسطوان واحد، وسقف كل من مسجد الفتح والذي في قبلته رواق واحد مقبوّ قبوا محكما، وفي كل منهما ثلاث قناطر آخذة من المشرق إلى المغرب، والظاهر أن الرحبة التي خف الرواق المذكور لم تغير عن حالها القديم. وذرع المسجد الأعلى من القبلة إلى الشام عشرون ذراعا ينقص يسيرا، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة سبعة عشر ذراعا. وذرع المسجد الأسفل المنسوب لسلمان رضي الله تعالى عنه من القبلة إلى الشام أربعة عشر ذراعا شافة، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة سبعة عشر ذراعا. وذرع المسجد الذي يليه- وهو المنسوب لعلي رضي الله عنه- من القبلة إلى الشام ثلاثة عشر ذراعا شافة، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة ستة عشر ذراعا شافة.
مسجد بني حرام الكبير
وينبغي لقاصد مساجد الفتح أن يزور مسجد بني حرام الكبير، وهو غير مسجدهم الصغير الآتي ذكره، وهذا المسجد هو الذي اتخذوه لشعبهم من سلع لما تحوّلوا إليه على ما قدمناه في ذكر المنازل؛ لما فيه مما يقتضي أنهم تخلوا إليه بإذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
وقد روى رزين عن يحيى بن قتادة بن أبي قتادة عن مشيخة من قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يأتي دور الأنصار فيصلي في مساجدهم» .
وقدمنا هناك أيضا أن عمر بن عبد العزيز زاد فيه على بناء أهله له مدماكين من أعلاه، وطابق سقفه، وكان أولا بخشب وجريد، وجعل فيه زيت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيه، لكن تقدم أيضا ما يقتضي أن بنى حرام إنما انتقلوا للشعب المذكور في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وروى ابن شبة في ذكر المساجد التي يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيها، ويقال إنه لم يصل فيها، عن حرام بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ في مسجد بني حرام الأكبر، ثم روى ما قدمناه من الاختلاف في وقت تحوّلهم إلى ذلك المحل.
فيتلخص من ذلك أنه مما اختلف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولذلك لم يفرده بالذكر، وقد ظهر لي محله في قرية بني حرام بشعبهم غربي جبل سلع على يمين السالك إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية، وعلى يسار السالك إلى المدينة من مساجد الفتح، فإذا جاوزت البطن الذي فيه مساجد الفتح وأنت قاصد المدينة يلقاك بعد ذلك بطن متسع من سلع فيه آثار قرية هي قرية بني حرام، وذلك شعبهم، وقد انهدم المسجد بأجمعه، وبقي أساسه وآثار(3/44)
أساطينه من الخزر المكسر، وفيها آثار الرصاص وعمد الحديد وآثار الرمل بأرضه، ولعل الله تعالى يبعث له من يحييه.
كهف بني حرام
وينبغي لقاصد المسجد المذكور أن يزور كهف بني حرام قرب شعبهم المذكور؛ لما سيأتي في ذكر عين النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الملك بن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم «توضّأ من العيينة التي عند كهف بني حرام» قال: وسمعت بعض مشيختنا يقول: قد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الكهف.
وفي رواية أنهم كانوا- يعني الصحابة- يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويخافون البيات، فيدخلونه كهف بني حرام فيبيت فيه، حتى إذا أصبح هبط، وإنه نقر العيينة التي عند الكهف.
ولما روى ابن شبة عن يحيى بن النصر الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم «جلس في كهف سلع» والمراد به كف بني حرام.
ولما روى الطبراني في الأوسط والصغير عن أبي قتادة قال: خرج معاذ بن جبل فطلب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجده، فطلبه في بيوته فلم يجده، فاتّبعه في سكة سكة حتى دلّ عليه في جبل ثواب، فخرج حتى رقي جبل ثواب فنظر يمينا وشمالا فبصر به في الكهف الذي اتخذ الناس إليه طريقا إلى مسجد الفتح، قال معاذ: فإذا هو ساجد، فهبطت من رأس الجبل وهو ساجد فلم يرفع حتى أسأت به الظن، فظننته أنه قد قبضت روحه، فقال: جاءني جبريل بهذا الموضع فقال: إن الله تبارك وتعالى يقرؤك السلام ويقول لك: ما تحبّ أن أصنع بأمتك؟ قلت: الله أعلم، فذهب ثم جاء إلي فقال: إنه يقول: لا أسوءك في أمتك، فسجدت فأفضل ما تقرب به إلى الله عز وجل السجود.
قلت: وجبل ثواب لم أقف له على ذكر، ولكن يؤخذ من قوله في هذا الكهف إنه الذي اتخذ الناس إليه طريقا إلى مسجد الفتح أنه جبل سلع، والمراد اتخذ الناس إلى الكهف طريقا إلى طريق مسجد الفتح، فهو كهف بني حرام بقرينة ما سبق، والكهف كما في الصحاح: شبه البيت المنقور في الجبل، وهذا الكهف يظهر أنه الذي على يمين المتوجّه من المدينة إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية أيضا إذا قرب من البطن الذي هو شعب بني حرام في مقابلة الحديقة المعروفة اليوم بالنقبينة عن يساره.
وكذلك الحصن المعروف بحصن حمل يكون في جهة يساره فهناك مجرى سائلة تسيل من سلع إلى بطحان، فإذا دخل في تلك السائلة وصعد يسيرا من سلع طالبا جهة المشرق كان الكهف المذكور على يمينه، وعنده أثر نقر ممتد في الجبل هو مجرى السائلة المذكورة، وإذا صعد(3/45)
الإنسان من ذلك المجرى وكان في أعلاه وجد كهفا آخر، لكنه صغير جدّا، والأول أقرب إلى كونه المراد، ولعل ذلك النقر هو المراد فيما يتعلق بالعيينة، وإذا حصل المطر بسلع سالت تلك السائلة، ويبقى هناك مواضع يتحصل فيها الماء ثم يجري منها؛ فينبغي التبرك بها، والله أعلم.
مسجد القبلتين
ومنها: مسجد القبلتين، قال رزين: وهو مسجد بني حرام بالقاع، وتبعه ابن النجار فمن بعده، وزاد المطري وتبعه من بعده أنه الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم النخامة في قبلته فحكّها بعرجون كان في يده، ثم دعا بخلوق فجعله على راس العرجون ثم جعله في موضع النخامة، فكان أوّل مسجد خلّق، وهذا كله مردود؛ لأن ابن زبالة قال كما قدمناه في المنازل: إن بني سواد بن غنم بن كعب نزلوا عند مسجد القبلتين، ولهم مسجد القبلتين ونزل بنو عبي بن عدي بن غنم بن كعب عند مسجد الخربة، ونزل بنو حرام بن كعب بن غنم بن كعب عند مسجد بني حرام الصغير الذي بالقاع، وابتنوا أطمأ يقال له جاعص كان في السهل بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك وبين العين التي عملها معاوية بن أبي سفيان، وحينئذ فلا يصح كون مسجد بني حرام الصغير هو مسجد القبلتين. وكان هؤلاء الجماعة فهموا من وصف مسجدهم هذا بالصغير أن مسجدهم الكبير هو مسجد القبلتين، وليس كذلك؛ لما قدمناه من أن مسجدهم الكبير نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ فيه، وأنه الذي بشعب سلع، وأيضا فقد صرح ابن زبالة بأن مسجد القبلتين لبني سواد، وأيضا فاسم القاع إنما يناسب ما قدمناه في بيان منازل بني حرام في غربي مساجد الفتح، فمسجد بني حرام هذا من المساجد التي لا تعلم اليوم عينها، ولكن تعلم جهتها. ومما يوضح المغايرة بين مسجد بني حرام وبين مسجد القبلتين، ويصرح بخطأ ما ذهب إليه من جعلهما متحدين أن ابن شبة روى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد الخربة، وفي مسجد القبلتين، وفي مسجد بني حرام الذي بالقاع. ورواه أيضا ابن زبالة عن جابر بلفظ «صلّى في مسجد القبلتين وفي مسجد بني حرام بالقاع» ولم يذكر مسجد الخربة؛ فاتّضح بذلك ما قلناه، وتعين اجتناب ما عداه، وما ذكره المطري من كون مسجد القبلتين أول مسجد خلّق أخذه من ورود ذلك في مسجد بني حرام لظنه اتحادهما؛ فاجتنبه.
وقال ابن زبالة: وحدثني موسى بن إبراهيم عن غير واحد من مشيخة بني سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد القبلتين» وقد قدمناه في الفصل الثالث من الباب الرابع الاختلاف في تعيين المسجد الذي وقع فيه تحويل القبلة وسنته والصلاة التي وقع ذلك فيها، وفي بعض تلك الروايات أن ذلك كان بمسجد القبلتين، وأن الواقديّ قال: إن ذلك هو الثابت عنده.(3/46)
وروى يحيى عن عثمان بن محمد بن الأخنس قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة- وهي أم بشر من بني سلمة- في بني سلمة، فصنعت له طعاما، قالت أم بشر: فهم يأكلون من ذلك الطعام إلى أن سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأرواح، فذكر حديثها في أرواح المؤمنين والكافرين، ثم قال: فجاءت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مسجد القبلتين الظهر، فلما أن صلى ركعتين أمر أن يوجه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة واستقبل الميزاب؛ فهي القبلة التي قال الله تعالى «فلنولينك قبلة ترضاها» فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
وفي رواية له: فلما صلى ركعتين أمر أن يولي وجهه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة والمسجد مسجد القبلتين، وكان الظهر يومئذ أربعا منها اثنتان إلى بيت المقدس وثنتان إلى الكعبة.
قلت: وهذا ما أشار إليه ابن سعد بقوله: ويقال إنه صلى الله عليه وسلم زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعاما وحانت الظهر، فصلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر أن يوجّه إلى الكعبة، فاستداروا إلى الكعبة، فسمي المسجد مسجد القبلتين.
وتقدم ما قاله الزمخشري من صرف القبلة في هذا المسجد في صلاة الظهر، وإنه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم تحول في الصلاة وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال.
وروى ابن زبالة عن محمد بن جابر قال: صرفت القبلة ونفر من بني سلمة يصلون الظهر في المسجد الذي يقال له مسجد القبلتين، فأتاهم آت فأخبرهم وقد صلوا ركعتين فاستداروا حتى جعلوا وجوههم إلى الكعبة، فبذلك سمّي مسجد القبلتين.
قال المجد: فعلى هذا كان مسجد قباء أولى بهذه التسمية؛ لما ثبت في الصحيحين من وقوع نحو ذلك به.
وقد أطنب المجد هنا فيما جاء في تخليق القبلة لتوهمه أن مسجد القبلتين هو المراد، وذلك وهم لما أسلفناه، وهذا المسجد- كما قال المطري- بعيد من مساجد الفتح من جهة المغرب على رابية على شفير وادي العقيق، يعني العقيق الصغير.
قلت: وهو مرتفع عن شفير وادي العقيق كثيرا، وكأنه أراد بذلك بيان مناسبة ما ادّعاه من تسمية موضعه بالقاع، وقد جدد سقف هذا المسجد وأصلحه الشجاعي شاهين الجمالي شيخ الخدامين عام ثلاث وتسعين وثمانمائة، والله أعلم.
مسجد السقيا
ومنها: مسجد السقيا، سقيا سعد الآتي ذكرها في الآبار، في شامي البئر المذكورة(3/47)
قريبا منها جانحا إلى المغرب يسيرا في طريق المار إلى الرقيقين من طريق العقيق، وهذا المسجد ذكره أبو عبد الله الأسدي من المتقدمين في منسكه في المساجد التي تزار بالمدينة.
وروى ابن شبة في ترجمة المواضع التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومساجده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: عرض النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين بالسقيا التي بالحرة متوجها إلى بدر وصلّى بها.
وقد قدمنا في الفصل الرابع من الباب الثاني ما رواه الترمذي وقال حسن صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بحرّة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بوضوء، فتوضأ ثم قام فاستقبل القبلة فقال: اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك ودعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدّهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين.
وقدمنا أيضا أن ابن شبة رواه بنحوه إلا أنه قال: حتى إذا كنا بالحرة بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بوضوء، فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال، الحديث بنحوه.
وتقدم أيضا رواية الطبراني له بسند جيد، وأن أحمد روى برجال الصحيح عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى بأرض سعد بأصل الحرّة عند بيوت السقيا، ثم قال: إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثلي ما دعاك به إبراهيم لمكة، أن تبارك لهم في صاعهم ومدّهم وثمارهم، اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، واجعل ما بها من وباء بخم، اللهم إني حرّمت ما بين لابتيها كما حرمت على لسان إبراهيم الحرم» .
وقال الواقدي في غزوة بدر: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بيوت السّقيا، فحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى عند بيوت السّقيا ودعا يومئذ لأهل المدينة: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، الحديث.
وروى أيضا عن سعد بن أبي وقّاص قال: خرجنا إلى بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا سبعون بعيرا، وكانوا يتعاقبون الثلاثة والأربعة والاثنان على بعير، وكنت أنا من أعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غنّى وأرجلهم رجلة وأرماهم بسهم لم أركب خطوة ذاهبا ولا راجعا.
وقال صلى الله عليه وسلم حين فصل من يثرب للسقيا: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك، قال: فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائل.(3/48)
وروى ابن زبالة عن عمر بن عبد الله الديناري وعمار بن حفص أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض جيش بدر بالسقيا، وصلّى في مسجدها، ودعا هنالك لأهل المدينة أن يبارك لهم في صاعهم ومدّهم، وأن يأتيهم بالرزق من ها وهنا. قال: واسم البئر السقيا، واسم أرضها الفلجان.
قلت: ولم يكن هذا المسجد معروفا، ولم يذكره المطري، بل تردد في البئر بين البئر التي في المحل المذكور وبين البئر المعروفة بزمزم، ومال إلى ترجيح أنها التي في المحل المذكور، فاتفق أني جئت إلى ذلك المحل وتطلبت المسجد، فرأيت محله رضما، فأرسلت إليه بعض المعلمين وأمرته أن يتتبع الأساس بالحفر من داخله فظهر محراب المسجد وتربيعه وبناؤه بالحجارة المطابقة بالجص، وقد بقي منه في الأرض أزيد من نصف ذراع فيه بياض المسجد بالقصّة بحيث يعلم الناظر أنه من البناء العمري، وخرج الناس أفواجا لرؤيته والتبرك به، ثم بنى ولله الحمد على أساسه الأول، وهو مربع، مساحته نحو سبعة أذرع في مثلها.
مسجد ذباب (الراية)
ومنها: مسجد ذباب، ويعرف اليوم بمسجد الراية، ولما لم يعرفه المطري قال: وليس بالمدينة مسجد يعرف غير ما ذكر إلّا مسجدّا أعلى ثنية الوداع عن يسار الداخل إلى المدينة من طريق الشام، ومسجدّا آخر على طريق السافلة، ولم يرد فيهما نقل يعتمد عليه.
قال الزين المراغي في بيان المسجد الأول: وكأنه يريد به المسجد المعروف بمسجد الراية.
قلت: هو مراده؛ لوجوده في زمنه، ولم يعدّه في المساجد وأطلق على محل ثنية الوداع لقربه منها، وهو مبني بالحجارة المطابقة على صفة المساجد العمرية، وكان قد تهدم فجدده الأمير جانبك النيروزي رحمه الله تعالى سنة خمس أو ست وأربعين وثمانمائة، وقد اتضح لنا ما جاء في هذا المسجد بحمد الله تعالى لأن الإمام أبا عبد الله الأسدي في المتقدمين لما عدد في كتابه الأماكن التي تزار في المدينة الشريفة قال: مسجد الفتح على الجبل، ومسجد ذباب على الجبل، انتهى. وذباب: اسم الجبل الذي عليه المسجد المذكور كما سنوضحه.
وقد روى ابن زبالة وابن شبة عن عبد الرحمن الأعرج أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على ذباب.
وروى الثاني عن ربيع بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم قبّته على ذباب.
وعن الحارث بن عبد الرحمن قال: بعثت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى مروان بن الحكم حين قتل ذبابا وصلبه على ذباب تقول: موقف صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذته مصلبا.
قال أبو غسان: وذباب رجل من أهل اليمن عدا على رجل من الأنصار، وكان عاملا(3/49)
لمروان على بعض مساعي اليمن، وكان الأنصاري عدا على رجل فأخذ منه بقرة ليست عليه، فتبع ذباب الأنصاريّ حتى قدم المدينة، ثم جلس له في المسجد حتى قتله، فقال له مروان:
ما حملك على قتله؟ قال: ظلمني بقرة لي، وكنت امرأ خبيث النفس فقتلته، فقتله مروان وصلبه على ذباب.
وتقدم من رواية ابن شبة في اتخاذ المقصورة في المسجد ما يقتضي أن الرجل الذي ظلمه ساعي مروان اسمه دب، وأنه إنما همّ بقتل مروان، فأخذه مروان، فذكر له السبب المتقدم وأنه حبسه ثم أمر به فقتل.
وقال ابن شبة: قال أبو غسان: وأخبرني بعض مشايخنا أن السلاطين كانوا يصلبون على ذباب، فقال هشام بن عروة لزياد بن عبيد الله الحارثي: يا عجبا، يصلبون على مضرب قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفّ عن ذلك زياد وكفت الولاة بعده عنه.
قلت: وقد جعل المطري في الكلام على الخندق مضرب قبّة النبي صلى الله عليه وسلم هو محل مسجد الفتح من سلع؛ لظنه أن الخندق لم يكن إلا في غربي سلع، وكأنه لم يطلع على ما هنا. ولم أر لما ذكره أصلا في كلام غيره، وقد غاير أبو عبد الله الأسدي بين مسجد الفتح ومسجد ذباب كما قدمناه، وسيأتي ما يؤخذ منه أن الخندق كان شامي المدينة بين حرّتيها الشرقية والغربية.
وفي اتخاذ المسجد على هذا الجبل رد لما أوّل به الطبراني الصلاة عليه بالدعاء فإنه روى بسند فيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ذباب، قال الطبراني عقبه: بلغني أن ذبابا جبل بالحجاز وقوله «صلى» أي: بارك عليه.
قلت: صرح ابن الأثير بأنه جبل بالمدينة، وفي الاكتفاء في غزوة تبوك ما لفظه: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب.
وقد قال الكمال الدميري: إن في كتب الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلب رجلا على جبل يقال له ذباب، وإن البكري قال: هو جبل بجبّانة المدينة.
وتقدم في منازل بني الديل حول ثنية الوداع ذكر الجبّانة، وكذا في ذكر البلاط.
وقال الواقدي في كتاب الحرة: إنهم لما اصطفّوا لقتال جيش الحرّة على الخندق، وكان يزيد بن هرمز في موضع ذباب إلى مربد النّعم معه الدهم من الموالي، وهو يحمل رايتهم، وهو أميرهم، وقد صف أصحابه كراديس بعضها خلف بعض إلى رأس الثنية أي: ثنية الوداع.
وهذا كله صريح في أن ذبابا هو الجبل المذكور، ولعل السبب في اشتهار مسجده بمسجد الراية ما ذكره الواقدي من أن يزيد بن هرمز كان في موضعه ومعه راية الموالي.(3/50)
وقد تقدم في منازل يهود قول ابن زبالة: وكان لأهل الشوط الأطم الذي يقال له السرعي، وهو الأطم الذي دون ذباب، وسيأتي في ترجمة الشوط أنه قريب من منازل بني ساعدة، وقد رأيت لذباب ذكرا في أماكن كثيرة جدّا، وكلها متفقة على وصفه بما يدل على أنه الجبل الذي عليه مسجد الراية، بحيث زال الشك عندي في ذلك.
ويؤخذ مما سيأتي في ترجمة الخندق أن الصخرة- التي خرجت- من بطن الخندق وهم يحفرونه، وضربها النبي صلى الله عليه وسلم بالمعول الحديث كانت تحته، لكنه سمي في تلك الرواية ذو باب بزيادة واو، والله أعلم.
مسجد القبيح
ومنها: المسجد اللاصق بجبل أحد على يمينك وأنت ذاهب إلى الشعب الذي فيه المهراس، وهو صغير قد تهدم بناؤه.
قال الزين المراغي: ويقال: إنه يسمّى مسجد القبيح.
قلت: وهو مشهور بذلك اليوم، ويزعمون أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ الآية [المجادلة: 11] نزلت فيه، ولم أقف على أصل لذلك.
وقال المطري: يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيه الظهر والعصر يوم أحد، بعد انقضاء القتال، وكأنه لم يقف فيه على شيء.
وقد روى ابن شبة بسند جيد عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الصغير الذي بأحد في شعب الحرار على يمينك لازق بالجبل.
مسجد في ركن جبل عينين
ومنها: مسجد في ركن جبل عينين الشرقي على قطعة منه، وهذا الجيل كان عليه الرّماة يوم أحد، وهو في قبلة مشهد سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه، وقد تهدم غالب هذا المسجد.
قال المطري: يقال: إنه هو الموضع الذي طعن فيه حمزة رضي الله تعالى عنه.
قلت: وكذا هو مشهور اليوم، وقد ذكر المجد هذا المسجد والذي بعده وقال: ينبغي اغتنام الصلاة فيهما؛ لأنهما لم يبنيا إلا علما للزائرين، ومشهدا للقاصدين، وقول من قال إن الأول طعن مكانه حمزة والثاني صرع فيه فوقع لم يثبت فيه أثر، وإنما هو قول مستفيض.
ثم قال: ويذكر بعض الناس أن المسجد الأول- يعني هذا- كسر في مكانه ثنيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما كان من ابتلاء الله تعالى صفيه وخليله عليه الصلاة والسلام، كل ذلك مقالات يذكرها أهل المدينة لم يرد بها نقل.
قلت: وكلامه وكلام المطري صريح في أنهما لم يقفا على ما جاء فيه.(3/51)
وسيأتي في قبر حمزة رضي الله تعالى عنه ما رواه ابن شبة من أنه لما قتل أقام في موضعه تحت جبل الرّماة وهو الجبل المذكور، ثم أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فحمل عن بطن الوادي، وهذا هو محل المسجد الثاني.
وأما هذا المسجد فقد روى ابن شبة فيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر يوم أحد على عينين الظرب الذي بأحد عند القنطرة، وكأنه يعني بالقنطرة قنطرة العين التي كانت قديما هناك. وأشار إليها المطري بقوله عقب ذكر هذا المسجد: وقد تجدّدت هناك عين ماء، جدّدها الأمير بدر الدين ودي بن جماز صاحب المد، مفيضها بالقرب من هذا المسجد، انتهى.
والعين اليوم دائرة، وقد تقدم في غزوة أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى أحد بات بالشيخان «1» وأدلج في السحر فانتهى إلى موضع القنطرة، فحانت الصلاة فصلّى بأصحابه الصبح صفوفا عليهم السلاح؛ فيحتمل: أن المراد بذلك هذا المسجد، ويحتمل- وهو الأظهر-: أن يراد به المسجد الآتي ذكره عقبه؛ لأن في رواية ابن شبة ذكر صلاة الظهر وأن الموضع من نفس الجبل عند القنطرة، وفي هذه الرواية صلاة الصبح وأن ذلك في موضع القنطرة، والله أعلم.
مسجد العسكر
ومنها: مسجد في شمالي المسجد المذكور قبله قرب عينين أيضا، على شفير الوادي، قد تهدم أكثره، وكان مبنيا بالحجارة المنقوشة المطابقة على هيئة البناء العمري، وفيه بقايا آثار الأساطين، ولم أقف فيه على شيء سوى ما قدمته من الاحتمال الثاني في الرواية المتقدمة.
وذكر المطري أنه يقال: إنه مصرع حمزة رضي الله تعالى عنه، وإنه مشى بطعنته من الموضع الأول إلى هناك فصرع رضي الله تعالى عنه.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أصل ما جاء في أن الموضع الثاني مكان مقتله، وإنما أثبتّه في المساجد- مع ما قدمته من أني لم أقف فيه على شيء صريح- لأن ابن شبة قال ما لفظه:
قال أبو غسان: وقال لي غير واحد من أهل العلم من أهل البلد: إن كل مسجد من مساجد المدينة ونواحيها مبنيّ بالحجارة المنقوشة المطابقة فقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن عمر بن عبد العزيز حين بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سأل والناس يومئذ متوافرون عن المساجد التي صلّى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بناها بالحجارة المنقوشة المطابقة، انتهى.
وقد ذكر هذا المسجد أبو عبد الله الأسدي من المتقدمين، وسماه مسجد العسكر، فقال
__________
(1) الشيخان: موضع بالمدينة، وهو معسكر الرسول عليه الصلاة والسلام، يوم أحد.(3/52)
في تعديد المساجد: ومسجد العسكر، ومسجد يمين هذا في أصل الجبل، انتهى؛ فيتأيد ذلك الاحتمال الثاني المذكور في الرواية المتقدمة لتسميته بمسجد العسكر، على أنه قد ورد من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة وقد قتل ومثّل به فلم ير منظرا كان أوجع لقبله منه، فقال: رحمك الله أي عمّ، فلقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات، فو الله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثّلنّ بسبعين منهم، فما برح حتى نزل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى نصبر. وروى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة وصلّى عليه حينئذ.
قلت: فهذا ما جاء في أن الموضع المذكور مقتل حمزة كاف في إثباته في المساجد، وسيأتي في بيان المشاهد الخارجة عن البقيع عند ذكر مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه بيان أن الحجر المثبت على قبره اليوم أخطأ واضعه، وأنه إنما نقل من هذا المسجد عند تهدّمه، وفيه مكتوب بعد البسملة إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 18] الآية هذا مصرع حمزة بن عبد المطلب ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمره حسين بن أبي الهيجاء سنة ثمانين وخمسمائة، وكأنه جدده فلما تهدم وسقط ذلك المسن نقل إلى المشهد المذكور كما سنوضحه.
وأما المسجد المقابل لمشهد سيدنا حمزة في شرقيه وعند بابه فمحدث، لم يذكره المطري ولا غيره، وليس له أصل في المساجد المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
مسجد أبي ذر الغفاري
ومنها: مسجد صغير جدّا طوله ثمانية أذرع في ثمانية أذرع على يمين طريق السالك إلى أحد من طريق الأسواق، فإذا جاوز البقيع المعروف ببقيع الأسواق قليلا كان على يمينه طريق إذا مشى فيها يسيرا وجد هذا المسجد عند النخيل المعروفة بالبحير، وهو ثاني المسجدين اللذين ذكرهما المطري بقوله: وليس بالمدينة مسجد يعرف غير ما ذكر إلا مسجدّا على ثنية الوداع ومسجدّا آخر صغيرا جدّا على طريق السابلة، وهي الطريق اليمنى الشرقية إلى مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه، يقال: إنه مسجد أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه، ولم يرد فيهما نقل يعتمد عليه.
قلت: روى البيهقي في شعب الإيمان عن مولى لعبد الرحمن بن عوف قال: قال عبد الرحمن: كنت نائما في رحبة المسجد، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا من الباب الذي يلي المقبرة، قال: فلبثت شيئا ثم خرجت على أثره فوجدته قد دخل حائطا من الأسواق، فتوضأ ثم صلى ركعتين فسجد سجدة أطال فيها، فلما تشهد تبدأت له، فقلت: بأبي وأمي حين سجدت أشفقت أن يكون الله قد توفّاك من طولها، فقال: إن جبريل عليه السلام بشّرني أنه من صلّى عليّ صلى الله عليه، ومن سلم عليّ سلم الله عليه. قال البيهقي: وقد رويناه من(3/53)
وجه آخر عن محمد بن جبير عن عبد الرحمن، ومن وجه آخر عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الرحمن لم يذكر فيه الركعتين، بل ذكر السجود فقط، فزاد عبد الواحد في حديثه: فسجدت لله شكرا. ورواه ابن زبالة بالطريق الأولى بلفظها، إلا أنه قال: فقلت بأبي وأمي لقد سجدت سجدة أشفقت إلى آخره. ورواه ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والبزار، إلا أن في روايتهم: فجئته وقد خرج، فاتبعته فدخل حائطا من حيطان الأسواق، فصلى فأطال السجود، فقلت: قبض الله روح رسوله صلى الله عليه وسلم لا أراه أبدا، فحزنت وبكيت، فرفع رأسه، فدعاني فقال: ما الذي بك؟ أو ما الذي وراءك؟ فقلت: يا رسول الله أطلت السجود فقلت قبض الله رسوله لا أراه أبدا، فحزنت وبكيت، قال: سجدت هذه السجدة شكرا لربي فيما أبلاني في أمتي أنه قال: من صلّى عليك منهم صلاة كتب له عشر حسنات، وهذا اللفظ للبزار.
قلت: والأسواق قريبة من موضع هذا المسجد جدّا، ويحتمل أن محل السجدة المذكورة، بل هو الظاهر؛ فلذلك أثبتناه. وحديث عبد الرحمن هذا أخرجه الإمام أحمد بلفظ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجّه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة، فخر ساجدّا فأطال السجود حتى ظننت أن الله قبض نفسه فيها، فدنوت منه، فرفع رأسه وقال: من هذا؟
قلت: عبد الرحمن، قال: ما شأنك؟ قلت: يا رسول الله سجدت سجدة ظننت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها، فقال: إن جبريل أتاني فبشرني فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلّى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، قال البيهقي في الخلافيات عن الحاكم قال: هذا صحيح، ولا أعلم في سجدة الشكر أصح من هذا الحديث، انتهى.
وقوله «نحو صدقته» ينبغي حمله على الرواية المتقدمة، ولا يمتنع أن يكون بعض حوائط الأسواق كان من صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن بالقرب منه موضعا يعرف قديما وحديثا بالصدقة، أو أن القصة متعددة، والله أعلم.
مسجد أبيّ بن كعب (بني جديلة) (البقيع)
ومنها: مسجد على يمين الخارج من درب البقيع على ما ذكره البرهان بن فرحون فإنه قال عقب ذكر المسجد المتقدم قبل هذا: إنه لم يرد فيه شيء يعتمد، ثم قال: وكذلك المسجد في أول البقيع على يمين الخارج من درب الجمعة، انتهى.
قلت: يعني الموضع الذي في غربي مشهد عقيل وأمهات المؤمنين، وبه اليوم أسطوان قائمة، وبلغني أنه كان به عقدان سقطا، وبقاياه شاهدة بأنه كان مبنيا بالحجارة المنقوشة(3/54)
والقصّة كالبناء العمري، وقد اتخذ بعض الأشراف الوحاحدة رحبته التي في شامي الأسطوان مقبرة.
وقد ذكر المرجاني أيضا مسجدّا بالبقيع، وذكر من عند نفسه أنه موضع مصلّى النبي صلى الله عليه وسلم العيد بالبقيع، ولعله يعني هذا المسجد، وقد قدمنا في ذكر المصلى ما يرده.
والذي ظهر لي: أن هذا المسجد هو مسجد أبي بن كعب رضي الله عنه، ويقال له:
مسجد بني جديلة؛ لأنا قدمنا في منازل بني النجار أن بني جديلة ابتنوا اطما يقال له مشعط كان في غربي مسجدهم الذي يقال له مسجد أبي، وفي موضع الأطم بيت يقال له بيت أبي نبيه، وسيأتي في ذكر قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وابنته الزهراء رضي الله تعالى عنهن بالبقيع ما يقتضي أن في أوله مما يلي هذه الجهة زقاقا يعرف بزقاق نبيه، وخوخة تعرف بخوخة آل نبيه. وفي كلام ابن شبة ما يقتضي مجاورة البقيع لبني جديلة واتصالهم به؛ فنرجّح عندي أنه مسجد أبيّ رضي الله تعالى عنه، وسيأتي عن المطري ذكر مسجد أبي فيما علمت جهته ولم تعلم عينه من المساجد.
وروى عمر بن شبة عن يحيى بن سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إلى مسجد أبي فيصلي فيه غير مرة ولا مرتين، وقال: لولا أن يميل الناس، إليه لأكثرت الصلاة فيه.
وعن أبي بكر بن يحيى بن النضر الأنصاري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ في مسجد مما حوته المدينة إلا مسجد أبيّ بن كعب، ثم ذكر مساجد ستأتي.
وروى ابن زبالة عن يوسف الأعرج وربيعة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني جديلة، وهو مسجد أبيّ بن كعب.
وفي شامي مشهد عقيل أسفل الكومة مسجد صغير طريقه من بين الترب التي هناك أسفل محرابه موجود، ولم يتعرض لذكره في المساجد وليس هو على هيئات البناء العمري، والله أعلم.
مساجد المصلى
ومنها: مساجد المصلّى الثلاثة التي ذكرناها في الفصل الأول فراجعه.
مسجد ذي الحليفة
ومنها: مسجد ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، والمسجد الذي في قبلته، وسيأتيان في المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين الحرمين مع بيان محلهما من وادي العقيق الكبير.
مسجد مقمل
ومنها مسجد مقمل، ذكره المجد هنا، والصواب ذكره في المساجد الخارجة عن المدينة؛ لأنه كما سيأتي على يومين منها، والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/55)
الفصل الرابع في المساجد التي علمت جهتها، ولم تعلم عينها بالمدينة الشريفة
مسجد أبيّ بن كعب
منها: مسجد أبيّ بن كعب ببني جديلة، ويقال: مسجد بني جديلة من بني النجار، على ما تقدم في المسجد الذي بالبقيع عن المطري من أن هذا المسجد لا تعرف عينه، قال:
ومنازل بني جديلة عند بئر ماء شامي سور المدينة.
مسجد بني حرام
ومنها: مسجد بني حرام من بني سلمة من الخزرج، قد تقدم في مسجد القبلتين توهيم من جعله إياه، وما ورد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بكل منهما. وروى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني حرام الذي بالقاع، وأنه رأى في قبلته نخامة، وكان لا يفارقه عرجون ابن طاب يتخصّر به، فحكّه ثم دعا بخلوق فجعله على رأس العرجون، ثم جعله على موضع النخامة، فكان أول مسجد خلّق. ومنازل بني حرام بالقاع في غربي مساجد الفتح ووادي بطحان عند جبل بني عبيد والعين التي أجراها معاوية رضي الله تعالى عنه.
مسجد الخربة
ومنها: مسجد الخربة لبني عبيد من بني سلمة، وتقدم أن منازلهم كانت عند مسجدهم هذا إلى الجبل الذي يقال له جبل الدويخل جبل بني عبيد، وذلك قرب منازل بني حرام في المغرب، والقاصد إلى مسجد القبلتين من جهة مساجد الفتح يمر بمنازلهما، وقد تقدم في مسجد القبلتين ما روى من صلاته صلى الله عليه وسلم بهذا المسجد. وروى ابن زبالة عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن مشيخته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي السلافة أم البراء بن معرور في المسجد الذي يقال له مسجد الخربة دبر القرصة، وصلى فيه مرارا.
قلت: وسيأتي أن هناك نخل جابر بن عبد الله المذكورة قصته في قضاء دينه هناك، ولم يتعرض المطري ومن تبعه لذكر هذا المسجد. وقد روى يحيى بن الحسن في كتابه خبر ابن زبالة المذكور، ورأيته في النسخة التي رواها طاهر بن يحيى عن أبيه يحيى لفظ: دبر القرصة، ثم قال عقبة ما لفظه: قال لنا طاهر بن يحيى: هذا في بني حارثة، وكانت القرصة ضيعة، وهي عند بيت سعد بن معاذ، انتهى. وهو مخالف لما تقدم عن ابن زبالة في المنازل، والله أعلم.
مسجد جهينة
ومنها: مسجد جهينة وبلى، وروى ابن شبة عن معاذ بن عبد الله بن أبي مريم الجهني(3/56)
وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد جهينة، وعن يحيى بن النضر الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجد مما حوته المدينة إلا مسجد أبيّ، ثم قال: ومسجد جهينة، إلى آخر ما ذكره، وعن جابر بن أسامة الجهني قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بالسوق فقلت: أين تريدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نخطّ لقومك مسجدّا، فرجعت فإذا قومي قيام وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خطّ لهم مسجدّا وغرز في القبلة خشبة أقامها فيها، وعنه أيضا قال:
خطّ النبي صلى الله عليه وسلم مسجد جهينة لبلّى. وروى ابن زبالة عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّ المسجد الذي لجهينة ولمن هاجر من بلّي، ولم يصل فيه. وعن خارجة بن الحارث بن رافع بن مكيث الجهني عن أبيه عن جده قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه من جهينة من بني الربعة يقال له أبو مريم، فعاده بين منزل بني قيس العطار الذي فيه الأراكة وبين منزلهم الآخر الذي يلي دار الأنصار، فصلى في ذلك المنزل، قال: فقال نفر من جهينة لأبي مريم: لو لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أن يخطّ لنا مسجدّا، فقال: احملوني، فحملوه فلحق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا أبا مريم؟ فقال: يا رسول الله لو خططت لقومي مسجدّا، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم مسجد جهينة، وفيه خيام لبلّي، فأخذ ضلعا أو محجنا فخطّ لهم، قال:
فالمنزل ليلّي، والخطة لجهينة.
قال الجمال المطري: وهذه الناحية اليوم معروفة غربي حصن صاحب المدينة، والسور القديم بينها وبين جبل سلع، وعنده آثار باب من أبواب المدينة خراب، ويعرف على تاريخه وهو سنة أربعين وسبعمائة- بدرب جهينة، والناحية من داخل السور بينه وبين حصن صاحب المدينة، انتهى.
قلت: قوله «من داخل السور» إن أراد به السور الموجود اليوم فليس بصحيح؛ لأن ما كان داخل هذا السور فيما بينه وبين حصن صاحب المدينة فهو من السوق كما تقدم بيانه ومنازل هؤلاء كانت في غربي السوق قبلي ثنية عثمث المنسوية إلى سليع- وهو الجبل الذي عليه حصن أمير المدينة ويمتد في جهة المغرب إلى بني سلمة- وإن أراد أن الناحية المذكورة من داخل السور القديم فصحيح، غير أن الداخل فيه بعضها لا كلها.
مسجد بني غفار
ومنها: المسجد الذي عند بيوت المطرفي، وهو المتقدم ذكره في منازل بني غفار.
روى ابن زبالة عن أنس بن عياض عن غير واحد من أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي عند بيوت المطرفي، عند خيام بني غفار، وأن تلك المنازل كانت منازل آل أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المطري: وليست الناحية معروفة اليوم.(3/57)
قلت: عرف مما تقدم في منازل بني غفار وفي دار السوق أنها في غربي سوق المدينة بالقرب من منزل جهينة الذي يلي ثنية عثعث من جهة القبلة.
مسجد بني زريق
ومنها: مسجد بني زريق- بتقديم الزاي كزبير- من الخزرج.
روى ابن زبالة عن عمر بن حنظلة أن مسجد بني زريق أول مسجد قرئ فيه القرآن، وأن رافع بن مالك الزّرقي لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل عليه في العشر سنين التي خلت، قال: فقدم به رافع المدينة، ثم جمع قومه فقرأه عليهم في موضعه، وهو يومئذ كوم، قال: وعجب النبي صلى الله عليه وسلم من اعتدال قبلته.
وعن مروان بن عثمان بن المعلى قال: أول مسجد قرئ فيه القرآن مسجد بني زريق.
وعن يحيى بن عبد الله بن رفاعة قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وعجب من اعتدال قبلته، ولم يصل فيه.
وروى ابن شبة عن معاذ بن رفاعة الزّرقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في مسجد بني زريق، وتوضأ فيه، وعجب من قبلته، ولم يصل فيه، وكان أول مسجد قرئ فيه القرآن.
قلت: تقدم في المنازل أن محل قرية بني زريق في قبلة المصلى وما والاها في المشرق داخل السور وخارجه، وتقدم في ذكر الدور المحيطة بالبلاط الممتدّ من باب المدينة المعروف بدرب سويقة إلى باب السلام ما يبين أن هذا المسجد كان في قبلة الدور التي عن يمين السالك من درب سويقة المذكور قريبا منه وهو المذكور في حديث السباق بين الخيل التي لم تضمر، قال عياض: وبينه وبين ثنية الوداع ميل أو نحوه.
قلت: وبين ثنيّة الوداع وبين الموضع الذي ذكرناه نحو الميل، وهو قريب من جهة محاذاة ثنية الوداع في جهة القبلة.
وقد حدث في جهة قبلة المصلّى مما يلي المغرب مسجدان، أحدثهما شمس الدين محمد بن أحمد السلاوي بعد الخمسين وثمانمائة: الأول منهما على شفير وادي بطحن على عدوته الشرقية، والثاني بعده في جهة القبلة على رابية مرتفعة من الوادي أيضا في غربيه في مقابلة المطرية، وكان موضعه في تلك الرابية فكان يطبخ فيه الآجرّ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يتقادم العهد بهما فيظن أن أحدهما مسجد بني زريق؛ لكون ذلك بالناحية المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسجدان لبني ساعدة
ومنها: مسجدان لبني ساعدة من الخزرج، وسقيفتهم.
روى ابن شبة عن المطلب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة،(3/58)
وجلس في سقيفتهم القصوى. وعن العباس بن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة في جوف المدينة. وعن سعد بن إسحاق بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة. وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في سقيفة بني ساعدة القصوى. وعن عبد المنعم بن عباس عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في السّقيفة التي في بني ساعدة، وسقاه سهل بن سعد في قدح.
وروى ابن زبالة حديث سهل بن سعد المتقدم، ثم روى عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفته التي عند المسجد، ثم استسقاني فخضت له وطبة، فشرب ثم قال: زدني، فخضت له أخرى فشرب، ثم قال:
كانت الأولى أطيب من الآخرة، فقلت: هما يا رسول الله من شيء واحد.
قوله: «فخضت له» كذا هو في نسخة ابن زبالة. ورواه المطري كذلك، وكذا كان في خط الزين المراغي، ثم رأيته مصلحا «فمخضت له» وكأن الذي ألحق الميم أخذ ذلك من كون الوطب سقاء اللبن؛ فالمناسب له المخض، ولا مانع من إطلاق الخوض على المخض.
وقد تلخص من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجدي بني ساعدة، وجلس في سقيفتهم، والجلوس في سقيفتهم مذكور في الصحيح، وهي السقيفة التي وقعت بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيها، والظاهر أنها كانت عند دار سعد بن عبادة، ويدل على ذلك ما في الصحيح من حديث الجوينية- وهي العائذة- من حديث سهل بن سعد حيث ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وخروجه من عندها، ثم قال: فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثم قال: اسقنا يا سهل، فخرجت لهم بهذا القدح فسقيتهم فيه، الحديث. فطلبه صلى الله عليه وسلم من سهل بن سعد أن يسقيه وقد جلس في سقيفتهم دالّ على قرب منزله منها، ويدل لذلك أيضا اجتماع الأنصار بها عند سعد رضي الله تعالى عنه يوم السقيفة، وكان سعد مريضا، وقد أسلفنا في منازل بني ساعدة أنهم افترقوا في أربعة منازل؛ فمنزلهم الأول في شرقي سوف المدينة وفيه بئر بضاعة هو المراد بحديث الصلاة في مسجدهم الذي في جوف المدينة.
وأما مسجدهم الخارج عن بيوت المدينة فيظهر أنه في منزلهم الرابع، وأنه في شامي ذباب الجبل الذي عليه مسجد الراية؛ لما سيأتي في ترجمة الشوط من أن في رواية لابن سعد أن الجوينية أنزلت بالشوط من وراء ذباب في أطم. وفي رواية أخرى: «فنزلت في أجم بني ساعدة» .
سقيفة بني ساعدة
وأما سقيفة بني ساعدة فيظهر أنها في منزلهم الثالث، وهو منزل بني أبي خزيمة بن(3/59)
ثعلبة بن طريف؛ لأنهم رهط سعد، ولأن جراره التي كان يسقي فيها الماء بعد وفاة أمه كانت لها، وهو قريب من منزلهم الرابع، كما يؤخذ مما قدمناه في المنازل، وذلك في شامي سوق المدينة قرب ذباب.
وقد ترجّح عندي الآن خطأ ما قدمته هناك من احتمال أن تكون جرار سعد عند الموضع المعروف اليوم بسقيفة بني ساعدة قرب مقعد الأشراف الوحاحدة من سويقة. وقد قدمنا قول المطري إن قرية بني ساعدة عند بئر بضاعة، والبئر وسط بيوتهم، قال: وشمالي البئر اليوم إلى جهة المغرب بقية أطم من آطام المدينة نقل أنه في دار أبي دجانة الصغرى التي عند بئر بضاعة، وأبو دجانة من بني ساعدة، ذكر ذلك في بيان مسجد بني ساعدة وسقيفتهم مقتصرا على مسجد واحد، وقال: إنه مسجد بني ساعدة رهط سعد بن عبادة، وليس ما ذكره منزل رهط سعد؛ لما قدمناه.
وأغرب رزين العبدري فزعم أن سقيفة بني ساعدة معروفة بقباء، وهو وهم
وروى ابن زبالة عن هند ابنة زياد زوجة سهل بن سعد الساعدي قالت: لما دخلت على سهل رأيت المسجد في وسط البيت فقلت: ألا إلى العريش أو إلى الجدار، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ها هنا، وهو البيت الذي صار لابن حمران.
مسجد بني خدارة
ومنها: مسجد بني خدارة إخوة بني خدرة من الخزرج.
روى ابن شبة عن شيخ من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني خدارة، وحلق رأسه فيه. وعن هشام بن عروة أنه صلى الله عليه وسلم صلّى به. وعن عمرو بن شرحبيل أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على الحجر الذي في أجم سعد بن عبادة عند جرار سعد، وصلّى في مسجد بني خدارة.
قلت: قد تقدم ذكر جرار سعد في منزل بني ساعدة الثالث، وبيان أنها كانت حدّ سوق المدينة من جهة الشام قرب ثنية الوداع، وأن منازل بني خدارة كانت بجرار سعد
وقال المطري: هذه الدار قبلي دار بني ساعدة وبئر بضاعة مما يلي سوق المدينة.
وإذا تأملت ما قدمناه في منازل بني ساعدة علمت أن هذه هي دارهم الثالثة التي بها رهط سعد، وعندها السقيفة، وليس بها لبني ساعدة مسجد، وينبغي أن لا يغافل عما قدمناه من حدوث مسجد في منزلة الحاج الشامي قبليّ المنهل الذي عند مشهد النفس الزكية، أنشأه قاضي الحرمين العلامة محيي الدين الحنبلي هناك؛ فلا يتوّهم أنه أحد هذه المساجد، والله أعلم.
مسجد راتج
ومنها: مسجد راتج؛ لم يتعرض المطري ومن تبعه لذكره.(3/60)
وقد روى ابن شبة عن خالد بن رياح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد راتج، وشرب من جاسوم، وهي بئر هناك.
وروى ابن زبالة صلاته صلى الله عليه وسلم في مسجد راتج عن خالد بن رباح عن رجل من بني حارثة. وسيأتي أن جاسوم بئر أبي الهيثم بن التيهان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في حائطه. وراتج تقدم في المنازل أنه أطم سميت به الناحية، وأن بني الشطية كانوا إحدى قبائل راتج الثلاث، وأن ممن كان به بني زعوراء إخوة بني عبد الأشهل ومنهم أبو الهيثم بن التّيهان؛ ولهذا نقل الأقشهري عن المحب الطبري أنه ذكر المساجد التي كانوا يصلون فيها بأذان بلال فقال: ومسجد بني راتج من بني عبد الأشهل.
قلت: وصواب العبارة «مسجد راتج» وقد سبق ذكر راتج أيضا في منازل مزينة من المهاجرين حيث قال فيها: ونزلت بنو ذكوان من بني سليم مع أهل راتج من اليهود ما بين دار قدامة إلى دار حسن بن زيد بالجبانة. وسيأتي ذكر الجبانة في ترجمة ذباب. وسيأتي لراتج ذكر في ترجمة الخندق، ومنه يؤخذ أنه كان في شرقي ذباب الذي عليه مسجد الراية جانحا إلى جهة الشام، وبعده في المشرق منزل بني عبد الأشهل.
وقال المطري: إن في غربي وادي بطحان من جهة مساجد الفتح جبلين صغيرين:
أحدهما يقال له راتج، ويقال للذي إلى جنبه جبل أبي عبيد.
قلت: وإن صحّ ما ذكره فليس هو المراد هنا؛ لأن تلك الجهة ليست في منازل بني عبد الأشهل وإخوتهم المذكورين. والذي صرح به ابن زبالة وغيره أنه اسم أطم كما قدمناه، فهو المعتمد والله أعلم.
مسجد واقم
ومنها: مسجد بني عبد الأشهل من الأوس، ويقال له: مسجد واقم.
روى أبو داود والنسائي عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل فصلّى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسجدون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت، وإسناده جيد، إلا أن فيه إسحاق بن كعب بن عجرة مجهول الحال.
وروى ابن شبهة عن محمود بن لبيد قال: صلّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما فرغ من صلاته قال: صلّوا هاتين الركعتين في بيوتكم، ومحمود بن لبيد من صغار الصحابة، وجلّ روايته عن الصحابة، وفي إسناده عنعنة ابن إسحاق، ورواه أحمد برجال ثقات، ولفظه: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا فصلّى بنا المغرب، فلما سلّم منها قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم، للسبحة بعد المغرب، ورواه ابن ماجه عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عبد الأشهل، فصلّى بنا المغرب في المسجد، الحديث، وفي إسناده متروك.(3/61)
وروى ابن شبة وابن ماجه عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فصلّى بنا في بني عبد الأشهل، فرأيته واضعا يديه على ثوبه إذا سجد وعبد الله بن عبد الرحمن ليست له صحبة، قال الذهبي: وصوابه عن أبيه عن جده.
وقد روى ابن ماجه عقبه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ثابت بن الصامت عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في بني عبد الأشهل، وعليه كساء ملتف به يضع يديه عليه يقيه برد الحصى.
ورواه ابن شبة بنحوه، وفي إسناد كل منهما ضعيف.
وروى ابن شبة عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة- وهو ضعيف- عن أبيه معضلا قال: صلّى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد واقم في بني عبد الأشهل وعليه برنكان لم يفض بيديه من البرنكان إلى الأرض.
وعن أمر عامر أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد بني عبد الأشهل أتى بعرق فتعرّقه، ثم صلى ولم يمسّ ماء.
ورواه ابن زبالة إلا أنه قال: إنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق فتعرقه وهو في مسجد بني عبد الأشهل، ثم قام فصلى ولم يتوضأ.
وروى يحيى عن بكر بن عبد الوهاب عن محمد بن عمر قال: قالوا: كان بالمدينة تسعة مساجد يسمعون فيها مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلون في مساجدهم، ولا يأتون مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا يوم الجمعة فإنهم كانوا يجمعون فيه، وربما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الظهر إلى مسجد بني عبد الأشهل فيصلي العصر والمغرب في مسجد بني عبد الأشهل، ولم تكن دار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها غشيانا من دار بني عبد الأشهل قبل وفاة سعد بن معاذ وبعد وفاته.
قلت: والأخبار في الصلاة في هذا المسجد كثيرة، وهو غير معروف اليوم، وتقدم أن المطري قال: إن دار بني عبد الأشهل قبلى دار بني ظفر مع طرف الحرة الشرقية المعروفة بحرّة واقم، وكأنه أخذه من قول يحيى في مسجد بني ظفر: إنه دون مسجد بني الأشهل، ولا دلالة في ذلك على ما قاله، والصواب ما قدمناه في منازلهم من أنها كانت في شامي بني ظفر بالحرّة المذكورة وما والاها بين بني ظفر وبني حارثة، وسيأتي في ترجمة الخندق ما يصرح بذلك. ويؤيده ما سيأتي في مسجد القرصة من أنها ضيعة لسعد بن معاذ، والقرصة معروفة اليوم بالجهة التي ذكرناها. وبنو عبد الأشهل هم رهط سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وقد رأيت قرب القرصة آثار منازل كثيرة الظاهر أنها منازلهم، ويؤيده أن فيما نقله الواقدي عن كتاب مسرف بن عقبة إلى يزيد بعد مقتلة الحرّة «إني فرقت أصحابي على أفواه(3/62)
خنادقهم؛ فوليت الحصين بن نمر ناحية ذباب وما والاها، ووجهت حبيش بن دلجة إلى ناحية بقيع الغرقد، وكنت ومن معي من قواد أمير المؤمنين في وجه بني حارثة، فأدخلنا عليهم الخيل حين ارتفع النهار من ناحية بني عبد الأشهل، فما صليت الظهر إلا في مسجدهم، وإنا أوقعنا بهم السيوف فقتلنا من أشرف لنا منهم، وتبعنا مدبرهم، وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناها ثلاثا» انتهى.
وقد تقدم في الفصل الخامس عشر من الباب الثاني أن بعض بني حارثة فتح لأهل الشام طريقا من قبلهم، وأنهم أتوا من قبل بني حارثة. ونقل الواقديّ أن أول ما انتهبت والحرب بعد لم تنقطع دار بني عبد الأشهل، أي لأنها التي كانت تليهم بعد الدخول من بني حارثة، والله أعلم.
مسجد القرصة
ومنها: مسجد القرصة، روى رزين عن يحيى بن قتادة عن مشيخة قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي دور الأنصار فيصلي في مساجدهم، فصلى في مسجد القرصة، والقرصة: ضيعة لسعد بن معاذ، قال الزين المراغي: فلعلها القرصة المعروفة اليوم بطرف الحرة الشرقية من جهة الشمال؛ لأنها قريبة من منازل بني عبد الأشهل رهط سعد، غير أن المسجد لا يعرف فيها اليوم.
قلت: رأيت بها قرب البئر على رابية أثر مسجد، والله أعلم.
مسجد بني حارثة
ومنها: مسجد بني حارثة من الأوس روى ابن شبة عن الحارث بن سعد بن عبيد الحارثي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني حارثة.
وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني حارثة، وقضى فيه في شأن عبد الرحمن بن سهل، يعني المقتول بخيبر، أخي عبد الله بن سهل بني عم حويصة ومحيصة.
وتقدم في المنازل أن بني حارثة تحوّلوا قبل الإسلام من دار بني عبد الأشهل إلى دارهم في سند الحرّة التي بها الشيخان شاميّ بني عبد الأشهل، خلاف ما ذكره المطري من أن منازلهم بيثرب.
مسجد الشيخين (البدائع)
ومنها: مسجد الشيخين، ويقال له: «مسجد البدائع» .
روى ابن شبة عن المطلب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي عند الشيخين، وبات فيه، وصلّى فيه الصبح يوم أحد، ثم غدا منه إلى أحد.(3/63)
وعن ابن عباس عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي عند البدائع عند الشيخين، وبات فيه حتى أصبح، والشيخان: أطمان.
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد البدائع بشواء، فأكله، ثم بات حتى غدا إلى أحد.
وروى ابن زبالة عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي عند الشيخين، وأنه عدل من ثمّ يوم أحد إلى أحد.
ورواه يحيى من طريق ابن زبالة، قال ابنه طاهر بن يحيى عقبه: ويعرف اليوم بمسجد العدوة.
وروى يحيى أيضا عن محمد بن طلحة قال: المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة حين راح أي إلى أحد من ها هنا هو المسجد الذي على يمينك إذا أردت قناة، أي وادي الشطاة، صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم العصر والعشاء والصبح، ثم غدا إلى أحد يوم السبت.
وسيأتي في الشيخين قول المطري: إنه موضع بين المدينة وجبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرّة إلى جبل أحد. وتقدم قول ابن زبالة: وكان لبعض من هناك من اليهود الأطمان اللذان يقال لهما الشيخان بمفضاهما المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى أحد.
مسجد بني دينار
ومنها: مسجد بني دينار بن النجار من الخزرج روى ابن شبة عن يحيى بن النضر الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني دينار، وعن عبد الله بن عقبة بن عبد الملك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يصلّي في مسجد بني دينار عند الغسالين.
وروى ابن زبالة عن أيوب بن صالح الديناري أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تزوّج امرأة منهم فاشتكى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فكلّموه أن يصلي لهم في مكان يصلون فيه، فصلى في المسجد الذي يا بني دينار عند الغسالين.
وتقدم في المنازل عن المطري أن دارهم بين دار بني جديلة التي عند بيرحاء وبين دار بني معاوية أهل مسجد الإجابة، وأن ابن زبالة صرح بخلافه، حيث قال: نزلوا دارهم التي خلف بطحان الذي في شقه الغربي مما يلي الحرة.
قلت: ويؤيده ما سيأتي في الخندق، أنهم خندقوا من مسجد القبلتين إلى دار ابن أبي الجنوب بالحرة، وذلك لأن منازلهم في تلك الجهة، ولأن ابن زبالة قال: إن بني سواد من بني سلمة نزلوا عن مسجد القبلتين إلى أرض ابن عبيد الديناري، وسيأتي أن نقب بني دينار هو طريق العقيق بالحرة الغربية، وبه السقيا كما قال الواقدي، فإنما كانوا بالحرة الغربية، وقد سمى الأسدي مسجدهم بمسجد الغسالين؛ لما تقدم من أنه كان عند الغسالين.(3/64)
وفي غربي وادي بطحان بالحرة موضع يعرف اليوم بالمغسلة، قال المجد: كان يغسل فيها، قال: وهي اليوم حديقة كثيرة النخيل من أقرب الحدائق إلى المدينة، انتهى. فلعل ذلك في موضع منازلهم.
وقد رأيت هناك حجرا عليه كتابة كوفية فيها ما لفظه: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنده آثار يظهر أنها من آثار المسجد، وقد بنى صاحب المغسلة هناك مسجدّا في تلك الآثار، وجعل الحجر فيه.
مسجد بني عدي، ومسجد دار النابغة
ومنها: مسجد بني عدي بن النجار، ومسجد دار النابغة في بني عدي أيضا روى ابن شبة عن يحيى بن عمارة المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في دار النابغة، واغتسل في مسجد بني عدي.
وعن يحيى بن النضر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد دار النابغة ومسجد بني عدي.
وعن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني عدي وفي بيت صرمة في بني عدي.
ورواه ابن زبالة عند بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد دار النابغة وفي مسجد بني عدي.
وتقدم عن المطري أن منازل بني عدي غربي المسجد النبوي، ولم أر لغيره ما يوافقه ولا ما يخالفه، إلا أن النضر والد أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم.
وسيأتي في بئره ما يبين أن داره كانت شامي المسجد النبوي عند بني جديلة.
ودار النابغة: هي المرادة بما رواه ابن شبة عن أبي زيد النجاري قال: قبر عبد الله بن عبد المطلب يعني والد رسول الله صلى الله عليه وسلم في- دار النابغة قال عبد العزيز: ووصفه لي محمد بن عبد الله بن كريم فقال: تحت عتبة البيت الثاني على يسار من دخل دار النابغة.
وقال ابن عبد البر: توفي عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقبره بها في دار من دور عدي بن النجار، قال ابن الجوزي: هي دار النابغة.
مسجد بني مازن
ومنها: مسجد بني مازن بن النجار- روى ابن زبالة عن يعقوب بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطّ مسجد بني مازن ولم يصل فيه.
وفي رواية عنه: وضع مسجد بني مازن بيده، وصلّى في بيت أم بردة في بني مازن.(3/65)
قلت: أم بردة هذه هي مرضعة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي عندها، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاته في بيتها، وظاهر ما سيأتي في بقيع الزبير من قول ابن شبة في بعض دوره على يسارك إذا أردت بني مازن، وكذا ما قدمناه عنه في منازل مزينة ومن حل معها أن منازل بني مازن قرب منازل بني زريق مما يلي القبلة والمشرق؛ لأنه قال بعد ذكر منازل بني زريق ما لفظه: إلى أن يلقى بني مازن بن عدي بن النجار، لكن قوله ابن عدي خطأ في النسخة لأن مازنا هو ابن النجار نفسه، وعدي أخوه.
وتقدم عن المطري أن منازل بني مازن قبلي بئر البصة في الناحية المسماة اليوم بأبي مازن، قال: وكان إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيها عند امرأة أبي سيف العين.
مسجد بني عمرو
ومنها: مسجد بني عمرو بن مبذول بن مالك بن النجار روى ابن زبالة وابن شبة عن هشام بن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني عمرو بن مبذول.
وروى ابن شبة عن يحيى بن النضر نحوه، ولم يذكر المطري ومن تبعه هذا المسجد، ولم يعد بني مبذول في بطون بني النجار.
وتقدم في المنازل أن منزلهم كان عند بقيع الزبير؛ فتؤخذ جهته من المسجد بعده.
مسجد بقيع الزبير
ومنها: مسجد بقيع الزبير روى ابن زبالة عن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الضحى في بقيع الزبير ركعتين، فقال له أصحابه: إن هذه الصلاة ما كنت تصليها، قال: إنها صلاة رغب ورهب فلا تدعوها.
وسيأتي في بقيع الزبير أنه في شرقي بني زريق، مجاور لدور بني غنم إلى جانب البقال.
مسجد صدقة الزبير
ومنها: مسجد صدقة الزبير ببني محمم- روى ابن زبالة عن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي وضعه الزبير في بني محمم.
ورواه ابن شبة عنه بلفظ: في صدقة الزبير في بني محمم.
قلت: وذلك بالجزع المعروف بالزبيريات، غربي مشربة أم إبراهيم، وقبلتها بقرب خنافة والأعواف، وهما من أموال بني محمم.
وقال الشافعي رحمه الله: وصدقة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة عندنا، وصدقة الزبير قريب منها.(3/66)
ونقل ابن شبة عن أبي غسان أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير ماله الذي يقال له بنو محمم من أموال بني النضير، فابتاع إليه الزبير أشياء من أموال بني محمم، فتصدق بها على ولده.
وفي سنن أبي داود عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير نخلا.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام، ثم رمى سوطه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوه حيث بلغ السوط.
وفي الصحيح قصة الرجل الذي نازع الزبير في السقي بشراج الحرة، وسنبين أنها حرة بني قريظة.
وروى الطبراني أن ذلك الرجل من بني أمية بن زيد، ومنازلهم وأموالهم عند هذه الحرة.
وفي حديث أسماء في قصة حملها النوى من أرض الزبير أنها كانت على ميلين من المدينة، وكله مؤيد لكونها الموضع المعروف اليوم بالزبيريات.
ويؤيده أيضا أن كثيرا منها بأيدي جماعة من ذرية الزبير بن العوام يعرفون اليوم بالكماة.
مسجد بني خدرة
ومنها: مسجد بني خذرة إخوة بني خدارة من الخزرج روى ابن زبالة عن هشام بن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني خدرة.
وعن يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في بعض منازل بني خدرة؛ فهو المسجد الصغير الذي في بني خدرة مقابل بيت الحية.
وروى ابن شبة عن ربيع بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في بيت إلى جنب مسجد بني خدرة.
وروى هو وابن زبالة عن ربيع بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجد بني خدرة.
وتقدم في المنازل أن بني خدرة ابتنوا بدارهم أطما يقال له الأجرد، ويقال لبئره البصة، كان لجد أبي سعيد الخدري، قال المطري: وبعضه باق إلى اليوم
قلت: وهو الذي ابتنى عليه الزكوى بن صالح المنزل الذي عند بئر البصة التي اتخذ لها الدرجة الآتي ذكرها.
وقوله في رواية ابن زبالة «مقابل بيت الحية» كأنه يشير إلى البيت الذي اتفقت به قصة الحية المذكورة في صحيح مسلم عن أبي السائب أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين في(3/67)
ناحية البيت، فالتفتّ فإذا هي حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إليّ أن أجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى إلى هذا البيت؟ فقلت: نعم، قال: كان فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق؛ فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها الرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفرش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه فما يدري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى، قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا:
ادع الله يحيه لنا، فقال: استغفروا لصاحبكم، ثم قال: إن بالمدينة جنّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فاذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
مسجد بني الحارث
ومنها: مسجد بني الحارث بن الخزرج، ومسجد السنح- روى ابن شبة عن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني خدارة وبالحبلى وبالحارث بن الخزرج ومسجد السنح، ورواه ابن زبالة بلفظ: مسجد بني الحارث بن الخزرج ومسجد السنح.
قلت: تقدم أن منازل بني الحارث شرقي بطحان وتربة صعيب، ويعرف اليوم بالحارث بإسقاط بني، وبالقرب منه السنح، كان على ميل من المسجد النبوي، وهو منازل جشم وزيد ابني الحارث بن الخزرج، وبه منزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه بزوجته بنت خارجة.
مسجد بني الحبلى
ومنها: مسجد بني الحبلى رهط عبد الله بن أبيّ بن سلول من الخزرج- روى ابن زبالة وابن شبة عن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني الحبلى. ورواه ابن شبة أيضا عن سعد بن إسحاق بن كعب.
وتقدم عن المطري أن دارهم بين قباء وبين دار بني الحارث التي في شرقي بطحان، مع ما قاله ابن حزم في منازلهم فراجعه.
مسجد بني بياضة
ومنها: مسجد بني بياضة من الخزرج روى ابن شبة ويحيى عن سعيد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني بياضة. وروى ابن زبالة عنه نحوه، وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت أخرج أقود أبي بعد أن عمي إلى المسجد يوم الجمعة، قال:
فيسمع الأذان بالطريق، فإذا سمعه قال: يرحم الله أسعد بن زرارة، كان أول من جّمع بنا بهذه القرية، ونحن يومئذ أربعون في هزمة من حرة بني بياضة.(3/68)
وتقدم في الفصل الثامن من الباب الثالث نحوه من رواية أبي داود.
وروى ابن زبالة أيضا عن ربيعة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الحرة في الرحابة.
وتقدم في منازل بني بياضة أن الرحابة مزرعة في شاميها أطمهم المسمى بعقرب، وكانت لآل عاصم بن عطية بن عامر بن بياضة.
وذكر ابن زبالة أطما آخر كان بين المزرعتين الرحابة والحيرة.
وتقدم أيضا أن دار بني بياضة شامي دار بني سالم أهل مسجد الجمعة إلى وادي بطحان قبلي دار بني مازن بن النجار، ممتدة في تلك الحرة وبعضها في السبخة.
وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن عبد الله بن سعد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقعت هذه الليلة رحمة؟ فيما بين بني سالم وبني بياضة، فقالت بنو سالم وبنو بياضة: أننتقل إليها؟ قال: لا، ولكن أقبروا فيها.
مسجد بني خطمة
ومنها: مسجد بني خطمة من الأوس، ومسجد العجوز.
روى ابن زبالة عن الحارث بن الفضل وهشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني خطمة.
ورواه ابن شبة عن هشام وعبد الله بن الحارث، وروى أيضا عن مسلمة بن عيد الله الخطمي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد العجوز في بني خطمة عند القبر، ومسجد العجوز الذي عند قبر البراء بن معرور، وكان ممن شهد العقبة، فتوفي قبل الهجرة، وأوصى للنبي صلى الله عليه وسلم بثلث ماله، وأمر بقبره أن يستقبل به الكعبة.
وروى ابن زبالة عن أفلح بن سعيد وغيره من أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد العجوز ببني خطمة، وهي امرأة من بني سليم ثم من بني ظفر بن الحارث.
وسيأتي في الآبار عن عبد الله بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من ذرع بئر بني خطمة التي بفناء مسجدهم، وصلى في مسجدهم.
وتقدم عن المطري أن الأظهر عنده أن منازلهم في شرقي مسجد الشمس بالعوالي، وأن الأظهر عندنا أنهم كانوا بقرب الماجشونية؛ لقول ابن شبة في سيل بطحان: إنه يصبّ في جفاف، ويمر فيه حتى يفضي إلى فضاء بني خطمة والأغرس، وقوله في مذينب: إنه يلتقي هو وسيل بني قريظة بالمشارف فضاء بني خطمة، وسيأتي أن ذلك عند تنور النورة الذي في شامي الماجشونية، وقد رأيت آثار القرية والآطام هناك.
مسجد بني أمية الأوسي
ومنها: مسجد بني أمية بن زيد من الأوس- روى ابن شبة عن عمر بن قتادة أن النبي(3/69)
صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد لهم في بني أمية من الأنصار، وكان في موضع الكبابين الخربتان عند مال نهيك، وعن محمد بن عبد الرحمن بن وائل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في تلك الخربة، وكان قريبا من مصلّى النبي صلى الله عليه وسلم هناك أجم، فانهدم، فسقط على المكان الذي فيه، فترك وطرح عليه التراب حتى صار كباء.
وروى ابن زبالة عن سعيد بن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في بني أمية في موضع الكباء عند مال نهيك بن أبي نهيك.
قال المطري: ودارهم شرقي دار بني الحارث بن الخزرج، وفيهم كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نازلا بامرأته الأنصارية حين كان يتناوب النزول إلى المدينة هو وجاره من الأنصار.
قلت: الذي يتحرر مما سبق في المنازل أنهم كانوا قرب النواعم وبئر العهن، وهي من أموالهم كما سنبينه في الآبار، ويمر سيل مذينب من بيوتهم ثم يسقي الأموال. وبالحرة الشرقية قريبا من الموضع المذكور آثار قرية يمر بها سيل مذينب الظاهر أنها قريتهم. ويشهد لذلك أن ابن إسحاق ذكر في مقتل كعب بن الأشرف- وكان في بني النضير- أن محمد بن مسلمة ومن معه انتهوا إلى حصنه في ليلة مقمرة فهتف به أبو نائلة، ثم ذكر قتله، وأن محمد بن مسلمة قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض.
مسجد بني وائل الأوسي
ومنها: مسجد بني وائل من الأوس- روى ابن زبالة عن الحارث بن الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني وائل.
وروى ابن شبة عن سلمة بن عبد الله الخطمي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في بيت القعدة عند مسجد بني وائل، وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني وائل بين العمودين المقدمين خلف الإمام بخمسة أذرع أو نحوها، قال: وضربنا ثمّ وتدا.
قال المطري: والظاهر أن منازلهم كانت في شرق مسجد الشمس.
قلت: الظاهر أنها بقباء، وأن هذا المسجد هو المراد بقول ابن النجار: إن بالمدينة عدة مساجد خراب فيها المحاريب وبقايا الأساطين وتنقض وتؤخذ حجارتها فيعمر بها الدور:
أحدها مسجد بقباء قريب من مسجد الضّرار فيه أسطوان قائمة، انتهى؛ فكأنه فيما بين زمان المطري وزمانه نقضت بقيته بحيث لم يدرك له المطري أثرا.
مسجد بني واقف
ومنها: مسجد بني واقف من الأوس- روى ابن زبالة عن الحارث بن الفضل أن النبي(3/70)
صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني واقف. قال المطري وتبعه من بعده حتى المجد: مسجد بني واقف موضع بالعوالي، كانت فيه منازل بني واقف من الأوس رهط هلال بن أمية الواقفي أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في تخلفهم عن غزوة تبوك، ولا يعرف مكان دارهم اليوم، إلا أنها بالعوالي.
قلت: لا دار أعرف من دارهم؛ لما تقدم في المنازل من أنهم نزلوا عند مسجد الفضيخ، وابتنوا أطما كان موضعه في قبلة مسجد الفضيخ، وهذا من فوائد الاعتناء بذكر المنازل، والمطري لم يعتن بها، لكن العجب من المجد فإنه ذكر ما قدمناه في المنازل، ثم قلد المطري عند ذكر المساجد.
مسجد بني أنيف
ومنها: مسجد بني أنيف، تصغير أنف حي من بلى، ويقال: إنهم بقية من العماليق كما تقدم في منازل اليهود، وبينا في منازل بني عمرو بن عوف من الأوس أنهم كانوا حلفاء لهم. وروى ابن زبالة عن عاصم بن سويد عن أبيه قال: سمعت مشيخة بني أنيف يقولون: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يعود طلحة بن البراء قريبا من أطمهم، قال عاصم:
قال أبي: فأدركتهم يرشّون ذلك المكان ويتعاهدونه ثم بنوه بعده؛ فهو مسجد بني أنيف بقباء.
قلت: طلحة بن البراء منهم. وقال المتكلمون في أسماء الصحابة: إنه من بلىّ وكان حليفا للأوس، وذلك هو السبب كما قدمناه فيما وقع للمطري ومن تبعه من أن بني أنيف بطن من الأوس، قال: ودارهم بين بني عمرو بن عوف بقباء وبين العصبة.
قلت: المعتمد ما قدمناه، ودارهم بقباء عند المال المعروف اليوم بالقائم في جهة قبلة مسجد قباء من جهة المغرب، وعند بئر عذق كما سبق.
مسجد دار سعد بن خيثمة
ومنها: مسجد دار سعد بن خيثمة بقباء ذكر ابن زبالة فيما نقله المطري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي في دار سعد بن خيثمة رضي الله تعالى عنه بقباء، وجلس فيه، قال المطري: وبيت سعد بن خيثمة أحد الدور التي قبلي مسجد قباء، يدخلها الناس إذا زاروا مسجد قباء ويصلون فيها.
وهناك أيضا دار كلثوم بن الهدم، وفي تلك العرصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا قبل خروجه إلى المدينة، وكذلك أهله صلى الله عليه وسلم وأهل أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين قدم بهم علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وهن: سودة، وعائشة وأمّها، وأختها أسماء، وهي حامل بعبد الله بن الزبير، فولدته بقباء قبل نزولهم المدينة، فكان أول مولود ولد من المهاجرين بالمدينة، انتهى.(3/71)
قلت: وفي قوله «إن عليا قدم ومعه من ذكر» نظر؛ فقد قدمنا أن عليا رضي الله تعالى عنه لحق النبي صلى الله عليه وسلم بقباء، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة بعد ذلك فقدما عليه بأهله، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر. وحديث أسماء في ولادتها عبد الله بن الزبير متفق عليه. وفيه أنه كان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به؛ لأنه كان قد قيل لهم: إن اليهود سحرتكم فلا يولد لكم. وفيه دلالة على تأخر ولادته عن مقدم النبي صلى الله عليه وسلم بمدة. وقال الذهبي تبعا للواقدي: إن ولد في سنة اثنتين، وقال الحافظ ابن حجر: المعتمد أنه ولد في السنة الأولى؛ للحديث المتفق عليه، وسبق في سني الهجرة عن أبي حاتم ما يوافقه.
وتقدم في ذكر مسجد قباء أن دار سعد بن خيثمة هي التي تلي المسجد في قبلته.
مسجد التوبة
ومنها: مسجد التوبة بالعصبة منازل بني جحجبا من بني عمرو بن عوف من الأوس- روى ابن زبالة عن أفلح بن سعد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد التوبة بالعصبة ببئر هجيم، قال المطري: وليست بمعروفة اليوم، يعني البئر. والعصبة: في غربي مسجد قباء فيها مزارع وآبار كثيرة.
قلت: يستفاد مما ذكرناه في المنازل من أنهم ابتنوا أطما يقال له الهجيم عند المسجد الذي صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن بئر هجيم مضافة للأطم المذكور؛ فيطلب المسجد عند ذلك، وما علمت السبب في تسميته بمسجد التوبة.
مسجد النور
ومنها: مسجد النور- قال ابن زبالة: حدثنا محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في موضع مسجد النور. قال المطري: ولا يعلم اليوم مكانه.
قلت: وما علمت سبب تسميته بذلك، ورأيت الأسدي في منسكه ذكر في المساجد التي تزار في ناحية مسجد قباء مسجد النور، ثم ذكر في المساجد التي تزار بناحية المدينة وما حولها مسجد النور أيضا، ولعل هذا المسجد هو الموضع الذي انتهى إليه أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهما من بني عبد الأشهل، وكانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء، فتحدثا عنده حتى إذا خرجا أضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا على ضوئها، فلما تفرق بهما الطريق أضاءت لكل واحد منهما عصاه فمشى في ضوئها، كما أخرجه البخاري؛ فيكون المسجد المذكور بدار بني عبد الأشهل.
وروى أحمد برجال الصحيح حديث قتادة بن النعمان الظفري في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم له العرجون في ليلة مظلمة فأضاء له من بين يديه عشرا ومن خلفه عشرا- الحديث.(3/72)
وروى أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله تعالى عنه سهرا عند أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يتحدثان عنده، حتى ذهب ثلث الليل، ثم خرجا وخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه معهما في ليلة مظلمة ومع أحدهما عصا، فجعلت تضئ لهما وعليها نور حتى بلغوا المنزل.
مسجد عتبان بن مالك
ومنها: مسجد عتبان بن مالك بأصل أطمه المسمى بالمزدلف بدار بني سالم بن الخزرج روى ابن زبالة عن إبراهيم بن عبد الله بن سعد أن عتبان بن مالك قال: يا رسول الله إن السيل يحول بيني وبين الصلاة في مسجد قومي، قال: فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فهو المسجد الذي بأصل المزدلف. ورواه يحيى وقال: فهو المسجد الذي بأصل المزدلف أطم مالك بن العجلان.
قلت: تقدّم في مسجد الجمعة أن المزدلف هو الأطم الخراب الذي في شامي مسجد الجمعة، عند عدوة الوادي الشرقية، وأن صلاته صلى الله عليه وسلم بدار عتبان في الصحيح، وأن الظاهر أن مسجد قومه الذي يحول السيل بينه وبينهم هو مسجدهم الأكبر الذي كان بمنازلهم بالحرة في عدوة الوادي الغربية.
وروى ابن شبة عن عتبان بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في بيته سبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلوا.
وعن سعد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجد بني سالم الأكبر. وروى ابن زبالة نحوه عن كعب بن عجرة.
مسجد ميثب (صدقة النبي صلى الله عليه وسلم)
ومنها: مسجد ميثب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم- روى ابن زبالة وابن شبة ويحيى عن محمد بن عقبة بن أبي مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد صدقته ميثب، وسيأتي في الصدقات أن الميثب مجاور لبرقة وغيره من الصدقات الآتية.
مسجد المنارتين
ومنها: مسجد المنارتين روى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن حرام بن سعد بن محيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي بأصل المنارتين في طريق العقيق الكبير، قال المطري: وهذا المسجد لا يعرف، وهو يلي طريق العقيق كما ذكر.
قلت: روى ابن زبالة عن عبد الله بن البولا أن أربعة رهط من المهاجرين الأولين كلهم يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «خرج إلى الجبل الأحمر الذي بين المنارتين، فإذا بشاة ميتة قد أنتنت، فأمسكوا على أنفهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون كرامة هذه الشاة على صاحبها؟(3/73)
فقالوا: يا رسول الله ما تكرم هذه على أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للدّنيا أهون على الله من هذه على صاحبها» .
وعن إبراهيم بن محمد عن أبيه أن اسم الجبل الأنعام، وهو الجبل الذي بنى عليه المزني وجابر بن علي الزمعي ثم أورد قول الشاعر:
لمن الديار غشيتها بالأنعام
البيت الآتي في الأنعام.
قلت: وهو الجبل الأحمر الذي على يسارك إذا مررت من أوائل الرقيقين قاصدا العقيق؛ لانطباق الوصف عليه، ولأني خرجت إليه وصعدته فرأيت عليه أساس البناء الذي أشار إليه، وظهر بذلك أن المنارتين بقربه عند الرقيقين؛ فهناك موضع هذا المسجد.
مسجد فيفاء الخبار
ومنها: مسجد فيفاء الخبار قال ابن إسحاق في غزوة العشيرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك على نقب بني دينار من بني النجار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها «ذات الساق» فصلّى عندها فثمّ مسجد، وصنع له طعام عندها، فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع آثاره في البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له المشيرب، انتهى. والمشيرب: تصغير مشرب ما بين جبال في شامي ذات الجيش.
قال المطري: وفيفاء الخبار غربي الجماوات، وهي أي الجماوات الأجبل التي في غربي وادي العقيق، وتوهم المجد أن الضمير في قوله «وهي» لفيفاء الخبار فقال فيه: الصحيح أنه الأجبل التي في غربي وادي العقيق، انتهى.
وسيأتي في رابع فصول الباب السابع عن الهجري أن جمّاء أم خالد في مهبّ الشمال من جماء تضارع، وأن فيفاء الخبار من جماء أم خالد.
ونقل ابن سعد عن ابن عقبة أن فيفاء الخبار من وراء الجماء، والخبار بفتح المعجمة والموحدة كسحاب- ما لان من الأرض واسترخى، والأرض ذات الجحرة والحفائر. والفيفاء بفائين بينهما مثناة تحتية- هي الصخرة الملساء.
قال المطري: وبهذا الموضع كانت ترعى إبل الصدقة ولقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر قصة العرنيين التي قدمناها في محلها. وينبغي لمن تيسر له الوصول إلى هذه الجهة أن يتبرك بالجماوات؛ لما سيأتي فيها، وكذلك جبل عظم لما سيأتي فيه أيضا.
مسجد بين الجثجاثة وبئر شداد
ومنها: مسجد بين الجثجاثة وبئر شداد، بطرف وادي العقيق مما يلي البقيع؛ لأن ابن زبالة روى في سياق ذلك عن عمر بن القاسم وعبد الملك بن عمر قال: صلّى رسول الله(3/74)
صلى الله عليه وسلم في مسجد بين الجثجاثة وبين بئر شداد في تلعة هناك، قال: وكان عبد الله بن سعد بن ثابت قد اقتطع قريبا منه وبناه.
وقال الهجري: الجثجاثة صدقة عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، وبها قصور وميدا، واقتضى كلامه أنها بين ثنية الشريد والحليفة.
وهذا آخر ما وقفنا عليه في مساجد المدينة التي لا تعلم بعينها في زماننا، وعدتها نحو الأربعين.
الدور التي صلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم
تتمة- تقدم ذكر بعض الدور التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أو جلس ولم يتخذ محل لها، ولنذكر ما وقفنا عليه من بقيتها تتميما للفائدة:
روى يحيى عن محمد بن طلحة بن طويل قال: سمعت غير واحد ممن أدركت يقول:
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء مربده، وهو مربد الحكم بن أبي العاص، فكان إذا خرج منه وقف عند بابه، ودعا.
دار الشفاء
قال محمد بن طلحة: وأخبرني محمد بن جعفر عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في دار الشفاء في البيت الذي على يمين من دخل الدار.
دار الضمري
قال محمد: وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار عمرو بن أمية الضمري عن يمين من دخل الدار.
دار بسرة
قال محمد: وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بسرة بنت صفوان.
قلت: أما دار عمرو بن أمية الضمري فتقدم ما يبين جهتها في ذكر دار السوق وغيرها.
وأما دار الشفاء فقال ابن شبة في دور بني عدي بن كعب: واتخذت الشفاء بنت عبد الله دارها التي في الحكاكين الشارعة في الخط، فخرجت طائفة من أيدي ولدها فصارت للفضل، وبقيت بأيديهم منها طائفة، انتهى.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي الشفاء هذه ويقيل عندها، وسبق في مصلى الأعياد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى العيد عند دار الشفاء؛ فالظاهر أنها كانت قرب سوق المدينة والمصلى. ودار بسرة لم أعرفها، وكذا المربد المذكور.
وتقدم في ذكر البلاط ما جاء في دار بنت الحارث.(3/75)
وأخرج أبو داود والنسائي واللفظ له عن عبد الرحمن بن طارق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جاز مكانا من دار يعلي استقبل القبلة ودعا، ولم أعرف جهة دار يعلي.
دار أم سليم
وفي صحيح البخاري عن ثمامة عن أنس أن أمّ سليم كانت تبسط لنبي الله صلى الله عليه وسلم نطعا فيقيل عندها على ذلك النّطع، قال فإذا قام صلى الله عليه وسلم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سك، وقال: فلما حضرت أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السك، قال: فجعل في حنوطه.
وفيه أيضا حديث أنس في تكثير الطعام، ولفظه: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي، ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدته في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال لمن معه: قوموا، فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئنا إلى أبي طلحة، فأخبرته، قال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا من نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي يا أم سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتّ وعصرت أم سليم عكّة فأدمته، ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة، الحديث، وفي آخره: فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا.
قلت: وأم سليم والدة أنس وزوجة أبي طلحة، فذلك إما في دار أنس وإما في دار أبي طلحة، وكلاهما بجهة بني جديلة.
دار أم حرام
وفي الصحيح من حديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يوما فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ يضحك، الحديث.
قلت: أم حرام هي خالة أنس أخت أم سليم المتقدم ذكرها، وزوجها عبادة بن الصامت، كان ببني سالم؛ لأنه من بني نوفل إخوة بني سالم، ويدل لذلك قوله «إذا ذهب إلى قباء» فإن بني سالم بطريق قباء، فيندفع ما توهمه بعضهم من أن دار أم سليم وأم حرام واحدة لكونهما أختين، والله أعلم.(3/76)
الفصل الخامس: خروج النبي ص ليلا إلى البقيع
في فضل مقابرها، وإتيان النبي صلى الله عليه وسلم البقيع، وسلامه على أهله واستغفاره لهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلا إلى البقيع.
روينا في صحيح مسلم والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما كان ليلتي التي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها عندي انفلت فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، فأخذ إزاره رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب، فخرج، ثم أجافه رويدا، وجعلت درعي في رأسي، واختمرت، وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع فأقام، فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرته، فسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: مالك يا عائش حشيا رابية، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأخبرته، قال: فأنت السّواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: نعم، قال: فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشيني، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قال: قلت كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين والمستأخرين.
وفي رواية له أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.
وخرجه في الموطأ بلفظ: قالت عائشة: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلبس ثيابه، ثم خرج، فأمرت جاريتي بريرة تتبعه، فتبعته حتى جاء البقيع، فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف، ثم انصرف فسبقته، فأخبرتني، فلم أذكر شيئا حتى أصبح، ثم ذكرت له، فقال: إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم.
وفي رواية للنسائي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم متواعدون غدا ومواكلون.
وفي رواية لابن شبة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي، فظننت أنه خرج إلى بعض نسائه، فتبعته، حتى جاء البقيع، فسلم ودعا ثم انصرف، فسألته: أين كنت؟ فقال:
إني أمرت أن آتي أهل البقيع فأدعو لهم.(3/77)
وفي رواية له أنه قال في دعائه: اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم.
وفي رواية للبيهقي قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع عنه ثوبيه، ثم لم يستتم أن قام فلبسهما، فأخذتني غيرة شديدة ظننت أنه يأتي بعض صويحباتي، فخرجت أتبعه، فأدركته بالبقيع بقيع الغرقد يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والشهداء، الحديث، وفيه بيان أن ذلك كان في ليلة النصف من شعبان
وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقبور أهل المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، ويغفر الله لنا ولكم، وأنتم لنا سلف ونحن بالأثر.
وروى ابن شبة عن أبي موهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهبّني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل، فقال: إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم استغفر لهم طويلا.
وفي رواية: ثم استغفر لهم، ثم قال: يا أبا موهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، فخيرات بين ذلك وبين لقاء ربي ثم الجنة، قلت: بأبي وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا موهبة، لقد اخترت لقاء ربي ثم الجنة، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدئ به وجعه الذي قبض فيه.
وعن عطاء بن يسار قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم البقيع فقال: السلام عليكم قوم موجلون، أتانا وأتاكم ما توعدون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.
وعن الحسن قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بقيع الغرقد فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، ثلاثا، لو تعلمون ما الذي نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم، قال: ثم التفت فقال: هؤلاء خير منكم، قالوا: يا رسول الله إنما هم إخواننا آمنّا كما آمنوا، وأنفقنا كما أنفقوا، وجاهدنا كما جاهدوا، وأتوا على أجلهم ونحن ننتظر، فقال: إن هؤلاء قد مضوا لم يأكلوا من أجورهم شيئا، وقد أكلتم من أجوركم، ولا أدري كيف تصنعون بعدي.
وروى ابن زبالة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟
قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غرّ محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى،(3/78)
قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرّا محجّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، وليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلم، ألا هلم، ألا هلمّ، فيقال:
إنهم قد بدّلوا، فأقول: فسحقا، فسحقا، فسحقا.
من فضل البقيع
وروى الطبراني في الكبير ومحمد بن سنجر في مسنده وابن شبة في أخبار المدينة من طريق نافع مولى حمنة عن أم قيس بنت محصن، وهي أخت عكّاشة، أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فقال: يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، وكأن وجوههم القمر ليلة البدر، فقام رجل فقال: يا رسول الله وأنا، فقال: وأنت، فقام آخر فقال: يا رسول الله وأنا، قال: سبقك بها عكّاشة، قال: قلت لها: لم لم يقل للآخر؟
فقالت: أراه كان منافقا.
وذكر الهيثمي تخريج الطبراني له وقال: في إسناده من لم أعرفه.
وذكره الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، وسكت عليه.
ودخول سبعين ألفا الجنة بغير حساب من هذه الأمة من غير تقييد بالبقيع موجود في الصحيح، بل جاء أزيد منه.
فروى أحمد والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا: سألت ربي عز وجل، فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي، وذكر نحو رواية الصحيح، وزاد: فاستزدت ربي، فزادني مع كل ألف سبعين ألفا، قال الحافظ ابن حجر: وسنده جيد، قال: وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني، وعن حذيفة عند أحمد، وعن أنس عند البزار، وعن ثوبان عند أبي عاصم، قال:
فهذه طرق يقوي بعضها بعضا في الزيادة المذكورة.
قال: وجاء في أحاديث أخرى أكثر من ذلك أيضا، فأخرج الترمذي وحسّنه والطبراني وابن حبان في صحيحه عن أبي أمامة رفعه: وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعين ألفا، لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي.
وفي صحيح ابن حبان والطبراني بسند جيد نحوه.
ثم ذكر الحافظ ابن حجر ما يقتضي زيادة على ذلك أيضا، وأن مع كل واحد سبعين ألفا؛ فيتأيد بذلك رواية اختصاص البقيع بسبعين ألفا لا حساب عليهم؛ فالكرم عميم، والجاه عظيم.
وروى ابن شبة عن ابن المنكدر رفعه مرسلا: يحشر من البقيع سبعين ألفا على صورة القمر ليلة البدر، كانوا لا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
قال: وكان أبي يخبرنا أن مصعب بن الزبير دخل المدينة من طريق البقيع ومعه ابن رأس(3/79)
الجالوت، فسمعه مصعب وهو خلفه حين رأى المقبرة يقول: هي هي، فدعاه مصعب فقال: ماذا تقول؟ فقال: نجد هذه المقبرة في التوراة بين حرّتين محفوفة بالنخل اسمها كفتة، يبعث الله منها سبعين ألفا على صورة القمر. وسيأتي من رواية ابن زبالة عن المقبري نحوه.
وروى ابن زبالة عن جابر مرفوعا: يبعث من هذه المقبرة- واسمها كفتة- مائة ألف كلهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتداوون، وعلى ربهم يتوكلون.
وعن المطلب بن حنطب رفعه مرسلا: يحشر من مقبرة المدينة- يعني البقيع- سبعون ألفا لا حساب عليهم، تضئ وجوههم غمدان اليمن.
وجاء ما يقتضي أن هذا العدد يبعث من مقبرة بني سلمة، وهي عند منزل بني حرام منهم، فروى ابن شبة عن أبي سعيد المقبري أن كعب الأحبار قال: نجد مكتوبا في الكتاب أن مقبرة بغربي المدينة على حافة سيل يحشر منها سبعون ألفا ليس عليهم حساب.
وقال أبو سعيد المقبري لابنه سعيد: إن أنا هلكت فادفنّي في مقبرة بني سلمة التي سمعت من كعب، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مقبرة بغربي المدينة يعترضها السيل يسارا يبعث منها كذا وكذا لا حساب عليهم، قال عبد العزيز بن مبشر: لا أحفظ العدد.
وعن عقبة بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، وعن ابن أبي عتيق وغيرهما من مشيخة بني حرام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مقبرة ما بين سيلين غربية يضئ نورها يوم القيامة ما بين السماء إلى الأرض.
وروى ابن زبالة عن سهل عن أبيه عن جده قال: دفن قتلى من قتلى أحد في مقبرة بني سلمة.
وعن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة قال: أصيب أبو عمرة بن سكن يوم أحد، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقل، فكان أول من دفن في مقبرة بني حرام.
وفي الكبير للطبراني- وفيه يعقوب بن محمد الزهري فيه كلام كثير، وقد وثق- عن سعد بن خيثمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأن رحمة وقعت بين بني سالم وبني بياضة، قالوا: يا رسول الله أفننتقل إلى موضعها، قال: لا، ولكن اقبروا فيها، فقبروا فيها موتاهم.
قلت: وهذه المقبرة لا تعرف اليوم، وكذا مقبرة بني سلمة، لكن تعرف جهتهما مما تقدم في المنازل.
وتقدم في الحث على الموت بالمدينة حديث «ما على الأرض بقعة أحبّ إلى من أن يكون(3/80)
قبري بها منها» يعني المدينة، يرجّعها ثلاث مرات، وحديث «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها» .
وفي رواية «فإني أشهد لمن يموت بها» . وفي أخرى «فإنه من مات بها كنت له شهيدا، أو شفيعا، يوم القيامة» .
ورواه رزين بنحوه، وزاد «وإني أول من تنشقّ عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي البقيع فيحشرون، ثم انتظر أهل مكة فأحشر بين الحرمين» .
وفي رواية لابن النجار «فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى البقيع فيبعثون، ثم يبعث أهل مكة.
وروى ابن شبة وابن زبالة عن ابن كعب القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من دفن في مقبرتنا هذه شفعنا له، أو شهدنا له» وسيأتي في الفصل الأول من الباب الثامن قوله صلى الله عليه وسلم «ومن مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة» .
وروى ابن زبالة عن أبي عبد الملك يرفعه قال: «مقبرتان يضيان لأهل السماء كما تضئ الشمس والقمر لأهل الدنيا، مقبرتنا بالبقيع بقيع المدينة، ومقبرة بعسقلان» .
وعن كعب الأحبار قال: نجدها في التوراة كفتة محفوفة بالنخيل وموكل بها الملائكة، كلما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفؤوها في الجنة.
قال ابن النجار: يعني البقيع.
وعن المقبري قال: قدم مصعب بن الزبير حاجا أو معتمرا ومعه ابن رأس الجالوت فدخل المدينة من نحو البقيع، فلما مر بالمقبرة قال ابن رأس الجالوت: إنها لهي، قال مصعب: وما هي؟ قال: إنا نجد في كتاب الله صفة مقبرة في شرقيها نخل وفي غربيها بيوت يبعث منها سبعون ألفا كلهم على صورة القمر ليلة البدر، فطفت مقابر الأرض فلم أر تلك الصفة حتى رأيت هذه المقبرة.
وعن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: أقبل ابن رأس الجالوت فلما أشرف على البقيع قال: هذه التي نجدها في كتاب الله كفتة، لا أطؤها، قال: فانصرف عنها إجلالا لها.
وفي كتاب الحرة للواقدي عن عثمان بن صفوان قال: لما حجّ مصعب بن الزبير ومعه ابن رأس الجالوت فانتهى إلى حرّة بني عبد الأشهل وقف ثم قال: بهذه الحرة مقبرة؟
فقالوا: نعم، فقال: هل من وراء المقبرة حرة أخرى سوى هذه الحرة؟ قالوا: نعم، قال:
إنا نجد في كتاب الله أنها تسمى كفتة. قال الواقدي: يعني تسرع البلى- وكفيتة، يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفا كلهم وجوههم على صورة البدر ليلة أربع عشرة من الشهر.(3/81)
وروى ابن زبالة عن خالد بن عوسجة: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار، فمر بي جعفر بن محمد يريد العريض معه أهله، فقال لي: أعن أثر وقفت هاهنا؟ قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله صلى الله عليه وسلم بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع.
قلت: وسيأتي أن من دار عقيل الموضع المعروف بمشهده، وأن به قبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر على ما ذكره ابن النجار.
وقال عقب إيراد هذا الخبر: ودار عقيل الموضع الذي دفن فيه، قال الزين المراغي:
فينبغي الدعاء فيه. قال: وقد أخبرني غير واحد أن الدعاء عند ذلك القبر مستجاب، ولعل هذا سببه. أو لأن عبد الله بن جعفر كان كثير الجود فأبقى الله قضاء الحوائج عند قبره.
ومن غريب ما اتفق ما أخبرني به من أثق بدينه أنه دعا في هذا المكان، وتذاكر مع رفيق له ذلك، فرأى ورقة على الأرض مكتوبة، فأخذها تفاؤلا لذلك، فإذا فيها وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] من جهتيها، انتهى.
قلت: ولم أقف في كلام المتقدمين على أصل في دفن عبد الله بن جعفر هناك، بل اختلف في أنه دفن بالمدينة أو بالأبواء، والمعتمد في سبب الاستجابة هناك ما ذكر أولا، ولهذا يستحبّ الدعاء في جميع الأماكن التي دعا بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلها مواطن إجابة.
الفصل السادس في تعيين قبور بعض من دفن بالبقيع من الصحابة وأهل البيت، والمشاهد المعروفة بالمدينة.
قبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيان قبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه عند قبر عثمان بن مظعون، وجاء فيهما، ومن دفن عندهما.
روى ابن شبة بإسناد جيد عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: مات إبراهيم- يعني ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ستة عشر شهرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفنوه في البقيع، فإن له مرضعة في الجنة تتم رضاعه.
وعن مكحول قال: توفي إبراهيم عليه السلام، فلما وضع في اللحد ورصف عليه اللبن بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرجة من اللبن، فأخذ بيده مدرة فناولها رجلا فقال: ضعها في تلك الفرجة، ثم قال: أما إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر بعين الحي.
وعن محمد بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رشّ على قبر ابنه إبراهيم، وأنه أول من رش عليه، قال: ولا أعلم إلا أنه قال: وحثا عليه بيده من التراب، وقال حين فرغ من دفنه عند رأسه: السلام عليكم.(3/82)
وروى الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رشّ قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه الحصى.
وروى أبو داود في المراسيل والبيهقي ورجاله ثقات مع إرساله نحوه عن محمد بن عمر بن علي، وزاد أنه أول قبر رش عليه، وقال بعد فراغه: سلام عليكم، ولا أعلمه إلا قال: حثا عليه بيده.
وروى ابن زبالة عن قدامة بن موسى أن أول من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع عثمان بن مظعون، فلما توفي ابنه إبراهيم قالوا: يا رسول الله أين نحفر له؟ قال: عند فرطنا عثمان بن مظعون.
وروى أبو غسان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما توفي إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يدفن عند عثمان بن مظعون، فرغب الناس في البقيع، وقطعوا الشجر، فاختارت كل قبيلة ناحية، فمن هنالك عرفت كل قبيلة مقابرها.
وروى ابن شبة عن قدامة بن موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ادفنوا عثمان بن مظعون بالبقيع يكون لنا سلفا، فنعم السلف سلفنا عثمان بن مظعون» .
وعنه أيضا: كان البقيع غرقدا، فلما هلك عثمان بن مظعون دفن بالبقيع، وقطع الغرقد عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للموضع الذي دفن فيه عثمان: هذه الرّوحاء، وذلك كل ما حازت الطريق من دار محمد بن زيد إلى زاوية دار عقيل اليمانية، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه الروحاء، للناحية الآخرى، فذلك كل ما حازت الطريق من دار محمد بن زيد إلى أقصى البقيع يومئذ.
قلت: قد تلخص لنا أن دار عقيل كان بالمشهد المعروف به، ودار محمد بن زيد في شرقيها وشرقي مشهد سيدنا إبراهيم؛ فالروحاء الأولى ما بين المشهدين وتمتد إلى شرقي مشهد سيدنا إبراهيم، والثانية في شرقي الأولى إلى أقصى البقيع، والأولى هي المرادة بما سيأتي في قبر أسعد بن زرارة من قول أبي غسان، والروحاء: المقبرة التي وسط البقيع يحيط بها طرق مطرقة وسط البقيع، وكأنها اشتهرت بذلك دون ثانية لاقتصاره على الأولى.
وروى ابن زبالة عن عبيد الله بن أبي رافع قال: بلغني أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات قالوا: يا رسول الله، أين ندفن إبراهيم؟ قال: عند فرطنا عثمان بن مظعون، ودفن عثمان بن مظعون عند كتاب بني عمرو بن عثمان.
وروى ابن شبة عن محمد بن عبد الله بن سعيد بن جبير قال: دفن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزوراء موضع السقاية التي على يسار من سلك البقيع مصعدا إلى جنب دار محمد بن زيد بن عليّ.(3/83)
وعن سعيد بن جبير قال: رأيت قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في الزوراء؛ فيستفاد منه تسمية ذلك الموضع بالزوراء أيضا.
وروى ابن زبالة عن سعيد بن محمد بن جبير أنه رأى قبر إبراهيم عند الزوراء.
قال عبد العزيز بن محمد: وهي الدار التي صارت لمحمد بن زيد بن علي.
وعن جعفر بن محمد أن قبر إبراهيم وجاه دار سعيد بن عثمان التي يقال لها الزوراء بالبقيع، فهدمت مرتفعا عن الطريق.
وعن قدامة قال: دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم ابنه إلى جنب عثمان بن مظعون، وقبره حذاء زاوية دار عقيل بن أبي طالب من ناحية دار محمد بن زيد.
قبر عثمان بن مظعون
وروى ابن شبة عن سعد بن جبير بن مطعم قال: رأيت قبر عثمان بن مظعون عند دار محمد بن علي بن الحنفية.
وعن محمد بن قدامة عن أبيه عن جده قال: لما دفن النبيّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون أمر بحجر فوضع عند رأسه، قال قدامة: فلما صفق البقيع وجدنا ذلك الحجر، فعرفنا أنه قبر عثمان بن مظعون. قال عبد العزيز بن عمران: وسمعت بعض الناس يقول: كان عند رأس عثمان بن مظعون ورجليه حجران.
وعن شيخ من بني محزوم يدعى عمر قال: كان عثمان بن مظعون أول من مات من المهاجرين، فقالوا: يا رسول الله أين ندفنه؟ قال: بالبقيع، قال: فلحد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل حجر من حجارة لحده، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه عند رجليه، فلما ولي مروان بن الحكم المدينة مرّ على ذلك الحجر فأمر به فرمى به، وقال: والله لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به، فأتته بنو أمية فقالوا: بئس ما صنعت، عمدت إلى حجر وضعه النيس صلى الله عليه وسلم فرميت به، بئس ما عملت، فمر به فليرد، فقال: أما والله إذ رميت به فلا يرد.
وسيأتي في قبر عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه من رواية ابن زبالة أن مروان جعل ذلك الحجر على قبر عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
وروى أبو داود بإسناد حسن عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، ولم يسم الصحابي الذي حدثه، قال: لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعيه- قال المطلب: قال الذي يخبرني: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنهما- ثم حمله فوضعه عند رأسه، وقال: أتعلم به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي.(3/84)
ورواه ابن شبة وابن ماجه وابن عدي عن أنس والحاكم عن أبي رافع.
وروى ابن زبالة عن عائشة بنت قدامة قالت: كان القائم يقوم عند قبر عثمان بن مظعون فيرى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ليس دونه حجاب.
قبر رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى الطبراني برجال ثقات، وفي بعضهم خلاف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حديث قال فيه: فلما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون.
ورواه ابن شبة، ولفظه: لما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون، قال: وبكى النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: دعهن يا عمر، وإياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، ومهما يكن من اللسان ومن اليد فمن الشيطان، قال: فبكت فاطمة رضي الله تعالى عنها على شفير القبر، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح الدموع عن عينها بطرف ثوبه.
قال ابن شبة عقبه: وروى خلافه، أي من حيث حضوره صلى الله عليه وسلم لذلك، ثم روى عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلّف عثمان بن عفان وأسامة بن زيد على رقية وهي وجعة أيام بدر.
وعن الزهري أن يزيد بن حارثة جاء بشيرا بوقعة بدر، وعثمان قائم على قبر رقية يدفنها.
قلت: هذا هو المشهور، والثابت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم حضر دفن ابنته أم كلثوم زوجة عثمان رضي الله تعالى عنه، فلعل الخبر الأول فيها، أو في زينب أختها، فإنها توفيت سنة ثمان بالمدينة، والظاهر أنهن جميعا عند عثمان بن مظعون؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «وأدفن إليه من مات من أهلي» ويحتمل أن بعضهن هي التي وجد قبرها عند حفر الدعامة التي أمام المصلى الشريف، كما سيأتي في قبر فاطمة الزهراء، وحصل الوهم في نسبته لفاطمة، والله أعلم.
قبر فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها أم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه
روى ابن زبالة عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت مهاجرة مبايعة، بالرّوحاء مقابل حمام أبي قطيفة، قال:
وثمّ قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقبر عثمان بن مظعون.
وسيأتي ما نقله ابن شبة في قبر العباس من قول عبد العزيز بن عمران: إنه دفن عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقيل.(3/85)
قلت: وهذا كله صريح في مخالفة ما عليه الناس اليوم من أن قبرها في المشهد الآتي ذكره، وأول من ذكر أنها بذلك المشهد ابن النجار، وتبعه من بعده، ولم أقف له على مستند في ذلك، والأثبت عندي ما هنا؛ إذ يبعد أن يدفنها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الموضع القاصي ويترك ما قرب من عثمان بن مظعون وقد قال: «وأدفن إليه من مات من أهلي» ، وأيضا فلا يظهر أن الموضع المعروف بمشهدها من البقيع؛ لأن مشهد عثمان كما سيأتي ليس من البقيع، وهذا المشهد بطرف زقاق في شاميه إلى المشرق.
فإن قيل: النخيل التي تقابل هذا المشهد قال ابن النجار: إنها تعرف بالحمام، وقد قال في الرواية الأولى «مقابل حمام أبي قطيفة» .
قلت: الظاهر أن ذلك منشأ الوهم في ذلك، وبقية الرواية المذكورة.
وما نقله ابن شبة يدفع ذلك ويبين أن المراد موضع كان يعرف بحمام أبي قطيفة بجهة مشهد سيدنا إبراهيم، وكأن ابن النجار لم يقف إلا على صدر الرواية الأولى؛ فإنه قال: قبر فاطمة بنت أسد وعليها قبة في آخر البقيع، ثم ذكر صدر الرواية الأولى إلى قوله: مقابل حمام أبي قطيفة، ثم قال: واليوم يقابلها نخل يعرف بالحمام، انتهى.
على أن النخيل التي بقرب هذا المشهد هي التي تقابله من جهة المشرق والشام، وإنما يعرف قديما وحديثا بالخضاري، وإنما يعرف بالحمام النخل الذي في شامي مشهد سيدنا إبراهيم عند الكومة، وهو بعيد من المشهد المعروف بفاطمة، وإن كان في جهة مقابلته من المغرب، ومن تأمل ذلك علم أن التعريف به لما هو في جهة مشهد سيدنا إبراهيم أقرب، فهو شاهد لنا، وأيضا فاسم الحمام مذكور لمواضع بالمدينة، ولهذا أضافه إلى أبي قطيفة.
وقد روى ابن زبالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بموضع حمام عبيد الله بن حسين الذي اشترى محمد بن زيد، فقدمه إلى البقيع قليلا، فقال: نعم موضع الحمام.
القبور التي نزلها الرسول صلى الله عليه وسلم
ونقل ابن شبة عن عبد العزيز بن عمران ما حاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل في قبر أحد قط إلا خمسة قبور، ثلاث نسوة ورجلين، منها قبر خديجة بمكة، وأربع بالمدينة: قبر ابن خديجة كان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته، وهو على قارعة الطريق بين زقاق عبد الدار وبين البقيع الذي يتدافن فيه بنو هاشم، وقبر عبد الله المزني الذي يقال له ذو البجادين، وقبر أم رومان أم عائشة بنت أبي بكر، وقبر فاطمة بنت أسد أم عليّ، فأما ذو البجادين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل مهاجرا وسلك ثنية الغابر وعرت عليه الطريق وغلظت، فأبصره ذو البجادين فقال لأبيه: دعني أدلهم على الطريق، فأبى، فنزع ثيابه وتركه عريانا، فاتخذ عبد الله بجادا من شعر فطرحه على عورته، ثم عدا نحوهم، فأخذ بزمام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر قدومه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة موته ودفنه.(3/86)
ثم قال: وأما قبر فاطمة بنت أسد أم عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما فإن عبد العزيز حدث، وذكر سنده إلى محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، قال: لما استقر بفاطمة وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توفيت فأعلموني، فلما توفيت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة، ثم لحد لها لحدا، ولم يضرح لها ضريحا، فلما فرغ منه نزل فاضطجع في اللحد، وقرأ فيه القرآن، ثم نزع قميصه فأمر أن تكفّن فيه، ثم صلى عليها عند قبرها، فكبر تسعا وقال: ما أعفي أحد من ضغطه القبر إلا فاطمة بنت أسد، قيل: يا رسول الله ولا القاسم؟ قال: ولا إبراهيم، وكان إبراهيم أصغر هما.
قلت: وقوله في موضع المسجد إلى آخره يقتضي أنه كان على قبرها مسجد يعرف به في ذلك الزمان.
وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال: بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه آت فقال: يا رسول الله، إن أم علي وجعفر وعقيل قد ماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى أمي، فقمنا وكأن على رؤوس من معه الطير، فلما انتهينا إلى الباب نزع قميصه فقال:
إذا غسلتموها فأشعروها إياه تحت أكفانها، فلما خرجوا بها جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة يحمل، ومرة يتقدم، ومرة يتأخر، حتى انتهينا إلى القبر فتمعّك في اللحد ثم خرج فقال: ادخلوها باسم الله وعلى اسم الله، فلما أن دفنوها قام قائما فقال: جزاك الله من أم وربيبة خيرا، فنعم الأم ونعم الربيبة كنت لي، قال: فقلنا له أو قيل له: يا رسول الله لقد صنعت شيئين ما رأيناك صنعت مثلهما قط، قال: ما هو؟ قلنا: نزعك قميصك وتمعكك في اللحد، قال: أما قميصي فأريد أن لا تمسها النار أبدا إن شاء الله تعالى، وأما تمعكي في اللحد فأردت أن يوسّع الله عليها في قبرها.
وروى ابن عبد البر عن ابن عباس قال: لما ماتت فاطمة أمّ علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ لي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها.
وفي الكبير والأوسط بسند فيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبّان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أمي بعد أمي، وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده، قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاما أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده،(3/87)
وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه، ثم قال: الله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين، وكبر عليها أربعا، فأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم.
قبر عبد الرحمن بن عوف
روى ابن زبالة عن حميد بن عبد الرحمن قال: أرسلت عائشة إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت أن هلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أخويك، فقال: ما كنت مضيّقا عليك بيتك، إني كنت عاهدت ابن مظعون أينا مات دفن إلى جانب صاحبه، قالت: فمروا به عليّ، فمروا به عليها فصلّت عليه.
وروى ابن شبة عن حفص بن عثمان بن عبد الرحمن نحوه.
وعن عبد الواحد بن محمد عن عبد الرحمن بن عوف أنه أوصى إن هلك بالمدينة أن يدفن إلى عثمان بن مظعون، فلما هلك حفر له عند زاوية دار عقيل الشرقية، فدفن هناك، عليه ثوب حبرة من العصب، أتمارى أن يكون فيه لحمة ذهب أولا.
قبر سعد بن أبي وقّاص
روى ابن شبة عن ابن دهقان قال: دعاني سعد بن أبي وقاص فخرجت معه إلى البقيع، وخرج بأوتاد، حتى إذا جاء من موضع زاوية عقيل الشرقية الشامية أمرني فحفرت، حتى إذا بلغت باطن الأرض ضرب فيها الأوتاد ثم قال: إن هلكت فادللهم على هذا الموضع يدفنوني به، فلما هلك قلت ذلك لولده، فخرجنا حتى دللتهم على ذلك الموضع، فوجدوا الأوتاد، فحفروا له هناك ودفنوه.
قبر عبد الله بن مسعود
روى ابن سعد في طبقاته عن أبي عبيدة بن عبد الله أن ابن مسعود قال: ادفنوني عند قبر عثمان بن مظعون.
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: مات عبد الله بن مسعود بالمدينة، ودفن بالقيع، سنة اثنتين وثلاثين.
قبر خنيس بن حذاقة السهمي
كان زوج حفصة بنت عمر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من المهاجرين الأولين أصحاب الهجرتين، نالته جراحة يوم أحد، فمات بسببها بالمدينة.
قال أبو عبد الله محمد بن يوسف الزرندي المدني في سيرته: توفي في السنة الثالثة من الهجرة، ودفن عند عثمان بن مظعون، قال: وكان عثمان بن مظعون توفي قبله في شعبان(3/88)
من السنة المذكورة، ونقل ابن الجوزي أن عثمان توفي في السنة الثانية، اه. وما قدمناه من موت خنيس بعد أحد من جراحة نالته يوم أحد هو ما جزم به ابن عبد البر، وتبعه عليه الذهبي، ويشكل عليه ما سبق في الفصل الثاني عشر من الباب الثالث من أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وقيل: أربع، وأنه صلى الله عليه وسلم تزوج بحفصة بنت عمر في شعبان من السنة الثالثة على الأصح، وقيل: في الثانية؛ فلا يصح ما جزم به ابن عبد البر، إلا أن يكون خنيس قد طلقها كما أشار إليه الذهبي، لكن قد وهم الحفّاظ ابن عبد البر في قوله «إن خنيسا استشهد بأحد بسبب تلك الجراحة» وإنما توفي قبلها بالمدينة، قال ابن سيد الناس: المعروف أنه مات بالمدينة على رأس خمس وعشرين شهرا، وذلك بعد رجوعه من بدر، اه.
قبر أسعد بن زرارة أحد بني غنم بن مالك بن النجار
شهد العقبتين كما تقدم، وتوفي في الأولى من الهجرة والمسجد يا بنى
قال ابن شبة: قال أبو غسان: وأخبرني بعض أصحابنا قال: لم أزل أسمع أن قبر عثمان بن مظعون وأسعد بن زرارة بالروحاء من البقيع، والروحاء: المقبرة التي بوسط البقيع يحيط بها طرق مطرقة وسط البقيع.
قلت: فينبغي أن يسلّم على هؤلاء كلهم عند زيارة مشهد سيدنا إبراهيم بالبقيع.
قبر فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم
بيان قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنيها، ومن عرفت جهة قبره بالبقيع من بني هاشم، وأمها المؤمنين، وغيرهم.
روى ابن شبة عن محمد بن علي بن عمر أنه كان يقول: إن قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زاوية دار عقيل اليمانية الشارعة في البقيع.
وعن منبوذ بن حويطب والفضل بن أبي رافع أن قبرها وجاه زقاق نبيه، وأنه إلى زاوية دار عقيل أقرب.
وعن عمر بن عليّ بن حسين بن عليّ أن قبرها حذو الزقاق الذي يلي زاوية دار عقيل، قال غسان بن معاوية بن أبي مزرّد: إنه ذرع من حيث أشار له عمر بن علي فوجده خمسة عشر ذراعا إلى القناة.
وعن عمر بن عبد الله مولى عفرة أن قبرها حذو زاوية دار عقيل مما يلي دار نبيه.
وعن عبد الله بن أبي رافع أن قبرها مخرج الزقاق الذي بين دار عقيل ودار أبي نبيه.
وذكر إسماعيل راوية أنه ذرع الموضع الذي ذكر له أبوه فوجد بين القبر وبين القناة التي في دار عقيل ثلاثة وعشرين ذراعا، وبين القناة الآخرى سبعة وثلاثين ذراعا.(3/89)
قال أبو غسان: وأخبرني مخبر ثقة قال: يقال: إن المسجد الذي يصلي إلى جنبه شرقيا على جنائز الصبيان كان خيمة لامرأة سوداء يقال لها رقية، جعلها هناك حسين بن علي تبصر قبر فاطمة، وكان لا يعرف قبر فاطمة غيرها.
قال: وأخبرني عبد العزيز بن عمران عن حماد بن عيسى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دفن علي فاطمة ليلا في منزلها الذي دخل في المسجد، فقبرها عند باب المسجد المواجه دار أسماء بنت حسين بن عبد الله، أي وهو الباب الذي كان في شامي باب النساء في المشرق كما تقدم.
قال ابن شبة عقبه: وأظن هذا الحديث غلطا؛ لأن الثبت جاء في غيره.
ثم روى بسند جيد عن فائد مولى عبادل، وهو صدوق، أن عبيد الله بن علي أخبره عمن مضى من أهل بيته أن الحسن بن عليّ قال: ادفنوني في المقبرة إلى جنب أمي، فدفن في المقبرة إلى جنب فاطمة مواجه الخوخة التي في دار نبيه بن وهب، طريق الناس بين قبرها وبين خوخة نبيه، أظن الطريق سبعة أذرع.
قال فائد: وقال لي منقد الحفار: إن في المقبرة قبرين مطابقين بالحجارة، قبر حسن بن علي وقبر عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نحركها، فلما كان زمن حسن بن زيد وهو أمير على المدينة استعدى بنو محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب على آل عقيل في قناتهم التي في دورهم الخارجية في المقبرة، وقالوا: إن فاطمة رضي الله تعالى عنها عند هذه القناة، فاختصموا إلى حسن، فدعاني حسن فسألني فأخبرته عن عبيد الله بن أبي رافع ومن بقي من أهلي وعن حسن بن علي وقوله «ادفنوني إلى جنب أمي» ثم أخبرته عن منقد الحفار وعن قبر الحسن أنه رآه مطابقا، فقال حسن بن زيد: أنا على ما تقول، وأقر قناة آل عقيل.
ثم ذكر ابن شبة أن أبا غسان حدثه عن عبد الله بن إبراهيم بن عبيد الله أن جعفر بن محمد كان يقول: قبر فاطمة في بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد، قال:
ووجدت كتابا كتب عن أبي غسان فيه أن عبد العزيز بن عمران كان يقول: إنها دفنت في بيتها، وصنع بها ما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها دفنت في موضع فراشها، ويحتج بأنها دفنت ليلا، ولم يعلم بها كثير من الناس.
ثم أشار ابن شبة إلى رد ذلك بما حدثه أبو عاصم النبيل قال: حدثنا كهمس بن الحسن قال: حدثني يزيد قال: كمدت فاطمة رضي الله تعالى عنها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم سبعين بين يوم وليلة، فقالت: إني لأستحيي من جلالة جسمي إذا أخرجت على الرجال غدا، وكانوا يحملون الرجال كما يحملون النساء فقالت أسماء بنت عميس أو أم سلمة: إني رأيت شيئا يصنع بالحبشة، فصنعت النعش، فاتخذ بعد ذلك سنة.(3/90)
وسيأتي من رواية ابن عبد البر ما يؤيده.
وروى ابن شبة عن سلمى زوج أبي رافع قالت: اشتكت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت يوما كأمثل ما كانت تكون، وخرج علي فقالت: يا أمتاه اسبكي لي غسلا، ثم قامت فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ثم قالت: هات ثيابي الجدد، فأعطتها إياها، فلبستها ثم جاءت إلى البيت الذي كانت فيه فقالت: قدّمي الفراش إلى وسط البيت، فقدّمته فاضطجعت واستقبلت القبلة ووضعت يدها تحت خدها ثم قالت: يا أمتاه إني مقبوضة الآن، وإني قد اغتسلت فلا يكشفني أحد، قال: فقبضت مكانها، وجاء عليّ فأخبرته فقال:
لا جرم والله لا يكشفها أحد، فحملها بغسلها ذلك فدفنها.
ثم روى ابن شبة عقبه عن أسماء بنت عميس قالت: غسلت أنا وعلي ابن أبي طالب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى البيهقي بإسناد حسن عن أسماء بنت عميس أن فاطمة أوصت أن تغسلها هي وعلي، فغسلاها.
ثم تعقبه بأن هذا فيه نظر؛ لأن أسماء في هذا الوقت كانت عند أبي بكر الصديق، وقد ثبت أن أبا بكر لم يعلم بوفاة فاطمة؛ لما في الصحيح أن عليا دفنها ليلا، ولم يعلم أبا بكر، فكيف يمكن أن تغسلها زوجته وهو لا يعلم؟
وأجاب في الخلافيات باحتمال أن أبا بكر علم بذلك، وأحبّ أن لا يرد غرض علي في كتمانه منه، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يجمع بأن أبا بكر علم بذلك وظن أن عليا سيدعوه لحضور دفنها ليلا، وظن علي أنه يحضر من غير استدعاء منه.
وقد احتج بحديث بنت عميس هذا أحمد وابن المنذر، وفي جزمهما بذلك دليل على صحته عندهما فيبطل ما روى أنها غسلت نفسها وأوصت أن لا يعاد غسلها.
وقد رواه أحمد، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأفحش القول في ابن إسحاق راويه.
وتولى ردّ ذلك عليه ابن عبد الهادي في التنقيح.
قلت: وعلى كل تقدير فحديث بنت عميس أرجح؛ للأدلة الدالة على وجوب غسل الميت مطلقا، وليس في حديث الصحيح أن أبا بكر ما علم بوفاة فاطمة، بل أن عليا دفنها ولم يعلمه.
وقد روى ابن عبد البر خبر أسماء بأتمّ من ذلك، وفيه علم أبي بكر بموتها، وذلك من طريق عون بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أمه أم جعفر بنت محمد بن جعفر.
وعن عمارة بن المهاجر عن أم جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لأسماء بنت(3/91)
عميس: يا أسماء، إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، قالت أسماء: يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبها، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله؟ تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا متّ فاغسليني أنت وعلي، ولا تدخلي عليّ أحدا، فلما توفيت جاءت عائشة تدخل فقالت أسماء: لا تدخلي فشكت إلى أبي بكر قالت: إن هذه الحثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعلت لها مثل هودج العروس فجاء أبو بكر فوقف على الباب فقال: يا أسماء، ما حملك على أن منعت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت لها مثل هودج العروس؟ فقالت: أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذي صنعت وهي حية فأمرتني أن أصنع ذلك لها، قال أبو بكر: فاصنعي ما أمرتك، ثم انصرف، وغسلها علي وأسماء رضي الله تعالى عنهما.
وقد خرّج الدولابي معنى ذلك مختصرا، وفيه أنها لما أرتها النعش تبسمت، وما رؤيت متبسمة- يعني بعد النبي صلى الله عليه وسلم- إلا يومئذ.
وخرج أيضا أن الوصية كانت إلى عليّ بأن يغسلها هو وأسماء، ويجوز أن تكون أوصت إلى كل منهما.
قال ابن عبد البر: فاطمة أول من غطى نعشها من النساء في الإسلام على الصفة المذكورة في الخبر المتقدم، ثم بعدها زينب بنت جحش صنع بها ذلك. وتوفيت فاطمة يوم الثلاثاء لثلاث خلت من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وكانت أشارت على زوجها أن يدفنها ليلا.
قلت: لعلها أرادت بذلك المبالغة في التستر، وهو السبب في عدم إعلام أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ويتأيد بذلك رواية دفنها بالبقيع، وهو مقتضى صنيع ابن زبالة في إيراد الروايات الدالة على ذلك.
قبر بعض أبناء الإمام علي بن أبي طالب
وقال المسعودي في مروج الذهب: إن أبا عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، ودفن بالبقيع مع أبيه وجده، قال: وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مبيد الأمم، ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي، وعلي بن الحسين بن علي، وقبر محمد بن علي، وجعفر بن محمد، عليهم السلام، انتهى. وذكر ما يقتضي أنه حين ذكر هذا كان في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.(3/92)
المتوكل يأمر بهدم قبر الحسين بن علي
وإنما أوجب عدم العلم بعين قبر فاطمة رضي الله تعالى عنها وغيرها من السلف ما كانوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها، مع ما عرض لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم من معاداة الولاة قديما وحديثا، حتى ذكر المسعودي أن المتوكل أمر في سنة ست وثلاثين ومائتين المعروف بالزبرج بالمسير إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما ومحو أرضه وهدمه وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن يقدم على ذلك، فكل خشي عقوبة الله فأحجم، فتناول الزبرج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفعلة على العمل فيه، وانتهوا إلى الحفيرة وموضع اللحد فلم يجدوا فيه أثر رمّة ولا غيرها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى استخلف المنتصر، انتهى.
ويتلخص مما تقدم أن المعتمد أن قبرها بالبقيع عند قبر الحسن، وقيل: في بيتها، ويتفرع عليه قولان: أحدهما ما تقدم عن عبد العزيز من أن محله من المسجد ما يقابل الباب الذي يواجه دار أسماء بنت حسين، يعني شامي باب النساء وهو بعيد جدّا، وثانيهما حكاه العز بن جماعة وقال: إنه أظهر الأقوال، وهو أنه في بيتها، وهو مكان المحراب الخشب الذي داخل مقصورة الحجرة الشريفة من خلفها، وقد رأيت خدّام الحجرة يجتنبون دوس ما بين المحراب المذكور وبين الموضع المزور من الحجرة الشريفة الشبيه بالمثلث، ويزعمون أنه قبر فاطمة رضي الله تعالى عنها.
وقد سبق في الفصل التاسع والعشرين من الباب الرابع أنهم لما أسّسوا دعائم القبة الكبرى المحاذية لأعلى الحجرة الشريفة أسسوا أسطوانة هناك زادوها عند الصفحة الشرقية من الموضع الشبيه بالمثلث خلف الحجرة، فوجدوا قبرا بدا لحده وبعض عظامه، وحصل للناس في ذلك اليوم أمر عظيم ومشقة زائدة فيما أخبرني به شيخ الخدام السيفي قائم وغيره.
وحكى ابن جماعة في قبر فاطمة رضي الله تعالى عنها قولين آخرين: أحدهما: أنه الصندوق الذي أمام مصلى الإمام بالروضة الشريفة، قال: وهو بعيد جدّا.
قلت: لم أقف له على أصل، ولعله اشتبه على قائله بالمحراب المتقدم ذكره في بيتها؛ لأن عنده مصلى شبه حوض كالمصلى بالروضة، وأمامه صندوق هو المحراب المذكور، لكن سبق في الفصل الثالث من الباب الرابع أنهم لما أسسوا في محل الصندوق المحترق الدعامة التي بها محراب المصلى النبوي، وهو مصلى الإمام، وجدوا هناك قبرا بدا لحده مسدودا باللبن أخرجوا منه بعض العظام، وأن الأقدمين حرفوا أساس الأسطوانة التي عنده عنه، فالله أعلم.
وثانيهما: أنه بالمسجد المنسوب إليها بالبقيع، يعني الذي بالقرب من قبة العباس رضي الله تعالى عنه من جهة القبلة جانحا إلى المشرق.(3/93)
وقد ذكر الغزالي هذا المسجد في زيارة البقيع فقال: ويستحب له أن يخرج كلّ يوم إلى البقيع بعد السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر القبور التي تزار، وقال عند ذكر قبر الحسن:
ويصلي في مسجد فاطمة، وذكره أيضا غيره.
وقال: إنه المعروف ببيت الحزن؛ لأن فاطمة رضي الله تعالى عنها أقامت به أيام حزنها على أبيها صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر دفنها به، والقول بذلك من فروع القول بدفنها بالبقيع، لكنه بعيد من الروايات السابقة لبعده جدّا من دار عقيل وعن قبر الحسن.
وقال المحب الطبري في «ذخائر العقبى، في فضائل ذوي القربى» : أخبرني أخ لي في الله أن الشيخ أبا العباس المرسي رحمه الله تعالى كان إذا زار البقيع وقف أمام قبلة قبة العباس وسلم على فاطمة عليها السلام، ويذكر أنه كشف له عن قبرها هناك.
قال الطبري: فلم أزل أعتقد ذلك لاعتقادي صدق الشيخ، حتى وقفت على ما ذكره ابن عبد البر من أن الحسن لما توفي دفن إلى جنب أمه فاطمة رضي الله تعالى عنها، فازددت يقينا.
قلت: وهو أرجح الأقوال، والله أعلم.
قبر ابنها الحسن بن علي، ومن معه
وما روي من نقل بدن علي ورأس الحسين إلى البقيع رضي الله تعالى عنهم.
وروى ابن شبة عن فائد مولى عبادل أن عبيد الله بن علي أخبره عمن مضى من أهل بيته أن حسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أصابه بطن، فلما حزبه وعرف من نفسه الموت أرسل إلى عائشة رضي الله تعالى عنهما أن تأذن له أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له:
نعم، ما كان بقي إلا موضع قبر واحد، فلما سمعت بذلك بنو أمية استلأموا هم وبنو هاشم للقتال، وقالت بنو أمية: والله لا يدفن فيه أبدا، فبلغ ذلك حسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فأرسل إلى أهله أما إذا كان هذا فلا حاجة لي به، ادفنوني في المقبرة إلى جنب أمي فاطمة، فدفن في المقبرة إلى جنب فاطمة رضي الله تعالى عنها.
وعن نوفل بن الفرات نحوه، وفيه أن الحسن قال للحسين: لعل القوم أن يمنعوك إذا أردت ذلك كما منعنا صاحبهم عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم يومئذ أمير على المدينة، وقد كانوا أرادوا دفن عثمان في البيت فمنعوهم، فإن فعلوا فلا تلاحهم في ذلك وادفنّي في بقيع الغرقد، ثم ذكر منع مروان، وأن الحسين لما بلغه ذلك استلأم في الحديد واستلأم مروان في الحديد أيضا، فأتى رجل حسينا فقال: يا أبا عبد الله، أتعصى أخاك في نفسه قبل أن تدفنه؟ قال: فوضع سلاحه، ودفنه في بقيع الغرقد.
وفي رواية لابن عبد البر أنهم لما استلأموا في السلاح بلغ ذلك أبا هريرة رضي الله(3/94)
تعالى عنه، فقال: والله ما هو إلا ظلم، يمنع الحسن أن يدفن مع أبيه؟ والله إنه لابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق إلى الحسين وكلمه وناشده الله وقال له: أليس قد قال أخوك إن خفت أن يكون قتال فردوني إلى مقبرة المسلمين؟ فلم يزل به حتى فعل.
تسمية من دفن مع الحسن
وذكر ابن النجار أن مع الحسن رضي الله تعالى عنه في قبره ابن أخيه زين العابدين علي بن الحسين، وأبا جعفر الباقر محمد بن زين العابدين، وجعفرا الصادق ابن الباقر، رضوان الله عليهم أجمعين. وذكر الغزالي نحوه.
دفن علي بالبقيع
وروى الزبير بن بكار من طريق شريك بن عبد الله عن أبي روق قال: حمل الحسن بدن علي بن أبي طالب فدفنه بالبقيع.
قلت: وقد اتفق في سنة بضع وستين وثمانمائة حفر قبر بمشهد الحسن والعباس أمام قبلته، فوجدوا فسقية فيها تابوت من خشب مغشّى بشيء أحمر يشبه اللباد الأحمر مسمر بمسامير لها بريق وبياض لم تصدأ، وتعجب الناس لكونها لم تصدأ ولعدم بلاء ذلك الغشاء.
وأخبرني جمع كثير ممن شاهد ذلك، وأن على مدخل تلك الفسقية أحجارا من المسن، فلعله بدن علي رضي الله تعالى عنه.
دفن رأس الحسين بن علي
وذكر محمد بن سعيد أن يزيد بن معاوية بعث برأس الحسين رضي الله تعالى عنه إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وكان عامله على المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن ذكر ابن أبي الدنيا أنهم وجدوا في خزانة ليزيد رأس الحسين فكفنوه ودفنوه بدمشق عند باب الفراديس. وقيل غير ذلك، ولا بأس بالسلام على هؤلاء كلهم عند زيارة هذا المشهد.
قبر العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه
قال ابن شبة فيما نقله عن أبي غسان: قال عبد العزيز: دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دال عقيل، فيقال: إن ذلك المسجد بني قبالة قبره، قال: وقد سمعت من يقول: دفن في موضع من البقيع متوسطا.
قبر صفية بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنها
قال عبد العزيز فيما نقله ابن شبة: توفيت صفية فدفنت في آخر الزقاق الذي يخرج إلى البقيع عند باب الدار التي يقال لها دار المغيرة بن شعبة التي أقطعه عثمان بن عفان لازفا(3/95)
بجدار الدار، قال عبد العزيز: فبلغني أن الزبير بن العوام اجتاز بالمغيرة وهو يا بني داره، فقال: يا مغيرة ارفع مطمرك عن قبر أمي، فأدخل المغيرة جداره، فالجدار اليوم منحرف فيما بين ذلك الموضع وبين باب الدار.
قال عبد العزيز: وقد سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة أبى أن يفعل ذلك مكانه من عثمان، فأخذ الزبير السيف ثم قام على البناء، فبلغ الخبر عثمان، فأرسل إلى المغيرة يأمره بالمصير إلى ما أمره به الزبير، ففعل.
وروى ابن زبالة عن محمد بن موسى بن أبي عبد الله قال: كان قبر صفية بنت عبد المطلب عند زاوية دار المغيرة بن شعبة الوضوء عليه، فلما بنى المغيرة داره أراد أن يقيم المطمر عليه، قال: فقال الزبير: لا، والله لا تبني على قبر أمي، فكفّ عنه.
قلت: والمعروف أن ذلك هو المشهد الآتي ذكره خارج باب البقيع، والله أعلم.
قبر أبي سفيان بن عبد المطلب
قبر أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وما قيل في قبر عقيل وابن أخيه عبد الله بن جعفر، رضي الله تعالى عنهم.
قال ابن شبة: قال عبد العزيز: بلغني أن عقيل بن أبي طالب رأى أبا سفيان بن الحارث يجول بين المقابر، فقال: يا ابن عمّ مالي أراك هناك؟ قال: أطلب موضع قبر، فأدخله داره وأمر بقبر فحفر في قاعتها، فقعد عليه أبو سفيان ساعة ثم انصرف، فلم يلبث إلا يومين حتى توفي فدفن فيه.
وقال الموفق بن قدامة: قيل عن أبي سفيان: إنه حفر قبره بنفسه قبل موته بثلاثة أيام، قال: وكان سبب موته أنه حجّ فلما حلق الحلاق رأسه قطع تؤلولا كان في رأسه، فلم يزل مريضا حتى مات بعد مقدمه من الحج سنة عشرين، ودفن في دار عقيل، وصلّى عليه عمر رضي الله تعالى عنهم.
قلت: والظاهر أنه بالمشهد المنسوب اليوم لعقيل؛ لأن ابن زبالة وابن شبة لم يذكرا قبر عقيل بالبقيع، وكذا الغزالي لما ذكر في الإحياء من يزار بالبقيع لم يذكره، بل المنقول الذي ذكره ابن قدامة وغيره أن عقيلا توفي بالشام في خلافة معاوية، فكان سبب اشتهار ذلك المشهد به كون الدار التي هو بها له؛ ويحتمل على بعد أنه نقل من الشام ودفن بذلك المحل أيضا، وأول من رأيته ذكر أنه بذلك المشهد ابن النجار، فقال: وقبر عقيل بن أبي طالب أخي علي رضي الله تعالى عنهما في قبة أول البقيع، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب، وهو الجواد المشهور رضي الله تعالى عنه.(3/96)
قبر عبد الله بن جعفر الطيار
وقد ذكر أبو اليقظان أن عبد الله بن جعفر الجواد كان أجود العرب، وأنه توفي بالمدينة وقد كبر، وقال غيره: توفي ودفن بالأبواء سنة تسعين، ويقال: إنه كان ابن عشر سنين حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهن
روى ابن زبالة عن محمد بن عبيد الله بن علي قال: قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من خوخة نبيه إلى الزقاق الذي يخرج إلى البقال مستطيرة؛ وترجم ابن شبة لقبر أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى عن زيد بن السائب قال: أخبرني جدي قال: لما حفر عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في داره بئرا وقع على حجر منقوش مكتوب فيه «قبر أم حبيبة بنت صخر بن حرب» فدفن عقيل البثر، وبنى عليه بيتا، قال ابن السائب: فدخلت ذلك البيت فرأيت فيه ذلك القبر.
قلت: فهذا وما قبله أصل في زيارتهن بالمشهد المعروف بهن في قبلة مشهد عقيل رضي الله عنه، والظاهر أن خوخة نبيه في غربي المشهد المذكور، وكذا الزقاق الذي يخرج إلى البقال؛ لما سيأتي في ترجمته، فيكون بعضهن بقرب الحسن والعباس رضي الله تعالى عنهما، ولهذا روي ابن شبة عن محمد بن يحيى قال: سمعت من يذكر أن قبر أم سلمة رضي الله تعالى عنها بالبقيع حيث دفن محمد بن زيد عليّ قريبا من موضع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان حفر فوجد على ثمانية أذرع حجرا مكسورا مكتوبا في بعضه «أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم» فبذلك عرف أنه قبرها.
وقد أمر محمد بن زيد بن علي أهله أن يدفنوه في ذلك القبر بعينه، وأن يحفروا له عمقا ثمانية أذرع، فحفر كذلك ودفن فيه.
وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن علي بن حسن الرافعي قال: حفر لسالم البانكي مولى محمد بن عليّ فأخرجوا حجرا طويلا فإذا فيه مكتوب «هذا قبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم» وهو مقابل خوخة آل نبيه بن وهب، قال: فأهيل عليه التراب وحفر لسالم في موضع آخر.
وعن حسن بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن عليّ أنه هدم منزله في دار علي بن أبي طالب، قال: فأخرجنا حجرا مكتوبا فيه «هذا قبر رملة بنت صخر» قال: فسألنا عنه فائدا مولى عبادل فقال: هذا قبر أم حبيبة ابنة أبي سفيان، ويخالفه ما تقدم من أن قبرها في دار عقيل، ولعله تصحف بعلي.
وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله تعالى عنها أوصت عبد الله بن الزبير لا تدفني معهم، تعني النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وادفني مع صواحبي بالبقيع.(3/97)
وروى ابن زبالة عن فائد مولى عبادل قال: قال لي منقد الحفّار: في المقبرة قيران مطابقان بالحجارة: قبر حسن بن علي، وقبر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنحن لا نحركهما.
قلت: وأمهات المؤمنين كلهن بالمدينة، إلا خديجة فبمكة، وإلا ميمونة فبسرف.
قبر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه
وروى ابن شبة عن الزهري قال: جاءت أمّ حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فوقفت على باب المسجد، فقالت: لتخلّنّ بيني وبين دفن هذا الرجل أو لأكشفنّ ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلوها، فلما أمسوا جاء جبير بن مطعم وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير وأبو الجهم بن حذيفة وعبد الله بن حسل، فحملوه فانتهوا به إلى البقيع، فمنعهم من دفنه ابن بحرة، ويقال: ابن نحرة الساعدي، فانطلق به إلى حش كوكب، وهو بستان بالمدينة، فصلّى عليه جبير ودفنوه وانصرفوا.
وعن عروة بن الزبير قال: منعهم من دفن عثمان بالبقيع أسلم بن أوس بن بحرة الساعدي، فانطلقوا به إلى حش كوكب، فصلى عليه حكيم بن حزام، وأدخل بنو أمية حش كوكب في البقيع.
وعن عثمان بن محمد الأخنسي عن أم حكيمة قالت: كنت مع الأربعة الذين دفنوا عثمان بن عفان: جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وحملوه على باب أسمع قرع رأسه على الباب كأنه دباة، ويقول: دب دب، حتى جاؤوا به حش كوكب فدفن به، ثم هد عليه الجدار وصلّى عليه هناك.
قال: وحش كوكب: موضع في أصل الحائط الذي في شرقي البقيع الذي يقال له خضراء أبان، وهو أبان بن عثمان.
قلت: ولذلك تسمى تلك الناحية إلى اليوم بالحضاري.
وفي طبقات ابن سعد عن مالك بن أبي عامر قال. كان الناس يتوقّون أن يدفنوا موتاهم في حشّ كوكب، فكان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقول: يوشك أن يهلك رجل صالح فيدفن هناك فيأتسي الناس به، قال: فكان عثمان أول من دفن به.
وروى ابن شبة عن عبد الله بن فروج قال: كنا مع طلحة فقال لي ولابن أخيه عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله: انطلقا فانظرا ما فعل الرجل، قال: فدخلنا فإذا هو مسجّى بثوب أبيض، فرجعنا إلى طلحة فأخبرناه، فقال: قوموا إلى صاحبكم فواروه، فانطلقنا فجمعنا عليه ثيابه كما يصنع بالشهيد، ثم أخرجناه ليصلي عليه، فقالت المصرية: والله لا يصلّي عليه، فقال أبو الجهم بن حذيفة: والله إن عليكم أن لا تصلوا عليه، قد صلّى الله عليه، فنغزوه ساعة بنعال سيوفهم حتى ظننت أن قد قتلوه، ثم أرادوا دفنه مع نبي الله(3/98)
صلى الله عليه وسلم، وكان قد استوهب من عائشة رضي الله تعالى عنها موضع قبر فوهبت له، فأبوا، فدفن في مقبرة كان قد اشتراها فزادها في المقبرة، فكان أول من دفن فيها.
وقيل: إن عمرو بن عثمان صلّى عليه يومئذ.
وروى ابن زبالة عن ابن شهاب وغيره أن عثمان منع من البقيع، فدفن في حش كوكب، وكان عثمان بن مظعون أول من دفن بالبقيع، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل مهراس علامة على قبره ليدفن الناس حوله، وقال: لأجعلنّك للمتقين إماما، فلما استعمل معاوية مروان بن الحكم على المدينة في ملكه أدخل الحش في البقيع، وحمل المهراس فجعله على قبر عثمان، وقال: عثمان وعثمان، فدفن الناس حول عثمان رضي الله تعالى عنه.
قبر سعد بن معاذ الأشهلي رضي الله تعالى عنه
نقل ابن شبة عن عبد العزيز أنه أصيب يوم الخندق، فدعا فحبس الله عنه الدم، حتى حكم في بني قريظة، ثم انفجر كله؛ فمات في منزله في بني عبد الأشهل، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه في طرف الزقاق الذي بلزق دار المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو، وإنما تبنّاه الأسود بن عبد يغوث الزهري، وهي الدار التي يقال لها دار ابن أفلح في أقصى البقيع عليها جنبذة، انتهى. وهذا الوصف صادق بالمشهد المنسوب لفاطمة بنت أسد؛ لكونه بطرف زقاق في أقصى البقيع: وفي شرقيه ناحية بني ظفر وبني عبد الأشهل، فلعله قبره، ولكن وقع الاشتباه في نسبته لفاطمة رضي الله تعالى عنها لما قدمناه في قبرها، والله أعلم.
قبر أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه
وروى ابن شبة عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قال لي أبي: يا بني، إني قد كبرت، وذهب أصحابي وحان مني، فخذ بيدي، فأخذت بيده حتى جئت إلى البقيع، فجئت أقصى البقيع مكانا لا يدفن فيه، فقال: يا بني، إذا هلكت فاحفر لي هاهنا، لا تبك عليّ باكية، ولا يضر بن عليّ فسطاط، ولا يمشي معي بنار، ولا تؤذنن أحدا، واسلك بي زقاق عمقة، وليكن مشيك بي خببا، وفي رواية ثم اتكأ علي فأتى البقيع حيث لا يدفن أحد، فقال: إذا مت فادفني هاهنا، واسلك بي زقاق عمقه، وزاد: ولا تبك عليّ نائحة، وامشوا بي الخبب، ولا تؤذنوا بي أحدا، قال: فيأتيني الناس متى يخرج، فأكره أن أخبرهم لما قال لي، فأخرجته في صدر النهار، فأتيت البقيع وقد ملئ ناسا.
بيان المشاهد المعروفة اليوم بالبقيع وغيره من المدينة الشريفة
أعلم أن أكثر الصحابة رضي الله عنهم- كما قال المطري- ممن توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته مدفنون بالبقيع، وكذلك سادات أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وسادات التابعين.(3/99)
وفي مدارك عياض عن مالك أنه مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف، وباقيهم تفرقوا في البلدان.
وقال المجد: لا شك أن مقبرة البقيع محشوة بالجماء الغفير من سادات الأمة، غير أن اجتناب السلف الصالح من المبالغة في تعظيم القبور وتجصيصها أفضى إلى انطماس آثار أكثرهم، فلذلك لا يعرف قبر معينين منهم إلا أفرادا معدودة.
قلت: وقد ابتنى عليها مشاهد: منها مشهد على يمينك إذا خرجت من باب البقيع قبلى المشهد المنسوب لعقيل بن أبي طالب وأمهات المؤمنين، تحوى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحسن بن علي، ومن تقدم ذكره معه، وعليهم قبة شامخة في الهواء، قال ابن النجار: وهي كبيرة عالية قديمة البناء وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم، ولم يذكر الذي بناها، وقال المطري: بناها الخليفة الناصر أحمد بن المستضئ.
قلت: وفيه نظر؛ لأن الناصر هذا كان معاصرا لابن النجار؛ لأنه توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ووفاة ابن النجار سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وقد قال ابن النجار: إن هذه القبة قديمة البناء، ووصفها بما هي عليه اليوم. ورأيت في أعلى محراب هذا المشهد:
أمر بعمله المنصور المستنصر بالله، ولم يذكر اسمه ولا تاريخ العمارة، فلعله المنصور الذي هو ثاني خلفاء بني العباس، لكنه لا يلقب بالمستنصر بالله، ولم أر من جمع بين هذين اللقبين، وعلى ساح قبر العباس أن الآمر بعمله المسترشد بالله سنة تسع عشرة وخمسمائة، ولعل عمارة القبة قبله، وقبر العباس وقبر الحسن مرتفعان من الأرض متسعان مغشّيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق مصفحة بصفائح الصفر مكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر.
وينبغي أن يسلم زائرهما على من قدمنا ذكر دفنه عندهما في قبر فاطمة والحسن رضي الله تعالى عنهما، وهناك قبور كثيرة لأمراء المدينة وأقاربهم من الأشراف يدفنون بهذا المشهد.
وفي غربيه قبر ابن أبي الهيجاء وزير العبيديين، عليه بناء، وقبر آخر يعرف بابن أبي النصر عليه بناء أيضا.
وفي شرقي المشهد بعيدا منه حظيرتان في إحداهما الأمير جوبان صاحب المدرسة الجوبانية، وفي الآخرى بعض الأعيان ممن نقل إلى المدينة، وإنما نبهت على ذلك خوفا من الالتباس على طول الزمان.
ومنها: مشهد في قبلة المشهد المنسوب لعقيل متصل به، قال المطري: يقال: إن فيه قبور أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/100)
وقال ابن النجار- في القبور المعروفة في زمانه- ما لفظه: وقبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن أربعة قبور ظاهرة، ولا يعلم تحقيق من فيها منهن.
قلت: باطن هذا المشهد كله أرض مستوية ليس فيها علامة قبور، وكان حظيرا مبنيّا بالحجارة كما ذكره المطري، فابتنى عليه قبة الأمير بردبك المعمار سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة.
ومنها: مشهد عقيل بن أبي طالب على ما ذكره ابن النجار، وتبعه من بعده، قال:
ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله الجواد بن جعفر الطيار، كما قدمناه عنه في قبر أبي سفيان بن الحارث، مع بيان أن ذلك المشهد من دار عقيل، وأن الذي نقل دفنه هناك إنما هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأن عقيلا مات بالشام خلاف قول المطري إن المنقول دفنه في داره، وجوزنا أن يكون نقل من الشام إليها، فينبغي السلام على الثلاثة المذكورين هناك، وتقدم استجابة الدعاء عند زاوية الدار المذكورة.
ومنها: روضة بقرب مشهد عقيل، يقال: إن فيها ثلاثة من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قاله المجد، وجعله مما يعرف في زمنه بالبقيع، ولم أره في كلام غيره، ولولا ذكره لمشهد سيدنا إبراهيم قبل ذلك لحملنا كلامه عليه، وليس بقرب مشهد عقيل إلا القبة المتهدمة التي في غربي مشهد أمهات المؤمنين، ولا يعرف من بها، فلعلها مراده، أو القبة الآتي ذكرها في مشهد الإمام مالك رضي الله تعالى عنه في ركنه الشرقي الشمالي، فإن كلا منهما يصح وصفها بالقرب من مشهد عقيل، ثم تبين أن مراده الأولى التي في غربي مشهد أمهات المؤمنين، فإن ابن جبير ذكر في رحلته روضة عقيل، ثم روضة أمهات المؤمنين، ثم قال:
وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب، إلى آخره، فهذا مأخذ المجد.
ومنها: مشهد سيدنا إبراهيم بن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبره على نعت قبر الحسن والعباس، وهو ملصق إلى جدار المشهد القبلي، وفي هذا الجدار شباك، قال المجد: وموضع تربته يعرف ببيت الحزن، يقال: إنه البيت الذي أوت إليه فاطمة رضي الله تعالى عنها، والتزمت الحزن فيه بعد وفاة أبيها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، انتهى.
والمشهور ببيت الحزن إنما هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة في قبلة مشهد الحسن والعباس، وإليه أشار ابن جبير بقوله: ويلي القبة العباسية بيت لفاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوت إليه والتزمت الحزن فيه عند وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفيه قبرها على أحد الأقوال كما قدمناه، وأظنه في موضع بيت علي بن أبي طالب الذي كان اتخذه بالبقيع، وفيه اليوم هيئة قبور.(3/101)
وفي شامي قبر سيدنا إبراهيم بمشهده صورة قبرين حادثين لم يذكرهما ابن النجار، ولا من تبعه، إنما ذكروا ما قدمناه من كونه إلى جانب عثمان بن مظعون وأن عبد الرحمن بن عوف أوصى أن يدفن هناك، وأنه ينبغي زيارتهما معه.
قلت: وكذا كل من قدمنا ذكر دفنه هناك.
ومنها: مشهد صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم الزبير بن العوام، على يسارك عند ما تخرج من باب البقيع، وهو بناء من حجارة لا قبّة عليه، قال المطري:
وأرادوا عقد قبة صغيرة عليه فلم يتفق ذلك.
ومنها: مشهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وعليه قبة عالية ابتناها أسامة بن سنان الصالحي أحد أمراء السلطان السعيد صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة إحدى وستمائة، قاله المطري، قال الزين المراغي: ونقل أبو شامة أن الباني لها عز الدين سلمة.
قلت: ولم يذكر ابن النجار هذه القبة، مع ذكره لقبة الحسن والعباس وسيدنا إبراهيم وغيرهما مما كان في زمنه، وقد أدرك التاريخ الذي ذكره المطري وبعده بكثير.
وبمشهد سيدنا عثمان قبر خلف قبره يقال: إنه قبر متولي عمارة القبة.
وقد حدث في زماننا أمام المشهد في المغرب بناء مربع عليه قبو فيه امرأة كانت أم ولد لبعض بني الجيعان توفيت بالمدينة الشريفة، وإلى جانبه حظيرة فيها امرأة لبعض الأتراك، وبين هذا البناء وبين المشهد أيضا حظيرة أخرى بها أخت صاحبنا قاضي الحرمين العلامة محيي الدين الحنبلي متع الله به.
ومنها: مشهد فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما بأقصى البقيع، على ما فيه مما تقدم في ذكر قبرها، وينبغي أن يسلم هناك على سعد بن معاذ لما سبق.
مشهد مالك بن أنس الأصبحي
ومنها: مشهد الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة إذا خرجت من باب البقيع كان مواجها لك عليه قبة صغيرة وإلى جانبه في المشرق والشام قبة لطيفة أيضا، لم يتعرض لذكرها المطري ومن بعده، فيحتمل أن تكون حادثة، ويقال: إن بها نافعا مولى ابن عمر.
وفي كلام ابن جبير عند ذكر المشاهد المعروفة في زمنه ما يؤخذ منه أن بين مشهد سيدنا إبراهيم عليه السلام وبين مشهد مالك تربة عن يمين مشهد سيدنا إبراهيم، وأنها تربة ابن لعمر رضي الله عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط، قال: وهو المعروف بأبي شحمة، وهو الذي جلده أبو الحدّ فمرض ومات، وما ذكره ينطبق على القبة المذكورة.(3/102)
مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق
ومنها: مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق، وهو كبير يقابل مشهد العباس في المغرب، وهو ركن سور المدينة اليوم من القبلة والمشرق، بني قبل السور، فاتصل السور به، فصار بابه من داخل المدينة، قال المطري: بناه بعض العبيديين من ملوك مصر.
قلت: على باب المشهد الأوسط الذي أمامه الرحبة التي بها البئر التي يتبرك بها حجر فيه أن حسين بن أبي الهيجاء عمره سنة ست وأربعين وخمسمائة، ولعله المطري نسب ذلك لبعض العبيديين؛ لأن ابن أبي الهيجاء كان من ورائهم.
قال المطري: ويقال إن عرصة هذا المشهد وما حوله من جهة الشمال إلى الباب كانت دار زين العابدين، وبجانب المشهد الغربي مسجد صغير مهجور يقال: إنه مسجد زين العابدين.
قلت: على يمين الداخل إلى المشهد بين الباب الأوسط والأخير حجر منقوش فيه وقف الحديقة التي بجانب المشهد في المغرب على المشهد: وقفها إن أبي الهيجاء، ونسبة المسجد الذي بطرف الحديقة بجانب المشهد لزين العابدين، وأن عرصة المشهد داره، وأن بئره تلك يتداوى بها.
ويقال: إن ابنه جعفرا الباقر سقط بها وهو صغير، وزين العابدين يصلي، فلم يقطع صلاته.
وفي كلام ابن شبة ما يصلح أن يكون مستندا في نسبة تلك العرصة لزين العابدين؛ لذكره دارا تقرب من وصفها، ونسبها لولده، فقال: واتخذت صفية بنت حيي دار زيد بن علي بن حسين بن علي، وقد صارت دارين، وهما جميعا دار واحدة، بنى زيد بن علي شقها الشرقي الذي يلي البقيع، وبنى آل أبي سويد الثقفي شقها الغربي الذي يلي دار السائب مولى زيد بن ثابت، فيحتمل أنه نسبها لولده لكونه بناها وكانت لأبيه، وقال أيضا: واتخذ جعفر بن أبي طالب دارا بين دار أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم بالبقيع وبين دار أسماء بنت عميس التي في شامي دار أبي رافع تحت سقيفة محمد بن زيد بن علي بن حسين. وبيّن ابن شبة أن دار أبي رافع ناقل بها سعد بن أبي وقاص أبا رافع فدفع لأبي رافع داره بالبقال.
وقد تقدم ذكر الشارع الذي يخرج إلى البقال في قبور أمهات المؤمنين، وأنه في غربي المشهد المعروف بهن؛ لما سيأتي في ترجمة البقال، وقد جدد مسجد زين العابدين سنة أربع وثمانين وثمانمائة.
وأما المشاهد المعرفة بالمدينة في غير البقيع فثلاثة.(3/103)
مشهد حمزة
أحدها: مشهد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنه. وسيأتي ذكره مع شهداء أحد في الفصل بعده، وعليه قبة عالية حسنة متقنة، وبابه مصفح كله بالحديد بنته أم الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضئ، كما قاله ابن النجار، وذلك في سنة تسعين وخمسمائة، قال: وجعلت على القبر ملبنا من ساج، وحوله حصباء، وباب المشهد من حديد، يفتح كل يوم خميس، وقريب منه مسجد يذكر أنه موضع مقتله، انتهى. وتبعه عليه من بعده. ووصفه القبر بأن عليه ملبن خشب، يعني أنه كهيئة قبر سيدنا إبراهيم، فإنه عبر فيه بذلك أيضا، وقبر سيدنا إبراهيم على ذلك الوصف اليوم، وكذلك الحسن والعباس.
وأما قبر حمزة فإنه اليوم مبني مجصّص بالقصّة لا خشب عليه، وفي أعلاه من ناحية رأسه حجر فيه بعد البسملة: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 18] هذا مصرع حمزة بن عبد المطلب عليه السلام، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم، عمره العبد الفقير إلى رحمة ربه حسين بن أبي الهيجاء، غفر الله له ولوالديه سنة ثمانين وخمسمائة، انتهى.
وهذا قبل عمارة أم الناصر بعشر سنين، وابن النجار إنما قدم المدينة بعد ذلك؛ لأنه ألّف كتابه سنة مجاورته بها، ومولده سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، فمقتضى ذلك أن ابن النجار أدرك القبر وهو بهذه الهيئة من الكتابة، وقد صرح بخلافها، وأيضا فالتعبير في تلك الكتابة بمصرع حمزة وتصديره بالآية دليل الخطأ في إثبات ذلك المسن هناك، فالصواب أن ذلك المسن كان بالمسجد المعروف اليوم بالمصرع، وكأنه لما تهدّم نقل إلى المشهد لقربه منه، ثم لما تكسر الخشب الذي ذكر ابن النجار أنه كان على القبر بنوا القبر على هذه الهيئة، وظنوا أن ذلك المسن لوضعه بالمشهد يتعلق به، فأثبتوه بالقبر. ويؤيد ذلك أن نسبة عمارة القبة لأم الخليفة في التاريخ المذكور موجودة اليوم بالكتابة الكوفية نقشا في جدار المشهد بالجص، واقتلع الشجاعي شاهين شيخ الحرم المسنّ المذكور وأعاده إلى محله بالمصرع، ومقتضى ما سبق عن ابن النجار ومن تبعه أن أم الخليفة الناصر لدين الله هي أول من اتخذ المشهد المذكور على سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه، وسيأتي في الفصل بعده عند ذكر قبر حمزة رضي الله تعالى عنه عن عبد العزيز بن عمران أنه كان على قبر حمزة قديما مسجد، وذلك في المائة الثانية، فكأن أم الخليفة وسّعته وجعلته على هذه الهيئة الموجودة اليوم، وقد زاد فيه سلطان زماننا الأشرف فانتباي أعز الله نصره زيادة من جهة المغرب أدخل فيها البئر التي كانت خارجة في غربيه، واتخذ هناك أخلية لمن يريد الطهارة، وجعل بعضها بالسطح، فعمّ النفع بذلك،(3/104)
واحتفر بئرا خارجه بجهة المغرب أيضا يرتفق بها المارة، وذلك في شهر جمادى الأولى سنة تسعين وثمانمائة على يد الشجاعي شاهين الجمالي شيخ الحرم الشريف النبوي، وشاد عمائره، عظم الله شأنه.
وأعلم أن القبر الذي بالمشهد عند رجلي سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه قبر رجل تركي اسمه سنقر، كان متولي عمارة المشهد، والقبر الذي بصحن المسجد قبر بعض أمراء المدينة من الأشراف، فلا يظن أنهما من قبور الشهداء رضوان الله عليهم، وسيأتي في قبر حمزة رضي الله تعالى عنه أنه ينبغي أن يسلم معه على مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش؛ لما سيأتي فيه.
مشهد مالك بن سنان الخدري
ثانيها: مشهد مالك بن سنان، والد أبي سعيد الخدري، في غربي المدينة ملاصقا للسور، وسيأتي ما جاء فيه في الفصل بعده، وعليه قبة قديمة البناء بها محراب، وعن يمينه باب خزانة صغيرة فيها بناء أصغر من صفة القبور يظن الناس أنه محل القبر، والظاهر أن القبر بالقبة المذكورة، لما سيأتي في ذكر من قيل إنه نقل من شهداء أحد من قول ابن أبي فديك إنه بالمسجد الذي عند أصحاب العباء في طرف الحناطين، لكن في رواية ابن زبالة أنه دفن عند مسجد أصحاب العباء: أي الذين يبيعون العبي، وذلك المحل من سوق المدينة القديم.
مشهد النفس الزكية
ثالثها: المشهد المعروف بالنفس الزكية، وهو السيد الشريف الملقب بالمهدي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضوان الله تعالى عليهم، قتل في أيام أبي جعفر المنصور، وهذا المشهد شرقي جبل سلع، وعليه بناء كبير بالحجارة السود، قصدوا أن يبنوا عليه قبة فلم يتفق، وهو داخل مسجد كبير مهجور، وفي قبلة المسجد منهل من عين الأزرق مدرج من شرقيه وغربيه. والعين تجري في وسطه، وتقدم في سوق المدينة أن ابن زبالة عبر عن ذلك ببركة السوق، ولعل ذلك المسجد هو المنسوب إلى الأعرج كما تقدم في مصلى العيد.
وما ذكرناه من كون النفس الزكية بهذا المشهد ذكره المطري ومن تبعه، وهو المستفيض بين أهل المدينة، لكنه مخالف لما ذكره سبط ابن الجوزي في رياض الأفهام، فإنه ذكر خروجه على المنصور بعد حبسه لأبيه وأقاربه، فبايعه كثير من الناس، قال: فجهز إليه المنصور عيسى بن موسى عم المنصور في أربعة آلاف، فجاء ووقف على سلع وقال: يا محمد، لك الأمان، فصاح به: والله ما تفوز، والموت في عزّ خير من الحياة في ذل، فاغتسل هو ومن(3/105)
بقي من أصحابه وتحنّطوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وحملوا على عيسى وأصحابه، فهزموا ثلاثا، ثم تكاثروا عليهم فقتلوهم، وأتوا عيسى بن موسى برأس محمد. ووارت أخته زينب وابنته فاطمة جسده بالبقيع، وكان قتله عند أحجار الزيت، وكان معه ذو الفقار سيف عليّ رضي الله تعالى عنه، فأخذه عيسى بن موسى، ثم انتقل إلى الرشيد.
قال الأصمعي: أنا رأيته، وفيه ثماني عشرة فقارة، اه
وقال محمد- أعني النفس الزكية- في يوم قتالهم لعبد الله بن عامر السلمي: تغشانا سحابة، فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي عند أحجار الزيت. قال عبد الله: فو الله لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا، وتجاوزتنا إلى عيسى بن موسى وأصحابه، فظفروا، وقتلوا محمدا، ورأيت دمه عند أحجار الزيت، وبسبب محمد هذا ضرب عيسى بن موسى الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، نقل ذلك المقريزي.
الفصل السابع في فضل أحد والشّهداء به
الأحاديث الواردة في فضل أحد
روينا في الصحيحن وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد لما بدا له: هذا جبل يحبنا ونحبه.
وفي رواية للبخاري بيان أن ذلك كان عند القدوم من خيبر، ولفظ رواية ابن شبة عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، فلما بدا لهم أحد قال، الحديث.
وفي رواية له عن سويد الأنصاري قال. قفلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، فلما بدا له أحد قال: الله أكبر، جبل يحبنا ونحبه.
ورواه أحمد والطبراني برجال الصحيح إلا عقبة بن سويد، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا.
وفي فضائل المدينة للجندي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم «طلع أحدا فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه» وفي رواية له «طلع علينا أحدا» وفي رواية أخرى للبخاري أن ذلك كان في رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحج.
وفي رواية عن أبي حميد الساعدي قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فلما أشرفنا على المدينة قال: «هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه» ورواه ابن شبة أيضا.
وفي رواية له قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من منزله، حتى إذا كنا بغرابات نظر إلى أحد فكبر ثم قال «جبل يحبنا ونحبه، جبل سائر ليس من جبال أرضنا» .
وروى أيضا بإسناد جيد عن أبي قلابة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء من سفر فبدا له أحد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه، ثم قال: آيبون نائبون ساجدون لربنا حامدون.(3/106)
وروى أيضا عن أبي هريرة قال: لما قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر بدا لنا أحد، فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، إن أحدا هذا لعلي باب من أبواب الجنة.
وروى الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي عبس بن جبر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأحد: هذا جبل يحبنا ونحبه، على باب من أبواب الجنة، وهذا غير جبل يبغضنا ونبغضه، على باب من أبواب النار.
وفي الأوسط- وفيه كثير بن زيد: تكلم فيه، ووثّقه أحمد وغيره من حديث أنس بن مالك مرفوعا «أحد جبل يحبنا ونحبه، فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه» ورواه ابن شبة بلفظ «أحد على باب من أبواب الجنة، فإذا مررتم به فكلوا من شجره، ولو من عضاهه» .
وروى أيضا عن زينب بنت نبيط، وكانت تحت أنس بن مالك، أنها كانت ترسل ولائدها فتقول: اذهبوا على أحد فأتوني من نباته، فإن لم تجدن إلا عضاها فأتني به، فإن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «هذا جبل يحبنا ونحبه» قالت زينب:
فكلوا من نباته ولو من عضاهه، قال: فكانت تعطينا منه قليلا قليلا فنمضغه.
وعن رافع بن خديج قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتشّ أحد إلا يوما بيوم.
وعن داود بن الحصين مرفوعا «أحد على ركن من أركان الجنة، وعير على ركن من أركان النار» .
وعن إسحاق بن يحيى بن طلحة مرسلا رفعه «أحد وورقان وقدس ورضوى من جبال الجنة» .
وروى أبو يعلى والطبراني في الكبير عن سهل بن سعد مرفوعا «أحد ركن من أركان الجنة» .
وفي الكبير أيضا عن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أربعة أجبال من أجبال الجنة، وأربعة أنهار من أنهار الجنة، وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة، قيل: فما الأجبال؟ قال: أحد يحبنا ونحبه جبل من جبال الجنة، وورقان جبل من جبال الجنة، والطور جبل من جبال الجنة، ولبنان جبل من جبال الجنة، والأنهار الأربعة النيل والفرات وسيحان وجيحان، والملاحم بدر وأحد والخندق وحنين» .
ورواه ابن شبة مختصرا، وروى عن أبي هريرة نحوه، وقال فيه: وسكت عن الملاحم، وعن أبي هريرة أيضا قال: خير الجبال أحد والأشعر وورقان.
ونقل الحافظ ابن حجر اختلاف الروايات في الأجبل التي بنى منها البيت الحرام، وفي بعضها أنه أسس من ستة أجبل: أبي قبيس، والطور، وقدس، وورقان، ورضوى، وأحد.(3/107)
وروى ابن شبة عن أنس بن مالك مرفوعا «لما تجلّى الله عز وجل للجبل طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، وقع بالمدينة أحد وورقان ورضوى، ووقع بمكة حراء وثبير وثور» .
موقع أحد من المدينة المنورة
قال أبو غسان راويه: فأما أحد فبناحية المدينة على ثلاثة أميال منها في شاميها، وأما ورقان فبالروحاء من المدينة على أربعة برد، وأما رضوى فبينبع على مسيرة أربع ليال، وأما حراء فبمكة وجاه بئر ميمون، وثور أسفل مكة هو الذي اختفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غاره.
قلت: ولم يبين ثبيرا، وما ذكره من المسافة إلى أحد يقرب مما حررته، فإني ذرعت ما بين عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب جبريل وبين المسجد الملاصق لجبل أحد المعروف بمسجد الفتح فكان ذلك ثلاثة أميال وزيادة خمسة وثلاثين ذراعا، وأما ما بين باب المدينة المعروف بباب البقيع وبين أول جبل أحد فميلان وأربعة أسباع ميل يزيد يسيرا، وبين باب البقيع ومشهد سيدنا حمزة ميلان وثلاثة أسباع ميل وخمس سبع ميل، وأذرع يسيرة، وقد علم بذلك التسامح الذي في قول النووي في تهذيبه: أحد بجنب المدينة على نحو ميلين، وكذا قول المطري ومن تبعه: بين مشهد حمزة والمدينة ثلاثة أميال ونصف أو ما يقاربه، وإلى جبل أحد نحو أربعة أميال، وقيل: دون الفرسخ، انتهى.
وجه تسمية أحد وحبه
وقال السهيلي: سمي هذا الجبل أحدا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، ولما وقع من أهله من نصر التوحيد.
وللعلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم «يحبنا ونحبه» أقوال:
أحدها: أنه على حذف مضاف، أي أهل أحد، وهم الأنصار؛ لأنهم جيرانه.
ثانيها: أنه للمسرة بلسان الحال؛ لأنه كان يبشره إذا رآه عند القدوم بالقرب من أهله، وذلك فعل المحب.
ثالثها: أن الحب من الجانبين على الحقيقة، وأنه وضع فيه الحبّ كما وضع في الجبال المسبحة مع داود، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74] سيما وقد جاء أنه طار من الجبل الذي تجلى الله عز وجل له كما سبق، وهذا الثالث هو الذي صححه النووي، وقال الحافظ ابن حجر: إن الظاهر أن ذلك لكونه من جبال الجنة، كما ثبت في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعا «جبل أحد يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة» أخرجه أحمد، ولا مانع في جانب الجبل من إمكان المحبة،(3/108)
كما جاز التسبيح منها، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب «اسكن أحد» الحديث.
وقال الحافظ المنذري: قال البغوي: الأولى إجراء الحديث على ظاهره، ولا ينكر وصف الجمادات بحب الأنبياء وأهل الطاعة كما حنّت الأسطوانة لمفارقته صلى الله عليه وسلم حتى سمع القوم حنينها، وكما أخبر أن حجرا كان يسلم عليه صلى الله عليه وسلم قبل الوحي؛ فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه وتحنّ إلى لقائه، قال المنذري: وهو جيد.
قلت: ويرجحه قوله في الحديث المتقدم «فإذا جئتموه فكلوا من شجره» فإن عيرا يجاوره أهل قباء، ويظهر للقادم من جهة مكة قبل أحد، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقال السهيلي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، والاسم الحسن، ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية، ومع ذلك فحركاته الرفع، وذلك مشعر بارتفاع دين الأحد، فتعلق الحب به من النبي صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنى، فخص بذلك.
وليضف إليه أن المحبة لما تعلقت من الجانبين، وكان المرء مع من أحب، كان هذا الجبل معه صلى الله عليه وسلم في الجنة إذا بسّت الجبال بسا.
وأيضا لما انقسم أهل المدينة إلى محب موحّد وهم المؤمنون وإلى منافق مبغض وهم الجاهلون الجاحدون كأبي عامر الراهب وغيره من المنافقين، وكانوا ثلث الناس يوم أحد رجعوا مع ابن أبي ولم يحضروا أحدا؛ انقسمت بقاع المدينة كذلك، فجعل الله تعالى هذا الجبل حبيبا محبوبا كمن حضر به، وجعله معه في الجنة، وخصه بهذا الاسم، وجعل عيرا مبغوضا إن صح الحديث فيه، وجعل بجهته المنافقين من أهل مسجد الضرار فرجعوا من جهة أحد إلى جهته فكان معهم في النار، وخصه باسم العير الذي هو الحمار المذموم أخلاقا وجهلا، والله أعلم.
وروى ابن شبة كما سبق في سكنى اليهود بالمدينة عن جابر بن عبد الله مرفوعا: خرج موسى وهارون عليهما السلام حاجّين أو معتمرين، حتى إذا قدما المدينة خافا اليهود فنزلا أحدا وهارون مريض، فحفر له موسى قبرا بأحد، وقال يا أخي ادخل فيه فإنك ميت، فدخل فيه، فلما دخل قبضه الله، فحثا موسى عليه التراب.
زعموا أن هارون مدفون بأحد
قلت: بأحد شعب يعرف بشعب هارون، يزعمون أن قبر هارون عليه السلام في أعلاه، وهو بعيد حسا ومعنى، وليس ثم ما يصلح للحفر وإخراج التراب. وفي أعلى أحد بناء اتخذه بعض الفقراء قريبا والناس يصعدون إليه، ولم يرد تعيين المحل الذي صعده النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، نعم ورد صلاته بالمسجد الملاصق به المعروف بمسجد الفتح كما سبق في المساجد.(3/109)
مزاعم في مواضع من جبل أحد
وقال ابن النجار: وفي جبل أحد غار يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم اختفى فيه، ومسجد يذكرون أنه صلى الله عليه وسلم فيه، وموضع في الجبل أيضا منقور في صخرة منه على قدر رأس الإنسان يذكرون أنه صلى الله عليه وسلم قعد- يعني على الصخرة التي تحته- وأدخل رأسه هناك، كل هذا لم يرد به نقل فلا يعتمد عليه.
قلت: أما المسجد فقد ثبت النقل به من رواية ابن شبة كما سبق، لكن لم يقف عليه ابن النجار.
وأما الغار فقال المطري: إنه في شماليّ هذا المسجد، والموضع المنقور والصخرة التي تحته بقرب المسجد، وروى ابن شبة عن المطلب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الغار بأحد.
وسيأتي في ترجمة المهراس قول ابن عباس: ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كان تحت المهراس، ومقتضاه أن الغار بعد المهراس، وسيأتي في ترجمة شعب أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى يوم أحد إلى فم الشعب وأسند فيه.
قال ابن هشام: وبلغني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الدرجة المبنيّة في الشعب، انتهى. وكأن من بناها ظن أن الصخرة التي نهض النبي صلى الله عليه وسلم ليعلوها، وجلس له طلحة بن عبيد الله كانت هناك، ولهذا أورده ابن هشام عند ذكرها.
شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لشهداء أحد
وروى يحيى أنه لما انكشف الناس يوم أحد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير فقال مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ إلى قوله وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء، فأتوهم وسلموا عليهم، فلن يسلم عليهم أحد ما قامت السموات والأرض إلا ردّوا عليه، ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفا آخر فقال: هؤلاء أصحابي الذين أشهد لهم يوم القيامة، فقال أبو بكر: فما نحن بأصحابك؟ فقال: بلى، ولكن لا أدري كيف تكونون بعدي، إنهم خرجوا من الدنيا خماصا.
ورواه الثعلبي المفسر إلا أنه قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد مرّ على مصعب بن عمير، فوقف عليه، ودعا له، ثم قرأ، وذكر الآية وما بعدها بنحوه، إلى قوله ثم وقف.
وروى أبو داود والحاكم في صحيحه حديث «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا(3/110)
عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يكلوا عن الحرب؟ فقال الله تعالى:
أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمران: 169] الآية» .
وفي صحيح البخاري حديث «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض» .
وروى ابن شبة وأبو داود عن طلحة بن عبيد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نريد قبور الشهداء، حتى إذا أشرفنا على حرّة واقم، فلما تدلينا منها فإذا قبور بمحنية، فقلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: قبور أصحابنا، فلما جئنا قبور الشهداء قال: هذه قبور إخواننا.
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه قبور الشهداء على رأس كل حول
وروى ابن شبة عن عباد بن أبي صالح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قبور الشهداء بأحد على رأس كل حول فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، قال: وجاءها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، رضي الله تعالى عنهم، فلما قدم معاوية بن أبي سفيان حاجا جاءهم، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا واجه الشعب قال: سلام عليكم بما صبرتم فنعم أجر العاملين.
وعن أبي جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر حمزة رضي الله تعالى عنه ترمّه وتصلحه، وقد تعلمته بحجر.
وروى رزين عنه أن فاطمة رضي الله تعالى عنها كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة.
ورواه يحيى بنحوه عن أبي جعفر عن أبيه علي بن الحسين، وزاد: فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت.
وروى الحاكم عن علي رضي الله تعالى عنه أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده.
وروى ابن شبة عن ابن عمر أنه قال: من مر على هؤلاء الشهداء فسلّم عليهم لم يزالوا يردون عليه إلى يوم القيامة.
وروى يحيى عن العطاف بن خالد قال: حدثتني خالة لي- وكانت من العوابد- قالت:
ركبت يوما معي غلام حتى جئت إلى قبر حمزة، فصليت ما شاء الله، ولا والله ما في الوادي داع ولا مجيب يتحرك، وغلامي قائم آخذ برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قمت(3/111)
فقلت: السلام عليكم، وأشرت بيدي فسمعت رد السلام عليّ من تحت الأرض، أعرفه كما أعرف أن الله خلقني، واقشعرت كل شعري مني، فدعوت الغلام فقلت: هات دابتي، فركبت.
وروى البيهقي في الدلائل من طريق العطاف بن خالد عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «زار قبور الشهداء بأحد، فقال: اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء، وأنهم من زارهم أو سلّم عليهم إلى يوم القيامة ردوا عليه» .
وقال العطاف: وحدثتني خالتي أنها زارت الشهداء فسلمت عليهم، فسمعت رد السلام، وقالوا: والله إنا نعرفكم كما يعرف بعضنا بعضا، قالت: فاقشعررت.
وذكر البيهقي أيضا رواية يحيى، وأن الواقدي قال: كانت فاطمة الخزاعية تقول: لقد رأيتني وغابت الشمس بقبور الشهداء ومعي أخت لي، فقلت لها: تعالي نسلم على قبر حمزة، فوقفنا على قبره، فقلنا: السلام عليكم يا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا كلاما رد علينا:
وعليكم السلام ورحمة الله، قالت: وما قربنا أحد من الناس.
ثم روى البيهقي عن هاشم بن محمد العمري من ولد عمر بن عليّ قال: أخذني أبي بالمدينة إلى زيارة قبور الشهداء في يوم جمعة بين الفجر والشمس، فكنت أمشي خلفه، فلما انتهى إلى المقابر رفع صوته فقال: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، قال: فأجيب وعليك السلام يا أبا عبد الله، فالتفت أبي إليّ فقال: أنت المجيب؟ فقلت: لا، فجعلني على يمينه، ثم أعاد السلام، ثم جعل كلما سلم يرد عليه، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فخرّ ساجدّا شكرا لله تعالى.
تسمية شهداء أحد
وقد تقدم في غزوة أحد أن الذين أكرمهم الله بالشهادة يومئذ سبعون رجلا، وقيل:
أكثر، وقيل: أقلّ، وقد سرد ابن النجار أسماءهم فتبعته ليسّلم عليهم من شاء بأسمائهم، فقال: حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشمّاس بن عثمان، هؤلاء الأربعة من المهاجرين.
ومن الأنصار: عمرو بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، وعمرو بن ثابت بن وقش، وثابت بن وقش، ورفاعة بن وقش، وحسيل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة، وصيفي بن قيظي بن عمرو، والحباب بن قيظي، وعباد بن سهل، والحارث بن أوس بن معاذ، وإياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن التيهان، ويقال عتيك، وحبيب بن زيد بن تيم، ويزيد بن حاطب بن أمية ابن رافع، وأبو سفيان بن الحارث بن قبس بن زيد، وأنيس بن قتادة، وحنظلة الغسيل ابن(3/112)
أبي عامر، وأبو حبة بن عمرو بن ثابت أخو سعد بن خيثمة لأمه، وعبيد الله بن جبير بن النعمان وخيثمة أبو سعد بن خيثمة، وعبد الله بن مسلمة، وسبيع بن حاطب بن الحارث، وعمرو بن قيس بن زيد، وابنه قيس بن عمرو، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف بن علقمة، وأوس بن ثابت بن المنذر أخو حسّان بن ثابت، وأنس بن النضر، وقيس بن مخلد، وكيسان مولى بني النجار، وسليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو، وخارجة بن زيد، وسعد بن الربيع، وأوس بن الأرقم بن زيد، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وسعد بن سويد بن قيس، وعلبة بن ربيع بن رافع، وثعلبة بن سعد بن مالك، ونقيب بن فروة بن البدن، وعبد الله بن عمرو بن وهب، وضمرة الجهني حليف لبني طريف. ونوفل بن عبد الله، وعباس بن عبادة بن نضلة ونعمان بن مالك بن ثعلبة، والمحذر بن زياد، وعبادة بن الحسحاس، ورفاعة بن عمرو، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح، وابنه خلاد، وأبو أيمن مولاه، وعبيدة بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل بن قيس بن أبي كعب، وذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى بن لوذان، ومالك بن نميلة، والحارث بن عدي بن خرشة، ومالك بن إياس، وإياس بن عديّ، وعمرو ابن إياس.
فهؤلاء الشهداء السعداء الذين صدقوا القتال بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوا وقتلوا، رضوان الله عليهم أجمعين.
ولنذكر ما علمناه من خبر قبورهم وتعيينها، فنقول:
سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ومصرعه
قبر حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذكر أنه معه ...
أخرج البخاري أن وحشيّا قال في خبر: فلما خرج الناس عام عينين، وعينين جبل بحيال أحد بينه وبينه واد، خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ ثم شدّ عليه فكان كأمس الذاهب، قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين وركيه، فكان ذلك آخر العهد به، ثم ذكر مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم- يعني لما أسلم- وقوله له: أنت قتلت حمزة؟ قال: قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عني؟
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة رضي الله تعالى عنه، وقد مثل به، جدع أنفه وأذناه وبقر بطنه عن كبده، فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا أن تحزن صفية ويكون سنة من بعدي لتركته(3/113)
حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ إليّ من هذا، ثم قال: جاءني جبريل وأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السّبع «حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله: وأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم فسجّي ببردة ثم صلى عليه فكبّر عليه سبعين ودفنه.
واختلاف الروايات في الصلاة على شهداء أحد مشهور، والذي في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحد قدّمه في اللحد، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا.
ونقل ابن شبة عن عبد العزيز عن ابن سمعان عن الأعرج قال: لما قتل حمزة رضي الله تعالى عنه أقام في موضعه تحت جبل الرّماة، وهو الجبل الصغير الذي ببطن الوادي الأحمر، ثم أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فحمل عن بطن الوادي إلى الرّبوة التي هو بها اليوم، وكفنه في بردة، وكفن مصعب بن عمير في أخرى، ودفنهما في قبر واحد.
قال عبد العزيز: وسمعت من يذكر أن عبد الله بن جحش بن رئاب قتل معهما، ودفن معهما في قبر واحد، وهو ابن أخت حمزة أمّه أميمة بنت عبد المطلب.
قال عبد العزيز: والغالب عندنا أن مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني على قبر حمزة، وأنه ليس مع حمزة أحد في القبر.
قلت: ينبغي أن يسلم عليهما مع حمزة بمشهده؛ لأنهما إن لم يكونا معه فبقربه، ولعل المشهد اليوم أوسع من ذلك المسجد، وسبق في المساجد ذكر المسجد الذي بمصرع حمزة رضي الله تعالى عنه، والمسجد الذي في جهة قبلته بطرف جبل الرّماة، وما جاء فيهما.
عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام
قبر عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله، ومن ذكر معهما.
روى مالك بن أنس عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السّلميين كانا في قبر واحد، وكانا ممن استشهد يوم أحد، وكان قبرهما مما يلي السيل، فحفر عنهما ليغيرا عن مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة.
وقال مالك: إن عمرو بن الجموع وعبد الله بن عمرو كفنا في كفن واحد وقبر(3/114)
واحد، رواه ابن شبة، ثم روى بسند جيد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال:
دفن مع أبي رجل يوم أحد في القبر فلم تطب نفسي حتى أخرجته فدفنته على حدة.
قلت: يحتمل أن سبب الإخراج ما تقدّم من أمر السيل، ووافق ذلك ما في نفس جابر؛ فتكون القصة واحدة، لكن روى البخاري في صحيحه خبر جابر مطولا، وفيه ما لفظه «قال: ودفنت معه آخر في قبره، فلم تطب نفسي أن أتركه مع أحد، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير هنية عند أذنه» .
فقوله: «بعد ستة أشهر» يقتضي أن ذلك ليس هو قصة أمر السيل؛ لأن المدة في تلك ست وأربعون سنة.
وروى ابن شبة عن جابر أيضا قال: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين، فأتيناهم فأخرجناهم رطابا تتثنّى أجسادهم، قال سعيد بن عامر أحد رواته: وبين الوقتين أربعون سنة.
وقال ابن إسحاق: حدثني أبي عن رجال من بني سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- حين أصيب عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو يوم أحد- اجمعوا بينهما؛ فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، قال أبي: فحدثني أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء استصرخنا عليهم، وقد انفجرت العين عليهما في قبورهما، فجئنا فأخرجناهما وعليهما بردتان قد غطّى بهما وجوههما، وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيا كأنهما دفنا بالأمس، نقله البيهقي في دلائل النبوة.
وعن جابر من حديث طويل قال: فبينا أنا في النظارين إذا جاءت عمّتي بأبي وخالتي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ينادي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمركم أن ترجعوا بالقتلى، فيدفنوا في مصارعهم حيث قتلوا، فرجعناهما، فدفنّاهما حيث قتلا، فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر، لقد أثار أباك عمال معاوية، فخرج طائفة منه، فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتال، فواريته، الحديث، رواه أحمد برجال الصحيح خلا نبيح الغنوي وهو ثقة.
قلت: فهذه قصة ثالثة؛ فيؤخذ من مجموع ذلك أن جابرا حفر عن أبيه ثلاث مرات:
الأولى: لعدم طيب نفسه بدفنه مع غيره، ولعله استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأذن له؛ لما يترتب عليه من ظهور ما يشهد لحياة الشهداء وسلامة أبدانهم، وكان دفنهم مجتمعين للضرورة واتساع الوقت ففعله، وكأنه لما أخرجه دفنه بإزاء قبر صاحبه وصهره محافظة على القرب من مصرعه، فقد جاء الأمر بدفنهم في مصارعهم.(3/115)
والثانية: لما أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه العين، وكان في ذلك أيضا ظهور المعجزة بحياة الشهداء، فقد أسند ابن الجوزي في مشكله عن جابر قال: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه العين، فأخرجناهم بعد أربعين سنة تتثنّى أطرافهم لينة أجسادهم، وفي بعض طرقه: كأنهم نوّم، حتى أصابت المسحاة قدم حمزة بن عبد المطلب فانبعث دم.
والثالث: لحفر السيل عنه وعن صاحبه.
وقد روى الواقدي أن قبرهما كان مما يلي السيل، فحفر عنهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في يده فيده على جرحه فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم، فردت إلى مكانها فسكن الدم، قال جابر: فرأيت أبي في حفرته فكأنه نائم، وبين ذلك ست وأربعون سنة.
قال: ويقال: إن معاوية لما أراد أن يجري الكظامة نادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيل بأحد فليشهد، فخرج الناس إلى قتلاهم، فوجدوهم رطابا يثنون، فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانبعث دم، فقال أبو سعيد الخدري: لا ينكر بعد هذا منكر، ووجد عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد فنقلا، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرهما، ولقد كانوا يجهزون التراب فحفروا ثره من تراب فاح عليهم ريح المسك.
قلت: وفيه مخالفة لما تقدم عن الصحيح؛ لاقتضائه بقائهما في قبر واحد حتى كان إجراء العين، وفي ذلك كله ظهور المعجزة، وهو السر في تكرر ذلك.
وروى ابن شبة عن أبي قتاة قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله أرأيت إن قاتلت حتى أقتل في سبيل الله تراني أمشي برجلي هذه في الجنة؟
قال: نعم، وكانت عرجاء، فقتل يوم أحد هو وابن أخيه، فمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد.
قال أبو غسان: قال الواقدي: مع عمرو في القبر خارجة بن زيد، وسعد بن الربيع، والنعمان بن مالك، وعبد الله بن الحسحاس، قال أبو غسان: وقبرهم مما يلي المغرب من قبر حمزة رضي الله تعالى عنه نحو خمسمائة ذراع.
قال: وأما ما يعرف اليوم من قبور الشهداء فقبر حمزة بن عبد المطلب، وهو في عدوة الوادي الشامية مما يلي الجبل، وقبر عبد الله بن حرام أبي جابر ومعه عمرو بن الجموح أي في الموضع المتقدم وصفه، وقبر سهل بن قيس بن أبي كعب بن القين بن كعب بن سواد من بني سلمة وهو دبر قبر حمزة شاميا بينه وبين الجبل.(3/116)
قال: فأما القبور التي في الحظار بالحجارة بين قبر حمزة وبين الجبل فإنه بلغنا أنها قبور أعراب أقحموا زمن خالد إذ كان على المدينة فماتوا هناك فدفنهم، سؤّال كانوا يسألون عند قبور الشهداء.
قال: وقال الواقدي: هم ماتوا زمن الرّمادة.
قلت: زمن الرمادة عام جدب مشهور، كان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وأما زمن خالد فيعني به خالد بن عبد الملك بن الحارث، كان واليا لهشام بن عبد الملك فقحط المطر في ولايته سبع سنين، وفيها جلا الناس من بادية الحجاز إلى الشام، ولا يعرف اليوم من قبور الشهداء غير قبر حمزة رضي الله تعالى عنه كما قاله ابن النجار.
قال: وأما بقية الشهداء فهناك حجارة مرصوصة يقال: إنها قبورهم.
قلت: ينبغي أن يسلم على بقيتهم عند قبر حمزة وفي غربيه وشاميه على النحو المتقدم.
وقال المطري ومتابعوه: وشمالي مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه آرام من حجارة يقال:
إنها من قبور الشهداء، ولم يثبت ذلك بنقل صحيح.
وقد ورد في بعض كتب المغازي أن هذه القبور قبور أناس ماتوا عام الرّمادة، ولا شك أن قبور الشهداء رضي الله تعالى عنهم حول قبر حمزة؛ إذ لا ضرورة أن يبعدوا عنه، انتهى.
قلت: قد تقدم النقل ببعد بعضهم عنه على نحو خمسمائة ذراع في المغرب، والمقتضى للبعد الأمر بدفنهم في مصارعهم، والقبور التي قيل إنها ليست قبورهم هي التي عليها حائز قصير من الأحجار قرب الجبل.
من دفن بالمدينة من قتلى أحد
ذكر قبور من قيل إنه نقل من شهداء أحد ودفن بقبره
قال ابن إسحاق: وكان ناس من المسلمين قد احتملوا قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا.
وتقدم في فصل مقبرة بني سلمة ما روى من دفن بعض قتلى أحد بها، منهم أبو عمرو بن سكن.
وتقدم في فصل قبل هذا أن خنيس بن حذافة تأخرت وفاته فمات بالمدينة، ودفن عند عثمان بن مظعون.
وروى ابن شبة عن عبد الرحمن بن عمران عن أبيه قال: نقلنا عبد الله بن سلمة والمحذر بن زياد فدفناهما بقباء.(3/117)
وقال عبد العزيز: إن رافع بن مالك الزرقي قتل بأحد فدفن في بني زريق، قال:
وقيل: إن موضع قبره في دار آل نوفل بن مساحق التي في بني زريق التي في كتّاب عروة.
وعن أبي سعيد الخدري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل من شهداء أحد إلى المدينة أن يدفنوا حيث أدركوا، فأدرك أبي مالك بن سنان عند أصحاب العباء فدفن، ثم قال ابن أبي فديك: فقبره في المسجد الذي عند أصحاب العباء في طرف الحناطين.
ورواه ابن زبالة بنحوه، إلا أنه قال: فوافوه بالسوق، فدفن مالك عند مسجد أصحاب العباء، وهناك أحجار الزيت.
قلت: وقد قدمنا بيان مشهده في المشاهد، ولكن روى الترمذي وقال حسن صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم، فجاءنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا بدفن القتلى في مصارعهم، فرددناهم، وليحمل على من لم يبلغوا به المدينة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/118)
الباب السادس في آبارها المباركات، والعين، والغراس، والصّدقات
التي هي للنبي صلى الله عليه وسلم منسوبات، وما يعزى إليه صلى الله عليه وسلم من المساجد، والمواضع التي صلّى فيها في الأسفار والغزوات، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول في آبارها المباركات
ورتبتها على حروف المعجم، معتمدا للأول فالأول من الاسم الذي تضاف إليه البئر، وختمته بتتمة في العين المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والعين الموجودة اليوم، وغيرهما:
بئر أريس- بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وإهمال آخره- نسبة إلى رجل من يهود يقال له أريس، ومعناه بلغة أهل الشام الفلّاح.
روينا في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقال: لألزمنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأكوننّ معه يؤمى هذا، فجاء إلى المسجد، فسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خرج، وجّه هاهنا، قال: فخرجت على أثره أسأل عنه، حتى دخل بئر أريس، قال: فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسّط قفها «1» وكشف عن ساقيه ودلّاهما في البئر، قال: فسلمت عليه، ثم انصرفت فجلست عند الباب، فقلت:
لأكوننّ بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فدفع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رسلك، قال: ثم ذهبت فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر وجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلّى رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت: هذا عمر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فجئت عمر فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، قال: فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلّى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يعني أخاه يأت به، فجاء إنسان فحرّك
__________
(1) القف: ما ارتفع من الأرض وصلبت حجارته. والمراد حائط البئر.(3/119)
الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، قال: وجئت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه، فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك، قال: فدخل فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاههم من الشق الآخر، قال شريك: فقال سعيد بن المسيب: فأوّلتها قبورهم.
قلت: وسيأتي في ترجمة الأسواق واقعة مثل هذه كان البواب فيها بلالا.
وروى أحمد والطبراني من وجوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قصة نحوها أيضا كان هو البواب فيها، وقال: بحشّ من حشان المدينة، وبعض أسانيدها رجاله رجال الصحيح، ولا مانع من تعدد ذلك.
وقد غاير رزين بين بئر أريس وبين البئر التي وقع الجلوس بقفها، فقال في ذكر الآبار المعروفة بالمدينة: بئر أريس التي سقط فيها الخاتم، وبئر القف التي أدلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها، وذكر بقية الآبار.
وروينا في صحيح البخاري من حديث أنس قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده وفي يد أبي بكر بعده وفي يد عمر بعد أبي بكر، قال فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به، فسقط، فقال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فنزح البئر فلم نجده، وفي مسند الحميدي عن ابن عمر أنه سقط مع معيقيب، وثبت ذلك من روايته في صحيح مسلم.
ورواه ابن زبالة عنه في الشك، فقال: فهو الخاتم الذي سقط من عثمان أو من معيقيب في بئر أريس.
وروى عنه النسائي وابن شبة واللفظ له حديث اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه من الورق، ونقشه فيه «محمد رسول الله» وصيرورته في يد عثمان سنين من عمله، ثم قال فيه: فلما كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار فكان يختم به، فخرج إلى قليب لعثمان فوقع فيها، فالتمس فلم يوجد، فأمر بخاتم من ورق فعمل عليه، ونقش «محمد رسول الله» .
ومعيقيب دوسي من أصحاب الهجرتين، لكن قد يوصف المهاجري بالأنصاري بالمعنى الأعم، والجمع بأن نسبة السقوط إلى عثمان رضي الله تعالى عنه محاذية لنيابة معيقيب عنه بعيد جدّا؛ لقوله في رواية البخاري السابقة «فأخرج الخاتم فجعل يعبث به فسقط» .
وكان سقوطه بعد ست سنين من خلافته، وكان فيه سر مما كان في خاتم سليمان عليه الصلاة والسلام؛ لذهاب ملكه عند فقده، ولما فقد عثمان الخاتم انتقض عليه الأمر، وخرج عليه من خرج، وكان ذلك مبتدأ الفتنة المتصلة إلى آخر الزمان.
وروى ابن زبالة عن ابن كعب القرظي قال: سقط- يعني الخاتم- من عثمان في بئر(3/120)
الخريف التي في بئر أريس، فعلّق عليها اثني عشر ناضحا فلم يقدر عليه حتى الساعة، فاقتضى أنه لم يكن في بئر أريس نفسها، ولهذا نقل ابن شبة عن ابن غسان سقوط الخاتم في بئر أريس وأنه قال: وقد سمعت من يقول: إنما سقط في بئر في صدقته يقال لها بئر خريف أي من آبار المال المسمى ببئر أريس؛ لأن ابن شبة قال أيضا: قال أبو غسان: ابتاع عثمان بئر أريس وفيها مال يقال له الدومة، ابتاعه من حي من الأنصار وفيه سهمه الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير، وفيها كيدمة مال لعبد الرحمن بن عوف، ثم روى أن عبد الرحمن بن عوف باع كيدمة من عثمان بأربعين ألف دينار، وأمر عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح فدفعها إليه، وأنه تصدق بها على أمهات المؤمنين وغيرهن.
وفي رواية أن عبد الرحمن أوصى بكيدمة لأمهات المؤمنين، فبعنها من عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
ثم قال: قال أبو غسان: وأما أريس الذي نسب إليه المال فإن عبد العزيز بن عمران حدثني عن عنبس العقبي قال: أريس رجل من يهود بني محمم، وكان له ذلك المال، وفيه بئر عاضر التي يقول فيها اليهودي:
أمرت بلالا أن يعلق دلوه ... على الأعليين اليوم من بئر عاضر
فجمعها عثمان رضي الله تعالى عنه في حظار واحد، وهي سبعة أموال، فتصدق بها، قال: فحدث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن إبراهيم بن عبد الله بن فروخ عن أبيه عن جده قال: دخل علينا عثمان بئر أريس، وقد لفقنا له عذقا منها، فقال: ما هذا؟ فقلنا: لفقناه لك يا أمير المؤمنين، قال: إنما تصدّقت بها على ذوي القربى والفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل، حتى العافية عافية الطير والسباع، قال: وقد كان لصدقة عثمان رضي الله تعالى عنه فيما بلغني ذكر في حجر منقوش على باب بئر أريس فطرحه بعض ولاة المدينة في بئر من تلك الآبار، انتهى ما نقله ابن شبة عن أبي غسان ملخصا.
وسيأتي في ترجمة كيدمة أنها سهم عبد الرحمن بن عوف من بني النضير، وأن بقرب المشرية والجرع المعروف بالحسينات موضع يعرف بكيادم بلفظ الجمع، والدومة معروفة اليوم بالعالية قرب بني قريظة، وبقربها موضع يعرف بالدويمة أيضا.
وهذا يشكل على ما هو معروف اليوم، وبه صرح ابن النجار كالغزالي، وتبعه من بعده، من أن بئر أريس هي المقابلة لمسجد قباء في غربيه، ويزيد الإشكال قوة أن بني النضير وبني محمم لم يكونوا بقباء، بل بجهة الدومة المذكورة وما والاها، كما يعلم مما تقدم في المنازل.
وكنت قد أجبت عن ذلك باحتمال أن يكون بعض أموالهم كان بقباء وأن يكون منها ما يسمى بالدومة وبكيدمة في تلك الجهة ثم نسي تسميته بذلك.(3/121)
ثم رأيت في كلام ابن زبالة ما يردّ ذلك، ويزيد الإشكال قوة فإنه قال في صدقات النبي صلى الله عليه وسلم ما لفظه: وأما الدلال والصافية فإنهما يشربان من سرح عثمان بن عفان الذي يشقّ من مهزور في أمواله، يأتي على أريس وأسفل منه حتى يتبطّن السورين، فصرفه- أي عثمان رضي الله تعالى عنه- مخافة على المسجد في بئر أريس، ثم في عقد أريم في بلحارث بن الخزرج، ثم صرفه إلى بطحان، انتهى.
والموضع المعروف بقباء لا يمكن وصول شيء من مهزور إليه، كما يعلم مما سيأتي في وصف وادي مهزور، فالله أعلم.
من فضل بئر أريس
قال المجد: ومما يذكر في فضل بئر أريس ما رويناه عن زيد بن خارجة أنه عاش بعد الموت وذكر أمورا: منها ما يدل على فضل هذه البئر، وسياق الخبر عن النعمان بن بشير قال: لما توفي زيد بن خارجة انتظر به خروج عثمان، فكشف الثوب عن وجهه وقال:
السلام عليكم، قال: وأنا أصلّي، فقلت: سبحان الله، فقال: أنصتوا أنصتوا، محمد رسول الله، كان ذلك في الكتاب الأول، صدق صدق صدق، أبو بكر الصديق، ضعيف في جسده قوي في أمر الله كان ذلك في الكتاب الأول، صدق صدق صدق، عمر بن الخطاب، قوي في أمر الله كان ذلك في الكتاب الأول، صدق صدق صدق، عثمان بن عفان، اثنتان وبقي أربع، وأبيحت إلا حمى بئر أريس وماء بئر أريس.
وقد رويت هذه القصة من وجوه عن النعمان بن بشير، ذكره الذهبي في التذهيب.
قلت: رواها ابن شبة بنحوه، إلا أنه قال في آخرها: بئر أريس اختلف الناس، ارجعوا إلى خليفتكم فإنه مظلوم.
وقال في رواية أخرى: ثم قال: أخذت بئر أريس، ثم خفت الصوت.
وروى البيهقي في دلائل النبوة هذه القصة من وجوه، وقال في بعضها: إسناده صحيح، وفسر قوله «اثنتان» بأن ذلك كان بعد مضي سنتين من خلافة عثمان، والأربع البواقي من خلافته، والأمر في بئر أريس سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بعد ست سنين من خلافة عثمان، فعند ذلك تغيرت علمه، وظهرت أسباب الفتن، انتهى.
قال المجد: وفي الإحياء للغزالي أن النبي صلى الله عليه وسلم «تفل في بئر أريس» ولم أجد ذلك عند غيره، وأعاد المجد ذكر بئر أريس في ترجمة قباء وقال: إنها التي تفل فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم فعذبت بعد أن كان ماؤها أجاجا، ولم ينسبه للغزالي، وهو في ذلك متابع لابن جبير في رحلته.
وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: إنه لم يقف على أصل الحديث في تفله صلى الله عليه وسلم في بئر أريس.(3/122)
قلت: ومن الغريب قول ابن جماعة في مناسكه الكبرى في باب الفضائل «فضل بئر أريس: قد صحّ أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل فيها، وأنه سقط فيها خاتمه» انتهى.
وخرج البيهقي من حديث إبراهيم بن طهمان عن يحيى بن سعيد أنه حدثه أن أنس بن مالك رضي الله عنه أتاهم بقباء يسأله عن بئر هناك، فدللته عليه، فقال: لقد كانت هذه وإنّ الرجل لينضح على حماره فتنزح فيستخرجها له، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بذنوب فسقي، فإما أن يكون توضأ منه أو تفل فيه، ثم أمر به فأعيد في البئر، فما نزحت بعد، فرأيته صلى الله عليه وسلم بال ثم جاء فتوضأ ومسح على خفّيه ثم صلّى، لكن سيأتي في بئر غرس ما يبين أنها المرادة بذلك، ولم يعد ابن شبة ولا ابن زبالة بئر أريس في الآبار التي كان استقى منها للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكرها ابن شبة في صدقة عثمان، وذكر سقوط الخاتم فيها مع ما تقدم.
وهذه البئر المعروفة اليوم بقباء من أعذب آبار المدينة.
ذرع بئر أريس
وذكر ابن النجار أنه ذرع طولها فكان أربعة عشر ذراعا وشبرا، منها ذراعان ونصف ماء، وعرضها خمسة أذرع، قال: وطول قفها الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه ثلاثة أذرع تشف كفا، قال: وهي تحت أطم عال، خراب من جهة القبلة، وقد بنى في أعلاه مسكن.
قال المطري، عقب ذكره أن ذلك المسكن يسكنه من يقوم بالحديقة ويخدم مسجد قباء.
قلت: وهو اليوم بيد المتكلم على الحديقة صاحبنا الشيخ برهان الدين القطان، ووقع بينه وبين صاحبنا الفخر العيني مشاجرة بسببه وسبب البئر؛ لأن الفخر بيده قطعة تحت الحصن المذكور وقطعة أخرى في مقابلة المسجد أنشأها بعض أقاربه هناك، ثم اصطلحا على السّقى بالبئر المذكورة واستمرار الحصن بيد البرهان، ثم رفعوا قف البئر عما أدركناه عليه نحو ثلاثة أذرع، وذلك لما بنى متولي العمارة السبيل والبركة المقابلين لمسجد قباء المتقدم ذكرهما فيه، وذلك ليتأتى وصول الماء إلى البركة، وصار طول هذه البئر اليوم على ما ذرعته تسع عشرة ذراعا ونصف ذراع، منها أربعة أذرع ماء، وذلك بعد تبحيرها.
ولهذه البئر درجة ذكرها المطري، فقال: وقد حدّد الشيخ صفي الدين أبو بكر بن أحمد السلامي لهذه البئر درجا ينزل إليها منه من يريد الوضوء والشرب من الزوار سنة أربع عشرة وسبعمائة، انتهى. وهو مخالف لقول البدر ابن فرحون في ترجمة نجم الدين يوسف الرومي وزير الأمير طفيل: إنه هو الذي أنشأ الدرجة الموجودة اليوم لبئر أريس بقباء عمرها في سنة أربع عشرة وسبعمائة، قال: وكان الجماعة الحزازون قد ابتدؤوا في عمارتها فسألهم أن يتركوا ذلك له ليفوز بحسنتها، وكان الحامل لهم على ذلك أنهم كانوا إذا جاؤوا إلى(3/123)
مسجد قباء لا يجدون ما يتوضؤون به، إلا من الحديقة الجعفرية، فكانوا يتحرّجون من دخولها لما سمعوا أنها مغصوبة من ملاكها، انتهى.
وجمع المجد بأنّ الظاهر أن نجم الدين المذكور أنشأ الدرجة وتشعثت، فأصلحها صفي الدين وجددها.
قلت: ويرده اتخاذ التاريخ كما سبق. والذي يظهر: أن جماعة الخرازين- كما ترجمهم به البدر- كانوا يسعون في عمارة المساجد وغيرها، وكانوا فقراء؛ فيعينهم الخدم، وأهل الخير، وكان صفي الدين له دنيا عظيمة فتخلى عنها، وله معروف فكأنه هو الممد للخرازين بما صرفوا على عمارة الدرج، وكان المطري يصحب الجميع، فالظاهر أنه اطّلع على ذلك، ثم أتم نجم الدين عمارة تلك الدرجة والله أعلم.
بئر الأعواف، أحد صدقات النبي صلى الله عليه وسلم الآتية
روى ابن شبة عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفة بئر الأعواف صدقته، وسال الماء فيها، ونبتت ثابتة على أثر وضوئه صلى الله عليه وسلم، ولم تزل فيها حتى الساعة.
وروى ابن زبالة عن عثمان بن كعب قال: طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سارقا، فهرب منه، فنكبه الحجر الذي وضع بين الأعواف صدقة النبي صلى الله عليه وسلم وبين الشطبية مال ابن عتبة، فوقع السارق، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرّك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر ومسّه ودعا له، فهو الحجر الذي فيما بين الأعواف والشطبية يطلع طرفه يمسه الناس.
قلت: والأعواف اليوم اسم لجرع كبير في قبلة المربوع، وفي شاميه خنافة، وفيه آبار متعددة؛ فلا تعرف البئر المذكورة منها، وكذلك الحجر؛ لأن الشطبية غير معروفة اليوم، ولعلها الموضع المعروف بالعتبى؛ لقوله في الرواية المتقدمة: مال ابن عتبة، والعتبى بجنب الأعواف من المشرق، فإن كان هو الشطبية فبئر الأعواف هي البئر التي فيها يلي خنافة من جرع الأعواف، وهي اليوم معطلة لا ماء بها، ويستأنس لذلك بما نقله ابن زبالة من أن الأعواف كانت لخنافة اليهودي جد ريحانة رضي الله تعالى عنها.
ولم يذكر المطري ومن تبعه هذه البئر ولا الغلالة بعدها؛ لسكوت ابن النجار عنها.
بئر أنا: بضم الهمزة وتخفيف النون كهنا، وقيل: بالفتح وكسر النون المشددة بعدها مثناة تحتية، وقيل: بالفتح والتشديد كحتّى، وضبطه في النهاية بفتح الهمزة وتشديد الباء الموحدة كحتى، ذكره في القاموس أيضا، وذكره ياقوت في المشترك له، وقال: كذا هو مضبوط بخط أبي الحسين بن الفرات، ثم قال: وذكر آخرون أنها بئر أنا بضم الهمزة والنون الخفيفة.(3/124)
روى ابن زبالة عن عبد الحميد بن جعفر قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبته حين حاصر بني قريظة على بئر أنا، وصلّى في المسجد الذي هناك، وشرب من البئر، وربط دابته بالسّدرة التي في أرض مريم ابنة عثمان.
وقال ابن إسحاق: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها، وتلاحق به الناس، وهي بئر أنا.
قلت: وهي غير معروفة اليوم، وناحية بني قريظة عند مسجدهم
بئر أنس بن مالك بن النضر: وتضاف أيضا لأبيه.
وروى ابن زبالة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى، فنزع له دلو من بئر دار أنس، فسكب على اللبن فأتى به فشرب، وعمر بين يديه وأبو بكر عن يساره، وأعرابي عن يمينه، الحديث، وهو في الصحيح عن أنس بلفظ: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه، فاستسقى. فحلبنا شاة لنا ثم شبته من بئرنا هذه فأعطيته، الحديث.
وروى ابن شبة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من بئر أنس التي في دار أنس.
وخرج أبو نعيم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في بئر داره، فلم يكن بالمدينة بئر أعذب منها، قال: وكانوا إذا حوصروا استعذب لهم منها، وكانت تسمى في الجاهلية البرود.
قلت: وهي غير معروفة اليوم، لكن تقدم عن ابن شبة في البلاط أنه كان له سرب يخرج عند دار أنس بن مالك في بني جديلة، وتقدم في بيان المحلّ الذي ضرب منه اللبن للمسجد النبوي أن البئر المعروف اليوم بالرباطية وقف رباط اليمنة في شامي الحديقة المعروفة بالرومية بقرب دار فحل يتبرك بها الفقراء، كما ذكره الزين المراغي، وقال: إنها تعرف ببئر أيوب، وكذلك البئر ذات الدرج التي في شرقيها في الحديقة المعروفة بأولاد الصفي تعرف ببئر أيوب أيضا.
قلت: والمعروف اليوم ببئر أيوب إنما هي الثانية، والظاهر أنها بئر أبي أيوب الأنصاري، وأما الأولى فالظاهر أنها بئر أنس؛ لأنها في جهة السرب الذي ذكره ابن شبة قرب منازل بني جديلة، ولتبرك الناس بها قديما، ولأنها عذبة الماء بحيث يشرب منها كثير من أهل تلك الجهة أيام النقلة في الصيف، وسيأتي في بئر السقيا أنه كان يستعذب للنبي صلى الله عليه وسلم الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس.
وروى ابن شبة عن أنس في ذكر بئره قال: كان في داري بئر تدعى في الجاهلية البرود، كان الناس إذا حوصروا شربوا منها.
واعلم أن أنس بن مالك بن النضر بن عدي بن النجار قد روى أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ من العمر ستّ سنين خرجت به أمه إلى طيبة تزيره أخواله من بني عدي بن النجار، قال صلى الله عليه وسلم: فأحسنت العوم في بئرهم.(3/125)
بئر إهاب: وفي نسخة لابن زبالة «بئر الهاب» والأول هو الصواب الذي اعتمده المجد.
روى ابن زبالة عن محمد بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بئر إهاب بالحرة وهي يومئذ لسعد بن عثمان، فوجد ابنه عبادة بن سعد مربوطا بين القرنين يفتل، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث سعد أن جاء فقال لابنه: هل جاءك أحد؟ قال: نعم ووصف له صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحقه وحلّه، فخرج عبادة حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس عبادة وبرك فيه، قال: فمات وهو ابن ثمانين وما شاب، قال: وبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئرها.
قال: وقال سعد بن عثمان لولده: لو أعلم أنكم لا تبيعونها لقبرت فيها، فاشترى نصفها إسماعيل بن الوليد بن هشام بن إسماعيل، وابتنى عليها قصره الذي بالحرة مقابل حوض ابن هشام، وابتاع نصفها الآخر إسماعيل بن أيوب بن سلمة، وتصدقا بما ابتاعا من ذلك.
قلت: وهي المذكورة في حديث أحمد المتقدم في بدء شأن المدينة وما يؤول إليه أمرها، لقوله فيه «خرج حتى أتى بئر الإهاب، قال: يوشك أن يأتي البنيان هذا المكان» .
وفي حديث عبادة الزرقي أنه يصيد القطا فيرقى بئر إهاب، وكانت لهم، الحديث المتقدم في صيد الحرم، وهي بالحرة الغربية بئر، غير أنها لا تعرف اليوم بهذا الاسم، إلا أن حوض ابن هشام الذي في مقابلتها كان عند فاطمة بنت الحسين التي رجّح المطّري أنها المسماة اليوم بزمزم كما سيأتي أيضا في خبر بئر فاطمة المذكورة، فلما بنى إبراهيم بن هشام داره بالحرة بعد وفاة فاطمة وأراد نقل السوق إليها صنع في حفرته التي بالحوض مثل ما صنعت فاطمة، فلقي جبلا، فسأل إبراهيم بن هشام بن عبد الله بن حسن بن حسن أن يبيعه دار فاطمة، فباعه إياها، أي من أجل البئر التي احتفرتها فاطمة في دارها.
وقال المطري: إن ابن زبالة ذكر عدة آبار أتاها النبي صلى الله عليه وسلم وشرب منها وتوضأ، لا نعرف اليوم شيئا منها.
قال: ومن جملة ما ذكر بئر بالحرة الغربية في آخر منزلة النقاء، وذكر ما سيأتي في بئر السقيا.
ثم قال ما لفظه: ومنها بئر أخرى إذا وقفت على هذه- يعني بئر السقيا- وأنت على جادّة الطريق وهي- يعني السقيا- على يسارك كانت هذه على يمينك، ولكنها بعيدة عن الطريق قليلا في سند من الحرة قد حوّط حولها ببناء مجصّص، وكان على شفيرها حوض من حجارة تكسر، ولم يزل أهل المدينة قديما وحديثا يتبركون بها، ويشربون من مائها، وينقل إلى الآفاق منها، كما ينقل من ماء زمزم، ويسمونها زمزم أيضا لبركتها.(3/126)
ثم قال: ولم أعلم أحدا ذكر فيها أثرا يعتمد عليه، والله أعلم أيتهما هي السقيا؟ الأولى لقربها من الطريق، أم هذه لتواتر التبرك بها؟ أو لعلها البئر التي احتفرتها فاطمة ابنة الحسين حين أخرجت من بيت جدتها فاطمة الكبرى، وذكر القصة الآتية في حفرها لبئرها، ثم قال: إن الظاهر أن هذه هي بئر فاطمة، والأولى هي السقيا.
قلت: قوله «إن الأولى هي السقيا» هو الصواب كما سيأتي، وأما قوله «إن الثانية هي بئر فاطمة» فعجيب؛ لأن مقتضى قوله ومنها أنها من جملة الآبار التي ذكر ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها وشرب منها، وبئر فاطمة بنت الحسين هي التي احتفرتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكرها ابن زبالة في خبر بناء المسجد، وذكر في آبار النبي صلى الله عليه وسلم ما قدمناه في بئر إهاب مع بئر السقيا وغيرهما من الآبار، ثم أفردهما ثانيا في سياق ما جاء في الحرة الغربية، وأيضا فقد ذكر المطري أن البئر المذكورة لم تزل يتبرك بها قديما وحديثا، وينقل منها الماء إلى الآفاق، فكيف ترجّح أنها المنسوبه لابنة الحسين مع وجود بئر في تلك الجهة ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إتيانها والبصق فيها؟ فالذي ترجّح عندي أن هذه البئر المعروفة بزمزم هي بئر إهاب، وقد رأيت عندها مع طرف الجدار الذي بجانبها الدائر على الحديقة آثار قصر قديم كان مبنيّا عليها الظاهر أنه قصر إسماعيل بن الوليد الذي ابتناه عليها، وفي شاميها بئر أخرى في الحديقة المذكورة يحتمل أنها هي المنسوبة لابنة الحسين، ولعل حوض ابن هشام كان هناك، والله أعلم.
بئر البصّة: - بضم الموحدة وفتح الصاد المشددة آخره هاء، كانها من بصّ الماء بصّا رشح، كذا قاله المجد- قال: وإن روى بالتخفيف فمن وبص يبص وبصا وبصة كوعد يعد وعدا وعدة إذا بلغ، أو من وبص لي من المال أي أعطاني.
قلت: المعروف بين أهل المدينة التخفيف.
وروى ابن زبالة وابن عدي من طريقه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء وأبناءهم، ويتعاهد عيالاتهم، قال: فجاء يوما أبا سعيد الخدري فقال: هل عندك من سدر أغسل به رأسي فإن اليوم الجمعة؟ قال: نعم، فأخرج له سدرا، وخرج معه إلى البصة، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فصب غسالة رأسه ومراقة شعره في البصة.
قال ابن النجار: وهذه البئر قريبة من البقيع على طريق الماضي إلى قباء، وهي بين نخل، وقد هدمها السيل وطمّها، وفيها ماء أخضر، وقفت على قفّها، وذرعت طولها، فكان أحد عشر ذراعا، منها ذراعان ماء، وعرضها سبعة أذرع، وهي مبنية بالحجارة، ولون مائها إذا انفصل منها أبيض، وطعمه حلو، إلا أن الأجون غلب عليه. وذكر لي الثقة أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمّها السيل، اه.(3/127)
وقد أصلحت بعده، ولذا قال المطري: إنها في حديقة كبيرة محوط عليها محائط، وعندها في الحديقة أيضا بئر أصغر منها، والناس يختلفون فيهما أنهما بئر البصة، إلا أن ابن النجار قطع بأنها الكبرى القبلية، وذكر ما تقدم عنه في طولها وعرضها، ثم قال: والصغرى عرضها ستة أذرع، وهي التي تلي أطم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما. قال: وسمعت من أدركت من أكابر الخدام وغيرهم من أهل المدينة يقولون:
إنها الكبرى القبلية، وإن الفقيه الصالح القدوة أبا العباس أحمد بن موسى بن عجيل وغيره من صلحاء اليمن إذا جاؤوا للتبرك بالبصة لا يقصدون إلا الكبرى القبلية.
قلت: الظاهر أن ذلك كله ناشئ عما ذكره ابن النجار في وصفها، لكن يرجّح أنها الصغرى كونها إلى جانب الأطم المذكور، وقد قال فيه ابن زبالة كما تقدم في المنازل: إنه المسمى بالأجرد، وإنه الذي يقال لبئره البصة، كان لمالك بن سنان، والكبرى بعيدة عن الأطم المذكور.
وقد ابتنى قاضي المدينة زكي الدين بن أبي الفتح بن صالح تغمده الله برحمته على محلّ هذا الأطم منزلا حسنا، وجعل للبئر الصغرى درجا ينزل إليها منه، وعمر البئر الكبرى أيضا لما استأجر الحديقة لولده بعد أن أجرها هو وشريكه في النظر في الولاية السلطانية لغيره، وهي من جملة أوقاف الفقراء، وقفها شيخ الخدام عزيز الدولة ريحان البدري الشهامي على الفقراء الواردين والصادرين للزيارة على ما ذكره المطري، قال: وذلك بعد وفاته بعامين أو ثلاثة، ووفاته سنة سبع وتسعين وستمائة، اه.
وفي غربي البئر الصغرى بجانب الحديقة من خارجها سبيل للدوابّ يملأ منها، وعليه موقوف قطعة نخل تعرف بالركبدارية شماليّ سور المدينة.
بئر بضاعة: - بضم الموحدة على المشهور، وحكى كسرها، وبفتح الضاد المعجمة، وأهملها بعضهم، وبالعين المهملة، بعدها هاء- غربيّ برحاء إلى جهة الشمال، بينهما غلوة سهم سبقي.
روينا في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو يقال له: إنه يستفي لك من بئر بضاعة، وهي بئر تلقي فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذر الناس- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الماء طهور لا ينجّسه شيء» .
ورواه أحمد، وصححه النسائي، والترمذي وحسّنه، والدارقطني وقال فيه «من بئر بضاعة بئر بني ساعدة» وابن شبّة إلا أنه قال «وعذر النساء» بدل قوله «وعذر الناس» وابن ماجه وزاد «لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه ريحه وطعمه ولونه» .
وفي رواية للنسائي عن أبي سعيد قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: أتتوضأ منها وهي يطرح فيها ما يكره من النتن؟ فقال «الماء لا ينجسه شيء» .(3/128)
وروى ابن شبة عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم «بصق في بضاعة» . وعنه أيضا سقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي من بضاعة، ورواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات إلا أنه قال «من بئر بضاعة» وكذا رواه أحمد.
وروى ابن زبالة وأبو يعلي عن محمد بن أبي يحيى عن أمه قالت: دخلنا على سهل بن سعد في نسوة فقال: لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهت ذلك، وقد والله سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي منها.
وفي الكبير للطبراني عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم «برّك على بضاعة» .
ورواه ابن زبالة عن أبي أسيد، لكن بلفظ «دعا لبئر بضاعة» . وفي الكبير للطبراني عن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي عن أبيه عن جده أبي أسيد، وله بئر بالمدينة يقال لها بئر بضاعة، قد بصق فيها النبي صلى الله عليه وسلم فهي يتبشر بها ويتيمن بها.
قال: فلما قطع أبو أسيد ثمر حائطه جعله في غرفة، فكانت الغول تخالفه إلى مشربته فتسرق ثمره وتفسده عليه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «تلك الغول يا أبا أسيد، فاستمع عليها، فإذا سمعت اقتحامها فقل: بسم الله، أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الغول: يا أبا أسيد، أعفني أن تكلفني أن أذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيك موثقا من الله أن لا أخالفك إلى بيتك، وأن لا أسرق ثمرك، وأدلّك على آية تقرؤها على بيتك فلا يخالف إلى أهلك، وتقرؤها على إنائك فلا يكشف غطاؤه، فأعطته الموثق الذي رضي به منها، فقالت: الآية التي أدلّك عليها هي آية الكرسي، ثم حكت أسنانها تضرط، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقصّ عليه القصة حيث دلته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت وهي كذوب» قال الحافظ الهيتمي:
رجاله وثقوا كلهم، وفي بعضهم ضعف.
وقال المجد: وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم «أتى بئر بضاعة، فتوضأ من الدّلو وردّها إلى البئر، وبصق فيها، وشرب من مائها، وكان إذا مرض المريض في أيامه يقول: اغسلوني من ماء بضاعة، فيغسل فكأنما ينشط من عقال» .
وقالت أسماء بنت أبي بكر: كنا نغسل المرضى من بئر بضاعة ثلاثة أيام فيعافون، اه.
قال أبو داود في سننه: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: سألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها أكثر ما يكون فيها الماء، قال: إلى القامة، قلت: وإذا نقص، قال: دون العورة، قال أبو داود عقبه: وقدّرت بئر بضاعة بردائي، مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غيّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماء متغير اللون.
وقال ابن النجار: هذا البئر اليوم في بستان، وماؤها عذب طيب، ولونها صاف(3/129)
أبيض، وريحها كذلك، ويستقى منها كثيرا، قال: وذرعتها فكان طولها أحد عشر ذراعا وشبرا، منها ذراعان راجحة ماء، والباقي بناء، وعرضها ستة أذرع كما ذكر أبو داود.
قلت: وذرعتها فكان ذرعها كذلك لم يتغير، إلا أن قفّها مرتفع عن الأرض الأصلية ذراعا ونصفا راجحا، وهي- كما قال المطري- في جانب حديقة عند طرف الحديقة الشامي، والحديقة في قبلة البئر، ويستقي منها أهل حديقة أخرى شمالي البئر، وهي بينهما، وماؤها عذب طيب مع تعطّلها في زماننا وخراب قفّها، وهي المرادة بما في صحيح البخاري عن سهل بن سعد «إن كنا لنفرح بيوم الجمعة، كانت لنا عجوز تأخذ من أصول الصلق» وفي رواية له» ترسل إلى بضاعة» قال ابن سلمة أي شيخ البخاري: محل بالمدينة، الحديث.
قال الإسماعيلي: في هذا بيان أن بئر بضاعة بئر بستان؛ فيدل على أن قول أبي سعيد «كانت تلقى فيها الحيض وغيرها» أنها كانت تطرح في البستان فيجريها المطر ونحوه إلى البئر.
قلت: ومن شاهد بضاعة علم أنه كذلك لأنها في وهدة، وحولها ارتفاع، سيما في شاميها؛ إذا قدر اليوم هناك أقذار لسال بها المطر إليها، وتلقي الرياح فيها ما تلقي، وادعى الطحاوي أنها كانت سيحا، وروى ذلك عن الواقدي، وإن صحّ فلعل المراد به أن الأرض التي حولها كانت المياه تسيح فيها فتجرّ الأقذار إليها؛ لإطباق مؤرخي المدينة العالمين بأخبارها على تسميتها ببئر، لا كما قال بعض الحنفية: إنها كانت عينا جارية إلى بستانين، إذ المشاهدة تردّه كما قاله المجد، قال: ولو كان كذلك لما صلح أن يقول فيها المريض «اغسلوني من ماء بضاعة» لأن الجرية الأولى سارت ببصاق النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا فلو كانت قناة جارية وسدت لما خفي آثار مجاريها المنسدة، والمشاهدة مع الإطباق على أنها البئر المذكورة كافية في الرد.
وقال المجد: بضاعة دار بني ساعدة، وبها هذه البئر، ونقله الحافظ ابن حجر عن بعضهم، ومقتضى كلام شيخ البخاري المتقدم أنها اسم للبستان الذي فيه البئر، والظاهر إطلاقها على الثلاثة، والله أعلم.
بئر جاسوم: ويقال جاسم- بالجيم والسين المهملة- لم يذكرها والتي بعدها ابن النجار ومن بعده، وتقدم في مسجد راتج من رواية ابن شبة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد راتج، وشرب من جاسوم، وهي بئر هناك.
وروي هو وابن زبالة أيضا عن خالد بن رباح أن النبي صلى الله عليه وسلم «شرب من جاسوم بئر أبي الهيثم بن التيهان» .(3/130)
وعن زيد بن سعد قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما إلى أبي الهيثم بن التيهان رضي الله تعالى عنه في جاسوم، فشرب من جاسوم، وهي بئر أبي الهيثم، وصلّى في غائطه.
وروى الواقدي عن الهيثم بن نصر الأسلمي قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه، فكنت آتيه بالماء من بئر جاسم، وهي بئر أبي الهيثم بن التيهان، وكان ماؤها طيبا، ولقد دخل يوما صائما ومعه أبو بكر على أبي الهيثم، فقال: هل من ماء بارد؟ فأتاه بشجب فيه ماء كأنه الثلج، فصبّ منه على لبن عنز له وسقاه ثم قال له: إن لنا عريشا باردا، فقل فيه يا رسول الله عندنا، فدخله وأبو بكر، وأتى أبو الهيثم بألوان من الرّطب، الحديث، وأشار الحافظ ابن حجر إلى أنه يؤخذ منه أن هذه القصة هي التي في الصحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان عندك ماء بائت هذه الليلة في شجب وإلا كرعنا، قال: والرجل يحول الماء في حائطه، فقال الرجل:
يا رسول الله عندنا ماء بائت، فانطلق إلى العريش، قال: فانطلق بهما فسكب في قدح ثم حلب عليه من داجن له، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شرب الرجل الذي جاء معه.
قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم، وتقدم بيان جهتها في مسجد راتج.
بئر جمل: بلفظ الجمل من الإبل- روى ابن زبالة عن ابن عبد الله بن رواحة وأسامة بن زيد قالا: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر جمل، وذهبنا معه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل معه بلال، فقلنا: لا نتوضأ حتى نسأل بلالا كيف توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا: فسألناه، فقال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والخمار، وفي صحيح البخاري حديث «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه- الحديث» .
وفي رواية للدار قطني «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل» .
وفي أخرى له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذهب نحو بئر جمل ليقضي حاجته، فلقيه رجل مقبل فسلّم عليه» .
وفي رواية النسائي «أقبل من نحو بئر الجمل» وهو من العقيق، قاله المجد، قال: وهي بئر معروفة بناحية الجرف بآخر العقيق، وعليها مال من أموال أهل المدينة، قال: ويحتمل أنها سميت بجمل مات فيها، أو برجل اسمه جمل حفرها.
قلت: وهي غير معروفة اليوم، ولم أر من سبق المجد لكونها بالجرف غير ياقوت.
وقوله «وهو من العقيق» لم أره في السنن الصغرى للنسائي، ويبعده سوق الروايات السابقة لقوله «ذهب نحو بئر جمل ليقضي حاجته» وفي أخرى أن الرجل توارى في السكة، والمعروف بقضاء الحاجة إنما هو ناحية بقيع الحجبة، وهو ناحية بئر أبي أيوب، وهناك(3/131)
الموضع المعروف بالمناصع، وتقدم بيان زقاق المناصع شرقي المسجد فيما يلي الشام، وسبق في الفصل الحادي عشر من الباب الثالث أن ناقته صلى الله عليه وسلم بركت بين أظهر بني النجار، أي شرقي المسجد النبوي، ثم نهضت حتى أتت زقاق الحبشي ببئر جمل فبركت، الحديث، وهو مؤيد لما قدمناه على أن عند مؤخر المسجد زقاقا يعرف اليوم بخرق الجمل، وبقرب درب سويقة بئر صغيرة في زقاق ضيق زعم أهل تلك الناحية أنها هي، وأظنه غلطا.
وقال المطري عقب ذكر الآبار التي اقتصر عليها ابن النجار: إنها ست، والسابعة لا تعرف اليوم، إلا ما يسمع من قول العامة إنها بئر جمل، ولم تعلم أين هي، ولا من ذكرها غير ما ورد في حديث البخاري، وذكر ما قدمناه.
ثم قال: ولم يذكر بئر جمل في السبع المشهورة، وكأنه لم يقف على ذكر ابن زبالة لها في الآبار وروايته لما تقدم.
بير حاء: - روينا في صحيح البخاري عن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه ببرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، إن الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ، ذلك مال رايح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، وفي رواية له «فجعلها لأبيّ وحسان» وكانا أقرب إليه منّي، وفي رواية له أيضا عقب قوله «وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء» قال: وكانت حديقة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويستظل فيها، ويشرب من مائها، قال: فهي إلى الله وإلى رسوله أرجو بره وذخره، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ يا أبا طلحة ذلك مال رايح، قد قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين» فتصدّق به أبو طلحة على ذوي قربى رحمه، قال: وكان منهم أبيّ وحسان، قال: فباع حسان حصته منه من معاوية، فقيل له:
تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعا من تمر بصاع من دراهم؟ وكانت تلك الحديقة في موضع قصر بني جديلة الذي بناه معاوية.
قال الحافظ ابن حجر: وزاد ابن عبد البر في روايته: وكانت دار أبي جعفر والدار التي تليها إلى قصر بني جديلة حائطا لأبي طلحة يقال له بيرحاء، قال: ومراده بدار أبي جعفر الدار التي صارت إليه وعرفت به، وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي. وقصر بني(3/132)
جديلة هي حصّة حسان، بنى فيها معاوية بن أبي سفيان هذا القصر، وأغرب الكرماني فزعم أن معاوية الذي بنى القصر المذكور هو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أحد أجداد أبي طلحة.
قلت: منشأ وهمه إضافة القصر إلى بني جديلة، وجديلة لقب معاوية المذكور وهو مردود، بل إضافته إليهم لكونه بمنازلهم.
قال ابن شبة: وأما قصر بني جديلة فإن معاوية بن أبي سفيان بناه ليكون حصنا، وله بابان: باب شارع على خط بني جديلة، وباب في الزاوية الشرقية اليمانية عند دار محمد بن طلحة التّيمي، وهو اليوم لعبد الله بن مالك الخزاعي قطيعة، وكان الذي ولي بناءه لمعاوية الطفيل بن أبي كعب الأنصاري، وفي وسطه بيرحاء.
ثم روى عقبه عن العطاف بن خالد قال: كان حسان يجلس في أجمة فارع، ويجلس معه أصحاب له، ويضع لهم بساطا يجلسون عليه، فقال يوما وهو يرى كثرة من يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب يسلمون:
أرى الجلابيب قد عزّوا وقد كثروا ... وابن العريفة أمسى بيضة البلد
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من لي من أصحاب البساط؟ فقال صفوان بن المعطل:
أنا لك يا رسول الله منهم، فخرج إليهم واخترط سيفه، فلما رأوه مقبلا عرفوا في وجهه الشر، ففرّوا وتبدّدوا، وأدرك حسان داخلا بيته، فضربه، فعلق ثنّته، فبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم عوّضه وأعطاه حائطا، فباعه من معاوية بن أبي سفيان بعد ذلك بمال كثير، فبناه معاوية بن أبي سفيان قصرا.
وروى أيضا في خبر الإفك عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيمي قصة ضرب صفوان لحسان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك، قال: هي لك يا رسول الله، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا منها بيرحاء، وهي قصر بني جديلة اليوم بالمدينة، كانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدّق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسان في ضربته شيرين أمة قبطية.
وروى ابن زبالة عن أبي بكر بن حزم أن أبا طلحة تصدّق بمال له كان موضعه قصر بني جديلة، فدفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّه على أقاربه أبيّ بن كعب وحسان بن ثابت وثبيط بن جابر وشداد بن أوس أو أبيه أوس بن ثابت يعني أخا حسّان بن ثابت، فتقاوموه، فصار لحسان بن ثابت، فباعه من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم، قال: وكان معاوية قد بنى قصر خل ليكون حصنا لما كان يتحدّث أنه نصيب بني أمية، وذكر ما سيأتي في قصر خل، ثم قال: فلما اشترى بيرحاء بنى قصر بني جديلة في موضعها للذي كان يخاف من ذلك.(3/133)
وقال الحافظ ابن حجر: وبيع حسان لحصته من معاوية دليل على أن أبا طلحة ملّكهم الحديقة المذكورة، ولم يقفها عليهم، ويحتمل أنه وقفها وشرط أن من احتاج إلى بيع حصته جاز له كما قال بجوازه علي وغيره.
قلت: وقد اشترط علي في صدقته كما حكاه ابن شبة عن نسخة كتاب الصدقة
قال ابن النجار: وبيرحاء اليوم في وسط حديقة صغيرة جدّا، فيها نخيلات ويزرع حولها، وعندها بيت مبني على علو من الأرض، وهي قريبة من سور المدينة، وهي لبعض أهلها، وماؤها عذب حلو.
وقال المطري: وهي شمالي سور المدينة بينهما الطريق، وتعرف الآن بالنورية اشتراها بعض النساء النوريين ووقفها على الفقراء والمساكين فنسبت إليها، قال ابن النجار: وذرعتها فكان طولها عشرين ذراعا، منها أحد عشر ذراعا ماء، والباقي بنيان، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر.
قلت: وهي اليوم على هذا النعت، وفي قبلتها مسجد ليس من بناء الأقدمين لم يذكره ابن النجار ولا المطري، وكأنه لما حدث بعدهما. وذكره المجد فقال: وفي بيرحاء بير قريبة الرشاء ضيقة القنا طيبة الماء، وأمامها إلى القبلة مسجد صغير في وسط الحديقة.
قلت: وقوله في حديث الصحيح «وكانت مستقبلة المسجد» معناه أن المسجد في جهة قبلتها، فلا ينافي بعدها عنه على هذه المسافة الموجودة اليوم، والظاهر أن بعض أرضها كان داخل سور المدينة؛ لما تقدم من قسمتها وابتناء القصر في بعضها، ولم أر للفقراء أثرا هناك.
وقد تقدم أن حش أبي طلحة الذي في شامي المسجد منسوب إلى أبي طلحة صاحبها، فربما كانت أمواله ممتدة إلى هناك. وأما دار محمد بن طلحة التيمي التي ذكر ابن شبة أنه أحد باني القصر المبني عليها عنده فيظهر أنها غير دار إبراهيم بن محمد بن طلحة التي هي من دار جده طلحة المتقدم ذكرها في الدور المطيفة بالمسجد، لنسبتها لإبراهيم بن محمد، ونسبة هذه لأبيه؛ فلا يقدح ذلك في كون بيرحاء هي المعروفة اليوم، والله أعلم.
ضبط بيرحاء
تنبيه: في ضبط بيرحاء، وقد أفرد له بعضهم مصنفا ذكر المجد ملخصه، وقد اختلف الناس في ضبطه، قال صاحب النهاية: بيرحاء بفتح الباء وكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمد فيهما، وبفتحهما والقصر، قال الزمخشري: بيرحاء اسم أرض كانت لأبي طلحة، وكأنها فيعلى من البراح، وهي الأرض المنكشفة الظاهرة، وقال مرة: رأيت محدّثي مكة يقولون بيرحاء على الإضافة، وحاء: من اسم القبائل، وقيل: اسم رجل، وعلى هذا يكون منونا، قال ياقوت: بيرحا بوزن خيزلى، وقيل لي بيرحاء مضاف إليه ممدود، قال: ورواية(3/134)
المغاربة قاطبة الإضافة، وإعراب الراء بالرفع والجر والنصب، وحاء على لفظ الحاء من حروف المعجم.
وقال أبو عبيد البكري: حاء- على وزن حرف الهجاء- بالمدينة، مستقبلة المسجد، إليها ينسب بيرحاء، فالاسم مركب.
قال الحافظ ابن حجر: اختلف في حاء هل هو رجل أو امرأة أو مكان أضيف إليه البير، أو هي كلمة زجر للإبل، وكانت الإبل ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البير إلى اللفظة، قال الباجي: أنكر أبو بكر الأصم الإعراب في الراء، وقال: إنما هو بفتح الراء على كل حال، قال: وعليه أدركت أهل العلم بالمشرق.
وقال أبو عبد الله الصوري: إنما هو بفتح الباء والراء في كل حال، بمعنى أنه كلمة واحدة، قال عياض: وعلى رواية الأندلسيين ضبطنا هذا الحرف عن أبي جعفر في كتاب مسلم بكسر الباء وفتح الراء، وبكسر الراء وبفتح الباء والقصر، ضبطناه في الموطأ عن أبي عنان وغيره، وبضم الراء وفتحها معا قيدناه عن الأصيلي، وقد رواه من طريق حماد بن سلمة بريحا، هكذا ضبطناه عن شيوخنا فيما قيدوه عن البدري وغيره، ولم أسمع فيه خلافا، إلا أني وجدت الحميدي ذكر في اختصاره عن حماد بن سلمة بيرحا، كما قال الصوري، ورواية الرازي في مسلم في حديث مالك بريحا، وهو وهم، وإنما هذا في حديث حماد، وإنما لمالك بيرحا كما قيد الجميع على اختلافهم. وذكر أبو داود في مصنفه هذا الحديث بخلاف ما تقدم فقال: جعلت أرضي باريحا، وهذا كله يدل على أنها ليست ببئر، انتهى كلام عياض.
قال الحافظ ابن حجر: قول أبي داود باريحا بإشباع الموحدة، ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة فإن أريحاء من الأرض المقدسة، ويحتمل إن كان محفوظا أن تكون سميت باسمها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم «ذلك ما رابح، أو قال رايح» فالأول بالموحدة أي ذو ربح، والثاني بالمثناة التحتيّة، أي يروح نفعه لقربه، أي يصل إليك في الرواح، ولا يعزب، قال شاعر:
سأطلب مالا بالمدينة؛ إنني ... إلى عازب الأموال قلت فوضله
بئر حلوة: - بالحاء المهملة- لم يذكرها والتي بعدها ابن النجار ومن بعده، وذكرها ابن زبالة، فروي عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر عن أبيه قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا، فبعث إلى بعض نسائه منها بالكتف، فتكلمت في ذلك بكلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتنّ أهون على الله من ذلك» وهجرهن، وكان يقيل تحت أراكة على حلوة بئر كانت في الزقاق الذي فيه دار آمنة بنت سعد، وبه سمي الزقاق زقاق حلوة، ويبيت في مشربة(3/135)
له، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فقالت: يا رسول الله، إنك آليت شهرا، قال: إن الشهر تسع وعشرون.
قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم بعينها، وتقدم بيان جملتها في الدور التي في ميسرة البلاط عند ذكر دار حويطب بن عبد العزى.
بئر ذرع: - بالذال المعجمة- وهي بئر بني خطمة، وروى ابن زبالة حديث «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني خطمة فصلى في بيت العجوز، ثم خرج منه فصلى في مسجد بني خطمة، ثم مضى إلى بئرهم ذرع فجلس في قفّها، فتوضأ وبصق فيها» .
وروى ابن شبة عن الحارث بن الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم «توضّأ من ذرع بئر بني خطمة التي بفناء مسجدهم» ، وفي رواية: «وصلى في مسجدهم» .
وفي رواية عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم «بصق في ذرع بئر بني خطمة» .
قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم، ويؤخذ بيان جهتها مما تقدم في مسجد بني خطمة.
بئر رومة: - بضم الراء، وسكون الواو، وفتح الميم، بعدها هاء، وقيل رؤمة بعد الراء همزة ساكنة- روى ابن زبالة حديث: «نعم القليب قليب المزني فاشترها يا عثمان، فتصدق بها» وحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم الحفيرة حفيرة المزني» يعني رومة، فلما سمع ذلك عثمان بن عفان ابتاع نصفها بمائة بكرة، وتصدّق بها، فجعل الناس يسقون منها، فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب عليها باع من عثمان النصف الثاني بشيء يسير فتصدق بها كلها.
وروى ابن شبة عن عدي بن ثابت قال: أصاب رجل من مزينة بئرا يقال لها رومة، فذكرت لعثمان بن عفان وهو خليفة، فابتاعها بثلاثين ألف درهم من مال المسلمين، وتصدّق بها عليهم.
قلت: في سنده متروك، ولذا قال الزبير بن بكار بعد روايته في عتيقة: وليس هذا بشيء، وثبت عندنا أن عثمان اشتراها بماله وتصدق بها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وقال ابن أبي الزناد: أخبرني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم الصدقة صدقة عثمان» يريد رومة.
وقال محمد بن يحيى: أخبرني غير واحد من أهل البلد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نعم القليب قليب المزني» .
وروى ابن شبة أيضا عن أبي قلابة قال: لما كانوا بباب عثمان وأرادوا قتلة أشرف عليهم، فذكر أشياء، ثم ناشدهم الله فأعظم النّشدة: هل تعلمون أن رومة كان لفلان(3/136)
اليهودي لا يسقى منها أحدا قطرة إلا بثمن، فاشتريتها بمالي بأربعين ألفا، فجعلت شربي فيها وشرب رجل من المسلمين سواء، ما استأثرتها عليهم؟ قالوا: قد علمنا ذلك.
وعن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يشتري رومة بشرب رواء في الجنة؟ فاشتراها عثمان رضي الله تعالى عنه من ماله فتصدق بها.
وعن عبد الرحمن بن حبيب السلمي قال: قال عثمان رضي الله تعالى عنه:
أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى بئر رومة فله مثلها من الجنة، وكان الناس لا يشربون منها إلا بثمن، فاشتريتها بمالي فجعلتها للفقير والغني وابن السبيل؟
فقال الناس: نعم.
وعن أسامة الليثي قال: لما حصر عثمان رضي الله تعالى عنه أرسل إلى عمّار بن ياسر يطلب أن يدخل عليه روايا ماء، فطلب له ذلك عمار من طلحة، فأبى عليه، فقال عمار:
سبحان الله اشترى عثمان هذه البئر- يعني رومة- بكذا وكذا ألفا، فتصدق به على الناس، وهؤلاء يمنعونه أن يشرب منها
وروى النسائي والترمذي وحسّنه عن عثمان أنه قال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: من يشري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين- الحديث.
وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن السلمي أن عثمان حيث حوصر أشرف عليهم وقال: أنشدكم بالله، ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حفر بئر رومة فله الجنة؟ فحفرتها- الحديث، وفيه: وصدّقوه بما قال.
وللنسائي من طريق الأحنف بن قيس أن الذين صدقوه بذلك علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص. ورواه ابن شبة من حديث الأحنف إلا أنه قال:
أنشدكم الله الذي لا إله إلا هو، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يبتاع بئر رومة غفر الله له، فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن ابتعت بئر رومة، فقال:
اجعلها سقاية للمسلمين، وآخرها لك؟ قالوا: نعم.
وقال ابن بطال في الكلام على رواية البخاري قوله: «فحفرها عثمان» وهم في بعض الروايات، والمعروف أن عثمان اشتراها، لا أنه حفرها، قال الحافظ ابن حجر عقبه:
المشهور في الروايات كما قال، لكن لا يتعين الوهم؛ فقد روى البغوي في الصحابة من طريق بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعينها بعين في الجنة، فقال يا رسول الله ليس لي وعيالي غيرها، ولا أستطيع ذلك،(3/137)
فبلغ ذلك عثمان، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي مثل الذي جعلت له عينا في الجنة إن اشتريتها؟ قال: نعم، قال: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين، قال الحافظ ابن حجر: وإذا كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسّعها أو طولها فنسب حفرها إليه، انتهى.
قلت: الإشكال ليس في ذكر وقوع حفر عثمان لها فقط، بل في كون الترغيب فيها بلفظ «من حفر» إلى آخره؛ فطريق الجمع أن يكون صلى الله عليه وسلم قال أولا: «من اشترى بئر رومة» فاشتراها عثمان، ثم احتاجت إلى الحفر فقال: «من حفر بئر رومة» فحفرها، وتسميتها في هذه الرواية عينا غريب جدّا، ولعله لاشتمال البئر على ما ينبع فيها مقابلة لها بعين في الجنة.
وقال المجد: قال أبو عبد الله بن منده: رومة الغفاري صاحب بئر رومة، وروى حديثه، وساق السند إلى بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون، وساق الحديث المتقدم، ثم قال المجد: كذا قال رومة الغفاري، ثم قال: عين يقال لها رومة.
وقال أبو بكر الحازمي أيضا: هذه البئر تنسب إلى رومة الغفاري، ولم يسمها عينا، والجمع بين هذا وبين قوله في الحديث المتقدم «نعم الحفير حفيرة المزني» يعني رومة أن الذي احتفرها كان من مزينة ثم ملكها رومة الغفاري، وذكر ابن عبد البر أنها كانت ركية ليهودي يبيع ماءها من المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة؟ فأتى عثمان اليهوديّ فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى عثمان نصفها باثني عشر ألف درهم، فجعله للمسلمين، فقال له عثمان: إن شئت جعلت لنصيبي قربين، وإن شئت فلي يوم ولك يوم، فقال: بل لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال:
أفسدت علي ركيتي، فاشتر النصف الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف درهم.
قلت: وهي بئر قديمة جاهلية؛ لما رواه ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم أن تبّعا اليماني لما قدم المدينة كان منزله بقناة، واحتفر البئر التي يقال لها بئر الملك، وبه سميت، فاستوبأ بئره تلك، فدخلت عليه امرأة من بني زريق يقال لها فكهة، فشكا إليها وباء بئره، فانطلقت فأخذت حمارين أعرابيين، فاستقت له من بئر رومة، ثم جاءته به، فشرب فأعجبه وقال: زيديني من هذا الماء، فكانت تصير إليه به مقامه، فلما خرج قال لها: يا فكهة إنه ليس معنا من الصفراء والبيضاء شيء، ولكن لك ما تركنا من أزوادنا ومتاعنا، فلما خرج نقلت ما بقي من أزوادهم ومتاعهم، فيقال: إنها كانت لم تزل هي وولدها أكثر بني زريق مالا حتى جاء الإسلام.(3/138)
وهذه البئر في أسفل وادي العقيق، قريبة من مجتمع الأسيال، في براح واسع من الأرض، وعندها بناء عال بالحجارة والجص قد تهدم.
قال ابن النجار: قيل: إنه كان دارا لليهودي، وحولها مزارع وآبار كثيرة، وهي قبلى الجرف وشمالي مسجد القبلتين بعيدة منه، قال ابن النجار: وقد انقضت خرزتها وأعلامها، إلا أنها بئر مليحة جدّا، مبنية بالحجارة الموجّهة، قال: وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعا، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها، وعرضها ثمانية أذرع، وماؤها طاف، وطعمه حلو، إلا أن الأجون غلب عليه.
وقال المطري: وقد خرجت، ونقضت حجارتها، وانطمّت، ولم يبق منها اليوم إلا أثرها.
قال الزين المراغي: وقد جددت بعد ذلك، ورفع بناؤها عن الأرض نحو نصف قامة، ونزحت فكثر ماؤها، أحياها كذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن المحب الطبري قاضي مكة المشرفة في حدود الخمسين وسبعمائة، قال: فتناوله إن شاء الله تعالى عموم حديث «من حفر بئر رومة فله الجنة» انتهى.
ومن الغريب قول عياض في مشارقه: بئر رومة بضم الراء بئران مشهوران بالمدينة، انتهى، ولم أقف له على أصل.
بئر السقيا: - بضم السين المهملة، وسكون القاف، من سقاه الغيث وأسقاه- تقدم ذكرها في مسجد السقيا في حديث ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض جيش بدر بالسقيا، وصلّى في مسجدها، ودعا هناك، الحديث، وفيه واسم البئر السقيا، واسم أرضها الفلجان.
وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال: قال أبي: يا بني إنا اعترضنا هاهنا بالسقيا، حين قاتلنا اليهود بحسيكة، فظفرنا بهم، ونحن نرجو أن نظفر، ثم عرضنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بها متوجها إلى بدر، فإن سلمت ورجعت ابتعتها وإن قتلت فلا تفوتنك، قال: فخرجت أبتاعها، فوجدتها لذكوان بن عبد قيس، ووجدت سعد بن أبي وقّاص قد ابتاعها وسبق إليها، وكان اسم الأرض الفلجان، واسم البئر السقيا.
قال ابن شبة: قال محمد بن يحيى: وسألت عبد العزيز بن عمران عن حسيكة، وذكر ما سيأتي فيها، ثم قال: قال أبو غسان: وأخبرني عبد العزيز بن عمران عن راشد بن حفص عن أبيه قال: كان اسم أرض السقيا الفلج، واسم بئرها السقيا، وكانت لذكوان بن عبد قيس الزرقي، فابتاعها منه سعد بن أبي وقاص ببعيرين.
وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يستقي له الماء العذب من بئر السقيا» وفي رواية «من بيوت السقيا» ورواه أبو داود بهذا اللفظ، وسنده جيد، وصححه الحاكم.(3/139)
وروى الواقدي من حديث سلمة امرأة أبي رافع قالت: كان أبو أيوب- حين نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم- يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس، ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عنده صلى الله عليه وسلم يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة.
وتقدم في رابع فصول الباب الثاني ما رواه الترمذي وقال حسن صحيح عن علي بن أبي طالب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بحرة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بوضوء، فتوضأ فقام ثم قام فاستقبل القبلة، الحديث.
وتقدم أيضا حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى بأرض سعد بأرض الحرة عند بيوت السقيا- الحديث» .
قلت: وبئر السقيا هذه هي التي ذكر المطري أنها في آخر منزلة النقاء على يسار السالك إلى بئر عليّ بالحرم، قال: وهي بئر مليحة، كبيرة، متنورة في الجبل، وقد تعطلت وخربت، وعلى جانبها الشمالي- يعني من جهة المغرب- بناء مستطيل مجصص.
قلت: والظاهر أنه كان حوضا أو بركة لورود الحجاج، كانوا ينزلون بها أيام عمارة المدينة، ولهذا سمي المطري محلها منزلة النقاء، وما سيأتي عنه في النقاء مصرّح بذلك، وكان بعض فقراء العجم قد جدّدها وعمرها في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فصارت تعرف ببئر الأعجام، كما رأيته بخط الزين المراغي.
قلت: وقد تهدمت وتشعّثت بعد ذلك، فجددها الجناب الخواجكي البدري بدر الدين بن عليبة سنة ست وثمانين وثمانمائة، تقبل الله منه وأثابه الجنة بمنه وكرمه.
وتقدم في بئر إهاب أن المطري تردّد في أن هذه السقيا لقربها من الطريق أم هي البئر المعروفة اليوم بزمزم؛ لتواتر التبرك بها، ثم قال: إن الظاهر أن السقيا هي الأولى.
قلت: وهو الصواب؛ لزوال التردد بما منّ الله به من الظّفر بمسجد السقيا عندها، كما تقدم فيه، والظاهر أنها المرادة بقول الغزالي في آداب الزائر: وليغتسل من بئر الحرة، انتهى، وذلك لكونها على جادّة الطريق، وكانت مجاورة لأول بيوت المدينة أيام عمارتها.
وقال أبو داود عقب روايته لحديث استعذاب الماء من بيوت السقيا: قال قتيبة: السقيا عين بينها وبين المدينة يومان.
قلت: وما ذكره صحيح كما سيأتي في ترجمتها، إلا أنها ليست المرادة هنا، وكأنه لم يطلع على أن بالمدينة بئرا تسمى بذلك، وقد اغترّ به المجد فقال: السقيا قريبة جامعة من عمل الفرع، ثم أورد حديث أبي داود، وقول صاحب النهاية: السقيا منزل بين مكة والمدينة، قيل: على يومين، ومنه حديث «كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا» ثم قال:(3/140)
وقول أبي بكر بن موسى «السقيا بئر بالمدينة منها كان يستقى لرسول الله صلى الله عليه وسلم» محمول على هذا؛ لأن الفرع من عمل المدينة، ثم قال: وأما البئر التي على باب المدينة بينها وبين ثنيّة الوداع أي المدرج بها كما سيأتي عنه فيظنها أهل المدينة أنها هي السقيا المذكورة في الحديث، قال: والظاهر أنه وهم، قال: ومما يؤكد ذلك قوله في الحديث «من بيوت السقيا» ولم يكن عند هذا البئر بيوت في وقت، ولم ينقل ذلك، وأيضا إنما استعدب له صلى الله عليه وسلم الماء من السقيا لما استوخموا مياه آبار المدينة، قال: وهذه البئر التي ذكرناها- أي التي بين المدينة والمدرج- كانت لسعد بن أبي وقاص فيما حكاه المطري، قال يعني المطري: ونقل أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض جيش بدر بالسقيا التي كانت لسعد، وصلى في مسجدها، ودعا هنالك لأهل المدينة، وشرب صلى الله عليه وسلم من بئرها، ويقال لأرضها «الفلجان» بضم الفاء والجيم، وهي اليوم معطّلة، وكانت مطمومة فأصلمها بعض فقراء العجم، اه.
قلت: حمله لكلام أبي بكر بن موسى على ما ذكره ونقله ما جاء في السقيا المذكورة عن المطري يقتضي أنه لم يقف على ما قدمناه عن ابن زبالة وابن شبة، وأنه لا يرى أن بالمدينة نفسها بئرا تسمى بالسقيا، وهو وهم مردود، مع أن المعتمد عندي أن السقيا التي جاء حديث الاستعذاب منها إنما هي سقيا المدينة، وذلك لوجوه:
الأول: إيراد ابن شبة للحديث في ترجمة آبار المدينة التي كان يستقى له صلى الله عليه وسلم منها.
الثاني: قرنه لذلك بحديث عرض جيش بدر بها، وإيراد ابن زبالة في سياق آبار المدينة، والسقيا التي من عمل الفرع ليست من طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر؛ لأن تلك الطريق معروفة، والسقيا المذكورة معروفة أيضا، وليست في جهتها كما سيأتي في بيان محلها، وأيضا ففي حديث جابر المتقدم أنهم اعترضوا بالسقيا عند قتال اليهود بحسيكة مع بيان أن حسيكة بالمدينة نفسها إلى الجرف.
الثالث: ما تقدم أيضا من أنها كانت لبعض بني زريق من الأنصار، وتحريض والد جابر له على شرائها، وأن سعدا سبقه لذلك.
الرابع: ما تقدم في رواية الواقدي من أنه كان يستقي له صلى الله عليه وسلم منها مرة ومن بئر غرس مرة، ويبعد كلّ البعد قرن السقيا التي هي على يومين بل أيام من المدينة كما سيأتي ببئر غرس التي هي بالمدينة.
الخامس: ما في رواية الواقدي أيضا من أن المتعاطي لذلك أبناء أسماء أنس وهند وحارثة، ومثل هؤلاء إنما يستقون من المدينة وما حولها؛ لأن سقيا الفرع تحتاج إلى جمال ورجال.
السادس: ما قدمناه في مسجد السقيا من إيراد الأسدي له في المساجد التي تزار بالمدينة، ثم ذكر في المساجد التي بين الحرمين مسجد السقيا التي هي من عمل الفرع.(3/141)
السابع: ما قدمناه من الظفر بمسجد بئر السقيا بالمدينة.
الثامن: أن المجد نقل عن الواقدي في ترجمة بقع أنه بضم الموحدة من السقيا التي بنقب بني دينار، وسنبين في نقب بني دينار أنه الطريق التي في الحرة الغربية إلى العقيق.
وأما قول المجد «إنه لم يكن عند هذه البئر بيوت في وقت، ولم ينقل ذلك» فمن العجائب؛ إذ من تأمل ما حول البئر المذكورة وما قرب منها علم أنه كان هناك قرى كثيرة متصلة، فضلا عن بيوت، كما يشهد به آثار الأساسات ونقض العمارات، وليت شعري أين هو من مسجد السقيا الذي أهمله تبعا لغيره ومنّ الله بوجوده بسبب التأمل في تلك الأساسات وآثار العمارات؟ ولما كشف التراب عن محله وجدنا من بنائه ومحرابه نحو نصف ذراع، وهو مجاور لهذه البئر كما سبق، وما ذكره من أن الاستعذاب من السقيا إنما كان لما استوخموا آبار المدينة فمردود، بل هو طلب الماء العذب، وأيضا أنهم لم يستوخموا كل آبارها.
وفي الصحيح في قصة مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى أبي الهيثم بن التيهان قول زوجته «خرج يستعذب لنا الماء» ورواية الواقدي المتقدمة مصرّحة بوقوع الاستعذاب من بئر مالك بن النضر والد أنس، وكانت بدار أنس كما تقدم بيانه، كما سيأتي في بئر غرس الاستعذاب منها أيضا. ثم لو سلمنا أن المراد من حديث أبي داود في الاستعذاب العين التي ذكرها قتيبة فهو محمول على أنه كان يستعذب له صلى الله عليه وسلم منها، إذا نزل قربها في سفر حجه ونحوه، أما استعذابه منها إلى المدينة فلا أراه وقع أصلا، والله أعلم.
بئر العقبة: - بالعين المهملة، ثم القاف- قال المجد: ذكرها رزين العبدري في آبار المدينة، وقال: هي التي أدلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها، ولم يعين لها موضعا، والمعروف أن هذه القصة إنما كانت في بئر أريس، اه.
والذي رأيته في كتاب رزين في تعداد الآبار المعروفة بالمدينة ما لفظه: وبئر العين سقط فيها الخاتم، وبئر القف التي أدلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها، انتهى. وقد قدمنا في بئر أريس ما يقتضي تعدد الواقعة.
بئر أبي عتبة: - بلفظ واحد العنب- قال ابن سيد الناس في خبر نقله عن ابن سعد في غزوة بدر، ما لفظه: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على بئر أبي عنبة، وهي على ميل من المدينة، فعرض أصحابه، وردّ من استصغره، اه.
وهذا مستند ما نقله المطري في الكلام على بئر السقيا حيث قال بعد ذكر عرض جيش بدر بالسقيا: ونقل الحافظ ابن عبد الغني المقدسي أنه عرض جيشه على بئر أبي عنبة بالحرة فوق هذه البئر أي السقيا، إلى المغرب، ونقل أنها على ميل من المدينة.
قلت: ولعل العرض وقع أولا عند مرورهم بالسقيا، ثم لما ضرب عسكره على هذه(3/142)
البئر أعاد العرض لرد من استصغر، ولعل هذه البئر هي المعروفة اليوم ببئر ودي؛ لانطباق الوصف المتقدم عليها، ولأنها أعذب بئر هناك.
وقد روى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد قال: خرجنا نشيع ابن جريج حين خرج إلى مكة، فلما كنا عند بئر أبي عنبة قال: ما اسم هذا المكان؟ فأخبرناه، فقال: إن عندي فيه لحديثا، ثم ذكر حديث عاصم بن عمر حين اختصم فيه عمر وجدّته إلى أبي بكر، فقال عمر: يا خليفة رسول الله، ابني ويستقي لي من بئر أبي عنبة، فدل على أن الماء كان يستعذب منها، قال المجد: وقد جاء ذكر هذه البئر في غير ما حديث.
بئر العهن: - بكسر العين المهملة، وسكون الهاء، ونون- ذكر المطري الآبار التي ذكرها ابن النجار- وهي: أريس، والبصّة، وبضاعة، ورومة، والغرس، وبيرحاء- ثم قال: والآبار المذكورة ست، والسابعة لا تعرف اليوم، ثم ذكر ما تقدم عنه في بئر جمل.
ثم قال: إلا أني رأيت حاشية بخط الشيخ أمين الدين بن عساكر على نسخة من «الدرة الثمينة، في أخبار المدينة» للشيخ محب الدين بن النجار ما مثاله: العدد ينقص عن المشهور بئرا واحدة؛ لأن المثبت ست، والمأثور المشهور سبع، والسابعة اسمها «بئر العهن» بالعالية، يزرع عليها اليوم، وعندها سدرة، ولها اسم آخر مشهورة به.
قال المطرطي عقبه: وبئر العهن هذه معروفة بالعوالي، وهي بئر مليحة جدّا، منقورة في الجبل، وعندها سدرة كما ذكر، ولا تكاد تعرف أبدا، وقال الزين المراغي عقب نقله، والسدرة مقطوعة اليوم.
قلت: ولم يذكروا شيئا يتمسك به في فضلها ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يزل الناس يتبركون بها. والذي ظهر لي بعد التأمل أنها بئر اليسرة الآتي ذكرها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليها وتوضأ وبصق فيها؛ لأن اليسرة بئر بني أمية من الأنصار بمنازلهم كما سيأتي، وبئر العهن عند منازلهم، وقد أشار ابن عساكر إلى تسميتها باسم آخر، فأظنه الاسم المذكور، والله أعلم.
بئر غرس: - بضم الغين المجمة كما رأيته في خط الزين المراغي، وهو الدائر على ألسنة أهل المدينة، ويقال «الأغرس» كما يؤخذ مما سيأتي في وادي بطحان أول الفصل الخامس، وقال المجد: بئر الغرس بفتح الغين وسكون الراء وسين مهملة، والغرس: الفسيل، أو الشجر الذي يغرس لينبت، مصدر غرس الشجر، قال: وضبطه بعض الناس بالتحريك مثال سحر، وسمعت كثيرا من أهل المدينة يضمون الغين، قال: والصواب الذي لا محيد عنه ما قدمته، أي من الفتح- وهي بئر بقباء في شرقي مسجدها، على نصف ميل إلى جهة الشمال، وهي بين النخيل، ويعرف مكانها اليوم وما حولها بالغرس، قال: وحولها مقابر بني حنظلة.(3/143)
قلت: وأظنه تصحيفا، والمذكور في جهتها بنو خطمة، وقد تقدم في بئر السقيا أن رباحا الأسود عبد النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة.
وروى ابن حبان في الثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: ائتوني بماء من بئر غرس؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب منها ويتوضأ.
وفي سنن ابن ماجه بسند جيد عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أنا متّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس» وكانت بقباء، وكان يشرب منها.
ورواه يحيى عن عليّ بلفظ: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «يا علي، إذا أنا متّ فاغسلني من بئري بئر غرس بسبع قرب لم تحلل أوكيتهنّ» .
وروى ابن سعد في طبقاته برجال الصحيح عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال: غسل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات بماء وسدر، وغسل في قميص، وغسل من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء، وكان يشرب منها.
وروى ابن شبة بسند صحيح عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل من بئر سعد بن خيثمة بئر كان يستعذب له منها، وفي رواية: من بئر سعد بن خيثمة بئر يقال لها الغرس بقباء كان يشرب منها.
وروى أيضا عن سعيد بن رقيش أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر الأغرس، وأهراق بقية وضوئه فيها.
وروى ابن زبالة عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش قال: جاءنا أنس بن مالك بقباء فقال: أين بئركم هذه؟ يعني بئر غرس، فدللناه عليها، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جاءها، وإنها لتسنى على حمار، بسحر، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من مائها، فتوضّأ منه ثم سكبه فيها، فما نزفت بعد.
وعن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة، فأصبح على بئر غرس، فتوضأ منها، وبزق فيها، وأهدى له عسل فصبه فيها، وغسل منها حين توفي.
ورواه ابن النجار من طريق ابن زبالة، دون قوله «وأهدى له من عسل إلى آخره» .
وقال المجد: وفي حديث ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد على شفير غرس:
رأيت الليلة كأني جالس على عين من عيون الجنة، يعني بئر غرس.
قال: وعن عاصم بن سويد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعسل فشرب منه، وأخذ منه شيئا فقال: هذا لبئري بئر غرس، ثم صبّه فيها، ثم إنه بصق فيها، وغسل منها حين توفي.(3/144)
قلت: وسبق في أوائل الفصل العاشر من الباب الرابع ما يقتضي أن هذه البئر عند مسجد قباء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أول مقدمه قباء أناخ على غدة عندها، وقدمنا أن الظاهر أن تصحيف؛ لمخالفته لما هو المعروف في محل هذه البئر.
وقال ابن النجار: هذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل، هي في وسط الصحراء، وقد حربها السيل وطمّها، وفيها ماء أخضر، إلا أنه عذب طيب، وريحه الغالب عليه الأجون.
قال: وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شافة منها ذراعان ماء وعرضها عشرة أذرع.
قال المطري: وهي اليوم ملك لبعض أهل المدينة، وكانت قد خربت فجددت بعد السبعمائة، وهي كثيرة الماء، وعرضها عشرة أذرع، وطولها يزيد على ذلك، وماؤها يغلب عليه الخضرة، وهو طيب عذب.
قلت: وقد خربت بعد ذلك، فابتاعها وما حولها صاحبنا الشيخ العلامة المقيد خواجا حسين بن الجواد المحسن الخواجكي الشيخ شهاب الدين أحمد القاواني، أثابه الله تعالى، وعمرها وحوط عليها حديقة، وجعل لها درجة ينزل إليها منها من داخل الحديقة وخارجها، وأنشأ بجانبها مسجدّا لطيفا، ووقفها، تقبّل الله منه، وذلك في سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة.
بئر القراصة: لم يذكرها وما بعدها ابن النجار ومن بعده، ولم أر من ضبطها، ولعلها بالقاف وبالراء كما في بعض النسخ، وفي بعضها بالعين بدل القاف.
وروى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله قال: لما استشهد أبي عبد الله بن عمرو بن حرام عرضت على غرمائه القراصة، وكانت له، أصلها وثمرها بما عليه من الدين، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، إلا أن يقوّموها قيمة ويرجعوا عليه بما بقي من الدين، قال: فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعهم، حتى إذا كان جدادها فجدّها في أصولها، ثم ائتني فأعلمني، فلما حان جدادها جدّها في أصولها ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فبصق في بئرها، ودعا الله أن يؤدي عن عبد الله بن عمرو، وقال: اذهب يا جابر إلى غرماء أبيك فشارطهم على سعر وائت بهم فأوفهم، فخرج جابر فشارطهم على سعر، وقال: انطلقوا حتى أوفيكم حقوقكم، وكان أكبرهم اليهود، قال: فقال بعضهم لبعض: أما تعجبون من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن صاحبه، عرض أصله وثمره فأبينا، ويزعم أنه يوفينا من ثمره، قال: فجاء بهم حتى أوفاهم حقوقهم، وفضل منها مثل ما كانوا يجدون كل سنة.
قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم، إلا أن جهتها جهة مسجد الخربة، وهي في غربي(3/145)
مساجد الفتح؛ لما تقدم فيه من أنه دبر القراصة، ويؤيده أن أصل حديث جابر في أرضه مذكور في الصحيح بطرق وفي بعضها: وكانت لجابر الأرض التي بطريق رومة، وهذه الجهة بطريق رومة.
وروى أحمد عن جابر قال: قلت: يا رسول الله، إن أبي ترك دينا ليهودي فقال:
يأتيك يوم السبت إن شاء الله تعالى، وذلك في زمن التمر مع استجداد النخل، فلما كان صبيحة يوم السبت جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليّ في مالي أتى الربيع فتوضّأ منه ثم قام إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم دنوت به إلى خيمة لي فبسطت له بجادا من شعر، الحديث، والله أعلم.
بئر القريصة: لم أر من ضبطها، وأظنها بالقاف والصاد المهملة مصغرة.
روى ابن زبالة عن سعد بن حرام والحارث بن عبيد الله قالا: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر في القريصة بئر حارثة، أو شرب، وبصق فيها، وسقط فيها خاتمة فنزع.
ثم روى عقبة سقوط الخاتم في بئر أريس.
قلت: وهذه البئر لا تعرف اليوم، إلا أن في شرقي المدينة بقرب القراصة المتقدمة في مسجد القراصة بئرا تعرف بالقريصة مصغر القرصة، فإن صح الضبط المتقدم فهي المرادة.
بئر اليسرة: من اليسر ضد العسر.
روى ابن زبالة عن سعيد بن عمرو قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية بن زيد، فوقف على بئر لهم فقال: ما اسمها؟ قالوا: عسرة، قال: لا، ولكن اسمها اليسرة، قال: فبصق فيها وبرّك فيها.
وروى ابن شبة عن محمد بن حارثة الأنصاري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى بئر بني أمية من الأنصار اليسرة، وترّك عليها وتوضأ وبصق فيها.
وروى ابن سعد في طبقاته عن عمر بن سلمة أن أبا سلمة بن عبد الأسد لما مات غسل من اليسرة، بئر بني أمية بن زيد بالعالية، وكان ينزل هناك حين تحوّل من قباء، غسل بين قرني البئر، وكان اسمها في الجاهلية العسرة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم اليسرة.
قلت: وهذه لبئر غير معروفة اليوم بهذا الاسم، والذي يظهر أنها بئر العهن؛ لما قدمناه فيها.
وقد استقصينا هذا الغرض فبلغ كما ترى نحو عشرين بئرا، وما اقتضاه كلام بعضهم من انحصار المأثور من ذلك في سبع مردود؛ لكن الذي اشتهر من ذلك سبع، ولهذا قال في الإحياء: ولذلك تقصد الآبار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ منها ويغتسل ويشرب، وهي سبعة آبار، طلبا للشفاء، وتبركا به صلى الله عليه وسلم، انتهى.(3/146)
قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: وهي أي السبعة المشار إليها: بئر أريس، وبيرحاء، وبئر رومة، وبئر غرس، وبئر بضاعة، وبئر البصة، وبئر السقيا، أو بئر العهن، أو بئر جمل؛ فجعل السابعة مترددة بين الآبار الثلاث، ثم ذكر نحو ما قدمناه في فضائل هذه الآبار إلا العهن فلم يذكر فيها شيئا؛ لأن الوارد فيها إنما هو باسمها الآخر ولم يشتهر. ثم قال: والمشهور أن الآبار بالمدينة سبعة.
وقد روى الدارمي من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه ضبّوا عليّ سبع قرب من آبار شتى، وهو عند البخاري دون قوله «من آبار شتى» انتهى.
قلت: ومن ذلك فلا دلالة فيه على أن تلك الآبار السبعة هي المرادة بذلك، والمشهور عند أهل المدينة أن السابعة هي العهن، ولهذا قال أبو اليمن ابن الزين المراغي فيما أنشدنيه عنه أخوه شيخنا العلامة أبو الفرج ناصر الدين المراغي:
إذا رمت آبار النبيّ بطيبة ... فعدّتها سبع مقالا بلا وهن
أريس، وغرس، رومة، وبضاعة ... كذا بصّة، قل بيرحاء مع العهن
تتمة في العين المنسوبة للنبي ص
، وما يتصل بها من العين الموجودة في زماننا، وغيرها من العيون.
عين كهف بني حرام
روى ابن شبة عن عبد الملك بن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من العين التي عند كهف بني حرام، قال: وسمعت بعض مشيختنا يقول: قد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الكهف.
وترجم ابن النجار لذكر عين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى من طريق محمد بن الحسن وهو عن ابن زبالة عن موسى بن إبراهيم بن بشير عن طلحة بن حراش قال: كانوا أيام الخندق يخرجون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخافون البيات، فيدخلونه كهف بني حرام، فيبيت فيه، حتى إذا أصبح هبط، قال: وبقر رسول الله صلى الله عليه وسلم العيينة التي عند الكهف، فلم تزل تجري حتى اليوم.
قلت: وهو في كتاب ابن زبالة، إلا أنه قال فيه: عن طلحة بن حراش عن جابر بن عبد الله، قال ابن النجار عقبه: وهذه العين في ظاهر المدينة، وعليها بناء، وهي في مقابلة المصلى.
قال المطري عقبه: أما الكهف الذي ذكره فمعروف في غربي جبل سلع، على يمين السالك إلى مسجد الفتح من الطريق القبلية، وعلى يسار المتوجه إلى المدينة مستقبل القبلة، يقابله نخل تعرف بالغنيمية، أي المعروفة اليوم بالنقيبية في بطن وادي بطحان غربي جبل(3/147)
سلع، قال: وفي الوادي عين تأتى من عوالي المدينة تسقي ما حول المساجد من المزارع وتعرف بعين الخيف خيف شامي، وتعرف تلك الناحية بالسيح.
قلت: وقد تقدم في مساجد الفتح إيضاح هذا الكهف، وأن عنده آثار نقر في الجبل، وليست عين الخيف التي ذكرها المطري بجارية في زماننا، بل هي منقطعة، ومجراها معلوم.
وبيّن ابن النجار بما يأتي عنه في الخندق أنها تأتي من قباء، وأصلها فيما يقال معلوم غربي قباء، وقد شرع في إجرائها متولّي العمارة الجناب الشمسي ابن الزمن، فتتبّع قناتها إلى أن آل إلى الموضع الذي يقال إنه أصلها، ثم بالغوا في تنظيفه فلم يجر.
قال المطري: فأما العين التي ذكر ابن النجار أنها مقابلة المصلى فهي عين الأزرق، وهو مروان بن الحكم، أجراها بأمر معاوية رضي الله تعالى عنه، وهو واليه على المدينة، وأصلها من قباء المعروف من بئر كبيرة غربي مسجد قباء في حديقة نخل، وتجري إلى المصلى، وعليها في المصلى قبة كبيرة مقسومة نصفين، يخرج الماء منها في وجهين مدرجين قبلي وشمالي، وتخرج العين من جهة المشرق، ثم تأخذ إلى جهة الشمال.
قال: وأما عين النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكر ابن النجار فليست تعرف اليوم، وإن كانت كما قال عند الكهف المذكور فقد دثرت، وعفا أثرها.
قلت: مراد ابن النجار أن أصلها عند الكهف، وأنها تجري إلى الموضع الذي عليه البناء في مقابلة المصلى، وقد وافق ابن النجار على ذلك ابن جبير في رحلته، فقال: وقبل وصولك سور المدينة من جهة المغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق، وبينه وبين المدينة عن يمين الطريق العين المنسوبة إليالنبي صلى الله عليه وسلم، وعليها حلق عظيم، ومستدير، ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المستطيل، وتحته سقايات مستطيلات باستطالة الحلق، وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض بجدارين، وهو يمدّ السقايتين، ويهبط إليها على أدراج نحو الخمس والعشرين درجة، وهما لتطهير الناس واستقائهم وغسل أثوابهم، والحوض المذكور لا يتناول منه لغير الاستسقاء خاصة صونا له، انتهى.
قال المجد: وبشبه أنه اشتبه عليه عين الأزرق بعين النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: اتفاقه هو وابن النجار على ذلك يبعد الاشتباه، بل يحتمل أن عين النبي صلى الله عليه وسلم كانت تحرى إلى هذا الموضع، وكذا عين الأزرق، ثم انقطعت الأولى وبقيت الثانية التي هي عين الأزرق.
قال المطري: وقد أخذ الأمير سيف الدين الحسين ابن أبي الهيجاء في حدود الستين وخمسمائة منها شعبة من عند مخرجها من القبة، فساقها إلى باب المدينة من باب المصلى، ثم أوصلها إلى الرحبة التي عند مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة باب السلام، أي المقابلة لباب المدرسة الزمنية، وبها سوق المدينة اليوم.(3/148)
قال: وبنى لها هناك منهلا بدرج من تحت الدور، يستقي منه أهل المدينة، وجعل لها مصرفا من تحت الأرض بشق وسط المدينة على الموضع المعروف بالبلاط، أي سوق العطارين اليوم، وما والاه من منازل الأشراف أمراء المدينة، يخرج إلى ظاهر المدينة من جهة الشمال شرقي الحصن الذي يسكنه أمير المدينة.
قال: وقد كان جعل منها شعبة صغيرة تدخل إلى صحن المسجد، وجعل لها منهلا بدرج عليه عقد يخرج الماء إليه من فوّارة يتوضأ منها من يحتاج إلى الوضوء، وحصل في ذلك انتهاك حرمة المسجد من كشف العورات والاستنجاء في المسجد، فسدّت لذلك.
قلت: وقد سبق في الفصل الحادي والثلاثين من الباب الخامس عن ابن النجار في ذكر السقايات التي بالمسجد أن الذي عمل هذا المنهل بعض أمراء الشام واسمه شامة.
ثم ذكر المطري وصف مسير العين من القبة التي بالمصلّى إلى جهة الشام فقال: وإذا خرجت العين من القبة التي في المصلّى سارت إلى جهة الشمال، حتى تصل إلى سور المدينة فتدخل تحته إلى منهل آخر بوجهين مدرجين: أي وهو الذي عند رحبة حصن الأمير، ثم تخرج إلى خارج المدينة فتصل إلى منهل آخر بوجهين مدرجين عند قبر النفس الزكية، ثم تخرج من هناك وتجتمع هي وما يتحصّل من مصلها في قناة واحدة إلى البركة التي ينزلها الحجاج، يعني حجاج الشام، وهي التي تقدم عنه في الباب الأول في أثرب أن الحجاج يسمونها عيون حمزة، أي لظنهم أنها عين الشهداء، وأنها تأتي من جهة مشهد سيدنا حمزة، وليس كذلك، إنما تأتي كما قال من قباء من البئر التي في الحديقة المعروفة بالجعفرية، وإذا جاوزت مشهد النفس الزكية وثنيّة الوداع مرّت من شامي سلع على المسجد المعروف بمسجد الراية، ولها هناك منهل آخر، ثم تسير في جهة المغرب فتمر في غربي الجبلين اللذين في غربي مساجد الفتح، وهكذا حتى تصل إلى مغيضها، وهو الموضع المسمى بالبركة، وقد زرع عليها هناك نخيل كثيرة هي اليوم بيد أمراء المدينة، وفقر قناتها ظاهرة في الأماكن التي أشرنا إليها، ولا مرور لها بالشهداء أصلا فعين الشهداء غير هذه العين، وهي المراد بما سبق في سابع فصول الباب الخامس في ذكر قبور الشهداء بأحد من قول جابر: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين، وغيره من الأخبار المذكورة هناك، وحينئذ فكل من العينين المذكورتين تنسب إلى معاوية: عين الشهداء، وهي دائرة اليوم، ويحتمل: أنها التي كان مغيضها عند المسجد المعروف بمصرع حمزة رضي الله تعالى عنه المتقدم ذكرها في المساجد، وأن الأمير وديا كان قد جدّدها ثم دثرت، لكن أصلها من جهة العالية، وبعض قطرها ظاهر يشهد بذلك.
وقال البدر بن فرحون في ترجمة نور الدين الشهيد: إنه أجرى العين التي تحت جبل(3/149)
أحد، قال: وأظنها عين الشهداء، فإن العين التي أجراها معاوية رضي الله تعالى عنه مستبطنة الوادي وقد دثرت، ورسومها موجودة إلى اليوم، انتهى.
والعين الموجودة اليوم المعروفة بعين الأزرق، وتسميها العامة الزرقاء، سميت بذلك لأن مروان الذي أجراها بأمر معاوية كان أزرق العينين فلذلك لقب بالأزرق.
ومن الغرائب العجيبة ما ذكره المنورقي في جزء ألّفه في فضائل الطائف عن الفقيه أبي محمد عبد الله بن حمو البخاري عن شيخ الخدام بالحرم النبوي بدر الشهابي أنه بلغه أن ميضأة وقعت في عين الأزرق بالطائف، فخرجت في عين الأزرق بالمدينة.
ويذكر أنه كان بالمدينة وما حولها عيون كثيرة تجددت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لمعاوية رضي الله تعالى عنه اهتمام بهذا الباب، ولهذا كثرت في أيامه الغلال بأراضي المدينة، فقد نقل الواقدي في كتاب الحرّة أنه كان بالمدينة على زمن معاوية صوافي كثيرة، وأن معاوية كان يجدّ بالمدينة وأعراضها مائة ألف وسق وخمسين ألف وسق، ويحصد مائة ألف وسق حنطة.
الفصل الثاني في صدقاته صلى الله عليه وسلم، وما غرسه بيده الشريفة
أصل صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم
روى ابن شبة فيما جاء في أمواله صلى الله عليه وسلم وصدقاته عن ابن شهاب قال: كانت صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالا لمخيريق اليهودي، أي بالخاء المعجمة والقاف مصغرا.
قال عبد العزيز- يعني ابن عمران- بلغني أنه كان من بقايا بني قنيقاع، ثم رجّح حديث ابن شهاب قال: وأوصي مخيريق بأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم، وشهد أحدا فقتل به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق سابق يهود، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة.
أسماء صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم ومواضعها
قال: وأسماء أموال مخيريق التي صارت للنبي صلى الله عليه وسلم: الدلال، وبرقة، والأعواف، والصافية، والميثب، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم.
فأما الصافية وبرقة والدلال والميثب فمجاورات لأعلى الصورين من خلف قصر مروان بن الحكم، ويسقيها مهزور.
وأما مشربة أم إبراهيم فيسقيها مهزور، فإذا بلغت بيت مدراس اليهود فحيث مال أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة الأسدي فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه، وذكر ما قدمناه عنه في المساجد في سبب تسميتها بمشربة أم إبراهيم.
ثم قال: وأما حسنى فيسقيها مهزور، وهي من ناحية القف.(3/150)
وأما الأعواف فيسقيها مهزور، وهي من أموال بني محمم.
ثم قال: قال أبو غسان: وقد اختلف في الصدقات فقال بعض الناس: هي أموال بني قريظة والنضير.
وروى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كانت الدلال لامرأة من بني النضير، وكان لها سلمان الفارسي، فكاتبته على أن يحييها لها، ثم هو حر، فأعلم بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج إليها فجلس على فقير، ثم جعل يحمل إليه الوديّ فيضعه بيده، فما عدت منها ودية أن طلعت. قال: ثم أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: والذي يظهر عندنا: أنها من أموال بني النضير، ومما يدل على ذلك أن مهزورا يسقيها، ولم يزل يسمع أنه لا يسقى إلا أموال بني النضير.
قلت: فيه نظر؛ إذ المعروف ببني النضير إنما هو مذينب، ومهزور لبني قريظة.
ثم قال: وقد سمعنا بعض أهل العلم يقول: إن برقة والميثب للزبير بن باطا، وهما اللتان غرس سلمان، وهما مما أفاء الله من أموال بني قريظة. والأعواف: كانت لخنافة اليهودي من بني قريظة، والله أعلم ما هو الحق من ذلك.
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم أمواله
ثم قال: قال الواقدي: وقف النبي صلى الله عليه وسلم الأعواف وبرقة وميثب والدلال وحسني والصافية ومشربة أم إبراهيم سنة سبع من الهجرة، قال: وقال الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن الزهري قال: هذه الحوائط السبعة من أموال بني النّضير: قال: وقال بسنده لعبد الله بن كعب بن مالك قال: قال مخيريق يوم أحد: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد الله، فهي عامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقال عن أيوب بن أبي أيوب عن عثمان بن وثاب قال: ما هي إلا من أموال بني النضير، لقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد ففرّق أموال مخيريق، اه ما أورده ابن شبة.
وقال المجد: قال الواقدي: كان مخيريق أحد بني النضير حبرا عالما، فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل ماله وهو سبع حوائط لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحوائط المتقدمة، ونقل الذهبي عن الواقدي سوى ذكر الحوائط، لكن في أوقاف الخصاف: قال الواقدي: مخيريق لم يسلم، ولكنه قاتل وهو يهودي، فلما مات دفن في ناحية من مقبرة المسلمين، ولم يصل عليه.
وروى ابن زبالة عن محمد بن كعب أن صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أموالا لمخيريق اليهودي، فلما كان يوم أحد قال لليهود: ألا تنصرون محمدا صلى الله عليه وسلم؟ فو الله إنكم لتعلمون أن نصرته حق، قالوا: اليوم السبت، قال: فلا سبت لكم، وأخذ سيفه فمضى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراح، فلما حضرته الوفاة قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث يشاء.(3/151)
قال محمد بن طلحة راويه: قال عبد الحميد: وكان ذا مال كثير، فهي عامة صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير اليهود، قال: وهي الدلال، وذكر الحوائط المتقدمة، إلا أنه قال: والعواف بدل الأعواف.
وروى أيضا عن بكر بن أبي ليلى عن مشيخة الأنصار قالوا: كانت أموال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير حشاشين ومزارع وإبلا، فغرسها الأمراء بعد، وعملوها، وهي سبعة أموال، وذكر الحوائط المتقدمة.
وعن عثمان بن كعب قال: اختلف الناس في صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم:
كانت من أموال بني قريظة والنضير، قال عثمان بن كعب: وليس فيها من أموال بني النضير شيء، إنما صارت أموال بني النضير للمهاجرين نفلا، قال: وكانت برقة والميثب للزبير بن بطا.
وقال بعضهم: كانت الدلال من أموال بني ثعلبة من يهود، وكانت مشربة أم إبراهيم من أموال بني قريظة، وكانت الأعواف لخنافة جد ريحانة، قال: ويقال: كانت الأعواف من أموال بني النضير.
وروى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن سلمان الفارسي كان لناس من بني النضير، فكاتبوه على أن يغرس لهم كذا وكذا وديّة حتى تبلغ عشر سعفات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضع عند كل فقير ودية، ثم غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده، ودعا له، فما عطبت منها ودية، ثم أفاؤها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم فهي الميثب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
قلت: يتحصّل من مجموع ما تقدم أن نخل سلمان الذي غرسه صلى الله عليه وسلم هو الدلال، وقيل: برقة والميثب، وقيل: الميثب.
وروى أحمد والطبراني برجال الصحيح إلا ابن إسحاق وقد صرح بالسماع عن سلمان الفارسي حديثه الطويل، وفيه ما يقتضي أنه بالفقير، وأنه أثمر من عامه، وأنه ذكر فيه عن سلمان أن يهوديا من بني قريظة ابتاعه من ابن عم له بوادي القرى، قال: فاحتملني إلى المدينة، ثم ذكر خبر إسلامه، وقال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل، ويعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقّر لها، فإذا فرغت فاثتني أكن أنا أضعها بيدي، قال:
ففقّرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الوديّ ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغنا، فو الذي نفس سلمان بيدي ما ماتت منها ودية واحدة، قال: فأدّيت النخل وبقي على المال، وذكر خبره فيه.(3/152)
وذكر ابن عبد البر في خبر سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل، يعمل فيها سلمان حتى يدرك، فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرسها؟ قالوا: عمر، فقلعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرسها فأطعمت من عامها، وفي رواية أن تلك الودية التي لم تثمر غرسها سلمان.
قلت: والفقير اسم الحديقة بالعالية قرب بني قريظة، وقد خفي ذلك على بعضهم فقال كما نقله ابن سيد الناس: قوله «بالفقير» الوجه إنما هو بالعفير، انتهى. والصواب أنه اسم لموضع، وليس هو من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن شبة في كتاب صدقة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الذي كان بيد الحسن بن زيد ما لفظه: والفقير لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله، لكنه سماه قبل ذلك في أخبار صدقاته بالفقيرين، مثنّى، فقال: وكان لي صدقات بالمدينة الفقيرين بالعالية وبئر الملك بقناة، فالظاهر أنه يسمى بكل من اسمين، وأهل المدينة اليوم ينطقون به مفردا بضم الفاء تصغير الفقير ضد الغني.
وقد ذكره ابن زبالة مفردا فيما رواه عن محمد بن كعب القرظي قال: كانت بئر غاضر والبرزتان قبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأضيافه، وكانت لكعب بن أسد، وكان الفقير لعمر بن سعد، وصار لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
قال: وسمعت من يقول: كانت بئر غاضر والبرزتان من طعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير.
قلت: وبئر غاضر اليوم غير معروفة، وأما البرزتان فحديقتان بالعالية متجاورتان يقال لإحداهما البرزه وللأخرى البريزة مصغرة، ووقع في النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن شبة: قال أبو غسان سمعت من يقول: كانت بئر غاضر والنويرتين من طعمه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهما من أموال بني قريظة بعالية المدينة، وقد قيل في ذلك إن بئر غاضر مما دخلت في صدقة عثمان في بئر أريس، انتهى. وأظن قوله «النويرتين» تصحيفا، وصوابه البرزتان كما في كتاب ابن زبالة لما قدمناه.
تحديد مواضع الصدقات والمعروف منها
وأما بيان مواضع صدقات النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة فقد تقدم أن الصافية وبرقة والدلال والميثب متجاورات بأعلى الصورين؛ فالصافية معروفة هناك اليوم، قال الزين المراغي: هي في شرقي المدينة الشريفة بجزع زهرة، ورأيته ضبط بخطه زهيرة بضم الزاي مصغرة زهرة لاشتهاره في زمنه بذلك، وإنما هو زهرة مكبر لما سيأتي في ترجمتها، وبرقة معروفة أيضا في قبلة المدينة مما يلي المشرق، ولناحيتها شهرة بها كما قال المراغي.(3/153)
والدلال: جزع معروف أيضا قبلي الصافة بقرب المليكي، وقف فقهاء المدرسة الشهابية كما قاله الزين المراغي أيضا.
والميثب: غير معروف اليوم، ويؤخذ من وصف هذه الأربعة بكونها متجاورات قربها من الأماكن المذكورة، ولعله بقرب برقة لما سبق من أنهما اللذان غرسهما سلمان، وكانا لشخص واحد.
والأعواف: جزع معروف بالعالية بقرب المربوع، كما تقدم بيانه في بئر الأعواف من الفصل قبله.
ومشربة أم إبراهيم: معروفة بالعالية كما تقدم بيانه في المساجد.
وحسنى- ضبطها الزين المراغي كما في خطه بالقلم بضم الحاء وسكون السين المهملتين ثم نون مفتوحة- قال: وروايته كذلك في ابن زبالة بالسين بعد الحاء، قال: ولا يعرف اليوم، ولعله تصحيف من الحناء بالنون بعد الحاء، وهو معروف اليوم.
قلت: حمل ذلك على التصحيف المذكور متعذر؛ لأني رأيته بحاء ثم سين ثم نون في عدة مواضع من كتاب ابن شبة ومن كتاب ابن زبالة وغيرهما، وإن أراد أن أهل زمانه صحّفوه بالحناء فلا يصح أيضا؛ لأن الموضع المعروف اليوم بالحناء في شرقي الماجشونية، لا يشرب بمهزور، وقد تقدم أن حسنى يسقيها مهزور، وأنها بالقف، وسيأتي في بيان القف ما يقتضي أنه ليس بجهة الحناء. والذي يظهر أن حسني هو الموضع المعروف اليوم بالحسينيات بقرب الدلال، فإنه بجهة القف، ويشرب بمهزور، وسيأتي في القف ما يؤيده.
وهذه الأماكن السبعة هي صدقاته صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على أصل ما قاله رزين العبدري من أن الموضع المعروف بالبويرة بقباء صدقة النبي صلى الله عليه وسلم من النخل، قال: ولم تزل معروفة للمساكين، محبوسة عليهم، وعلى من مرّ بها إلى عهد قريب من تاريخ الخمسمائة كالعشرين سنة ونحوها، فتغّلب عليها بعض ولاة المدينة لنفسه، قال: وبها حصن النضير وحصون قريظة، انتهى.
وهو مردود من وجهين:
أحدهما: أن الآئمة المتقدم ذكرهم مع اعتنائهم بهذا الباب لم يذكروا هذا الموضع في صدقاته صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن ما ذكره من أن بهذا الموضع حصون قريظة والنضير مردود بما قدمناه في منازلهما، والموضع الذي ذكره في جهة قبلة المسجد إلى جهة المغرب من منازلهما، وسنبين في ترجمة البويرة أن هذا الموضع ليس هو البويرة المنسوبة لبني النضير، وكأن منشأ ما وقع له تسمية هذا الموضع بالبويرة، وأن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم من أموال النضير أو قريظة، على ما سبق من الخلاف، وظن أنه المراد.(3/154)
طلب فاطمة من أبي بكر صدقات أبيها
وهذه الصدقات مما طلبته فاطمة رضي الله تعالى عنها من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكذلك سهمه صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك.
وفي الصحيح عن عروة بن الزبير أن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها أخبرته أن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة» فغضبت فاطمة، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، قال: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك. وقال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا إذا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانتا لحقوقه التي تعروه.
ورواه ابن شبة، ولفظه: أن فاطمة رضي الله تعالى عنها أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله على رسوله، وفاطمة حينئذ تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال» وإني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملنّ فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر، رضي الله تعالى عنهم.
وفي رواية له أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر، وذكره مختصرا كما في رواية الصحيح أيضا، وقال فيه: فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك المال حتى ماتت، وكذا نقل الترمذي عن بعض مشايخه أن معنى قول فاطمة لأبي بكر وعمر «لا أكلمكما» أي في هذا الميراث، ولا يرده قوله «فهجرته» إذ ليس المراد الهجر الحرام، بل تركها للقائه، والمدة قصيرة، وقد اشتغلت فيها بحزنها ثم بمرضها، ويؤيد ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح إلى الشعبي مرسلا أن أبا بكر عاد فاطمة فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك، قالت: أتحبّ أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فرضّاها حتى رضيت عليه.
أما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بما سبق فلاعتقادها تأويله، قال الحافظ ابن حجر: كأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله «لا نورث» ورأت أن المنافع لكل ما خلفه(3/155)
من أرض وعقار لا يمنع أن يورث، وتمسك أبو بكر بالعموم، فلما صمم على ذلك انقطعت عنه.
قلت: بقي لذلك تتمة، وهي أنها فهمت من قوله «ما تركنا صدقة» الوقف ورأت أن حق النظر على الوقف وقبض نمائه والتصرف فيه يورث، ولهذا طالبت بنصيبها من صدقته بالمدينة، فكانت ترى أن الحق في الاستيلاء عليها لها وللعباس رضي الله تعالى عنهما، وكان العباس وعلي رضي الله تعالى عنهما يعتقدان ما ذهبت إليه، وأبو بكر يرى الأمر في ذلك إنما هو للإمام، والدليل على ذلك أن عليا والعباس جاءا إلى عمر يطلبان منه ما طلبت فاطمة من أبي بكر، مع اعترافهما له بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة» لما في الصحيح من قصة دخولهما على عمر يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من مال بني النضير، وقد دفع إليهما ذلك ليعملا فيه بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به وأبو بكر بعده، وذلك بحضور عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد والزبير، قال في الصحيح: فقال الرّهط عثمان وأصحابه: يا أمير المؤمنين اقص بينهما وأرح أحدهما من الآخر، فقال عمر: على تيدكم، أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة» يعني نفسه؟ فقال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على العباس وعلى عليّ فقال: أنشد كما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا:
قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله عز وجلّ قد خّص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفئ بشيء لم يعطه أحدا غيره، ثم قرأ وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ إلى قوله قَدِيرٌ [الحشر: 6] فكانت هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم، قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال عمر: ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو بكر، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم إنه فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا وليّ أبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي، والله يعلم إني فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني تكلمانّي وكلمتكما وحدة وأمركما واحد، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك وجاءني هذا- يريد عليا- يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة» فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملانّ فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل فيها(3/156)
أبو بكر وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا، فبذلك دفعتها إليكما، فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم، الحديث من رواية مالك بن أوس، وهو صريح في مطالبتهما مع اعترافهما بحديث «لا نورث» فليس محله إلا ما تقدم من أنهما فهما أن ذلك من قبيل الوقف، وأن ورثة الواقف أولى بالنظر على الموقوف، سيما وما قبضاه من أموال بني النضير هو صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولهذا زاد شعيب في آخر الحديث المذكور:
قال ابن شهاب: فحدثت بهذا الحديث عروة، فقال: صدق مالك بن أوس، أنا سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول، فذكر حديثها، قال: وكانت هذه الصدقة بيد علي منعها العباس فغلبه عليها، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم بيد علي بن حسين والحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مثله، وزاد: قال معمر: ثم كانت بيد عبد الله بن حسن حتى ولي هؤلاء، يعني بني العباس، فقبضوها، وزاد إسماعيل القاضي أن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان.
وفي سنن أبي داود عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر قصة بني النضير، وقال في آخرها: فكانت نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاها الله إياه، فقال وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ [الحشر: 6] الآية، قال: فأعطى أكثرها للمهاجرين، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة.
وقال ابن شبة: قال أبو غسان: صدقات النبي صلى الله عليه وسلم اليوم بيد الخليفة: يولى عليها، ويعزل عنها، ويقسم ثمرها وغلتها في أهل الحاجة من أهل المدينة على قدر ما يرى من هي في يده.
قال الحافظ ابن حجر، بعد نقل نحو ذلك عنه: وكان ذلك على رأس المائتين، ثم تغيرت الأمور، والله المستعان.
قلت: قال الشافعي فيما نقله البيهقي: وصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي- قائمة عندنا، وصدقة الزبير قريب منها، وصدقة عمر بن الخطاب قائمة، وصدقة عثمان، وصدقة عليّ، وصدقة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقة من لا أحصي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأعراضها.
وذكر المجد في ترجمة فدك ما يقتضي أن الذي دفعه عمر إلى علي والعباس رضي الله تعالى عنهم ووقعت الخصومة فيه هو فدك، فإنه قال فيها: وهي التي قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحلنيها، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أريد بذلك شهودا، فشهد لها عليّ، فطلب شاهدا آخر، فشهدت لها أم يمن، فقال: قد علمت يا بنت(3/157)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز إلا شهادة رجل وامرأتين، وانصرفت، ثم أدّى اجتهاد عمر لما ولي وفتحت الفتوح، وكان علي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها في حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك، فكانا يختصمان إلى عمر، فيأبى أن يحكم بينهما، ويقول: أنتما أعرف بشأنكما، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد فدك إلى ولد فاطمة، فكانت في أيديهم أيامه، فلما ولي يزيد بن عبد الملك قبضها، فلم تزل في بني أمية حتى ولي أبو العباس السفاح الخلافة، فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكان هو القيم عليها يفرقها في ولد علي، فلما ولي المنصور وخرج عليه بنو حسن قبضها عنهم، فلما ولي ابنه المهدي أعادها عليهم، ثم قبضها موسى بن الهادي ومن بعده إلى أيام المأمون، فجاءه رسول بني عليّ فطالب بها، فأمر أن يسجّل لهم بها، فكتب السجل وقرئ على المأمون، فقام دعبل وأنشد:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا ... بردّ مأمون هاشم فدكا
قلت: ورواية الصحيح السابقة عن عائشة ترد ما ذكره من دفع عمر فدك لعلي وعباس واختصامهما فيها؛ لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر، وكذلك ما ذكره من أن عمر بن عبد العزيز رد فدك إلى ولد فاطمة موافق لما نقله هو عن ياقوت من أن عمر بن عبد العزيز لما ولي خطب الناس، وقص قصة فدك وخلوصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنفاقه منها ووضع الفضل في أبناء السبيل، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليّا رضوان الله عليهم فعلوا كفعله، فلما ولي معاوية أقطعها مروان بن الحكم، وأن مروان وهبها لعبد العزيز وعبد الملك ابنيه، قال: ثم صارت لي وللوليد وسليمان، وأنه لما ولي الوليد سألته فوهبها لي وسألت سليمان حصّته فوهبها لي، فاستجمعتها، وأنه ما كان لي مال أحبّ إليّ منها، وإني أشهدكم أني رددتها على ما كانت في أيام النبي صلى الله عليه وسلم والأربعة بعده، فكان يأخذ مالها هو ومن بعده فيخرجه في أبناء السبيل.
قلت: وقيل إن الذي أقطع فدك لمروان عثمان رضي الله تعالى عنه، قال الحافظ ابن حجر: إنما أقطع عثمان فدك لمروان؛ لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عثمان عنها بأمواله، فوصل بها بعض قرابته.
وأما ما ذكره المجد من أن فاطمة رضي الله تعالى عنها ادّعت نحل فدك فروى ابن شبة ما يشهد له عن النمير بن حسان قال: قلت لزيد بن علي وأنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر:
إن أبا بكر انتزع من فاطمة رضي الله تعالى عنها فدك فقال: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان رجلا رحيما، وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتته فاطمة رضي الله تعالى عنها فقالت: إن رسول الله أعطاني فدك، فقال لها: هل لك على هذا بينة؟ فجاءت(3/158)
بعلي رضي الله تعالى عنه، فشهد لها، ثم جاءت بأم أيمن، فقالت: أليس تشهد أني من أهل الجنة؟ قال: بلى، قالت: فأشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فدك: فقال أبو بكر: فبرجل وامرأة تستحقينها أو تستحقين لها القضية؟ قال زيد بن علي: وأيم الله لو رجع لي الأمر لقضيت فيها بقضاء أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وروى ابن شبة أيضا عن كثير النوي قال: قلت لأبي جعفر: جعلني الله فداءك أرأيت أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما هل ظلماكم من حقكم شيئا أو ذهبا به؟ قال: لا والذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل، قال: جعلت فداءك فأتولاهما؟ قال: نعم، ويحك! تولهما في الدنيا والآخرة، وما أصابك ففي عنقي، ثم قال: فعل الله بالمغيرة وبكيان فإنهما كذبا علينا أهل البيت.
قلت: وبذلك الكذب تعلقت الرّوافض، ولم يفهموا الأحاديث المتقدمة على وجهها، والله أعلم.
الفصل الثالث فيما ينسب إليه ص من المساجد التي بين مكة والمدينة،
بالطريق التي كان يسلكها صلى الله عليه وسلم، وهي طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهي تفارق طريق الناس اليوم من قرب مسجد الغزالة كما سيأتي، فلا تمر بالخيف ولا بالصفراء، بل تمر بالحي وثنية هرشى ثم الجحفة كما سيتضح لك، ويكون طريق الناس اليوم على يمين السالك في هذا الطريق، فتمر على رابغ أسفل من الجحفة، ثم تلتقي مع هذه الطريق فوق الجحفة قرب طريق قديد.
وفي الأخبار أن من أدب الزائر إلى المساجد التي بين الحرمين أن يصلي فيها، وهي عشرون موضعا.
قلت: وهذا بالنسبة إلى هذه الطريق، مع أن أبا عبد الله الأسدي قد ذكر فيها أزيد من ذلك، وقد أضفنا إليه ما وجدناه في كلام غيره، وأوردناها على ترتيبها من المدينة إلى مكة، زادهما الله شرفا.
مسجد الشجرة (ذي الحليفة)
فمنها مسجد الشّجرة، ويعرف بمسجد ذي الحليفة أيضا، والحليفة: الميقات المدني، ويعرف اليوم ببئر علي.
روينا في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة مبدأه، وصلى في مسجدها.
وروى يحيى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة صلّى في مسجد الشجرة.(3/159)
وروى ابن زبالة عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين حج، تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الشجرة إلى الأسطوانة الوسطى، استقبلها، وكانت موضع الشجرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليها.
وعن أنس بن مالك قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين.
وعن ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة وصلى بها.
قلت: المعنيّ بذلك موضع المسجد المذكور، فإنه كان موضع نزوله صلى الله عليه وسلم، وبنى في موضع الشجرة التي كانت هناك، وبها سمي «مسجد الشجرة» وهي السّمرة التي ذكر في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحتها بذي الحليفة كما في الصحيح.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ فقال: لبّيك اللهم لبيك، الحديث.
وفي رواية له: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ بهؤلاء الكلمات.
ويتحصل من صحيح الروايات أنه صلى الله عليه وسلم خرج لحجته نهارا، وبات بذي الحليفة، وأحرم في اليوم الثاني من عند المسجد، فيظهر أن صلواته صلى الله عليه وسلم في تلك المدة كانت كلها به، ولم أقف على اغتساله صلى الله عليه وسلم لإحرامه بذي الحليفة.
وفي باب «ما يلبس المحرم» من البخاري عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجّل وادّهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه الحديث، وليس فيه تصريح بالاغتسال، لكن في طبقات ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم خرج في حجة الوداع من المدينة مغتسلا متدهنا مترجّلا متجرّدا في ثوبين سحاريين إزار ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة.
وفي كتاب التنبيهات للقاضي عياض: ظاهر المذهب أن المستحب الاغتسال بالمدينة، ثم يسير من فوره، وبذلك فسّره سحنون وابن الماجشون، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، كما استحب أن يلبس حينئذ ثياب إحرامه، وكذلك فعل عليه الصلاة والسلام، انتهى.
قلت: ولم يتعرض أصحابنا لذلك، لكن قالوا: إن من اغتسل في التنعيم في الإحرام أجزأه عن الغسل لدخول مكة للقرب، فيؤخذ منه اعتبار القرب، وهو مناف لظاهر ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم، إذ لم يحرم من ذي الحليفة إلا في اليوم الثاني، فيحتمل أنه أعاد الغسل حينئذ بذي الحليفة. أما لو كان الإحرام عقب الوضوء إلى ذي الحليفة ونحوه فلا يبعد القول به عندنا، كما ذكروا في الغسل للجمعة من الفجر، وعدم اشتراطهم لاتصاله بالرّواح.(3/160)
قال المطري، وتبعه من بعده، بعد بيان إحرامه صلى الله عليه وسلم عندما انبعثت به راحلته من عند المسجد: فينبغي للحاج إذا وصل إلى ذي الحليفة أن لا يتعدى في زاوية المسجد المذكور وما حوله من القبلة والمغرب والشام، بحيث لا يبعد عما حول المسجد، وإن كثيرا من الحجاج يتجاوزون ما حول المسجد إلى جهة المغرب، ويصعدون إلى البيداء، فيتجاوزون الميقات بيقين.
قلت: لم يبين نهاية ذي الحليفة. وقوله «حول المسجد» لا ضابط له، ولا يلزم من نزوله صلى الله عليه وسلم بالمسجد وما حوله انحصار ذي الحليفة في ذلك، وسنشير إلى زيادة في ذلك في ترجمة ذي الحليفة، مع بيان المسافة التي بينها وبين المدينة.
قال المطري: وهذا المسجد هو المسجد الكبير الذي هناك، وكان فيه عقود في قبلته، ومنارة في ركنه الغربي الشمالي، فتهدمت على طول الزمان.
قال المجد: ولم يبق منه إلا بعض الجدران وحجارة متراكمة.
قلت: جدد المقر الزيني زين الدين الاستدار بالمملكة المصرية تغمده الله برحمته هذا الجدار الدائر عليه اليوم، لما كان بالمدينة معزولا عام أحد وستين وثمانمائة، وبناه على أساسه القديم، وموضع المنارة في الركن الغربي باق على حاله، وجعل له ثلاث درجات من المشرق والمغرب والشام، في كل جهة منها درجة مرتفعة، حفظا له عن الدواب، ولم يوجد لمحرابه الأول أثر لانهدامه، فجعل المحراب في وسط جدار القبلة، ولعله كان كذلك، واتخذ أيضا الدرج التي للآبار التي هناك ينزل عليها من يريد الاستقاء.
وطول هذا المسجد من القبلة إلى الشام اثنان وخمسون ذراعا، ومن المشرق إلى المغرب مثل ذلك.
مسجد آخر بذي الحليفة
قال المطري: وفي قبلته مسجد آخر أصغر منه، ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيه أيضا، بينهما مقدار رمية سهم أو أكثر قليلا، انتهى.
قلت: ويؤخذ مما سيأتي عن الأسدي أنه مسجد المعرّس، والله أعلم.
مسجد المعرس
ومنها: مسجد المعرس- قال أبو عبد الله الأسدي في كتابة وهو من المتقدّمين يؤخذ من كلامه أنه كان في المائة الثالثة بذي الحليفة عدة آبار ومسجدان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسجد الكبير الذي يحرم الناس منه، والآخر مسجد المعرّس، وهو دون مصعد البيداء ناحية عن هذا المسجد، وفيه عرّس رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من مكة.
قلت: ليس هناك غير المسجد المتقدم ذكره في قبلة مسجد ذي الحليفة على نحو رمية سهم سبقي منه، وهو قديم البناء بالقصّة والحجارة المطابقة؛ فهو المراد.(3/161)
وفي صحيح البخاري في باب المساجد التي على طريق المدينة والمواضع التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن نافع أن عبد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان ينزل بذي الحليفة» حين يعتمر، وفي حجته حين حج» - تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو حجّ أو عمرة هبط بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرّس ثمّ حتى يصبح» ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، وكان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فدحا فيه السيل بالبطحاء، حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه.
قال الحافظ ابن حجر: قوله «بطن واد» أي وادي العقيق.
قلت: ورواه ابن زبالة بلفظ «هبط بطن الوادي، فإذا ظهر من بطن الوادي أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية» .
ورواه المطري من غير عزو، وقال فيه «هبط بطن الوادي وادي العقيق» وأظنه من الرواية بالمعنى، وهو يقتضي أن يكون المعرّس في شرقي وادي العقيق فلا يكون بذي الحليفة، فيتعين أن يكون المارد بطن واد في وادي العقيق؛ إذ المعرس ذو الحليفة.
ففي الحج من صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس» وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلّى بذي الحليفة ببطن الوادي وبات حتى يصبح» .
وفيه أيضا من طريق عقبة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أرى وهو في معرّسه بذي الحليفة ببطن الوادي قيل له: إنك ببطحاء مباركة، وقد أناخ بنا سالم يتوخّى المناخ الذي كان عبد الله ينيخ يتحرّى معرّس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسطا من ذلك.
قلت: والمسجد المتقدم ذكره ببطن الوادي، فلعله المراد، ويكون المعرس بقربه من المشرق.
وروى يحيى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له وهو بالمعرس نائم يعني معرس الشجرة:
إنك ببطحاء مباركة.
قلت: فيتأيد به ما تقدم لإضافته المعرس إلى الشجرة، ولا يشكل ذلك ببعد هذا المسجد عن الطريق التي تسلك اليوم إلى المدينة؛ لما تقدم من رواية ابن عمر في اختلاف طريق الشجرة وطريق المعرّس.
وروى البزار بسند جيد عن أبي هريرة نحوه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس» .(3/162)
وفي صحيح أبى عوانة حديث «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من طريق الشجرة إلى مكة، وإذا رجع رجع من طريق المعرس» .
وروى بعضهم عن نافع أنه انقطع عن ابن عمر حتى سبقه إلى المعرّس، ثم جاء إليه فقال: ما حبسك عني؟ فأخبره، فقال: إني ظننت أنك أخذت الطريق الأخرى، ولو فعلت لأوجعتك ضربا، وهذا لحرصه على الاتباع في النزول هناك، وقد أميتت هذه السنة.
وروى ابن زبالة عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا خرج إلى مكة يسلك على دار جبر بن علي، ثم على منازل بني عطاء، ثم في بطحان، ثم في زقاق البيت، حتى يخرج عند موضع دار ابن أبي الجنوب بالحرة» .
قلت: وهذه الأماكن غير معروفة بأعيانها، والله أعلم.
مسجد شرف الروحاء
ومنها: مسجد شرف الرّوحاء- قال البخاري عقب ما تقدم من رواية نافع وأن عبد الله حدّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الرّوحاء» .
وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي فيه صلّى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلى، وذلك على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك.
ورواه يحيى بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى إلى جانب المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الرّوحاء» وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعواسج، يكون عن يمينك حين تقوم في المسجد، وباقيه كلفظ البخاري.
وروى ابن زبالة عن ابن عمر قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرف الروحاء على يمين الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، وإلى يسارها وأنت مقبل من مكة.
قلت: وهذا المسجد هو المعنى بقول الأسدي: وعلى ميلين من السيالة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد الشرف، قال: وبين السيالة والرّوحاء أحد عشر ميلا، وبينها وبين ملل سبعة أميال، وهي لولد الحسين بن علي بن أبي طالب ولقوم من قريش، وعلى ميل منها عين تعرف بسويقية لولد عبد الله بن حسن، كثيرة الماء عذبة، وهي ناحية عن الطريق، قال: والجبل الأحمر الذي يسرة الطريق حين يخرج من السيالة يقال له ورقان، يسكنه قوم من جهينة يقال: إنه متصل إلى مكة لا ينقطع، وذكر آبارا كثيرة بالسيالة.
وقوله «وعلى ميلين من السيالة» أراد من أولها، ولهذا قال المطري: شرف الروحاء هو آخر السيالة وأنت متوجه إلى مكة، وأول السيالة إذا قطعت شرف ملل، وكانت الصخيرات صخيرات التمام عن يمينك، وقد هبطت من ملل ثم رجعت عن يسارك واستقبلت القبلة،(3/163)
فهذه السيالة وكانت قد تجدد فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم عيون وسكان، وكان لها وال من جهة والي المدينة ولأهلها أخبار وأشعار، وبها آثار البناء وأسواق، وآخرها الشرف المذكور، والمسجد عنده، وعنده قبور قديمة كانت مدفن أهل السيالة، ثم تهبط في وادي الروحاء مستقبل القبلة، ويعرف اليوم بوادي بني سالم، بطن من حرب عرب الحجاز؛ ثم ذكر ما سيأتي.
قلت: وتلك القبور التي عند المسجد مشهورة بقبور الشهداء، ولعله لكون بعضهم دفن فيها ممن قتل ظلما من الأشراف الذين كانوا بالسيالة وبسويقة، كما يؤخذ مما سنشير إليه في ترجمة سويقة.
مسجد عرق الظبية
ومنها مسجد عرق الظّبية- قال المطري عقب قوله «ثم يهبط في وادي الروحاء مستقبل القبلة» ما لفظه: فتمشي مستقبل القبلة وشعب على يسارك، إلى أن تدور الطريق بك إلى المغرب وأنت مع أصل الجبل الذي على يمينك، فأول ما يلقاك مسجد على يمينك كان فيه قبر كبير في قبلته فتهدم على طول الزمان، صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف ذلك المكان بعرق الظبية، ويبقى جبل ورقان على يسارك، قال: وفي المسجد الآن حجر قد نقش عليه بالخط الكوفي عند عمارته الميل الفلاني من البريد الفلاني، انتهى.
وقال الأسدي: وعلى تسعة أميال- يعني من السيالة- وأنت ذاهب إلى الرّوحاء مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد الظبية، فيه كانت مشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال أهل بدر، وهو دون الروحاء بميلين، انتهى.
وقال المجد في ترجمة الشرف: إن في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها «أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحد بملل على ليلة من المدينة، ثم راح فتعشى بشرف السيالة، وصلّى الصبح بعرق الظبية» .
وروى ابن زبالة عن عمرو بن عوف المزني قال: أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه غزوة الأبواء، حتى إذا كان بالرّوحاء عند عرق الظبية قال: هل تدرون ما اسم هذا الجبل؟
يعني ورقان، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حمت جبل من جبال الجنة، اللهم بارك لنا فيه، وبارك لأهله فيه، تدرون ما اسم هذا الوادي؟ يعني وادي الروحاء، هذا سجاسج، لقد صلّى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا، ولقد مرّ بها- يعني الروحاء- موسى بن عمران في سبعين ألفا من بني إسرائيل عليه عباءتان قطوانيتان على ناقة له ورقاء، ولا تقوم الساعة حتى يمر بها عيسى بن مريم حاجا أو معتمرا، أن يجمع الله له ذلك.
ورواه الطبراني، وفيه كثير بن عبد الله حسّن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات، إلا أنه قال فيه عقب قوله «وبارك لأهله فيه» وقال للروحاء هو سجاسج وهذا واد من أودية(3/164)
الجنة، لقد صلّى في هذا الوادي قبلي سبعون نبيا، ولقد مر به موسى عليه السلام عليه عباءتان قطوانيتان على ناقة ورقاء في سبعين ألفا من بني إسرائيل حاجين البيت العتيق، ولا تقوم الساعة حتى يمر بها عيسى بن مريم عبد الله ورسوله. ورواه يحيى بنحوه، إلا أنه قال: لقد صلّى قبلي في هذا الموضع سبعون نبيا، ورواه الترمذي بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في وادي الروحاء، وقال: لقد صلّى في هذا المسجد سبعون نبيا.
قلت: وآثار هذا المسجد موجودة هناك.
مسجد آخر بالروحاء
ومنها: مسجد بالروحاء، ذكره الأسدي، وغاير ما بينه وبين ما قبله وما بعده.
وقال الواقدي في غزوة بدر: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء النصف من شهر رمضان، فصلى عند بئر الروحاء.
وسيأتي في ترجمة الروحاء أنه كان بها آبار متعددة، فلم يبق منها اليوم سوى بئر واحدة، والله أعلم.
مسجد المنصرف (الغزالة)
ومنها: مسجد المنصرف، ويعرف اليوم بمسجد الغزالة، وهو آخر وادي الروحاء مع طرف الجبل، على يسارك وأنت ذاهب إلى مكة.
قال المطري: ولم يبق منه اليوم إلا عقد الباب.
قلت: وقد تهدم أيضا، ولم يبق إلا رسومه.
وقال الأسدي: وعلى ثلاثة أميال من الروحاء، يعني وأنت قاصد مكة، مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سند الجبل، يقال له مسجد المنصرف، جبل على يسارك تنصرف منه في الطريق، انتهى.
وقال البخاري: عقب ما قدمناه في مسجد الشرف من رواية نافع: وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتنى ثمّ مسجد فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه.
قلت: توهّم بعضهم أن المراد عرق الظبية، وليس كذلك؛ لتغاير المحلين، ورأيت بخط بعضهم هنا: العرق جبل صغير.
وروى ابن زبالة عن ابن عمر قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرف الروحاء، وبالمنصرف عند العرق من الروحاء.
وفي رواية ليحيى عن ابن عمر أنه كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء،(3/165)
وذلك العرق أثناء طريقه على حافة الطريق، دون السبيل الذي دون ثنية المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، قال نافع: كان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلي فيه الظهر.
وقال المطري عقب ما تقدم عنه في هذا المسجد: إن عن يمين الطريق إذا كنت بهذا المسجد وأنت مستقبل البادية موضعا كان عبد الله بن عمر ينزل فيه، ويقول: هذا منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثمّ شجرة كان ابن عمر إذا نزل هذا المنزل وتوضأ صبّ فضل وضوئه في أصل الشجرة، ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وودّ أنه كان يدور بالشجرة أيضا ثم يصبّ الماء في أصلها، اتباعا للسنة، وإذا كان الإنسان عند هذا المسجد المعروف بمسجد الغزالة كانت طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة على يساره مستقبل القبلة، وهي الطريق المعهودة قديما، ثم السقيا، ثم ثنية هرشى، وهي طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال: وليس بهذا الطريق اليوم مسجد يعرف غير هذا الثلاثة مساجد، يعني سوى مسجد ذي الحليفة.
قلت: سببه هجران الحجّاج لهذا الطريق، وأخذهم من طرف الروحاء على البادية إلى مضيق الصفراء ثم إلى بدر، وذكر لي بعض الناس ممن سلك تلك الطريق أن كثيرا من مساجدها موجود، وسيأتي أني ظفرت برؤية مسجد طرف قديد الآتي ذكره، والله أعلم.
مسجد الرويثة
ومنها: مسجد الرويثة- قال البخاري عقب ما تقدم عنه من حديث نافع: وأن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين، وقد انكسر أعلاها، وانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة.
وقوله «بريد الرويثة» أي: الموضع الذي ينتهي إليه البريد بالرويثة، وينزل فيه، وقيل:
البريد سكة الطريق، ورواه ابن زبالة بنحوه، وفي رواية له «صلى دون الرويثة عند موضع السرحة» .
وقال الأسدي: وفي أول الرويثة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وبين الرّوحاء والرويثة ثلاثة عشر ميلا، وقال في موضع آخر: ستة عشر ميلا ونصف، ووصف ما بالرويثة من الآبار والحياض، قال: ويقال للجبل المشرف عليها المقابل لبيوتها «الحمراء» وللذي في دبرها عن يسارها قبل المشرق «الحسناء» .
مسجد ثنية ركوبة
ومنها: مسجد ثنية ركوبة كما سيأتي من رواية ابن زبالة في مسجد مدلجة تعهن أنه صلى الله عليه وسلم(3/166)
«صلّى في ثنية ركوبة، وبنى بها مسجدّا» . وسيأتي أن ركوبة ثنية قبل العرج للمتوجه من المدينة على يمين ثنية العابر وثنية العابر هي عقبة العرج، والعرج بعدها بثلاثة أميال كما سيأتي، ولم يذكر الأسدي هذا المسجد.
مسجد الأثاية
ومنها: مسجد الأثاية- بالمثلثة والمثناة التحتية- كالنواية على الراجح.
روى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى عند بئر الأثابة ركعتين في إزار ملتحفا به» .
قال المطري: الأثاية ليست معروفة.
قلت: عرفها الأسدي فقال، في وصف طريق الذاهب لمكة: إن من الرويثة إلى الحي أربعة أميال، ثم قال: وعقبة العرج على أحد عشر ميلا من الرويثة، ويقال لها: المدارج، بينها وبين العرج ثلاثة أميال، وبها أبيات، وبئر عند العقبة، وقبل العرج بميلين قبل أن ينزل الوادي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف بمسجد الأثاية، وعند المسجد بئر تعرف بالأثاية، انتهى.
وقال المجد: الأثاية موضع في طريق الجحفة، بينه وبين المدينة خمسة وعشرون فرسخا، وفيه بئر، وعليها المسجد المذكور، وعندها أبيات وشجر أراك، وهو منتهى حد الحجاز، انتهى.
وهو موافق لما ذكره الأسدي؛ فإن منتهى حد الحجاز مدارج العرج، وهي بقربها.
وروى أحمد برجال الصحيح عن عمير بن سلمة الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مرّ بالعرج فإذا هو بحمار عقير، فلم يلبث أن جاء رجل بهر، فقال: يا رسول الله، هذا رميتي فشأنكم فيها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه يقسمه بين الرفاق، ثم سار حتى أتى عقبة الأثاية فإذا بظبي فيه سهم وهو حاقف في ظل صخرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه فقال: قف هاهنا حتى يمر الرفاق لا يرميه أحد بشيء» . ومقتضى ما سبق من صنيع الأسدي أن يكون هذا في رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة، خلاف ما اقتضاه صنيع الهيتمي حيث ترجم عليه بجواز أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يصده أو يصد له.
مسجد العرج
ومنها مسجد العرج- روى ابن زبالة عن صخر بن مالك بن إياس عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد العرج، وقال فيه» يعني من القيولة، وأسقط المطري هذا المسجد، وجعله المجد الذي بعده، وهو مردود، ولم يتعرض له الأسدي.(3/167)
مسجد المنبجس
ومنها: مسجد بطرف تلعة من وراء العرج، ووقع في نسخة المجد وخط الزين المراغي «بطريق تلعة» وهو تصحيف لأن الذي في صحيح البخاري وكتاب ابن زبالة طرف بالفاء.
قال البخاري، عقب ما تقدم عنه في مسجد الرويثة من رواية نافع، وأن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في طرف تلعة من وراء العرج، وأنت ذاهب إلى هضبة، وعند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، وعلى القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق، عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة فيصلي الظهر في ذلك المسجد.
ورواه ابن زبالة إلا أنه قال فيه: من وراء العرج وأنت ذاهب إلى رأس خمسة أميال من العرج في مسجد إلى هضبة.
وقال الأسدي: وعلى ثلاثة أميال من العرج قبل المشرق مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد المنبجس قبل الوادي، والمنبجس: وادي العرج، وعلى ثمانية أميال من العرج حوضان على عين تعرف بالمنبجس، انتهى. ولعله المسجد المذكور.
مسجد لحي جمل
ومنها: مسجد لحي جمل- قال الأسدي: وعلى ميل من الطلوب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع يقال له «لحى جمل» قال: والطلوب بئر غليظة الماء بعد العرج بأحد عشر ميلا، والسقيا بعد الطلوب بستة أميال، قال: وقبل السقيا بنحو ميل وادي العاند، ويقال له وادي القاحة، وينسب إلى بني غفار، اه.
فتلخص أن هذا المسجد قبل السقيا والقاحة وبعد العرج بالمسافة المذكورة.
ويؤيده أن ابن زبالة روى في سياق هذه المساجد حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «احتجم بمكان يدعى لحى جمل بطريق مكة وهو محرم» .
وفي رواية له «احتجم بالقاحة وهو صائم محرم» ففيه بيان قرب ذلك من القاحة، ولكن رأيت يحيى ختم كتابه بحديث ابن عمر في هذه المساجد وبآخر النسخة ما صورته:
نقل من خط أحمد بن محمد بن يونس الإسكاف في آخر الجزء: قلت: إنه لم يذكر في هذا الحديث المسجد الذي بين السقيا والأبواء الذي يقال له مسجد لحى جمل، انتهى.
وهو يقتضي أنه بعد السقيا بينها وبين الأبواء، ويوافقه قول عياض: قال ابن وضاح:
لحى جمل في عقبة الجحفة. وقال غيره: على سبعة أميال من السقيا.
ورواه بعض رواة البخاري «لحيي جمل» أي بالتثنية، وفسره فيه بأنه ما يقال له لحيي جمل أي في حديث «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم بلحيي جمل» .(3/168)
وقال المجد: هي عقبة على سبعة أميال من السقيا.
وفي كتاب مسلم أنه ماء.
مسجد السقيا
ومنها: مسجد السقيا- روى ابن زبالة في سياق المساجد التي بطريق مكة من حديث عوف بن مسكين بن الوليد البلوي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد بالسقيا» .
وقال الأسدي، بعد ما تقدم عنه في المسافة بين الطلوب والسقيا: وبالسقيا مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبل، وعنده عين عذبة، ثم ذكر أن بالسقيا أزيد من عشر آبار، وأن عند بعضها بركة. ثم قال: وفيها عين غزيرة الماء، ومصبها في بركة في المنزل، وهي تجري إلى صدقات الحسن بن زيد، عليها نخل وشجر كثير، وكانت قد انقطعت ثم عادت في سنة ثلاث وأربعين ومائتين ثم انقطعت في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، قال: وعلى ميل من المنزل موضع فيه نخل وزرع وصدقات للحسن بن زيد فيها من الآبار التي يزرع عليها ثلاثون بئرا، وفيها ما أحدث في أيام المتوكل خمسون بئرا، وماؤهن عذب، وطول رشائهن قامة وبسطة، وأقل وأكثر.
ثم وصف ما بعد السقيا فقال: وعلى ثلاثة أميال من السقيا عين يقال لها تعهن انتهى.
وفي حديث أبي قتادة في الصحيح بركة بتعهن، وهو مقابل السقيا، وسيأتي في ترجمة تعهن ما قيل من أنها قبل السقيا، مع بيان أن المعروف اليوم أنها بعدها.
مسجد مدلجة تعهن
ومنها: مسجد مدلجة عهن- روى ابن زبالة عن صخر بن مالك بن إياس عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى بمدلجة تعهن، وبنى بها مسجدّا، وصلّى في ثنية ركوبة، وبنى بها مسجدّا» .
قلت: لم يذكره إلا الأسدي، وقد سبق عنه أن تعهن بعد السقيا بثلاثة أميال.
مسجد الرمادة
ومنها: مسجد الرمادة- قال الأسدي: ودون الأبواء بميليين مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له «مسجد الرّمادة» وذكر ما حاصله أن الأبواء بعد السقيا لجهة مكة بأحد وعشرين ميلا، وأن في الوسط بينهما عين القشيري، وهي عين كثيرة الماء، ويقال للجبل المشرف عليها الأيسر «قدس» وأوله في العرج، وآخره وراء هذه العين، والجبل الذي يقابلها يمنة يقال له «باقل» ويقال للوادي الذي بين هذين الجبلين «وادي الأبواء» انتهى.(3/169)
مسجد الأبواء
ومنها: مسجد الأبواء- قال الأسدي بعد ما تقدم في وصف ما بين الأبواء والجحفة:
إن الجحفة بعد الأبواء بثلاثة عشر ميلا، قال: وفي وسط الأبواء مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر بها آبارا وبركا، منها بركة بقرب القصر، قال: وإذا جزت وادي الأبواء بميلين كان على يسارك شعاب تسمى «نلعان اليمن» وذكر أن ودّان ناحية عن الطريق بنحو ثمانية أميال، ينزل به من لا ينزل إلا الأبواء، فمن أراده رحل من السقيا إليه، وبه عيون غزيرة عليها سبعة مشارع وبركة قديمة، ثم يرحل منه فيخرج عند ثنية هرشي بينها وبين ودّان خمسة أميال، وقد عمل لهذه الطريق أعلام وأميال أمر بها المتوكل.
قلت: وكلا الطريقين عن يسار طريق الناس اليوم بأسفل ودّان وهي معطشة لا ماء بها إلا ما يحمل من بدر إلى رابغ.
مسجد البيضة
ومنها: مسجد يسمى بالبيضة- قال الأسدي: وعلى خمسة أميال وشيء من الأبواء مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له البيضة.
مسجد عقبة هرشي
ومنها: مسجد عقبة هرشى- قال الأسدي: وعلى ثمانية أميال من الأبواء عقبة هرشى، وعلم منتصف الطريق ما بين مكة والمدينة دون العقبة بميل، وفي أصل العقبة مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم حد الميل الذي مكتوب عليه سبعة أميال من البريد، انتهى.
قال البخاري، عقب ما تقدم عنه في المسجد الذي بطرف تلعة من رواية نافع: وأن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشي، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله بن عمر يصلي إلى سرحة هي أقبل السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن.
مسجد الجحفة
ومنها: مسجدان بالجحفة- قال الأسدي، في وصف ما بين الجحفة وقديد، بعد ذكر ما بالجحفة من الآبار والبرك والعيون: وفي أول الجحفة مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له غورث، وفي آخرها عند العلمين مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد الأئمة.
مسجد غدير خم
ومنها: مسجد بعد الجحفة، وأظنه مسجد غدير خم- قال الأسدي، بعد ما تقدم عنه: وعلى ثلاثة أميال من الجحفة بسرة عن الطريق حذاء العين مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهما الغيضة، وهي غدير خم، وهي على أربعة أميال من الجحفة، انتهى.(3/170)
وقال عياض: غدير خم تصب فيه عين، وبين الغدير والعين مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وأخبرني مخبر أنه رأى هذا المسجد على نحو هذه المسافة من الجحفة، وقد هدم السيل بعضه.
وفي مسند أحمد عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا الصّلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فصلى الظهر، وأخذ بيد علي وقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: فأخذ بيد علي وقال: اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال: هنيئا يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة، وعن زيد بن أرقم مثله.
مسجد طرف قديد
ومنها: مسجد ذكر الأسدي أنه قبل قديد بثلاثة أمثال، وذكر أن خيمتي أمّ معبد الخزاعية وموضع مناة الطاغية في الجاهلية على نحو هذه المسافة.
قلت: وقد عثرت في مسيري إلى مكة على مسجد قديم قرب طرف قديد، وهو مرتفع عن يمين الطريق، مبني بالأحجار والقصّة، يظهر أنه هذا المسجد.
مسجد عند حرة خليص
ومنها: مسجد عند حرة عقبة خليص قال الأسدي: من قديد إلى عين ابن بزيع وهي خليص على ثمانية أميال وشيء، وذكر آبارا كثيرة بقديد، قال: وعقبة خليص بينها وبين خليص ثلاثة أميال، وهي عقبة تقطع حرّة تعترض الطريق يقال لها ظاهرة البركة، والشجر ينبت في تلك الحرة، وعند الحرة مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسجد خليص
ومنها: مسجد خليص قال الأسدي: خليص عين غزيرة كثيرة الماء، وعليها نخل كثير، وبركة، ومشارع، ومسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسجد بطن مر الظهران
ومنها: مسجد بطن مرّ الظّهران قال البخاري، عقب ما تقدم عنه في مسجد عقبة هرشى من رواية نافع: وأن عبد الله بن عمر حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مرّ الظّهران قبل المدينة، حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا رمية بحجر» .(3/171)
قال المطري، في وصف هذا المسجد: إنه بوادي مرّ الظهران حين يهبط من الصفراوات عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، قال: ومر الظهران هو بطن مرّ المعروف، وليس المسجد بمعروف اليوم، انتهى.
وقال الزين المراغي: ويقال: إنه المسجد المعروف بمسجد الفتح، انتهى.
وقال التقي الفاسي: المسجد الذي يقال له مسجد الفتح بالقرب من الجموم من وادي مر الظهران، يقال: إنه من المساجد التي صلّى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما قاله المراغي.
ثم قال: وممن عمر هذا المسجد على ما بلغني أي جدد عمارته أبو علي صاحب مكة، وممن عمره بعد ذلك الشريف حياش، قال: وبيضه في عصرنا ورفع أبوابه صونا له الشريف حسن بن عجلان، انتهى.
وهذا المسجد ينظره الذاهب من الجموم إلى مكة عن يساره عند المسيل.
وقال الأسدي: بين مكة وبطن مر سبعة عشر ميلا، وببطن مر مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبركة للسيل طولها ثلاثون ذراعا، وربما ملئت هذه البركة من عين يقال لها العقيق، قال: وبحضرة هذه البركة بئران.
مسجد سرف
ومنها: مسجد سرف- بفتح السين المهملة، وكسر الراء- وهذا المسجد به قبر ميمونة رضي الله تعالى عنها، شاهدته وزرته؛ إذ المرويّ أنها دفنت بسرف، بالموضع الذي بني عليها النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وفي حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم «كان لا ينزل منزلا إلا ودّعه بركعتين» وقال الأسدي ما لفظه: ومسجد سرف على سبعة أميال من مر، وقبر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم دون سرف، اه. والمعروف ما قدمناه.
قال التقي الفاسي: من القبور التي ينبغي زيارتها قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، وهو معروف بطريق وادي مر، قال: ولا أعلم بمكة ولا فيما قرب منها قبر واحد ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذا القبر؛ لأن الخلف تأثر ذلك عن السلف.
مسجد التنعيم
ومنها: مسجد بالتنعيم قال الأسدي: والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال، وهو موضع الشجرة، وفيه مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه آبار، ومن هذا الموضع يحرم من أراد أن يعتمر. ثم قال: ميقات أهل مكة بالإحرام مسجد عائشة، وهو بعد الشجرة بميلين، وهو دون مكة بأربعة أميال، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة، اه.
قلت: وبالتنعيم عدّة مساجد: اثنان منها اختلف في المنسوب منهما لعائشة رضي الله تعالى عنها، ولم يذكر التقي ولا غيره بالتنعيم مسجدّا للنبي صلى الله عليه وسلم.(3/172)
قال التقي في ذكر مسجد عائشة: وهذا المسجد اختلف فيه، فقيل: هو المسجد الذي يقال له مسجد الهليلجة، لشجرة هليلجة كانت فيه وسقطت من قريب، وهو المتعارف عند أهل مكة على ما ذكره سليمان بن خليل، وفيه حجارة مكتوب فيها ما يؤيد ذلك، وقيل:
هو المسجد الذي بقربه بئر، وهو بين هذا المسجد وبين المسجد الذي يقال له «مسجد علي» بطريق وادي مر الظهران، وفي هذا أيضا حجارة مكتوب فيها ما يشهد لذلك، ورجّح المحبّ الطبري أنه المسجد الذي بقربه البئر، وهو الذي يقتضيه كلام إسحاق الخزاعي وغيره، قال: إن بين مسجد الهليلجة وأول الأعلام سبعمائة ذراع وأربعة عشر ذراعا بذراع الحديد، وذرع ما بينه وبين المسجد الآخر ثمانمائة ذراع واثنان وسبعون ذراعا بالذراع المذكور، اه.
والأقرب لكلام الأسدي أن مسجد عائشة رضي الله تعالى عنها هو مسجد الهليلجة؛ لكونه أقرب إلى أعلام الحرم من الثاني، ولعل المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم هو مسجد عليّ أو المسجد الثاني.
عمرات الرسول صلى الله عليه وسلم
ورأيت عن بعضهم: روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة التنعيم، وعمرة الجعرانة.
قلت: وذكر التنعيم غير معروف، والمعروف في الرابعة أنها التي مع حجّته، فلعل المراد من نسبتها إلى التنعيم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة فيها من جهته.
مسجد ذي طوى
ومنها: مسجد ذي طوى- قال البخاري، عقب ما تقدم عنه في مسجد بطن مرّ من رواية نافع: وأن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان ينزل بذي طوى، ويبيت حتى يصبح يصلي الصبح حين يقدم مكة» ومصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة ليس في المسجد الذي بنى ثم، ولكن أسفل من ذلك، على أكمة غليظة، وأن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم «استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة، انتهى.
قال المطري، وتبعه من بعده: وادي ذي طوى هو المعروف بمكة بين الثنيتين.
قلت: ويعرف عند أهل مكة اليوم كما قال التقي بما بين الحجونين، وهو موافق لقول الأزرقي: بطن ذي طوى ما بين مهبط ثنية المقبرة التي بالمعلى إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء تهبط على قبور المهاجرين، انتهى.(3/173)
وقال الأسدي، في وصف ما بين مسجد عائشة رضي الله تعالى عنها ومكة: فج بعد مسجد عائشة رضي الله تعالى عنها بنحو ميلين، وعقبة المذنبين بعد فج بميل يسرة عن الطريق، وطريق ذي طوى إلى المسجد نحوا من نصف ميل، وقال في موضع آخر: يستحب الصلاة بمسجد ذي طوى، وهو بين مسجد ثنية المذنبين المشرفة على مقابر مكة وبين الثنية التي تهبط على الحصحاص، وذلك المسجد ثنية زبيدة، انتهى.
الفصل الرابع في بقية المساجد التي بين مكة والمدينة
بطريق الحاج في زماننا، وبطريق المشبان، وما قرب من ذلك، وما حل صلى الله عليه وسلم به من المواضع، وإن لم يبن مسجدّا
دبّة المستعجلة
فمنها: موضع بدبّة المستعجلة- بفتح الدال المهملة وتشديد الموحدة- وهو الكثيب من الرمل.
روى ابن زبالة عن محمد بن فضالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بالدّبّة دبة المستعجلة من المضيق، واستقى له من بئر الشعبة الصابّة أسفل من الدبة، فهو لا يفارقها أبدا
قال المطري: والمستعجلة هي المضيق الذي يصعد إليه الحاج إذا قطع النازية وهو متوجه إلى الصفراء، يعني من أعلى فركان خيف بني سالم.
شعب سير
قال: وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بشعب سير وهو الشعب الذي بين المستعجلة والصفراء- وقسم به غنائم أهل بدر، ولا يزال فيه الماء غالبا، انتهى.
قلت: الذي قاله ابن إسحاق كما في تهذيب ابن هشام: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له سير إلى سرحة، وقسم هناك النّفل.
قلت: وهو صريح في أن سير بعد مضيق الصفراء للجائي من بدر، وبعده النازية، فإن كانت المستعجلة هي مضيق الصفراء فهو يقتضي أن سير بينها وبين النازية، فهو مخالف لما ذكره المطري من أنه بين المستعجلة والصفراء، فليحمل مضيق الصفراء على غير المضيق الذي هو المستعجلة، ويكون مضيق الصفراء هنا من ناحية أسفل الخيف؛ لأن الذي ذكره المطري في شعب سير هو المعروف اليوم، ولأني رأيت في أوراق لم أعرف مؤلفها أن شعب سير هو النزلة التي كانت للحاج إذا رجع عن المستعجلة ونزل في فركان الخيف.
قال: وهناك بركة قديمة، وهو الشعب بين جبلين يعرف بجبال المضيق علو الصفراء، وبينه وبين المستعجلة نحو نصف فرسخ، انتهى. والبركة والموضع معروفان كما وصف،(3/174)
ولعل سير هذا هو المعبر عنه في رواية ابن زبالة بالدبة؛ لأنها مجتمع الرمل، وقد سماه ابن إسحاق كثيبا، ويؤخذ منه أن الخيف كله أعلاه، وأسفله هو مضيق الصفراء.
ذكر عدة مساجد
ومنها: مسجد بذات أجدال، ومسجد بالجيزتين من المضيق، ومسجد بذفران، وموضع بذنب ذفران المقبل.
وروى ابن زبالة عن ابن فضالة قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد بذات أجدال من مضيق الصفراء، ومسجد بالجيزتين من المضيق، ومسجد بذفران المدبر من البناء، وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنب ذفران المقبل الذي يصبّ في الصفراء، قال: فحفرت بئر هنالك يقال: إنها في موضع جبهة النبي صلى الله عليه وسلم، فلها فضل في العذوبة على ما حواليها.
قلت: مضيق الصفراء تقدمت الإشارة إليه قريبا، وذفران: واد معروف قبل الصفراء بيسير، يصب سيله فيها، ويسلكه الحاج المصري في رجوعه من المدينة إلى ينبغ، فيأخذ ذات اليمين ويترك الصفراء يسارا.
قال ابن إسحاق، في وصف مسيره صلى الله عليه وسلم إلى بدر: فلما كان بالمنصرف- أي عند مسجد الغزالة- ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدرا، فسلك في ناحية منها حتى جزع- أي قطع- واديا يقال له رجفان بين النازية وبين مضيق الصفراء ثم على المضيق، ثم انصب حتى إذا كان قريبا من الصفراء، ثم ذكر أنه بعث من يتجسس له الأخبار.
قال: ثم ارتحل، فلما استقبل الصفراء- وهي قرية بين جبلين- سأل عن جبليها: ما أسماؤهما؟ فقالوا: يقال لأحدهما المسلح، وقالوا للآخر: هذا مجرى، وسأل عن أهلهما فقيل: بنو النار وبنو حراق، بطنان من بني غفار، فكرههما صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما، فترك الصفراء يسارا، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران.
مسجد ذفران
قلت: وبذفران اليوم مسجد يتبرك به على يسار من سلكه إلى ينبع، فأظنه مسجد ذفران، ورأيت قبل الوصول إلى طرف ذفران الذي يلي الصفراء على يمين السالك في طريق مكة يريد الصفراء، رأيت عليها مسجدّا مبنيا بالجص مرتفعا عن الطريق يسيرا، يتبرك الناس بالصلاة فيه، وليس بقربه مساكن؛ فالظاهر أنه أحد المساجد المذكورة، ورأيت أمام محرابه قبرا قديما محكم البناء، ولعله قبر عبيدة بن الحارث بن المطلب، فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه مات بالصفراء من جراحته التي أصابته في المبارزة ببدر، ولم يذكروا محل دفنه، إلا أن(3/175)
ابن عبد البر قال عقبه: ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مع أصحابه بالنازيين قال له أصحابه: إنا نجد ريح مسك، فقال: وما يمنعكم وهاهنا قبر أبي معاوية؟ يعني عبيدة بن الحارث، انتهى. والنازيين غير معروف اليوم.
وقال المطري، عقب ذكر وفاة عبيدة بالصفراء: فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وكان أسنّ بني عبد مناف يومئذ، وأظن مستنده في ذكر الدفن بها موته بها مع قول هند بنت أثائة في رثائه على ما نقله ابن إسحاق:
لقد ضمّن الصّفراء مجدّا وسوددا ... وحلما أصيلا وافر اللّبّ والعقل
عبيدة، فابكيه لأضياف غربة ... وأرملة تهوى لأشعث كالجدل
وقال الزين المراغي: إنه مات بالصفراء من جراحته، فإن قبره بذفران، هكذا رأيته بخطه، ولم أقف على مستنده في ذلك، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسلك ذفران في رجوعه من بدر؛ لأنه رجع على الصفراء، لكنه مرّ بطرف ذفران الذي يصب فيها.
مسجد الصفراء
ومنها: مسجد بالصفراء روى ابن زبالة عن طلحة بن أبي جدير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد الصفراء.
قلت: ذكر لي بعض الناس أن هذا المسجد معروف بالصفراء يتبرك به.
مسجد ثنية مبرك
ومنها: مسجد بثنية مبرك- روى ابن زبالة عن الأصبغ بن مسلم وعيسى بن معن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى مطلعه من ثنية مبرك، في مسجد هناك بينه وبين دعان ستة أميال أو خمسة.
قلت: ثنية مبرك: معروفة تسلك إلى ينبغ في المغرب من جهة أسفل خيف بني سالم من ذات اليمين، وطريق الصفراء ذات اليسار.
مسجد بدر
ومنها: مسجد بدر- كان العريش الذي بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر عنده، وهذا المسجد معروف اليوم بقرب بطن الوادي بين النخيل، والعين قريبة منه، وبقربه في جهة القبلة مسجد آخر يسميه أهل بدر، مسجد النصر، ولم أقف فيه على شيء.
مسجد العشيرة
ومنها: مسجد العشيرة- معروف ببطن ينبع، وهو مسجد القرية التي ينزلها الحاج المصري ينبع، في ورده وصدره.
روى ابن زبالة عن عليّ بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد ينبع بعين بولا.(3/176)
قلت: والعين اليوم جارية عنده، لكن لا تعرف بهذا الاسم.
قال المجد: وهذا المسجد اليوم من المساجد المقصودة المشهورة، والمعابد المشهودة المذكورة، تحمل إليه النذور، ويتقرب إلى الله بالزيارة له والحضور، ولا يخفى على النفس المؤمنة روح ظاهرة على ذلك المكان، وأنس يشهد له بأنه حضرة سيد الإنس والجان.
مساجد الفرع
ومنها: مساجد ثلاثة بالفرع- بضم الفاء- يمر بها من سلك طريقها إلى مكة.
روى ابن زبالة عن أبي بكر بن الحجاج وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الأكمة من الفرع، فقال في مسجدها الأعلى، ونام فيه، ثم راح فصلى الظهر في المسجد الأسفل من الأكمة، ثم استقبل الفرع فبرّك فيها، وكان عبد الله بن عمر ينزل المسجد الأعلى فيقيل فيه، فيأتيه بعض نساء أسلم بالفراش، فيقول: لا، حتى أضع جنبي حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنبه، وأن سالم بن عبد الله كان يفعل ذلك، وروى أيضا عن عبد الله بن مكرم الأسلمي عن مشيخته أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في موضع المسجد بالبرود من مضيق الفرع، وصلّى فيه.
مسجد الضيقة
ومنها: مسجد بالضيقة وكهف أعشار- روى ابن زبالة عن أبي بكر بن الحجاج وسليمان بن عاصم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد في الضيقة مخرجه من ذات حماط. وذكر الزبير ذات الحماط في الأودية التي تصبّ في وادي العقيق في القبلة مما يلي المغرب قرب البقيع، ثم روى هذا الحديث. وذكر أيضا في هذه الأودية كهف أعشار، كما سيأتي عنه، ثم روي عن أبي بكر بن الحجاج وسليمان بن عاصم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق نزل في كهف أعشار وصلى فيه.
مسجد مقمل
ومنها: مسجد مقمل، بوسط النقيع حمى النبي صلى الله عليه وسلم، على يومين من المدينة في جهة درب المشبان.
روى ابن زبالة عن محمد بن هيصم المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على مقمل ظرب وسط النقيع، وصلّى عليه، فمسجده هنالك.
قال أبو هيصم المدني: وكان أبو البحتري وهب بن وهب في سلطانه على المدينة بعث إليّ بثمانين درهما فعمرته بها.
قال أبو علي الهجري: إن مقملا على ظرب صغير، على غلوة من برام، عليه المسجد المذكور، ووهم المجد فعدّه في مساجد المدينة.(3/177)
الفصل الخامس في بقية المساجد والمواضع المتعلقة به ص
مسجد العصر
فمنها: مسجد العصر، وعصر سيأتي أنه على مرحلة من المدينة.
قال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر، فبني له فيها مسجد، ثم على الصهباء.
قال المطري: مسجد عصر من مشهوري المساجد التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى خيبر.
مسجد الصهباء
ومنها: مسجد بالصهباء، وهي على روحة من خيبر.
روى مالك عن سويد بن النعمان رضي الله تعالى عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء- وهي من أدنى خيبر- نزل فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ، قال المطري: والمسجد بها معروف.
قلت: وقد قدمنا قصة رد الشمس عنا عند ذكر مسجد الفضيخ من مساجد المدينة.
مسجدان قرب خيبر
ومنها: مسجدان بقرب خيبر أيضا قال الإقشهري، ومن خطه نقلت وبنى له صلى الله عليه وسلم مسجد بالحجارة حين انتهى إلى موضع بقرب خيبر يقال له المنزلة، عرّس بها ساعة من الليل فصلى فيها نافلة، فعادت راحلته تجرّ زمامها، فأدركت لترد فقال: دعوعا فإنها مأمورة، فلما انتهت إلى موضع الصخرة بركت عندها، فتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة، وتحوّل الناس إليها، وابتنى هنالك مسجدّا، فهو مسجدهم اليوم.
مسجد بين الشق ونطاة
ومنها: مسجد بين الشق والنطاة من خيبر روى ابن زبالة عن حسن بن ثابت بن ظهير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتى خيبر، ودليله رجل من أشجع، فسلك به صدور الأودية، فأدركته الصلاة بالقرقرة، فلم يصل حتى خرج منها، فنزل بين أهل الشق وأهل النطاة، وصلّى على عوسجة هناك، وجعل حولها الحجارة.
مسجد شمران
ومنها: مسجد بشمران- روى ابن زبالة عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جبل بخيبر يقال له شمران، فثم مسجده من ناحية سهم بني النذار، قال المطري: ويعرف هذا الجبل اليوم بشمران.(3/178)
مساجد تبوك
ومنها: مساجد غزوة تبوك- قال ابن رشد، في بيانه: بنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بين تبوك والمدينة نحو ستة عشر مسجدّا، أولها بتبوك وآخرها بذي خشب، وذكر ابن زبالة نحو هذه العدة، وقال ابن إسحاق: كانت المساجد معلومة مسماة، وسردها أربعة عشر مسجدّا، وخالف في تعيين بعض مواضعها لما ذكره ابن زبالة، وذكرها الحافظ عبد الغني وزاد عن الحاكم مسجدّا.
وقد اجتمع لنا من مجموع ذلك عشرون مسجدّا:
فالأول: بتبوك، قال ابن زبالة: ويقال له مسجد التوبة، قال المطري: وهو من المساجد التي بناها عمر بن عبد العزيز، قال المجد: دخلته غير مرة، وهو عقود مبنية بالحجارة.
الثاني: بثنية مدران- بفتح الميم وكسر الدال المهملة- تلقاء تبوك.
الثالث: بذات الزراب- بكسر الزاي- على مرحلتين من تبوك.
الرابع: بالأخضر، على أربع مراحل من تبوك.
الخامس: بذات الخطمى، كذا في تهذيب ابن هشام، ومشى عليه المجد، وفي كتاب المطري «بذات الخطم» بفتح الخاء المعجمة ثم طاء مهملة على خمس مراحل من تبوك.
السادس: ببألى- بالموحدة المفتوحة، ثم همزة ولام مفتوحتين- على خمس مراحل أيضا منها، قاله المطري، وكذا هو في تهذيب ابن هشام، وفي نسخة ابن ربالة بنقيع بولا.
السابع: بطرف البتراء، تأنيث أبتر، قال ابن إسحاق: من ذنب كواكب وقال أبو عبيدة البكري: إنما هو كوكب جبل هناك ببلاد بني الحارث بن كعب.
الثامن: بشق تاراء- بالمثناة الفوقية والراء- زاد ابن زبالة: من جويرة.
التاسع: بذي الحليفة، قاله ابن زبالة وغيره أيضا، وهو غريب لم يذكره أصحاب البلدان.
العاشر: بذي الخليفة، لم أر من جمعه مع الذي قبله إلا المجد، وقال: إنه بكسر الخاء المعجمة، وقيل بفتحها، وقيل بجيم مكسورة، وقيل بحاء مهملة مفتوحة، واقتصر في أسماء البقاع على كسر الجيم، والذي في تهذيب ابن هشام ذكر هذا المسجد بدل الذي قبله، وعكس ابن زبالة.
الحادي عشر: بالشوشق، قاله الحافظ عبد الغني عن الحاكم، قال المجد: وكأنه تصحيف.
الثاني عشر: بصدر حوضي- بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، مقصور كما وجد بخط ابن الفرات، واقتصر عليه المطري، وقال المجد- مع ذكره لذلك في أسماء البقاع: إنه بفتح(3/179)
الحاء والمد موضع بين وادي القرى وتبوك قال: وهناك مسجده صلى الله عليه وسلم، انتهى. وهو مخالف لما ذكره هناك من المغايرة بين مسجد ذي الحليفة وبين مسجد صدر حوضي في ذنب حوضي ومسجد آخر في ذي الحليفة من صدر حوضي، والمغايرة هي التي في تهذيب ابن هشام، ولعله صدر حوضي هو المعبر عنه بسمنة في رواية ابن زبالة، فإنه كما سيأتي ماء قرب وادي القرى، وفي نسخة المجد في حكاية روايته: ومسجد بذنب حويضي بدل قوله بسمنة.
الثالث عشر: بالحجر، وذكر ابن زبالة بدله العلاء، وكلاهما بوادي القرى.
الرابع عشر: بالصعيد صعيد قزح.
الخامس عشر: بوادي القرى، وقال الحافظ عبد الغني، في مسجد الصعيد: وهو اليوم مسجد وادي القرى.
قلت: فهذا والذي قبله بوادي القرى، وفي رواية ابن زبالة: ومسجدان بوادي القرى أحدهما في سوقها والآخر في قرية بني عذرة، فلعل هذا هو الذي بقرية بني عذرة، والذي قبله هو الذي بالسوق، لكن المجد غاير بين الثلاثة أخذا بظاهر العبارة، ولأن في رواية أخرى لابن زبالة «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي بصعيد قزح من الوادي، وتعلمنا مصلاه بأحجار وعظم، فهو المسجد الذي يجتمع فيه أهل الوادي» .
السادس عشر: بقرية بني عذرة، لم يذكره ابن إسحاق، وذكره ابن زبالة كما تقدم.
السابع عشر: بالرقعة، على لفظ رقعة الثوب، قال أبو عبيد البكري: أخشى أن يكون بالرقمة- بالميم- من الشقة شقة بني عذرة، وقال ابن زبالة بدله: بالسقيا، قال المجد في أسماء البقاع: والسقيا من بلاد عذرة قريبة من وادي القرى.
الثامن عشر: بذي المروة، قال المطري: وهو على ثمانية برد من المدينة، كان بها عيون ومزارع وبساتين أثرها باق إلى اليوم.
قلت: وسيأتي في ترجمتها ما جاء في نزوله صلى الله عليه وسلم بها.
التاسع عشر: بالفيفاء فيفاء الفحلتين، قاله المطري، كان بها عيون وبساتين لجماعة من أولاد الصحابة وغيرهم.
قلت: وسيأتي في ترجمة الفحلتين أنهما قنتان تحتهما صخر على يوم من المدينة.
العشرون: بذي خشب على مرحلة من المدينة، ولفظ رواية ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى تحت الدومة التي في حائط عبيد الله بن مروان بذي خشب، فهنالك يجتمعون.
وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في موضع المسجد تحت دومة، فأقام ثلاثا، ثم خرج إلى تبوك، وإن جهينة لحقوه بالرحبة، فقال لهم: من أهل ذي المروة؟ قالوا: بنو رفاعة من جهينة، فقال: قد قطعتها لبني رفاعة، فاقتسموها، فمنهم من باع ومنهم من أمسك فعمل.(3/180)
وسنتكلم على هذه الأماكن بأوفى من هذا في محلها إن شاء الله تعالى.
مسجد الكديد
ومنها: موضع مصلّاه بنخل، ومسجد على ميل من الكديد- روى ابن زبالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بنخل تحت أثلة لرجل من أشجع من بني نعيم في مزرعة له في وسطها نخل، وصلى تحتها، فأضرّ الناس بتلك المزرعة، فقطع صاحب المزرعة تلك الأثلة، قال: ثم أصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن نخل حتى جاوز الكديد بميل، فنزل تحت سرحة وصلّى تحتها، فموضع مسجده اليوم معروف، وأنه صلى الله عليه وسلم صلّى بالجبل من بلاد أشجع.
قلت: نخل موضع بنجد كما سيأتي في محله، والكديد: موضع بقربه، لا الكديد الذي بين خليص وعسفان، وذكر الأسدي هذا المسجد في وصف الطريق بين فيد والمدينة، فقال بعد ذكر ذي أمر: إن الكديد واد، والطريق يقطعه، فلما يفارقه ماء عذب مستنقع، وفيه مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه خيام أعراب من بني كنانة، والنخيل قريب منها، وذكر أن بين النخيل وبئر السائب اثنين وأربعين ميلا؛ فعبر عن نخل بالنخيل مصغرا، وذلك هو المعروف اليوم قرب الكديد.
مسجد الشجرة بالحديبية
ومنها: مسجد بالحديبية يقال له مسجد الشجرة- وهو غير معروف، بل قال المطري:
لم أر في أرض مكة من يعرف اليوم الحديبية إلا الناحية لا غير، انتهى. وهو الموضع الذي نزل به النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية يريد مكة فعاقه المشركون.
قال ابن شبة، فيما نقل عن ابن شهاب: الحديبية واد قريب من بلدح، وقال صاحب المطالع: هي قرية ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة، وقال التقي الفاسي: يقال إن الحديبية الموضع الذي فيه البئر المعرف ببئر شميس بطريق جدة.
مسجد ذات عرق
ومنها: مسجد دون ذات عرق بميلين ونصف- قال الأسدي في وصف طريق ذات عرق من جهة نجد والعراق: إن بركة أو طاس يسرة عن الطريق بائنة عن المحجة، وبعدها مسجد يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ودون ذات عرق بملين ونصف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ميقات الإحرام، وهو أول تهامة، فإذا صرت عند الميل الثامن رأيت هناك بيوتا في الجبل خرابا يمنة عن الطريق، يقال: إنها ذات عرق الجاهلية، وأهل ذات عرق يقولون: الجبل كله ذات عرق، وبعض أهل العلم كان يحب أن يحرم من ذات عرق الجاهلية.
مسجد الجعرانة
ومنها: مسجد بالجعرانة- عن محرس الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، وجاء مكة ليلا، فقضى عمرته، ثم خرج من ليلته وأصبح في(3/181)
الجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد خرج في بطن شرف حتى جامع الطريق، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس، رواه أحمد والترمذي وحسّنه.
وذكر الواقدي أن إحرامه صلى الله عليه وسلم من الجعرانة كان ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، وأنه أحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى، وكان مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالجعرانة به، فأما الأدنى فبناه رجل من قريش، واتخذ الحائط عنده، ولم يجز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلا محرما.
وعن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة، وإني لا أعرف من اتخذ هذا المسجد على الأكمة، بناه رجل من قريش، واشترى مالا عنده ونخلا. وبيّن في رواية أخرى أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بالجعرانة، وأن المسجد الأدنى بناء رجل من قريش، رواه الأزرق.
مسجد لية
ومنها: مسجد لية، وبين وادي لية ووادي الطائف نحو ثمانية أميال.
قال ابن إسحاق: سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من حنين متوجها إلى الطائف على نخلة اليمانية، ثم على قرن وهو مهلّ أهل نجد، ثم على المليج، ثم على بحرة الرّغا من لية، فابتنى بها مسجدّا وصلى فيه.
قال المطري: وهو معروف اليوم وسط وادي لية، رأيته وعنده أثر في حجر يقال به أثر خف ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق عن حديث عمرو بن شعيب له: إنه صلى الله عليه وسلم أقاد يومئذ ببحرة الرّغا، وحين نزلها ندم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل، فقتله به.
مسجد الطائف
ومنها: مسجد بالطائف- قال ابن إسحاق بعد ما تقدم عنه: ثم سلك صلى الله عليه وسلم في طريق يقال له الضيقة، وسأل عن اسمها فقيل: الضيقة، فقال بل هي اليسرى، ثم خرج منها على نخب- وهي عقبة في الجبل- حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة، قريبا من مال رجل من ثقيف، ثم مضى حتى نزل قريبا من الطائف، فقتل ناس من أصحابه بالنبل لاقتراب عسكره من حائط الطائف، فوضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، ومعه امرأتان من نسائه إحداهما أمّ سلمة، فضرب لهما قبّتين، ثم صلّى بين القبتين، فلما أسلمت ثقيف بنى على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية بن وهب مسجدّا، وكانت في ذلك المسجد سارية فيما يزعمون لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض، انتهى.(3/182)
وذكر الواقدي بناء عمرو بن أمية للمسجد على مصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان فيه سارية لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرار، فكانوا يرون أن ذلك تسبيح.
قال المطري: وهو جامع كبير، فيه منبر عال عمل في أيام الناصر أحمد بن المستضئ، وفي ركنه الأيمن القبلي قبر عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في قبة عالية، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحن هذا الجامع بين قبتين صغيرتين يقال: أنهما بنيتا في موضع قبتي زوجتيه عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما.
قلت: قال التقي الفاسي: إن المسجد الذي ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم هناك في مؤخر المسجد الذي فيه قبر عبد الله بن عباس؛ لأن في جداره القبلي من خارجه حجرا فيه: أمرت أمّ جعفر بنت أبي الفضل أمّ ولاة عهد المسلمين بعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف. وفيه أن ذلك سنة اثنتين وسبعين ومائة، قال: والمسجد الذي فيه قبر ابن عباس أظن أن المستعين العباسي عمره مع ضريح ابن عباس، انتهى. فإن كان المسجد الذي ذكر الفاسي أنه في مؤخر الجامع المذكور في صحنه فلا مخالفة فيه لما ذكره المطري، وإلّا فيخالفه.
قال المطري: ورأيت بالطائف شجرات من شجر السّدر يذكر أنهن من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينقل ذلك خلف أهل الطائف عن سلفهم، فمنهن واحدة دور جذرها خمسة وأربعون شبرا، وأخرى أزيد على الأربعين، فأخرى سبعة وثلاثون، وأخرى يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بها وهو على راحلته فانفرق جذرها نصفين، وأن ناقته دخلت من بينهما وهو ناعس، قال:
رأيتها قائمة كذلك سنة ست وتسعين، وأكلت من ثمرها، وحملت منه للبركة، ثم في سنة تسع وعشرين وسبعمائة رأيتها وقعت ويبست وجذرها ملقى لا يغيره أحد لحرمته بينهم، انتهى.
وكأنه بقي منها بقية؛ فإن التقي الفاسي ذكرها، وقال: إنها انفرجت للنبي صلى الله عليه وسلم نصفين لما اعترضته وهو سائر وسنان ليلا في غزوة الطائف وثقيف على ساقين، على ما ذكر ابن فورك فيما حكى عنه عياض في الشفاء، وبعض هذه السّدرة باق إلى الآن، والناس يتبركون به، انتهى.
وقال المرجاني: ورأيت بوجّ من قرى الطائف سدرة محاذية للجبر قريبة أيضا يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها حين أتاه عديس بالطبق العنب وأسلم، وقالوا: سحره محمد، والقصة مشهورة، قال: ورأيت في جبل هناك عند آخر الحبرة تحته العين يذكر أنه صلى الله عليه وسلم جلس فيه، انتهى.
وعن الزبير قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلية- قال الحميدي: مكان بالطائف-(3/183)
حتى إذا كنا في السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند طرف القرن الأسود عندها، فاستقبل نخبا قال الحميدي: مكان بالطائف ببصره، ثم وقف حتى اتفق الناس، ثم قال: إن صيدوج وعضاهه حرم محرم لله عز وجل، وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا، كذا في نسخة العيسوي عن الحميدي ومسند أحمد وسنن أبي داود أيضا، وضعفه النووي.
وختم ابن زبالة الكلام على المساجد بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «من بنى لله مسجدّا بنى الله له بيتا في الجنة، ولو مثل مفحص القطاة» قالت: فقلت: يا رسول الله والمساجد التي بين مكة والمدينة؟ قال: نعم، ورواه البزار. وفيه كثير بن عبد الرحمن، ضعفه العقيلي، وذكره ابن حبان في الثقات، ولفظه «من بنى لله مسجدّا بنى الله له بيتا في الجنة، قلت: وهذه المساجد التي في طريق مكة؟ قال: وتلك، والحديث في الصحيح عن عثمان بدون هذه الرواية، ولفظه «من بنى مسجدّا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» .
قلت: فينبغي الاعتناء بما دمر من المساجد التي بالمدينة وغيرها وعمارتها، والله الموفق.(3/184)
الباب السابع في أوديتها، وأحمائها، وبقاعها، وجبالها، وأعمالها، ومضافاتها،
ومشهور ما في ذلك من المياه والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك، وفيه ثمانية فصول
الفصل الأول في فضل وادي العقيق، وعرصته، وحدوده
ما ورد من الأحاديث في فضل وادي العقيق روينا في الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بوادي العقيق:
«أتاني الليلة آت فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة» .
وتقدم في مسجد المعرس في رواية له «أرى وهو في معرّسه بذي الحليفة ببطن الوادي قيل له: إنك ببطحاء مباركة» .
وروى ابن شبة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا «العقيق واد مبارك» .
وعن هشام بن عروة قال: اضطجع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعقيق، فقيل له: إنك في واد مبارك.
وروى ابن زبالة عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نام بالعقيق، فقام رجل من أصحابه يوقظه، فحال بينه وبينه رجل من أصحابه آخر، وقال: لا توقظه فإن الصلاة لم تفته، فتدارآ حتى أصاب بعض أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظه، فقلن: ما لكما؟ فأخبراه. فقال: لقد أيقظتماني وإني لأراني بالوادي المبارك» وعن زكريا بن إبراهيم بن مطيع قال: بات رجلان بالعقيق، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين بتما؟ فقالا:
بالعقيق، فقال: لقد بتّما بواد مبارك.
وتقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: احصبوا هذا المسجد- يعني مسجد المدينة- من هذا الوادي المبارك، ورواه صاحب الفردوس مرفوعا.
وقال أبو غسان: أخبرني غير واحد من ثقات أهل المدينة أن عمر رضي الله تعالى عنه كان إذا انتهى إليه أن وادي العقيق قد سال قال: اذهبوا بنا إلى هذا الوادي المبارك، وإلى الماء الذي لو جاءنا جاء من حيث جاء لتمسّحنا به.
وروى ابن زبالة عن عامر بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ركب إلى العقيق، ثم رجع فقال: يا عائشة جئنا من هذا العقيق، فما ألين موطأه، وأعذب ماءه، قالت: فقلت: يا رسول الله أفلا ننتقل إليه؟ قال: وكيف وقد ابتنى الناس؟» .
وعن خالد العدواني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عرصة العقيق «نعم المنزل العرصة لولا كثرة الهوام» .
وعن محمد بن إبراهيم التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «خرج في بعض مغازيه، فأخذ على الشارعة حتى إذا كان بالعرصة قال: هي المنزل لولا كثرة الهوام» .(3/185)
وروى السيد أبو العباس العراقي في ذيله علي ابن النجار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي العقيق، فقال: يا أنس خذ هذه المطهرة املأها من هذا الوادي فإنه يحبنا ونحبه، فأخذتها فملأتها، الحديث.
وروى ابن شبة عن سلمة بن الأكوع قال: كنت أصيد الوحش وأهدي لحومها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففقدني فقال: يا سلمة أين كنت تصيد الوحش؟ فقلت: يا رسول الله تباعد الصيد فأنا أصيد بصدور قناة نحو ثيب، فقال: لو كنت تصيد بالعقيق لشيّعتك إذا خرجت وتلقيتك إذا جئت، إني أحب العقيق، ورواه الطبراني بنحوه، قال الهيتمي:
وإسناده حسن.
وروى ابن زبالة عن جابر قال: كان سلمة يصيد الظباء فيهدي لحمومها لرسول الله صلى الله عليه وسلم جفيفا وطريّا، فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا سلمة مالك لا تأتي بما كنت تأتي به؟
فقال: رسول الله تباعد علينا الصيد فإنما نصيد بثيب وصدور قناة، فقال: أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت ونلفيتك إذا جئت، فإني أحب العقيق.
قلت: ومحمله إن صح على ما قبل تحريم المدينة، أو أن المراد من الصيد بالعقيق طرفه الخارج عن الحرم، جمعا بين الأدلة.
حد العقيق
ونقل ابن زبالة والزبير بن بكار عن هشام بن عروة أنه كان يقول: العقيق ما بين قصر المراجل فهلم صعدا إلى النقيع، وما أسفل من ذلك- أي من قصر المراجل- فمن زغابة.
وعن المنذر بن عبد الله الحمراني أنه سمع من أهل العلم أن الجرف ما بين محجة الشام إلى القصاصين، أي أصحاب القصة، وأن وطيف الحمار ما بين سقاية سليمان إلى الزغابة، وأن العرصة ما بين محجة بين إلى محجة الشام، وأن العقيق من محجة بين فاذهب به صعدا إلى النقيع.
قلت: محجة بين تباين آخر الجروف، أي طريقها، وأظنها طريق درب العصرة، ومن سلكها مغربا كانت الجماوات عن يساره.
قال: وحدثني آخرون أن العقيق من العرصة أبدا إلى النقيع.
قال الزبير: ولم أزل أسمع أهل العلم والسنن يقولون: إن العقيق الكبير مما يلي الحرة ما بين أرض عروة بن الزبير إلى قصر المراجل، ومما يلي الجماء ما بين قصور عبد العزيز بن عبد الله العثماني إلى قصر المراجل، ثم اذهب بالعقيق صعدا إلى منتهى النقيع، ويقولون لما أسفل من المراجل إلى متهى العرصة العقيق الصغير، فأعلى أودية العقيق النقيع.
وقالت الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشّريد السّلمية تبكي أخاها صخر بن عمرو وقد مات بالنقيع من جراحة فدفن فيه على رأس برام:(3/186)
أفيقي من دموعك واستفيقي ... وصبرا إن أطقت، ولن تطيقي
وقولي: إن خير بني سليم ... وغيرهم ببطحاء العقيق
وروى بنقعاء العقيق.
ونقل أبو علي الهجري أن النقيع يبتدئ أوله من برام، والعقيق ببتدئ أوله من حضير إلى آخر منتهاه من العقيق الصغير، ثم يصب في زغابة.
ونقل أيضا أن حضيرا آخر النقيع وأول العقيق، وآخر العقيق زغابة، قال: وزغابة مجتمع السيول غربي قبر حمزة رضي الله تعالى عنه، وهو أعلى وادي إضم.
قلت: فهي منتهى العقيق والعرصة، ومبتدؤه حضير، وهي مزارع معروفة بقرب النقيع على أزيد من يوم عن المدينة.
وقال عياض: النقيع صدر العقيق، والعقيق واد عليه أموال أهل المدينة، قيل: على ميلين منها، وقيل: على ثلاثة، وقيل: ستة أو سبعة، وهما عقيقان، أدناهما عقيق المدينة، وهو أصغر وأكبر، فالأصغر فيه بئر رومة، والأكبر فيه بئر عروة. والعقيق الآخر على مقربة منه، وهو من بلاد مزينة، وهو الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث، وأقطعه عمر الناس، فعلى هذا تحمل المسافات لا على الخلاف. والعقيق الذي جاء فيه «إنك بواد مبارك» هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة، وهو الأقرب منهما- أي من العقيقين- المنقسم أحدهما إلى الكبير والصغير فلا ينافي كون ما يلي الحرة من العقيق أقرب. على أنه سيأتي ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث كلّ العقيق بعيده وقريبه، وأن الذي أقطعه عمر الناس هو الأدنى من المدينة، وهو المنقسم إلى كبير وصغير، وكلام الزبير وغيره صريح فيّ ذلك، والصواب أن مهبط الثنية المعروفة بالمدرج أول شاطئ وادي العقيق، على ميلين من المدينة أيام عمارتها، كما اقتضاه اختباري لمساحة ما بين المسجد النبوي ومسجد ذي الحليفة، وبه صرح الأسدي من المتقدمين، فقال: إن العقيق علي ميلين من المدينة، الميل الأول خلف أبيات المدينة، والثاني حين ينحدر من العقبة في آخره يعني المدرج، وكأنّ من عبّر بالثلاثة اعتبر المسافة من المسجد النبوي إلى أول بطن الوادي بعد القصر المعروف بحصن أبي هشام، ومن عبر بالستة اعتبرها إلى طرفه الأبعد وهو الذي به ذو الحليفة، فأدخل بطن الوادي في المسافة، أو هو مفرع علي القول بأن الميل ألفا ذراع، والراجح الموافق لاختبارنا أنه ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع.
وقال المطري: وادي العقيق أصل مسيله من النقيع قبلى المدينة الشريفة على طريق المشبان، وبينه وبين قباء يوم ونصف، ويصل إلى بئر عليّ العليا المعروفة بالخليفة- بالقاف والخاء المعجمة- ثم يأتي علي غربي جبل عير، ويصل إلى بئر علي بذي الحليفة المحرم، ثم(3/187)
يأتي مشرقا إلى قريب الحمراء التي يطلع منها إلى المدينة، ثم يعرج يسارا، ومن بئر المحرم يسمى العقيق، فينتهي إلى غربي بئر رومة، انتهى.
وقوله: «ومن بئر المحرم يسمى العقيق» أي في زمنه كزماننا، وهو العقيق الأدنى في كلام عياض.
وقال عقب قوله «والعقيق الذي جاء فيه إنك بواد مبارك هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة وهو الأقرب منهما» ما لفظه: وهو الذي جاء فيه أنه مهلّ أهل العراق من ذات عرق، اه. وهو خطأ، إلا أن يحمل علي ما ذكره بعضهم من أن عقيق ذات عرق يتصل واديه بعقيق المدينة، والمعروف قديما امتداده إلى النقيع كما سبق، قال الزبير: سألت سليمان بن عياش السعدي: لم سمّي العقيق عقيقا؟ قال: لأن سيله عق في الحرة، وكان سليمان من أففه من رأيت في كلام العرب.
وقوله «عق» أي شقّ وقطع في الحرة، ولما شخص تبّع عن منزله بقناة ومر بالعرصة وكانت تسمى السليل قال: هذه عرصة الأرض، فسميت العرصة، ومر بالعقيق فقال: هذا عقيق الأرض، فسمي العقيق، وقيل: سمي بذلك لحمرة موضعه.
الفصل الثاني في أقطاعه، وابتناء القصور به، وطريف أخبارها
رسول الله ص يقطع بلالا العقيق
روى ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق كلّه، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعكه لتحجره، وأقطعه عمر الناس.
وقال ابن شبة: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا من نثق به من آل حزم وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني العقيق، وكتب له فيه كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله بلال بن الحارث، أعطاه من العقيق ما أصلح فيه معتملا. وكتب معاوية، قال: فلم يعمل بلال في العقيق شيئا، فقال له عمر في ولايته: إن قويت على ما أعطاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من معتمل العقيق فاعتمله، فما اعتملت فهو لك كما أعطاكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعتمله أقطعته بين الناس ولم تحجره عليهم، فقال بلال: تأخذ مني ما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشترط عليك فيه شرطا، فأقطعه عمر رضي تعالى عنه بين الناس، ولم يعمل فيه بلال شيئا؛ فلذلك أخذه عمر رضي الله تعالى عنه، ورواه الزبير بن بكار، وأسند نسخة القطيعة المذكورة عن هشام بن عروة.(3/188)
وروى عن محمد بن سلمة المخزومي قال: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية والعقيق، فبلغنا أنه باع رومة من عثمان بن عفان، وانتزع منه عمر بقية العقيق وأقطعه للناس، وقال: إنما أعطاك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمر ولم يعطك تحجر.
وعن هشام بن عروة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث العقيق، فلم يزل على ذلك حتى ولي عمر فدعا بلالا فقال: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنع شيئا سئله، وإنك سألته أن يعطيك العقيق فأعطاكه، فالناس يومئذ قليل لا حاجة لهم، وقد كثر أهل الإسلام واحتاجوا إليه، فانظر ما ظننت أنك تقوى عليه فأمسكه واردد إلينا ما بقي نقطعه، فأبى بلال، فترك عمر بيد بلال بعضه وأقطع ما بقي للناس.
وذكر في رواية مع العقيق «معادن القبلية وحيث يصلح الزرع من قدس» وهي في سنن أبي داود بدون ذكر العقيق.
وروى ابن شبة عن عبد الله بن أبي بكر أن عمر لما ولي قال: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا طويلة عريضة، فأقطعها لك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنع شيئا سئله، وإنك لا تطيق ما في يدك، فقال: أجل، فقال: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه، فأبى، فقال عمر: والله لنفعلنّ، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين.
خبر قصر عروة، وبئره
عن عروة بن الزبير قال: لما أخذ عمر بن الخطاب من بلال بن الحارث ما أخذ من العقيق وقف في موضع بئر عروة بن الزبير التي عليها سقايته، وقال: أين المستقطعون؟
فنعم موضع الحفيرة، فاستقطعه ذلك خوّات بن جبير الأنصاري، ففعل، قال مصعب بن عثمان: فقرأت كتاب قطيعته أرض عروة بن الزبير بالعقيق في كتب عروة ما بين حرة الوبرة إلى ضفيرة المغيرة بن الأخنس.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما أقطع عمر العقيق فدنا من موضع قصر عروة وقال: أين المستقطعون منذ اليوم؟ فو الله ما مررت بقطيعة شبه هذه القطيعة، فسألها خوّات، فأقطعها له، وكان يقال لموضعها «خيف حرة الوبرة» فلما كانت سنة أحد وأربعين أقطع مروان بن الحكم عبد الله بن عياش بن علقمة ما بين الميل الرابع من المدينة إلى ضفيرة أرض المغيرة بن الأخنس بالعقيق إلى الجبل الأحمر الذي يطلعك على قباء، قال هشام:
فاشترى عروة موضع قصره وأرضه وبثاره من عبد الله بن عياش، وابتنى واحتفر وحجر وضفر، وقيل له: إنك لست بموضع مدر، فقال: يأتي الله به من النقيع، فجاء سيل فدخل في مزارعه فكساها من خليج كان خلجه، وكان بناه جنابذ- أي جمع جنبذ بضم الجيم،(3/189)
وهو ما ارتفع واستدار كالقبة- قال: وكان لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الناحية الأخرى المراجل وقصر أمية والمنيف والآبار التي هناك والمزارع، فاستفتى عبد الله عبد الله ابن عبد الله بن عمرو علي عروة وقال: إنه حمل على حق السلطان، فهدم عمر بن عبد العزيز جنابذه وضفائره، وسد بئاره، فقدم رجل من آل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية يريد الوليد، فسأل عن عروة، فأخبر قصته، فقدم على الوليد فسأله عن عروة وحاله، فأخبره، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز ما عروة ممن يتّهم فدعه وما انتقص من حق السلطان، فبعث إليه عمر وقال: كتبت فيّ إلى أمير المؤمنين؟ فقال: ما فعلت، فقال:
اذهب فاصنع ما بدا لك فقال عروة: جزعوا من جنابذ نبنيها، والله لأبنينه بناء لا يبلغونه إلا بشقّ الأنفس، فبنى قصره هذا البناء، وهيل بثاره، فقال له ابنه عبد الله: يا أبتاه لو تبدّلت بثارا فاحتفرتها لكان أهون في العزم، فقال: لا والله إلا هي بأعيانها وأنشأ عروة يقول:
بنيناه فأحسنّا بناه ... بحمد الله في خير العقيق
نراهم ينظرون إليه شزرا ... يلوح لهم على وضج الطّريق
فساء الكاشحين وكان غيظا ... لأعدائي وسرّ به صديقي
يراه كلّ مرتفق وسار ... ومعتمر إلى بيت العقيق
وعن مصعب بن عثمان قال: لما كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في ذلك ولي عروة عمر بن عبد الله بن عروة بناء قصره، فلما كثرت النفقة فيه لقيه عمه يحيى بن عروة فقال:
يا ابن أخي، كم أنفقت في القصر؟ قال: كذا وكذا، قال: هذه نفقة كثيرة لو علم أبي بها لاقتصر في بنائه، فأخبره بذلك، فأخبر عمر جده، فقال: لقيك يحيى؟ قال: نعم، قال:
إنما أراد أن يعوق عليّ بنائي، أنفق ولا تحسب، فأنفق ولم يحسب حتى فرغ، وحفر بئارا إحداهن بئر السقاية، وبئر يدعى العسيلة، وبئر القصر.
وقال مصعب: وسبب هدم عمر بن عبد العزيز وتهوره البئر أن عروة أراد أن يرفع في رأس عينه محلا فمنعه عبد الله بن عمرو بن عثمان إلا أن يسأله ذلك، وكان له حقيق به، فقال عروة: مثلى يكلّف ذلك؟ وتركها، فلما بنى عبد الله قصره المراجل وعمل مزارعه عمل له خليجا، فلما بلغ به مزارع عروة حال بينه وبين ذلك، فاستفتى عبد الله بن عبد الله عمر بن عبد العزيز على عروة، وقال: بنى وحفر في غير حقه، وكانت جنابذه سبعا، وكانت الركبان ينزلون على بئر مروان، فلما حفر عروة بئره وأعذب اختاروا السهل والعذوبة فتركوا النزول على بئر مروان وكان في نفس عمر بن عبد العزيز شيء من ذلك، مع ما كان في نفسه على جميع بني الزبير.(3/190)
وعن ابن أبي ربيعة أنه مرّ بعروة وهو يبني قصره بالعقيق فقال: أردت الحرب يا أبا عبد الله؟ قال: لا، ولكن ذكر لي أنه سيصيبها عذاب، يعني المدينة، فقلت: إن أصابها كنت منتحيا عنها.
وعن عروة مرفوعا: يكون في آخر أمتي خسف وقذف ومسخ، وذلك عند ظهور عمل قوم لوط، قال عروة: فبلغني أنه قد ظهر شيء منه، فتنحّيت عنها، وخشيت أن يقع وأنا بها، وبلغني أنه لا يصيب إلا أهل القصبة قصبة المدينة، وفي نسخة المجد «القصيبة» مصغرا، فأوردوه في ترجمة القصيبة، وهو وهم.
وعن هشام قال: لما اتخذ عروة قصره قال له الناس: قد جفوت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشبة في فجاجهم عالية، فكان فيما هناك عما هم فيه عافية.
وتصدق عروة بقصره وأرضه وبئره على المسلمين، وأوصى بذلك إلى الوليد بن عبد الملك، فولاه ابنيه يحيى وعبد الله، ثم توفي يحيى وأقام عبد الله في القصر نحوا من أربعين سنة، ثم توفي عبد الله، ثم وليها هشام بن عروة بالسن، ثم عبد الله بن عروة، وقيل له:
مالك تركت المدينة؟ قال: لأني بين رجلين حاسد لنعمة أو شامت بمصيبة، وهو القائل:
لو كان يدري الشيخ عذري بالسحر ... نحو السقاية الّتي كان احتفر
لفتية مثل الدّنانير غرر ... وقاهم الله النّفاق والضّجر
بين أبي بكر وزيد وعمر ... ثمّ الحواريّ لهم جدّ أغر
فهم عليها بالعشيّ والبكر ... يسثون من جاء ولا يؤذوا بشر
لزاد في الشّكر وكان قد شكر
ولما ولي إبراهيم بن هشام المدينة لهشام بن عبد الملك أراد أن يدخل في حقوق بني عروة بالفرع، فحال عبد الله ويحيى بينه وبين ذلك فهدم قصر عروة وشعّثه، وطرح في بئر عروة جملا مطليا بقطران، فكتب عبد الله إلى هشام بن عبد الملك بذلك، فكتب إلى ابن أبي عطاء عامله على ديوان المدينة أن يردّ ذلك على ما كان حتى يضع الوتد في موضعه، فكان غرم ذلك ألف دينار وثلاثين ألف درهم.
وكان عبد الله يتحيّن ركوب ابن هشام، فإذا أشرف على الحرّة قال للناس: كبروا ولكم جزور، فيفعلون، فينحرها، فيغيظ بذلك ابن هشام ويبلغ منه.
وقال في ذلك يحيى بن عروة أبياتا منها:
ألا أبلغ مغلغلة بريدا ... وأبلغ إن عرضت أبا سعيد
وأبلغ معشرا كانت إليهم ... وصايا ما أريد بني الوليد(3/191)
فإن لا نعتني قرباي منكم ... فودّى غير ذي الطمع الكدود
ولما قدم الوليد بن يزيد في خلافة هشام بن عبد الملك ليدفع بالناس في الموسم وأقام عبد الله بن عروة بالعقيق، حتى قيل: هذا ولي العهد قد ركع في بركة مكة؟ فلقيه عبد الله وهو على ظهر الحرة، فلما نظر الوليد إلى قصور بني أمية عنبسة بن سعيد ومروان بن سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر جعل يقول لعبد الله بن عروة: لمن هذا؟ فيخبره، فلما نظر إلى قصر عروة قال: لمن هذا؟ قال: هذا قصر عروة، قال: عامر بن صالح في قصر عروة وبئره:
حبّذا القصر ذو الظّلال وذو البئر ... ببطن العقيق ذات السّقاة
ماء مزن لم يبغ عروة فيها ... غير تقوى الإله في المفظعات
بمكان من العقيق أنيس ... بارد الظل طيّب الغدوات
وقال أيضا:
يا حّبّذا القصر لذي الإملاق ... ذو البئر بالوادي عليها الساقي
وقال أيضا:
ولقصر عروة ذو الظلال وبئره ... بشقا العقيق البارد الأفياء
أشهى إليّ من العيون وأهلها ... والدور من فحلين والفرعاء
وقال جابر الزمعي في بئر عروة:
يعرضها الآني من الناس أهله ... ويجعله زادا له حين يذهب
وقال الزبير بن بكار: رأيت الخرّاج من المدينة إلى مكة وغيرها ممن يمر بالعقيق يخففون من الماء حتى يتزودوه من بئر عروة، وإذا قدموا منها بماء يقدمون به على أهلهم يشربونه في منازلهم عند مقدمهم.
وقال: ورأيت أبي يأمر به فيغلي، ثم يجعل في القوارير ثم يهديه إلى أمير المؤمنين هارون بالرقة.
وعن نوفل بن عمارة قال: لما بنت أمي قصرها أرسل إليها هشام بن عروة يقول: إنك نزلت بين الطيبين بئر عروة وبئر المغيرة بن الأخنس، فأسألك برحمي إلا جعلت شرابك من بئر عروة ووضوءك من بئر المغيرة، فكانت أمي لا تشرب إلا من بئر عروة، ولا تتوضأ إلا من بئر المغيرة، حتى لقيت الله تعالى.
وعن مرزوق بن والاة أنه قال لهشام بن عروة: رأيت أن عينا من الجنة تصب في بئر عروة.
وقال السّريّ بن عبد الرحمن الأنصاري:(3/192)
كفنوني إن متّ في درع أروى ... واستقوا لي من بئر عروة مائي
سخنة في الشتاء باردة الصيف سراج في الليلة الظلماء وقال علي بن الجهم:
هضا العقيق فعدّ أي ... دي العيس عن غلوئها
وإذا أصفت ببئر عر ... وة فاسقني من مائها
إنا وعيشك ما ذمم ... نا العيش في أفنائها
قال المجد: إنه لم يجد من يعرف هذه البئر من أهل المدينة.
قلت: سيأتي في قصر عاصم أن جماء تضارع مشرفة على قصر عروة، وتسيل إلى بئره.
وقال الأسدي: إن الميل الثالث من المدينة وراء بئر عروة بقليل؛ فيظهر أنها البئر المطمومة اليوم على يمينك وأنت متوجه إلى ذي الحليفة إذا جاوزت الحصن المعروف بأبي هاشم بنحو ثلث ميل وقريب من الجماء.
قصر عاصم بن عمرو بن عمر بن عثمان بن عفان، وهو في قبل الجماء جماء تضارع المشرفة على قصر عروة وعلي الوادي يواجه بئر عروة بن الزبير، والجماء تسيل على قصر عاصم وعلى بئر عروة.
وكان عبد الله الجعفري وعمر بن عبد الله بن عروة تعاونا في هجاء قصر عاصم، فقالا:
ألا يا قصر عاصم لو تببن ... فتستعدي أمير المؤمنين
فتذكر ما لقيت من البلايا ... فقد لاقيت حزنا بعد حين
بنيت على طريق الناس طرا ... يسبّك كل ذي حسب ودين
ولم توضع على غمض فتخفى ... ولم توضع على سهل ولين
يرى فيك الدخان لغير شيء ... فقد سميت خدّاع العيون
في أبيات آخرها:
قبيح الوجه منعقد الأواسي ... خبيت الخلق مطرود بطين
فاشترى عاصم قصة فطرّه بها وغرم فيه ألفي درهم، وقال يرد عليهما:
بنوا وبنيت واتخذوا قصورا ... فما ساووا بذلك ما بنيت
بنيت على القرار وجانبوه ... إلى رأس الشواهق واستويت
على أفعالهم وعلى بناهم ... علوت وكان مجدّا قد حويت
وتلك صلاصل قد فلستهم ... وذاك وديهم فيها يموت
فليس لعامل فيها طعام ... وليس لضيفهم فيها مبيت(3/193)
وقيل: البيتان الأخيران لزيد بن عاصم، قال الزبير: وهو أشبه.
وصلاصل: أرض كانت لعروة بحرة بطحان، ثم صارت لابنه يحيى، فوقفها في بنيه، وكان يقال لها المقتربة، فكانت فتاتان لبعض نساء بنيه تختصمان بها عند اجتناء الرطب، وتضرب إحداهما الأخرى، فغلب عليها اسم صلاصل لكثرة صلاصلهما بالخصومة، وفيها يقول عروة:
مآثر أخوالي عديّ ومازن ... تخيرتها، والله يعطي الرغائبا
فمن قال فيها قيل صدق فلم يقل ... ومن قال فيها غيره كان كاذبا
ومر ابن أبي البداح- وكال أعلم الناس بالنخيل- على عروة وهو يغرسها ألوانا، فقال له: إن كنت ولا بد غارسا فعليك بعذق ابن عامر، فإنه ليس عذق أحسن للتنزه ولا أصبر على المالح منه.
قصر المغيرة
قصر أبي هاشم المغيرة بن أبي العاص وبئره- روى عنه الزبير: أنه قال: لما أردت أن أبني قصرا بالعقيق قلت: أبنيه بيتين، ثم مضيت للنزهة العشرة الأيام وما أشبهها، قال:
فدخلت على مولاة لي فقالت: يا أبا هاشم، أردت بناء قصر بالعقيق؟ فقلت لها: نعم، فقالت: ابنه على أنه لم يبن بالعقيق مغيري غيرك، فبنيته هذا البناء، وغرمت فيه غرما كبيرا، قال: وهو القصر الذي يعرف بقصر بنت المرازقي.
وعن عبد الله بن ذكوان قال: كانت بنو أمية تجري في الديوان ورقا على من يقوم على حوض مروان بن الحكم بالعقيق، في مصلحته وفيما يصلح بئر المغيرة من علقها ودلائها.
قال: ومر هشام بن عبد الملك وهو يريد المدينة بحر هشام بن إسماعيل بالرابع فقيل له: يا أمير المؤمنين، جر جدك هشام، فأمر بمصلحتها وما يقيمها من بيت المال، فكانت توضع هنالك جرار أربع يسقى منهن الناس، وسيأتي ذكر الرابع في شعر في القصر الآتي.
قصر عنبسة بن عثمان بن عفان
قصر عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان، وهو إلى جنب الجمّاء بعد أن تجاوز المصعد تريد البطحاء، وهو الذي قيل فيه:
يا قصر عنبسة الذي بالرابع ... لا زلت تؤهل بالحيا المتتابع
فلقد بنيت على الوطاء، وبنيت ... تلك القصور على ربا ورفائع
يا رب نعمة ليلة قد بتها ... بفنائك الحسن المنيف الواسع
وقال شاعرهم:
خذل ابن عنبسة بن عمرو وعده ... وكذبت حين أقول ما لم يفعل(3/194)
وبنى قصيرا بالعقيق ملعنا ... لا بالكريم ولا جميل المدخل
ودعا المهندس فاختفى في جوفه ... بئرا فأنبطها كطعم الحنظل
قصر عنبسة بن سعيد بن العاص
قصر عنبسة بن سعيد بن العاص: بالعقيق الصغير- ركب هشام بن عبد الملك ومعه عنبسة بن سعيد، فمر بموضع قصر عنبسة، فقال: نعم موضع القصر يا أبا خالد، قد أقطعته لك، قال: يا أمير المؤمنين من يقوى على هذا؟ قال: فإني أعينك فيه بعشرين ألف دينار، فدفعها عنبسة إلى ابنه عبد الله وقال: إنك أنزلت بين الأشياخ، فانظر كيف تبني؟
وكان أول من قارب بين القصور، ونزل إلى جنب عبد الله بن عامر، فلما فرغ من القصر بنى ضفائره بالآجر المطبق، فقال له عنبسة: أما علمت أن متنزهي أهل المدينة يدقون عليه العظام، ابنه بالحجارة المطابقة، ففعل، وبعث إليه هشام بأربعين بختيا، فكان ينضح عليها في مزارعه وصهريجه.
قلت: ولعل الموضع المعروف اليوم بالعنابس مزارع عنبسة هذا.
وعن بعض ولد عنبسة قال: بينا عبد الله بن عنبسة نائم في قاعة القصر، وعنده خصي يذبّ عنه، وكان له غلام صغدي يسقيهم الماء، فدخل فرآه نائما، فنزع القربة وشد عليه بخنجر كان معه، وثار الخصي يحول بينهما، فقتل الخصي، وانتبه عبد الله واتقاه بوسادة، وتداعى عليه أهل القصر وأخذوه، وأمر به عبد الله فقتل وصلب بفناء القصر.
وكان قصر عنبسة فيما أخذ من أموال بني أمية، ثم رد على ابن عنبسة.
وكان جعفر بن سليمان إذ كان واليا بالمدينة نزله، وابتنى إليه أرباضا، وأسكنها حشمه، ثم تحول منه إلى العرصة فابتنى بها وسكنها حتى عزل فخرج منها، ولذلك يقول ابن المزكي:
أوحشت الجماء من جعفر ... وطالما كانت به تعمر
كم صارخ يدعو وذي كربة ... يا جعفر الخيرات يا جعفر
أنت الذي أحييت بذل الندى ... وكان قد مات فلا يذكر
ثم لعباس وصيّ الهدى ... ومن به في المحل يستمطر
وقال شاعر:
إني مررت على العقيق وأهله ... يشكون من مطر الربيع نزورا
ما ضركم أن كان جعفر جاركم ... أن لا يكون عقيقكم ممطورا
وقال محمد بن الضحاك: خرج أبي وابن عبد الله بن عنبسة في جماعة من لمتهم إلى قصر عنبسة بالعقيق الصغير، وخرج بي أبي معهم وأنا حدث السن، ونحروا جزورا،(3/195)
فجعلوا يمزحون به فيما بينهم، يقول هذا بيتا وهذا بيتا، فكان مما حفظت من ذلك قول أحدهم:
حبذا ثم حبذا ... في قصر ابن عنبسة
ولمات تجمعوا ... وجزور مكردسه
والتواليد عندنا ... كالرباط المورّسه
قصر أبي بكر الزبيري المعروف بالمستقر
قصر أبي بكر بن عبد الله بن مصعب الزبيري الذي يعرف بالمستقر اشتراه وهو بيت أو بيتان، فهدم ذلك، وبناه قصرا، ففيه يقول القائل:
يا قصر لو كان خالدا أحد ... بالجود والمجد كان مولاكا
ولو تفدى المنون ذا كرم ... كان أبو بكر الندى ذا كا
وفيه يقول أيضا حين بيع في تركة أبي بكر:
أوحش المستقرّ بعد أبي بكر ... فأضحى ينوح في كل حين
بعد عز وبهجة وبهاء ... تاه يوما به على الثقلين
فاعذروه يا هؤلاء؛ إن ذا ال ... شجو ليجري دموعه من معين
قصر عبد الله بن أبي بكر العثماني
قصر عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن عثمان بن عفان- قال محمد بن معاوية: كنت أنا ومحمد بن عبد الله البكري- وكان قاضيا على المدينة- متنزهين بالعقيق في قصر ابن بكير، فكتب محمد بن عبد الله في الجدار:
أين أهل العقيق أين قريش ... أين عبد العزيز وابن بكير
ولو أنّ الزمان خلد حيا
ثم كتب تحته: من أتم هذا النصف فله سبق، قال: فتنزه عمر بن عبد الله بن نافع في قصر ابن بكير، فقرأ الكتابة، فأتم النصف، فكتب:
كان فيه يخلد ابن الزبير
قال محمد بن معاوية: فعاد محمد بن عبد الله للنزهة، فوجد البيت قد أتم، فسأل من أتمه، فقلت له: عمر بن عبد الله، فقال: لو كنت أكلمه وفيت له بسبقه، أحسن وصدق.
وكان عمر بن عبد الله له هاجرا.
وستأتي قصور أخرى في الجمّاوات، قال أبو علي الهجري: إن سيل الوادي يفضي إلى الشجرة التي بها محرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يلي ذلك مزارع أبي هريرة رضي الله تعالى، ثم تتابع القصور يمنة ويسرة بها منازل الأشراف فيها يبتدئون، منها منازل عن يمين الجائي من مكة بسفح عير.(3/196)
جملة من القصور والآبار
ومنها قصر لإسحاق بن أيوب المخزومي، وقصر لإبراهيم بن هشام، وقصر لآل طلحة بن عمر بن عبيد الله، ومنازل أسفل منها عن يمين الطريق أيضا لآل سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، ووجاه ذلك في قبالة جماء تضارع منازل لعبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، ثم يليها منازل لعبد الله بن بكير بن عمرو بن عثمان، وهو قصر طاهر بن يحيى ومنازل ولده.
ووجاهها في صير حرة الوبرة مزارع عروة بن الزبير وبئره، وأسفل منها البئر التي تعرف ببئر المغيرة بن أبي العاص، وأسفل منها بئر زياد بن عبد الله المداني وحوضها، وضفائر قصر مراجل والزبيني قصر سكينة بنت حسين، وقصور فوق الزبيني لإسحاق بن أيوب متتابعة، وفوقها قصور كثيرة لغير واحد، ثم قصور ابنة المرازقي الزهرية، ثم منازل جعفر بن إبراهيم الجعفري، ثم يفضي إلى بئر رومة، وقصور كثيرة يمنة ويسرة منها قصور عبد الله بن سعيد بن العاص، وببطن الوادي بثار لعبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس والقصور يمنة ويسرة.
ثم ذكر ما بالعرصة من القصور، وقال: ثم يفضي ذلك إلى الجرف، وفيه سقاية سليمان بن عبد الملك، وهي على ميمنة من خرج إلى السلام يعسكر بها الخارج من المدينة إليها، ثم الزغابة وبها مزارع وقصور أيضا، انتهى.
الفصل الثالث في العرصة وقصورها، وشيء مما قيل فيها وفي العقيق من الشعر
قصر خارجة: روى ابن زبالة أن بني أمية كانوا يمنعون البناء في العرصة حيالها، وأن سلطان المدينة لم يقطع فيها قطيعة إلا بإذن الخليفة حتى خرج خارجة بن حمزة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام إلى الوليد بن عبد الملك، فسأله أن يقطعه موضع قصر فيها، فكتب إلى عامله بالمدينة أن أقطعه موضع قصر فيها وألحقه بالسواد، أي الحرة، فلم يزل بأيديهم حتى صار ليحي بن عبد الله بن حسين بن علي بن حسين.
قصر عبد الله بن عامر برومة: قال الواقدي: إنه بناه هناك من أول ما بنى بذلك العقيق إلا قصرا بعرصة البقل، ولما قتل أهل الحرة وعسكر مشرف بالجرف أمر بالعسكر، فحول إلى عرصة البقل، وأمر بالأسرى فحبسوا هناك.
وقال ابن أبي عوف: إنه بعد أن نهب المدينة خرج إلى قصر ابن عامر، وقتل من قتل.
قصر مروان بن الحكم: روى الزبير أن مروان ابتنى بعرصة البقل، واحتفر وضرب لها عينا فازدرع.(3/197)
قصر سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية: أحد مشاهير الأجواد ابتنى سعيد بالعرصة قصرا في سرتها، واحتفر بها، وغرس النخل والبساتين، وكان نخلها أبكر شيء بالمدينة، وكانت تسمى عرصة الماء.
وعن يحيى بن كعب مولى سعيد قال: كان نخل سعيد بالعرصة لا يطير حمامها، وكانت فيها بئار ثلاث، العليا منهن اليمانية تدعى الشمردلية، والتي تليها أسفل منها تدعى الواسطية، قال: وأنسيت السفلى، وبنى بالعرصة عند نخلة قصره الذي يقول فيه أبو قطيفة عمر بن الوليد بن عقبة:
والقصر ذو النخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وقال الهجري: ثم يفضى- يعني سيل العقيق- إلى العرصة عرصة البقل، وعرصة الماء، وعرصة جعفر بن سليمان بقبل الجماء العاقر مرتفعة في حصن الجبل. وبالعرصة الكبرى قصري سعيد بن العاص الذي امتدحه الشاعر بقوله، وذكر البيت المتقدم.
والذي ذكره الزبير وغيره أن قصر سعيد بعرصة الماء- وهي العرصة الصغرى- لأنهم قالوا: وفي عرصة الماء يقول داود بن سلم:
أبرزتها كالقمر الزاهر ... في عصفر كالشرر الطائر
بالعرصة الصغرى إلى موعد ... بين خليج الواد والظاهر
قالوا: إنما قال لها العرصة الصغرى لأن العقيق الكبير ينيفها من أحد جانبيها، وينيفها عرصة البقل من الجانب الآخر، وتختلط عرصة البقل بالجرف فيتسع، والخليج الذي ذكر خليج سعيد بن العاص، انتهى؛ فالعرصة الكبرى هي عرصة البقل، والصغرى هي عرصة الماء، فهي عرصة سعيد بن العاص، وأظنها التي فيها البناء المعروف اليوم بعقد الأرقطية، ولعله قصر سعيد بن العاص وموضع آباره وبستانه فيما يليه، ويلي ذلك عرصة البقل لجهة بئر رومة.
وقال فضالة بن عثمان: لما حضر سعيد الموت قال لابنه عمرو وهو الأشدق: أوصيك بثلاث: عليّ دين عظيم، فأكثر فيه مالي حتى تؤديه، وانظر إخواني فإن فقدوا وجهي فلا يفقدوا معروفي، ولا تزوج بناتي إلا في الأكفاء، ثم مات، فركب عمرو إلى معاوية، فقال الحاجب له: عمرو بالباب، فقال معاوية: هلك والله سعيد، فأدخله، فنعى له سعيدا وأخبره بوصيته، فقال: نحن قاضون عنه الدين قال: إنما أوصى إليّ أن يكون من صلب ماله، فقال: يعني بعض ضياعه، وإني أكره إحن صدر مروان وذويه من قريش بقضاء دين أبيك، فباعه العرصة بألف ألف، فقالت قريش: أيخدع معاوية نفسه أو يكيدنا؟ وقال مروان: يا أمير المؤمنين ما دون الله يد تحجرك عن هواك، ولنحن أهون عليك فيما تريد،(3/198)
فعلام تخدع نحلك وتكيدها؟ هلا جعلت ما أعطيت عمرا صلة؟ فقال: إنك عاديت سعيدا حيّا وميتا، وما بلغ من إثماني لضيعته مكيدة قريش، ولقد علمت قريش أني أحفظ الميت في الحي وأصل الحي للميت، ولهو خير لكم أن أكون كذلك، فأخذ عمرو المال، فأتى به المدينة فقضى دين أبيه، ثم أمر بأخوال أبيه فدخلوا عليه، فوصلهم، ثم أدخل إخوانه، فوقع الشر بينه وبين مروان ومروان خاله، فقال:
يكايدنا معاوية بن حرب ... ولسنا جاهلين بما يكيد
في أبيات بلغت معاوية، فأنشد:
ألا لله درّ غواة فهر ... أريد سوى الذي فهر تريد
أراني كلما أخلقت ضغنا ... أتاني منهم ضغن جديد
في أبيات، قال الزبير: ولم يصح عندي الشعران.
وروي عن سعيد أنه قال لابنه: إن منزلي هذا بالعرصة ليس من العقد، إنما هو منزل نزهة، فبعه من معاوية، واقض ديني ومواعيدي، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني.
وعن نوفل بن عمارة أن سعيدا قال لابنه: إني موصيك بأربع، لا تنقلني من موضعي يعني قصره- حتى أموت فيه؛ فإنه أحب المواضع إليّ، وقليل لي من قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم إلى موضع قبري، وذكر الوصايا الثلاث المتقدمة؛ فلما توفي حمله رجال قريش حتى دفنوه بالبقيع، وقصره على ثلاثة أميال من المدينة، ثم رحل ابنه إلى معاوية، فدخل وهو أشعث، فقال له معاوية: ما بالك؟ قال: هلك أبو عثمان، فترحّم عليه، ثم قال: حاجتك فذكر وصاياه، فسأله عن دينه، فقال: ثلاثة آلاف ألف، قال: هو عليّ، قال: إنه أمرني أن لا يكون إلا من صلب ماله، قال: فبعني، قال: بعتك العرصة، قال: قد أخذت القصر بألف ألف، والنخيل بألف ألف، والمزارع بألف ألف، ثم قال: يا أهل الشام، اكتبوا عليه لئلا يندم، وفي رواية أنه قال: أمرني أن أبيع في دينه ما استباع من أمواله، قال معاوية: فعرضني ما شئت قال: أنفسها وأحبها إلينا منزله بالعرصة، فقال:
هيهات لا يبيعونه، انظر غيره، قال: تحب تعجيل قضاء دينه؟ قال: قد أخذته بثلاثمائة ألف، قال: اجعلها بالوافية يعني الدرهم زنة المثقال، قال: قد فعلت، قال: وتحملها إلى المدينة قال: ونفعل، فقدم عمرو فجعل يفرقها في الديوان، ويحاسبهم بما بين الدراهم الوافية وهي البغلية والدراهم الجواز، حتى أتاه فتى من قريش بذكر حق له من أديم فيه عشرون ألف درهم بخط مولى لسعيد وشهادة سعيد على نفسه، فعرف الخط وأنكر أن يكون لذلك الفتى الصعلوك ذلك، فقال: ما سبب مالك؟ قال: رأيته وهو معزول وهو يمشي وحده، فمشيت معه لباب داره، فوقف وقال: هل لك حاجة؟ قلت: رأيتك تمشي وحدك(3/199)
فأحببت أن أصل جناحك، فقال: وصلتك رحم، بعني قطعة أديم، فأتيته بهذه القطعة، فكتب غلامه هذا الكتاب وفيه شهادته، ثم قال: يا ابن أخي، ليس عندنا اليوم شيء، فخذ هذا الكتاب، فقال عمرو: لا جرم لا يأخذها إلا وافية، ودفعها إليه بغلية.
ولما أضعت العرصتان عن بني أمية استقطع خنجر- وهو كثير بن العباس بن محمد- عرصة سعيد بن العاص، فأقطعه إياها أبو العباس المنصور، فقال زياد بن عبد الله الحارثي وكان واليا على المدينة بخ بخ يا خنجر، صارت لك عرصة سعيد، فقال: وما ينكر من ذلك؟ فأعجب منه دار معاوية بن سفيان بالبلاط لزياد بن أم زياد، واقتطع السلطان في سلطان بني هاشم في العرصة، وابتنوا عرصة الماء، وفي ذلك يقول ذؤيب الأسلمي:
قد أقر الله عيني ... بغزال يا ابن عون
طاف من وادي دجيل ... بفتى طلق اليدين
بين أعلى عرصة الما ... ءإلى قصر زبين
فقضاني في منامي ... كل موعود ودين
وفيها يقول أبو الأبيض سهل بن أبي كثير:
قلت من أنت فقالت ... بكرة من بكرات
ترتعي نبت الخزامى ... تحت تلك الشجرات
حبذا العرصة ليلا ... في ليال مقمرات
طاب ذاك العيش عيشا ... وحديث الفتيات
ذاك عيشي أشتهيه ... وحديثي مع لمات
وفيها يقول بعض المدنيين:
وبالعرصة البيضاء إن زرت أهلها ... مها مهملات ما عليهن سائس
يدرن إذا ما الشمس لم يخش حرها ... خلال بساتين خلاهن يابس
إذا الحر آذاهن لذن ببحرة ... كما لاذ بالظل الظباء الكواس
وقال عامر بن صالح في العرصتين:
أهوى البلاط فجانبيه كليهما ... فالعرصتين إلى نخيل قباء
وقال حكيم بن عكرمة الديلي فيهما وفي العقيق وجوانب المدينة:
لعمرك للبلاط وجانباه ... وحرة واقم ذات المنار
فجماء العقيق فعرصتاه ... فمفضي السيل من تلك الحرار
إلى أحد مدى حرض فمبنى ... قباب الحي من كنفي صرار
أحبّ إلى من ريح وبصرى ... بلا شك علي ولا تماري(3/200)
ومن قريات حمص وبعلبك ... لو أنّي كنت أجعل بالخيار
وفيهما وفي العقيق يقول الوليد بن زيد:
لم أنس بالعرصتين مجلسنا ... بالسفح بين العقيق والسند
وقال عبد الله بن مصعب في ذلك وفي الصلصل:
أشرف على ظهر القديمة هل ترى ... برقا سرى في عارض متهلل
نضح العقيق فبطن طيبة موهنا ... ثم استمر يؤم فضل الصلصل
فكأنما ولعت مخائل برقه ... بمعالم الأحباب ليست تأتلي
فالعرصتين فسفح عير فالربا ... من بطن خاخ ذي المحل الأشهل
وقال سعيد المساحقي في ذلك وهو ببغداد، وذكر أنه ابتلى بعد أخيه بمحادثة غلامه زاهر:
أرى زاهرا لما رأى من توحّشي ... وأن ليس لي من أهل ودي زائر
فظل يعاطيني الحديث وإننا ... لمختلفان حين تبلى السرائر
يحدثني مما يجمّع عقله ... أحاديث منها مستقيم وجائر
وما كنت أخشى أن أراني راضيا ... يعلّلني بعد الأحبة زاهر
وبعد المصلى والبلاط وأهله ... وبعد العقيق حيث يحلو التزاور
إذا اعشوشبت قريانه وتزينت ... عراص بها نبت أنيق وزاهر
وقال أيضا:
ألا قل لعبد الله إما لقيته ... وقل لابن صفوان على النأي والبعد
ألم تعلما أن المصلى مكانه ... وأن العقيق ذا الظلال وذا الورد
وأن رياض العرصتين تزينت ... بنوارها المصفر والأشكل الوردي
وأن بها لو تعلمان أصائلا ... وليلا رقيقا مثل حاشية البرد
وأن غدير اللابتين مكانه ... وأن طريق المسجدين على العهد
فهل منكما مستأذن فمسلم ... على وطن أو جاذب لذوي الود
فما العيش إلا ما يسر به الفتى ... إذا لم يجد يوما سبيل ذوي الرشد
فأجابه عبد الأعلى بن عبد الله بن محمد بن صفوان:
أتاني كتاب من سعيد فشاقني ... وزاد غرام القلب جهدا على جهد
وأذري دموع العين حتى كأنما ... بها رمد عنه المراود لا تجدي
بأن رياض العرصتين تزينت ... وأن المصلى والبلاط على العهد
وأن غدير اللابتين ونبته ... له أرج كالمسك في عنبر الهند(3/201)
فكدت لما أضمرت من لاعج الهوى ... ووجد بما قد قال أقضى من الوجد
وقال إبراهيم بن موسى الزبيري:
ليت شعري هل العقيق فسلع ... فقصور الجماء فالعرصتان
فإلى مسجد الرسول فما حا ... ز المصلى فجانبا بطحان
فبنو مازن على العهد أم ليس كعندي في سالف الأزمان وأنشد عبد السلام بن يوسف وهو في غاية العذوبة:
على ساكني بطن العقيق سلام ... وإن أسهروني بالفراق وناموا
حظرتم عليّ النوم وهو محلل ... وحللتم التعذيب وهو حرام
إذا بنتم عن حاجر وحجرتم ... على السمع أن يدنو إليه كلام
فلا ميّلت ريح الصبا فرع بانة ... ولا سجعت فوق الغصون حمام
ولا قهقهت فيه الرعود، ولا بكى ... على حافتيه بالعشيّ غمام
فمالي وما للربع قد بان أهله ... وقد قوضت من ساكنيه خيام
ألا ليت شعري هل إلى الرمل عودة ... وهل لي بتلك البانتين لمام
وهل نهلة من بئر عروة عذبة ... أداوي بها قلبا براه أوام
ألا يا حمامات الأراك إليكم ... فما لي في تغريد كن مرام
فوجدي وشوقي مسعد ومؤانس ... ونوحي ودمعي مطرب ومدام
وقال أعرابي:
أيا سرحتي وأدي العقيق سقيتما ... حيا غضة الأنفاس طيبة الورد
ترويكما مج الثرى، وتغلغلت ... عروقكما تحت الندى في ثرى جعد
ولا يهنين ظلاكما أن تباعدت ... بي الدار من يرجو ظلالكما بعدي
وعن محمد الزهري قال: ركب عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن حسن بن حسن ومحمد بن جعفر بن محمد على بغلات لهم، حتى إذا كانوا بالعقيق أصابهم المطر، وهنالك سرحة عظيمة، فدخلوا تحتها، فقال عبد العزيز بن عمر:
خبرينا يا سرح خصصت بالغيث ... بصدق فالصدق فيه شفاء
هل يموت المحب من لاعج الحب ... ويشفي من الحبيب اللقاء
ثم إن السماء أقلعت، فساروا ساعة، ثم رجعوا للسّرحة فإذا في أصلها كتاب فيه:
إن جهلا سؤالك السرح عما ... ليس يوما به عليك خفاء
فاستمع تخبر اليقين وهل ... يشفي من الشك نفسك الأنباء
ليس للعاشق المحب من الحب ... سوى رؤية الحبيب شفاء(3/202)
وعن رجل من الأنصار أنه كان نازلا تحت سرحة ببطن العقيق إذ وقف عليه ابن عمر، فسلم، ثم قال: من دلّك عليها؟ قال: الذي دلّك عليها، قال ابن عمر: فهل تدري لم يستحب ظلال السرح: قال الرجل: إنه ظليل، وليس له شوك، قال ابن عمر: ولغيره، أرأيت إذا كنت بين الأخشبين من منى فإن بينك وبين مطلع الشمس واديا يقال له وادي سرر، سرّ به سبعون نبيا، وقد سر نبي منهم تحت سرحة فدعا للسرح، فهي لا تقيل كما يقيل الشجر.
وعن محمد بن معن الغفاري قال: أراد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أن يخرج إلى مكة، فذكر ذلك لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال له عبد العزيز: هل لك أن تقيل عندي أنت وأصحابك ثم تروحون من عندنا وهو بالبطحان في قصر عمر بن عبد العزيز؟ فقال محمد: نعم، فهيأ لهم نزلا، فقال محمد: ما بقي شيء يبر به أحد أحدا إلا وقد أنزلتناه إلا طعام البادية، قال: وما هو؟ قال: التمر والزبد، قال: أما الغنم فإنها لعاصم بنت سفيان بن عاصم بن عبد العزيز، يعني امرأته، ولست مقدما على شيء منها إلا بإذنها، ولكني سأستطعمها لكم، وكتب إليها:
إن عندي فدتك نفسي ضيوفا ... واجب حقّهم كهولا ومردا
عمدوا جارك الذي كان قدما ... لا يرى من كرامة الضيف بدا
فلديه أضيافه قد قراهم ... وهمو يشتهون تمرا وزبدا
فلهذا جرى الحديث، ولكن ... قد جعلنا بعض المزاحة جدّا
فقال له محمد: ما زال هذا العيش بينكما، قال: نعم والله ما مسست غيرها، ولا احتلمت بغيرها قط، ولا خالفتها في شيء هويته قط، فبعثت إليهم بتمر وزبد.
وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: كان عروة بن الزبير قائما بفناء قصره نصف النهار، إذ أقبل شيخ من أهل المدينة معه حمام، فوقف عند الميل، فمسح حمامه، وسوّى ريشه ثم أرسله، ثم أقبل على بئر عروة فشرب من مائها، فقال له عروة: جئت في مثل هذه الساعة كأنك صبي، فأرسلت حماما، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «شيطان يتبعه شيطان» فقال الشيخ:
يا خليلي لا تكلم ... ليس فيه من ملام
وعن عبد العزيز بن عبد الله قال: بينا أنا بالعقيق إذ أقبل رجل له موضع يحمل حماما، فقلت له: مثلك يحمل هذا الحمام؟ ولا أراك إلا قد راهنت به، قال: أجل، وما في ذلك؟
قلت: إنه حرام، قال: فهذه الخيل يراهن بها، قلت: تلك سنة، قال: وهذه رعلة، ثم انصرف، انتهى.(3/203)
والرعلة: نوع من تمر المدينة، وكذا السنة، فحمل السنة على ذلك.
الفصل الرابع في جماواته، وأرض الشجرة، وثنية الشريد وغيرها من جهاته
نقل ابن زبالة وغيره أن الجماوات ثلاثة:
الأولى: جماء تضارع التي تسيل على قصر عاصم وبئر عروة، وقال الهجري: أول الجماوات جماء تضارع التي تسيل على قصر عاصم وهو منزل أبي القاسم طاهر بن يحيى وولده، وفيها يقول أحيحة بن الجلاح:
إني والمشعر الحرام وما ... حجّت قريش له وما نحروا
لا آخذ الخطة الدنيّة ما ... دام يرى من تضارع حجر
وتحته المكيمن مكيمن الجماء.
وعن محمد بن إبراهيم مرفوعا: إذا سألت تضارع فهو عام ربيع.
وروى ابن شبة حديث «لا تسيل تضارع إلا عام ربيع» قال: وتضارع الجبل الذي بسفحه قصر ابن بكير العثماني، وقصور عبد العزيز بن عبد الله العثماني على ثلاثة أميال من المدينة، على يمين الذاهب إلى مكة.
قلت: هذا الجبل هو الذي يقابلك وأنت بالمدرج تريد مكة، فإذا استبطنت العقيق صار عن يمينك، والجبل المعروف بمكيمن الجماء متصل به، آخذ منه على يمين الذاهب أيضا.
جماء أم خالد
الثانية: جماء أم خالد التي تسيل على قصر محمد بن عيسى الجعفري وما والاه، وفي أصلها بيوت الأشعث، وقصر يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي، وفيفاء الخبار من جماء أم خالد، قاله الزبير.
ونقل ابن شبة عن عبد العزيز بن عمران نحوه، إلا أنه قال: في أصلها بيوت الأشعث وفيفاء الخبار، وبينها وبين جماء العاقر طريق من ناحية بئر رومة وفيفاء الخبار من جماء أم خالد في مهبّ الشمال من الأولى مما يلي مسيل وادي العقيق منحدرا، وفيفاء الخبار منهما.
وقال المجد: في أصل جماء أم خالد جبل يقال له سفر كما سيأتي في ترجمته.
روى الزبير عن موسى بن محمد عن أبيه قال: وجد قبر آدمي على رأس جماء أم خالد مكتوب فيه: أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل هذه القرية.
وعن ابن شهاب قال: وجد قبر على جماء أم خالد أربعون ذراعا في أربعين ذراعا، مكتوب في حجر فيه: أنا عبد الله من أل نينوى رسول رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام إلى أهل هذه القرية، فأدركني الموت، فأوصيت أن أدفن في جماء أم خالد.(3/204)
قال عبد العزيز بن عمران: نينوى موضعان: أحدهما من أرض السواد بالطف حيث قتل الحسين رضي الله تعالى عنه. والآخر قرية بالموصل، وهي التي فيها يونس النبي صلى الله عليه وسلم، ولسنا ندري أي الموضعين عنى. وتقدم في أوائل الباب الثالث روايتان جاءتا في ذلك قال في إحداهما: فإذا فيه «أنا عبد الله الأسود رسول رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام إلى أهل قرى عرينة» وقال في الأخرى» وإذا فيه أنا عبد الله رسول نبي الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب، وأنا يومئذ على الشمال» .
جماء العاقر (العاقل)
الثالثة: جماء العاقر- بالراء كما في كتاب ابن شبة وغيره، وفي بعض نسخ ابن زبالة والهجري ومعارف العقيق للزبير باللام- قال ابن شبة، عقب ما تقدم عنه: وجماء العاقر الجبل الذي خلفه المشاش، وإليه قصور جعفر بن سليمان بن علي بالعرصة، وقال الهجري:
الثالثة جماء العاقل، فيها طريق إلى جماء أم خالد، تسيل على قصور جعفر بن سليمان، خلفها المشاش وهو واد يصبّ في العرصة، وقال الزبير: جماء العاقل طريق بينها وبين جماء أم خالد خلفها المشاش.
وفي المشاش يقول عروة بن أذينة:
إذ جرى شعب المشاش بهم ... ومضيف تلمة الرحمة
ومن البطحاء قد نزلوا ... دار زيد فوقها العجمة
وأورد ابن زبالة هنا حديث «لا تقوم الساعة حتى يقتل رجلان موضع فسطاطيها في قبل الجماء» وحديث «نعم الجماء المنزل لولا كثرة الأساود» . وقد قدمنا في الفصل الأول نحوه في العرصة، وقدمنا ما جاء في ذي الحليفة وبطحانها والمعرس ومسجد الشجرة، وروى البيهقي في المعرفة عن الشافعي قال: كان سعيد بن زيد وأبو هريرة يكونان بالسحر على أقل من ستة أميال فيشهدان الجمعة ويدعانها.
وروى الزبير عن نافع أنه لما استصرخ على سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يوم الجمعة بعد ما ارتفع الضحى أتاه ابن عمر بالعقيق، وترك الجمعة.
وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أن أروى بنت أويس أسعدت مروان بن الحكم على سعيد بن زيد في أرضه بالشجرة، فقالت: إنه أدخل ضفيرتي في أرضه، فقال: كيف أظلمها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من اقتطع شبرا من الأرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة» ؟ وترك لها سعيد ما أدّعت، وقال: اللهم إن كانت أروى ظلمتني فأعم بصرها، واجعل قبرها في بئرها، فعميت أروى، وجاء سيل فأبدي عن ضفيرتها خارجا عن حق سعيد، فأقسم سعيد على مروان ليركبنّ معه وينظر إلى ضفيرتها، فركب والناس حتى نظروا إليها، ثم إن أروى خرجت لبعض حاجتها فوقعت في البئر فماتت.(3/205)
وفي رواية أنها سألت سعيدا أن يدعو لها، وقالت: إني ظلمتك، فقال: لا أردّ على الله شيئا أعطانيه.
قال إبراهيم بن حمزة: وكان أهل المدينة يدعو بعضهم على بعض فيقول: أعماك الله كما أعمى أروى، يريدونها، ثم صار الجهال يقولون: أعماك الله كما أعمى الأروى، يعني أروى الجبل، يظنونها شديدة العمى.
وفي رواية أن سعيدا قال: اللهم إن كانت أروى كاذبة فلا تخرجها من الدنيا حتى تعمى، وتجعل منيتها في بئرها، فعميت، فكانت لها جارية تخرج بها تقودها، فتقول لها:
أخبريني ما يعمل العمال، فتخبرها، فتقول لهم: أنتم تفعلون كذا وكذا، وتصيح عليهم، فغفلت الجارية عنها يوما، فخرجت إلى العمال فوقعت في بئرها فماتت، فلذلك يقولون:
عمى أروى.
وعن يحيى بن موسى قال: كان أبو هريرة نزل الشجرة قبل أن تكون مزدرعا، فمرّ به مروان وقد استعمله معاوية على المدينة فقال: مالي أراك هاهنا؟ قال: نزلت هذه البرية مع أبي أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأقطعه مروان أرضه وضفرها له، فتصدق بها أبو هريرة على ولده، ولم يزل العقيق نخلا حتى عملت العيون.
ثنية الشريد
ونقل ابن زبالة أن ثنية الشريد كانت لرجل من بني سليم كان بقية أهل بيته، فقيل له:
الشريد، وكانت أعنابا ونخلا لم ير مثلها، فقدم معاوية المدينة، فطلبها منه، فأبى، ثم ركب يوما فوجد عماله في الشمس، فقال: مالكم؟ فقالوا: نسجم البئار، فركب إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين إنه لم يزل في نفسي منعي إياك ما طلبت مني، فهو لك بما أردت، فكتب إلى ابن أبي أحمد أن يدفع إليه الثمن، قال: وسمعتهم يكثرونه جدّا، فقال له ابن أبي أحمد: إن أمير المؤمنين لم يسمك بها وهي على هذه الحال، فقال: إني رجوت حين صار أمري إليك التيسير علي، فدفع إليه الثمن.
ومزارع ثنية الشريد من أرض المحرمين إلى أرض المنصور بن إبراهيم، وقال الهجري:
إن سيل العقيق يفضي إلى ثنية الشريد، ومنها منازل وبئار كثيرة، وهي ذات عضاه وآكام، تنبت ضروبا من الكلأ، صالحة للمال، تحف الثنية شرقي عير الوادي وغربي جبل يقال له الفراء، ثم يفضي إلى الشجرة التي بها المحرم والمعرس.
وقال ابن النجار عن أهل السير: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولى العقيق لرجل اسمه هيصم المزني، وأن ولاة المدينة لم يزالوا يولّون عليه، حتى كان داود بن عيسى فتركه في سنة ثمان وتسعين ومائة.(3/206)
قلت: هذا إنما ذكره ابن زبالة والزبير في حمى النقيع كما سيأتي.
وروى ابن زبالة عن يحيى بن سعيد أن رجلا كان لا يعرف والده كان يوما بالعقيق، فنهاه عمر بن عبد العزيز.
وفي رواية: كان يصلي لهم الجمعة بالشجرة، فنهاه عمر بن عبد العزيز أن يؤمهم لأنه لا يعرف له أب، وهو يقتضي أن الجمعة كانت تقام بالعقيق، فآثار أبنية مكان العقيق موجودة إلى اليوم، وهي دالة على ما كان به من القصور الفائقة، والمناظر الرائقة، والآبار العذبة إحسان، والحدائق الملتفّة الأغصان، دثرت على طول الزمان، وتكرر الحدثان، وبقي هناك بعض الآبار، وبقايا الآثار، فترتاح النفوس برؤيتها، وتنتعش الأرواح بانتشاق نسمتها، فهي كما قال حبيب بن أوس:
ما ربع ميّة معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من نظر ... أشهى إلى ناظر من خدها الترب
وقال أعرابي:
ألا أيها الركب المحنّون هل لكم ... بأهل عقيق والمنازل من علم
فقالوا: نعم تلك الطلول كعهدها ... تلوح، وما يغنى سؤالك عن علم
خاتمة في سرد ما يدفع في العقيق من الأودية، وما به من الغدران
قال في جزيرة العرب لأبي عبيدة رواية أبي عبد الله المازني عنه ما لفظه: والعقيق يشق من قبل الطائف، ثم يمر بالمدينة، ثم يلقى في إضم البحر، انتهى.
وسيأتي في وادي قناة أنه من وجّ الطائف أيضا، ولكن قال الزبير وغيره: أعلى أودية العقيق النقيع، ثم ذو العش، ثم ذو الضرورة، ثم ذو القرى، ثم ذو الميت، ثم ذو المكبر، ثم ذات القطب، ثم حد المولى، ثم حد الأباني، ثم ذو تنقية، ثم القويع، ثم ذو الصواير، ثم الفلجة، ثم الوشيحة، ثم مخايل الوغائر، ثم مخايل الرمضة، وكلاهما يصب في حصين، ثم ذو العشيرة، ثم الرتاحة، ثم ذو سمر، ثم مرخى الحرة اليماني والشامي محتذيان جميعا، ثم يجتمع ذو سمر ومرخان فيقال لمجتمعهن: المجتمعة، ثم ذات السليم، ثم ذو الغصين، ثم شوظى، ثم خاخ، ثم المناصفة، ثم شعاب الحمري والفراء وعيرين.
وقال الزبير: وأوديته مما يلي القبلة في المغرب أعلاها ذات الرابوقة ثم نفعا.
وعن مشيخة مربية أن صدور العقيق ما يبلغ في النقيع من قدس وما قبل من الحرة وما دبر من النقيع وثنية عمق، فهو يصب في الفرع، وما قبل من الحرة مما يدفع في العقيق يقال له بطاويح، قال: ثم فرش موزد، ثم راية الأعمى، ثم راية الغراب، ثم الخائع، ثم ذو(3/207)
عاصم، ثم بلغة السرح، ثم بلغة برام، ثم بلغة رماد، ثم بلغة المعيرا، ثم بلغة الرمس، ثم نبعة العشرة، ثم نبعة الطوى، ثم الحنينة، ثم النبعة، ثم ضاف، ثم بلغة التمر، ثم نبع الأضاة، ثم الأتمة أتمة عبد الله بن الزبير، ثم ذات الحماط، وفي حديث تقدم أنه صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد بالضيقة مخرجه من ذات الحماط» ثم هاوان، ثم فريقان، ثم الساهية، ثم أعشار، وتقدم في حديث نزوله صلى الله عليه وسلم بكهف أعشار وصلاته فيه، ثم ريم، ثم لاي، ثم ذو سلم النظيم، ثم ذو بدوم، ثم حفية، ثم قسبان، ثم الصهوة، ثم بقرة، ثم ذو سنية، وسنية:
قوم من مزينة، ثم الرمامية، ثم الموقية، ثم ضبع، ثم مهر، ثم الملحاء، ثم المليحة، ثم النخيل، ثم الرديهة، ثم أنفة، ثم المنتقبة، ثم مراح الصحرة، ثم سائلة أبي يسار التي تسيل على قصر المخرمي، ثم شعاب الفراء، ثم ذات الجيش، وتقدم حديث الأعلام في حرم المدينة على شرف ذات الجيش، ثم وادي أبي كبير بن سعيد بن وهب بن عبد بن قصي، وذات الجيش يدفع فيه، وبه قصر الرماد لآل أبي كبير، وكانت لهم بئر بطرف الفراء يوردون عليها سبعين أو ثمانين بعيرا لهم، قال الزبير: وأنا رأيت بئر أحد طرف الفراء مكبوسة، وما قبل من الصلصلين يدفع إلى بئر أبي عاصية، ثم يدفع في ذات الجيش، ثم يدفع في وادي أبي كبير، وما دبر منهما يدفع في البطحاء، فطرف عظيم الغربي يدفع في ذات الجيش، وطرفه الشامي يدفع في البطحاء بين الجبلين في وادي العقيق، ثم الجماوات ثلاث، وتفصيل مسائلها كما قدمناه فيها.
ثم ذكر مجتمع سيول المدينة بزغابة، وذلك أعلى وادي إضم، قال: وأعلى غدر مسيلات العقيق التي في درج الوادي مما يلي الحرة موكلان من أعلى ذي العش، ثم غدير سليم، ثم ذو التحاميم، ثم الأعوج، ثم غدير الجبال، ثم يماحم، ثم غدير الذباب، ثم غدير الحمير، ثم غدير فليج الأعلى، ثم غدير فليج الأسفل، وهذه الثلاثة تعرف بمنحنيات فليج الزبيري، ثم غدير السيالة، ثم الطويل، ويعد من منحنيات فليج أيضا، ثم غدير البيوت بيوت عبد الله العمري، ثم غدير رتيجة، ثم بكين، ثم غدير سلافة، ثم غدير الرعاء، ثم غدير الأحمى مقصورا والأحمى: طرب العدس في أصله، ثم غدير حصير، ثم الندبة من أسفل حصير، ثم العرابة على أعلى مرج، ثم مرج، ثم غدير السدر، ثم غدير الخم، ثم المستوجبة، ثم حليف، ثم حليف، ثم الحقن، ثم ذو الطفيتين، ثم ذو اللحيين، ثم ذو الابنة، ثم غدير مريم، ثم غدير المجاز، ثم غدير المرس، ثم رابوع، وقلما يفارقه ماء وإذا قل ماؤه احتسى، وهو أسفل شيء من غدران درج العقيق إلا غدير أسفل منه يقال له غدير السيالة، هذا كلام الزبير.
ونقل ابن شبة أن سيل العقيق يأتي من موضع يقال له بطاويح، وهو حرس من الحرة،(3/208)
وغربي شطاي حتى مضيا جميعا في النقيع وهو قاع كبير الدر، وهو من المدينة على أربعة برد في يمانيها، ثم يصب في غدير يلبن وبرام، ويدفع فيه وادي البقاع، ويصب فيه لقعا فيلتقين جميعا بأسفل من موضع يقال له نقع، ثم يذهب السيل مشرقا فيصب على رواوتين يعترضهما يسارا، ويدفع عليه واد يقال له هلوان، ثم يستجمعن فيلقاهن بوادي دبر بأسفل الحليفة العليا، ثم يصب على الأتمة وعلى الجام، ثم يفضي إلى وادي الحميراء فيستبطن واديها ويدفع عليه الحرتان شرقيا وغربيا حتى ينتهي إلى ثنية الشريد إلى أن يفضي إلى الوادي فيأخذ في ذي الحليفة حتى يصب بين أرض أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وبين أرض عاصم بن عدي بن العجلان، ثم يستبطن الوادي فيصب عليه شعاب الجماء ونمير حتى يفضي إلى أرض عروة بن الزبير وبئره، ثم يستبطن بطن الوادي فيأخذ منه شطيب إلى خليج عثمان بن عفان الذي حفر إلى أسفل العرصة التي يقال لها خليج بنات نائلة وهن بنات عثمان منها، وكان عثمان ساقه إلى أرض اعتملها بالعرصة، ثم يفترش سيل العقيق إذا خرج من حوافر عبد الله بن عنبسة بن سعيد يمنة ويسرة، ويقطعه نهر الوادي، ثم يستجمع حتى يصب في زغابة، انتهى.
ونقل الهجري أن سيل العقيق إذا أفضى من النقيع أفضى إلى قراره أسفل قاع لا شجر فيه، وأسفل منه حصير، ثم يفضي إلى مرج، ثم إلى المستوجبة، ثم إلى غدير يقال له ديوا الضرس، ثم إلى غدير المجاز، ثم إلى غدير يقال له رواوة، ثم إلى غدير الطفيتين، ثم الابنة، ثم أسفل من ذلك رابوع، ثم يلقاه وادي بريم فإذا التقيا دفعا في الحليفة حليفة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، ثم سطح سيول النقيع والصحرة ومراج وأنفة عند جبل يقال له واسطة المسطح، ثم يفضي إلى الجبخانة صدقة عباد الزبيري، وله دوافع من الحرة مشهورة منها شوظي وروضة الجام، ثم يفضي إلى حمراء الأسد، ثم إلى ثنية الشريد، ثم إلى الشجرة التي بها المحرم، اه.
الفصل الخامس في بقية أودية المدينة، وصدورها، ومجتمعها، ومغايضها
وادي بطحاء
فمنها وادي بطحان- روى ابن شبة والبزار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن بطحان على ترعة من ترع الجنة» قال ابن شبة: وأما سيل بطحان- وهو الوادي المتوسط بيوت المدينة، أي في زمنه- فإنه يأخذ من ذي الحدر، والحدر قرارة في الحرة يمانية من حلبات الحرة العليا حرة معصم، وهو سيل يفترش في الحرة حتى يصب على شرقي ابن الزبير وعلى جفاف ومرفية والحساة حتى يفضي إلى فضاء بني خطمة والأعرس، ثم يستنّ حتى يرد الجسر، ثم يستبطن وادي بطحان حتى يصب في زغابة.(3/209)
وسيأتي في مذينب من رواية ابن زبالة أن بطحان يأتي من الحلابين حلابي مصعب على سبعة أميال من المدينة أو نحو ذلك، وفي رواية له أن بطحان يأتي من صدر جفاف.
فيتلخص أنه يأتي من الحلابين فيصل أولا إلى وادي جفاف، ثم إلى بطحان، ولهذا استغنى ابن زبالة وغيره ببطحان عن إفراد جفاف بالذكر، وجعل المطري ومن تبعه الترجمة لجفاف، قالوا: ووادي جفاف على موضع في العوالي شرقي مسجد قباء، اه.
ويفهم من أطراف كلام ابن شبة: أن ابتداء وادي بطحان من جسر بطحان، وذلك بقرب الماجشونية وآخره في غربي مساجد الفتح، ويشاركه رانونا في المجرى من الموضع الذي في غربي المصلى وما والاه من القبلة، لأنها تصبّ فيه كما سيأتي، والذي يقتضيه كلام غيره أن الماجشونية وتربة صعيب من بطحان.
وادي رانونا
ومنها: رانونا، ويقال: رانون- قال ابن شبة: وأما سيل رانون فإنه يأتي من مقمة في جبل في يماني عير ومن حرس شرقي الحرة، ثم يصب على قرين صريحه ثم سد عبد الله بن عمرو بن عثمان، ثم يفترق في الصفاصف فيصب في أرض إسماعيل ومحمد ابني الوليد بالقصبة، ثم يستبطن القصبة حتى يعترض قباء يمينا، ثم يدخل غوسا ثم بطن ذي خصب، ثم يجتمع ما جاء من الحرة وما جاء من ذي خصب، ثم يقترن بذي صلب، ثم يستبطن السرارة حتى يمر على قعر البركة ثم يفترق فرقتين؛ فتمر فرقة على بئر جشم تصب على سكة الخليج حتى تفرغ في وادي بطحان، وتصب الأخرى في وادي بطحان، اه.
وفي رواية لابن زبالة عن عبد الله بن السائب قال: رانونا تأتي من بين سد عبد الله بن عمرو بن عثمان وبين الحرة وتلقى هي وواد آخر عند الجبل الذي يقال له مقمن أو مكمن.
وقال ابن زبالة: وأما ذو صلب فيأتي من السد، وأما ذو ريش فيأتي من جوف الحرة، ثم قال في رواية أخرى: إن صدر سيل ذي صلب من رانونا، وصدر رانونا يأتي من التجنيب، ثم يسكب ذو صلب ورانونا في سد عبد الله بن عمرو بن عثمان، ثم في ساخطة وأموال العصبة، ثم في غوسا، ثم في بطحان، ثم يلتقي هو وبطحان عند دار الشواترة، وهي عداد بني زريق، ويزعمون أنهم من عاملة، اه.
والسد موجود في تلك الجهة، ولكنه لا يضاف اليوم لعبد الله المذكور، قال المراغي:
والسد لا يعرف اليوم بهذا الاسم، ولعله المعروف بسد عنتر؛ لانطباق الوصف عليه، وساخطة لا تعرف، ولعلها مزرعة السد، وغوسا غير معروفة، ولعله أراد حوسا- بالحاء المهملة- وهي معروفة بقباء، ويشرب من رانونا، ووقع في الاسم تغيير، اه. وقال نصر:
عوسا قريب قباء.(3/210)
قلت: وقرين صريحه ينطبق وصفه على القرين المعروف اليوم بقرين الصرطة، وقال المطري: إن رانونا ينتهي إلى مسجد الجمعة ببني سالم، ثم يصب في بطحان. قال المراغي:
الذي رواه ابن زبالة أنه صلى الله عليه وسلم صلّى ببني سالم في ذي صلب، لا رانونا، وأن كلام ابن زبالة السابق يدل على المغايرة بينهما.
قلت: هما وإن افترقا في بعض الأماكن فينتهيان إلى مجتمع واحد، ولذا قال ابن شبة:
ثم يقترن بذي صلب، كما سبق، فيسمى برانونا لمرورها عليه، ولذا قال ابن إسحاق في أمر الجمعة: فأدركته في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانونا، فعبر به عن ذي صلب، بل فيما تقدم عن ابن زبالة أنه يأتي من جوف الحرة، فلعله المعنيّ بقول ابن شبة: ثم يجتمع ما جاء من الحرة- ويعني بالحرة حرة بني بياضة لما تقدم في منازلهم من أن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن عضب بن جشم ابتني الأطم الذي في أدنى بيوت بني بياضة الذي دونه الجسر الذي عند ذي ريش.
وأما السرارة المذكورة في كلام ابن شبة فتقدم ذكرها أيضا في منازل بني بياضة، فليست هي الحديقة المعروفة اليوم بالسرارة.
وأما بئر جشم فغير معروفة اليوم، ولعلها مضافة إلى جشم بن الخزرج الأكبر، كما حدثني مالك بن عضب، وهم ببني بياضة، وسأتي ما يرجّحه، ويحتمل أن تكون مضافة إلى جشم بن الحارث، ومنازلهم بالسنح، وهو بعيد.
وادي قناة
ومنها: وادي قناة سمي بذلك لأن تبّعا لما غزا المدينة نزل به، فلما شخص عن منزله قال: هذه قناة الأرض، فسميت قناة، وتسمى الشظاة، وفي القاموس أن هذا الوادي عند المدينة، أي ما حاذاها منه تسمى قناة، ومن أعلى منها عند السد أي الذي أحدثته نار الحرة تسمى بالشظاة.
وقال ابن شبة: وادي قناة يأتي من وج أي وج الطائف.
وعن شريح بن هانئ الشيباني أنه قدم على عمر بن الخطاب ومعه امرأته أم الغمر فأسلمت، ففرق بينهما عمر، فقال: يا أمير المؤمنين اردد عليّ زوجتي، فقال: إنها لا تحل لك إلا أن تسلم، فنزل شريح بقناة وقال:
ألا يا صاحبيّ ببطن وجّ ... روادف لا أرى لكم مقاما
ألا تريان أم الغمر أمست ... قريبا لا أطيق لها كلاما
فجعل بطن قناة بطن وج لأن السيل يأتي منه.
وقال المدائني: قناة واد يأتي من الطائف، ويصب في الأرخصية وقرقرة الكدر، ثم يأتي بئر معاوية، ثم يمر على طرق القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد.(3/211)
وقال ابن زبالة: إن سيول قناة إذا استجمعت تأتي من الطائف، قالوا: ومحول أودية العرب قناة وإضم، أي اللاتي في مجتمع السيول ووادي نخلة، وإنما سميت محولا لبعد صدورها وكثرة دوافعها، ويأتي وادي قناة من المشرق حتى يصل السد الذي أحدثته نار الحجاز المتقدم ذكرها آخر الباب الثاني، وتقدم هناك أن هذا الوادي كان قد انقطع بسبب ذلك، وانحبس السيل حتى صار بحرا مدّ البصر عرضا وطولا، كأنه نيل مصر عند زيادته، قال المطرطي: شاهدته كذلك سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وتقدم أنه انخرق من تحته سنة تسعين وستمائة، فجرى الوادي سنة، فملأ ما بين الجانبين، وسنة أخرى دون ذلك، ثم انخرق بعد السبعمائة فجرى سنة أو أزيد، ثم انخرق سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بعد تواتر الأمطار فكثر الماء وجاء سيل لا يوصف كثرة، ومجراه على مشهد سيدنا حمزة، وحفر واديا آخر قبلى الوادي والمشهد. وقبلى حبل عينين في وسط السيل، ومكثا نحو أربعة أشهر لا يقدر أحد على الوصول إليهما إلا بمشقة، ولو زاد مقدار ذراع في الارتفاع وصل إلى المدينة، ثم استقر في الواديين القبلي والشمالي قريبا من سنة، وكشف عن عين قديمة قبلى الوادي جدّدها الأمير ودي، وهذا الوادي هو المراد بقوله في حديث الاستنشاق من رواية الصحيح «وسال وادي قناة شهرا» وينتهي سيل قناة إلى مجتمع السيول ترعا أيضا.
وادي مذينب
ومنها: وادي مذينب، ويقال: مذينيب- قال ابن زبالة عن غير واحد من الأنصار:
مذينب شعبة من سيل بطحان، يأتي مذينب إلى الروضة روضة بني أمية، ثم ينشعب من الروضة نحوا من خمسة عشر جزآ في أموال بني أمية، ثم يخرج من أموالهم حتى يدخل بطحان وصدير، مذينب وبطحان يأتيان من الحلابين حلابي صعب على سبعة أميال من المدينة أو نحو ذلك، ومصبهما في زغابة حيث تلتقي السيول، اه.
وقوله «من سيل بطحان» يعني من أصله من الحلابين كما بينه أخيرا، وسبق بيان منازل بني أمية وأن من أموالهم بئر العهن.
وسيأتي عن ابن شبة ما ظاهره المخالفة لهذا، حيث قال في مهزور: حتى حلاة بني قريظة، ثم يسلك منه شعيب فيأخذ على بني أمية بن زيد بين البيوت في واد يقال له مذينب، ثم يلتقي هو وسيل بني قريظة بالمشارف فضاء بني خطمة، ثم يجتمع الواديان مهزور ومذينب، فمقتضاه أن مذينب من أصل مهزور، ولهذا قال المجد: قال أحمد بن جابر: ومن مهزور إلى مذينب شعبة تصبّ فيه.
قلت: لكن أعلى صدر سيل بطحان ومذينب ومهزور من حرة واحدة، فيصح تشعب مذينب من كل منهما.(3/212)
ولهذا نقل المجد عن أبي عبيدة أن اليهود لما نزلوا المدينة نزلوا بالسافلة، فاستوبؤوها، فبعثوا رائدا إلى العالية، فرأى بطحان ومهزورا يهبطان من حرة ينصبّ منها مياه عذبة، فرجع فقال: وجدت بلدا طيبا وأودية تنصب إلى حرة عذبة، فتحولوا؛ فنزل بنو النضير على بطحان، وقريظة على مهزور، اه. مع أن الذي تقدم في المنازل أن بني النضير نزلوا بمذينب، ومنازلهم النواعم، فمن أطلق نزولهم على بطحان راعى اتحاد الأصل وأن مذينب يصب في بطحان أيضا، كان في زماننا يشق في الحرة الشرقية قبلى بني قريظة، ويمر في وسط قرية قديمة كانت شرق العهن والنواعم، ويتشعب في تلك الأموال، ويخرج ما فضل منه من الموضع المعروف بنقيع الرديدي ومن الناصرية، فيصب في الوادي الذي يأتي من ضفاف شرقي مسجد الفضيخ، حتى يأتي الفضاء الذي عند بؤور النورة خلف الماجشونية فتلقاه هناك شعبة من مهزور، ثم يصبان جميعا في بطحان.
وقال المطري: مذينب شرقي جفاف، يلتقي هو وجفاف فوق مسجد الشمس، ثم يصبان في بطحان، ويلتقيان مع رانونا ببطحان، فيمران بالمدينة غربي المصلى، اه. ومراده جفاف أصل مسيل بطحان.
وادي مهزور
ومنها: مهزور- نقل ابن زبالة أنه يأتي من بني قريظة، ثم قال في هذه الرواية ما لفظه: وأما معجب فيأتي سيله، وكان يمر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: إنما الذي يمر في المسجد مهزور، ولم يبين أصل سيل معجب، وكذا ابن شبة، فقال: وأما بطن مهزور فهو الذي يتخوف منه الغرق على أهل المدينة فيما حدثنا به بعض أهل العلم، ثم ذكر رواية ابن زبالة السابقة.
وقال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه في مذينب، ما لفظه: وسيل مهزور وصدره من حرة سوران، وهو يصب في أموال بني قريظة، ثم يأتي بالمدينة فيسقيها، وهو السيل الذي يمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يسكب في زغابة، ويلتقي هو وبطحان بزغابة حيث تلتقي السيول، اه.
واجتماعه في بطحان بزغابة من مجرى قناة، ولهذا قال ابن شبة: وسيل مهزور يأخذ من الحرة من شرقيها ومن هكر، وحرة صفة، حتى يأتي أعلى حلاة بني قريظة، ثم يسلك منه شعيب فيأخذ على بني أمية بن زيد بين البيوت في واد يقال له مذينب، ثم يلتقي وسيل بني قريظة بفضاء بني خطمة، ثم يجتمع الواديان جميعا مهزور ومذينب فيتفرقان في الأموال ويدخلان في صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها إلا مشربة أم إبراهيم، ثم يفضي إلى السورين على قصر مروان بن الحكم، ثم يأخذ بطن الوادي على قصر بني يوسف، ثم يأخذ في البقيع(3/213)
حتى يخرج على بني حديلة، والمسجد ببطن مهزور، وآخره كومة أبي الحمرة، ثم يمضي فيصبّ في وادي قناة، انتهى.
ومقتضاه أن الشعبة التي تجتمع من مهزور بمذينب بالفضاء المذكور تسقى بعد ذلك، فكأنها صرفت عن جهة الصدقات إلى بطحان، أو أن كلامه مؤوّل؛ لأن المعروف اليوم أن الشعبة التي تلق مذينب من مهزور تصبّ بعد اجتماعهما في بطحان كما سبق، والذي يسقي ما ذكر من الصدقات ويمر بالبقيع إنما هو شعبة أخرى من مهزور، ولا تجتمع بمذينب، بل تمر على الصافية وما يليها من الصدقات، ثم تغشى بقيع الغرقد والنخيل التي حوله خصوصا الجزع المعروف بالحضاري، فاتخذ لذلك شيخ الحرم الزيني مرجان التقوى حفظه الله تعالى طريقا إلى بطحان، وحفر له مجرى من ناحية الصدقات، فصارت الشعبة المذكورة تصب أيضا في بطحان، ولا تمر بالبقيع، ولم يتعرض ابن شبة للشعبة التي تشق من مهزور إلى العريض وهو معظمه بسبب السد المبني هناك، وقد اقتصر عليها المطري فقال:
مهزور شرقي العوالي، شمالي مذينب، ويشق في الحرة الشرقية إلى العريض، ثم يصب في وادي الشظاة.
قال الزين المراغي عقب نقله: وكأن حرّة شوران أي المذكورة في كلام ابن زبالة هي الحرة الشرقية.
وقال ابن شبة: وكان مهزور سال في ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه سيلا عظيما على المدينة خيف على المدينة منه الغرق، فعمل عثمان الردم الذي عند بئر مدري ليرد به السيل عن المسجد وعن المدينة.
وذكره ابن زبالة فقال: وأما الدلال والصافية فيشربان من سرح عثمان بن عفان الذي يقال له مدري الذي يشق من مهزور في أمواله ويأتي على أريس وأسفل منه حتى يتبطن الصورين، فصرفه مخالفة على المسجد في بئر أريس، ثم في عقد أريم ثم في بلحارث بن الخزرج، ثم صرفه إلى بطحان، انتهى.
وقال ابن شبة عقب ما تقدم: ثم سال وعبد الصمد بن علي وال على المدينة في خلافة المنصور سنة ست وخمسين ومائة، فخيف منه على المسجد فبعث إليه عبد الصمد عبيد الله بن أبي سلمة العمري، وهو على قضائه، وندب الناس فخرجوا إليه بعد العصر- وقد طغي وملأ صدقات النبي صلى الله عليه وسلم- فدلوا على مصرفه، فحفروا في برقة صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، فأبدوا عن حجارة منقوشة ففتحوها فانصرف الماء فيها وغاض إلى بطحان. دلهم على ذلك عجوز مسنة من أهل العالية، قالت: إني كنت أسمع الناس يقولون: إذا خيف على القبر من سيل مهزور فاهدموا من هذه الناحية، وأشارت إلى القبلة، فهدمها الناس فأبدوا عن تلك الحجارة، انتهى.(3/214)
وذكره ابن زبالة مع مخالفة في التاريخ فقال: وفي ليلة الأربعاء هلال المحرم سنة ثمان وخمسين ومائة في إمارة عبد الصمد لما أصيب المسجد بتلك الغرقة استغاث الناس على سيل مهزور مخافة على القبر، فعمل الناس بالمساحي والمكاتل والماء في برقة إلى أنصاف النخل، فطلعت عجوز من أهل العالية فقالت: أدركت الناس يقولون: إذا خيف على القبر فاهدموا من هذه الناحية، يعني القبلة، فدار الناس إليها فهدموا وأبدوا عن حجارة منقوشة، فعدل الماء إلى هذا الموضع اليوم وأمنوا، وهي الليلة التي هدمت فيها بيوت بطحان وبني جشم، انتهى.
ونقله المراغي إلا أنه قال كما رأيته بخطه: وأبدوا حجارة منقوشة، وضبط الباء بالتشديد، والذي في كلام ابن زبالة وابن شبة ما قدمته، قال المراغي عقبه: وبنو جشم لا تعرف، وإنما المعروف دشم- بالدال- بستان شامي مسجد الفعلة على نحو رميتي سهم منه، فلعلها منازلهم، ووقع في الاسم تغيير.
قلت: والظاهر أن المراد منازل بني جشم بن الحارث بالسنح لقربها من بطحان، فطغى الماء إليها لما صرفوه.
تتمة فيما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأودية
قضاؤه بين رجل من الأنصار والزبير
روينا في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاريّ، فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر.
وفي رواية للبخاري: حتى يرجع الماء إلى الجدر، فكان ذلك إلى الكعبين، وفي أخرى له: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشار على الزبير برأي فيه سعة، فلما أحفظ الأنصاري النبيّ صلى الله عليه وسلم- أي أغضبه- استوفى للزبير حقه في صريح الحكم.
والجدر قيل: أصل الشجرة، وقيل: جدور المشارب التي يجتمع فيها الماء في أصول النخل، وقيل: المسحاء وهو ما وقع حول المزرعة كالجدار، وقال ابن شهاب: قدرت الأنصار والناس ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك إلى الكعبين.
وفي سنن أبي داود عن ثعلبة بن أبي مالك أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم من بني قريظة، فخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مهزور السيل الذي يقسمون ماءه، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الماء إلى الكعبين لا يحبس الأعلى على الأسفل.(3/215)
وفي رواية له: قضى في السيل المهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل، كذا قال في «السيل المهزور» والمشهور كما قال السبكي «في سيل المهزور» .
وفي الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب: يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل.
وروى ابن شبة: قضى في سيل مهزور أن يمسك الأعلى على الأسفل حتى يبلغ الكعبين والجدر، ثم يرسل الأعلى على الأسفل، وكان يسقي الحوائط.
وعن جعفر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيل مهزور أن لأهل النخيل إلى العقيق، ولأهل الزرع إلى الشراكين، ثم يرسلون الماء إلى من هو أسفل منهم.
وهو صريح فيما قاله المتولي والماوردي من أن التقدير بالكعبين ليس على عموم الأزمان والبلدان والزرع والشجر؛ لأن الحاجة تختلف، ولم يقف السبكي على هذه الرواية فقال:
وهو قوي، والحديث واقعة حال، ولولا هيبة الحديث لكنت أختاره.
خاتمة في مجتمع الأودبة ومغائضها
مجتمع سيول العالية
قال الزبير: ثم يلتقي سيل العقيق ورانونا بواد آخر وذي صلب وذي ريش وبطحان ومعجف ومهزور وقناة بزغابة، وسيول العوالي هذه يلتقي بعضها ببعض قبل أن يلتقي العقيق ثم يجتمع، فيلتقي العقيق بزغابة.
قلت: والحاصل أن سيول العالية ترجع إلى بطحان وقناة، ثم تجتمع مع العقيق بزغابة عند أرض سعد بن أبي وقاص كما صرح ابن زبالة.
قال الزبير: وذلك أعلى وادي إضم، وفيه يقول إسحاق الأعرج:
غشيت ديارا بأعلى إضم ... محاها البلى واختلاف الدّيم
قال الهجري: سمى إضم لانضمام السيول به واجتماعها فيه، وقال ابن شبة: تجتمع هذه الأودية بزغابة، وهو بطرف وادي إضم، سمي بإضم لانضمام السيول به.
قلت: ويسمى اليوم بالضيقة، ويسمى زغابة بمجتمع السيول، ولهذا أورد الزبير هنا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «ركب إلى مجتمع السيول فقال: ألا أخبركم بمنزل الدجال من المدينة» ؟
الحديث.
قال الزبير: ثم تمضي هذه السيول إذا اجتمعت فتنحدر على عين أبي زياد والصورين في أدنى الغابة، ثم تلتقي هذه السيول في وادي نقمى ووادي نعمان أسفل من عين زياد، ثم تنحدر هذه السيول فتلقاها سيول الشعاب من كنفيها، ثم يلقاها وادي ملك بذي خشب(3/216)
وظلم والجنينة، ثم يلقاها وادي ذي أوان ودوافعه من الشرق، ويلقاها من الغرب واد يقال له بواط والحزار، ويلقاها من الشرق وادي الأئمة، ثم تمضي في وادي إضم حتى يلقاها وادي برمة الذي يقال له ذو البيضة من الشام، ويلقاها وادي ترعة من القبلة، ثم يلتقي هو ووادي العيص من القبلة، ثم يلقاه دوافع واد يقال له حجر ووادي الجزل الذي به السقيا والرحبة في نخيل ذي المروة مغربا، ثم يلقاه وادي عمودان في أسفل ذي المروة، ثم يلقاه واد يقال له سفيان حين يفضي إلى البحر عند جبل يقال له أراك، ثم يدفع في البحر من ثلاثة أودية يقال لها اليعبوب والنتيجة وحقيب، وذكر ابن شبة نحوه، وكذا الهجري.
وقال المطري: إن السيول تجتمع بدومة سيل بطحان والعقيق والزغابة النقمى وسيل غراب من جهة الغابة فيصير سيلا واحدا ويأخذ في وادي الضيقة إلى إضم جبل معروف، ثم إلى كرى من طريق مصر ويصب في البحر، انتهى.
وفيه أمور:
[الأمر] الأول:
جعله مجتمع السيول برومة، وإنما مجتمعها بزغابة كما سبق، وذلك أسفل من رومة غربي مشهد سيدنا حمزة كما قاله الهجري، وهو أعلى وادي إضم، ومأخذ المطري قول ابن إسحاق في غزوة الخندق: أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة بين الجرف وزغابة، وهو مخالف لما سبق.
الثاني:
جعله لزغابة سيلا ينصب لرومة، ورومة هي التي تنصب إلى زغابة.
الثالث:
جعله النقمى مما يجتمع مع السيول برومة، مع أنه المعبر عنه فيما سبق بنقمى، وإنه يجتمع مع السيول بالغابة.
الرابع:
جعله لغراب سيلا يجتمع برومة، ولم أقف له على مستند، وغراب جبل في تلك الجهة على طريق الشام.
الخامس:
جعله إضم اسم جبل، ومغايرته بينه وبين وادي الضيقة، خلاف ما تقدم، واختلف اللغويون في أن إضم اسم لموضع أو جبل هناك، والظاهر أنه اسم للجبل وواديه.
الفصل السادس فيما سمي من الأحماء، ومن حماها، وشرح حال حمى النبي ص
معنى الحمى
والحمى، لغة: الموضع الذي فيه كلأ يحمي ممن يرعاه، وشرعا: موضع من الموات يمنع من التعرض له ليتوفر فيه الكلأ فترعاه مواش مخصوصة. وهو بالقصر، وقد يمد، ويكتب المقصور بالألف والياء، قال الأصمعي: الحما حميان: حمى ضريّة، وحمى الربذة، وكأنه أراد المشهور من الحمى بنجد، قال صاحب المعجم: ووجدت أنا حمى فيد، وحمى النير، وحمى ذي الشرى، وحمى النقيع.(3/217)
حمى النقيع
قلت: وهي عدا النقيع بنجد، وهي متقاربة، بل سيأتي ما يؤخذ منه دخول النير في حمى ضرية. والنقيع بالنون المفتوحة والقاف المكسورة والياء التحتية الساكنة والعين المهملة على الصحيح المشهور، وهو كل موضع يستنقع فيه الماء، وبه سمي هذا الوادي. وحكى عياض عن أبي عبيد البكري أنه بالباء كبقيع الغرقد، قال: ومتى ذكر دون إضافة فهو هذا.
قلت: الذي نقله السهيلي عن أبي عبيد أنه بالنون، قال عياض: وأما الحمى الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الأربعة فهو الذي يضاف إليه غور النقيع، وفي حديث آخر «أتى بقدح لبن من النقيع» . وحمى النقيع على عشرين فرسخا من المدينة، وهو صدر وادي العقيق، وهو أخصب موضع هناك، وهو ميل في بريد، فيه شجر، ويستأجم حتى يغيب فيه الراكب، فاختلف الرواة وأهل المعرفة في ضبطه: فوقع عند أكثر رواة البخاري بالنون، وذكر نحو ما تقدم، وهو موافق في ذكر المسافة لأبي علي الهجري، وقد تقدم عنه أنه ينتهي إلى حضير، وأن العقيق يبتدئ من حضير، ولعل المراد من رواية ابن شبة في أن النقيع على أربعة برد من المدينة طرفه الأقرب إليها، ومراد الهجري طرفه الأقصى.
وقال نصر: النقيع قرب المدينة كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حماه، وهو من ديار مزينة، وهو غير نقيع الخضمات، وكلاهما بالنون، وأما الباء فيهما فخطأ صراح.
وقال الهجري: الطريق إلى الفرع وسيارة وسنانة والصابرة والقرنين جند والأكحل وأموال تهامة؛ تعترض النقيع يسارا للخارج من المدينة، وبعض الناس يجعلها إلى مكة، وهي طريق التهمة.
ونقل أيضا أن أول الأحماء وأفضلها وأشرفها ما أحمى النبي صلى الله عليه وسلم من النقيع، أحماه لخيل المسلمين وركابهم، فلما صلّى الصبح أمر رجلا صيّتا فأوفى على عسيب وصاح بأعلى صوته، فكان مدى صوته بريدا، ثم جعل ذلك حمى طوله بريد وعرضه الميل في بعض ذلك وأقل، وذلك في قاع مدر طيب ينبت أحرار البقل والطرائف ويستأجم- أي: يستأصل أصله ويغلظ نبته حتى يعود كالأجمة- يغيب فيه الراكب إذا أحيا، وفيه مع ذلك كثير من العضاه والغرقد والسّدر والسّيال والسّلم والطّلح والسّمر والعوسج، ويحف ذلك القاع الحرة حرة بني سليم شرقا، وفيها رياض وقيعان، ويحف ذلك القاع من غربيه الصخرة، وفي غربيه أيضا أعلام مشهورة مذكورة: منها برام، والوائدة، وضاف، والشقراء، وببطن قاع النقيع في صير الجبل غدر تضيف، فأعلاها يراحم، ثم ألبن، وبعضهم يقول: يلبن، وهو أعظمهما وأذكرهما.
وفي سنن أبي داود بسند حسن عن الصّعب بن جثامة أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وقال «لا حمى إلا الله» .(3/218)
وفي رواية له: «لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم» من غير ذكر حمى النقيع كما في الصحيح، ورواه الزبير بلفظ الرواية، وزاد «ولرسوله» وسنده حسن.
وروى أحمد بسند فيه عبد الله العمري- وهو ثقة، وإن ضعّفه جماعة، وقال الذهبي:
إنه حسن الحديث- عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل، فقلت له: لخيله؟ قال:
لخيل المسلمين.
وفي رواية لابن شبة عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى قاع النقيع لخيل المسلمين.
وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل، وحمى الربذة للصدقة، وفي الكبير للطبراني برجال الصحيح عن ابن عمر قال: حمى النبي صلى الله عليه وسلم الربذة لإبل الصدقة.
وروى ابن شبة في ترجمة ما جاء في النقيع بسند جيد عن رجاء بن جميل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى وادي نخيل للخيل المضمّرة، وهي تقضي أن النقيع تسمى بذلك، ولم أر من صرح به، نعم تقدم في الفصل الثالث قول ذؤيب الأسلمي في عرصة العقيق:
طاف من وادي دجيل
الأبيات وهو بالدال في عدة نسخ، والذي في نسخة ابن شبة بالباء بدل الدال، ولعله تصحيف، فيكون ذلك اسما للنقيع، ويؤيده قول مصعب الزبيري بتشوق إلى رومة من العقيق في أبيات:
أعرني نظرة بقرى دجيل ... نخائلها ظلاما أو نهارا
فقال: أرى برومة أو بسلع ... منازلها معطّلة قفارا
وروى الزبير بن بكار عن مراوح المزني قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقيع على مقمل وصليب، وقال في حمى النقيع: «نعم مرتفع الأفراس، يحمى لهن، ويجاهد بهن في سبيل الله» وحماه، واستعملني عليه.
وعن غير واحد من الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «صلّى على مقمل، وحماه وما حوله من قاع النقيع لخيول المسلمين» ثم زادت بنو أمية بعد والأمراء أضعاف ما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقيع.
وعن محمد بن هيصم المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشرف على مقمل طرف وسط النقيع، فصلى عليه، فمسجده هنالك» .
قال ابن هيصم عن أبيه: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي، وقال: إني مستعملك في هذا الوادي، فما جاء من هاهنا وهاهنا- يشير نحو مطلع الشمس ومغربها- فامنعه، فقال: إني رجل ليس لي إلا بنات، وليس معي أحد يعاونني، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عز وجل سيرزقك ولدا، ويجعل لك وليا» قال: فعمل عليه، وكان له بعد ذلك ولد، فلم تزل(3/219)
الولاة يولون عليه واليا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستعمله والي المدينة، حتى كان داود بن عيسى فنزله سنة ثمان وتسعين ومائة، وإنما تركه داود لأن الناس جلوا عنه للخوف ذلك الزمان، فلم يبق فيه أحد يستعمله عليه، قال الزبير: وربما كتب إلى عبد الله بن القاسم وهو في ماله بنعف النقيع يقول لي: إن ناسا عندنا بالنقيع قد عاثوا في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم الأمير يكتب في التشديد فيه.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم «صلّى في موضع مسجده على موضع مقمل ثم بعده إلى ما بينه وبين يلبن من قاع النقيع» .
وقال: فحمى لأفراس تغدو وتروح في سبيل الله، ومد رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وقارب بينهما، ولم يضمهما، وحماه، واستعمل عليه جد أبي الحليس، فقال: يا رسول الله، أولادي النساء، وليس معي غناء، قال: فقم بهن معك فاردد ما جاء من الحرة في الحرة، واردد ما جاء من الصحرة في الصحرة، قال يعقوب المزني: ثم تزايد الناس بعد في الحمى، فحموا ما بين تراجم إلى يلبن، واتخذوا المرابد يحبسون فيها ما رعى الحمى من الإبل، حتى رأيت بعضها يأكل دبر بعض، قال الزبير: وقال لي: لقد رأيت لأبيك أكثر من ثلاثة آلاف شاة بالنقيع، وهو إذ ذاك أمير المدينة، ما يرعى رعاؤه منها شيئا في الحمى، حتى يكتمل العشب ويبلغ نهايته، فيرسل عامل الحمى صائحا يصيح في الناس يؤذنهم باليوم الذي يأذن لهم يرعون الحمى، فيسرع فيه رعاء أبيك والناس يدأ واحدة كفرسي رهان.
حكم الحمى
قلت: مقتضاه جواز رعي الحمى للناس إذا استووا فيه، وهو مخالف لمذهبنا؛ إذ لا يدخله سوى العاجز عن النّجعة من الناس.
قال الشافعي: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حمى إلا لله ورسوله» يحتمل معنيين:
أحدهما: ليس لأحد أن يحمى للمسلمين غير ما حمى صلى الله عليه وسلم؛ فلا يكون لوال أن يحمى.
والثاني: أنه لا يحمى إلا على مثل ما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فللخليفة أن يحمى على مثل ما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني هو أظهر القولين، وهو قول الأزهري، وقال: يعني للخيل التي تركب في سبيل الله، وقيل: معناه ليس لأحد أن يحمى لنفسه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من خصائصه، وإن لم يقع منه، ولو وقع لكان من مصالح المسلمين؛ لأن مصلحته مصلحتهم.
وقال في الأم: كان الرجل العزيز من العرب إذا استنجع بلدا مخصبا أوفى بكلب على جبل إن كان أو نشز إن لم يكن جبل، ثم استعواه ووقف له من يسمع منتهى صوته، فحيث بلغ صوته حماه من كل ناحية، ويرعى من العامة فيما سواه، ويمنع هذا من غيره لضعفي(3/220)
سائمته، وما أراد قربه منها؛ فيرى أن قوله صلى الله عليه وسلم والله أعلم «لا حمى إلا لله ولرسوله» لا حمى على هذا المعنى الخاص، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يحمى إن شاء لمصالح عامة المسلمين، لا لما حمى له غيره من خاصة نفسه، وذلك أنه لم يملك إلا ما لا غنى به وبعياله عنه، وصير ما ملكه الله من خمس الخمس مردودا في مصلحتهم، وماله ونفسه كان مفرغا في طاعة الله.
حمى أبي بكر وعمر
قال: وقد حمى بعده عمر رضي الله تعالى عنه أرضا لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حماها، وقال غيره: حمى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وحمى عمر الشرف، قيل: والربذة، وقيل:
حماها أبو بكر، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله حمى بعضها ثم زاد كل منهما بعده فيها شيئا.
وسيأتي عن الهجري أن عمر أول ما أحمى بضرية، وأن عثمان زاد فيه.
وما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز تغييره بحال، بل ينسحب عليه حكم الحمى وإن زالت معالمه على الأصح، بخلاف حمى سائر الأئمة، قال الشافعي: ويكره أن يقطع الشجر بالمدينة، وكذا بوجّ من الطائف، وكذا بكل موضع حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموضع الذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك فيه بالنقيع، وأما الصيد فلا يكره فيه، انتهى.
والمراد بالكراهة هنا كراهة التحريم.
وروى ابن عبد البر أن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه عن يعلي بن أمية ويقال: أمينة، وكان عاملا على اليمن أنه حمى لنفسه فأمره أن يمشي على رجليه إلى المدينة، فمشى أياما إلى صعدة، فبلغه موت عمر، فركب.
وروى الشافعي وغيره أن عمر استعمل مولاه هنيا على الحمى، فقال له: يا هني ضم جناحك للناس، واتّق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك؟
فالماء والكلأ أهون عليّ من الدنانير والدراهم، ألا وأيم الله لعليّ ذلك، إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرا.
قال الشافعي: وإنما نسب الحمى إلى المال الذي يحمل عليه في سبيل الله لأنه كان أكثر ما عنده مما يحتاج إلى الحمى.
وعن مولى لعثمان بن عفان أنه كان معه في ماله بالعالية في يوم صائف، إذ رأى رجلا يسوق بكرين، وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح، انظروا من هذا، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقلت: هذا أمير المؤمنين،(3/221)
فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب، فإذا لفح السّموم، فأعاد رأسه حتى حاذاه فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ فقال: بكران من إبل الصّدقة تخلفا فأردت ألحقهما بالحمى، وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما، فقال عثمان: هلمّ إلى الماء والظل ونكفيك، فقال: عد إلى ظلك، ومضى، فقال عثمان: من أحبّ أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا، فعاد إلينا فألقى نفسه.
وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يحمل في العام الواحد على أربعين ألف بعير، يحمل الرجل إلى الشام على بعير، ويحمل الرجلين إلى العراق على بعير.
وعن مالك قال: بلغنا أن الخيل التي أعدّها عمر رضي الله تعالى عنه ليحمل عليها في الجهاد ومن لا مركوب له عدتها أربعون ألفا.
وروى بعضهم أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى في روث فرسه شعيرا في عام الرّمادة، فقال: لأجعلن له من عرر النقيع ما يكفيه.
وفي رواية «المسلمون لا يشبعون والشعير في روثك، لتعالجن عرر النقيع» قال الخطابي: العرر نبت ينبته الثمام.
وقال عبد الرحمن بن حسان في قاع النقيع:
أرقت لبرق مستطير كأنه ... مصابيح تخبو ساعة ثم تلمح
يضئ سناه لي سرورا وودقه ... بقاع النقيع أو سنا البرق أبرح
وقال كثير بن عبد الرحمن:
فهل أرين كما قد رأيت ... لعزّة بالنعف يوما حمولا
بقاع النقيع بصحن الحمى ... يباهين بالرقم غيما مخيلا
وقال عبد العزيز بن وديعة المزني:
ولنا بقدس فالنقيع إلى اللّوى ... رجع إذا لهث السبيّ الواقع
واد قرارة ماؤه ونباته ... يرعى المخاض به وواد فارع
سعد يحرر أهلنا بفروعه ... فيه لنا حرز وعيش رافع
وقال أبو سلمى:
لنا منزلان مؤلف الماء مونق ... كريم، وواد يحدر الماء قارع
وداران دار يرعد الرعد تحتها ... ودار بها ذات السلم فرابع
وهذا وما قبله يشير إلى ما سبق في العقيق من أن صدوره ما دفع في النقيع من قدس وما قبل من الحرة وما دبر، فهو يصب في الفرع.(3/222)
وقال أبو قطيفة:
ليت شعري وأين مني ليت ... أعلى العهد يلبن فبرام
«1»
أم كعهدي النقيع أم غيّرته ... بعدنا المعصرات والأيام
وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
أزجرت الفؤاد منك الطروبا ... أم تصابيت إذ رأيت المشيبا
أم تذكرت آل سلمة إذ حلّوا ... رياضا من النقيع ولوبا
ثم لم يتركوا على ماء عمق ... للرجال الورّاد منهم قلوبا
الفصل السابع في شرح حال بقية الأحماء، وأخبارها
حمى الشرف
منها: الشرف، حماه عمر رضي الله تعالى عنه، وليس هو شرف الروحاء، بل موضع بكبد نجد.
قال نصر: الشرف كبد نجد، وقيل: واد عظيم تكتنفه جبال حمى ضرية والظاهر أنه مراد من غاير بينه وبين حمى ضرية والربذة.
قال الأصمعي: الشرف كبد نجد، وكانت منازل بني آكل المرار، وفيها اليوم حمى ضرية، وفي أول الشرف الرّبذة، وهي الحمى الأيمن، والشريف إلى جنبه يفصل بينهما السرير، فما كان مشرقا فهو الشريف، وما كان مغربا فهو الشرف، انتهى.
ويحتمل: أن المراد بقولهم «حمى الشرف والربذة» حمى ضرية والربذة لما سيأتي في حمى ضريّة أنه كان يقال لعامله عامل الشرف، ولم يفرد الهجري في أحماء نجد الشرف، ولم يبين له محلا، وإنما ذكر الربذة وضرية مع ما سيأتي فيهما.
وقال الأصمعي: كان يقال: من تصيّف الشرف، وتربّع الحزم، وشتّى الصمّان؛ فقد أصاب المرعى.
حمى الربذة
ومنها: حمى الرّبذة قرية بنجد من عمل المدينة، على ثلاثة أيام منها، قاله المجد، وفي كلام الأسدي ما يقتضي أنها على أربعة أيام، قال المجد: وكان أبو ذر الغفاري خرج إليها مغاضبا لعثمان رضي الله تعالى عنهما، فأقام بها إلى أن مات، وتقدم قول الأصمعي إنها في
__________
(1) يلبن: غدير بنقيع الحمى. برام: جبل من أعلام النقيع.(3/223)
الشرف وإنها الحمى الأيمن، وقال نصر: هي من منازل الحاج بين السليلة والعقيق، أي الذي بذات عرق.
وفي تاريخ عبيد الله الأهوازي أنها خربت في سنة تسع عشرة وثلاثمائة؛ لاتصال الحروب بين أهلها وأهل ضرية ثم استأمن أهل ضرّية إلى القرامطة، فاستنجدوهم عليهم، فارتحل أهل الرّبذة عنها فخربت، وكان أحسن منزل بطريق مكة.
وقال الأسدي: الرّبذة لقوم من ولد الزبير، وكانت لسعد بن بكر من فزارة، ووصف ما بها من البرك والآثار، وقال: إن بها بئرا تعرف ببئر المسجد بئر أبي ذر الغفاري.
وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى الربذة لإبل الصدقة، وقيل: أبو بكر، وقيل: عمر، وهو المشهور.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر حمى الربذة لنعم الصدقة، ولهذا نقل الهجري عن جماعة أن أول من أحمى الحمى بالربذة عمر بن الخطاب لقصاص الصدقة، وأن سعة حماه الذي أحمى بريد في بريد، وأن سرّة حمى الربذة كانت الحرة، ثم زاد الولاة بعد في الحمى، وآخر من أحماه أبو بكر الزبيري لنعمه، وكان يرعى فيه أهل المدينة، وكان جعفر بن سليمان في عمله الأخير على المدينة أحماه لظهره بعد ما أبيحت الأحماء في ولاية المهدي، ثم لم يحمه أحد منذ عزل بكار الزبير.
وأول أعلامه رحرحان جبل غربي الزبدة على أربعة وعشرين ميلا منها في أرض بني ثعلبة بن سعد كثير القنان، وأقرب المياه منه ماء يقال له الكديد حفائر عادية عذاب، ثم أروم جبل عن يسار المصعد، ويدعى الجندورة في أرض بني سليم، وأقرب المياه منه ماء لبني سليم يدعى ذنوب داخل في الحمى على اثني عشر ميلا من الربذة، ثم اليعملة، وبها مياه كثيرة، بينها وبين الربذة ثلاثة عشر ميلا، ثم عن يسار المصعد هضبات حمر يدعين فوافى بأرض بني سليم، على اثني عشر ميلا من الربذة، ثم عمود المحدث، وهو عمود أحمر في أرض محارب، بأصله مياه تدعى الأقعسية، على أربعة عشر ميلا من الربذة، وهو بلد واسع.
حمى ضرية
ومنها: حمى ضرية قرية سميت باسم بئر يقال لها ضرية، وقال ابن الكلبي: سميت ضرية بضرية بنت نزار، وهي أم حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وقال الأصمعي:
ويقال ضرية بنت ربيعة بن نزار، وقال نصر: ضرية صقع واسع بنجد، ينسب إليه حمى ضرية، يليه أمير المدينة، وينزل به حاج البصرة، قال أبو عبيد البكري: ضرية إلى عامل المدينة، وقال غيره: وهي قرية عامرة قديمة في طريق مكة من البصرة، وهي إلى مكة أقرب، غير أنها من أعمال المدينة يحكم عليها واليها.(3/224)
وذكر الأسدي في وصف طريق البصرة ما يقتضي أن ضرية على نحو عشرة أيام من مكة، وأخبرني أهل المعرفة بها أنها من المدينة على نحو سبع مراحل، وأنها إلى المدينة أقرب.
وقال ابن سعد: سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء بطن من أبي بكر كانوا ينزلون البكرات بناحية ضرية، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، انتهى.
وتقدم قول الأصمي في الشرف إن به حمى ضرية، قال: وضرية: بئر ماؤها عذب طيب، قال الشاعر:
ألا يا حبذا لبن الخلايا ... بماء ضريّة العذب الزلال
ونقل المجد أن أشهر الأحماء وأسيرها ذكرا حمى ضرية، وكان حمى كليب بن وائل فيما يزعم بعض بادية طيئ، قال: وذلك مشهور عندنا بالبادية يرويه كابر عن كابر، وفي ناحية منه قبر كليب معروف إلى الآن.
قلت: وأخبرني بذلك رئيس أهل نجد ورأسها سلطان البحرين والعطيف فريد الوصف والنعت في جنسه صلاحا وإفضالا وحسن عقيدة أبو الجود أجود بن جبر أيده الله تعالى وسدده، وقال: إن قبر كليب هناك معروف عند العرب يقصدونه، قال: ودلني عليه بعضهم لأقصده، فقلت: وهو واحد من الجاهلية.
ونقل الهجري أن أول من أحمى الحمى بضرية عمر بن الخطاب، أحماه لإبل الصدقة وظهران الغزاة، وأن سروح الغنم العادية من ضرية ترعى على وجوهها ثم تؤوب بضرية، وذلك ستة أميال من كل ناحية، وضرية في وسط الحمى؛ فكان على ذلك حياة عمر وصدرا من ولاية عثمان، ثم كثر النعم حتى بلغ أربعين ألف بعير، فضاق عنه الحمى، فأمر عثمان أن يزاد ما يسع إنل الصدقة وظهران الغزاة، فزاد زيادة لم يحددوها، إلا أن عثمان رضي الله تعالى عنه اشترى ماء من مياه بني ضبيعة كان أدنى مياه غنى إلى ضرية يقال له البكرة عند هضبات يقال لها البكرات على نحو عشرة أميال من ضرية يذكرون أن البكرة دخلت في حمى عثمان، ثم لم تزل الولاة تزيد فيه، واتخذوه مأكلة، ومن أشدهم فيه انبساطا ومنعا إبراهيم بن هشام المخزومي، زاد فيه وضيّق على أهله، واتخذ فيه من كل لون من ألوان الإبل ألف بعير، ولم تزل حواط الحمى يقاتلون عليه أشدّ القتال، ويكون فيه الدماء، وقاتل مرة حواط بن هشام ورعيان أهل المدينة وهم أكثر من مائتي رجل ناسا من غنى على ماء لغنى يقال له الساه قتالا شديدا، فظفر الغنويون، فقتلوا منهم اثني عشر رجلا، ثم صالحوهم على العقل، لكل واحد مائة من الإبل، فقال بعض الغنويين:
يال غنى إنه عقل النّعم ... وليس بالنّوم وترجيل اللّمم
وكان ناس من الضباب قدموا على ولد عثمان، فاستسقوهم بالبكرة فأسقوهم، فلم تزل بأيديهم.(3/225)
وحفر عثمان عينا في ناحية أرض غنى خارجة عن الحمى بناحية الماء الذي يقال له نفي على نحو خمسة عشر ميلا من أضاخ، وفقرت لها بها فقر كبيرة، وابتنى عماله عندها قصرا أثره بين قرب واردات مقبل، ولم تجر، فتركها العمال، فلم يحرك ذلك السيح إلى اليوم.
ودفنت غنى في فتنة ابن الزبير عنصر العين وتلك الفقر، فنسيت عيونه وكل ما سلف من أضاخ في شرقيها تميمي.
وأدنى مياه بني تميم إلى أضاخ ماء يقال له أضيح لبني الهجيم، وقد دفن منذ دهر، فقال ناس من بني عبد الله بن عامر لأصهار لهم من بني الهجيم: نحن نستسقي لكم آل عثمان فنسقى، فرغبوا في ذلك، فأجابهم آل عثمان، فاستظعن الهجيميون قومهم إليه، فلقيهم رعاء غنى، فسألوهم، فقالوا: إن بني عثمان ولّونا أمره، وبلغ الخبر من بينهم من غنى، فتواعدوا أن ينزلوا أدنى منازلهم من بقي، فاجتمع منهم جمع كثيف، وعلم بنو الهجيم أنهم إن ثبتوا يعظم البلاء، فظعنوا ليلا إلى بلادهم، وخاف بعضهم أن يدرك فتركوا به الرحال وما ثقل وبهما في أرباقه يعني العرى التي يشد بها البهم، فغضب أصهار الهجيميين، واستغضبوا آل عثمان، فلما قدم الحسن بن زيد المدينة ومعه بعض أصهار الهجيميين فقالوا لآل عثمان: نجئ لكم بخيار تميم ومشايخ أضاخ يشهدون لكم، فاستعدى آل عثمان الحسن بن زيد على غنى، وسألوه المحاكمة بأضاخ لقربها من بني تميم، وكلم آل عثمان عبد الله بن عمرو بن عبسة العثماني، فاجتمعوا عند أبي مطرف عامل الجيش بأضاخ، وولي الخصومة من غنى الحصين بن ثعلبة أحد بني عمرو الذين امتدحهم ابن عرندس بالأبيات الآتية، فصار كلما جاء العثماني بشاهد من تميم جاءه الغنوي بشاهدين يخرجانه من قيس، فلحق العثماني بأهله، فلم يزل بقي مواتا. وهذه الخصومة في سنة خمسين أو إحدى وخمسين ومائة.
واحتفر عبد الله بن مطيع حفيرة هي في أيدي الضباب على بريد من ضرية على طريق أضاخ للمدينة في ناحية شعبي، وكان الكنديّون يسقون، وماؤهم يسمى الثريا، ومنهم العباس بن يزيد الذي هجاه جرير بقوله:
أعبدا حلّ في شعبي غريبا ... ألؤما لا أبالك واغترابا
إذا حلّ الحجيج على قنيع ... يبيت الليل يسترق العتابا
وقنيع: ماء للعباس الكندي على ظهر محجّة أهل البصرة في داره من دارات الحمى يقال لها دارة عسعس، فلما أجلى الكنديون عن قنيع تنازعت بنو أبي بكر بن كلاب وبنو جعفر، فقالت أبو بكر: نحن أحق بماء حلفائنا، وقال الجعفريون: هو عند بيوتنا فنحن(3/226)
أحق به، فجمع بعضهم لبعض بملتقى قنيع، وكان سيد بني جعفر عبود بن خالد، ورأس أبي بكر معروف بن عبد الكريم وأخته زوجة عبود أم ولده طفيل، وكان طفيل من أشد بني جعفر على أخواله، فخرجت أمّه ليلا لقومها، فقالت: أشد بني جعفر لكم عداوة ابن أختكم، فإنه معلم بحبه حرمر، فليكن أول قتيل، ثم تداعى القوم للصلح على تحكيم سلمة ابن عمرو العريقي، وكتبوا بذلك وأشهدوا وتواعدوا أن يتوافوا عنده بأربعين من كل بطن، ثم نزلوا بسلمة عند الأجل، فأقام أياما ينحر لهم كل يوم جزورا، ويعطف بعضه على بعض، ويزهدهم في قنيع، فقالوا: إنا لم نجئ لتنحر لنا إبلك، فقال: حياكم الله يا بني كلاب، أتيتموني في أمر عار ذكره وأهجن، ولست بحاكم حتى أعقد لنفسي أن لا تردّوا أنتم ولا من وراء كم حكمي، فأخذ عليهم الطلاق والعتاق والمواثيق، ثم قال: أراكم يا بني كلاب كلكم ظالم، تقطعون أرحامكم في غير مائكم، لا أرى لأحد منكم فيه حقا، فرضوا جميعا، فامتدحه شعراؤهم، وكان شريفا حسن العلم بالسنن.
قال عقيل بن عرندس الكلابي يمدحه وأهل بيته بني عمرو بقصيدة منها:
يا أيها الرجل المعني شبيبته ... تبكي على ذات خلخال وأسوار
خيرتنا وبنى عمرو فإنهم ... ذوو فضول وأحلام وأنظار
هينون لينون أيسار بنو يسر ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار
من تلق منهم فقد لاقيت سيدهم ... مثل النجوم سرى في ضوئها الساري
وقال فيه وفي أخيه جامع أحد بني بكر:
إذا ما غنى فأخرتها قبيلة ... فإن غنيّا في ذرى المجد أفخر
وكم فيهم من سيد وابن سيد ... ومن فارس يوم الكريهة مسعر
هم رتقوا الفتق الذي كان باديا ... وقاموا بأفق الحق، والحقّ أنور
فرحنا جميعا طائعين لحكمه ... وهل يدفع الحكم الجليل المنور
واحتفر بعض بني حسن بن علي بالحمى، واتخذ إلى جنب حفرته عينا ساحت ثم خرجت في غربي طخفة بشاطئ الريان على ثلاثة عشر ميلا من ضرية، وهي بيد ناس من بني جعفر ثم من بني ملاعب الأسنة من جهة بني أختهم الحسنيين.
وكان لبني الأردم- وهم من بني تميم بن لؤي- ماء قديم على طريق أهل ضرية إلى المدينة على ثمانية عشر ميلا من ضرية يسمى الجفر، ومعهم نفر من بني عامر بن لؤي، فاحتفر سعيد بن سليمان الساحقي العاري عينا وأساحها وغرس عليها نخلا كثيرا على ميل أو نحوه من حفر بني الأدرم بدارة الأسود جبل عظيم أسود، وهي عامرة كثيرة النخل.
ولما ولى إبراهيم بن هشام المدينة احتفر بالحمى حفيرة لهضب اليمنى على ستة أميال من(3/227)
ضرية على طريق البكرة إلى ضرية، سماها النامية، وأخرى بناحية شعبي بين ضرية وحفر بني الأدرم على سبعة أميال من ضرية بواد يقال له فاضحة لأنه انفضاح أي انفراج واتساع بين جبال.
ولما هلك ابن هشام احتفر جعفر بن مصعب بن الزبير حفيرة إلى جنب حفيرة ابن هشام بفاضحة، ونزلها بولده حتى مات، فأقام ابنه محمد بمنزلة أبيه حتى خرج محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن فخرج مع محمد، فلما قتل هرب إلى البصرة، ثم رجع إلى فاضحة، وتزوج من بني جعفر ثم بني الطفيل فأولد عبد الله فزوّجه ابنة القاسم بن جندب الفزاري، وكان علما من أعلام العرب ينزل باللواء، وكان القاسم لا يسير أبدا، ولم يكن حج قط، ولا يكاد يقدم ضرية، وأولاد عبد الله من ابنته في بقية من أموالهم بفاضحة.
واحتفر عبد الله حفيرة إلى جنب حفيرة جده، ودفن حفيرة ابن هشام، وأخفى مكانها.
واحتفر جرش مولى ابن هشام حفيرة على ميلين أو ثلاثة من حفر بني الأدرم وحفرة المساحقي سماها الجرشية، ثم اشتراها ناس من ولد رافع بن خديج من الأنصار، وأحدثوا بقربها حفيرة بقطيعة السلطان، فنازعهم محمد بن جعفر بن مصعب بحق بني الأدرم، وكان من أشد الرجال، فقاتلهم وحده، فاجتمعوا فأصابه رجلان منهم بفرعين خفيفين في رأسه، فأخذهما أسرى حتى أقدمهما ضرية، واستعدى عليهما الحسن بن زيد بالمدينة، فضربهما بالسياط، ثم عفا عنهما، واختصموا في الجرشية والحفيرة حتى قضى لبني الأدرم والمساحقي، فكلمهم الناس فسبقوهم بهما، وكان الأنصاريون أهل عمود وماشية، فلما كانت الفتنة أكلتهم لصوص قيس من كلاب وفزارة، فلحقوا بطيئ وناسبوهم، فأمنوا مدة، ثم غارت عليهم لصوص طيئ فتفرقوا وتركوا البادية، وكانت بنو الأدرم وبنو بجير القرشيون قد كثروا بالحفر، ثم وقع بينهم شر، وكان جيرانهم من قيس يكرمونهم، فلما تفاسدوا جعل بعضهم يهيج اللصوص على بعض، فنهبهم بنو كلاب وفزارة، وقتلوا بعض رجالهم، فلحقوا بالمدينة، وتفرقوا، وقال عبد الجبار المساحقي لبني فزارة فيما فعلوا بالقرشيين:
مهلا فزارة مهلا لا أبالكم ... مهلا فقد طال إعذاري وإنذاري
في أبيات:
وكانت ضرية من مياه الضباب في الجاهلية لذي الجوشن الضبابي والد شمر قاتل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، وكانت مسلمة الضباب يروون أن ذا الجوشن قال في الجاهلية:(3/228)
دعوت الله إذ سغبت عيالي ... ليجعل لي لدى وسط طعاما
فأعطاني ضريّة خير بئر ... تمجّ الماء والحب التؤاما
ووسط: جبل على ستة أميال من ضرية يطأ الحاج المصعد خيشومه، وبناحيته اليسرى دارة سعتها ثلاثة أميال أو أربعة، وقنيع في أعلاها، وهي بين وسط وعسعس ويقال لها أيضا: دارة عسعس، وعسعس: جبل أحمر مجتمع في السماء بهيئة رجل جالس له رأس ومنكبان.
وأما عين ضرية وسيحها فيقال: إنه كان لعثمان بن عنبسة بن أبي سفيان، وهو الذي حفرها واغترس النخل وضفر بها ضفيرة بالصخر لينحبس الماء، وهو سد يعترض الوادي فيقطع ماءه وينحبس زمانا ليكون أغزر للعين، فلما قام أبو العباس كان ذلك فيما قبضوا، ففي آخر ولاية أبي العباس وكانت تحته أم سلمة المخزومية من بني جعفر بن كلاب وقد أحالها معروف بن عبد الله عليه فأكرمه فسأله أن يقطعه عين ضرية فأقطعه، وكان بدويا ذا زرع، فلما أرطب نخلها نزلها بأهله، وكانت نعمه ترد عليه، وسأله ناس من ضريّة أن يعريهم من نخله، فأعراهم، وصار يجني للضيفان من الرطب، ويحلب لهم من إبله، فمكث نحو شهرين، فأتاه ضيفان بعد ما ولي الرطب، فأرسل فلم يؤت إلا بقليل، وقال له الرسول: ذهب الرطب إلا ما ترى، فقال: يسوءني أن أعود على ضيفاني من نخلكم، وكان قيمه على العين زرع قثاء وبطيخا، فأتاه بشيء منه، فقال: قبح الله ما جئت به، احذر أن يراه عيالي، وكره النخل، وأراد بيعه، فاشتراه منه عبد الله الهاشمي عامل اليمامة بألفي دينار، ثم ولاه جعفر بن سليمان إذ سأله إياه، فأحدث بسوق ضرية حوانيت جعلها سماطين داخلين في سماطي ضرية الأولين فيهما نيف وثمانون حانوتا، فربما جمعت غلة الحوانيت والنخل والزرع ثمانية آلاف درهم في السنة، وكان شأن الحمى عند ولاة المدينة عظيما، كانوا يستعملون عاملا وحده، وكانت إصابته فيه عظيمة، وكان لحواطه سلطان عظيم، وحواط كل ناحية: سادة القوم وأشرافهم، وكان يقال لعامل الحمى: عامل الشرف.
وأقرب أجبل الحمى للمصعد- أي أقرب ما ترى من جباله- جبل الستار على طريق البصرة، أحمر مستطيل فيه ثنايا تسلك، ومنه طريق البصرة، بينه وبين أمرة خمسة أميال، وهو في دار غنى في ناحية هضب الأشق، وبالأشق مياه: منها الريان في أصل جبل أحمر طويل، ومن هضب الأشق هضبة في ناحية عرفج يقال لها الشيماء، وفي غربي الأشق سواج الطريق تطأ خيشومه.
ومتالع: جبل أحمر عظيم عن يمين أمرة، على ثلاثة أميال منها البثاءة بينها من أكرم أعلام العرب موضعا.(3/229)
ولما ولي أبو خليد العبسي خال الوليد عمل ضرية نزلها وحفر في جوف النّتاءة في حق غني فقيره، فلما ولي بنو العباس هدمت غنى تلك الحفرة وسوّوها بالأرض.
ولبني عبس ماء في شعب يقال له الأسودة، ولهم بالحمى ماء يقال له ضحح في إبط رميلة الحسى حسى بن حصبة، ولهم الحاء بها نخل كثير، ولهم مياه أخرى، ثم الأقعس، ثم تليه هضبات تدعى قطبيات في إقبال البئر، ثم يليها هضبات يقال لها العرائس في بلد كريم من الوضح في إقبال البئر أيضا، وبين العرائس جبل يقال له عمود الكور.
شعر: جبل عظيم في ناحية الوضح، وعنده ماء يقال له الشطون، أكثر الشعراء من ذكره، قال الخضري:
سقى الله الشطون شطون شعر ... وما بين الكواكب والغدير
وعن يسار العرائس بالوضح جبال بينهن آبار صغار سود علاهن الرمل مشرفات على مهزول، وهو واد في إقبال البئر، وهن تسمين العثاعث، ذكرهن ابن شوذب في شعر مدح به السرى، فقال من أبيات:
بربا العثاعث حيث واجهت الربا ... سند العروس وقابلت مهزولا
ثم يلي العثاعث ذو عثث واد يصبّ في التسرير، ويصب فيه وادي مرعي وهو بناحية الحمى، ثم يليه نضاد، وهو بطرف البئر الشرقي في حقوق عنى، ويلي البئر جبال كثيرة سود بعضها إلى بعض، ومنها تخرج سيول التسرير، وبنضاد وذي عثث تلتقي سيولها، والحثحاث والبقر بأقبال نضاد، وهما المعنيان بالحمى، ثم بلى الأقعس عن يسار المصعد هضب اليلبين، وأقرب المياه إليه ماء يقال له اليلبين، وبين هضب اليلبين والربذة نيف وعشرون ميلا، ثم يلي هضب اليلبين عن يسار المصعد الجمارة قنان سود بينها وبين الربذة خمسة عشر ميلا، في مهب الشمال عن الربذة، وبينهما هضب يقال لها سنام، ثم يلي الجمارة جبال سود تدعى الهاربية، بينها وبين الربذة أربعة عشر ميلا، ثم هضب المنحر، ثم رحرحان.
انتهى ما لخصته مما نقله الهجري، وقد أكثر الشعراء وغيرهم من ذكر هذا الحمى وأعلامه وأخباره.
وحكى ابن جني في النوادر الممتعة عن المفضل بن إسحاق قال هو أو قال بعض المشيخة: لقيت أعرابيا فقلت: ممن الرجل؟ فقال: من بني أسد، فقلت: فمن أين أقبلت؟
قال: من هذه البادية، قلت: فأين مسكنك منها؟ قال: مساقط الحمى حمى ضرية بأرض ها لعمر الله ما نريد بها بدلا ولا عنها حولا، قد نصحتها الغدوات، وحفتها الفلوات، فلا يملولح ترابها، ولا يمعر جنابها، ليس فيها أذى ولا قذى، ولا وعك، ولا موم، ولا(3/230)
حمى، فنحن فيها بأرفه عيش وأرغد معيشة قلت: وما طعامكم؟ قال: بخ بخ، عيشنا والله عيش يعلل حاديه، وطعامنا أطيب طعام وأمرؤه وأهناه: الفثّ والهبيد والفطس والصليب والعنكث والعلهز والذآنين والطراثيث والحسلة والضباب، وربما والله أكلنا القد، واشتوينا الجلد، فما نرى أن أحدا أحسن منا حالا، ولا أخصب جنابا، ولا أرخى بالا، فالحمد لله على ما بسط علينا من النعمة، ورزق من حسن الدّعة، أو ما سمعت قائلنا يقول:
إذا ما أصبنا كلّ يوم مذيقة ... وخمس تميرات صغار كوانز
فنحن ملوك الناس شرقا ومغربا ... ونحن أسود الناس عند الهزاهز
وكم متمنّ عيشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به جدّ فائز
قلت: فما أقدمك هذه البلدة؟ قال: بغية ليه، قلت: وما بغيتك؟ قال: بكرات أضللتهن، قلت: وما بكراتك؟ قال: أبقات عرصات هبصات أرنات أواب، عيط عوائط، كوم فواسج، أعزبتهن قفا الرحبة رحبة الخرجا، ضجعن مني فحمة العشاء الأولى، فما شعرت بهن إلى أن ترجل الضحى، فقفوتهن شهرا ما أحسّ لهن أثرا، فهل عندك جالية عين أو جابية خبر؟ لقيت المراشد وكفيت المفاسد.
الموم- بالضم- البرسان. والفث- بالفاء ثم المثلاثة- حب يعالج ويطحن ويؤكل في الجدب.
والهبيد: حب الحنظل ينقع في الماء ويعالج حتى يحلو. والفطس- بالسكون- حب الآس. والصليب- آخره موحدة- الودك. والعنكث- بالمثلاثة- نبت خشن شائك يعالجه الضب بذنبه حتى يتحات ويلين ثم يأكله. والعلهز: دم ووبر يلبك ليؤكل في الجدب.
والذآنين- بالمعجمة- جمع ذؤنون، نبت معروف، والطراثيث- بالطاء المهملة ومثلثتين بينهما مثناة تحتية- جمع طرثوث نبت أحمر. والحسلة- كقردة- جمع حسل، وهو ولد الضب، والعرص والهبص والأرن: النشاط، أواب: جمع آبية، وهي التي ضربت فلم تلقح، عيط عوائط: بمعناه وكوم فواسج: سمان. وأعزبتهن: بيت بهن عازبا عن الحي. قفا الرحبة:
خلفها الخرجا: موضع به حجارة فيها سواد وبياض. وضجعن: عدلن وملن؛ وجابية خبر: أي طريق خارقة.
حمى فيد
ومنها: حمى فيد- بالفاء ثم المثناة التحتية- منزل بنجد في طريق الحاج العراقي، فيه سوق وبرك ونخيل وعيون، قيل: سميت بفيد بن حام؛ لأنه أول من سكنها.
وقال ابن جبير: إنه خرج من المدينة النبوية يوم السبت صحبة الركب العراقي فوصلوا فيدا صبيحة الأحد التاسع من خروجهم، وقال الأسدي: فيد بطيئ لبني نبهان، وبه أخلاط(3/231)
من أسد وهمدان وغيرهم، وبه ثلاث عيون: عين النخل احتفرها عثمان بن عفان، والآخرى تعرف بالحارة في وسط الحصن والسوق احتفرها المنصور، والثالثة تعرف بالباردة على الطريق خارج المنزل حفرها المهدي، وبفيد آبار كثيرة قصيرة الرشا، انتهى.
وقال الهجري: وأما حمى فيد وصفته فلم أجد أحدا عنده علم ممن كان أول من أحماه، ولا كم كانت منعته أول ما أحمى، إلا أن فيدا كان موضعه الذي هو به اليوم فلاة من الأرض بين بني أسد وطيئ، وكانت إلى جبل طيئ أقرب، فذكر أهل العلم ممن لقيت من أهله أنه التقطت به ركبتان كانتا جاهليتين، التقطهما أناس من بني أبي سلام ومعهم نفر من طيئ وهم يرعون هناك في ولاية بني مروان، وأن أول من حفر به حفرا في الإسلام أبو الديلم مولى لفزارة، فاحتفر العين التي هي اليوم قائمة وأساحها وغرس عليها، وكانت في يده حتى قام بنو العباس فقبضوها، فهي اليوم في أيديهم.
قلت: وكأنه لم يقف عل ما ذكره الأسدي من عين عثمان رضي الله تعالى عنه، ولعله أول من أحماه.
قال الهجري: وأما أجبل حمى فيد فأولها على طريق الكوفة بين فيدو الأجفر جبل يقال له الجبيل أحمر عظيم، على ستة عشر ميلا من فيد في أرض بني أسد، ليس بين فيد والكوفة جبل غيره، ثم يليه الغمر جبل أحمر طويل على عشرين ميلا من فيد، عن يسار المصعد لمكة، وإلى جنبه ماء يقال له الرخيمة، وماء يقال له الثعلبية، وكل ذلك في الحمى، ثم عن يسار المصعد قبة سوداء تدعى أذنة، على ستة عشر ميلا من فيد، في أرض بني أسد، وفي ناحيتها في الحمى مياه يقال لها الوراقة، ثم عن يسار المصعد هضب الوراق لبني أسد، وفي ناحيته مياه يقال لها أفعى، ومياه يقال لها الوراقة، ثم جبلان أسودان يدعيان القرنين في أرض بني أسد، على ستة عشر ميلا من فيد، والطريق إلى مكة تتوسطهما، ثم عن يمين الطريق للمصعد جبل أسود يقال له الأحول في أرض طيئ، على ستة عشر ميلا من فيد، وأقرب مياهه أبضة في حرة سوداء، ثم عن يمين المصعد جبل يقال له دخنان بأرض طيئ، على اثني عشر ميلا من فيد، ثم جبل يقال له الغبر، ثم جبلان يقال لهما جاش وجلذية لطيئ، على أكثر من ثلاثين ميلا من فيد، وهاهنا اتسع الحمى وكرم، ثم الصدر على سبعة أميال وثلاثين ميلا من فيد، ثم صحراء ليس بها جبل يقال لها صحراء الخلة، عن يمين الأجفر، على ستة وثلاثين ميلا من فيد وأقرب مياهها الجثجاثة.
ثم يليها على المحجة أكمة مشرفة على الأجفر. ثم سويقة هضبة حمراء طويلة في السماء، وهي في الحمى في أرض الضباب، على ثلاثين ميلا أو أكثر من ضرية، وهي التي عنت جمل بنت الأسود الضبابية، وذلك أنها جاورت بني الهدر في أعلى بلاد الضباب،(3/232)
وهي متعالية لهم واد رغاث يقال له كراء في علياء دار بني هلال على ليلتين من الطائف، وكانت بنو هلال ينهضون على أهله، حتى جمعت لهم الضباب جمعا وقتلوا منهم وسبوا، وجاؤوا ببعضهم إلى الحمى فهابوهم.
وللضباب ملك آخر يقال له العرّى بناحية بيشة قرب تبالة، فجاورت جمل بني الهدر في تلك الناحية، وأغارت لصوصهم على عكرة لها يوم الأضحى، واغتنموا تشاغل الناس بالعيد، فقالت جمل وكان بليغة:
بنى الهدر ماذا تأمرون بعكرة ... قلائد لم تخلط بخبث نصابها
تظل لأبناء السبيل مناخة ... على الماء يعطى درّها ورقابها
أقول وقد ولّوا بهيت كأنه ... مناكب حوضي رملها وهضابها
ألهف على يوم كيوم سويقة ... شفى غل أكباد فساغ شرابها
بنى الهدر لو كنتم كراما وفيتم ... لجارتكم حتى يحين انقلابها
ولكنما أنتم حمير حساءة ... مجدّعة الأذناب غلب رقابها
فأشارت بقولها «كيوم سويقة» إلى وقعة كانت للضباب مع عامل ضرية مهروب الهمداني من قبل زياد بن عبيد الله الحارثي، وذلك أن عاملا له مع حواط الحمى وجدوا نعما للضباب في الحمى بناحية سويقة فطردوها أقبح الطرد، فركبوا في أثره، فأصابوه بضرب، وعقروا راحلته، فأتى عامل ضرية، فخرج بجنده وسخر رجالا معه من أهل ضرية كرها حتى لقي نعما للضباب فيها بعضهم، فأسر نفرا منهم، فبلغ الضباب، فأدركوه بسويقة فكر عليهم، فنادوا: يا أهل ضرية، أنتم مكرهون فاعتزلوا، ونادوه أن خل سبيل أصحابنا وما أصيب منا بالذي أصبنا منك، فتراموا بالنبل حتى فنيت، ثم اقتتلوا فانهزم، وأدركوه فقطعوه بالسيوف، وقتلوا نفرا من أصحابه، ورجعوا بالأسرى.
ثم يلي سويقة جبل ذو قنان كثيرة، ليس بالحمى أكبر منه إلا أن يكون شعبي، وهو جبل أسود، في أرض الضباب، كثير المعادن من التبر، كان به معدن يقال له النجادي، كان لابن أبي بحّاد، لم يعلم في الأرض مثله؛ فعن شيخ من موالي خزاعة أنه خرج منه ما لم يسمع بمثله، ورخص الذهب بالعراق والحجاز لما أن كثر حتى قل نيله لغلبة الماء عليه وقر به قرية عظيمة، وكان له عامل مفرد يخرج من المدينة.
كبد منى
ثم كبد منى: قنة عظيمة مفردة شرقي منى، وهو جبل يشرف على ما حوله ينظر إليه الحجاج حين يصدرون عن مرة، وبين حليت ومني جبل يقال له قادم، وإلى جنبه قويدم، وبهما مياه يقال لها القادمة من أطيب ماء بالحمى وأرقه، يضرب بها المثل في العذوبة، بينها(3/233)
وبين منى دارة الفهيدة التي عقرت لها ناقة المنسرح وعقر لها ما عقر، وذلك أنه كان تمثالا لا يكاد يبين، وله صريمة يحلب عقيلتها لأمه، فكانت حياتها لأن الناس أشتوا، فبينا هو بدارة الفهيدة في ولاية ابن هشام إذ دخلت الحمى فتركها فباتت فرآها بعض الحواط من الموالي، فطرد الصريمة أقبح الطرد، فعرض له المنسرح ليكفه، ولا سلاح معه، فطعن الناقة التي يحلبها المنسرح لأمه في ضرعها فاختلط لبنها بدمها، فحلف لا يسكن الحمى ولا يمس رأسه دهن حتى يعقر إبل من عقر ناقته، فتوجه إلى قومه، فأخبرهم خبره، وطلب سيفا قاطعا لا يقع في شيء إلا خرج منه، فأعطوه إياه، فأتى إبلا للمولى مهاري، فقال للراعي:
أنا رسول مولاكم وهو بضرية يأمركم أن تعقلوا خيار إبلكم فإنه نصيحكم لأمر حدث، وأخرج لهم عقلا، فصدقوه وحلبوا له ناقة، فوضع الإناء، فقالوا: ألا تغتبق، قال: دعوه حتى يبرد، قال: وإنما كرهت أن أشرب اللبن وأعقر إبله.
فلما غفلوا عنه أهراقه، وعقلوا من خيار الإبل نحو ثلاثين، فلما ناموا استلّ سيفه وضرب ناقة على حقيبتها فمضى حتى فلق ضرعها، وتواثبت الإبل، فطفق في المعقلة عقرا حتى أتى عليها، وقطع بعضها العقل فتبعها فما أدرك بعيرا إلا عقره، وفطن الرعاء فرأوا ما يعمل السيف، فولوا هربا، ثم دفن سيفه بالحمى، وكان أعز عليه من نفسه، وأرسل يخبر أهله، وركب صاحب الإبل في الناس حتى نظروا إليها، وقال الرّعاء لا نعرفه إلا أنه بمقام، فعرف أنه المنسرح، فأمر ابن هشام بطلبه، وأخذ إخوته وأهل بيته فحبسوا، فسمع، فجاء إلى العامل فقال: حلّ هؤلاء فأنا بغيتك، فحبسه وخلّاهم، ورفعه في وثاق إلى ابن هشام، وخرج معه بعض أهل بيته، قالوا: فلما قدمنا المدينة جعل يأتينا الرجل الشريف فيسألنا عن السيف، ويقول: أرأيتم إن خلّصت صاحبكم وضمنت عنه تأتوني بالسيف، فننكر ولا نقر بشيء من أمر السيف، فتوعّده ابن هشام وسأله أن يقر، فأبى، وكلم أصحابه نفر من بني مخزوم في أن يؤخذ صاحبهم بالبينة أو يحلف، فسأل ابن هشام خصمه البينة، فلم يقمها، فأمر بيمينه عند المنبر الشريف.
فلما قرب من المنبر وذكر له ما يحلف عليه، واندفع يحلف، شرح الله لسانه فقال:
أحلف بالله لأنا عقرت إبل فلان بيدي، ولقد برئ منها غيري، فردوه إلى ابن هشام، وابتدرته قريش كل يقول: عليّ الإبل، طمعا في السيف، ثم اختلف علماء غنى؛ فقال بعضهم: احتمل ذلك رجل من قريش، وخلي سبيله، وخرج معه رسول للسيف، فطلبه فلم يقدر عليه، وانطلق لسانه من يومئذ فسمي المنسرح.
ثم يلي كبد مني هضب الأشق. هذا آخر ما لخصته من كتاب الهجري.(3/234)
قد تم- بحول الله تعالى، وقوته، ومعونته- الجزء الثالث من كتاب «وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» للعلامة السمهودي، ويليه- إن شاء الله سبحانه- الجزء الرابع، وهو نهاية الكتاب، ومطلعه «الفصل الثامن، في بقاع المدينة، وأعراضها، وأعمالها، ومضافاتها، وأنديتها، وجبالها، وتلاعها» نسأل الذي لا يعين على الخير سواه أن يمن علينا بإكماله، ويوفقنا بفضله إلى إتمامه؛ إنه ولي ذلك كله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(3/235)
فهرس الجزء الثالث
الباب الخامس في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد وغير ذلك من المساجد التي صلى فيها، وفيه سبعة فصول 3
الفصل الأول في المصّلى في الأعياد، وفيه أطرّاف 3
أول عيد صلاه النبي بالمصلى 3
مكان مصلى العيد 3
تعدد موضع صلاة العيد 4
المسافة بين مصلى العيد وباب السلام ألف ذراع 4
تحديد المواضع التي صلى فيها العيد 5
مصلى العيد بالصحراء 7
كيف صلى الرسول صلى الله عليه وسلم العيد؟ 9
ذكر من أحدث منبر في مصلى العيد 9
أول من خطب قبل صلاة العيد 10
بيان طريقي ذهاب النبي للمصلى ورجوعه 12
الفصل الثاني في مسجد قباء، وفضله، وخبر مسجد الضّرار 16
تأسيس مسجد قباء 16
ما جاء في أن الصلاة فيه تعدل عمرة 17
تفضيل الصلاة في مسجد قباء على بيت المقدس 19
إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم مسجد قباء 19
المكان الذي كان الرسول يصلي فيه بمسجد قباء 21
تجديد مسجد قباء 24
بيان ما ينبغي أن يزار بقباء من الآثار تتميما للفائدة دار سعد بن خيثمة 26(3/236)
دار كلثوم بن الهدم 26
ما جاء في بيان طريقه صلى الله عليه وسلم إلى قباء ذاهبا وراجعا طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلي قباء ذاهبا وراجعا 27
ذرع الطريق 27
ما جاء في مسجد الضّرار مما ينوّه بقدر مسجد قباء بناة مسجد الضرار 28
حرق مسجد الضرار 28
أسماء بناة مسجد الضرار 29
الخلاف في موضع مسجد الضرار 30
الفصل الثالث في بقية المساجد المعلومة العين في زماننا بالمدينة الشريفة وما حولها 31
مسجد الفضيخ 32
مسجد بني قريظة 34
مشربة أم إبراهيم 35
مسجد بني ظفر 36
مسجد الإجابة 38
مسجد الفتح 39
المساجد التي حول مسجد الفتح 43
مسجد بني حرام الكبير 44
كهف بني حرام 45
مسجد القبلتين 46
مسجد السقيا 47
مسجد ذباب (الراية) 49
مسجد القبيح 51
مسجد في ركن جبل عينين 51
مسجد العسكر 52
مسجد أبي ذر الغفاري 53
مسجد أبي بن كعب (بني جديلة) (البقيع) 54(3/237)
مساجد المصلى 55
مسجد ذي الحليفة 55
مسجد مقمل 55
الفصل الرابع في المساجد التي علمت جهتها، ولم تعلم عينها بالمدينة الشريفة مسجد أبي بن كعب 56
مسجد بني حرام 56
مسجد الخربة 56
مسجد جهينة 56
مسجد بن غفار 57
مسجد بني زريق 58
مسجدان لبني ساعدة 58
سقيفة بني ساعدة 59
مسجد بني خدارة 60
مسجد راتج 60
مسجد واقم 61
مسجد القرصة 63
مسجد بني حارثة 63
مسجد الشيخين (البدائع) 63
مسجد بني دينار 64
مسجد بني عدي، ومسجد دار النابغة 65
مسجد بني مازن 65
مسجد بني عمرو 66
مسجد بقيع الزبير 66
مسجد صدقة الزبير 66
مسجد بني خدرة 67(3/238)
مسجد بني الحارث 68
مسجد بني الحبلى 68
مسجد بني بياضة 68
مسجد بني خطمة 69
مسجد بني أمية الأوسي 69
مسجد بني وائل الأوسي 70
مسجد بني واقف 70
مسجد بن أنيف 71
مسجد دار سعد بن خيثمة 71
مسجد التوبة 72
مسجد النور 72
مسجد عتبان بن مالك 73
مسجد ميثب (صدقة النبي صلى الله عليه وسلم) 73
مسجد المنارتين 73
مسجد فيفاء الخبار 74
مسجد بين الجثجاثة وبئر شداد 74
الدور التي صلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم 75
دار الشفاء 75
دار الضمري 75
دار بسرة 75
دار أم سليم 76
دار أم حرام 76
الفصل الخامس خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلا إلى البقيع 77
من فضل البقيع 79
الفصل السادس قبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم 82(3/239)
قبر عثمان بن مظعون 84
قبر رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم 85
قبر فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها أم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 85
القبور التي نزلها الرسول صلى الله عليه وسلم 86
قبر عبد الرحمن بن عوف 88
قبر سعد بن أبي وقّاص 88
قبر عبد الله بن مسعود 88
قبر خنيس بن حذاقة السهمي 88
قبر أسعد بن زرارة أحد بني غنم بن مالك بن النجار 89
قبر فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم 89
قبر بعض أبناء الإمام علي بن أبي طالب 92
المتوكل يأمر بهدم قبر الحسين بن علي 93
قبر ابنها الحسن بن علي، ومن معه 94
تسمية من دفن مع الحسن 95
دفن علي بالبقيع 95
دفن رأس الحسين بن علي 95
قبر العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه 95
قبر صفية بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنها 95
قبر أبي سفيان بن عبد المطلب 96
قبرد عبد الله بن جعفر الطيار 97
قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهن 97
قبر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه 98
قبر سعد بن معاذ الأشهلي رضي الله تعالى عنه 99
قبر أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه 99
بيان المشاهد المعروفة اليوم بالبقيع وغيره من المدينة الشريفة 99(3/240)
مشهد مالك بن أنس الأصبحي 102
مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق 103
مشهد حمزة 104
مشهد مالك بن سنان الخدري 105
مشهد النفس الزكية 105
الفصل السابع في فضل أحد والشّهداء به 106
الأحاديث الواردة في فضل أحد 106
موقع أحد من المدينة المنورة 108
وجه تسمية أحد وحبه 108
زعموا أن هارون مدفون بأحد 109
مزاعم في مواضع من جبل أحد 110
شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لشهداء أحد 110
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه قبور الشهداء على رأس كل حول 111
تسمية شهداء أحد 112
سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ومصرعه 113
عمرو بن الجموع وعبد الله بن عمرو بن حرام 114
من دفن بالمدينة من قتلى أحد 117
الباب السادس، في آبارها المباركات، وفيه خمسة فصول 119
الفصل الأول في آبارها المباركات 119
من فضل بئر أريس 122
ذرع بئر أريس 123
بئر الأعواف، أحد صدقات النبي صلى الله عليه وسلم الآتية 124
ضبط بير حاء 134
تتمة 147
عين كهف بني حرام 147(3/241)
الفصل الثاني في صدقاته صلى الله عليه وسلم، وما غرسه بيده الشريفة 150
أصل صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم 150
أسماء صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم ومواضعها 150
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم أمواله 151
تحديد مواضع الصدقات والمعروف منها 153
طلب فاطمة من أبي بكر صدقات أبيها 155
الفصل الثالث فيما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم من المساجد التي بين مكة والمدينة، بالطريق التي كان يسلكها صلى الله عليه وسلم، وهي طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
159
مسجد الشجرة (ذي الحليفة) 159
مسجد آخر بذي الحليفة 161
مسجد المعرس 161
مسجد شرف الروحاء 163
مسجد عرق الظبية 164
مسجد آخر بالروحاء 165
مسجد المنصرف (الغزالة) 165
مسجد الرويثة 166
مسجد ثنية ركوبة 166
مسجد الأثاية 167
مسجد العرج 167
مسجد المنبجس 168
مسجد لحي جمل 168
مسجد السقيا 169
مسجد مدلجة تعهن 169
مسجد الرمادة 169
مسجد الأبواء 170(3/242)
مسجد البيضة 170
مسجد عقبة هرشي 170
مسجد الجحفة 170
مسجد غدير خم 170
مسجد طرف قديد 171
مسجد عند حرة خليص 171
مسجد خليص 171
مسجد بطن مر الظهران 171
مسجد سرف 172
مسجد التنعيم 172
عمرات الرسول صلى الله عليه وسلم 173
مسجد ذي طوى 173
الفصل الرابع، في بقية المساجد التي بين مكة والمدينة 174
دية المستعجلة 174
شعب سير 174
ذكر عدة مساجد 175
مسجد ذفران 175
مسجد الصفراء 176
مسجد ثنية مبرك 176
مسجد بدر 176
مسجد العشيرة 176
مساجد الفرع 177
مسجد الضيقة 177
مسجد مقمل 177
الفصل الخامس في بقية المساجد والمواضع المتعلقة به صلى الله عليه وسلم 178(3/243)
مسجد العصر 178
مسجد الصهباء 178
مسجدان قرب خيبر 178
مسجد بين الشق ونطاة 178
مسجد شمران 178
مساجد تبوك 179
مسجد الكديد 181
مسجد الشجرة بالحديبية 181
مسجد ذات عرق 181
مسجد الجعرانة 181
مسجد لية 182
مسجد الطائف 182
الباب السابع في أوديتها، وأحمائها، وبقاعها، وجبالها، وأعمالها، ومضافاتها، ومشهور ما في ذلك من المياه والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك، وفيه ثمانية فصول 185
الفصل الأول في فضل وادي العقيق، وعرصته، وحدوده ما ورد من الأحاديث في فضل وادي العقيق 185
حد العقيق 186
الفصل الثامن في أقطاعه، وابتناء القصور به، وطريف أخبارها 188
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بلالا العقيق 188
خبر قصر عروة، وبئره 189
قصر المغيرة 194
قصر عنبسة بن عثمان بن عفان 194
قصر عنبسة بن سعيد بن العاص 195
قصر أبي بكر الزبيري المعروف بالمستقر 196(3/244)
قصر عبد الله بن أبي بكر العثماني 196
جملة من القصور والآبار 197
الفصل الثالث في العرصة وقصورها، وشيء مما قيل فيها وفي العقيق من الشعر 197
الفصل الرابع في جماواته، وأرض الشجرة، وثنية الشريد وغيرها من جهاته 204
جماء أم خالد 204
جماء العاقر (العاقل) 205
ثنية الشريد 206
خاتمة في سرد ما يدفع في العقيق من الأودية، وما به من الغدران 207
الفصل الخامس في بقية أودية المدينة، وصدورها، ومجتمعها، ومغايضها 209
وادي بطحاء 209
وادي رانونا 210
وادي قناة 211
وادي مذينب 212
وادي مهزور 213
تتمة فيما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأودية 215
قضاؤه بين رجل من الأنصار والزبير 215
خاتمة في مجتمع الأودبة ومغائضها 216
مجتمع سيول العالية 216
الفصل السادس فيما سمي من الأحماء، ومن حماها، وشرح حال حمى النبي صلى الله عليه وسلم 217
معنى الحمى 217
حمى النقيع 218
حكم الحمى 220
حمى أبي بكر وعمر 221
الفصل السابع في شرح حال بقية الأحماء، وأخبارها 223
حمى الشرف 223(3/245)
حمى الربذة 223
حمى ضرية 224
حمى فيد 231
كبد منى 233(3/246)
الجزء الرابع
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وسلم تأليف الشّيخ العلّامة نور الدّين علي بن أحمد السّمهودي المتوفنه 911 هـ اعتنى به ووضع حواشيه خالد عبد الغني محفوظ الجزء الرّابع(4/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي اختار رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من أطيب الأرومات، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على أشرف الكائنات، وعلى آله وصحبه الذين فدوه بالأنفس والأموال وبالآباء والأمهات، وعلى من اتبعه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(4/3)
[تتمة الباب السابع في أوديتة المدينة وأحمائها وبقاعها]
الفصل الثامن في بقاع المدينة، وأعراضها، وأعمالها
، ومضافاتها، وأنديتها، وجبالها، وتلاعها، ومشهور ما في ذلك من الآبار، والمياه، والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلّقة بذلك وبالمساجد والآطام والغزوات، وشرح حال ما يتعلق بجهات المدينة وأعمالها من ذلك، على ترتيب حروف الهجاء الأول فالأول، وربما اعتبرت في المركّب المضاف إليه لشهرته، وهذا مما لا يستغنى عنه لعظم نفعه خصوصا للمشتغل بالحديث واللغة، وقد اعتنى به المجد في كتابه «المغانم» ولّخصت كلامه، مع حذف ما لا تدعو الحاجة إليه، وزيادة ما هو أولى، وميّزت ما زدته من الأسماء برقم (ز) على ذلك الاسم، فنقول:
حرف الألف
آرام:
جبل بنواحي الرّبذة، كأنه جمع إرم، وهي حجارة تنصب كالعلم، وفيه يقول شاعر:
ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا ... أروم فارام فشابة فالحضر
وهل تركت أبلى سواد جبالها ... وهل زال بعدي عن قنينته الحجر
وجبل آخر بين مكة والمدينة، وذو آرام: حزم به آرام جمعتها عاد على عهدها، قاله ياقوت، وقال أبو زيد: من جبال الضّباب ذات آرام قنّة سوداء فيها يقول القائل:
تحلت ذات آرام ... ولم تخل عن مصر
آرة:
جبل كبير لمزينة فوق رأس قدس مما يلي الفرع، قال مزرد لكعب بن زهير بن أبي سلمى يعزوه إلى مزينة ويذكر مكانه من بني عبد الله بن غطفان:
وأنت امرؤ من أهل قدس وآرة ... أحلّك عبد الله أكناف مبهل
ومبهل لعبد الله بن غطفان.
وقال عرّام: وآرة يقابل قدسا الأسود من أشمخ الجبال، تخر من جوانبه عيون على كل عين قرية، فمنها الفرع قرية كبيرة، وأم العيال صدقة فاطمة الزهراء، والمضيق قرية قريبة(4/5)
كبيرة أيضا، والمحضة والوبرة والخضرة والفعوة، وفي كلها نخيل ومزارع، وأوديتها تصبّ في الأبواء ثم في ودّان، ويسمى وادي آرة حقيل وبه قرية يقال لها وبعان، وخلف آرة واد فيه قرى، انتهى.
آنقة:
تقدم فيما يدفع في العقيق من الأودية.
أبار، وأبير:
بالضم، والثاني مصغر- من أودية الأجرد، يصبان في ينبع.
أبرق خترب:
بحمى ضريّة به معدن فضة كثير النيل.
أبرق الداث:
بالحمى أيضا، وسيأتي شاهده في جبلة، والداث واد عظيم بين أعلاه وبين ضرية نحو ثمانية أميال.
أبرق العزّاف:
بعين مهملة ثم زاي مشددة آخره فاء، بين المدينة والرّبذة على عشرين ميلا منها، به آبار قديمة غليظة الماء، وسيأتي في العزّاف أنه سمي بذلك لأنه كان يسمع به عزيف الجن، أي صوتهم.
وروى ابن إسحاق أن خريم بن فاتك قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ألا أخبرك ببدء إسلامي؟ بينا أنا في طلب نعم لي ومضى الليل بأبرق العزاف، فناديت بأعلى صوتي: أعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهائه، وإذا هاتف يهتف بي:
عذ يا فتى بالله ذي الجلال ... والمجد والنّعماء والإفضال
واقرأ بايات من الأنفال ... ووحّد الله ولا تبال
فرعت من ذلك روعا شديدا، فلما رجعت إلى نفسي قلت:
يا أيها الهاتف ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل
بيّن لنا هديت ما السّبيل
قال فقال:
هذا رسول الله ذي الخيرات ... يدعو إلى الخيرات والنجاة
يأمر بالصّوم وبالصّلاة ... ونزع الناس عن الهناة
ثم ذكر شعرا آخر ومجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامه.
والأبارق كثيرة، وهو لغة: الموضع المرتفع ذو الحجارة والرمل والطين.
أبلى:
كحبلي، قال عرّام بعد ذكر الحجر والرحضية: ثم يمضي نحو مكة مصعدا فيميل إلى واد يقال له عريفطان حذاء جبال يقال لها أبلى، ثم ذكر مياهها الآتية وأنها لبني سليم.(4/6)
قلت: هي معروفة اليوم بين السّوارقية والرحضية، على نحو أربعة أيام من المدينة.
وعن الزهري: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أرض بني سليم، وهو يومئذ ببئر معاوية بجرف أبلى، وأبلى بين الأرحضية وقران، كذا ضبطه أبو نعيم.
الأبواء:
بالموحدة كحلواء ممدود، تقدم بيانه في مسجد الرّمادة ومسجد الأبواء.
وسئل كثيّر عزة: لم سميت الأبواء؟ قال: لأنهم تبوؤها منزلا، وقيل: لأن السيول تبوأتها، وقال المجد: هي قرية من عمل الفرع، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا؛ فتكون على خمسة أيام من المدينة، وقيل: الأبواء جبل عن يمين آرة ويمين الطريق للمصعد إلى مكة، وهناك بلد تنسب إلى ذلك الجبل، وهو بمعنى قول الحافظ ابن حجر: الأبواء جبل من عمل الفرع سمي به لوبائه على القلب، وقيل: لأن السيول تتبوؤه أي تحلّه.
قلت: ويجمع بأنه اسم للجبل والوادي وقريته، وله ذكر في حديث الصّعب بن جثّامة وغيره، وبه قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أباه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المدينة يمتار تمرا فمات بها، فكانت زوجته آمنة تخرج كل عام تزور قبره، فلما أتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ستّ سنين خرجت به ومعها عبد المطلب وقيل: أبو طالب- وأم أيمن، فماتت في منصرفها بالأبواء، وفي رواية أن قبرها بمكة.
وقال النووي: إن الأول أصح.
الأتمة:
أتمة عبد الله بن الزبير، تقدمت في أودية العقيق، قال الهجري: الأتمة بساط واسع ينبت عصما للمال، تدفع على حضير، وبها بئر تعرف بابن الزبير، كان الأشعث المدني يلزمها ويتخذ بها المال، فاقتنى ماشية كثيرة.
أثال:
بالضم آخره لام، واد يصب في وادي الستارة المعروف بقديد، يسيل في وادي خيمتي أم معبد، قاله ياقوت.
الأثاية:
مثلث الهمزة، وبالمثناة التحتية قبل الهاء، واقتصر المجد هنا كعياض على ضم الهمزة وكسرها، ورجح في فضل المساجد الفتح كما تقدم مع بيانه في مسجد الأثاية.
وتقدم في الفضائل حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا اقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه وقال: هذه أرواح طيبة» وفي الموطأ في حديث خروجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة «ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل، فيه سهم، فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزه» .(4/7)
الأثبة:
محركة- واحدة الأثب للشجر المعروف، وتقدم في غدران لعقيق ذو الأثبة، وفيه يقول أبو وجزة:
قصدن رياض ذي أثب مقيلا ... وهنّ روائح عين العقيق
وقال الهجري في حمى النقيع: وفي شرقي الحرة مثلثان نقي ماؤهما، وهما أثب وأثيب، وقال في ترتيب مجراه وغدرانه ما لفظه: ثم الأثبة، وبها غدير يسمى الأثبة، وبه سميت، وبه مال لعبد الله بن حمزة الزبيري، ونخل ليحيى الزبيري.
الأثيفية:
بضم أوله وفتح ثانية وسكون المثناة التحتية وكسر الفاء بعدها مثناة تحتية مخففة موضع بعقيق المدينة، قاله الصّغاني، وتقدم في أوديته ذو أثيفية.
الأثيل:
تصغير الأثل موضع بين بدر والصفراء، به عين لآل جعفر بن أبي طالب، ويقال: ذو أثيل، قال ابن السكيت: إنه بتشديد الياء، قتل عنده النبيّ صلى الله عليه وسلم النّضر بن الحارث بن كلدة منصرفه عن بدر، فقالت بنته قتيلة ترثيه وتمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق
بلّغ به ميتا هناك تحية ... ما إن تزال بها الركائب تخفق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق
أمحمد ولأنت نجل نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرّك لو مننت وربّما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرها رقّ لها وقال: لو سمعته قبل قتله لوهبته لها.
قال الواقدي: ويقال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من بدر العصر بالأثيل، فلما صلى ركعة تبسم، فلما سئل عن ذلك قال: مرّ بي ميكائيل عليه السلام وعلى جناحه النقع، فتبسم إليّ وقال: إني كنت في طلب القوم.
والأثيل:
موضع آخر في ذلك الصقع أكثره لبني ضمرة من كنانه.
ذات أجدال:
موضع بمضيق الصفراء.
الأجرد:
أطم لبني خدرة عند البصة، وجبل لجهينة شامي بواط الجلسي يأتي مع الأشعر، والأجرد جبل آخر، وموضع قبل مدلجة تعهن.
أجش:
بفتح الهمزة والجيم وتشديد الشين المعجمة أطم لبني أنيف بقباء.
الأجفر:
بفتح الهمزة والفاء، موضع بين الخزيمية وفيد.
أجم بني ساعدة
بضم أوله وثانيه، أطم كان لهم قرب ذباب، وآجام المدينة وآطامها:(4/8)
حصونها، وقال ابن السكيت: أجم حصن بناه أهل المدينة، وكل بيت مربع مسطح أجم.
أحامر:
بضم أوله، قال عرّام: وحذاء أبلى جبل يقال له ذو الموقعة من شرقيها، وهو جبل معدن بني سليم، وحذاءه عن يمينه قبل القبلة جبل يقال له أحامر، وقال ياقوت في كتابه المشترك: أحامر البغيبغة جبل أحمر من جبال حمى ضرية.
أحباب:
جمع حبيب، بلد في جنب السوارقية.
أحجار الزيت:
عند الزوارء، قال ياقوت: هو موضع كان فيه أحجار علت عليها الطريق فاندفنت.
وقال ابن جبير: هو حجر موجود يزار، يقال: إن الزيت رشح للنبي صلى الله عليه وسلم منه، وهو موضع صلاة الاستسقاء، وسبق فيمن ذكر أنه نقل من شهداء أحد أن مالك بن سنان دفن عند أصحاب العباء.
قال ابن زبالة في روايته: وهناك كانت أحجار الزيت ومشهد، مالك بن سنان معروف؛ فأحجار الزيت عنده كما يعلم من أطراف كلام ابن شبة بالزوراء من سوق المدينة.
قال: وحدثنا محمد بن يحيى عن ابن أبي فديك قال: أدركت أحجار الزيت ثلاثة مواجهة بيت أم كلاب، قال: وتعرف اليوم ببيت بني أسد، فعلا الكبس الحجارة فاندفنت.
وعن هلال بن طلحة العمري أن حبيب بن سلمة كتب إليه أن كعبا سألني أن أكتب له إلى رجل من قومي عالم بالأرض، فلما قدم كعب المدينة جاءني بكافية، فقال: أعالم أنت بالأرض؟ قلت: نعم، قال: إذا كان بالغداة فاغد عليّ، فجئته حين أصبحت، فقال:
أتعرف موضع أحجار الزيت؟ قلت: نعم، وكانت أحجارا بالزّوراء يضع عليها الزياتون رواياهم، فأقبلت حتى جئتها، فقلت: هذه أحجار الزيت، فقال كعب: لا، والله ما هذه صفتها في كتاب الله، انطلق أمامي فإنك أهدى بالطريق مني، فانطلقنا حتى جئنا بني عبد الأشهل، فقال: إني أجد أحجار الزيت في كتاب الله هنا، فسل القوم عنها، فسألتهم عنها، وقال: إنها ستكون بالمدينة ملحمة عندها.
قلت: فأحجار الزيت موضعان؛ فالأول هو المراد بحديث أبي داود واللفظ له والترمذي والحاكم وابن حبان في صحيحه عن عمير مولى آبي اللحم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء، قائما يدعو يستسقي رافعا يديه قبل وجهه، وفي رواية عن محمد بن إبراهيم أخبرني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند أحجار الزيت باسطا(4/9)
كفيه، والموضع الثاني الذي عنى كعب الأحبار بمنازل بني عبد الأشهل بالحرة، وبه كانت واقعة الحرة، ولعله المراد بحديث: يا أبا ذر، كيف بك إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت في الدم؟ قال: قلت: ما خار الله ورسوله، قال: عليك بمن أنت معه، وفي رواية لأبي داود: عليك بمن أنت منه، وفي رواية لابن ماجة: كيف أنت.
وقيل: يصلب الناس حتى تغرق أحجار الزيت بالدم، ويحتمل أن يكون المراد من ذلك الموضع الأول، وهو مقتضى قول بعضهم عقب إيراد الحديث المذكور: إن ذلك وقع في مقتل محمد الملقب بالنفس الزكية عند أحجار الزيت كما سبقت الإشارة إليه في ذكر مشهده، وقال المرجاني: إن بالحرة قطعة تسمى أحجار الزيت لسواد أحجارها كأنها طليت بالزيت، وهو موضع كان يستسقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
قلت: اشتبه عليه أحد الموضعين بالآخر؛ لأن الاستسقاء إنما كان بالموضع الذي بقرب الزوراء كما سبق.
أحجار المراء:
بقباء، قاله المجد، وسبق ذكره في منازل بني عمرو بن عوف، وفي نهاية ابن الأثير فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يلقى جيريل بأحجار المراء قال مجاهد: هي قباء.
أحد:
بضمتين، تقدم مع فضائله في سابع فصول الباب الخامس.
الأحياء:
جمع حي من أحياء العرب، اسم ماء أسفل من ثنية المرة برابغ، به سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب.
الأخارج:
من جبال بني كلاب بجهة ضرية.
أخزم:
بالزاي كأحمد- جبل بين ملل والروحاء، ويعرف اليوم بخزيم، قال ابن هرمة:
بأخزم أو بالمنحنى من سويقة ... ألا ربّما قد ذكر الشوق أخزم
الأخضر:
بالفتح والضاد المعجمة، منزل قرب تبوك نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إليها.
أدية
قنّة سوداء على ستة عشر ميلا من فيد.
أذاخر:
جمع إذخر، من أودية المدينة كما تقدم في الفصل الخامس، وموضع قرب مكة ينسب إليه نبت أذاخر.
أذبل:
كأحمد، أطم ابتناه سالم وغنم عند الأراكة بدار بني سالم.
أرابن:
بالضم ثم الفتح وكسر الموحدة ثم نون، منزل على قفا مبرك، ينحدر من جبل جهينة على مضيق الصفراء، قال كثير:(4/10)
وذكرت عزّة إذ تصاقب دارها ... برحيّب فأرابن فنخال
أراك:
جبل يفضى عنده سيول إضم إلى البحر.
أرثد:
بالمثلاثة والدال المهملة كأحمد وادفي الأبواء، قال كثيّر:
وإن شفائي نظرة إن نظرتها ... إلى ثافل يوما وخلفي شنائك
وأن تبرز الخيمات من بطن أرثد ... لنا وجبال المرختين الدكادك
وقال آخر:
ألم تسأل الخيمات من بطن أرثد ... إلى النخل من ودّان ما فعلت نعم
تشوّفني بالعرج منها منازل ... وبالخبت من أعلى منازلهم رسم
أرجام:
بالفتح ثم السكون وبالجيم، جبل قرب المدينة.
الأرحضية:
بحاء مهملة وضاد معجمة ومثناة تحتية مشددة، قرية للأنصار وبني سليم، بها آبار ومزارع كثيرة، وحذاءها قرية يقال لها الحجر، قاله عرام، ومنه أخذ المجد قربها من أبلى لما تقدم فيها، وتعرف اليوم بالرحضية بضم الراء وكذا هو في نسخة لعرّام، وكذا أعادها المجد في الراء كما سيأتي، وذكر الأسدي أنها في وسط الطريق بين المدينة ومعدن بني سليم على نحو خمسين ميلا من كل منهما، وأن الرشيد كان يسلك هذه الطريق في رجوعه من المدينة، وسماها الأرحضية.
أرض جابر:
التي عرض على غرمائه، بطريق رومة، تقدمت في بئر القرّاصه.
أروى:
جمع أروية لأنثى الوعول، اسم ماء لفزارة قرب العقيق عند الحاج، قال شاعرهم:
وإن بأروى معدنا لو حفرته ... لأصبحت غنيانا كثير الدراهم
أروم:
جبل سبق في حمى الربذة، وشاهده في أراك.
أريكة:
كجهينة، موضع غربي حمى ضرية، كان مصدّق المدينة أول ما ينزل عليه.
أسقف:
جبل بطرف رابوع، وشاهده خاخ.
الأسواف:
بالفتح آخره فاء، موضع شامي البقيع، سبق في مساجد المدينة، قال ابن عبد البر: به صدقة زيد بن ثابت، وفي طبقات ابن سعد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت أن عمر بن الخطاب كان يستخلفه على المدينة، فقلّ سفر يرجع إلا أقطع له حديقة من نخل، قال أبو الزياد: فكنا نتحدث أن الأساويف مما كان عمر أقطعه له.
قلت: وبعض الأسواف بيد طائفة من العرب بالتوارث يعرفون بالزيود، فلعلهم ذرية زيد بن ثابت.(4/11)
وفي الأوسط للطبراني عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا لسعد بن الربيع الأنصاري، ومنزله بالأسواف، فبسطت امرأته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سور من نخل، فجلس وجلسنا معه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع أبو بكر، ثم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع عمر، ثم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع عثمان.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على بئر بالأسواف، وأدلى رجليه فيها، وذكر مجئ أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، كما في حديث بئر أريس، وأنه صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يؤذن لكل منهم، ويبشره بالجنة.
وروى الواقدي عن جابر أن امرأة سعد بن الربيع بعد أن قتل بأحد وقبض أخوه ماله قبل نزول الفرائض كانت بالأسواف، فصنعت طعاما، ثم دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: قوموا بنا، فقمنا معه ونحن عشرون رجلا، انتهينا إلى الأسواف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلنا معه، فنجدها قد رشّت ما بين سورين وطرحت خفعة، قال جابر: ما ثمّ وسادة ولا بساط، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فتراءينا من يطلع، فطلع أبو بكر، فقمنا فبشّرناه ثم سلم فردّوا عليه، ثم جلس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فتراءينا من خلال السّعف من يطلع، فطلع عمر، فقمنا فبشرناه، فسلم ثم جلس، ثم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فنظرنا من خلال السّعف فإذا علي بن أبي طالب قد طلع، فبشرناه بالجنة، ثم جاء فجلس، ثم أتى بالطعام، فأتى بقدر ما يأكل رجل واحد أو اثنان، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه فقال: كلوا باسم الله، فأكلنا منها حتى نهلنا وما أرانا حركنا منها شيئا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا هذا الطعام، فرفعوه، ثم أتينا برطب في طبق باكورة قليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: باسم الله كلوا، فأكلنا حتى نهلنا وإني لأرى في الطبق نحوا مما أتى به، وجاءت الظهر فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمس ماء، ثم رجع إليّ فتحدث، ثم جاءت العصر فأتى ببقية الطعام نتشبّع به، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بنا العصر ولم يمس ماء، ثم قامت امرأة سعد بن الربيع فقالت: يا رسول الله إن سعد بن الربيع قتل بأحد، وذكر قصتها في أخذ أخيه لماله، ونزول الفرائض بعد ذلك، وأن ابنة سعد بن الربيع كانت زوج زيد بن ثابت، وهي أم ابنه خارجة بن زيد، وكانت يومئذ حاملا.(4/12)
أشاقر:
جبال بين مكة والمدينة.
الأشعر:
جبل جهينة، ينحدر على ينبع، قال الهجري: وجدت صفة الجبلين الأشعر والأجرد جبلي جهينة ومن أخذ من قريش بذلك أرضا، فنقلته للحديث الذي جاء فيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمان من الفتن.
وقال الأشعري: يحده من شقه اليماني وادي الروحاء، ويحده من شقه الشامي بواطان، وتقدم في فضل أحد حديث «خير الجبال أحد والأشعر وورقان»
الأشنف:
أطم يواجه مسجد الخربة.
الأشيق:
بمشاة تحتية يضاف إليه هضب الأشيق، والعقيليون يقولون: الشفيق، تقدم في حمى فيد، وهو بلد سهل كأن ترابه الكافور الأبيض، وأفضل مياهه الريان ثم عرفجا.
أضاة بني غفار:
بالضاد المعجمة والقصر كحصاة، مستنقع الماء، قال في المشارق:
هو موضع بالمدينة، وفيه حديث أن جبريل عليه السلام لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم عند أضاة بني غفار، انتهى. ولعله فيما تقدم من منازل بني غفار، لكن سيأتي في تناضب ما يقتضي أنه بقرب مكة.
أضاخ:
كغراب، آخره معجمة، وقد تبدل همزته واوا، سوق على ليلة من عرفجا.
أضافر:
جمع ضفيرة، وهي الحقف من الرمل، اسم ثنايا سلكها الني صلى الله عليه وسلم بعد ارتحاله من ذفران يريد بدرا، وذو الأضافر: هضبات على ميلين من هرشى، ويقال لهن الأضافر أيضا.
إضم:
جمع صفيرة، وهي الحقف من الرمل، اسم ثنايا سلكها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ارتحاله من ذفران يريد بدرا، وذو الأضافر: هضبات على ميلبن من هرشي، ويقال لهن الأضافر أيضا.
إضم:
كعنب، قال المجد: اسم الوادي الذي فيه المدينة، والصواب فيه ما تقدم في خاتمة الفصل الخامس في الأودية، ويوافقه قول الهجري: أول إضم مجتمع الأسيال، وإياه عني الأحوص بقوله:
يا واقد النار بالعلياء من إضم ... أوقد فقد هجت شوقا غير منصرم
قال: وبإضم أموال زعاب على عيون، وإنما سمي إضما لانضمام السيول به.
قلت: ويسمى اليوم بالضيقة، وبهذا الوادي جبل يسمى بإضم كما تقدمت الإشارة إليه، وفي قاموس المجد: إضم جبل، والوادي الذي فيه المدينة النبوية عند المدينة يسمى قناة، ومن أعلى منها عند السد الشّظاة، ثم ما كان أسفل من ذلك يسمى إضما، انتهى.(4/13)
وعبارة ياقوت في المستدرك له: إضم واد في المدينة، ويسمى عند المدينة القناة، إلى آخره.
وروى البيهقي خبرا في مصارعته صلى الله عليه وسلم ركانة يتضمّن أن ركانة كان يرعى غنما له في واد يقال له إضم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى ذلك الوادي، وذكر قصة المصارعة به.
وبطن إضم كما في طبقات ابن سعد في سرية أبي قتادة إلى بطن إضم: ما بين ذي خشب وذي المروة، بينها وبين المدينة ثلاثة برد.
الأطول:
أطم بمنازل بني عبيد عند مسجد الخربة من القبلة.
أعشار:
من أودية العقيق، وتقدم نزوله صلى الله عليه وسلم بكهف أعشار فيه.
أعظم:
بضم الظاء المعجمة، جمع عظم، جبل كبير شمالي ذات الجيش، قاله المجد، وفي خط المراغي بفتح الهمزة والظاء معا، ويقال فيه عظم بفتحتين- وهو المعروف بين أهل المدينة، والموجود في كلام الزبير، قال: وفيه يقول عامر الزبيري:
قل للذي رام هذا الحيّ من أسد ... رمت الشّوامخ من عير ومن عظم
وفي أبيات الهمزة في كتاب الهجري عن محمد بن قليع عن أشياخه قالوا: ما برقت السماء قط على عظم إلا استهلت. وكانوا يقولون: إن على ظهره قبر نبي أو رجل صالح، قال: وأنا أقول: إن عظم من منزلي إذا بدوت في ضيعتيّ بالتثنية- بحيث يناله دعائي، فقلما أصابنا مطر إلا كان عظم أسعد جبالنا به وأوفرها حظا.
أعماد:
أربعة آطام بين المذاد والدّويخل، جبل بني عبيد، بعضها لبني عبيد، وبعضها لبني حرام من بني سلمة.
الأعواف:
ويقال العواف، إحدى صدقات النبي صلى الله عليه وسلم وآباره المتقدمة.
الأعوص:
بالعين والصاد المهملتين، موضع شرقي المدينة بطرف الطريق بين بئر السائب وبئر المطلب، به أبيات وآبار، سمي بذلك لأن رجلا من بني أمية أراد أن يستخرج به بئرا، فاعتاصت عليه، وكان يسكنه إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأشدق، وإياه عنى عمر بن عبد العزيز بقوله: لو كان لي أن أعهد ما عدوت أحد الرجلين: صاحب الأعوص أو أعمش بني تميم، يعني القاسم بن محمد.
الأغلب:
بالغين المعجمة، أطم لبني سواد، تقدم في منازلهم.(4/14)
أفاعية:
كمجاهدة بعين مهملة مكسورة، منهل لسليم في الطريق النجدي إلى مكة، على ستة وعشرين ميلا ونصف من معدن بني سليم، وذكر الأسدي ما فيها من البرك، والآبار، قال: وهي لقوم من ولد الصديق وولد الزبير رضي الله تعالى عنهما وقوم من قيس.
الأفراق:
قال في المشارق: بفتح الهمزة وبالفاء عند كافة شيوخنا كأنه جمع فرق، وضبطه بعضهم بالكسر، موضع من أموال المدينة وحوائطها، وبالفتح ذكره البكري.
الأفلس:
قال الهجري: إذا أفضى سيل العقيق من قاع البقيع خرج إلى قرادة أفلس قاع لا شجر فيه، وأرضه بيضاء كالمرآة، لها حس تحت الحافر.
الأقعس:
جبل تقدم بحمى ضرية.
الأكحل:
ذكره صاحب «المسالك والممالك» في توابع المدينة وتخاليفها، فكان به مال لعاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وسبق في الفصل السادس أن الطريق إلى سنانة وإلى القرينين جند والأكحل يعترض حمى النقيع يسارا للخارج من المدينة إلى ذلك.
ألاب:
كسراب، قال المجد: شعبة واسعة من ديار مزينة.
قلت: هو واد معروف عده الهجري في أودية الأشعر، وقال: يلتقي مع مضيق الصفراء أسفل من عين العلا.
ألبن:
بالفتح ثم السكون وبموحدة مفتوحة على الأفصح، كما سيأتي في يلبن بإبدال الهمزة مثناة تحتية.
ألهان:
بالفتح وسكون اللام، موضع كان لبني قريظة.
أم العيال:
سبق في آرة، عن عرام أنها صدقة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، وأنها عين عليها قرية هناك، وقال ابن حزم، هي عين لجعفر بن طلحة بن عبيد الله التيمي، أنفق عليها مائتي ألف دينار، وكانت تسقي أزيد من عشرين ألف نخلة.
أمج:
بالجيم وفتحتين، بلد من أعراض المدينة، قاله المجد، قال: وقال أبو المنذر بن محمد: أمج وعران واديان يأخذان من حرة بني سليم، ويفرغان في البحر.
قلت: ذكر الأسدي أن أمج بعد خليص بجهة مكة بميلين، قال: وبعده بميل وادي الأزرق، ويعرف بعران، وأمج لخزاعة، وبه نحو عشرين بئرا يزرع عليها. انتهى. وهو موافق لما سبق في تاسع فصول الباب الثالث لاقتضائه أنه بين عسفان وقديد.
وقال الوليد بن العباس القرشي: خرجت إلى مكة في طلب عبد آبق لي، فسرت سيرا(4/15)
شديدا حتى وردت أمج في اليوم الثالث غدوة، فتعبت، فحططت رحلي، واستلقيت على ظهري، واندفعت أغني:
يا من على الأرض من غاد ومدّ لج ... اقر السّلام على الأبيات من أمج
اقر السّلام على ظبي كلفت به ... فيها أغنّ غضيض الطّرف من دعج
من لا يبلّغه عني تحيته ... ذاق الحمام وعاش الدهر في حرج
قال: فلم أدر إلا وشيخ على عصا يهدج إليّ، فقال: يا فتى أنشدك الله إلا رددت إليّ الشعر، فقلت: بلحنه؟ قال: بلحنه، ففعلت، فجعل يتطرب، فلما فرغت قال: أتدري من قائله؟ قلت: لا، قال: أنا والله قائله من ثمانين سنة، وإذا هو من أهل أمج، ومنهم حميد الأمجي الذي يقول:
شربت المدام فلم أقلع ... وعوتبت فيها فلم أسمع
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
علاه المشيب على حبها ... وكان كريما فلم ينزع
حكى أن عمر بن عبد العزيز قال له: أنت القائل حميد الذي أمج داره البيتين؟ قال:
نعم، قال عمر: ما أراني إلا حادك، أقررت بشربها، وأنك لم تنزع عنها، قال: ألم تسمع الله يقول (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فقال عمر: ما أراك إلا قد أفلتّ، ويحك يا حميد كان أبوك رجلا صالحا وأنت رجل سوء، قال: أصلحك الله وأين من يشبه أباه كان أبوك رجل سوء وأنت رجل صالح.
وقال: جعفر الزبيري:
هل بادّ كار الحبيب من حرج ... أم هل لهمّ الفؤاد من فرج؟
ولست أنسى مسيرنا ظهرا ... حين حللنا بالسفح من أمج
ذو أمر:
بفتحتين، واد بطريق فيد إلى المدينة على نحو ثلاث مراحل من المدينة بقرية النخيل، قاله الأسدي، وظاهر كلام غيره أنه الذي بقرية نخل؛ لما سيأتي فيها، وقال ابن حزم: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد لعوسجة الجهني على ألف من جهينة وأقطعه ذا أمر، وإن بعض ولد عبد الله بن الزبير اعتزل بأمر من بطن إضم في بعض الفتن.
إمّرة:
كإمّعة، وبفتح الهمزة والميم، موضع بشق حمى ضرية قرب جبل المنار، وهو من منازل الحاج العراقي، به آبار كثيرة طيبة، سمي باسم الصغير من ولد الضأن.
إنسان:
جبل في وسطه ماء يقال له: إنسان، قال الهجري في حمى فيد: وبشرقي الرخام ماء يقال له إنسان لكعب بن سعد الغنوي الشاعر، وهو عن يمين الجبل والرملة التي تدعى برملة إنسان.(4/16)
الأنعام:
بضم العين، موضع بالعالية، وقال نصر: جبل بالمدينة عليه بعض بيوتها، قال جرير:
حيّ الديار بعاقل فالأنعام
كذا قال المجد، والصواب أن الذي عناه جرير جبل ببطن عاقل قرب حمى ضرية، وقال المجد: إنه بفتح العين، وغاير بينه وبين هذا في الترجمة، وقال: إنه ببطن عاقل بين اليمامة والمدينة، وإنه الذي بنى عليه المزني وجابر بن عبد الله الربعي، وفيه يقول الشاعر:
لمن الديار غشيتها بالأنعام ... درست وعهد جديدها لم يقدم
وقوله «إنه الذي بنى عليه المزني إلى آخره» إنما هو في الأنعام الذي قال نصر فيه: إنه بالمدينة، كما تقدم عن ابن زبالة في مسجد المنارتين بطريق العقيق، وإنه الجبل الذي على يسار المارّ أول الرقيقين للعقيق، مع أن المجد ذكر في الأنعام الذي ببطن عاقل الحديث المتقدم أيضا في خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجبل الأحمر الذي بين المنارتين، واسمه الأنعام، ولعل الخلل من النساخ.
إهاب:
ككتاب، في حديث مسلم «تبلغ المساكن إهاب أو يهاب» قال عياض: كذا جاءت الرواية على الشك «أو يهاب» بكسر الياء المثناة من تحت عند كافة شيوخنا الأسدي والصدفي، وعند التميمي كذلك، وقال: وبالنون معا، ولم أجد هذا الحرف في غير هذا الحديث، ولا من ذكره، وهو موضع قرب المدينة، انتهى.
وتبعه المجد، وقد سبق من رواية أحمد أنه صلى الله عليه وسلم «خرج حتى أتى بئر الإهاب، قال:
يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان» وتقدم في صيد الحرم عن عباد الزرقي أنه كان يصيد العصافير في بئر إهاب، وهذه البئر هي المتقدمة في الآبار المباركات أول الباب السادس مع ما جاء فيها، وبيّنا أنها في الحرة الغربية، وأن الظاهر أنها المعروفة اليوم بزمزم.
ذو أوان:
بلفظ الأوان للحين، موضع على ساعة من المدينة، قال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من تبوك ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، أتاه خبر مسجد الضرار.
الأوساط:
تقدم في حديث في مسجد قباء «شهد جنازة بالأوساط بدار سعد بن عبادة» ورأيته بخط العلامة أبي الفتح المراغي وكان منقبا مجرّدا عن النقط، فلعله بالسين(4/17)
والطاء المهملتين، ويؤخذ منه أنه بمنازل بني ساعدة، ويخالفه قوله في الرواية الآخرى «من بلحارث بن الخزرج» إلا أن يراد من كان بدار سعد من بلحارث، على ما سبق في المنازل.
أيد:
بلفظ الأيد للقوة والاشتداد من آد يئيد أيدا، موضع على مقربة من المدينة.
حرف الباء
بئر أرمى:
بفتح الهمزة وسكون الراء وميم ثم ألف مقصورة، بئر كان عندها غزوة ذات الرقاع، على ثلاثة أميال من المدينة، كذا قاله المجد، ومأخذه ما سيأتي عن الواقدي في نخل، وسنبين أن صوابه ثلاثة أيام.
بئر ألية:
بلفظ ألية الشاة، في حرم بني عوال، على نيف وأربعين ميلا من المدينة، وقيل: ألية واد بفسح الحيا، والفسح: واد بجانب عرنة، وعرنة: روضة بواد مما كان يحمى للخيول في الجاهلية والإسلام بأسفلها، انتهى.
بئر جشم:
بضم الجيم وفتح الشين المعجمة، تقدم ذكرها في وادي رانونا من الفصل الخامس، وأن الظاهر أنها مضافة إلى جشم بن الخزرج جدّ بني مالك بن عصب، ومنزلهم ببني بياضة غربي رانونا.
وفي الموطأ عن عمرو بن سليم الزّرقي قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، إن هنا غلاما يافعا لم يحتلم من غسان ووريثه بالشام، وهو ذو مال، وليس له هنا إلا ابنه عم، فقال: فليوص لها، فأوصى لها بمال يقال له «بئر جشم» فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم، وابنة عمه التي أوصى لها أم عمرو بن سليم الزرقي.
وسبق آخر الكلام في منازل بني بياضة أن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك ابن عصب بن جشم والد أبي جبلة الغساني ملك غسّان بالشام، فيتأيد به ما سبق، وقال المجد تبعا لياقوت في الجرف: إن بئر جشم به، فإن صح فهي غير المذكورة في مسيل رانونا.
بئر الحرة:
ذكر الغزالي أن القادم للزيارة يغتسل منها، ولعلها بئر السّقيا، لما سبق فيها.
بئر خارجة:
بالخاء المعجمة وكسر الراء وفتح الجيم، في حديث أبي هريرة عند مسلم «كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا، وقمنا فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار فدرت به علّ أجد(4/18)
له بابا، فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة، فاحتفرت، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يروى «خارجه» أي: خارج البستان، و «خارجة» على النعت، والصواب الأول، وهو الإضافة، صرح به صاحب التحرز، قال: وخارجة رجل أضيفت إليه البئر، قاله النووي.
بئر خريف:
تقدم في بئر أريس أن عثمان رضي الله تعالى عنه أدخلها في صدقته ببئر أريس وسقوط الخاتم بها في رواية.
بئر الخصى:
ستأتي في الخاء المعجمة.
بئر خطمة:
هي بئر ذرع المتقدمة أول الباب السادس.
بئر الدّريك:
تصغير درك، ويقال فيها: بئر الزريق، قاله المجد، وفي منازل بني خطمة أنهم ابتنوا أطما كان على بئر الدرك، فهي المرادة. وقال قيس بن الخطيم:
كأنا وقد أخلوا لنا عن نسائهم ... أسود لها في غيل بيشة أشبل
ببئر دريك فاستعدّوا لمثلها ... وأصغوا لها آذانكم وتأملوا
بئر ذروان:
بفتح الذال المعجمة وسكون الراء عند رواة البخاري كافة، وكذا روي عن ابن الحذاء، وفي كتاب الدعوات من البخاري في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: وذروان بئر في بني زريق، قال الجرجاني: رواة مسلم كافة بئر ذي أروان، ووقع عند الأصيلي بئر ذي أوان، بغير راء، قال عياض وتبعه المجد: هو وهم، فإن ذا أوان موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بني فيه مسجد الضرار.
قلت: الصواب أن خبر مسجد الضرار أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بذي أوان كما سبق لأنه بني به.
وقال الحافظ ابن حجر: كأن رواية الأصيلي كانت بئر ذي أروان، فسقطت الراء، قال: ويجمع بين رواية ذروان وذي أروان بأن الأصل ذي أروان ثم سهلت الهمزة لكثرة الاستعمال، فصار ذروان، ويؤيده أن أبا عبيد البكري صوّب أن اسم البئر أروان، وأن الذي قال ذروان أخطأ، وق ظهر أنه ليس بخطأ، ووقع في رواية كما قال البكري بئر أروان بإسقاط ذي.
قلت: فمن قال ذروان فقد تصرف في أصل الكلمة، ولذلك قال عياض: قال الأصمعي: وبعضهم يخطئ فيقول: بئر ذروان، والذي صححه ابن قتيبة ذو أروان بالتحريك.
وحديث هذه البئر في الصحيحين وغيرهما في سحر لبيد بن الأعصم، وفي رواية أنه(4/19)
أعصم السحولي، وفي أخرى رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقا، سحر في السنة الثامنة كما سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ووضعه تحت راعوفة هذه البئر، فأثر السحر فيه صلى الله عليه وسلم، ثم أريه في نومه ودلّ عليه فيها، فأرسل إليها، وكأن ماؤها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين، فاستخرج السحر وحل.
وفي رواية في الصحيح أيضا «فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها وقال: هذه البئر التي أريتها، فرجع إلى عائشة، قالت: فقلت: يا رسول الله أفلا أخرجته، وفي أخرى: أفلا أحرقته، قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرا، فأمرت بها فدفنت» .
وفي رواية لابن سعد: فقلت يا رسول الله فأخرجه للناس، فقال: أما أنا فقد عافاني الله.
فظهر أن الذي امتنع منه إنما هو إخراجه للناس، لا إخراجه من البئر، جمعا بين الروايات.
وعند النسائي: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا في بئر كذا وكذا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخرجها فحلّها، فقام كأنما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط.
وفي رواية لابن سعد أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أخبراه، فأخذه، فاعترف، فاستخرج السحر فحله، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنه.
وفي رواية له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عكرمة: ثم كان يراه بعد عفوه فيعرض عنه، قال الواقدي: وهذا أثبت عندنا ممن روي أنه قتله.
وفي رواية له: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ودخل المحرم جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة ممن يظهر الإسلام وهو منافق إلى لبيد بن الأعصم- وكان حليفا في بني زريق، وكان ساحرا قد علمت يهود أنه أعلمهم بالسحر- فقالوا: يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، وأنت ترى أثره فينا، ونحن نجعل لك على ذلك جعلا، فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر فعقد فيه عقدا وتفل فيه تفلا، وجعله في جف طلعة ذكر،(4/20)
ثم جعله تحت أرعوفة البئر؛ فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا أنكره بصره حتى دله الله عليه، فدعا جبير بن إياس الزرقي فدلّه على موضع في بئر ذروان تحت أرعوفة البئر، ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم، فقال له: ما حملك على ما صنعت فقد دلني الله على سحرك؟
فقال: حبّ الدنانير.
قال إسحاق بن عبد الله: فأخبرت عبد الرحمن بن كعب بن مالك بهذا، فقال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، وكنّ أسحر منه وأخبث، وكان لبيد هو الذي أدخله تحت أرعوفة البئر.
وقال الحارث بن قيس: يا رسول الله، ألا نهور البئر، فأعرض عنه، فهورّها الحارث وأصحابه، وكان يستعذب منها.
قال: وحفروا بئر أخرى فأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفرها حتى استنبطوا ماءها، ثم تهورت بعد، ويقال: إن الذي أخرج السحر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن محصن.
وفي رواية لابن سعد أيضا: فبعث نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وعمار فأمر هما أن يأتيا الركي فيفعلا الذي سمع، يعني من الملكين، فأتياها وماؤها كأنه قد خضب بالحناء، فنزلاها ثم رفعا الصخرة، فأخرجا طلعة فإذا فيها إحدى عشرة عقدة، ونزلت هاتان السورتان (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلّت عقدة حتى انحلت العقد.
بئر رئاب:
بكسر الراء ثم همزة وألف وآخره موحدة، بئر بالمدينة لها شاهد في مخيض.
بئر ركانة:
على عشرة أميال من المدينة بطريق العراق، وبها حوض، وهناك آخر عمل الطرف وأول عمل المدينة. ووراءها بميلين بئر بني المطلب، قاله الأسدي.
بئر زمزم:
بزايين معجمتين، تقدمت في بئر إهاب أول الباب السادس، سميت بذلك لكثرة التبرك بمائها ونقله إلى الآفاق كبئر زمزم.
بئر زياد:
لها ذكر فيما سيأتي في عيون الحسين.
بئر السائب:
بالطريق النجدي على أربعة وعشرين ميلا من المدينة، وبينها وبين الشقرة مثل ذلك، وبها قصر وعمائر وسوق، وسميت بذلك لأن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حفرها للناس، ويقال لواديها العرنية، سيله يمضي منها فيدفع في الأعواض، ثم(4/21)
في قناة، والجبل المشرف على بئر السائب يقال له شباع، ذكر بعض أهل البادية أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان قد نزل في أعلاه، قاله الأسدي.
بئر سميحة:
ستأتي في السين.
بئر شداد:
بناحية الحثحاثة.
بئر عائشة:
رجل من بني واقف، وهو عائشة بن نمير بن واقف، كان له أطم عليها، ومنازلهم في جهة قبلة مسجد الفضيخ.
بئر عذق:
بفتح العين وسكون الذال المعجمة بلفظ العذق للنخلة، معروفة بقباء، وهي المتقدمة في منازل بني أنيف.
بئر عروة بن الزبير:
تقدمت مع قصره بالعقيق، وكانت شهيرة ثم دثرت، حتى قال المجد: إنه لم يجد من يعرفها.
بئر ذات العلم:
بفتحتين، تجاه الروحاء، يقال: إن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قاتل الجنّ بها، وهي بئر متناهية بعد هر شى، يكاد لا يلحق قعرها، قاله المجد.
بئر غامر:
أدخلها عثمان رضي الله تعالى عنه في صدقته بئر أريس، وفي رواية أنها كانت من طعم أمهات المؤمنين كما تقدم في الصدقات.
بئر غدق:
بفتحتين والدال مهملة بعدها قاف، من قولهم غدقت العين فهي غدقة أي غزيرة، وماء غدق غزير، وهي بئر بالمدينة عندها أطم البلويين الذي بالقاع كما قال المجد، ولم أقف له على أصل إلا ما تقدم في منازل اليهود من أن بني أنيف من بلى، وكانوا بقباء، ولهم أطم عند بئر غدق، لكنه لا يسمى بالقاع، وتلك البئر معروفة اليوم بالعين المهملة والذال المعجمة كما سبق، والمجد لم يذكرها فإن كانت مراده فقد خالف ما هو المعروف في أسمائها.
بئر فاطمة:
بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما تقدم في زيادة الوليد ما رواه ابن زبالة عن منصور مولى الحسين في خروجها من بيت جدتها فاطمة الزهراء عند إدخالها في المسجد، قال: وانتقلت إلى موضع دارها بالحرة فابتنتها، وهي يومئذ براح، وموضعها بين دار ذكوان وبناء إبراهيم بن هشام، قال: فلما بنت قالت: مالي بدّ من بئر للوضوء وغير ذلك من الحاجة، فصلّت في موضع بئر دارها ركعتين، ثم دعت الله وأخذت المسحاة فاحتفرت بئرها، وأمرت العمال فعملوا، فما لقيت حصاة حتى أماهت، فلما بنى إبراهيم بن هشام داره بالحرة بعد وفاة فاطمة ابنة الحسين وأراد نقل السوق إليها صنع في حفرته التي بالحوض مثل ما صنعت فاطمة، فلقي جبلا أو قل عليه وعظم غرمه فيه، فسأل(4/22)
إبراهيم بن هشام عبد الله بن حسن بن حسن أي ابن فاطمة ابنة حسين أن يبيعه دار فاطمة، فباعه إياها بثلاثة آلاف دينار، فقال: يا أبا محمد تجوّز عنا بدنانير لنا أصابها حريق، قال:
نعم، فأخذها وقد انضمّ بعضها إلى بعض، فقيل له: إن كسرتها غرمت فيها كثيرا وصارت تبرا، وإن بعثت بها إلى الشام ضربت دنانير وعادت على حالها، فبعث بها فضربت له.
فكان غرمه بضعة وأربعين دينارا، ووقع تجوزه بها من ابن هشام موقعا حسنا.
وتقدم في بئر إهاب ترجيح المطري لأن هذه البئر هي المعروفة اليوم بزمزم بطرف الحديقة المعروفة بزمزم من جهة القبلة، وأن الراجح عندنا أن تلك بئر إهاب، فإن بئر فاطمة بقربها، ولعلها التي في شاميها بالحديقة المذكورة.
بئر فجّار:
بتشديد الجيم، وستأتي مع شاهدها في الشطبية.
بئر مدرى:
بكسر الميم وسكون الدال المهملة بلفظ المدرى الذي يحك به قال المجد: هي من آبار المدينة المعروفة بالغزارة والطيب، قال الزبير: خطب رجل من بني قريظة امرأة من بلحارث بن الخزرج، فقالت: أله مال على بئر مدرى أو هامات أو ذي وشيع أو على بئر فجار، وهي في بئر أريس.
قلت: هذا الخبر إنما سبق في ذكر الشطبية كما سيأتي فيها بلفظه فقوله «وهي بئر أريس» إن أراد ما سيق الخبر له فهو الشطبية لا بئر مدرى، وتقدم حينئذ فيما عليه الناس من أن بئر أريس بقباء، وكذا إن أراد جميع هذه الآبار إذ منها الشطبية وهي بجانب الأعواف كما سبق في بئر الأعواف وإن أراد به بئر فجار فهي غير معروفة، وتقدم في سيل مهزور أن عثمان رضي الله تعالى عنه عمل الردم الذي عند بئر مدرى ليرد به سيل مهزور عن المسجد.
قال ابن زبالة: إن سرح عثمان الذي يقال له مدري يشق من مهزور في أمواله حتى يأتي على أريس، إلى آخر ما سبق عنه.
بئر مرق:
بفتح الميم والراء وقد تسكن الراء أيضا، لغتان مشهورتان، آخره قاف، بئر بالمدينة لها ذكر في حديث الهجرة، قاله في النهاية.
قلت: هي المذكورة في سابع فصول الباب الثالث، وفي رواية البيهقي أن أسعد بن زرارة خرج لمصعب بن عمير يوما إلى دار بني عبد الأشهل، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، وهي قرية لبني ظفر دون قرية بني عبد الأشهل، وكانا ابني عم، يقال له بئر مرق، ويؤخذ منه قربها من دار بني ظفر وبني عبد الأشهل، وهناك بناحية مسجد الإجابة نخيل تعرف بالمرقية، فالظاهر أنها منسوبة لها.(4/23)
بئر مطلب:
بضم الميم وفتح الطاء المشددة وكسر اللام، على سبعة أميال من المدينة، منسوبة إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، قاله المجد، وذكرها الأسدي في الطريق النجدي، وقال: إنها على خمسة أميال من المدينة، والميل السادس على حرة واقم المشرفة على المدينة، ولعلها بئر بني المطلب المتقدمة فيما نقلناه عنه في بئر ركانة، وإن خالف ما هنا في المسافة.
قال المجد: قدم صخر بن الجعد المحاربي المدينة، فأتى تاجرا يقال له سيار، فابتاع منه برّا وعطرا، وقال له: تأتيني غدوة فأقضيك، وركب من تحت ليلته إلى البادية، فسأل عنه سيار لما أصبح، فركب في أثره في جماعة حتى أتوا بئر مطّلب على سبعة أميال من المدينة وقد جهدوا من الحر، فنزلوا عليها، وأكلوا تمرا كان معهم، وأراحوا دوابهم، ثم انصرفوا راجعين فقال أبياتا منها:
حين استغاثوا بألوى بئر مطلب ... وقد تحرّق منهم كلّ تمّار
وقال أولهم نصحا لآخرهم ... ألا ارجعوا أدركوا الأعراب في النار
بئر معرونة:
بفتح الميم وضم العين ثم واو ثم نون مفتوحة وهاء، وقد يتصحف ببئر معاوية التي بين عسفان ومكة بلفظ معاوية بن أبي سفيان، وليست بها؛ فإن هذه بالنون وهي بين جبال يقال لها أبلى في طريق المصعد من المدينة إلى مكة، وهي لبني سليم، قاله المجد أخذا من قول عرّام عقب ما سيأتي عنه في النازية: وفي أبلى مياه منها بئر معونة وذو ساعدة وذو جماجم أو حماحم وألوسيا وهذه لبني سليم، وهي قناة متصلة بعضها ببعض، وتقدم بيان أبلى، وأنها بين السوارقية والرحضية، ويؤيده أن معونة بالنون واد معروف هناك كما أخبرني به أمير المدينة الشريفة السيد الشريف فسيطل.
ويوافقه قول النووي في تهذيبه: بئر معونة قبل نجد، بين أرض بني عامر وحرة بني سليم.
ويوافقه أيضا ما تقدم عن الزهري في أبلى، لكن صرح عياض في المشارق بخلافه، وجعلها التي بين عسفان ومكة، وتبعه في ذلك جماعة من آخرهم الحافظ ابن حجر.
ونقل المجد عن الواقدي أن بئر معونة في أرض بني سليم وأرض بني كلاب، وأن عندها كانت قصة الرجيع، وفيه ترجيح لكلام عياض؛ لأن الرجيع موضع كانت قربه قصة سرية عاصم بن ثابت وحبيب في عشرة، وقد ترجم البخاري لها بغزوة الرجيع، ثم روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينا، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل، فتبعوهم بقريب من(4/24)
مائة رام، فاقتصّوا آثارهم، حتى أتوا منزلا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، وذكر القصة، وبين أبو معشر في مغازيه أن ذلك المنزل هو الرجيع، فقال: فنزلوا بالرجيع سحرا، فأكلوا تمر عجوة، فسقطت نواة بالأرض، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون النهار، فصاحت امرأة من هذيل: أتيتم، فجاؤوا في طلبهم، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل.
وفي رواية للبخاري: حتى إذا كانوا بالهدأة، بدل قوله «بين عسفان ومكة» وعند ابن إسحاق «الهدة» بتشديد الدال بغير همز، قال: وهي على تسعة أميال من عسفان.
ثم ذكر البخاري في باب غزوة الرجيع قصة أهل بئر معونة، ففيه إشارة لما ذكره الواقدي من اتحاد الموضع، مع إفادة أنه بين عسفان ومكة، لكن يشهد لما ذكره المجد صنيع ابن إسحاق فإنه قال في غزوة الرجيع: حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدة غدروا بهم.
وقال في غزوة معونة: إن أبا براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة قال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، ثم ذكر بعث القراء، ثم قال:
فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب، فهو صريح في المغايرة، وأبلى تحدّ به في شرقي المدينة، فما ذكره المجد موافق لكلام ابن إسحاق.
بئر الملك:
بكسر اللام- وهو تبّع اليماني، حفرها بمنزله بقناة، لما قدم المدينة، وبه سميت، فاستوبأها، فاستقى له من بئر رومة كما سبق فيها.
ونقل ابن شبة أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان من صدقاته بالمدينة بئر الملك بقناة.
بئر الهجيم:
بالجيم، ثم الياء المثناة تحت كما في كتاب ابن زبالة ويحيى منسوبة إلى الأطم الذي يقال له الهجيم بالعصبة، تقدمت في مسجد التوبة بالعصبة من المساجد التي لا تعرف عينها، وقال فيها المطري: بئر هجم، وفي خط المراغي على الهاء فتحة، وعد ابن شبة في آبار المدينة بئرا يقال لها الهجير- بالراء بدل الميم- وقال: إنها بالحرة فوق قصر ابن ماه.
بألى: بفتحات ثلاث- يقدم أيضا في مساجد تبوك.
البتراء:
تقدمت فيها، ولعلها غير البتراء التي على نحو مرحلة من المدينة، سلكها النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بني لحيان موريا بأنه يريد الشام، فسلك على غراب، ثم على مخيض،(4/25)
ثم إلى البتراء، ثم أخذ ذات اليسار، ثم خرج على بين، ثم على صخيرات الثمام، ثم استقام به الطريق على المحجة.
البجرات:
بفتح الباء والجيم ويقال البجيرات بالتصغير، مياه من مياه السماء في جبل شوران.
بجدان:
جبل على ليلة من المدينة، ذكره صاحب النهاية، وفيه حديث «سيروا هذا بجدان سبق المفردون» كذا روى الأزهري، والأكثرون رواه جمدان بالجيم والميم، كما سيأتي فيه.
بحران:
بالضم وسكون الحاء المهملة ثم راء فألف فنون، وقيده ابن الفرات بفتح الباء قال ابن إسحاق، في سرية عبد الله بن جحش: فسلك على طريق الحجار حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران.
وقال بعد غزاة ذي أمر: ثم غزا صلى الله عليه وسلم يريد قريشا، حتى بلغ بحران معدنا بالحجاز من ناحية الفرع، فأقام به شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى ثم رجع ولم يلق كيدا
وقال ابن سعد: إنه صلى الله عليه وسلم خرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه حتى ورد بحران، فوجد جمع بني سليم قد تفرقوا في مياههم، وكانت غيبته عشر ليال.
بخرج: أطم بقباء لبني عمرو بن عوف.
بدا:
بالفتح وتخفيف الدال موضع قرب وادي القرى، كان به منزل على ابن عبد الله بن العباس وأولاده.
البدائع:
تقدم في مسجد الشيخين مما لا تعرف اليوم عينه بالمدينة.
بدر:
بالفتح ثم السكون- بئر احتفرها رجل من غفار اسمه بدر بن قريش بن مخلد بن النضر بن كنانة، وقيل: بدر رجل من بني ضمرة سكن ذلك الموضع فنسب إليه، ثم غلب اسمه عليه، وقال الزبير: قريش بن الحارث بن مخلد، ويقال: مخلد بن النضر به سميت قريش قريشا لأنه كان دليلها وصاحب ميرتها، وكانوا يقولون: جاء عير قريش، وابنه بدر ابن قريش، به سميت بدر التي كانت بها الوقعة المباركة، لأنه كان احتفرها، ويقال: بدر اسم البئر التي بها سميت بذلك لاستدارتها، أو لصفاء مائها، فكان البدر يرى فيها، وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار، قالوا: إنما هي مأوانا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد، وبدر الموعد، وبدر القتال، وبدر الأولى، وبدر الثانية، وبدر الثالثة، كله موضع واحد، واستشهد من المسلمين بوقعة بدر التي أعز الله بها الإسلام أربعة عشر رجلا، منهم أبو(4/26)
عبيدة بن الحارث تأخرت وفاته حتى وصل الصفراء، ويظهر من كلام أهل السّير أن بقيتهم دفنوا ببدر، وبها مسجد العمامة المتقدم.
ورأيت بأوراق في منازل الحاج، ما لفظه: ومن بدر إلى الدخول نحو نصف فرسخ، وهو الغار الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم فيه، انتهى. وهذا الغار على يمين المصعد من بدر، ورأيت الحجاج يتبركون بالصلاة فيه، ولم أقف فيه على غير ما تقدم.
وقال المرجاني: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا بسيفه الذي يدعى العضب، وضربت فيها طبلخانة النصر، فهي تضرب إلى قيام الساعة، انتهى. ويقال: إنها تسمع بالموضع المذكور، وهو على أربع مراحل من المدينة، به عين ونخيل.
براق:
بكسر أوله يضاف لبدر المتقدم في قول كثير:
فقلت وقد جعلن براق بدر ... يمينا والعنابة عن شمالي
براق حورة:
- بكسر أوله، وفتح الحاء المهملة والراء- موضع من أودية الأشعر، بناحية القبلة، قال الأحوص:
فذو السّرح أقوى فالبراق كأنّها ... بحورة لم يحلل بهنّ عريب
براق خبت:
بفتح الخاء المعجمة، وسكون الموحدة، بعدها مثناة صحراء يمر بها المصعد من بدر إلى مكة، وقيل: خبت ماء لكلب، قال بشر:
فأودية اللّوى فبراق خبت ... عفتها العاصفات من الرّياح
برام:
بفتح أوله، وبكسره- جبل كأنه فسطاط، يبتدئ منه البقيع، وهو من أعلامه في المغرب، ويقابله عسيب في المشرق، وفيه يقول المحرق المزني:
وإني لأهوى من هوى بعض أهله ... برام وأجراعا بهنّ برام
برثان:
بالفتح واد بين ملل وأولات الجيش، سلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، ولعله تصحيف تربان التي في التاء المثناة، قاله المجد، وهو كما ظن لما سيأتي.
برج:
بفتح الباء والراء، أطم لبني النضير.
البرريان:
كانتا من طعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأظنهما المعروفتين بالبررة والبريرة بالعالية.
برق:
بلفظ البرق اللامع من السحاب، قرية بقرب خيبر، ويوم برق من أيامهم.
برقة:
بالضم، وروى بالفتح من صدقاته صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأما برقة العبرات بفتح العين المهملة والمثناة التحتية فبرقة واسعة حسنة جدا، بين ضرية والبستان، على أقل من نصف ميل منها، وهي التي في شعر امرئ القيس الآني في حليت.(4/27)
برك:
بالكسر، واد بحذاء شواحط، بناحية السوارقية، كثير السّلم والعروط، وفيه مياه، وسيأتي في مبرك أنه يسمى ببرك أيضا.
البركة:
مغيض عين الأزرق، بها نخيل حسنة بيد الأمراء.
برمة:
بكسر أوله، من أعراض المدينة، قرب بلاكث، بين خيبر ووادي القرى، به عيون ونخل لقريش، ويقال له «ذو البيضة» كما سبق في مجتمع أودية المدينة ومغايضها.
البرود:
بالفتح وضم الراء موضع بين طرف جبل جهينة يعنى الأشعر، وموضع آخر بطرف حرة النار.
بزرة:
بالضم، وسكون الزاي، وفتح الراء، ثم هاء ناحية على ثلاثة أيام من المدينة، بينها وبين الرويئة، عن نصر، قاله المجد، وفيه نظر؛ لما سيأتي في الرويثة، وقال ياقوت عن ابن السكيت: بزرتان أي بالتثنية- شعبتان قريبتان من الرويثة، يصبان في درج المضيق، من بليل، وقد ذكره الشعراء، وكان فيه يوم لهم، قال عبد الله بن جذل الطّعان:
فداء لهم نفسي، وأمّي لهم فدى ... ببزرة إذ نحصيهم بالسّنابك
البزواء:
بلدة بيضاء مرتفعة من الساحل، بين الجار وودان وغيقة، من أشد بلاد الله حرّا، سكانها بنو ضمره من بكر ثم من كنانة، وهم رهط عزّة صاحبة كثير، قال كثير يهجوهم:
ولا بأس بالبزواء أرضا لو أنّها ... تطهّر من آثارهم فتطيب
بصة:
يضاف إليها بئر البصة المتقدمة أول الباب السادس.
البضيع:
بالضم وفتح الضاد المعجمة مصغرا قاله ياقوت، ونقل عن ابن السكيت أنه طرف عن يسار الحال أسفل من عين الغفاريين في قول كثير:
تلوح بأكناف البضيع كأنها ... كتاب زبور خطّ لدنا عسيبها
قلت: والظاهر أنه الآتي في النون.
البطحاء:
يدفع فيها طرف عظم الشامي، وما دبر من الصلصين، وتدفع هي من بين الجبلين في العقيق كما سبق، ولعلها بطحاء ابن أزهر.
بطحان:
بالضم ثم السكون كذا يقوله المحدثون، وحكى أهل اللغة فتح أوله وكسر ثانية، قال أبو علي القالي: لا يجوز غيره، قال المجد: وقرأت بخط أبي الطيب أحمد بن أحمد بن أحمد الشافعي وخطه حجة بطحان بفتح أوله وسكون ثانية.
قلت: ونقل بعضهم عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: هو بضم الباء وسكون(4/28)
الطاء، سمي بذلك لسعته وانبساطه، من البطح وهو البسط، وتقدم في الفصل الخامس في الأودية، قال الشاعر:
يا سعد إني لم أزل بعد كم ... في كرب للشّوق تغشاني
كم مجلس ولّى بلذّاته ... لم يهنني إذ غاب ندماني
سقيا لسلع ولساحاته ... والعيش في أكناف بطحان
أمسيت من شوقي إلى أهلها ... أدفع أحزانا بأحزان
وقال بعضهم: بطحان من مياه الضباب، فهو موضع آخر
بطن إضم:
تقدم في إضم.
بطن ذي صلب:
تقدم في الفصل الخامس.
بطن نخل:
جمع نخلة، قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة، بينهما الطرف، وهو بحذاء برق العراف لقاصد المدينة، قاله المجد، وقال الأسدي في وصف طريق فيد:
إن من بطن نخل إلى الطرف عشرين ميلا، ومن الطرف إلى المدينة خمسة وعشرون ميلا، قال: وبطن نخل لبني فزارة من قيس، وبها أكثر من ثلاثمائة بئر كلها طيبة، وبها يلتقي طريق الربذة، وهي من الربذة على خمسة وأربعين ميلا، اه. وسيأتي في الجموم عن ابن سعد أنها بناحية بطن نخل، عن يسارها، قال: وبطن نخل من المدينة على أربعة برد، اه.
وذكر الفقهاء في صلاة الخوف ببطن نخل أنه موضع من نجد في أرض غطفان، وتقدم في زيادة عثمان أن القصّة كانت تحمل من بطن نخل، وبخط المراغي عند ذكره لذلك: بطن نخل موضع على أربعة أميال من المدينة، فإن صح فهو غير ما تقدم، ولعله ذو القصّة، وسيأتي أنه على خمسة أميال من المدينة في طريق الربذة، وتسميته بذي القصة وهي الحصن شاهد لذلك.
البطيحان:
تصغير بطحان، تقدم في زيادة عمر بن الخطاب.
بعاث:
أوله بالحركات الثلاث، وقال عياض: أوله بالضم لا غير، وآخره ثاء مثلاثة، من ضواحي المدينة، كانت به وقائع في الجاهلية بين الأوس والخزرج، وحكاه صاحب العين وهو الخليل- على ما نقله أبو عبيد البكري بالغين المعجمة، ولم يسمع من غيره، وقال أبو أحمد السكري: هو تصحيف، وحكى السكري أن بعضهم رواه عن الخليل وصحفه بالمعجمة، وذكر الأزهري أن الذي صحفه الليث الراوي عن الخليل، وقال في(4/29)
المطالع والمشارق بعاث بضم أوله وعين مهملة على المشهور، وقيده الأصيلي بالوجهين، وهو عند القابسي بالغين المعجمة، قال الحافظ ابن حجر: ويقال: إن أبا عبيدة ذكره بالمعجمة أيضا، وهو مكان، ويقال: حصن، ويقال: مزرعة عند بني قريظة على ميلين من المدينة، وقال الزركشي: هو حصن للأوس، وقال بعضهم: هو من أموال بني قريظة، به مزرعة يقال لها قوري، وقال رزين: هو موضع عند أعلى القرورا.
قلت: لعله تصحيف قورى، قال قيس بن الخطيم:
نحن هزمنا جمعهم بكتيبة ... تضاءل منها حرز قورى وقاعها
تركنا بعاثا يوم ذلك منهم ... وقورى على رغم شباعا سباعها
وقال أيضا:
ويوم بعاث أسلمتنا سيوفنا ... إلى نسب من جذم غسّان ثاقب
وقال كثير:
كأن حدائج أظعاننا ... بغيقة لما هبطنا البراثا
نواعم عمّ على ميثب ... عظام الجذوع أحلّت بعاثا
وميثب:
حائط تقدم في الصدقات أنه مجاور للدلال والصافية، وأسفل الدلال نخل يسمى قوران، الظاهر أنه قورى كما سيأتي فيها، فبعاث بتلك الجهة، ويشهد له ما نقل ابن إسحاق عن محمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف، قال: فخرجنا يعني بعد قتله حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض؛ وبه يعلم ضعف قول عياض ومن تبعه: إنه موضع على ليلتين من المدينة.
بعبع:
بالضم وإهمال العينين، أطم بمنازل بني عمرو بن عوف بقباء.
بغيبغة:
بإعجام الغينين تصغير البغبغ وهي البئر القريبة الرشاء، وروى ابن شبة أن ينبع لما صارت لعلي رضي الله تعالى عنه كان أول شيء عمله فيها البغيبغة، وأنه لما بشر بها حين صارت له قال: تسرّ الوارث، ثم قال: هي صدقة على المساكين وابن السبيل وذوي الحاجة الأقرب، وفي رواية للواقدي أن جدادها بلغ في زمن علي رضي الله تعالى عنه ألف وسق.
وقال محمد بن يحيى: عمل علي بينبع البغيبغات، وهي عيون منها عين يقال لها خيف الأراك، ومنها عين يقال لها خيف ليلى، ومنها عين يقال لها خيف بسطاس، قال:
وكانت البغيبغات مما عمل علي وتصدق به، فلم يزل في صدقاته حتى أعطاها حسين بن علي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يأكل ثمرها ويستعين بها على دينه ومؤنته، على أن(4/30)
لا يزوج ابنته من يزيد بن معاوية، فباع عبد الله تلك العيون من معاوية، ثم قبضت حين ملك بنو هاشم الصوافي، فكلم فيها عبد الله بن حسن بن حسن أبا العباس وهو خليفة فردها في صدقة علي، فأقامت في صدقته حتى قبضها أبو جعفر في خلافته، وكلم فيها الحسن بن زيد المهدي حين استخلف، وأخبره خبرها، فردها مع صدقات علي.
قلت: وهي معروفة اليوم بينبع، ولكن في يد أقوام يدّعون ملكها.
وقال المبرد: روي أن عليا لما أوصى إلى الحسن وقف عين أبي نيزر البغيبغة، وهي قرية بالمدينة، وقيل: عين كثيرة النخل غزيرة الماء.
وذكر أهل السير أن معاوية كتب إلى مروان: أما بعد، فإن أمير المؤمنين أحبّ أن يرد الألفة، ويزيل السّخيمة، ويصل الرحم، فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أمّ كلثوم على ابن أمير المؤمنين، وأرغب له في الصداق، فوجه مروان إلى عبد الله فقرأ عليه الكتاب وعرّفه ما في الألفة، فقال: إن خالها الحسين بينبع، وليس ممن يفتات عليه، فأنظرني إلى حين يقدم، فلما قدم ذكر له ذلك، فقام ودخل على الجارية وقال: إن ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر أحقّ بك، ولعلك ترغبين في الصداق، وقد نحلك البغيبغات، فلما حضر القوم للإملاك تكلم مروان، فذكر معاوية وما قصده، فتكلم الحسين وزوّجها من القاسم، فقال له مروان: أغدرا يا حسين؟ فقال: أنت بدأت، خطب الحسن بن علي عائشة بنت عثمان بن عفان، واجتمعنا لذلك، فتكلمات أنت وزوجتها من عبد الله بن الزبير، فقال مروان: ما كان ذاك، فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب وقال: أنشدك الله أكان ذلك؟
فقال: اللهم فنعم.
فلم تزل هذه الضّيعة في يد بني عبد الله من ناحية أم كلثوم يتوارثونها، حتى استخلف المأمون، فذكر له، فقال: كلا هذا وقف عليّ، فانتزعها، وعوضهم عنها، وردها إلى ما كانت عليه.
البقال:
بالفتح وتشديد القاف، قال الزبير في ذكر طلحة من بني البحتري: وداره بالمدينة إلى جنب بقيع الزبير بالبقال، وتقدم في قبور أمهات المؤمنين أنها من خوخة بيته إلى الزقاق الذي يخرج على البقال، وأن دار أبي رافع التي أخذها من سعد بالبقال مجاورة لسقيفه محمد بن زيد بن علي بن حسين بالبقيع، وتقدم في مشهد إسماعيل بن جعفر أنه دار زين العابدين علي بن حسين، فالبقال هناك.
بقعاء:
بالمد وفتح أوله بمعنى المجدب من الأرض، موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة، خرج إليه أبو بكر لتجهيز المسلمين لقتال أهل الردة، ويقال: بقعاء ذي(4/31)
القصة كما قاله ياقوت.
بقع:
بالضم، اسم بئر بالمدينة، وقال الواقدي: البقع بالضم هي السقيا التي بنقب بني دينار، وقال ياقوت في المشترك له: البقع اسم بئر بالمدينة قبلى نقي السقيا التي ينقب بني دينار.
بقيع بطحان:
مضاف إلى وادي بطحان المتقدم، وفي الصحيح عن أبي موسى:
كنت أنا وأصحابي الذي قدموا معي في السفينة نزولا في بقيع بطحان.
بقيع الخبجبة:
بفتح الخاء المعجمة ثم باء موحدة وفتح الجيم والباء ثم هاء، قال المجد: كذا ذكره أبو داود في سننه، والخبجبة: شجر عرف به هذا الموضع، قال السهيلي: وهو غريب، وسائر الرواة ذكروه بجيمين، انتهى. وليس في السنن ضبط، بل ذكره قبل الجنائز بباب قصة المقداد حين وجد به الدنانير، ولم يذكر ضبطا، فلعل المراد أن الرواية فيها بهذا الضبط، لكن ضبطه ابن الأثير في نهايته بخاءين معجمتين بينهما موحدة، وفي القاموس: الخبجبة أي بالخاء المعجمة شجر عن السهيلي، ومنه بقيع الخبجبة بالمدينة؛ لأنه كان منبتها، أو هو بجيمين، انتهى. ورأيته بخط الأقشهري بجيمين أولاهما مضمومة، وتقدم بيانه عند ذكر اتخاذ اللّبن للمسجد النبوي به.
وروى ابن أبي شبة قصة المقداد عن ضباعة بنت الزبير، وكانت تحت المقداد، قالت: كان الناس إنما يذهبون لحاجتهم قرب اليومين والثلاثة، فيبعرون كما تبعر الإبل، فلما كان ذات يوم خرج المقداد لحاجته حتى بلغ الخبجبة، وهي ببقيع الغرقد، فدخل خربة لحاجته، فبينا هو جالس إذ أخرج جرذ من حجر دينارا، فلم يزل يخرج دينارا دينارا حتى بلغ سبعة عشر دينارا، قال: فخرجت بها، حتى إذا جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبرها، فقال: هل اتبعت يدك الجحر؟ فقلت: لا والذي بعثك بالحق، فقال: لا صدقة عليك فيها بارك الله لك فيها، قالت ضباعة: فما فنى آخرها حتى رأيت غرائر الورق في بيت المقداد.
بقيع الخيل:
موضع شرقيّ المدينة المجاور للمصلى، وهو المراد بقول أبي قطيفة:
ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا ... بقيع المصلّى أم كعهدي القرائن
بقيع الزبير:
يجاور منازل بني غنم، وشرقي منازل بني زريق، وإلى جانبه في المشرق البقال، ولعل الرحبة التي بحارة الخدم بطريق بقيع الغرقد منه.(4/32)
روى ابن شبة عقب قصة كعب بن الأشرف المتقدمة في سوق المدينة لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ موضع بقيع الزبير سوقا أنه لما قتل كعب استقطع الزبير النبي صلى الله عليه وسلم البقيع فقطعه، فهو بقيع الزبير، ففيه من الدور للزبير دار عروة، ثم في شرقيها دار للمنذر بن الزبير إلى زقاق عروة، وفيه دار مصعب بن الزبير التي على يسارك إذا أردت بني مازن، وفيه دار آل عكاشة بن مصعب على باب الزقاق الذي يخرج بك إلى دار نفيس بن محمد، يعني مولى بني المعلى في بني زريق، وفيه دار آل عبد الله بن الزبير ممدودة إلى دار أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، وفيه بيت نافع الزبيري الذي بمفترق الطرق، وكل هذا صدقة من الزبير على ولده.
وذكر أيضا أن عباس بن ربيعة اتخذ داره في بني غنم بين دار أم كلثوم بنت الصديق وبين الخط الذي يخرجك إلى بقيع الزبير، وسبق لهذه الدار ذكر مع البقال في منازل بني أوس من مزينة.
وقال عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة الزبيري:
ليت شعري ولليالي صروف ... هل أرى مرّة بقيع الزبير
ذاك مغنى أحبّه وقطين ... تشتهي النفس أن ينال بخير
بقيع الغرقد:
وهو كبار العوسج، كان نابتا بالبقيع، مقبرة أهل المدينة، فقطع عند اتخاذها مقبرة، كما سبق مع ما جاء في فضلها، والبقيع: كل موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى.
وقال عمرو بن النعمان البياضي يرثي من قتل من قومه الذين أغلقوا عليهم حديقة، واقتتلوا حتى لم يبق منهم أحد كما سبق:
خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن العناء تفرّدي بالسودد
أين الذي عهدتهم في غبطة ... بين العقيق إلى بقيع الغرقد
كانت لهم أنهاب كل قبيلة ... وسلاح كل مدرّب مستنجد
نفسي الفداء لفتية من عامر ... شربوا المنية في مقام أنكد
قوم هم سفكوا دماء سراتهم ... بعض ببعض فعل من لم يرشد
ونسبه الحماسيّ لرجل من خثعم بزيادة في أوله.
البكرات:
تقدمت بحمى ضرية وشاهدها في حليت.
البلاط:
تقدم مستوفى.
بلاكث:
بالفتح وكسر الكاف ثم مثلاثة، بجانب برمة، وقال يعقوب: بلكثة قارة(4/33)
عظيمة ببطن إضم بين ذي خشب وذي المروة، وقال كثير:
نظرت وقد حالت بلاكث دونهم ... وبطنان وادي برمة وظهورها
وقال:
بينما نحن بالبلاكث فالقا ... ع سراعا والعيس تهوى هويّا
خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيا
بلحان:
بالفتح ثم السكون، أطم كعب بن أسد القرظي بالمال الذي يقال له الشجرة، ويعرف اليوم بالشجيرة مصغرا.
بلدود:
بضم أوله وقد يفتح، وضبطه الصغاني بفتحتين، موضع من نواحي المدينة، قال ابن هرمة:
هل ما مضى منك يا أسماء مردود ... أم هل تقضّت مع الوصل المواعيد
أم هل لياليك ذات البين عائدة ... أيام تجمعنا خلص فبلدود
البلدة والبليدة:
تصغير الأول، معروفان بأسفل نخل من أودية الأشعر قرب الفقيرة التي تحمل منها الرياضية إلى المدينة، قال الهجري: وذكر كثير البليد فقال:
وقد حال من حزم الحماتين دونهم ... وأعرض من وادي البليد شجون
وتأتيك عير الحي لما تقاذفت ... ظهور لها من ينبع وبطون
وقال المجد: بليد كزبير واد قرب المدينة، يدفع في ينبع، ثم أورد شعر كثير المتقدم، وفي النهاية: بليد بضم الباء وفتح اللام- قرية لآل علي بواد قريب من ينبع، انتهى. وأظنه البليد مصغرا، وهو المتقدم ذكره؛ لأن ياقوتا قال: البليد تصغير بلد موضعان:
الأول: ناحية قرب المدينة في واد يدفع في ينبع لآل علي رضي الله تعالى عنهم.
والثاني: ناحية لآل سعيد بن عنبسة بن سعيد بن العاص بالحجاز.
بواطان:
قال الهجري: هو في الأشعر، ويحده من شقه الشامي بواطان الغوري والجلسي، وهما جبلان مفترقا الرأسين، وأصلهما واحد، وبينهما ثنية تسلكها المحامل، سلكها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذي العشيرة، وأهل بواط الجلسي بنو ذبيان وبنو الربعة من جهينة، وهو يلي ملحتين، وقال عياض: بواط بضم أوله وتخفيف ثانيه آخره طاء مهملة، ورويناه من طريق الأصيلي وغيره بفتح الباء والضم هو المعروف، وهو من جبال جهينة، وسبق ذكر وادي بواط في مجتمع أودية المدينة ومغائضها، وبه غزوة بواط خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين إلى ناحية رضوى يريد تجارة قريش حتى بلغ بواطا في السنة الثانية.
البويرمة:
بئر لبني الحارث بن الخزرج، كما في النسخة التي وقعت لنا من كتاب(4/34)
ابن شبة، ولعلها البويرة لما سيأتي.
بويرة:
تصغير البئر التي يسقى منها، وفي الصحيح: حرّق نخل النضير، وهي البويرة، قال المجد: البويرة موضع منازل بني النضير، وذكره المرجاني ثم قال: وقيل:
اسم موضع مخصوص من مواضعهم.
قلت: ويرجح الأول قول جمل بن جوال التغلبي من أبيات:
وأقفرت البويرة من سلام ... وسعية وابن أخطب فهي بور
وقد كانوا ببلدتهم بعولا ... كما نقلت بميطان الصخور
واعتمد الثاني الحافظ ابن حجر، قال: ويقال لها البويلة باللام بدل الراء- وقال ابن سيد الناس في قوله:
حريق بالبويرة مستطير
ويروى بالبويلة قال: وذكر ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير بن العوام وأبا سلمة البويلة من أرض بني النضير، وتقدم أن البويلة أطم لبني النضير بمنازلهم، قال ابن زبالة: كان لحي منهم لحقوا باليمن، فلعله كان بقرب البويرة فسميت به أيضا.
وقلد الحافظ ابن حجر رزينا ومن تبعه في أن البويرة الموضع المعروف بهذا الاسم في قبلة مسجد قباء من جهة المغرب، قال رزين: وبه منازل النضير وقريظة وحصنهم، وإنه صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم مع رده في الفصل الثاني في الصدقات، مع بيان منشأ الوهم فيه، وذكر ابن زبالة في مساجد المدينة ومقاماته صلى الله عليه وسلم حديث تربة صعيب المعروف اليوم عند ركن الحديقة الماجشونية في قبلة ديار بني الحارث، ثم قال: وصعيب عند نخلة المرجثة على الطريق في بناء من البويرة.
وروى أيضا في فضل دور الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على السيرة التي على الطريق حذو البويرة فقال: إن خير نساء ورجال في هذه الدور، وأشار إلى دار بني سالم ودار بلحبلى ودار بلحارث بن الخزرج، وهذا الوصف لا يطابق الموضع الذي في قبلة مسجد قباء لبعده جدّا.
والذي يتحرر أن البويرة المتعلقة ببني النضير التي وقع بها التحريق وهي المذكورة في شعر حسان ليست البويرة التي بقباء، بل بمنازل بني النضير المتقدمة في محلها، وسبق أن بعض منازلهم كانت بناحية الغرس، فيطابق أنها بقرب تربة صعيب وبلحارث.
البيداء:
قال المطري فمن تبعه، هي التي إذا رحل الحجاج من ذي الحليفة(4/35)
استقبلوها مصعدين إلى المغرب.
وقال الحافظ ابن حجر: البيداء فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، قاله أبو عبيد البكري وغيره، انتهى. فأول البيداء عند آخر ذي الحليفة، وكان هناك علمان للتمييز بينهما، ولذا قال الأسدي في تعداد أعلام الطريق: إن على مخرج المدينة علمين، وعلى مدخل ذي الحليفة علمين، وعلى مخرج ذي الحليفة علمين، وقال في موضع آخر:
والبيداء فوق علمي ذي الحليفة إذا صعدت من الوادي، وفي أول البيداء بئر، انتهى. وكأن البيداء ما بين ذي الحليفة وذات الجيش.
وفي حديث عائشة في نزول آية التيمم «حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش» وفي الحديث «إن قوما يغزون البيت، فإذا نزلوا بالبيداء بعث الله تعالى جبريل عليه السلام فيقول يا بيداء أبيديهم» وفي رواية لابن شبة عن أم سلمة مرفوعا «يتابع الرجل بين الركن والمقام عدة أهل بدر، فتأتيه صعائب أهل العراق وأبدال أهل الشام فيغزوهم جيش من أهل الشام، فإذا كانوا بالبيداء خسف بهم، ثم يغزوهم رجل من قريش أخواله كلب فيلتقون فيهزمهم الله، فالخائب من خاب من غنيمة كلب» وفي رواية له «جيش من أمتي من قبل الشام يؤمّون البيت لرجل منعه الله منهم، حتى إذا علوا البيداء من ذي الحليفة خسف بهم، ومصادرهم شتى. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كيف يخسف بهم جميعا ومصادرهم شتى؟ قال: إن منهم من جبر» وعن ابن عمر «إذا خسف بالجيش بالبيداء فهو علامة خروج المهدي» وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «يجئ جيش من قبل الشام حتى يدخل المدينة، فيقتلون المقاتلة ويبقرون بطون النساء، ويقولون للحبلى في البطن: اقتلوا صبابة الشر، فإذا علوا البيداء من ذي الحليفة خسف بهم، فلا يدرك أسفلهم أعلاهم ولا أعلاهم أسفلهم» قال أبو الهرم: فلما: جاء جيش ابن دبحة قلنا هو فلم يكونوا هم، يعني جيش مسرف.
بيسان:
بالفتح وسكون المثناة تحت ثم سين مهملة وألف ونون، بين خيبر والمدينة، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نزل في غزوة ذي قرد على ماء يقال له بيسان، فسأل عن اسمه، فقالوا: اسمه بيسان، وهو ملح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو نعمان، وهو طيب» وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسم، وغير الله الماء، فاشتراه طلحة ونصدق به، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت يا طلحة إلا فياض، فسمي طلحة الفياض.(4/36)
حرف التاء
تاراء:
بالمد، سبق في مساجد تبوك، قال نصر: وهو موضع بالشام.
تبوك:
كصبور، موضع بين وادي القرى والشام، على اثنتي عشرة مرحلة من المدينة، قيل: اسم بركة هناك، وقال أبو زياد: تبوك بين الحجر وأول الشام، على أربع مراحل من الحجر نحو نصف طريق الشام، وهو حصن به عين ونخل وحائط تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيب كانوا به، ولم يكن شعيب منهم بل من مدين، ومدين على بحر القلزم على نحو ست مراحل من تبوك.
وقال أهل السير: توجّه النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع إلى تبوك، وهي آخر غزواته، لغزو من انتهى إليه أنه قد تجمع من الروم وعاملة ولخم وجذام، فوجدهم قد تفرقوا، فلم يلق كيدا، ونزلوا على عين، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يمس أحد من مائها، فسبق رجلان وهي تبض بشيء من ماء، فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: مازلتما تبوكانها منذ اليوم، أي يحركانها بما أدخلاه، وبذلك سميت تبوك، وركز النبي صلى الله عليه وسلم عنزته فيها ثلاث ركزات، فجاءت ثلاث أعين، فهي ترمي بالماء إلى الآن.
وحديث عين تبوك في صحيح مسلم، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم «غسل وجهه ويده بشيء من مائها ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير» الحديث، وفي رواية ابن إسحاق «فانخرق من الماء ماله حس كحس الصواعق» ثم قال «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا» وأقام صلى الله عليه وسلم بتبوك أياما حتى صالحه أهلها، وانتدب خالد بن الوليد إلى دومة الجندل.
قال المجد: وذكرنا لتبوك ليس من شرط الكتاب لبعده من المدينة، لكن لكثرة ذكره في الأحاديث زاع القلم بذكره.
قلت: سيأتي في السين المهملة ذكر المجد لسرع، وأنها بوادي تبوك على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة، وأنها آخر عمل المدينة، وهي بعد تبوك، وسيأتي في مدين أنها من أعراض المدينة، وهي في محاذاة تبوك.
وقال صاحب المسالك والممالك، كما في خط الأقشهري: وكانت قريظة والنضير ملوكا على المدينة على الأوس والخزرج، وكان على المدينة وتهامة في الجاهلية عامل من جهة مرزبان البادية، يجبى إليه خراجها.
ثم قال: ومن توابع المدينة ومخاليفها وقراها تيماء، وبها حصنها الأبلق الفرد، ومنها دومة الجندل، وهي من المدينة على ثلاث عشرة مرحلة، وحصنها المارد. انتهى.
تختم:
بضم النون وكسرها، وقيل: بتاءين الثانية تكسر وتضم، جبل بالمدينة.(4/37)
تربان:
بالضم ثم السكون، واد بين أولات الجيش وملل، قاله أبو زياد، وقال ابن هشام في المسير إلى بدر: قال ابن إسحاق: فسلك على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة، ثم على أولات الجيش، قال ابن هشام: ذات الجيش، ثم مر على تربان، ثم على ملل، هكذا في أصل معتمد، وتقدم في حدود الحرم أن ذات الجيش نقب ثنية الحفيرة، قال الأسدي: بين الحفيرة أي التي تنسب الثنية لها وبين ملل ستة أميال، انتهى؛ فتربان فيما بين ذلك، وبينه وبين ثنية مفرح موضع يقال له سمهان، قال كثير:
رأيت جمالها تعلو الثنايا ... كأن ذرى هوادحها البروج
وقد مرّت على تربان تحدى ... لها بالجزع من ملل وسيج
ترعة:
واد يلقى إضم من القبلة كما سبق، قال الزبيري عقبه: وفي ترعة يقول بشر السلمي:
أرى إبلى أمست تحن لقاحها ... بترعة ترجو أن أحل بها أبلى
وذكر ابن شبة في صدقات علي رضي الله تعالى عنه واديا يقال له ترعة بناحية فدك بين لابتي حرة.
ترن:
كزفر، ناحية بين مكة والمدينة.
تريم:
كحذيم، واد بين المضايق ووادي ينبع.
تسرير:
واد بحمى ضرية بين ضلعيها، وقال بعضهم فيه السرير بلفظ السرير الذي يجلس عليه، وهو خطأ، أنشد أبو زياد الكلابي:
إذا يقولون: ما يشفيك؟ قلت لهم: ... دخان رمث من التسرير يشفيني
تضارع:
بضم أوله وضم الراء، ولا نظير له، وروي بكسر الراء أيضا، ويقال بفتح أوله وضم الراء، اسم لحمى تضارع المتقدمة في العقيق، وتضارع وتضرع أيضا: جبلان لبني كنانة بتهامه أو بنجد.
تعار:
بالكسر وإهمال العين، وروي إعجامها، قال عرام، فيما بجهة أبلى ما لفظه:
ومن قبل القبلة جبل يقال له يرمرم، وجبل يقال له تعار، وهما عاليان لا ينبتان شيئا فيهما النمران كثيرة، قال لبيد:
عشت دهرا ولا يعيش مع ... الأيام إلا يرمرم وتعار(4/38)
التعانيق:
بالفتح وبعد الألف نون مكسورة وياء ساكنة وقاف، موضع بشق العالية، قال زهير:
صحا القلب عن سلمى وقد كان لا يسلو ... وأقفر من سلمى التّعانيق فالثقل
تعهن:
بكسر أوله وثالثه، وروي بفتحهما، وحكى أبو ذر الهروي أنه سمعه من العرب بذلك المكان بفتح ثالثه، قال: ومنهم من يضم أوله ويفتح العين ويكسر الهاء، وأغرب أبو موسى المزيني فضبطه بضم أوله وثانيه وتشديد الهاء، ووقع في رواية الإسماعيلي «دعهن» بالدال المهملة بدل المثناة، ويقال فيه «تعاهن» بالضم وكسر الهاء، وتقدم في المساجد عن الأسدي أن تعهن بعد السقيا التي بطريق مكة بثلاثة أميال لجهة مكة، وقال إنها عين ماء خربة، وكان عندها امرأة يقال لها أم عقي، يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بها فاستسقاها ماء، فأبت، فدعا عليها فمسخت صخرة، وذكر قوم أنها كانت تدعى أم حبيب الراعية، واختلفوا في اسمها وخبرها، انتهى.
وقال السهيلي: وبتعهن صخرة يقال لها أم عقي، روي أن امرأة كانت تسكن تعهن يقال لها أم عقي، فحين مر بها النبي صلى الله عليه وسلم يعني في سفر الهجرة استسقاها، فأبت، وذكر ما تقدم، قال: ومدلجة تعهن عند السقيا وهي المذكورة في سفر الهجرة، حيث قالوا:
سلك بذي سلم من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم أجاز القاحة، وقال عياض: تعهن عين ماء سمي به الموضع، وهي على ثلاث أميال من السقيا، وقال المجد: هي بين القاحة والسقيا، وهو مخالف لما سبق؛ لأن القاحة قبل السقيا، بميل فقط إلى جهة المدينة كما سيأتي عنه، وتعهن على ثلاثة أميال من السقيا، فكيف يكون بين القاحة والسقيا، لكن في وتعهن على ثلاثة أميال من السقيا، فكيف يكون بين القاحة والسقيا، لكن في حديث أبي قتادة في سؤاله الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال: تركته بتعهن، وهو قائل السقيا، وذلك بعد أن صاد أبو قتادة الحمار الوحشي بالقاحة؛ لأنه لم يكن أحرم كما في الصحيح.
فقوله: «وهو قائل السقيا» إن كان من القيلولة فالمراد أنه تركه بتعهن وهو يريد أن يقيل بالسقيا، فتعهن بين القاحة والسقيا كما قاله المجد، وكذا إن كان من القول، أي وهو قائل: اقصدوا السقيا، مع أني سألت بعض العارفين بهذه الأماكن، فقال: هي معروفة اليوم: القاحة مما يلي المدينة، ثم السقيا إلى جهة مكة، ثم تعهن بعدها، ثم سألت(4/39)
جماعة عن ذلك وكلهم أخبرني بذلك، وهو مخالف لظاهر الحديث، نعم روي «وهو قابل السقيا» بالباء الموحدة والضمير لتعهن كما نقله الحافظ ابن حجر، فلا تعرض فيه لكيفية ترتيب الموضعين، وأما ما رواه الإسماعيلي «وهو قائم بالسقيا» فهو أشكل، إلا أن يكون الضمير للغفاري، ويكون ذلك من كلام أبي قتادة، وانتهى كلام الغفاري بقوله تركته بتعهن، وهو بعيد جدا، وقال ابن قيس الرقيات:
أقفرت بعد عبد شمس كداء ... فكدى فالرّكن فالبطحاء
موحشات إلى تعاهن فالسق ... يا قفار من عبد شمس خلاء
تمنى:
بفتحين وتشديد النون المكسورة، أرض يطؤها المنحدر من ثنية هرشى يريد المدينة، وبها جبال تسمى البيض.
تناضب:
بضم أوله وكسر الضاد المعجمة، شعبة من شعب الدّوداء، وهو واد يدفع في العقيق، وأما التناضب بالفتح وضم الضاد المعجمة وكسرها فموضع آخر في حديث عمر، قال: لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص أبعدت أنا وهما، التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه، فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام وفتن فأفتن وقدمنا المدينة.
تهمل:
بفتح التاء والميم، موضع قرب المدينة، ويروى بالمثلاثة.
تيدد:
بفتح أوله وسكون المثناة التحتية ثم دالين مهملتين، تقدم في أسماء المدينة، وهو اسم موضع آخر من أودية الأجرد جبل جهينة، يلي وادي الحاضر به عيون صغار خيرها عين يقال لها أذينة، وعين يقال لها الطليل، وعيون تيدد كلها تدفع في أسنان الجبل فإذا أسهل بغراسها لم ينجب زرعها، وذلك أن صاحبها- وكان من جهينة- ذمها، وقال:
هي في الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا أسهلت تيدد» فما أسهل منها فلا خير فيه، نقله الهجري، وقال رجل من مزينة في شيء وقع بينهم وبين جهينة في الجاهلية:
فإن تشبعوا منا سباع رواوة ... فإن لها أكناف تيدد مرتعا
تيس:
بلفظ فحل المعز، أطم لبني عنان من بني ساعدة بمنازلهم.
تيم:
بفتحتين، عبر به ابن النجار ومن تبعه عن ثيت جبل شرقي المدينة، كما في حدود الحرم.
تيماء:
بالفتح والمد، بلدة على ثمان مراحل من المدينة، بينها وبين الشام، وسبق في تبوك أنها من توابع المدينة.(4/40)
حرف الثاء
الثاجة:
بالجيم المشددة، ماء يثج بحرض وبحراض ناحية أخرى.
ثافل:
الأصغر وثافل الأكبر بالفاء، جبلان بعدوة غيقة اليسرى، عن يسار المصعد من الشام إلى مكة، ويمين المصعد من المدينة، بينهما ثنية لا تكون رمية سهم، وهما لضمرة وهم أصحاب غلال ويسار، وبينهما وبين رضوى وغرور ليلتان، قاله عرام.
وقال الأسدي: الجبل الذي يقابل عين القشيري يمنة يقال له: ثافل، وهو يعاود الطريق مع العين التي تقابل الأثاية دون العرج بميلين.
ثبار:
ككتاب آخره راء، موضع على ستة أميال من خيبر، به قتل عبد الله بن أنيس أسير بن رزام اليهودي، ويروى بفتح أوله، وليس بشيء.
ثجل:
بالضم، موضع بشق العالية، تقدم شاهده في التعانيق.
ثرا:
بالكسر والقصر، موضع بين الرويثة والصفراء، أسفل وادي الجيّ.
ثريا:
بلفظ اسم النجم الذي في السماء، من مياه الضباب بحمى ضرية، ومياه لمحارب في جبل شعبي، قاله ياقوت.
ثعال:
كغراب، شعبة بين الروحاء والرويثة.
ثغرة:
بالضم والغين المعجمة ثم راء وهاء، ناحية من أعراض المدينة.
الثمام:
بالضم والتخفيف، ويقال الثمامة بلفظ واحدة الثمام للنبت المعروف، يضاف إليه صخيرات الثمام، ورواه المغاربة بالياء آخر الحروف بدل المثلاثة، وهو الموضع المعروف اليوم بالصخيرات، قال ابن إسحاق في المسير إلى بدر: مرّ على تربان، ثم على ملل، ثم على عميس الحمائم من مرتين، ثم على صخيرات اليمام، ثم على السيالة.
ثمغ:
بالفتح والغين المعجمة، مال بخيبر لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قاله المجد؛ لحديث الدارقطني أن عمر أصاب أرضا بخيبر يقال لها ثمغ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: احبس أصلها وتصدق بثمرتها، وفي البخاري أن عمر تصدق بمال يقال له ثمغ، وكان نخلا، الحديث، لكن تقدم في منازل يهود أن بني مزانة كانوا في شامي بني حارثة، وأن من آطامهم هناك الأطم الذي يقال له الشعبان في ثمغ صدقة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قاله ابن زبالة، وفي بعض طرق حديث صدقة عمر من رواية ابن شبة أن عمر رضي الله تعالى عنه أصاب أرضا من يهود بني حارثة يقال لها ثمغ.
وذكر الواقدي اصطفاف أهل المدينة على الخندق في وقعة الحرة، ثم ذكر مبارزة وقعت يومئذ في جهة ذباب إلى كومة أبي الحمراء، ثم قال: كومة أبي الحمراء قرية من ثمغ.(4/41)
وقال أبو عبيد البكري: ثمغ أرض تلقاء المدينة كانت لعمر، وذكره ابن شبة في صدقات عمر بالمدينة، وغاير بينه وبين صدقته بخيبر، وأورد لفظ كتاب صدقته، وفيه:
ثمغ بالمدينة وسهمه من خيبر، وروى عن عمرو بن سعيد بن معاذ قال: سألنا عن أول من حبس في الإسلام، فقال قائل: صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الأنصار، وقال المهاجرون: صدقة عمر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة وجد أرضا واسعة بزهرة لأهل رابح وحسيكة، وقد كانوا أجلوا عن المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أرضا واسعة منها براح ومنها ما فيه واد لا يسقي يقال له الحشاشين، وأعطى عمر منها ثمغا، واشترى عمر إلى ذلك من قوم من يهود، فكان مالا معجبا، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
إن لي مالا، وإني أحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احبس أصله وسبّل ثمره.
فهذا كله صريح في كونه بالمدينة في شاميها، فكأن ما في رواية الدارقطني من تصرف بعض الرواة، وأن كلا من صدقتيه يسمى ثمغا.
وعن ابن عمر قال: ثمغ أول ما تصدق به في الإسلام.
وعن ابن كعب: أول صدقة في الإسلام وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المسور: فقلت:
فإن الناس يقولون: صدقة عمر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ما أوصى له به مخيريق من أمواله على رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة وتصدق بها، وإنما تصدق عمر بثمغ حين رجع من خيبر سنة سبع، ورواه ابن شبة أيضا.
ثنية البول:
بالباء الموحدة، بين ذي خشب والمدينة.
ثنية الحوض:
روى الطبراني عن سلمة بن الأكوع قال: أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقيق، حتى إذا كنا على الثنية التي يقال لها ثنية الحوض التي بالعقيق أومأ بيده قبل المشرق الحديث، وكأنها أضيفت إلى حوض مروان المتقدم في قصر أبي هاشم بن المغيرة بالعقيق، وأظنها ثنية المدرج.
ثنية الشريد:
تقدمت في الفصل الرابع.
ثنية العاير:
بمثناة تحتية قبل الراء، ويقال بالغين المعجمة، والإهمال هو الأشهر، وهي عن يمين ركوبة، سلكها النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة.
ثنية عثعث:
منسوبة إلى جبل يقال له سليع، كما سيأتي في عثعث، ويؤخذ من كلام ابن شبة أنها الثنية التي بقرب الجبيل الذي عليه حصن أمير المدينة، بينه وبين سلع، فذلك الجبيل هو سليع.
ثنية مدران:
بكسر الميم، تقدمت في مساجد تبوك.(4/42)
ثنية المرّة:
بالكسر وتشديد الراء، قرب ماء يدعى الأحياء من رابغ، لقي بها أبو عبيدة بن الحارث في سريته جمع المشركين، وقال ياقوت: ثنية المرة بتخفيف الراء يشبه تخفيف المرة من النساء، في حديث الهجرة أن دليلهما يسلك بهما الخ، ثم ثنية المرة، ثم لقفا، وهو أيضا في حديث سرية عبيدة بن الحارث، انتهى.
وأما ثنية المرار:
فبضم الميم أو كسرها، كما ذكره مسلم على الشك، وفتحها بعضهم، قال عياض: أراها بجهة أحد.
قلت: الصواب ما قاله النووي من أنها عند الحديبية، قال ابن إسحاق: هي مهبط الحديبية، انتهى.
ثنية الوداع:
بفتح الواو، تقدم في أمكنة المدينة وحفظها من الوباء عن جابر أنه كان لا يدخل أحد المدينة إلا من ثنية الوداع، فإن لم يعشر بها مات قبل أن يخرج، فإذا وقف على الثنية قيل: قد ودع، فسميت ثنية الوداع، حتى قدم حروة بن الورد فلم يعشر، ثم دخل فقال: يا معشر يهود مالكم وللتعشير؟ قالوا: لا يدخلها أحد من غير أهلها فلم يعشر بها إلا مات، ولا يدخلها أحد من غير ثنية الوداع إلا قتله الهزال، فلما ترك عروة التعشير تركه الناس، ودخلوا من كل ناحية.
وروى ابن شبة عنه أيضا قال: إنما سميت ثنية الوداع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من خيبر ومعه المسلمون قد نكحوا النساء نكاح المتعة، فلما كان بالمدينة قال لهم: دعوا ما في أيديكم من نساء المتعة، فأرسلوهن، فسميت ثنية الوداع.
وفي الأوسط عنه قال: خرجنا ومعنا النساء اللاتي استمتعنا بهن، حتى أتينا ثنية الركاب، فقلنا: يا رسول الله هؤلاء النسوة اللاتي استمتعنا بهن، فقال: هن حرام إلى يوم القيامة، فودعناهن عند ذلك، فسميت بذلك ثنية الوداع، وما كانت قبل إلا ثنية الركاب.
وأخرجه البخاري بلفظ: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاء نسوة كنا تمتعنا بهن يطفن برحالنا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، فغضب وقام خطيبا وأثنى على الله ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ، فسميت ثنية الوداع.
وروى أبو يعلى وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فنزلنا ثنية الوداع، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصابيح، ورأى نساء تبكين تمتع منهن، فقال: حرم، أو قال: هذا المتعة والنكاح والطلاق والعدة والميراث.(4/43)
وقال ابن إسحاق في غزوة تبوك: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي معه على جدة عسكره أسفل منه نحو ذباب، وقال ابن سعد في سرية مؤتة دون دمشق: وخرج النبي صلى الله عليه وسلم مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم، وعسكروا بالجرف.
وفي البخاري عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقّى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك، وكل هذه الروايات متظاهرة على أن هذه الثنية هي المعروفة بذلك اليوم في شامي المدينة بين مسجد الراية الذي على ذباب ومشهد النفس الزكية، يمر فيها المار بين صدين مرتفعين قرب سلع.
ومن تأمل كلام ابن شبة في المنازل وغيرها لم يرتب في ذلك، وسوق المدينة كانت هناك.
وتقدم في الدار التي أحدثها ابن هشام هناك بسوق المدينة ما يشهد لذلك، وأن ابن مكدم لما قدم من الشام وأشرف على ثنية الوداع صاح: مات الأحول، وأن الناس سألوه عن دار السوق، فقال: اهدموها، فابتدرها الناس.
ويوضحه أيضا ما رواه ابن إسحاق في غزوة العالية حيث قال: أول من نذر بهم سلمة، غدا ومعه قوسه وهو يريد الغابة، فلما أشرف على ثنية الوداع نظر إلى الجبل، فعلا في سلع ثم صرخ: وا صباحاه، انتهى.
وأحد صدى هذه الثنية المعروفة اليوم متصل بسلع.
وفي خبر رواه البيهقي عن أبي قتادة أنه أسرج فرسه، ثم نهض حتى أتى الزوراء، فلقيه رجل، فقال: يا أبا قتادة، تشوط دابتك وقد أخذت اللقاح، وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها وأصحابه، فقال: أين؟ فأشار له نحو الثنية، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه جلوسا عند ديار، وذكر قصته في غزوة الغابة.
والزوراء: في قبلة هذه الثنية، وذباب: في شاميها.
وقال الحافظ ابن حجر في حديث الهجرة: أخرج ابن سعد في شرف المصطفى وروينا في فوائد الخلعي بسند معضل عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعي
قال: ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك.(4/44)
قلت: وذلك لأن ثنية الوداع ليست من جهة طريق مكة، على أني أقول: إن ذلك لا يمنع من كونه في الهجرة عند القدوم من قباء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ركب ناقته، وأرخى لها زمامها، وقال: دعوها فإنها مأمورة، ومر بدور الأنصار كما سبق، حتى مر ببني ساعدة، ودارهم في شاميّ المدينة قرب ثنية الوداع، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية حتى أتى منزله بها، وقد عرج النبي صلى الله عليه وسلم في رجوعه من بدر إلى ثنية الوداع؛ لما في مغازي ابن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم سلك حين خرج إلى بدر حتى ثقب بني دينار، ورجع حين رجع من ثنية الوداع.
وذكر البيهقي في الدلائل في القدوم من غزوة تبوك الخبر في قول النساء والصبيان والولائد طلع البدر علينا إلى آخره، ثم قال: وهذا يذكره علماؤها عند مقدمه المدينة من مكة، وقد ذكرناه عنده، إلا أنه إنما قدم المدينة من ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك، انتهى. وقد تقدم ما يوضح ذلك.
وقال عياض: ثنية الوداع موضع بالمدينة على طريق مكة، سمي بذلك لأن الخارج منها يودعه مشيعه، وقيل: لوداع النبي صلى الله عليه وسلم بعض المسلمين المقيمين بالمدينة في بعض خرجاته، وقيل: ودّع فيها بعض أمراء سراياه، وقيل: الوداع واد بمكة كذا قاله المظفر في كتابه، وحكى أن إماء أهل مكة قلنه في رجزهم عند لقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، خلاف ما قاله غيره من أن نساء أهل المدينة قلنه عند دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة والأول أصح؛ لذكر الأنصار ذلك مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فدل على أنه اسم قديم لها، اه.
وقال الحافظ ابن حجر في خبر السائب بن يزيد المتقدم: إن الداودي أنكره، وتبعه ابن القيم، وقال: ثنية الوداع من جهة مكة، لا من جهة تبوك، بل هي في مقابلها كالمشرق من المغرب، إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، قال ابن حجر عقبه:
ولا يمنع كونها من جهة مكة أن يكون الخارج إلى جهة الشام من جهتها.
ثم ذكر رواية الخليعات في قول النسوة، وقال: قيل كان ذلك عند قدوم الهجرة، وقيل: عند القدوم من غزوة تبوك، اه.
ومراد الداودي حيث وصف الثنية بما ذكره أنها موضع لا يسلكها الخارج إلى جهة الشام، فكيف يجاب بهذا؟ وسيأتي في المدرج أنه الثنية المشرفة على العقيق والمدينة، وأنها ثنية الوداع عند من ذهب إلى أنها من جهة مكة، فهي كما قال الداودي وقد تبعه المجد فصرح به في ترجمة المدرج، وقال هنا: هي ثنية مشرفة على المدينة، يطؤها من يريد مكة، وقيل: من يريد الشام، واختلف في تسميتها بذلك فقيل: لأنها موضع وداع المسافرين من المدينة إلى مكة، وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودّع بعض من خلفه بالمدينة في آخر(4/45)
خرجاته، وقيل: في بعض سراياه المبعوثة عنه، وقيل: الوداع اسم واد بمكة، والصحيح أنه اسم قديم جاهلي، سمي به لتوديع المسافرين، وهكذا قال أهل السير والتاريخ وأصحاب المسالك إنها من جهة مكة، وأهل المدينة اليوم يظنونها من جهة الشام، وكأنهم اعتمدوا قول ابن قيم الجوزية في هديه فإنه قال: من جهة الشام ثنيات الوداع، ولا يطؤها القادم من مكة البتة، ووجه الجمع أن كلتا الثنيتين تسمى بثنية الوداع، اه كلام المجد.
والظاهر أن مستند من جعلها من جهة مكة ما سبق من قول النسوة، وأن ذلك عند القدوم من الهجرة، مع الغافلة عما قدمناه في توجيهه، وهو في الحقيقة حجّة لمن ذكرها في جهة الشام، ولم أر لثنية الوداع ذكرا في سفر من الأسفار التي بجهة مكة، وما نقله المجد عن ابن القيم هو الموجود في هديه، فإنه قال في ذكر القدوم من تبوك ما لفظه:
فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعي
وبعض الرواة وهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، اه.
وهو مخالف لما نقله عند الحافظ ابن حجر، وإن سلم الجمع الذي ذكره المجد من أن كلا من الثنيتين يسمى بذلك فالمراد من الأخبار المتقدمة كلها الموضع المتقدم بيانه في شامي المدينة، وكذلك من حديث السباق في أمد الخيل المضمرة أنه من الغابة أو الخفيا إلى ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق؛ لانطباق المسافة المذكورة في ذلك على الموضع المتقدم، كما سبق في مسجد بني زريق، وكما سيأتي في الخفيا، مع أن ما بين بني زريق وثنية المدرج لا يصلح للسباق أصلا، وهو على نحو ضعفي ما ذكروه في المسافة.
ثور:
بلفظ فحل البقر، تقدم مستوفى في حدود الحرم.
ثيب:
تقدم في حدود الحرم أيضا.
حرف الجيم
الجار:
قرية كثيرة الأهل والقصور، بساحل المدينة، ترد السفن إليها، قاله في المشارق، وقال ياقوت: الجار مدينة على ساحل بحر اليمن، وهي فرضة المدينة، بينها وبين المدينة يوم وليلة، ينسب إليها عبد الملك الجاري مولى مروان بن الحكم، وسيأتي(4/46)
عن المجد في السرير أنه بقرب الجار، وهي فرضة أهل السفن الواردة من مصر والحبشة إلى المدينة، قال المجد عقبه: والجار بينه وبين المدينة يوم وليلة، انتهى. ومقتضاه أن الفرضة السرير، لا الجار، وسيأتي عنه في عدينة أن الجار بلد على البحر قرب المدينة.
جاعس:
بكسر العين ثم سني مهملتين، أطم بمنازل بني حرام، غربي مساجد الفتح.
جبار:
بالفتح وتخفيف الموحدة آخره راء، موضع بجهة الحباب من أرض غطفان.
الجبّانة:
كندمانة، أصله المقبرة، وهو موضع شامي المدينة، وسيأتي في ذباب عن البكري أنه بالجبانة، وسبق ذكرها في منازل القبائل، بمنزل بني الديل وبني ذكوان وبني مالك بن حمار، وكذا في أسراب البلاط، وكذا في حديث عمر لما زاد في المسجد من شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جبل بني عبيد:
بمنازلهم غربي مساجد الفتح.
جبل جهينة:
تقدم في منازلهم.
الجبوب:
بالفتح وموحدتين من تحت بينهما واو، الأرض الغليظة، وجبوب المصلى: بالمدينة في قول أبي قطيفة:
جبوب المصلّى أم كعهدي القرائن
قاله ياقوت:
الجثا:
بالضم وتخفيف الثاء المثلاثة والقصر، أصله الحجارة المجتمعة، وهو موضع بين فدك وخيبر.
الجثجاثة:
تقدم بيانها في آخر مساجد المدينة وأن سيل العقيق يفضي إليها، ثم إلى حمراء الأسد، والجثجاثة أيضا: ماء لغني بحمى فيد، وقال: بقرب حمى ضرية، ورأيته في كتابه بإسقاط الجيم الثانية، ولعله غلط من الناسخ، وقال: إنه أيضا بادية من بوادي المدينة.
جحاف:
بالفتح وتشديد الحاء المهملة، مال بالعالية، بجانب سميحة، ويقال له قديما: مال جحفاف، كان به أطم لبعض من كان هناك من اليهود.
الجحفة:
بالضم وسكون الحاء المهملة، أحد المواقيت، قرية كانت كبيرة ذات منبر، على نحو خمس مراحل وثلثي مرحلة من المدينة، وعلى نحو أربع مراحل ونصف من مكة، وكانت تسمى أولا «مهيعة» كما سيأتي.
الجداجد:
بجيمين ودالين مهملتين، جمع جديد، وهي الأرض المستوية، وفي سفر(4/47)
الهجرة: سلك بطن ذي كشب، ثم على الجداجد، ثم على الأجرد، قال المجد: وكأنها آبار؛ لقوله في الحديث «أتينا على بئر جدجد» قال أبو عبيد: الصواب بئر جد، يعني قديمة، ويقال «بئر جدجد» أيضا.
جد الأثافي:
بالضم والتشديد، البئر القديمة، والأثافي: جمع أثفية، وهي الحجارة التي يوضع عليها القدر، وهو موضع بالعقيق.
جد الموالي:
بالعقيق أيضا، قاله المجد، وتقدم في أودية العقيق: جد الموالي، ثم جد الأثافي، ثم ذو أثيفية.
ذو الجدر:
بسكون الدال، لغة في الجدار، مسرح على ستة أميال من المدينة بناحية قباء، كانت به اللقاح التي أغير عليها، وسيل بطحان يأخذ من ذي الجدار كما سبق عن ابن شبة، قال: والجدر قرارة في الحرة يمانية من حليات الحرة العليا حرة معصم وهو جبل.
جذمان:
كعثمان والذال معجمة، موضع به أطم من آطام المدينة، قطع تبّع نخله لما غزاهم، والجذم، القطع، قاله المجد. وتقدم أن تبعا أمر بحرق نخل أحيحة بن الجلاح الجحجبي لما تحصن بحصنه، وهو من الأوس، وتقدم قول بعض الخزرج مفتخرا عليهم:
هلم إلى الجلاح إذ رقّ عظمهم ... وإذ أصلحوا مالا بجذمان ضائعا
وقال قيس بن الخطيم لما ظهروا على الخزرج ببعاث:
كان رؤوس الخزرجيين إذ بدت ... كتائبنا تترى مع الصبح حنظل
فلا تقربوا جذمان إنّ حراره ... وجنته تأذى بكل فتحملوا
وأذى يأذى بمعنى تأذى يتأذى.
الجراديح:
بالفتح والدال المهملة آخره حاء، ثنيات سود بين سويقية ومثعر، وشاهدها في مثعر.
الجرف:
بالضم ثم السكون، قاله المجد، وهو تابع لياقوت في ذلك، والذي قاله أبو بكر الحازي وأبو عبيد البكري: إنه بضم أوله وثانيه.
وقال عياض: هو بضم الجيم والراء، موضع بالمدينة، فيه أموال من أموالها، وبه كان مال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو على ثلاثة أميال من المدينة من جهة الشام.(4/48)
وفي طبقات ابن سعد: مات المقداد بالجرف، على ثلاثة أميال من المدينة، فحمل على رقاب الرجال حتى دفن بالبقيع، وسبق في حدود العقيق أن الجرف ما بين محجّة الشام إلى القصاصين، وتقدم أن العرصة الكبرى التي بها بئر رومة تختلط بالجرف فتتسع، قالوا: سمي الجرف لأن تبعا مر به لما شخص من منزله بقناة فقال: هذا جرف الأرض، وكان يسمى قبل ذلك العرض. قال كعب بن مالك يوم أحد:
فلما هبطنا العرض قال سراتنا ... علام إذا لم نمنع العرض نزرع
وروى ابن زبالة أن تبعا بعث رائدا ينظر إلى مزارع المدينة، فأتاه فقال: قد نظرت، فأما قناة فحب ولا تبن، وأما الجرار فلا حب ولا تبن، وأما الجرف فالحب والتبن، وسيأتي في الزاي أن الزين مزرعة في الجرف ازدرعها النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي طبقات ابن سعد أن أبا بكر أقطع الزبير الجرف، وروى المجد أن عثمان رضي الله تعالى عنه خلج خليجا حتى صبّه في باطن بلد من الجرف، وجعله لبناته من نائلة بنت الفرافصة، وأنه استعمل فيه ثلاثة آلاف من سبي بعض الأعاجم، وذكر أن من أموال الجرف بئر جشم وبئر جمل.
جرّ هشام:
سقاية لهشام بن إسماعيل، تقدمت في قصر أبي هاشم بالعقيق.
الجزل:
بالفتح وسكون الزاي، لغة الحطب اليابس، يضاف إليه واد يلقى إضم بذي المروة، ويضاف إليه سقيا الجزل، وبه قبر طويس المخنّث المغنّي.
جزيرة العرب:
تقدم في أسماء المدينة على رأي، وقال الأعرابي: هي من حفر أبي موسى على خمس مراحل من البصرة إلى حضرموت إلى العذيب ومن جدة وسواحل اليمن إلى أطراف الشام، وقال الأصمعي: هي من العذيب إلى عدن أبين في الطول، والعرض من الأيلة إلى جدة، وهي أربعة أقسام: اليمن، ونجد، والحجاز، والغور، وهو تهامة. وقيل: سميت بذلك لإحاطة البحار بها من أقطارها، يعني بحر الحبشة والفرس ودجلة والفرات، وقيل: هي كل بلد لم يملكه الروم ولا فارس، ونسب للأصمعي، والذي رأيته في جزيرة العرب له ما تقدم.
جسر بطحان:
كان عنده سوق بني قينقاع، وتقدم في بطحان أن سيله حين يأتي يفضى إلى فضاء بني خطمة والأعرس، ثم يسير حتى يرد الجسر، ثم يستبطن وادي بطحان؛ فالجسر عند أعلى بطحان بناحية الموضع المعروف اليوم بزقاق البيض.
جفاف:
بالكسر وفاءين بينهما ألف، معروف بالعالية، به حدائق حسنة.
الجفر:
ما بلغ أربعة أشهر من أولاد الشاء، والبئر إذا لم تطو أو طوى بعضها، وهو(4/49)
اسم عين بناحية صريّة، وبقرب فرش ملل ماء يعرف اليوم بالجفر، وأظنه المعنى بقول الهجري عقب ما سيأتي عنه في معلاوين: وبمعلى الحرومة ماء يقال له جفر الرغباء، كان لطلق بن أسعد، ثم صار لعبد الله بن حسن.
الجلسي:
بالفتح، أرض نجد، والجلسي من أرض القبلية: ما ارتفع منها، والغوري: ما انهبط.
جلية:
تصغير الجلي وهو الواضح وزيادة هاء التأنيث، موضع قرب وادي القرى.
جماوات:
جمع جماء، بالفتح وتشديد الميم والمد، وهن ثلاث تقدمن في الفصل الرابع، وجعلهن المجد واحدة، فقال: الجماء جبل بالمدينة على ثلاثة أميال من ناحية العقيق إلى الجرف، قال الزمخشري: الجماء جبيل بالمدينة، سميت بذلك لأن هناك جبلين هي أقصرهما، فكأنها جماء، وقال أبو الحسن المهلبي: هما جماوان، وهما هضبتان على يمين الطريق، ثم حكى المجد تعددها على نحو ما قدمناه، وسبق شاهد الجماء في قصر سعيد بن العاص.
جمدان:
بالضم ثم السكون وإهمال الدال، من منازل أسلم، بين قديد وعسفان، قاله عياض، وعن أبي بكر بن موسى أنه جبل بين ينبع والعيص على ليلة من المدينة، وقيل: واد بين ثنية عرال وأمج.
وقال الأسدي: وخلف أمج بميل وادي الأزرق، وفي الوادي عين، وبين العين والوادي جبل يقال له جمدان، على يمين الطرق، وفي الحديث «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمدان، فقال: سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون» وقال الأزهري: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة على جبل يقال له بجدان، هكذا عنده بالباء الموحدة، وعند غيره جمدان تثنية جمد، وكأنه صلى الله عليه وسلم لما رآه ذكر قول زيد بن عمرو العدوى أو ورقة بن نوفل:
سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له ... وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد
فذكر أصحابه بتسبيح الجمد الذي هذا تلبيته في القديم، مع كونه جمادا، فإنه جبل لبني نصر بجهة نجد، ويذكر الجاهلية لذلك، وإن ذكر الله سبب السبق والتقدم، ويحتمل أنه لما كان الذكر مطلوبا في الصعود وهبوط الأودية قارن رؤية جمدان أحد الأمرين فذكرهم بذلك، أي هذا جمدان صعدتم ثنيته أو هبطتم واديه فاذكروا الله، أو هو سبب السبق، ويحتمل أيضا أنه صلى الله عليه وسلم تذكر برؤيته تلبية موسى عليه السلام عنده؛ لما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق فقال: كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية له جؤار، وجمدان بوادي الأزرق؛ فاتضح ما أشكل على ياقوت حيث قال: لا أدري ما الجامع بين(4/50)
سبق المفردين ورؤية جمدان، ومعلوم أن الذاكر سابق، قال: ولم أر أحدا ذكر في ذلك شيئا.
الجموح:
بالفتح، ما بين قباء ومران على جهة طريق البصرة، وذكر أبو عبيدة الجموح وعرفة، يعني الذي بمكة، ثم قال: والجموح الذي دون قباء، انتهى، وليس المراد قباء المدينة كما ستأتي الإشارة إليه، قال المجد: والجموح أيضا أرض لبني سليم، وبها كانت إحدى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث زيد بن حارثة إلى بني سليم فسار حتى ورد الجموح ناحية بطن نخل عن يسارها.
قلت: والذي يظهر أنها المذكورة أولا.
الجمة:
بالفتح وتشديد الميم، قال الكمال الدميري: عين بأحد أودية خيبر، سماها النبي صلى الله عليه وسلم قسمة الملائكة، يذهب ثلثا مائها في فلج، والثلث الآخر في فلج الآخر والمسلك واحد، وقد اعتبرت من زمان النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم يطرح فيها ثلاث خشبات أو تمرات تذهب اثنتان في الفلج الذي له الثلثان وواحدة في الآخر، ولا يقدر أحد أن يأخذ من ذلك الفلج أكثر من الثلث، ومن قام في الفلج الذي يأخذ الثلثين ليردّ الماء إلى الآخر غلبه الماء وفاض ولم يرجع إلى الفلج الآخر شيء يزيد على الثلث، قاله البكري وغيره، والفلج: النهر الصغير، اه.
الجناب:
بالكسر، موضع بعراض خيبر، وقيل: من منازل بني مازن، وقال نصر:
الجناب من ديار بني فزارة، بين المدينة وفيد، وفي طبقات ابن سعد: الجناب أرض عذرة وبلى، وقال سحيم الرياحي:
تحمل من وادي الجناب فناشني ... بأجماد جوّ من وراء الخضارم
جنفاء:
بالتحريك والمد والقصر، وقد يضم أوله أيضا في الحالتين، قال ابن سعد:
كان ينزل بها أبو الشموس البلوي الصحابي. وعن ابن شهاب: كانت بنو فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم، فراسلهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم، وأن يخرجوا عنهم، ولهم من خيبر كذا وكذا، فأبوا، فلما فتح الله خيبر قالوا: حظنا والذي وعدتنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: حظكم أو قال «لكم» ذو الرقيبة بجبل من جبال خيبر، فقالوا: إذا نقاتلك، فقال: موعدكم جنفاء، فخرجوا هاربين، وفي بعض طرقه: جنفاء ماء من مياه بني فزارة، وجنفاء أيضا: موضع بين خيبر وفيد، قال ياقوت: وهو الذي وقع ذكره في غزوة خيبر، وضلع الجنفاء: موضع بين الربذة وضرية، من ديار محارب، على جادة اليمامة إلى المدينة.(4/51)
الجنينة:
تصغير جنة للبستان، تقدمت في أودية العقيق، ثم ماء يدفع في إضم، وهو عقدة بين ظلم وملحتين، والجنينة أيضا: قرب وادي القرى، ووجه الجنينة: بين ضربة وحزن بني يربوع.
الجواء:
بالكسر والمد، ماء بحمى ضرية.
الجوانية:
بالفتح وتشديد الواو وكسر النون وياء مشددة وحكى تخفيفها، موضع، وقيل: قرية قرب المدينة، إليها ينتسب بنو الجواني العليون، قاله المجد، وقال عياض:
قال البكري: كأنها نسبت إلى جوان، وهي أرض من عمل المدينة من جهة الفرع، انتهى.
والصواب قول النووي: إنها موضع قرب أحد، في شامي المدينة، لذكرها في منازل يهود بالمدينة، وسبق أنه كان لهم بها من الآطام صرار والريان، وصارا لبني حارثة وسبقا في منازلهم، فالجوانية هناك بطرف الحرة الشرقية مما يلي الشام، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي عند أبي داود قال: قالت جارية لي كانت ترعى غنيمات قبل أحد والجوانية، الحديث.
الجبار:
ككتاب، موضع من أرض خيبر.
ذات الجيش:
بالفتح وسكون التحتية، ويقال: أولات الجيش، تقدمت في الحرم، وأنها على ستة أميال من ذي الحليفة وعن ابن وهب أنها على ستة أميال من العقيق، وكأنه أراد من طرفه الذي بذي الحليفة، ويقرب منه قول ابن وضاح: هي على سبعة أميال من العقيق، وقال ابن القاسم: بينها وبين العقيق عشرة أميال، وعن الثعلبي اثنا عشر ميلا، وقيل: بينهما ميلان، ويقال: إن قبر نزار بن معد وقبر ابنه ربيعة بن نزار بذات الجيش، وهي أحد منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وفي غزاة بني المصطلق، وهناك نزلت آية التيمم وهي ممر طريق مكة، وقد ذكرها الشعراء، قال عروة بن أذينة:
كاد الهوى يوم ذات الجيش يقتلني ... لمنزل لم يهج للشوق من صقب
وقال جعفر بن الزبير:
لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دارسا خلفا
كلفت بهم غداة البي ... ن مرّت عيسهم حزقا
تنكّر بعد ساكنه ... فأمسى أهله فرقا
علونا ظاهر البيدا ... ؤ المحزون من قلقا
ذو الجيفة:
بالكسر، بين المدينة وتبوك، وكذا اقتصر عليه المجد هنا، مع ذكره لما سبق عنه في مساجد تبوك.(4/52)
الجي:
بالكسر وتشديد الياء، تقدم في مساجد طريق مكة، قال الأسدي: وبه منازل وبئران عذبتا الماء، انتهى. وهو في سفح الجبل الذي سال بأهله وهم نيام، وينتهي عنده ورقان.
حرف الحاء
حاجر:
موضع غربي النقا إلى منتهى حرة الوبرة، من وادي العقيق، فمنه المدح وما والاه، وهذا هو المذكور في الأشعار، لا الذي هو في منازل الحاج بالبيداء، وحاجر الثنيا معروف بطريق مكة.
حاطب:
بكسر الطاء، طريق بين المدينة وخيبر، سيأتي حديثه في مرحب
حالة: واحدة الحال، موضع عند حرة الرجلاء.
حائط بني المداش:
بفتح الميم والدال المهملة وألف وشين معجمة، موضع بوادي القرى، أقطعهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسب إليهم.
حبرة:
بالكسر، أطم بالمدينة، قاله الصغاني، وقال ابن زبالة: إن بني قينقاع كان لهم أطمان عند الحشاشين، عند المال الذي يقال له خيبر.
قلت: وأظنه بالحاء ثم الموحدة.
حبس:
بالضم ثم السكون، جبل لبني مرة، قاله الزمخشري، وقال غيره: هو بين حرة بني سليم والسوارقية، وفي الحديث «تخرج نار من حبس سيل» قال نصر: حبس سيل بالفتح إحدى حرتي بني سليم، وهما حرتان، فيهما فضاء، كلتاهما أقل من ميلين، وقال الأصمعي: الحبس جبل مشرف على الثلما، لو انقلب لوقع على أهلها، وهم بنو قرة، وأنشد:
سقى الحبس وسميّ السحاب ولا يزل ... عليه روايا المزن والدّيم الهطل
والسد الذي أحدثته النار يسمى اليوم بالحبس.
الحبيش:
بالضم مصغرا آخره شين معجمة، أطم لبني عبيد بمنازلهم، غربي مساجد الفتح، عند جبل بني عبيد.
الحت:
بالضم والمثناة من فوق، من جبال القبلية لبني عرك من جهينة.
حثاث:
بالكسر وثاءين مثلثتين، عرض من أعراض المدينة.
الحجاز:
بالكسر، مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، قاله الشافعي، وقال عياض:
هو ما بين نجد والسّراة، قال الأصمعي: سميت بذلك لأنها حجزت بالحرار الخمس.
قلت: الذي في جزيرة العرب له بعد التقسيم السابق فيها أن ما ارتفع عن بطن الرمة(4/53)
فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق، وما احترمت به الحرار حرة سوران وحرة ليلى وحرة واقم وحرة النار وعامة منازل بني سليم إلى المدينة فذلك الشق كله حجاز، وما بين ذات عرق إلى البحر غور تهامة، وطرف تهامة من قبل الحجاز مدارج العرج، فكأنه الخامسة حرة بني سليم، أخذ من قوله عامة منازل بني سليم، وعليه فالمدينة حجازية بخلاف مكة، ولهذا قال بعده: والحجاز اثنتا عشرة دارا: المدينة، وخيبر، وفدك والمروة، ودار بلى، ودار أشجع، ودار مزينة، ودار جهينة، ونفر من هوازن، وجل سليم، وجل هلال، وظهر حرة ليلي. ثم قال: ومما يلي الشام شغب وبدا اللذين يقول فيهما جميل:
لعمري قد حبّبت شغبا إلى بدا ... إليّ، وأوطاني بلاد سواهما
والحد الثالث مما يلي تهامة بدر والسقيا ورهاط وعكاظ، والرابع شانه وودان، ثم ينعرج إلى الحد الأول بطن نجد، وقال في موضع آخر وأظنه تتمة كلام عن غيره ما لفظه:
والحجاز من تخوم صنعا من الغيلا وتبالة إلى تخوم الشام، وإنما سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد؛ فمكة تهامية، والمدينة حجازية. ثم قال: وقال عمارة: ما سال من حرة بني سليم وحرة ليلي فهو الغور حتى يقطعه البحر، وما سال من ذات عرق مغربا فهو الحجاز إلى أن تقطعه تهامة، وهو حجارة سود تحجز بين نجد وتهامة، وما سال من ذات عرق مقبلا فهو نجد إلى أن يقطعه العراق.
وقال الأصمعي: إنما سميت الحجاز حجازا لأنها احتجزت الجبال.
فدل على أن ما تقدم من كلام غيره على ما ذكر الأصمعي يكون الحجاز بمعنى المحجوز، وعلى ما تقدم عن غيره يكون بمعنى الحاجز، وحكاهما الدميري بقوله: سمي الحجاز حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، وقيل: لاحتجازه بالحرار الخمس، وهي حرة واقم، وحرة راجل بالراء والجيم، وحرة ليلى، وحرة بني سليم، وحرة النار، وحرة وبرة، انتهى.
وقال أبو المنذر: الحجاز ما بين جبلي طيئ إلى طريق العراق لمن يريد مكة، سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، وقيل لأنه حجز بين نجد والسراة، وقيل: لأنه حجز بين الغور والشام، وبين تهامة ونجد، وقال بعضهم: جبل السّراة أعظم جبال العرب حجزا، وهو الحد بين تهامة ونجد، وقال بعضهم: جبل السّراة أعظم جبال العرب حجزا، وهو الحد بين تهامة ونجد، وذلك أنه أقبل من قعر اليمن حتى بلغ أطراف الشام، فسمته العرب حجازا؛ لأنه حجز بين الغور وهو هابط وبين نجد وهو ظاهر، وأما ما انحاز إلى شرقيه فهو الحجاز.(4/54)
وقسم بعضهم جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن، وقال عرّام: الحجاز من معدن البصرة إلى المدينة، فنصف المدينة حجازي، ونصفها تهامي، ومن القرى الحجازية بطن نخل، ونجد أنخل جبل يقال له الأسود نصفه حجازي ونصفه نجدي، انتهى.
وقال ابن شبة: المدينة حجازية، وقال الحرقي: إن تبوك وفلسطين من الحجاز، وتقدم في ظهور نار الحجاز أن الشافعي نصّ على أن المدينة ومكة يمانيتان، مع الحديث الوارد في بيان الشام من اليمن، وأن النووي قال: المدينة ليست شامية ولا يمانية، بل حجازية، وتقدم في العروض من أسمائها أنها نجدية، وكأن بعض. الأسماء يطلق على بعض بحسب الاعتبار، وقد أكثر الشعراء من ذكر الحجاز، قال أشجع بن عمرو الأسلمي:
بأكناف الحجاز هوى دفين ... يؤرّقني إذا هدت العيون
أحنّ إلى الحجاز وساكنيه ... حنين الإلف فارقه القرين
وأبكى حين ترقد كلّ عين ... بكاء بين زفرته أنين
وقال أعرابي:
كفى حزنا أني ببغداد نازل ... وقلبي بأكناف الحجاز رهين
إذا عنّ ذكر للحجاز استفزّني ... إلى من بأكناف الحجاز حنين
حجر:
بالكسر وسكون الجيم بعدها راء، وعوام المدينة يفتحون الحاء، والصواب الكسر، قال عرّام عند ذكر نواحي المدينة وذكر الأرحضية، ثم قال: وحذاءها قرية يقال لها حجر، وبها آبار وعيون لبني سليم خاصة، وحذاءها جبل يقال له قبة الحجر، قاله المجد ظنا منه أن عرّاما أراد القرية المعروفة اليوم قرب الفرع بحجر بالفتح كحجر الإنسان، وعرّام لم يردها؛ إذ ليست بجهة الأرحضية، وبقرب الأرحضية اليوم موضع يعرف بالحجرية بالكسر، فيه آبار ومزارع، فهو الذي أراد عرّام وكذا ياقوت حيث قال:
حجر بالكسر ويروى بالفتح أيضا قرية من ديار بني سليم بالقرب من قله وذي رولان، انتهى.
والحجر بالكسر أيضا: قرية على يوم من وادي القرى، بين جبال، بها كانت منازل ثمود، وبيوتها في أضعاف جبال تسمى الأثالث، وهناك بئر ثمود.
حديلة:
كجهينة والدال مهملة، يضاف إليها منازل بني حديلة من بني النجار، وكان بها دار لعبد الملك بن مروان.
حراض:
بالضم آخره ضاد معجمة، واد من أودية الأشعر، في شامي حورة، ليس به إلا ماء سيح يقال له الثاجية.(4/55)
حربي:
كان اسما لما بين مسجد القبلتين إلى المذاد، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم وسماه صلحة، كما سيأتي في الصاد، قاله المجد هنا وخالفه في قاموسه فذكرها في الخاء المعجمة، وقال: سماها صالحة، وسنذكره في الخاء المعجمة لأنه الأظهر، ورأيته كذلك في خط المراغي، وقال: فسماها طلحة، وكذا هو في نسخة ابن زبالة.
حرض:
بضمتين وضاد معجمة، واد عند أحد، وقد تفتح راؤه، والأول أرجح؛ لأنه لغة الأشنان، وهو كثير النبات بذلك الوادي، ويقال له: «ذو حرض» من أجل ذلك، وقال حكيم بن عكرمة يتشوق إلى المدينة:
إلى أحد فذي حرض فمبنى ... قباب الحي من كنفي صرار
وبه أوقع أبو جبيلة بيهود فقالت سارة القرظية:
بأهلي رمة لم تغن شيئا ... بذي حرض تعفيها الرياح
وقال كثير:
أربع فحيّ معارف الأطلال ... بالجزع من حرض فهن بوال
قال ابن السكيت: حرض هنا واد من أودية قناة بالمدينة على ميلين، أي وهو المتقدم، قال: وذو حرض واد على خمسة أميال من معدن البصرة لبني عبد الله بن غطفان، له ذكر في شعر زهير.
حرة أشجع:
ستأتي في حرة النار.
حرة حقل:
بوادي آرة.
حرة الحوض:
بين المدينة والعقيق، يقال لها: حرة حوض زياد بن أبي سفيان، قاله ياقوت.
حرة راجل:
في بلاد بني عبس، نقله ياقوت عن أحمد بن فارس، قال النابغة:
تؤم بربعيّ كأن زهاءه ... إذا هبط الصّحراء حرة راجل
حرة الرّجلى:
بديار بني القين، بين المدينة والشام، سميت بذلك لأنه يترجل فيها ويصعب المشي، وفي الصحاح: حرة رجلى أرض مستوية، كثيرة الحجارة، يصعب المشي فيها، وفي القاموس: وحرة رجلى كسكرى ويمد، حرة خشنة يترجّل فيها، أو كثيرة الحجارة، وقال ابن شبة في صدقات علي: وله بحرة الرّجلاء من ناحية شعب زيد واد يدعى الأحمر شطره في الصدقة وشطره بأيدي آل مناع وبني عدي منحة من علي، وله أيضا بحرة الرّجلى واد يقال له البيضاء فيه مزارع وعفا، وهو في الصدقة، ثم قال: وله بناحية فدك بأعلى حرة الرجلى مال يقال له القصيبة، وسيأتي في روضة الأجداد أن وادي القصيبة قبلى خيبر وشرقي وادي عصر، وقال الراعي من أبيات:(4/56)
وقلت والحرة الرّجلاء دونهم ... وبطن لجان لما اعتادني ذكرى
صلى على عزّة الرحمن وابنتها ... ليلي وصلى على جاراتها الآخر
حرة رماح:
بضم الراء والحاء المهملة، وبالدهناء. قالت امرأة من العرب:
سلام الذي قد ظنّ أن ليس رائيا ... رماحا ولا من حرتيه ذرى خضرا
حرة زهرة:
بضم الزاي، من حرة واقم.
حرة بني سليم:
تحت قاع النقيع يعني الحمى شرقيا، وفيها رياض وقيعان، ويدفع ذلك في قاع البقيع كما نقله الهجري.
حرة شوران:
تأتي في الشين المعجمة، وهي صدر مهزور كما سبق.
حرة عباد:
حرة دون المدينة. قال عبيد الله بن ربيع:
أبيت كأني من حذار قضائه ... بحرة عباد سليم الأساود
حرة بني العضيدة:
بضم العين وفتح الضاد المعجمة، غربي وادي بطحان كما سبق في منازل القبائل.
حرة قباء:
قبل المدينة، لها ذكر في الحديث.
حرة ليلي:
مرة بن عوف بن سعد من غطفان، يطؤها الحاجّ الشامي في طريقه إلى المدينة، وعن بعضهم أنها من وراء وادي القرى من جهة المدينة، فيها نخل وعيون، وقال بعضهم: هي في بلاد لبني كلاب، قال الرماح المري وقد أمره عبد الملك بالمقام:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بحرّة ليلى حيث زينني أهلي
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وقطّعن عنّي حين أدركني عقلي
حرة معصم:
هي الحرة العليا التي بها ذو الجدر، منها يأخذ سيل بطحان.
حرة ميطان:
وهو جبل شرقي بني قريظة.
حرة النار:
بلفظ النار المحرقة، قرب حرة ليلى، وقيل: حرة لبني سليم، وقيل:
بمنازل جذام ويلي وعذرة، وفي القاموس: هي قرب خيبر، وقال عياض: حرة النار في حديث عمر من بلاد بني سليم بناحية خيبر، وقال نصر: حرة النار بين وادي القرى وتيماء من ديار غطفان وبها معدن. وذكر الأصمعي حرة فدك في تحديد بعض الأودية، ثم قال:
وحرة النار فدك، وفدك قرية بها نخيل وصوافي، فاقتضى أنها بفدك، وهي التي سالت منها النار التي أطفأها خالد بن سنان عن قومه، لما سبق في نار الحجاز أن قومه سالت عليهم نار من حرة النار في ناحية خيبر، تأتى من ناحيتين جميعا، وفي رواية: تخرج من جبل من حرة أشجع، وفي رواية: أنهم طلبوا منه إسالة الحرة نارا ليؤمنوا به، فدعا الله(4/57)
فسالت عليهم، قال الراوي: فرأيتنا نعشى الإبل على ضوء نارها ضلعا الربذة، وبين ذلك ثلاث ليال، وفي رواية: أن نار الحديان خرجت بحرة النار حتى كانت الإبل تعشى بضوئها مسيرة إحدى عشرة ليلة.
وفي الحديث أن رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال عمر: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: ممن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: حرة النار، قال: بأيها؟ قال: بذات اللظى، فقال عمر:
أدرك الحي لا يحترقوا وفي رواية «فقد احترقوا» قيل: إنه رجع إلى أهله فوجد النار قد أحاطت بهم.
ولها ذكر في شعر النابغة، وسماها أم صبار، وقال أبو المهند الفزازي:
كانت لنا أجبال حسمى فاللوى ... وحرة النار فهذا المستوى
ومن تميم قد لقينا باللوى ... يوم النّسار وسقيناهم روى
حرة واقم:
وهي حرة المدينة الشرقية، سميت برجل من العمالقة نزل بها، قاله المجد، وسبق قوله ابن زبالة عقب ذكر واقم أنه أطم بني عبد الأشهل، وبه سميت تلك الناحية واقما، وله يقول شاعرهم:
نحن بنينا واقما بالحرّة ... بلازب الطين وبالأصرّه
وتسمى أيضا حرة بني قريظة؛ لأنهم كانوا بطرفها القبلي، وحرة زهرة؛ لمجاورتها لها كما سيأتي، وكان بها مقتلة الحرة كما سبق، وتقدم حديث «يقتل بحرة زهرة خيار أمتي» وفي رواية «فلما وقفت بحرة زهرة وقف واسترجع» .
وفي كتاب الحرة عن عبد الله بن سلام أنه وقف بحرة زهرة زمن معاوية، فقال:
هاهنا أجد صفة في كتاب يهوذا الذي لم يغير ولم يبدّل، مقتلة تقتل في هذه الحرة، قوم يقومون يوم القيامة واضعي سيوفهم على رقابهم حتى يأتوا الرحمن تبارك وتعالى فيقفوا بين يديه فيقولون: قتلنا فيك.
وروى ابن زبالة أن السماء أمطرت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لأصحابه: هل لكم في هذا الماء الحديث العهد بالعرش لنتبرك به، ولنشرب منه، فلو جاء من مجيئه ركب لتمسّحنا به، فخرجوا حتى أتوا حرة واقم وشراجها تطرد، فشربوا منها وتوضؤوا، فقال كعب: أما والله يا أمير المؤمنين لتسيلنّ هذه الشّراج بدماء الناس كما تسيل بهذا الماء، فقال عمر: إيها الآن دعنا من أحاديثك، فدنا منه ابن الزبير فقال: يا أبا إسحاق ومتى ذلك؟ فقال: إياك يا عبيس أن تكون على رجلك أو يدك.(4/58)
وقال عبد الرحمن بن سعيد الذي أبوه أحد العشرة، وكان ممن حضر وقعة الحرة.
فإن تقتلونا يوم حرّة واقم ... فنحن على الإسلام أول من قتل
الأبيات المتقدمة، قاله المطري، ونسبها المجد لمحمد بن وجرة الساعدي.
حرة بني بياضة:
وأما الحرة الغربية فحرة بني بياضة وما اتصل بها، وبها كان رجم ماعز كما يوضحه رواية ابن سعد في قصته.
حرة الوبرة:
محركة، وجوّز بعضهم سكون الموحدة، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، ولها ذكر في حديث أهبان، كذا قاله المجد هنا، وسيأتي حديث أهبان في الوبرة، وأن المجد ذكر فيها ما يقتضي بعدها عن المدينة، والمعتمد ما هنا، لما سبق في قصر عروة بالعقيق أنه كان يقال لموضعه «خيف حرة الوبرة» وقال الهجري: مزارع عروة وقصره في حرة الوبرة.
وسبق في حاجر أنه غربي النقا إلى منتهى حرة الوبرة، فهي المشرفة على وادي العقيق، ولهذا صح في مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر عنه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال: يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أي بذي الحليفة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة. قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق.
حزرة:
بالفتح وسكون الزاي، من أودية الأشعر، يفرغ في القفارة، سكانه بنو عبد الله بن الحصين الأسلميون، وبه المليحة، وبأسفلها العين التي تدعى سويقة.
حزم بني عوال:
بقرب الطرف، وأحد مياهه بئر ألية المتقدمة، وقال ياقوت: السد ما سماه في حزم بني عوال جبيل لغطفان في أعمال المدينة.
حزن:
ضد السهل، اسم لطريق بين المدينة وخيبر، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من سلوكه، وسلك مرحبا، كما سيأتي، وحزن بني يربوع من أكرم مراتع العرب، فيه رياض وقيعان، وهو المراد بقولهم «من ترّبع الحزن وشتّى الصّمان وتقيظ الشرف فقد أخصب» .
حسنى:
بالفتح ثم السكون وآخره ألف مقصورة قبلها نون، جبل قرب ينبع، قاله ابن حبيب، وحسنى أيضا: صحراء بين العذيبة والجار.(4/59)
قلت: وحسنى أيضا: أحد صدقات النبي صلى الله عليه وسلم المتقدمة، لكن ضبطها المراغي بالضم ثم السكون.
حسيكة:
تصغير حسكه لواحد حسك السّعدان، موضع بطرف ذباب، كان به ناس من يهود، قاله الواقدي، وقال أبو الفتح الإسكندري: هو موضع بين ذباب ومساجد الفتح، وله ذكر في شعر كعب بن مالك، وقال ابن شبة: قال محمد بن يحيى: سألت عبد العزيز بن عمران: أين حسيكة؟ فقال: ناحية أرض ابن ماقية إلى قصر ابن أبي عمرو الرابض إلى قصر ابن الشمعل إلى أداني الجرف كله، وفيها يقول الشاعر:
صفحناهم بالسّفح يوم حسيكة ... صفائح بصرى والردينية السّمرا
فما قام منهم قائم لقراعنا ... ولا ناهبونا يوم نزجرهم زجرا
الحشا:
بلفظ الحشا الذي تنضم عليه الضلوع، موضع عن يمين آرة، قال أبو جندب الهذلي:
تتبعتهم ما بين حدّاء والحشا ... وأوردتهم ماء الأثيل فعاصما
وقال أبو الفتح الإسكندري: الحشا واد بالحجاز، والحشا جبل الأبواء.
حشان:
بالكسر جمع حشّ بالفتح وهو البستان، اسم أطم ليهود على يمين الطريق من شهداء أحد، والحشاشين بصيغة الجمع أيضا بمنازل بني قينقاع.
حش طلحة:
بن أبي طلحة الأنصاري نقدم في الدور المطيفة في المسجد من الشام، وفي البلاط الذي في شامي المسجد، وتلخص منه أنه موضع الدور التي في شامي المسجد، وما يلي المشرق منه كان لعبد الرحمن، لما سبق عن ابن سعد أول الفصل الثالث والثلاثين من الباب الرابع.
حصن:
خل بفتح الخاء المعجمة، هو قصر خل الآني.
حضوة:
بالكسر وسكون الضاد المعجمة وفتح الواو، موضع قرب المدينة وقيل:
على ثلاث مراحل منها، كان اسمه عفوة فسماه النبي صلى الله عليه وسلم حضوة، وفي الحديث شكا قوم من أهل حضوة إلى عمر وباء أرضهم، فقال: لو تركتموها، فقالوا: معاشنا ومعاش آبائنا ووطننا، فقال للحارث بن كلدة: ما عندك في هذا؟ فقال: البلاد الوبيئة ذات الأدغال والبعوض، وهي عش الوباء، ولكن ليخرج أهلها إلى ما يقاربها من الأرض العذبة إلى مرتبع النجم، وليأكلوا البصل والكراث، ويباكروا السمن العربي فيشربوه، وليمسكوا الطيب، ولا يمشوا حفاة، ولا يناموا بالنهار، فإن فعلوا أرجو أن يسلموا، فأمر عمر بذلك.(4/60)
حضير:
كأمير، قاع فيه آبار ومزارع، إليه ينتهي النقيع ويبتدئ العقيق.
حفياء:
بالفتح ثم السكون ثم مثناة تحتية وألف ممدودة، موضع قرب المدينة، منه أجريت الخيل المضمرة إلى ثنية الوداع، قاله الحازمي، ورواه غيره بالقصر، وضبطه بعضهم بالضم والقصر، وأخطأ، ورواه بعضهم حيفاء بتقديم الياء على الفاء، قال البخاري: قال سفيان: من الحفياء إلى الثنية خمسة أميال أو ستة، وقال ابن عقبة: ستة أو سبعة، قال المجد: وهي على مقربة من البركة فيما يغلب على الظن.
قلت: هي شامي البركة مغيض العين؛ لأن الهجري قال بعد ذكر مجتمع السيول بزغابة: ثم يفضي إلى سافلة المدينة وعين الصورين بالغابة، وبها الحفياء صدقة الحسن بن زيد بن علي، وعبارة الزبير: فينحدر على عين أبي زياد والصورين في أدنى الغابة، فالحفياء التي عبر عنها الهجري بالحيفاء بأدنى الغابة، ولهذا جاء في حديث السباق: من الغابة إلى موضع كذا.
حفير:
كأمير، فعيل من الحفر، موضع بين مكة والمدينة، وحفر: موضع آخر بجنبه، قاله المجد، وقال ياقوت: الحفر بفتح الحاء وسكون الفاء من مياه على بطن واد يقال له مهزول، انتهى. والمعروف بالحفر اليوم منزل الأشراف من آل زبان وبه آبار ومزارع، وليس هو الحفر المذكور في حدود جزيرة العرب؛ لأن ذاك محرك، وهو بقرب البصرة، والحفير مصغر: منزل بين ذي الحليفة وملل، فيسلكه الحاج، قاله ياقوت.
قلت: وهو المعبر عنه فيما سبق في الألفاظ الواقعة في بيان حدود الحرم بالحفيرة.
حقل:
بالفتح وسكون القاف، يضاف إليه آرة حقل.
الحلاءة:
بالكسر والمد ويفتح واحدها حلاة، قال عرّام بعد ذكر ميطان ومعاليه لشوران ما لفظه: وبحذائه جبل يقال له: سن، وجبال كبار شواهق يقال لها الحلاءة لا تنبت شيئا ولا ينتفع بها إلا ما يقطع للأرحاء والبناء ينقل إلى المدينة وما حولها.
وأنشد الزمخشري لعدي بن الرقاع:
كانت تحلّ إذا ما الغيث أصبحها ... بطن الحلاءة فالأمراء فالسررا
حلائي صعب:
واديان أو جبلان على سبعة أميال من المدينة أو نحوها، قاله المجد، وتقدم أن سيل بطحان يأتي من حلائي صعب، والظاهر أنهما من الحلاءة المتقدمة؛ لاتحاد الجهة والمسافة.
الحلائق:
كأنه جمع حليقة، قال ابن إسحاق: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطحاء ابن أزهر فنزل الحلائق يسارا، ورواها بعضهم الخلائق بالخاء المعجمة، قاله المجد، وهو المرجح عندي؛ لما سيأتي في الخلائق بالخاء المعجمة.(4/61)
حلّيت:
بالكسر كسكين، تقدم في حمى فيد، وقال امرؤ القيس:
ألا يا ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات
فغول فحلّيت فنفى فمنعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات
الحليف:
مصغر الحلف، منزل بنجد ينزله مصدق بني كلاب إذا خرج من المدينة.
الحليفة:
كجهينة تصغير الحلفة بفتحات واحد الحلفاء وهو النبات المعروف، قال المجد: هي قرية بينها وبين المدينة ستة أميال، وهي ذو الحليفة، وميقات أهل المدينة، وهو من مياه بني جشم بالجيم والشين المعجمة، بينهم وبين بني خفاجة من عقيل، انتهى.
وهو تابع لعياض في ذلك، وزاد كونها قرية، وقد سبق أول الباب عند ذكر حدود وادي العقيق عن عياض أن بطن وادي ذي الحليفة من العقيق وأن العقيق من بلاد مزينة، وهذا هو المعروف، وما ذكره هنا من نسبة ذي الحليفة إلى بني جشم إلى آخره غير معروف، ولعله اشتبه عليه بالحليفة التي من تهامة، وما ذكره من المسافة موافق لتصحيح النووي كالغزالي أنها على ستة أميال، ويشهد له قول الشافعي كما في المعرفة: قد كان سعيد بن زيد وأبو هريرة يكونان بالشجرة على أقل من ستة أميال فيشهدان الجمعة ويدعانها، والمراد بالشجرة ذو الحليفة، لما سبق في مسجد الشجرة بها، وبها أيضا مسجد المعرس.
وفي سنن أبي داود: سمعت محمد بن إسحاق المديني قال: المعرس على ستة أميال من المدينة.
وسبق أن المعرس دون مصعد البيداء، فهو بأواخر الحليفة، فلا يخالف ما سبق عن الشافعي، وعليه يحمل ما رواه أحمد والطبراني والبزار واللفظ له عن أبي أروى قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمدينة ثم آتى ذا الحليفة قبل أن تغيب الشمس وهي على قدر فرسخين، وقال الرافعي كابن الصلاح: ذو الحليفة على ميل من المدينة، وهو مردود تدفعه المشاهدة، ولعلهما اعتبرا المسافة مما يلي قصور العقيق؛ لأنها عمارات ملحقة بالمدينة، وقال الأسنوي: الصواب المعروف المشاهد أنها على فرسخ، وهو ثلاثة أميال أو نزيد قليلا، انتهى.
وذكر ابن حزم أنها على أربعة أميال من المدينة، وقد اختبرت ذلك بالمساحة فكان من عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب السلام إلى عتبة باب مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة ذراع واثنين وثلاثين ذراعا ونصف ذراع بذراع اليد(4/62)
المتقدم تحديده في حدود الحرم، وذلك خمسة أميال وثلثا ميل ينقص مائة ذراع، وكان المسجد ليس أول ذي الحليفة؛ لأن أبا عبد الله الأسدي من المتقدمين قال: الرحلة من المدينة إلى ذي الحليفة وهي الشجرة ومنها يحرم أهل المدينة وهي على خمسة أميال ونصف مكتوب على الميل الذي وراءها قريب من العالمين: ستة أميال من البريد، ومن هذا الميل أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى؛ فالميل المذكور عند المسجد لأنه محل إهلاله صلى الله عليه وسلم، وأول ذي الحليفة قبله بنصف ميل.
وقوله «قريب من العالمين» يحتمل أن يريد علمي مدخل ذي الحليفة لقوله في تعداد الأعلام «وعلى مدخل ذي الحليفة علمان» فيفيد ما تقدم من عدم التعرض لانتهاء الحليفة، لكنه ذكر كما سبق في البيداء أن على مخرج ذي الحليفة علمين آخرين، وأن البيداء فوق علمي الحليفة إذا صعدت من الوادي، فيحتمل أن يريد بقوله «قريب من العالمين» علمي مخرج الحليفة، فيفيد أن المسجد قرب آخر الحليفة، وهو الظاهر؛ لأن البيداء هي الموضع المشرف على ذي الحليفة وذلك على نحو غلوة سهم من مسجدها. والأعلام المذكورة غير موجودة اليوم.
وقال العز بن جماعة: وبذي الحليفة البئر التي تسميها العوام بئر علي، وينسبونها إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه؛ لظنهم أنه قاتل الجن بها، وهو كذب، ونسبتها إليه غير معروفة عند أهل العلم، ولا يرمي بها حجر ولا غيره كما يفعل بعض الجهلة، انتهى.
وسبق في مسجد ذي الحليفة ذكر اتخاذ الدرج لآبارها، وسبق في خاتمة الفصل الرابع عن ابن شبة أن فوق ذي الحليفة التي هي الحرم في القبلة قبل حمراء الأسد موضعا من أعلى العقيق سمي بالحليفة العليا، فيكون المحرم الحليفة السفلى، ولم أره في كلام غيره ولعله الخليقة بالخاء المعجمة والقاف لما سيأتي فيها. وأما ذو الحليفة المحرم فهي أيضا من وادي العقيق، ولذا روى أبو حنيفة كما في جامع مسانيده عن ابن عمر قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، من أين المهل؟ فقال: يهلّ أهل المدينة من العقيق، ويهلّ أهل الشام من الجحفة، ويهلّ أهل نجد من قرن، فأطلق على ذي الحليفة اسم العقيق.
وذو الحليفة أيضا: موضع بين حاذة وذات عرق، ومنه حديث رافع بن خديح قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصبنا نهب غنم، وتقدم في مساجد تبوك ما يقتضي أن ذا الحليفة أيضا موضع آخر بين المدينة وتبوك.
الحماتان:
موضع قرب البليدة، يضاف إليه حرم الحماتين، وسبق شاهده في البلدة والبليدة.(4/63)
حمام:
بالضم والتخفيف، وذات الحمام: موضع بين مكة والمدينة، وعميس الحمام: موضع بين الفرش وملل كما سيأتي في العين المهملة.
ذات الحمّاط:
تقدم في أودية العقيق والمساجد، وشاهده في المرابد، بالضم وتشديد الميم، حائط تقدم في منازل بني بياضة.
حمت:
بالفتح ثم السكون، اسم لجبل ورقان كما في الحديث الآتي فيه؛ وقال عرّام: ويقطع بين قدس الأبيض وقدس الأسود عقبة يقال لها حمت، وسيأتي في شاهد ريم ذكر حمت، قال الزبير: حمت وصوري من صدور أتمة ابن الزبير
حمراء الأسد:
بالمد والإضافة، والأسد الليث، موضع على ثمانية أميال من المدينة، إليه انتهى رسول الله صلى الله وسلم مرجعه من أحد في طلب المشركين وأقام به ثلاثة أيام، وكان المسلمون يوقدون كل ليلة أكثر من خمسمائة نار لترى من المكان البعيد، وسبق في العقيق ما يقتضي أن حمراء الأسد فوق ثنية الشريد
قال الهجري: وبها قصور لغير واحد من القرشيين، قال: وهي ترى من العقيق نحو طريق مكة، أي عن يسارها، قال: وفي شق الحمراء الأيسر منشد، وفي شقها الأيمن شرقيا خاخ.
قلت: وعلى يسار المصعد من ذي الحليفة جبل يعرف بحمراء نملة، والظاهر أنه منشد، وليس هو حمراء على ما سنوضحه في النون، والحمراء: اسم لمواضع أخرى:
منها موضع فيه نخل كثير قبيل الصفراء.
الحميراء:
تصغير حمراء، موضع ذو نخل بنواحي المدينة، قال ابن هرمة:
كأن لم تجاورنا بأكناف مثعر ... وأخزم أو خيف الحميراء ذي النخل
ولعله الحمراء التي بقرب الصفراء، ولكن صغرها.
الحمى:
تقدم مبسوطا في الفصل السادس والسابع.
الحمية:
ذكرها صاحب «المسالك والممالك» في توابع المدينة ومخاليفها.
الحنان:
بالفتح والتخفيف، لغة الرحمة، اسم كثيب كبير كالجبل، قاله الزمخشري، وقال نصر: الحنان بالفتح والتشديد رمل قرب بدر، وهو كثيب عظيم كالجبل. وقال ابن إسحاق في مسير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر بعد سلوكه لذفران: ثم ارتحل منه فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط إلى بلد يقال له الدبة، وترك الحنان بيمين، وهو كثيب الجبل عظيم، انتهى.
قلت: وإليه يضاف «أبرق الحنان» وهو لبني فزارة، قال كثير:(4/64)
لمن الديار بأبرق الحنان
وقال ياقوت: إنه غير الحنان السابق ذكره.
حنذ:
بالفتح وإعجام الذال، قرية لأحيحة بن الجلاح من أعراض المدينة فيها نخل، أنشد ابن السكيت لأحيحة يصف نخلها فإنه يتأبر منها دون أن يؤبر:
تأبّري يا خيرة الفسيل ... تأبري من حنذ وشولي
إن ضنّ أهل النخل بالفحول
حورتان:
اليمانية والشامية، ويعرفان اليوم بحورة وحويرة، وهما من أدية الأشعر، وسيأتي لهما ذكر آخر الحروف في يين.
قال الهجري: وهما لبني كلب وبني ذهل من عوف ثم من جهينة، قال: وبحورة اليمانية واد يقال له ذو الهدى؛ لأن شداد بن أمية الذهلي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعسل شاره منه، فقال له: من أين شرته؟ قال: من واد يقال له ذو الضلالة، فقال: لا، بل ذو الهدى، انتهى.
وسيأتي في خضرة عن أبي داود ما يشهد لأصل ذلك.
وحورة اليمانية معروفة، والوادي غير معروف، ويحمل منها إلى المدينة العسل والحنطة الرياضية التي تأتي من ناحية الفغرة، وبها موضع يقال له المخاضة يستخرج منه الشب، ويقال له ذو الشب.
وحورة الشامية لبني دينار مولى كلب بن كبير الجهني، وكان طبيبا لعبد الملك بن مروان، ومن ولده عرارة الخياط صاحب القيان بالمدينة، وكان عبد الملك قد اتخذ بحورة الشامية بقاعا ومنزلا يقال له ذو الحماط.
حوضي:
تقدم في مساجد تبوك.
حوض عمرو:
بالمدينة، منسوب إلى عمرو بن الزبير بن العوام.
حوض مروان:
تقدم مع بئر المغيرة في قصر أبي هاشم المغيرة بن أبي العاص بالعقيق.
حوض ابن هاشم:
بالحرة الغربية، تقدم في بئر إهاب وبئر فاطمة.
حيفاء:
لغة في الحفياء كما تقدم فيها.
حرف الخاء
خاخ:
بخاءين، ويقال: روضة خاخ، قال الهجري: وفي شق حمراء الأسد الأيمن خاخ، بلد به منازل لمحمد بن جعفر بن محمد وعلي بن موسى الرضى وغيرهما، وبئر(4/65)
محمد بن جعفر وعلي بن موسى ومزارعهما تعرف بالحضر، وخاخ تقدمت في أودية العقيق، ولهذا ذكرها ابن الفقيه في حدوده، وقال: هي بين شوظا والناصفة.
وقال الواقدي: روضة خاخ بقرب ذي الحليفة، على بريد من المدينة، وفي حديث علي: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، الحديث، ورواه بعضهم عن حاطب بن عبد الرحمن، وبين فيه أن المكان على قريب من اثنى عشر ميلا من المدينة، ويقرب خاخ من خليقة عبد الله بن أبي أحمد، جاء في رواية ابن إسحاق: فأدركوها بالخليقة خليقة ابن أبي أحمد.
وقد أكثر الشعراء من ذكر خاخ، قال الأحوص:
طربت وكيف تطرب أم تصابى ... ورأسك قد توشّع بالقتير
لغانية تحلّ هضاب خاخ ... فأسقف فالدوافع من حضير
وقال أيضا:
يا موقد النار بالعلياء من إضم ... أوقد فقد هجت شوقا غير مضطرم
يا موقد النار أوقدها فإن لها ... سنا يهيج فؤاد العاشق السدم
نار يضئ سناها إذ تشب لنا ... سعدّية ذكرها يشفى من السقم
وما طربت لشجو أنت نائله ... ولا تنورت تلك النار من إضم
ليست لياليك في خاخ بعائدة ... كما عهدت ولا أيام ذي سلم
فغنى فيه معبد، وشاع الشعر، فأنشد لسكينة بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما، وقيل: عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، فقالت: قد أكثر الشعراء في خاخ، لا والله ما انتهى حتى أنظر إليه، فبعثت إلى مولاها فند، فحملته على بغلة وألبسته ثياب خز من ثيابها، وقالت: امض بنا نقف على خاخ، فمضى بها، فلما رأته قالت: ما هو إلا ما أرى؟
قال: ما هذا إلا هذا، فقالت: والله لا أريم حتى أوتي بمن يهجوه، فجعلوا يتذكرون شاعرا قريبا إلى أن قال فند: أنا والله أهجوه، قالت: قل، فقال: خاخ خاخ خاخ أخ، ثم تفل عليه كأنه تنخّع، فقالت: هجوته ورب الكعبة، لك البغلة وما عليك من الثياب.
خاص:
واد بخيبر، فيه الأموال القصوى الوحيدة وسلالم والكثيبة والوطيح.
خبء:
بالفتح وسكون الموحدة بعدها همزة، واد بالمدينة إلى جنب قباء، وقيل:
هو بالضم واد ينحدر من الكاثب، ثم يأخذ ظهر حرة كشب، ثم يسير إلى قاع أسفل من قباء، والخبء أيضا: موضع بنجد.
الخبار:
كسحاب، تقدم في مسجد فيفاء الخبار من مساجد المدينة، ويقال: فيف(4/66)
الخبار، وفي القاموس: الخبار مالان من الأرض واسترخى، وجحرة الجرذان وفي المثل «من تجنّب الخبار، أمن من العثار» وفيفاء أوفيف الخبار: موضع بنواحي عقيق المدينة، انتهى.
وقال ابن شهاب: كان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة كانوا مجهودين مضرورين، فأنزلهم عنده، فسألوه أن نيحيهم من المدينة، فأخرجهم إلى لقاح له بكتف الخبار وراء الحمى، وقال ابن إسحاق: وفي جمادى الأولى غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فسلك على نقب بني دينار من بني النجار، ثم على فيفاء الخبار، قال الحارثي: وجد به مضبوطا مقيدا بخط ابن الفرات بالحاء المهملة والباء المشددة، والصواب المشهور الأول.
خبان:
كعثمان، جبل بين معدن النقرة وفدك.
خبراء العذق:
بكسر العين المهملة وفتح الذال المعجمة ثم قاف، قاع بناحية الصمّان، وفي القاموس: أنه موضع بناحية الصمان كثير السّدر والماء.
خبراء صائف:
بين مكة والمدينة، قال شاعر:
ففدفد عبود فخبراء صائف ... فذو الجفر أقوى منهم ففدافده
خبزة:
بلفظ واحدة الخبز المأكول، حصن من أعمال ينبع.
الخرّار:
بالفتح ثم التشديد من أودية المدينة، وقيل: ماء بالمدينة، وقيل: موضع بخيبر، وقيل: بالحجاز، وقيل: بالجحفة، وفي شامي مثعر غدير يقال له الخرار، وسبق ذكر بواط والخرار فيما يلقى سيل إضم، والخرار في سفر الهجرة الظاهر أنه بالجحفة، وقال ابن إسحاق: وفي سنة واحد، وقيل سنة اثنتين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز، فرجع ولم يلق كيدا.
خربي:
كحبلى منزلة لبني سلمة فيما بين مسجد القبلتين إلى المذاد، غيرها صلى الله عليه وسلم وسماها صالحة تفاؤلا بالخرب، قاله المجد في القاموس، خلاف ما سبق عنه في الحاء المهملة، ولعل الصواب ما هنا.
الخرماء:
تأنيث الآخرم للمشقوق الشفة، عين بوادي الصفراء.
خريق:
كأمير، واد عند الجار يتصل بينبع.
خريم:
كزبير، ثنية بين جبلين بين المدينة والجار، وقيل: بين المدينة والروحاء، كان عليها طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من بدر، قال كثير:(4/67)
فأجمعن بينا عاجلا وتركنني ... بفيفا خريم قائما أتبلّد
الخزيمية:
بالضم وفتح الزاي، منزلة للحاج العراقي بين الأجفر والثعلبية.
خشاش:
كسحاب، وهما خشاشان، وهما جبلان من الفرع قرب العمق، وله شاهد في العمق.
خشب:
بضمتين آخره باء موحدة، واد على ليلة من المدينة، له ذكر في الحديث والمغازي، وهو ذو خشب المتقدم في الأودية التي تصبّ في إضم، وفي مساجد تبوك، وكان به قصر لمروان بن الحكم ومنازل لغير واحد، وبه نزل بنو أمية لما أخرجوا إلى الشام قبيل وقعة الحرة حتى تلاحقوا به، ثم أرسل إليهم عبد الله بن حنظلة، فأخرجوا منه أقبح الإخراج، وقال شاعر:
أبت عيني بذي خشب تنام ... وأبكتها المنازل والخيام
وأرّقني حمام بات يدعو ... على فنن يجاوبه حمام
الخشرمة: واد قرب ينبع، يصب في البحر.
خشين:
تصغير خشن، جبل، قال ابن إسحاق: غزا زيد بن حارثة جذام من أرض خشين، وفي المثل «إن خشينا من خشن» وهما جبلان أحدهما أصغر من الآخر.
الخصي:
فعيل من خصاه نزع خصيته، أطم كان شرقي مسجد قباء، على فم بئر الخصي لبني السلم، والخصي أيضا: اطم في منازل بني حارثة.
خضرة:
بفتح أوله وكسر ثانية، من القرى المتقدمة في آرة، وأرض لمحارب بنجد، وقيل: تهامة، وقال ابن سعد: كان بها سرية أبي قتادة إلى خضرة، وهي أرض محارب بنجد، وقال أبو داود: غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا تسمى عفرة سماها خضرة، وشعب الضلالة سماها شعب الهدى، وبني الزنية سماهم بني الرشدة، قال الخطابي: عفرة بفتح العين وكسر الفاء نقب، الأرض التي لا تنبت شيئا، فسماها خضرة على معنى التفاؤل حتى تخضر.
الخطمى:
تقدم في مساجد تبوك.
خفينن:
بفتح أوله وثانيه ثم مثناة تحتية ساكنة ونونين الأولى مفتوحة، واد وقيل:
قرية- بين ينبع والمدينة، وقيل: شعبتان واحدة تدفع في ينبع والآخرى تدفع في الخشرمة، قال كثيّر:
وهاج الهوى أظعان عزّة غدوة ... وقد جعلت أقرانهنّ تبين(4/68)
تأطّرن بالميثاء ثم تركنه ... وقد لاح من أثقالهن شجون
فأتبعتهم عينيّ حتى تلاحمت ... عليها قنان من خفينن جون
خفيّة:
بفتح أوله وكسر ثانيه ثم مثناة تحتية مشددة، موضع بعقيق المدينة، قاله المجد أخذا من ابن الفقيه المتقدم عن الزبير عده في أودية مسيله.
الخلائق:
أرض بنواحي المدينة، كانت لعبد الله بن أحمد بن جحش، قاله المجد، وهو جمع الخليقة الآتية، قال الهجري: سيل العقيق بعد خروجه من النقيع يلقاه وادي ريم، وهما إذا اجتمعا دفعا في الخليقة خليقة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، وبها مزارع وقصور ونخيل لغير واحد من آل الزبير وآل أبي أحمد، انتهى، وسيأتي عن المجد أنها على اثني عشر ميلا من المدينة، وسبق عن المطري أن سيل النقيع يصل إلى بئر عليّ العليا المعروفة بالخليقة.
قلت: هي معروفة اليوم في درب المشيان، وهي خليقة عبد الله المذكورة، وسيأتي في نقب مياسير أنه حد الخلائق خلائق الأحمديين، وأن الخلائق آبار، فالبئر المذكورة إحداها، وفي تهذيب ابن هشام عن ابن إسحاق في غزوة العشيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، ثم ارتحل فنزل الخلائق بيسار، وسلك شعبة يقال لها شعبة عبد الله، وذلك اسمها، ثم ضرب الماء حتى دخل بليل فنزل بمجتمعه ومجتمع الضّبوعة، ثم سلك الفرش فرش ملل حتى لقي الطريق بصخيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق.
وقوله: «الخلائق» بالخاء المعجمة في نسخة معتمدة، وقال صخر بن الجعد:
أتنسين أياما لنا بسويقة ... وأيامنا بالجزع جزع الخلائق
وقال الحزين الديلي:
لا تزرعنّ من الخلائق جدولا ... هيهات إن رتعت وإن لم ترتع
خلائق:
والخلائق أيضا: فلاة بذروة الصمان تمسك ماء السماء في صفاة خلقها الله فيها وأخواتها حريقة، قاله الأزهري.
خلائل:
بالضم، موضع بالمدينة، قال ابن هرمة:
احبس على طلل ورسم منازل ... أقوين بين شواحط وخلائل
خلص:
بالفتح وسكون اللام وصاد مهملة، تقدم في آرة أنه واد فيه قرى، وعن حكيم بن حزام قال: لقد رأيت يوم بدر وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سدّ الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيد به محمد صلى الله عليه وسلم، فما كانت إلا الهزيمة وهي الملائكة.(4/69)
خل:
موضع بين مكة والمدينة قرب مرجح، وسيأتي شاهده فيه. وخل المضاف إليه قصر خل بالمدينة سيأتي أنه الطريق التي عنده في الحرة.
خليقة
بالقاف كسكينة، هي المتقدمة في الخلائق، وقال المجد: هي منزل على اثني عشر ميلا من المدينة، بينها وبين ديار سليم.
خم
بالضم، اسم رجل شجاع أضيف إليه الغدير الذي بقرب الجحفة، أو اسم واد هناك، وقال النووي: اسم لغيضة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إليها، وقال الحافظ المنذري: إنه لا يولد بهذه الغيضة أحد فيعيش إلى أن يحتلم إلا أن يرحل عنها لشدة ما بها من الوباء والحمى بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في نقل حمى المدينة إليها، وتقدم عن الأسدي أن على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة عن الطريق حذاء العين المسجد المتقدم ذكره، قال: ويليها العيضة، وهي غدير خم، وهي على أربعة أميال من الجحفة، وكأن العين التي أشار إليها عين خم التي يتقى شرب مائها، فيقال: إنه ما شرب منه أحد إلا حمّ، وقال عرّام: ودون الجحفة على ميل غدير خم، وواديه يصب في البحر، لا ينبت غير المرخ والعشر، والغدير من نحو مطلع الشمس لا يفارقه ماء أبدا من ماء المطر وبه أناس من خزاعة وكنانة غير كثير.
الخندق:
قال المطري، وتبعه من بعده: حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق طولا من أعلى وادي بطحان غربي الوادي مع الحرة إلى غربي مصلى العيد ثم إلى مسجد الفتح ثم إلى الجبلين الصغيرين اللذين في غربي الوادي، وجعل المسلمون ظهورهم إلى جبل سلع، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم قبّته على القرن الذي في غربي سلع في موضع مسجد الفتح اليوم، والخندق بينهم وبين المشركين وفرغ من حفره بعد ستة أيام، وتجمع فيه جميع المسلمين، وهم يومئذ ثلاثة آلاف، انتهى. وكأنه أخذه من قول ابن النجار، والخندق اليوم باق، وفيه قناة تأتي من عين بقباء، تأتي إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح، قال: وفي الخندق نخل أيضا، وقد انطم أكثره وتهدمت حيطانه، انتهى.
والموضع الذي ذكره من الخندق، لا أنه منحصر فيه؛ فقد روى الطبراني عن عمرو بن عوف المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّ الخندق من أجمة الشيخين طرف بني حارثة عام حزّب الأحزاب حتى بلغ المداحج فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، واحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت.
وسيأتي أن الشيخين أطمان شامي المدينة بالحرة الشرقية، وأما المداحج فلا ذكر لها(4/70)
في بقاع المدينة، وقد روى البيهقي في دلائل النبوة حديث عمرو بن عوف بلفظ: خط رسول صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب من أجم السمر طرف بني حارثة حتى بلغ المداد، ثم قطع أربعين ذراعا بين كل عشرة، وذكر نحو ما سبق في الاحتجاج في سلمان، والمذاد:
بطرف منازل بني سلمة مما يلي مساجد الفتح وجبل بني عبيد. ولمنازلهم ذكر في الخندق من جهة الحرة الغربية.
قال ابن سعد: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق وكّل بكل جانب منه قوما، وكان المهاجرون من ناحية راتج إلى ذباب، وكانت الأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل بني عبيد، وكان سائر المدينة مشككا بالبنيان فهي كالحصن، وخندقت بنو دينار من عند خربى إلى موضع دار ابن أبي الجنوب اليوم، وخندقت قبلهم بنو عبد الأشهل مما يلي راتجا إلى خلفها أي خلف بني عبد الأشهل، وهو طرف بني حارثة، قال: حتى جاء الخندق وراء المسجد، وفرغوا من حفره في ستة أيام، انتهى.
وقد أوضح ذلك الواقدي في كتاب الحرة، فنقل أنه لما دنا عسكر يزيد تشاور أهل المدينة في الخندق، واختلفوا أياما، ثم عزموا على الخندق خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية.
قال حنظلة بن قيس الزرقي: عملنا في الخندق- أي عام الحرة- خمسة عشر يوما، وكان لقريش ما بين راتج إلى مسجد الأحزاب، وللأنصار ما بين مسجد الأحزاب إلى بني سلمة، وللموالي ما بين راتج إلى بني عبد الأشهل، ثم ذكر فتح بعض بني حارثة طريقا في الخندق من قبلهم لأهل الشام كما سبق.
فتلخص أن الخندق كان شامي المدينة من طرف الحرة الشرقية على طرف الحرة الغربية؛ لأن منازل بني سلمة لسند الحرة الغربية كما سبق.
وقوله في رواية ابن سعد «وخندقت بنو دينار من عند خربى» أي منازل بني سلمة «إلى موضع دار ابن أبي الجنوب» أي التي في غربي بطحان قرب المصلى، فهو خندق آخر غير الأول، ولهذا قال كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه من الباب فيما قبل في الخندق من الشعر على ما ذكره ابن إسحاق:
بباب الخندقين كأن أسدا ... شوابكهن تحمين العرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا ... على الأعداء شوسا معلمينا
لننصر أحمدا والله حتى ... نكون عباد صدق مخلصينا
وقال ابن إسحاق: وكان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي،(4/71)
وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حر، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أحكموه، وكان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدوّ منها، انتهى.
فهذا الجانب هو الذي تقدم بيانه، والمراد بجعل ظهورهم إلى سلع من جهة الشام والمغرب، وما ذكره المطري في مضرب القبة مردود كما بيناه في مسجد ذباب، وكأنه ظن لحصره الخندق فيما ذكره أن موضع مسجد الفتح هو المسمى بذباب؛ لأن الوارد أنه صلى الله عليه وسلم ضرب قبته على ذباب.
وفي تفسير الثعلبي عن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب، ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا، واستعاروا من بني قريظة مثل المعاول والفؤوس وغير ذلك، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ترغيبا للمسلمين، وربما كان يحفر حتى يعيا ثم يجلس حتى يستريح، وجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله نحن نكفيك، فيقول:
أريد مشاركتكم في الأجر، وذكر ما تقدم في الاحتجاج في سلمان، ثم قال: وكنت، أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني في ستة من الأنصار في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا كنا تحت ذوباب فأخرج الله من بطن الخندق صخرة مرو كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان أرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال له ذلك، فهبط مع سلمان الخندق فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة- حتى لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، ثم ضربها الثانية، وذكر مثل ما تقدم، ثم ضربها الثالثة فكسرها، وبرق منها برق، وذكر مثل ما تقدم، قال: فأخذ بيد سلمان ورقى، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: أرأيتم ما يقول سلمان؟
فقالوا: نعم يا رسول الله، قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومداين كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها،(4/72)
فأبشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله وعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] وأنزل الله في هذه القصة قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:
26] انتهى.
وقوله «ذو باب» كذا هو بالواو بعد الذال، فإن صحت الرواية به فهو اسم لذباب أيضا؛ لأنه مضرب القبة في الخندق، ولم أر من ذكر ذو باب في بقاع المدينة.
وروى الواقدي في سيرته أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يضرب يوم الخندق بالمعول، فصادف حجرا صلدا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول وهو عند جبل بني عبيد، فضرب ضربة فذهبت أولها برقة إلى اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت أخرى إلى الشام، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة نحو المشرق، وكسر الحجر عند الثالثة، فكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: والذي بعثه بالحق لصار كأنه سهلة، وكان كلما ضرب ضربة يتبعه سلمان ببصره فيبصر عند كل ضربة برقة، فقال سلمان: رأيت المعول كلما ضربت به أضاء ما تحته، فقال: أليس قد رأيت ذلك؟ قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في الأولى قصور اليمن، ثم رأيت في الثانية قصور الشام، ورأيت في الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن، وجعل يصفه لسلمان، فقال: صدقت والذي بعثك بالحق إن هذه لصفته، فأشهد أنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه فتوح يفتحها الله عليكم بعدي يا سلمان، ليفتحن الشام ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، ولتفتحن اليمن، ولتفتحن هذا المشرق ويقتل كسرى فلا يكون كسرى بعده، قال سلمان رضي الله تعالى عنه: فكلّ هذا قد رأيت.
وما تقدم من فراغ الخندق في ستة أيام هو المعروف، لكن قال الحافظ ابن حجر: إن في مغازي ابن عقبة أنهم أقاموا في عمله قريبا من عشرين ليلة، وعند الواقدي أربعا وعشرين، وفي الروضة للنووي خمسة عشر يوما، وفي الهدى لابن القيم: أقاموا شهرا، انتهى. والذي في الهدى: وأقام المشركون شهرا يحاصرون، وكذا ما نقله عن الروضة إنما هو في الحصار، وكذا ابن عقبة إنما ذكر ذلك في الحصار كما سبق في السنة الخامسة، لكن نقل ابن سيد الناس عن ابن سعد أن المدة في عمل الخندق ستة أيام، ثم قال: وغيره يقول: بضع عشرة ليلة، وقيل: أربعا وعشرين.(4/73)
خويفة:
ذكرها صاحب «المسالك والممالك» في توابع المدينة ومخاليفها.
خيبر:
اسم ولاية مشتملة على حصون ومزارع ونخل كثير، والخيبر بلسان اليهود:
الحصن، ولذلك سميت بخيابر أيضا، لكثرة حصونها.
وقال أبو القاسم الزجاجي: سميت بخيبر أخي يثرب ابني قانئة بن مهليل بن إرم بن عبيل، وعبيل: أخو عاد، وعم الربذة وزرود والسفرة، وكان أول من نزل بها، وهي على ثلاثة أيام من المدينة، على يسار حاج الشام، نزلها النبي صلى الله عليه وسلم قريبا من شهر، وافتتحها حصنا حصنا، فأول ما افتتح حصن ناعم، ثم العموص حصن ابن أبي الحقيق، واختار سبايا منهن صفية، ثم جعل بيدنا الحصون والأموال حتى انتهى إلى الوطيح والسلالم فكانا آخر ما فتح، فحاصرهم بضع عشرة ليلة، حتى إذا أيقنوا بالهلكة صالحوه على حقن دمائهم وترك الذرية، على أن يخلوا بين المسلمين وبين الأرض والصفراء والبيضاء والبزة إلا ما كان منها على الأجساد، وأن لا يكتموه شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم فغيبوا مسكا كان لحيي بن أخطب فيه حليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى نظفر بالمسك، فقتل ابن أبي الحقيق وسبى نساءهم وذراريهم، وأراد أن يجلى أهل خيبر فقالوا: دعنا نعمل في هذه الأرض فإن لنا بذلك علما، فأقرهم وعاملهم على الشّطر من التمر والحب، وقال: نقركم على ذلك ما شئنا أو ما شاء الله، فكانوا بها حتى أجلاهم عمر بعد ذلك.
وروى ابن شبة عن حسيل بن خارجة أن أهل الوطيح وسلالم صالحوا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك له خاصة، وخرجت الكثيبة في الخمس، وهي مما يلي الوطيح وسلالم، فجمعت شيئا واحدا؛ فكانت مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقاته، وهو يقتضي أن بعض خيبر فتح عنوة وبعضها صلحا، وبه يجمع بين الروايات المختلفة في ذلك، وهو الذي رواه ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب قال: فتح بعضها عنوة وبعضها صلحا، والكثيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح، قلت لمالك: وما الكثيبة؟ قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق.
قلت: المراد أن الكثيبة بخيبر، لا أنها كل أرضها، لما سبق.
وروى ابن زبالة حديث «ميلان في ميل من خيبر مقدس» وحديث «خيبر مقدسة، والسوارقية مؤتفكة» وحديث «نعم القرية في سنيّات المسيح خيبر» يعني زمان الدجال.
وتوصف خيبر بكثرة التمر والنخل، قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
أتفخر بالكتان لما لبسته ... وقد لبس الأنباط ريطا مقصرا
وإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا(4/74)
وتوصف أيضا بكثرة الحمى، قدمها أعرابي بعياله فقال:
قلت لحمىّ خيبر استعدّي ... هاك عيالي فاجهدي وجدّي
وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذا الجند
فحم ومات وبقي عياله.
خيط:
بلفظ واحد الخيوط، أطم كان لبني سواد على شرف الحرة شرقي مسجد القبلتين.
الخيل:
بلفظ الخيل التي تركب، يضاف إليه بقيع الخيل المتقدم في سوق المدينة عند دار زيد بن ثابت، والخيل أيضا: جبل بين مجنب وصرار، له ذكر في المغازي، وروضة الخيل: بأرض نجد.
حرف الدال
دار القضاء:
تقدمت في باب زيادة أبواب المسجد.
دار ابن مكمل:
تقدمت في الدور المطيفة بالمسجد.
دار النابغة:
تقدمت في مسجد دار النابغة.
دار نخلة:
مضافة إلى واحدة النخل، تقدمت في سوق المدينة.
الدبة:
بفتح أوله وتشديد ثانيه كدبة الدهن، وقد تخفف، موضع بمضيق الصفراء يقال له «دبة المستعجلة» قال نصر: كذا يقوله المحدثون بالتخفيف، والصواب الأول؛ لأن معناه مجتمع الرمل، والدبة أيضا: موضع بين أضافر وبدر اجتاز به النبي صلى الله عليه وسلم بعد ارتحاله من ذفران يريد بدرا، وفي القاموس: الدبة بالضم موضع قرب بدر.
در:
بالفتح وتشديد الراء، غدير بأسفل حرة بني سليم على النقيع، سقى ماله الربيع كله.
درك:
بفتحتين، موضع كانت فيه وقعة بين الأوس والخزرج في الجاهلين، ويروى بسكون الراء، أظنه الذي سبق في بئر دريك مصغرا.
دعان:
بالفتح، بين المدينة وينبع، وإياه عنى معاوية رضي الله تعالى عنه بقوله «اللاتي في الغابة، وأما دعان فنهاني عن نفسه» ويأتي شاهده في ضأس.
الدف:
بلفظ الدف الذي ينقر به، موضع في حدان بناحية عسفان.
الدماخ:
بالكسر وآخره خاء معجمة، جبال ضخام بحمى ضرية، ودمخ الدماخ:
جبل هو أعظمها.
دهماء مرضوض:
موضع بنواحي حمى البقيع لمزينة، قال ابن معن بن أوس المزني:(4/75)
فدهماء مرضوض كأن عراصها ... بها نضو محذوف جميل محافده
الدهناء:
بفتح أوله وسكون ثانيه ونون وألف ممدودة وتقصر، موضع بين المدينة وينبع، والدهناء أيضا: سبعة أحبل بالحاء المهملة- من الرمل بديار تميم، بين كل حبلين شقيقة، من أكثر بلاد الله كلأ مع قلة مياه، وإذا أخصبت وسعت العرب كلهم لسعتها وكثرة شجرها، وساكنها لا يعرف الحمّى لطيب تربتها وهوائها، ويصب واديها في منعج ثم في الدومة.
الدوداء:
بالمد، موضع قرب ورقان.
دوران:
كحوران، واد عند طرف قديد مما يلي الجحفة.
الدومة:
بالفتح، تقدمت في بئر أريس، المعروف اليوم بذلك حديقة قرب بني قريظة، وإلى جانبها الدويمة مصغرة.
دومة الجندل:
بضم أوله وفتحه، وأنكر ابن دريد الفتح، وفي رواية «دوما الجندل» وعدها ابن الفقيه من أعمال المدينة، سميت بدوما بن إسماعيل عليه السلام، وقال الزجاجي: دومان بن إسماعيل، وقال ابن الكلبي: دوما بن إسماعيل. قال: ولما كثر ولد إسماعيل بتهامة خرج دوما حتى نزل موضعه دومة، وبنى به حصنا فقيل «دوما» ونسب الحصن إليه، وقال أبو عبيد: دومة الجندل حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طيى.
قال: ودومة من القريات من وادي القرى، وذكر أن عليها حصنا حصينا يقال له «مارد» وهو حصن أكيدر الملك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وجّه إليه خالد بن الوليد من تبوك، وقال له: ستلقاه يصيد الوحش، وجاءت بقرة وحشية فحكت قرونها بحصنه، فنزل إليها ليلا ليصيدها، فهجم عليه خالد فأسره وقتل حسانا أخاه، وافتتح دومة عنوة، وقدم بأكيدر معه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بجير الطائي:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
ثم صالحه النبي صلى الله عليه وسلم على دومة الجندل، وأقره على الجزية، وكان نصرانيا، ونقض أكيدر الصلح بعد، فأجلاه عمر إلى الحيرة، فنزل بقرب عين التمر، وبني منازل سماها دومة باسم حصنه بوادي القرى، قاله المجد، وفيه نظر؛ لما سيأتي في وادي القرى.
وقال ابن سعد: دومة الجندل طرف من الشام، وبينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم غزاها ونزل بساحة أهلها، فلم يلق أحدا، فأقام بها أياما وبث السرايا.(4/76)
وقال ابن هشام في غزوة دومة: إن النبي صلى الله عليه وسلم رجع قبل أن يصلحها، وقيل: كان منزل أكيدر أولا دومة الحيرة، وكان يزور أخواله من كلب فخرج معهم للصيد، فرفعت لهم مدينة متهدمة لم يبق إلا حيطانها مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها، وغرسوا الزيتون وغيره فيها، وسموها دومة الجندل، فرقا بينها وبين دومة الحيرة، وكان أكيدر يتردد بينهما.
وزعم بعضهم: أن تحكيم الحكمين كان بدومة الجندل، وفي كتاب الخوارج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: مررت مع أبي موسى بدومة الجندل، فقال: حدثني صلى الله عليه وسلم أنه حكم في بني إسرائيل في هذا الموضع حكمان بالجور، وأنه يحكم في أمتي حكمان بالجور في هذا الموضع، قال: فذهبت الأيام حتى حكم هو وعمرو بن العاص فيما حكما، قال: فلقيته فقلت: يا أبا موسى قد حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فالله المستعان، كذا أورده المجد.
الدويخل:
بالضم مصغرا، جبل بني عبيد، قال المطري: هو أحد الجبلين الصغيرين غربي وادي بطحان ومساجد الفتح.
حرف الذال
ذات أجدال:
بالجيم بمضيق الصفراء
ذات القطب:
من أودية العقيق كما سبق.
ذات النّصب:
بضم النون والصاد المهملة وباء موحدة، موضع بمعدن القبلية أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني، وفي الموطأ أن ابن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة، قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربع برد.
ذباب:
كغراب وكتاب لغتان، قال البكري: ذباب جبل بجبانة المدينة، وسبق في المساجد بيان أنه الجبل الذي عليه مسجد الراية، وتقدم في الخندق ما يقتضي أن اسمه ذو باب أيضا.
ذرع:
اسم بئر بني خطمة المتقدمة.
ذروان:
بمنازل بني زريق قبلى الدور التي في جهة قبلة المسجد، وما والى ذلك، يضاف إليه بئر ذروان المتقدمة.
ذفران:
بفتح أوله وكسر ثانيه ثم راء وآخره نون، واد تقدم بيانه في مساجد طريق مكة اليوم.
ذو حده:
قال البيضاوي في قوله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ [التوبة:(4/77)
48] إن ابن أبي وأصحابه تخلفوا عن تبوك بعد ما خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي حدة أسفل من ثنية الوداع، وعن ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره يومئذ على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب، كذا في تهذيب ابن هشام، وفي دلائل النبوة للبيهقي عن ابن إسحاق: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبي على ذي حدة أسفل منه.
ذهبان:
بفتحات وباء موحدة ونون، جبل لجهينة أسفل من ذي المروة، بينه وبين السقيا، وقرية بين حدة وبين قديد، قاله ابن السكيت.
حرف الراء
رائع:
بهمزة بعد الألف، يقال: فرس رائع أي جواد، وشيء رائع، أي حسن، كأنه يروع لحسنه أي يبهت، وهو فناء من أفنية المدينة قاله ياقوت، كذا قال المجد، والذي رأيته في المشترك لياقوت أنه بياء بعد الألف غير مهموزة، وسبق ذكره في قصر عنبسة بن عمرو بالعقيق، وفي جر هشام بن إسماعيل.
رابغ:
بموحدة بعد الألف ثم غين معجمة، واد من الجحفة، ورابغ أيضا قال الهجري: فلق بطرف أسقف به غدير، واسمه القديم رابوغ كما سبق في غدران العقيق عن الزبير، قال: وقلما يفارقه ماء، إذا قل ماؤه احتسى، وهو أسفل شيء من غدير العقيق، إلا غدير السيالة، انتهى. ولعله المعروف اليوم هناك بالحسي.
راتج:
بالمثناة الفوقية بعد الألف ثم جيم، أطم سميت به الناحية، وكان ليهود، ثم صار لبني الجذماء ثم صار لأهل راتج خلفاء بني عبد الأشهل كما سبق عن ابن زبالة آخر المنازل، وأن ابن حزم قال: أهل راتج بنو رغورا بن جشم أخي عبد الأشهل أبناء الحارث بن الخزرج الأصغر، قال ابن حبيب: الشرعبي وراتج ومزاحم آطام بالمدينة، وهو لبني جشم بن الحارث بن الخزرج أي الأصغر، وسبق في مسجد راتج أنه في شرقي ذباب جانحا إلى الشام، ولهذا خندقت بنو عبد الأشهل منه إلى طرف حرتهم، وهو طرف بني حارثة كما سبق في الخندق، ولم يعرج المطري على ما ذكرناه، بل قال: عن الجبل الذي إلى جنب جبل بني عبيد غربي بطحان يقال له راتج، وقال بعضهم في جبال المدينة:
ذباب، وسلع، وراتج، وجبل بني عبيد.
راذان:
قرية بنواحي المدينة، قاله المجد، وراذان أيضا: من سواد العراق قريتان عليا وسفلى، وفي حديث ابن مسعود «لا تتخذوا الضيعة» قال عبد الله: براذان ما براذان،(4/78)
أربعا، وبالمدينة ما بالمدينة، أي لا سيما إن اتخذتم الضيعة براذان أو بالمدينة، خصهما لنفاستهما وكثرة الرغبة فيهما، قال ياقوت: راذان من نواحي المدينة لها ذكر في حديث ابن مسعود، انتهى.
رامة:
منزل بطريق الحاج العراقي على مرحلة من أمرة، وسماه أبو عبيدة رامتان، فقال في منازل طريق الحاج: وأما رامتان فهما زبيبتان مثل ثدي المرأة، ثم ذكر أمرة.
رانوناء:
بنونين ممدودة كعاشوراء، ويقال رانون كما سبق في الفصل الخامس.
راية الأعمى:
من أودية العقيق.
راية الغراب:
من أوديته أيضا.
رباب:
كسحاب، جبل بطريق فيد للمدينة، يقابله جبل يقال له حولة، وهما عن يمين الطريق ويساره.
الربا:
بالضم ثم الفتح مخففا مقصورا، جمع ربوة، بين الأبواء والسقيا بطريق مكة.
الربذة:
بالتحريك وإعجام الذال، تقدمت في الفصل السابع.
الربيع:
بلفظ ربيع الأزمنة، موضع بنواحي المدينة، ويوم الربيع: من أيام الأوس والخزرج، قال قيس بن الخطيم:
ونحن الفوارس يوم الربيع ... وقد علموا كيف فرساننا
الرجام:
ككتاب، جبل مستطيل أحمر على ثلاثة عشر ميلا من ضرية على طريق أهل أضاخ، وفي غربيه ماء عذب يقال له الرجام، وليس بينه وبين طخفة إلا طريق ثنية، وفي أعراضه نزل جيش أبي بكر أيام الردة.
الرجلاء:
تقدم في حرة الرجلاء.
الرجيع:
كأمير، واد قرب خيبر، قال ابن إسحاق في غزوة خيبر: ثم أقبل حتى نزل بواد يقال له الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحيل بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، فعسكر به، وكان يراوح القتال منه، ويخالف الثقل والنساء والجرحى بالرجيع، والرجيع أيضا: بين مكة والطائف به سرية عاصم حميّ الدّبر كما سبق في بئر معونة.
الرحابة:
كغمامة، موضع بالحرة الغربية ببني بياضة كما تقدم في مساجد بني بياضة.
الرحبة:
كرقبة، بلاد عذرة قرب وادي القرى وسقيا الجزل، وذكرها صاحب المسالك والممالك في توابع المدينة ومضافاتها.
رحرحان:
بحاءين مهملتين بينهما راء، تقدم في حمى الربذة.
الرحضية:
بالكسر كالزنجية والضاد معجمة، هي الأرحضية كما سبق فيها، قال(4/79)
الصغاني: الرحضية قرية للأنصار، وحذاءها قرية يقال لها الحجر، وقال المجد: هي للأنصار وبني سليم، بها آبار وعليها مزارع كثيرة ونخيل.
رحقان:
بالضم ثم السكون والقاف آخره نون، واد عن يمين المتوجه من النازية إلى المستعجلة وسيله يصب عن يسار المستعجلة في خيف بني سالم، ولهذا قال ابن إسحاق في السير إلى بدر كما سبق في مسجد مضيق الصفراء: فسلك في ناحية منها، يعني النازية، حتى جزع واديا يقال له رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، أي قطع طرف الوادي المذكور مما يلي المستعجلة، وهي أول مضيق الصفراء.
الرديهة:
من أودية مسيل العقيق.
رحيب:
بالضم كنفير تصغير رحب، جبل معروف قرب أراين، سبق شاهده فيه.
رحية:
تصغير رحا، بئر بين المدينة والجحفة.
الرس:
بالفتح وتشديد السين، من أودية القبلية، قاله الزمخشري، وقال غيره: هو ماء لبني منقد من بني أسد بنجد، وقال ابن دريد: الرس والرسيس واديان بنجد أو موضعان، والرس الذي في التنزيل: واد قبل وادي أذربيجان، وهو واد عجيب فيه رمان لم ير مثله، وزبيبه يجفف في التنانير؛ لأنه لا شمس عندهم لكثرة الضباب، وكان عليه ألف مدينة، فبعث الله إليهم نبيا فكذبوه، فدعا عليهم، فحول الله جبلين عظيمين كانا بالطائف فأرسلهما عليهم فهم تحتهما.
رشاد:
من أودية الأجرد، وكان اسمه غوى، وهو لبني عنان من جهينة، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم رشادا، وقال لهم: أنتم بنو رشدان.
ذات الرّضم:
محركة وتسكن، موضع على ستة أميال من وادي القرى، قال عمرو بن الأهيم:
قفا نبك من ذكرى حبيب وأطلال ... بذي الرضم فالرمانتين فأوعال
الرضمة:
محركة وتسكن، من نواحي المدينة، قال ابن هرمة:
سلكوا على صفر كأن حمولهم ... بالرضمتين ذرى سفين عوم
رضوى:
بالفتح كسكرى، جبل قرب ينبع، ذو شعاب وأودية، وبه مياه وأشجار، ومنه يقطع أحجار المسانّ، قال ابن السكيت: رضوى قفاه حجاز وبطنه غور، وهو لجهينة. وقال عرام: هو أول جبال تهامة، على مسيرة يوم من ينبع، وعلى سبع مراحل(4/80)
من المدينة، ميامنه طريق مكة، وسبق آخر الباب الخامس عند ذكر فضل أحد أن رضوى مما وقع بالمدينة من الجبل الذي تجلّى الله تعالى له، وصار لهيبته ستة أجبل، وأن أبا غسان قال: أما رضوى فبينبع على مسيرة أربع ليال من المدينة، وهذا هو المعروف في المسافة بينهما.
وسبق هناك أيضا أن رضوى من جبال الجنة، وفي رواية أنه من الجبال التي بنى منها البيت، وفي حديث «رضوى رضي الله عنه، وقدس قدسه الله، وأحد جبل يحبنا» وتزعم الكيسانية أن محمد بن الحنفية مقيم برضوى يرزق.
الرّعل:
بالكسر وسكون العين المهملة، أطم بمنازل بني عبد الأشهل، ولما أجلاهم عنها بنو حارثة كما سبق قال حضير بن سماك يوما: ارفعوني أنظر إلى الرعل، فقال أساف بن عدي الحارثي:
فلا وبنات خالك لا تراه ... سجيس الدهر ما نطق الحمام
فإنّ الرعل إذ اسلمتوه ... وساحة واقم منكم حرام
ذات الرقاع:
بالكسر، جمع رقعة، قال الواقدي: هي قرب نخل، على ثلاثة أميال من المدينة، وهي بئر جاهلية، وإنما سميت بذلك لأن تلك الأرض بها بقع بيض وحمر وسود، وقيل: ذات الرقاع جبل فيه سواد وبياض وحمرة، فكأنها رقاع في الجبل، كذا نقله المجد، والذي نقله الحافظ ابن حجر عن الواقدي أن الغزوة سميت ذات الرقاع باسم نخيل هناك فيه نقع.
وسيأتي في ترجمة نخل أن غزوة ذات الرقاع كانت به، مع ما نقل عن الواقدي في ذلك، وقال ابن هشام وغيره: سميت بذلك لأنهم رقعوا راياتهم، وقال الداودي: لأن صلاة الخوف كانت بها فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها، وقال أبو موسى الأشعري:
سميت بذلك لما لفوا في أرجلهم من الخرق كما في صحيح مسلم، وقيل: سميت باسم شجرة هناك يقال لها ذات الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض.
الرقعة:
بالفتح ثم السكون، موضع قرب وادي القرى من الشقة شقة بني عذرة، فيه مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم كذا قاله المجد، وهو مخالف لما سبق عن المطري في مساجد تبوك من أنه على لفظ رقعة الثوب، وأن البكري قال: أخشى أن يكون بالرقمة من الشقة شقة بني عذرة، فما ذكره المجد إنما يصح في الرقمة بالميم.
الرقمتان:
بحرة المدينة الغربية، وهما نهدان من أنهادها لونهما أحمر إلى الصفرة، وتلك الحرة سوداء، فسميا بذلك، وقد يقال فيهما الرقمة بالإفراد- قال الأصمعي:(4/81)
الرقمتان إحداهما قرب المدينة والآخرى بقرب البصرة، وقال العمراني: إحداهما بالبصرة والآخرى بنجد، وأما التي في شعر زهير:
ودار لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشم في نواشر معصم
فبأرض بني أسد.
رقم:
محرّك، وقد يسكّن، بالمدينة ينسب إليه السهام الرقميات، وقال نصر: الرقم جبال بدار غطفان، وماء عندها، والسهام الرقميات منسوبة إلى هذا الموضع.
وروى أبو نعيم خبر عامر بن الطفيل وأربد بن صيفي في همهما بقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأن أربد لما وضع يده على السيف يبست على قائمه، فلم يستطع سلّه، فخرجا حتى إذا كانا بحرة واقم نزقا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسد بن حضير فقال: اشخصا يا عدوى الله، لعنكما الله، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالحريث أرسل الله عليه قرحة، وذكر موته بها.
الرقيبة:
تصغير رقبة، وقال نصر: إنه بفتح أوله كسفينة، جبل مطل على خيبر له ذكر في قصة عيينة بن حصن في فتح خيبر.
الركابية:
بالكسر منسوبة إلى الركاب وهي الإبل، موضع على عشرة أميال من المدينة.
ركنان:
بالتحريك، قرب وادي القرى.
ركوبة:
بالفتح كحلوبة بالباء الموحدة، ثنية بين مكة والمدينة عند العرج، على ثلاثة أميال منه لجهة المدينة، كما سيأتي في المدارج.
قال ابن إسحاق في سفر الهجرة: ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية الغاير عن يمين ركوبة.
وقال المجد: ركوبة ثنية شاقة يضرب بصعوبتها المثل، سلكها النبي صلى الله عليه وسلم عند مهاجره إلى المدينة، قرب جبل ورقان وقدس الأبيض، وكان معه ذو البجادين، فحدا به وجعل يقول:
تعرّضي مدارجا وسومي ... تعرّض الجوزاء للنجوم
هذا أبو القاسم فاستقيمي
ومأخذه قول الأصمعي في تفسير قول بشر بن أبي خازم:
ولكن كرّا في ركوبة أعسر
ركوبة عند العرج سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان دليله إليها عبد الله ذو البجادين، انتهى.(4/82)
وكل من ركوبة وثنية الغاير بعقبة العرج، والعقبة هي المدارج كما سيأتي، وأغرب الحافظ ابن حجر فقال في الكلام على نار الحجاز: ركوبة ثنية صعبة المرتقى في طريق المدينة إلى الشام، مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ذكرها البكرى، انتهى. فإن صح فهي غير هذه، وسيأتي عن عرام في ورقان أنه ينقاد إلى الحي بين العرج والرويثة، ويغلق بينه وبين قدس الأبيض عقبة يقال لها ركوبة.
الرمة:
بالضم ويكسر، قاع عظيم بنجد، قاله في القاموس، وقال الأصمعي: الرمة تخفف وتثقل، وبين أسفلها وأعلاها سبع ليال من الحرة حرة فدك إلى القصيم، وقال غيره: بطن الرمة ببلاد غطفان في طريق فيد إلى المدينة.
رواوة:
بالضم كزرارة، قال ابن السكيت، رواوة والمبيضي وذو السلاسل أودية بين الفرع والمدينة، وانتهى، وسبق عن الهجري أن سيل العقيق يقضي إلى غدير يقال له رواة، قال أبو الحسن: رواة يدفع في خليقة ابن أبي أحمد، وسبق عن ابن شبة أن سيل العقيق يصبّ في غدير يلبن، ثم على رواوتين يعترضهما يسارا، فثناه، وأورد المجد شاهد الإفراد، وسبق نحوه في تيدد وشاهد التثنية، وسيأتي في لأي.
الروحاء:
بالفتح ثم السكون والحاء المهملة، قال المجد: موضع من عمل الفرع على نحو أربعين ميلا من المدينة، وفي صحيح مسلم: على ست وثلاثين ميلا، وفي كتاب ابن شبة: على ثلاثين ميلا، وقال أبو غسان: إن ورقان بالروحاء من المدينة على أربعة برد وقال أبو عبيد البكري: قبر مضر بن نزار بالروحاء على ليلتين من المدينة بينهما أحد وأربعون ميلا، وذكر الأسدي في موضع أنها على خمسة أو ستة وثلاثين ميلا، وقال في موضع: اثنين وأربعين ميلا، قال: وعلى مدخل الروحاء علمان، وعلى مخرجها علمان؛ فالجمع بين ذلك أن الروحاء اسم للوادي، وفي أثنائه منزلة الحجاج، فيحمل أقل المسافات على إرادة أوله مما يلي المدينة، وأكثرها على آخره، ومتوسطها على وسطه.
قال ابن الكلبي: لما رجع تبّع من قتال أهل المدينة نزل بالروحاء، وأقام بها وأراح، فسماها الروحاء. وسئل كثير: لم سميت الروحاء؟ قال: لانفتاحها وروحها، ويقال: بقعة روحاء، طيبة ذات راحة.
وسبق في مسجد شرف الروحاء أن من الشرف يهبط في وادي الروحاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا واد من أودية الجنة، يعني وادي الروحاء، وأن اسمه سجاسج، وأن موسى بن عمران عليه السلام مرّ بالروحاء في سبعين ألفا، وأنه صلى بذلك الوادي سبعون نبيا.(4/83)
وقال ابن إسحاق في مسيره صلى الله عليه وسلم إلى بدر: ونزل سجسج، وهي بئر الروحاء، وقال الأسدي: وبالروحاء آثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها قصران وآبار كثيرة منها بئر تعرف بمروان عندها بركة للرشيد، وبئر لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عليها سانية، وسيل مائها إلى بركتها، وبئر تعرف بعمر بن عبد العزيز في وسط السوق يسنى منها في إحدى البركتين، وبئر تعرف بالواثق، وهي شر آبار المنزل طول رشائها ستون ذراعا، انتهى. وبها اليوم بركة تملأ للحاج تعرف ببركة طار، ولعله جددها وجعل لها معلوما ووقفا. وقال ابن الرضية:
إذا اغرورقت عيناي قال صحابتي ... لقد أولعت عيناك بالهملان
ألا فاحملاني بارك الله فيكما ... إلى حاضر الروحاء ثم دعاني
ويؤخذ مما سلف في فضائل بقيع الغرقد تسمية المقبرة التي بوسطه وفيها مشهد سيدنا إبراهيم عليه السلام بالروحاء.
روضة الأجاول:
بالجيم، بنواحي ودّان، منازل نصيب الشاعر.
روضة الأجداد:
قرية ببلاد غطفان من وادي القصيبة قبلى خيبر وشرقي وادي عصيرة، قال الهيثم بن عدي: خرج عروة الصعاليك وأصحابه إلى خيبر يمتارون منها، فعشروا أي نهقوا كالحمير- يرون أنه يصرف عنهم الوباء، وامتنع عروة أن يعشر، وأنشد:
وقالوا اجث وانهق لا تضرك خيبر ... وذلك من دين اليهود ولوع
لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق حمير إنني لجزوع
فلا وألت تلك النفوس ولا أتت ... على روضة الأجداد وهي جميع
قال: ودخلوا وامتاروا ورجعوا، فلما بلغوا روضة الأجداد ماتوا إلا عروة.
روضة ألجام:
بفتح الألف وسكون اللام والجيم وألف وميم، ويقال روضة آجام، نحو النقيع، قاله ابن السكيت في قول كثير:
فروضة ألجام تهيج لي البكا ... وروضات شوظى عهدهن قديم
وعدها الهجري من دوافع وادي العقيق المشهورة التي من الحرة.
روضة خاخ:
بخائين معجمتين، وتقدمت في خاخ.
روضة الخرج:
بضم الخاء وسكون الراء ثم جيم، من نواحي المدينة.
روضة الخرجين:
تثنية الذي قبله، ولعله هو، قال:
بروضة الخرجين من مهجور ... تربعت في غارب نضير
ومهجور: ماء بنواحي المدينة.(4/84)
روضة الخزرج:
بلفظ القبيلة من الأنصار، بنواحي المدينة، قال حفص الأموي:
فالمح بطرفك هل ترى أظعانهم ... بالبارقية أو بروض الخزرج
روضة الحماط:
هي روضة ذات الحماط، وذات الحماط: من أودية العقيق.
روضة ذي الغصن:
بلفظ غصن الشجرة مضافة إلى ذي الغصن أحد أودية العقيق.
روضة الصها:
بضم الصاد المهملة، شمالي المدينة على ثلاثة أيام، والصّها: جمع صهوة، وهي أجبال هناك، وربما قالوا رياض الصها.
روضة عرينة:
كجهينة، واد ناحية الرحضية، كان يحمى للخيول وفي الجاهلية والإسلام، بأسفلها قلهى، وهو ماء لبني جذيمة بن مالك.
روضة العقيق:
عقيق المدينة، أنشد الزبير:
عج بنا يا أنيس قبل الشروق ... نلتمسها على رياض العقيق
روضة الفلاج:
بكسر الفاء آخره جيم، يأتي في الفلجة أحد أودية العقيق.
روضة مرخ:
بالتحريك والخاء المعجمة، بالمدينة، قال ابن المولى المدني:
هل تذكرين بجنب الروض من مرخ ... يا أملح الناس وعدا شفني كمدا
روض نسر:
بفتح النون وسكون السين المهملة آخره راء، يأتي في النون.
ذو رولان:
واد قرب الرحضية لبني سليم به قلهى.
الرويثة:
بالضم وفتح الواو وسكون المثناة تحت وفتح المثلاثة آخره هاء، قال ابن السكيت: منهل بين مكة والمدينة، ولما رجع تبع من قتال أهل المدينة نزل الرويثة وقد أبطأ في مسيره، فسماها الرويثة من راث إذا أبطأ، وهي على ليلة من المدينة، كذا قال المجد، وصوابه ليلتين؛ لأنها بعد وادي الروحاء ببضعة عشر ميلا، ولذا قال الأسدي:
إنها على ستين ميلا من المدينة.
رهاط:
كغراب والطاء مهملة، موضع بأرض ينبع، اتخذ به هذيل سواعا، قاله ابن الكلبي، وعن راشد بن عبد ربه قال: كان سواع بالمعلاة من رهاط يدين لها هذيل وبنو ظفر من سليم، وذكر ما سمعه من الهاتف من بطن سواع وغيره من الأصنام بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رأى ثعلبين يلحسان ما حول سواع ويأكلان ما يهدى إليه، ثم يبولان عليه، فأنشد:
أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وذكر خروجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقطعه قطيعة برهاط، فأقطعه بالمعلاة من رهاط شأو(4/85)
الفرس ورميته ثلاث مرات بحجر، وأعطاه إداوة مملوءة من ماء وتفل فيها، وقال له:
فرغها في أنحاء القطيعة، ولا تمنع الناس فضولها، ففعل، فجعل الماء يغبّ فجمه فغرس عليها النخل وصارت رهاط كلها تشرب منه، وسماها الناس ماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل رهاط يغتسلون منها ويستشفون بها.
وقال عرام: فيما يطيف بجبل شمنصير قرية يقال لها رهاط بقرب مكة على طريق المدينة، وبقربها الحديبية، وهي مواضع بني سعد وبني مسروح الذين نشأ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال صاحب المسالك والممالك فيما نقله الأقشهري: ومن توابع المدينة ومخاليفها ساية ورهاط وعران.
الرّيّان:
ضد العطشان، أطم لبني حارثة، وأطم لبني زريق، وماء بحمى ضرية في أصل جبل أحمر طويل، قال جرير:
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
والريان أيضا: واد هناك، وجبل ببلاد بني عامر، وموضع بمعدن بني سليم به قصر كان الرشيد ينزله إذا حج.
ريدان:
بالفتح وسكون المثناة تحت ودال مهملة، أطم بالمدينة لآل حارثة بن سهل بن الأوس، نقله ياقوت، ثم قال: ولا أعرف بطنا من الأنصار يقال لهم ذلك.
قلت: الذي ذكره ابن زبالة أن بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس ابتنوا أطما يقال له الريدان كان موضعه في قبلة مسجد الفضيخ، وله يقول قيس بن رفاعة:
وكيف أرجو مزيد العيش بعدهم ... وبعد ما قد مضى من أهل ريدان
ريم:
بالكسر وسكون الياء غير مهموز، قاله عياض، وضعفه المجد، وقال: إنه بهمزة ساكنة واد لمزينة يصب فيه ورقان، وسبق أنه من أودية العقيق يلقاه ثم يدفع في خليقة ابن أبي أحمد، وفي الموطأ عن ابن عمر أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في سيره ذلك، قال يحيى: قال مالك: وذلك نحو أربعة برد، قال عياض: وفي مصنف عبد الرزاق ثلاثين ميلا، ونقل المجد ما يخالف ما سبق عن مالك ومصنف عبد الرزاق، وفي طبقات ابن سعد: كان عبد الله بن بحينة رضي الله تعالى عنه ينزل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة؛ فلا يخفى وجه الجمع، وفي سفر الهجرة: وسار حتى هبط بطن ريم، ثم قدم قباء. وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
لسنا بريم ولا حمت ولا صورى ... لكن بمرج من الجولان مغروس(4/86)
والجولان: قرية بدمشق.
ريمة:
كديمة، واد لبني شيبة قرب المدينة بأعلى نخل.
ذو ريش:
بلفظ ريش الطائر، تقدم في أودية المدينة.
حرف الزاي
زبالة الزج:
شمالي المدينة، بينها وبين يثرب، كان لأهلها أطمان، وهما اللذان عند كومة أبي الحمراء كما سبق، وزبالة أيضا: موضع بطريق العراق، ليس من عمل المدينة.
الزج:
بالضم وتشديد الجيم، قاله المجد، وقال ابن سيد الناس: بالخاء المعجمة، موضع بناحية ضرية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصيد بن سلمة بن قرط مع الضحاك الكلابي إلى القرطاء، وهم قرط وقريط وقريط من أبي بكر بن كلاب، يدعوهم إلى الإسلام، فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة بزج بناحية ضربة، والزج أيضا: ما أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم العدّاء بن خالد من بني ربيعة بن عامر.
الزراب:
ككتاب، ويقال: ذات الزراب، تقدم في مساجد تبوك.
زرود:
بالفتح ثم الضم آخره دال مهملة، موضع بقرب أبرق العزاف كما يؤخذ مما سيأتي عن الصحاح في العزاف، وسبق في ترجمة خيبر ما يؤخذ منه أنه اسم لأول من سكن به من أولاد إخوة عاد.
زريق:
مصغر، ويقال: قرية بني زريق، ومسجد بني زريق، تقدّما.
زغابة:
كسحابة والغين معجمة، مجتمع السيول آخر العقيق غربي قبر حمزة رضي الله تعالى عنه، وهي أعلى إضم كما سبق عن الهجرى وغيره، وأن ابن إسحاق قال: نزلت قريش بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة، قال أبو عبيد البكري في ضبطه: زعابة بالضم وإهمال العين، وقال محمد بن جرير: الرواية الجيدة بين الجرف والغابة؛ لأن زعابة لا تعرف، قال ياقوت: ليس كذلك، فإن في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:
«ألا تعجبون لهذا الأعرابي؟ أهدى إليّ ناقتي أعرفها بعيني، ذهبت مني يوم زعابة، وقد كافأته بست- أي بست بكرات- فسخط» وجاء ذكر زعابة في حديث آخر، فكيف لا يكون يعرف؟.
زمزم:
اسم للبئر التي على يمين الذاهب للعقيق، بعيدة من الجادة كما سبق في الآبار، سميت بذلك لكثرة التبرك بمائها ونقله إلى الآفاق.
زور:
بالفتح آخره راء، جبل بالحجاز، أو واد قرب السوارقية، شاهده في منور.
الزوراء:
بالفتح ثم السكون، تقدم في البلاط وسوق المدينة، وقال ابن شبة في دور(4/87)
العباس: منها الدار التي بالزوراء سوق المدينة عند أحجار الزيت، وسبق أن أحجار الزيت عند مشهد مالك بن سنان، لما في رواية ابن زبالة أنهم دفنوه بالسوق فدفن عند مسجد أصحاب العباء، وهناك كانت أحجار الزيت، فالزوراء ذلك المحل من سوق المدينة، وقيل: الزوراء اسم لسوق المدينة.
وفي صحيح مسلم عن أنس «أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق» .
وفي البخاري «أن عثمان رضي الله تعالى عنه زاد النداء الثالث على الزوراء» قال البخاري: الزوراء موضع بالسوق، وفي رواية له «النداء الثاني» .
وقوله: «الثالث» لجعله الإقامة نداء، ولفظ ابن ماجه «على دار في السوق يقال لها الزوراء» ويؤخذ من وصف دار السوق التي أخذها ابن هشام أن لعثمان بالسوق دارا تسمى الزوراء، ولذا قال ابن شبة: واتخذ عثمان الدار التي يقال لها الزوراء، اه. فهي التي أحدث النداء عليها، وكأنها سميت باسم موضعها من السوق، قال الحافظ ابن حجر: جزم ابن بطال بأن الزوراء حجر عند باب المسجد، وفيه نظر؛ لما في رواية ابن إسحاق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجه «زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء» وقال ابن حجر أيضا في حديث أنس في تكثير الماء: قوله «بالزوراء» هو مكان معروف بالمدينة عند السوق، وزعم الداودي أنه كان مرتفعا كالمغارة، وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين عليه، وذلك كان بالزوراء أي الذي يؤذن عليه، لا أنه الزوراء نفسها، اه. وفي العتبيّة ما يشعر بأنه كان بالزوراء من سوق المدينة منارة، ولعلها من الدار التي كان يؤذن عليها؛ لأنه ترجم لتواضع العلماء وجلوسهم في الأسواق، وعند أصحاب العباء أي الذين يبيعون البعاء، ثم أورد عن مالك عن يحيى بن سعيد قال: ما أحدث أحاديث كثيرة عن سعيد بن المسيب إلا من عند أصحاب العباء في السوق، وما أحدث عن سالم بن عبد الله أحاديث إلا في ظل المنارة التي في السوق، كان يقعد في ظلها وسعيد عند أصحاب العباء، اه.
وتؤخذ مما تقدم في فضل بقيع الغرقد أن الزوراء أيضا: اسم للموضع الذي دفن به سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وقال البرهان بن فرحون: قال ابن حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رقى المنبر جلس ثم أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة يؤذنون على المنائر واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب، ثم استمر ذلك، فلما كان عثمان وكثر الناس أمر أن يؤذن بالزوراء عند الزوال وهو موضع(4/88)
بالسوق، ليرتبع الناس منه، وهو إلى ناحية البقيع، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار، ثم نقل هشام بن عبد الملك الأذان الذي كان بالزوراء إلى المسجد فجعله واحدا يؤذن عند الزوال على المنار، فإذا خرج هشام أذن المؤذنون كلهم بين يديه، اه.
وقوله: «في ناحية البقيع» محمول على بقيع الخيل سوق المدينة، لا بقيع الغرقد؛ لأن سوق المدينة لم يكن في ناحيته.
زهرة:
بالضم ثم السكون، قال ابن زبالة: هي ثبرة أي: بمثلاثة ثم موحدة وهي الأرض السهلة بين الحرة والسافلة مما يلي القف، وكان من أعظم قرى المدينة، وكان في قريتها ثلاثمائة صائغ، وكانت لهم الأطمان اللذان على طريق العرض حين يهبط من الحرة، والمراد الحرة الشرقية، فإنها تعرف بحرة زهرة كما سبق، ومقتضاه أن زهرة مما يلي طرف العالية، وما نزل عنها فهو السافلة، وأدنى العالية ميل من المسجد كما سيأتي، ويرجحه قوله «مما يلي القف» لما سيأتي فيه أنه بقرب صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المشربة به، وسبق في الصدقات أن الظاهر أن حسنى وهي بالقف هي الحسنيات بقرب الدلال والصافية فتكون زهرة بقرب ذلك، ويؤيده ما سبق في الصدقات عن المراغي أنه يقال لجزع الصافية «جزع زهيرة» مصغر زهرة المذكورة، ويؤيده أيضا ما سبق أول الباب الثاني أنه بقي من صعل وفالج امرأة تعرف بزهرة، وكانت تسكن بها، وأنه لما غشيها الدود قالت: رب جسد مصون، ومال مدفون، بين زهرة ورانون.
وفي كتاب الحرة للواقدي: أقبل نفر من أهل الشام على خيولهم يطيفون فيما بين زهرة إلى البقيع، فيصادفون نفرا من الأنصار على أقدامهم.
الزين:
بلفظ ضد الشين، مزرعة بالجرف. روى ابن زبالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدرع المزرعة التي يقال لها الزين بالجرف.
حرف السين
سائر:
كصابر، من نواحي المدينة، قال:
عفا مثعر من أهله فثقيب ... فسفح اللوى من سائر فجريب
وعد صاحب «المسالك والممالك» من توابع المدينة ومخاليفها السائر.
السافلة:
تقابل العالية، وأدنى العالية كما سيأتي فيها السنح على ميل من المسجد، فما نزل عنه فهو السافلة، ويحتمل أن يكون بينهما واسطة، وربما أومأ إليه ما سبق في زهرة أنها بين الحرة والسافلة، والناس اليوم يطلقونها على ما كان في شامي المدينة، والعالية على ما كان في قبلتها، ويؤيد الأول ما رواه ابن إسحاق من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما(4/89)
انتصر ببدر أرسل ابن رواحة بشيرا إلى أهل العالية وزيد بن حارثة لأهل السافلة، قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوّينا التراب على رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زيد بن حارثة قدم، فجئته وهو واقف بالمصلّى قد غشيه الناس، فظاهره الانقسام إلى السافلة والعالية فقط، وأن المعروف بالمدينة اليوم من السافلة لإتيان بشير السافلة إلى المصلى.
الساهية:
تقدمت في أودية العقيق.
ساية:
كغاية، قال المجد: واد من أعمال المدينة لم يزل واليه من قبل صاحبها، إلا في زماننا، وانفرد عن حكمها كسائر أعراض المدينة، وفي ساية نخل ومزارع وموز ورمان وعنب، وأصلها لولد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وفيها من أفناء الناس، ويطلع عليها جبل السّراة دون عسفان، قاله عرام، وقال ابن جني: شمنصير جبل ساية واد عظيم به أكثر من سبعين عينا، وهو وادي ألج.
سبر:
بالفتح وتشديد الموحدة المكسورة، كثيب بين بدر والمدينة، قسم به رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، نقله المجد عن نصر، وذكر في سير بالمثناة التحتية ما سيأتي من أن القسم به فيرجع إلى الاختلاف في ضبط اللفظ، والراجح ما سيأتي.
السّتار:
بالكسر والمثناة فوق ثم ألف وراء، جبل بحمى ضرية، وجبل آخر بالعالية في ديار سليم، وأجبل سود على ثلاثة أيام من ينبع.
سجاسج:
اسم وادي الرّوحاء، قال ابن شبة: والسجسج الهواء الذي لا حرّ فيه ولا برد.
السد:
بالضم، سد عبد الله بن عمرو بن عثمان يأتي منه رانوناء فيها، وهناك سد بقرب عير يعرف اليوم بسد عنتر، وقال عرام: السد هو ماء سماء جبل شوران مطل عليه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسده، ومن السد قناة إلى قباء اه.
وكأنه يريد السد المتقدم، لما اقتضاه كلامه في شوران أنه جبل عير كما سيأتي، وقال بعضهم: السد موضع بالمدينة كان يجلس فيه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، فنسب إليه.
وقال الحارثي: السد ماء سماء في حزم بني عوال، ولعله يعني السد الذي في الطريق التي كان الرشيد يسلكها من المدينة إلى معدن بني سليم بين المدينة والرحضية على عشرين ميلا من المدينة، قاله الأسدي، قال: وبه ماء كثير في شعب كان معاوية رضي الله تعالى عنه عمل له سدا يحبس فيه الماء شبيها بالبركة، انتهى.
وأخبرني بعض أمراء المدينة أنه معروف دون هكر.
وفي البخاري في حديث رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر بصفية: فخرج بها حتى بلغنا سد(4/90)
الروحاء حلت، وكنت أستشكله، لأن صفية حلت بالصهباء، وليست الروحاء بطريق خيير، ولهذا قال الكرماني: قيل الصواب سد الصهباء وقد ثبت في رواية أخرى للبخاري:
فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء، وصوبها الحافظ ابن حجر، وهي رواية أبي داود وغيره، وبين ابن سعد في خيبر رواية أن الموضع الذي وقع البناء بصفية فيه على ستة أميال من خيبر.
وقال عياض: سد الروحاء جبلها، يقال بالضم والفتح، وسد الصهباء مثله، والسد:
الردم أيضا، وقال: السد بالضم خلقة، وبالفتح فعل الإنسان، وقال الكسائي: هما واحد، انتهى. ويؤخذ من كلام ياقوت أن الموضع المعروف بالحبس في زمامنا بأعلى وادي قناة يسمى بالسد أيضا.
السراة:
بالفتح وتخفيف الراء، تقدم في الحجاز.
ذو السرح:
بفتح السين وسكون الراء ثم حاء مهملة، واد قرب ملل.
السر:
بالكسر ضد الجهر، موضع بنجد لبني أسد، وموضع في بلاد بني تميم، والسّرّ بالضم- موضع بالحجاز في ديار مزينة.
السّرّارة:
بالفتح وتشديد الراء الأولى، تقدمت في منازل بني بياضة، وفي رانوناء من أودية المدينة، وهي غير الحديقة المعروفة اليوم بالسرارة عند قباء.
سرع:
بالفتح وإعجام الغين، قرية بوادي تبوك على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة، وهي آخر أعمال المدينة، قاله المجد.
السّرير:
كزبير، واد قرب المدينة، قال كثيّر:
وسرير البضيع ذات الشمال
وسرير أيضا: موضع بقرب الجار، وهي فرضة أهل السفن الواردة من الحبشة على المدينة، قاله المجد، والظاهر أنهما واحد، لإضافة الأول في شعر كثير إلى البضيع، ثم ظفرت بالإشارة إلى ذلك في كلام ياقوت، فإنه ذكر ما قاله المجد، ثم قال: ولا يبعد أن يكون الثاني هو الأول، والسرير أيضا: الوادي الأدنى بخيبر، وبه الشق والنطاة، نزل به النبي صلى الله عليه وسلم أولا فشدّ أهله لقتاله فهزمهم الله.
السعد:
بالفتح وسكون العين ثم دال مهملتين، موضع كان بقربه غزوة ذات الرقاع، وقال نصر: هو جبل على ثلاثين ميلا من الكديد، عنده منازل وسوق وماء عذب بطريق فيد، وربه يعلم خطأ من قال: إنه على ثلاثة أميال من المدينة.
سفا:
بالفاء كقفا، موضع من نواحي المدينة.
سفان:
تثنية الذي قبله، واد يلقى وادي إضم عند البحر كما سبق.(4/91)
سفوان:
بفتحات، واد من ناحية بدر، إليه انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر الأولى طالبا لكرز الفهري الذي أغار على سرح المدينة، وقال وداك بن ثميل المازني:
رويد بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خبلى على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا ما بدت في المأزق المتداني
عليها الكّماة العزّ من آل مازن ... أولات طعان عند كل طعان
سقاية سليمان:
بن عبد الملك بالجرف على محجة من خرج إلى الشام، يعسكر بها الخارج من المدينة إلى الشام، وكذا من خرج إلى مصر قديما.
السقيا:
بالضم ثم السكون، سقيا سعد بالحرة الغربية كما سبق في الآبار، وقرية جامعة من عمل الفرع بطريق الحاج القديمة، قال السهيلي: سميت السقيا بابار كثيرة فيها وبرك. وسئل كثير: لم سمّيت بذلك؟ فقال لأنهم سقوا بها ماء عذبا، وقال ابن الفقيه:
لما رجع تبع من المدينة نزل السقيا وقد عطش، فأصابه بها مطر، فسماها السقيا، وقال الخوارزمي: السقيا قرية عظيمة قريبة من البحر، على مسيرة يوم وليلة، وقال المجد: هي على يومين من المدينة، ومأخذه قول أبي داود عقب حديث الاستعذاب من السقيا، قال قتيبة: هي عين بينها وبين المدينة يومان، وتقدم أن حديث الاستعذاب إنما هو في سقيا سعد بالمدينة، ومع ذلك فهو مخالف لقول المجد في القاحة: إنها قبل السقيا بميل، على ثلاث مراحل من المدينة، بل قال: إن الأبواء على نحو خمسة أيام من المدينة، وسبق أنها بعد السقيا بأحد عشر ميلا، فالسقيا على نحو أربعة أيام من المدينة، وبه صرح الأسدي، فإنه ذكر ما حاصله أن بينهما مائة ميل إلا أربعة أميال، والسقيا اليوم معروفة على نحو هذه المسافة، ويوافقه قول المجد: الفرع عن يسار السقيا على ثمانية برد من المدينة، وقول عياض: بين السقيا وبين الفرع مما يلي الجحفة سبعة عشر ميلا، والسقيا أيضا: موضع بوادي الجزل ببلاد عذرة قرب وادي القرى، وذكر الأسدي أنها على نحو سبع مراحل من المدينة، وعلى نحو مرحلتين من ذي المروة، وأنه كان يلتقي بها من يريد المدينة الشريفة على غير طريق الساحل مع من يصل من الشام.
سقيفة بني ساعدة:
تقدمت بمنازلهم ومساجدهم، وقال الأزهري: السقيفة كل بناء سقف به صفة أو شبه صفة مما يكون بارزا، وقال المجد: سقيفة بني ساعدة ظلّة كانوا يجلسون تحتها عند بئر بضاعة، ولعله يريد قربها من جهة بئر بضاعة، لما سبق من أنها بمنزل رهط سعد، وهو القائل يوم بيعة أبي بكر بها: منا أمير ومنكم أمير، ولم يبايع أبا بكر ولا غيره، وقتلته الجن بحوران فيما يقال.(4/92)
سكاب:
كقطام، جبل من جبال القبلية.
سلاح:
كقطام، موضع أسفل خبير، عنده لقى بشير بن سعد الأنصاري جمع غطفان في سريته إلى يمن وجبار، كذا قال المجد، وضبطه ابن سيد الناس بكسر أوله، وسلاح أيضا: ماء لبني كلاب ملح لا يشرب أحد منه إلا سلح.
السلاسل:
بلفظ جمع السلسلة، ماء بأرض جذام، على عشرة أيام من المدينة، خلف وادي القرى، به سميت الغزوة، قال ابن إسحاق: الماء سلسل، وبه سميت ذات السلاسل.
السلالم:
بضم أوله، كان آخر حصون خيبر فتحا.
ذو السلائل:
واد بين الفرع والمدينة.
سلع:
بالفتح ثم السكون آخره عين مهملة، جبل معروف بالمدينة.
وفي صحيح البخاري أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما لهم بالجبيل الذي بالسوق، وهو سلع، وسبق في مساجد الفتح أن به كهف بني حرام، دخله النبي صلى الله عليه وسلم وبات به مع ما يقتضى أنه يسمى بجبل بواب أيضا.
قال الأصمعي: غنت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك، وكانت من أحسن الناس وجها ومسموعا، وكان شديد الكلف بها، ونشأت بسلع:
لعمرك إنني لأحبّ سلعا ... لرؤيته ومن أكناف سلع
تقر بقربه عيني، وإني ... لأخشى أن يكون يريد فجعي
فتنفست الصعداء، فقال لها: لم تنفسين؟ والله لو أردته لنقلته إليك حجرا حجرا، فقالت: وما أصنع به؟ إنما أردت ساكنيه.
ذو سلم:
بالتحريك، موضع من بطن مدلجة تعهن، له ذكر في سفر الهجرة، وذو سلم النظيم: تقدم في أودية مسيل العقيق، وله شاهد في لأي.
سليع:
تصغير سلع، جبل بالمدينة عليه بيوت أسلم بن أفصى، نقله ياقوت، ويؤخذ مما سبق في منازلهم أنه الجبيل الذي يقابل سلعا، عليه حصن أمير المدينة اليوم، والذي ابتناه عليه الأمير ابن شيخة أيام إمرته، وابتداؤها قبل السبعين وستمائة، ابتناه ليتحصن به، ويكشف منه نواحي المدينة، وكان حصن الأمراء قبله الحصن العتيق المجاور لباب السلام، وهو اليوم المدرسة الأشرفية كما يؤخذ من كلام البدر ابن فرحون.
السليل:
كأمير، اسم عرصة العقيق كما سبق.
السليلة:
موضع من الربذة.(4/93)
السليم:
مصغر سلم، وذات السليم: من أودية العقيق كما سبق.
سمران:
جبل بخيبر، والعامة تقول له مسمران، وضبطه بعضهم بالشين المعجمة.
روى ابن زبالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى على رأس جبل بخيبر يقال له سمران» .
ذو سمر:
من أودية العقيق.
سميحة:
مصغر سمحة بالحاء المهملة، بئر بالمدينة معروفة، قال نصر: هي بئر قديمة غزيرة الماء بالمدينة، قال كثير:
كأنّي أكف وقد أمعنت ... بها من سميحة غربا سجيلا
وقال يعقوب: سميحة بئر بالمدينة عليها نخل لعبيد الله بن موسى، قال كثير:
كأن دموع العين لما تخللت ... مخارم بيضا من تمنّى جمالها
قبلن غروبا من سميحة أنزعت ... بهنّ السّواني واستدار محالها
القابل: الذي يتلقى الدلو حين يخرج من البئر ويصبها في الحوض، وقد غرس بعض أهل المدينة اليوم على سميحة هذه حديقة.
سنام:
مصبّ قرب الربذة.
السنح:
بالضم ثم السكون كما قاله المجد، أطم لجشم وزيد ابني الحارث، سميت الناحية به، وسبق أنه على ميل من المسجد النبوي، وكان بالسّنح منزل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بزوجته الأنصارية، وبلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو به.
وقال ابن عساكر في تحفته: السنح بضم السين والنون، وقيل بسكونها موضع بعوالي المدينة فيه منازل بني الحارث، وذكر شيخنا أبو عبد الله- يعني ابن النجار- أن السنح هو الموضع الذي فيه مساجد الفتح.
قلت: وهو وهم علي ابن النجار، لما سيأتي في السيح بالمثناة التحتية وكسر السين، وكأن المراغي اغتر بذلك فقال ما سيأتي عنه فيه من أنه سمي باسم أطم جشم وزيد.
سنحة:
بالفتح ثم السكون وحاء مهملة، موضع بالمدينة.
سن:
بالكسر، جبل حذاء شوران أو ميطان كما يؤخذ مما سبق في الحلاء.
سواج:
بالضم آخره جيم، من جبال ضرية تأويه الجن، ويقال له سواج طخفة.
سوارق:
واد قرب السوارقية، يستعذبون منه الماء.
السوارقية:
بفتح أوله وضمه وبعد الراء قاف وياء النسبة، ويقال السويرقية مصغرة، قرية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكانت لبني سليم، وقال عرام: هي قرية غناء كبيرة، فيها مسجد ومنبر وسوق. يأتيها النجار من الأقطار ولكل بني سليم فيها شيء،(4/94)
ولهم مزارع ونخيل كثيرة وموز وعنب وتين ورمان وسفرجل وخوخ، ولهم إبل وخيل وشاء وقى حواليهم ويميرون طريق الحجاز ونجد في طريق الحاج.
سوق أهوى:
كأحوى، بالربذة.
سوق بني قينقاع:
بقافين بينهما مثناة تحتية ثم نون وآخره عين مهملة، كان سوقا عظيما في الجاهلية عند جسر بطحان، يقوم في السنة مرارا، ويتفاخر الناس به، ويتناشدون الأشعار.
وذكر ابن شبة خبرا في اجتماع حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه بنابغة بني ذبيان بهذه السوق، وأن النابغة لما قدمها نزل عن راحلته وجثا على ركبتيه واعتمد على يديه، وأنشد:
عرفت منازلا بعد الثنايا ... بأعلى الجزع بالخيف المتن
قال حسان: فقلت في نفسي: هلك الشيخ، ركب فافية صعبة، قال: فو الله مازال حتى أتى على آخرها، ثم نادى: ألا رجل ينشد، فتقدم قيس بن الخطيم بين يديه فأنشد:
أتعرف رسما كالطراز المذّهّب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب
حتى أتى على آخرها، فقال له النابغة: أنت أشعر الناس يا ابن أخي، قال حسان:
فدخلني بعض الفرق، وإني لأجد على ذلك في نفسي قوة، فجلست بين يديه، فقال:
أنشد فو الله إنك لشاعر قبل أن تتكلم، فأنشدته:
أسألت ربع الدار أم لم تسأل
فقال: حسبك يا ابن أخي.
وفي القاموس: حباشة أي بالحاء المهملة ثم الموحدة وشين معجمة بعد الألف، كثمامة سوق وكانت لبني قينقاع.
السويداء:
تصغير سوداء، موضع بعد ذي خشب على ليلتين من المدينة.
سويد:
أطم أسود بمنازل بني بياضة شامي الحماضة.
سويقة:
تصغير ساق، هضبة حمراء طويلة على ثلاثين ميلا أو أكثر من ضرية،
وسويقة أيضا:
عين عذبة كثيرة بالماء بأسفل حزرة على ميل من السيالة ناحية عن الطريق يمين المتوجه إلى مكة، لولد عبد الله بن حسن.
قال المجد: هي موضع قرب المدينة يسكنه آل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى الحسني خرج على المتوكل فأنفذ إليه أبا(4/95)
الساج في جيش ضخم، فظفر به وبجماعة من أهله فأخذهم وقيدهم وقتل بعضهم، وأخرب سويقة، وعقر بها نخلا كثيرا، وخرب منازلهم، وما أفلحت سويقة بعد ذلك، وكانت من جملة صدقات علي بن أبي طالب، ثم قال: وسويقة أيضا قرب السيالة، انتهى.
قلت: هي التي قبلها، وتبع المجد في المغايرة بينهما كلام ياقوت، وسويقة أيضا:
جبيل بين ينبع والمدينة، نقله ياقوت عن ابن السكيت، وتعرف اليوم بالسويق منازل بني إبراهيم أخي النفس الزكية، قال ياقوت: وجوّ سويقة: موضع آخر ذكرته الشعراء، وقال في حرف الجيم: الجو عند العرب كل مكان اتسع بين الأودية، وجو سويقة: من نواحي المدينة لآل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
قلت: فهو الذي بقرب السيالة لما سبق.
السّيّ:
بالكسر، على خمس ليال من المدينة ناحية ركية من وراء المعدن كان إليها سرية شجاع بن وهب الأسدي لجمع من هوازن.
السيالة:
مخففة كسحابة، سبقت في مسجد شرف الروحاء. قال ابن السكيت: مرّ تبّع بالسيالة بعد رجوعه من المدينة، وبها واد يسيل، فسماها السيالة، وآخر السيالة شرف الروحاء، وهي على ثلاثين ميلا من المدينة.
السيح:
بالكسر وسكون المثناة التحتية، مصدر ساح بسيح سيحا، اسم للموضع الذي في غربي مساجد الفتح.
قال ابن النجار: وفي الخندق قناة تأتي إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح، انتهى.
وذكره المطري، وزاد ضبطه كما سبق، وكذا الزبن المراغي، وزاد ابن زبالة نقل أن تلك الناحية إنما سميت بذلك لأن جشما وأخاه زيدا سكنا فيه، وابتنيا أطما يقال له السيح، فسميت به الناحية. انتهى.
وهذا ما نقله ابن زبالة في السنح بالنون كما سبق، ولهذا أورده المجد وغيره فيه، والقناة التي ذكرها ابن النجار هي قناة العين التي تقدم أنها هناك في تتمة الفصل الأول من الباب السادس.
سير:
بفتح أوله والمثناة التحتية كجبل، كثيب بين المدينة وبدر، يقال: إن قسمة غنائم بدر كانت به، قاله المجد، قال: وقال أبو بكر بن موسى: وقد يخالف في لفظه.
قلت: كأنه يشير إلى ما سبق في سبر بالموحدة من أن القسم وقع به، على أن أبا بكر هو الحارثي، وفي تهذيب النووي بعد ذكر القسم بشعب من شعاب الصفراء أن الحارثي(4/96)
قال: وأما شير بفتح الشين المعجمة بعدها ياء مثناة من تحت مشددة مكسورة- فكثيب بين المدينة وبدر، يقال: هناك قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، قال: وقد يخالف في لفظه، انتهى.
وما ذكره المجد من الضبط أقرب إلى الصواب؛ لأني رأيته كذلك في نسخة معتمدة من تهذيب ابن هشام، ولفظه: حتى خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له سير، فقسم هناك النفل، وبين النازية والصفراء علو خيف بنى سالم موضع يعرف اليوم عند العرب بشعب سير كما ضبطه المجد، ورأيت في أوراق لبعضهم وصفه بما هو عليه اليوم، فقال: شعب سير هو المنزلة القديمة للحاج إذا رحل من المستعجلة ونزل في فركات الخيف وهناك بركة قديمة، قال: وهذا الشعب بين جبلين يعرف بجبال المضيق علو الصفراء بينه وبين المستعجلة نحو نصف فرسخ.
حرف الشين
شابة:
بباء موحدة مخففة، جبل بين الربذة والسليلة.
شاس:
أطم برحبة مسجد قباء، على يسارك مستقبل القبلة، كان لشاس أخي بني عطية بن زيد.
الشبا:
كالعصا، واد بالأثيل بناحية الصفراء، فيه عين تسمى خيف الشبا لبني جعفر بن أبي طالب.
شباع:
ككتاب، سبق في بئر السائب أنه الجبل المشرف عليها.
الشباك:
كالجبال، جمع شبكة، موضع من بلاد غنى، بين المدينة وأبرق العزاف، وموضع آخر قرب سفوان، وشاك بني الكذاب: من نواحي المدينة.
الشبعان:
بلفظ ضد الجيعان، أطم بالمدينة، كان في ثمغ صدقة عمر رضي الله تعالى عنه.
الشبكة:
مفرد الشباك، موضع بوادي إضم، به مال يسمى الشبكة بعد ذي خشب.
الشجرة:
بلفظ واحدة الشجر، يضاف إليها مسجد ذي الحليفة كما سبق فيه، وهي سمرة كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل تحتها هناك فعرف الموضع بها، والشجرة أيضا: مال فيه أطم لبني قريظة؛ ولعله المعروف اليوم هناك بالشجيرة مصغرا.
شدخ:
بسكون الدال المهملة وخاء معجمة، واد به الموضع المسمى بنخل كما سيأتي.
الشراة:
جبل مرتفع في السماء تأويه القردة، لبني ليث وبعض بني سليم، دون عسفان عن يسارها، وفيه عقبة تذهب إلى ناحية الحجاز تسمى الخريطة.(4/97)
الشربة:
بثلاث فتحات والباء موحدة مشددة، كل أرض معشبة لا شجر بها، وهي اسم موضع بين السليلة والربذة، وقيل: إذا جاوزت البقرة وماوان تريد مكة وقعت في الشربة، وهي أشد بلاد نجد قرا، وقيل: هي فيما بين نخل ومعدن بني سليم، ومعنى هذا الأقوال واحد.
شرج:
بالفتح ثم السكون آخره جيم، موضع قرب المدينة يعرف بشرج العجوز، له ذكر في حديث كعب بن الأشرف، وشرج أيضا: ماء بنجد، وماء أو واد لفزارة به بئر.
الشرعبي:
بالفتح ثم السكون وفتح العين المهملة وكسر الموحدة آخره ياء النسبة، أطم دون ذباب، كان لأهل الشوط من يهود، ثم صار لبني جشم من الأوس.
الشرف:
محرك، الموضع العالي، وهو شرف الروحاء، وشرف السيالة لكونه آخر السيالة وأول وادي الروحاء، والشرف أيضا: كبد نجد، وفيه الربذة وحمى ضرية كما سبق في حمى الشرف.
شريق:
تصغير شرق، موضع بوادي العقيق، قال أبو وجرة:
إذا تربعت ما بين الشريق إلى ... روض الفلاج أولات الشرج والعنب
أي عنب الثعلب وروى «الشريف» بالفاء.
الشطان:
بالضم وسكون الطاء المهملة، من أودية المدينة.
شطمان:
مال في بني قريظة.
الشطون:
بئر بناحية شعر.
الشطيبة:
مال ابن عتبة بجنب الأعواف، ولعلها المعروف هناك بالعتبى، قال ابن زبالة: وفي الشطيبة يقول رجل من بني قريظة وخطب امرأة من بلحارث بن الخزرج، فقالت: أله مال على بئر مدري أو هامات أو ذي وشيع أو الشطيبة أو بئر فجار؟ وهي في بئر أريس، فقال القرظي:
تكلفني مخارق بئر مدري ... وهامات وأعذق ذي وشيع
فما حازت شطيبة من سواد ... إلى الفجار من عذق الرجيع
الشظاة:
بالفتح، اسم لوادي قناة، تقدم في إضم عن القاموس أنه اسم ما يلي السد من الوادي، وفي تهذيب ابن هشام فيما قيل في بني النضير من الشعر قول عباس بن مرداس أخي بني سليم من أبيات:
وإنك عمري هل أريك ظعائنا ... سلكن على ركن الشظاة فتيأبا
عليهن عين من ظباء تبالة ... أوانس تصبين الحليم المجربا(4/98)
شعب:
بالضم، علم لواد يصبّ في الصفراء، نقله النووي عن الحازمي، وسيأتي في نخال أنه اسمه، والشعب بالكسر واحد الشعاب للطريق بين الجبلين أو ما انفجر بينهما أو مسيل الماء في بطن وأرض. وشعر أحد: هو الذي نهض المسلمون برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه يوم أحد، وأسندوا إليه، قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حتى ملأ درقته من المهراس. وشعب العجوز: بظاهر المدينة، قتل عنده كعب بن الأشرف، ويذكر بد له شرج العجوز، وقد سبق، وفي السير أنه لما هتف أبو نائلة بكعب بن الأشرف وهو في حصنه ببني النضير ليلة قتله، فنزل لأبي نائلة وأصحابه، فقالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز فنبحث بقية ليلتنا هذه؟ فقال: إن شئتم، فمشوا ساعة حتى استمكنوا منه وقتلوه.
شعبى:
بالضم وفتح العين والموحدة مقصورة، جبل، وقيل: جبال منيعة بحمى ضرية.
شعب المشاش:
تقدم في العقيق، وهو خلف جماء العاقل.
شعب شوكة:
يأتي في شوكة أنه المعروف بشعب على قرب الشرف.
شعبة:
بالضم ثم السكون، واحدة الشّعب، وهي الطائفة من الشيء، ومن الجبال رؤوسها، ومن الشجر أغصانها، وشعبة: اسم عين قرب بليل، وشعبة عبد الله: تقدمت في الخلائق، وشعبة عاصم: ستأتي في عاصم، ووادي شعبة: من أودية أبلى.
شعث:
بالضم ثم السكون آخره مثلاثة جمع أشعث، موضع بين السوارقية ومعدن بني سليم.
شعر:
بلفظ شعر الرأس، جبل ضخم مشرف على معدن الماوان، قبل الربذة بأميال، قاله المجد، وقال الهجري: هو من ناحية الوضح، وقد أكثر الشعراء من ذكره، قال حكيم الخضري:
سقى الله الشطون شطون شعر ... وما بين الكواكب والغدير
شغبي:
بالفتح وسكون الغين المعجمة وفتح الموحدة كسكرى، قرية بين المدينة وأيلة، وكذا بدا قرية أخرى، قال كثير:
وأنت التي حبّبت شغبي إلى بدا ... إليّ، وأوطاني بلاد سواهما
حللت بهذا حلّة، ثم حلة ... بهذا، فطاب الواديان كلاهما
شفر: كزفر جمع شفير الوادي، جبل بأصل حمى أم خالد، يهبط إلى بطن العقيق، كان يرعى به سرح المدينة يوم أغار عمرو بن جابر الفهري، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى(4/99)
ورد بدرا.
شقر: بالقاف كزفر، ماء بالربذة عند سنام جبل مشرف على معدن الماوان.
الشقراء: تأنيث الأشقر، في الحديث: وفد عمرو بن سلمة الكلابي على النبي صلى الله عليه وسلم، واستقطعه حمى بين الشقراء والسعدية، وهما ما آن في البادية، قاله ياقوت.
الشقراة: جبيل انصب في غربي النقيع.
الشقرة: بالضم ثم السكون، موضع بطريق فيد، بين جبال حمر، على نحو ثمانية عشر ميلا من النخيل، وعلى يوم من بئر السائب ويومين من المدينة، انتهى إليه بعض المنهزمين يوم أحد، كما رواه البيهقي، ومنه قطع كثير من خشب الدوم لعمارة المسجد النبوي بعد الحريق.
شق: بالفتح عن الزمخشري، وقيل: بالكسر، من حصون خيبر، وقرية من قرى فدك يعمل فيها اللجم.
وروى الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم تحوّل إلى أهل الشق، وبه حصون ذوات عدد، يعني بعد فراغه من النطاة، فذكر فتح أول حصونه، وأن أهله هربوا إلى حصن البزار بالشق أيضا، وأنهم كانوا أشد أهل الشق رميا للمسلمين بالنبل والحجارة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفّا من حصباء فحصب به حصنهم، فرجف بهم ثم ساخ في الأرض، فأخذه المسلمون أهله.
شقة بني عذرة
تقدمت في مساجد تبوك.
شقة بني عذرة شلول
شلول:
بلامين كصبور، موضع بنواحي المدينة، قال ابن هرمة:
أتذكر عهد ذي العهد المحيل ... وعصرك بالأعارف والشّلول
وتعريج المطية يوم شوظى ... على العرصات والدمن الحلول
الشماء:
بالتشديد والمد، هضبة عالية في حمى ضرية، قاله المجد، وسماها الهجري الشيماء بالمثناة التحتية وقال: إنها من هضب الشق بناحية عرفجا، سميت بذلك لأنها حمراء وفي ناحيتها سواد.
الشماخ:
بالفتح والتشديد وإعجام الخاء، أطم في قبلة بيوت بني سالم خارجها.
شمنصير:
بفتحتين ثم نون ساكنة وصاد مهملة مكسورة ثم مثناة تحتية وراء، جبل ساية.
شناصير:
من نواحي المدينة، قال ابن هرمة:
لو عاج صحبك شيئا من رواحلهم ... بذي شناصير أو بالنعفف من عظم(4/100)
شنوكة:
بالفتح ثم الضم ثم السكون وفتح الكاف بعدها، جبل بعد شرف الروحاء بقليل، يقابل الشعب المعروف بشعب علي، وهو شعب شنوكة على ثلاثة أميال من مسجد شرف الروحاء، قاله الأسدي، قال ابن إسحاق في المسير لبدر: مر على فج الروحاء، ثم على شنوكة حتى إذا كان بعرق الظبية، وقال ابن سعد: شنوكة فيما بين السيالة وملل، وعندها هرب سهيل بن عمرو، وكان أسره ابن الدخشم يوم بدر، فقال له عندما كانوا بها:
خل سبيلي للعائط، فهرب وظفر به النبي صلى الله عليه وسلم.
الشنيف:
كزبير، أطم لبني ضبيعة بقرب أحجار المراء، وسبق ذكره في مقدمه صلى الله عليه وسلم قباء، قال كعب بن مالك:
فلا تتهدّد بالوعيد سفاهة ... وأوعد شنيفا إن غضبت وواقما
شواحط:
بالضم وبعد الألف حاء مهملة مكسورة وطاء مهملة، جبل قرب السوارقية كثير النمور والأراوي، ويوم شواحط: من أيام العرب.
شوران:
بالفتح، جبل يضاف إليه حرة شوران التي تقدم أن صدر مهزور منها، ولعله المعروف اليوم هناك بشوطان.
وقال عرام: ويحيط بالمدينة عير، ثم قال: وعير جبلان أحمران من عن يمينك وأنت ببطن العقيق تريد مكة، ومن عن يسارك شوران، وهو جبل مطل على السد كبير مرتفع.
ثم ذكر الصادر في قبلة المدينة، ثم قال: وليس على شيء من هذه الجبال نبت ولا ماء، غير شوران فإن فيه مياه سماء كثيرة يقال لها: البجيرات، وكرم، وعين، وأمعاء، وهو ماء يكون السنين الكثيرة، وفي كلها سمك أسود مقدار الذراع وما دون ذلك أطيب سمك يكون، انتهى.
فقوله «من عن يمينك وأنت ببطن العقيق» يقتضي أن الجبل المعروف بعير هو شوران، وهو مشرف على السد كما سبق، وكان بناحيته بالعقيق كرم ثنية شريد، لكن ابن زبالة والزبير والهجري كلهم سموه عيرا، وليس عليه ماء، فتناول كلامه بأن المتوجه إلى مكة من قبلة المدينة إذا صار ببعض أودية العقيق التي تصب فيه هناك كان في جهة يمينه عير الصادر، وعير الوارد في المغرب، وعن يساره شوران في المشرق، ويؤيده أن ما ذكره بعد ذلك كله في شرقي المدينة من ناحية القبلة، وقال: ثم يمضي نحو مكة مصعدا، وذكر ما سبق في أبلى، ولأنه قال: إن ميطان حذاء شوران، وميطان في المشرق من جهة القبلة. فيكون السد المشرف عليه شوران غير السد الذي بقرب عير.
وقال نصر: شوران واد في ديار سليم يفرغ في الغابة؛ وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وكأنه أطلق وادي شوران على ما ينحدر من حرته إلى المدينة.(4/101)
وروى الزبير عن محمد بن عبد الرحمن قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إبلا في السوق، فأعجبه سمنها، فقال: أين كانت ترعى هذه؟ قال: بحرة شوران، فقال: بارك الله في شوران.
وكانت البغوم صاحبة ريحان الخضري نذرت أن تمشي في شوران حتى تدخل من أبواب المسجد كلها مزمومة بزمام من ذهب، فقال:
يا ليتني كنت فيهم يوم صبّحهم ... من نقب شوران ذو قرطين مزموم
تمشي على نجش يدمى أناملها ... وحولها القبطريات العياهيم
فبات أهل بقيع الدار يفعمهم ... مسك ذكي ويمشي بينهم ريم
شوط:
بالفتح ثم السكون وطاء مهملة، كان لأهله الأطم الذي يقال له الشرعبي دون ذباب، وتقدم أن بعض بني الحارث سكن الشوط وكرم الكومة التي يقال لها كومة أبي الحمراء، فهو في شامي ذباب قرب منازل بني ساعدة والكومة المذكورة.
وقال ابن إسحاق في مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى أحد: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عبد الله بن أبي، ورجع إلى المدينة.
وروى البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب أنه قال في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد: حتى إذا كان بالشوط من الجبانة انخذل عبد الله بن أبي، وسبق في ذباب أنه بالجبانة، وفي الصحيح في حديث العابدة: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط، وذكر نزول الجونية هناك في بيت لبعض بني ساعدة، ودخوله صلى الله عليه وسلم عليها.
وفي رواية ابن سعد عن أبي أسيد قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون، فأمرني أن آتيه بها، فأتيته بها، فأنزلتها بالشوط من وراء ذباب في أطم وفي رواية له:
فأنزلتها في بني ساعدة، وفي أخرى. فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءها، وقال النضر بن شميل: الشوط مكان بين شرفين من الأرض، يأخذ فيه الماء والناس كأنه طريق، ودخوله في الأرض أن يواري البعير وراكبه، ولا يكون إلا في سهول الأرض، انتهى، وسبق في سيل مهزور أن آخره كومة أبي الحمراء، ثم يصب في قناة.
شوطى:
بحروف الذي قبله مقصور كسكرى، قال الهجري: وللعقيق دوافع من الحرة مشهورة ذكرتها الشعراء، منها شوطى وروضة ألجام، قال ابن أذينة:
جاد الربيع بشوطى رسم منزلة ... أحبّ من حبها شوطى فألجاما
فبطن خاخ فأجزاع العقيق لها ... نهوى، ومن جونتي عيرين أهضاما(4/102)
وقال المجد: شوطى موضع بعقيق المدينة فيها يقول المزني لغلام اشتراه بالمدينة:
تروّح يا يسار فإن شوطى ... وتربانين بعد غد مقيل
بلاد لا يحس الموت فيها ... ولكن الغذاء بها قليل
وشوطى أيضا: بحرة بني سليم.
قلت: وأظنه الذي قبله.
شيخان:
بلفظ تثنية شيخ، أطمان بجهة الوالج، قال ابن زبالة: بفضائهما المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى أحد.
وقال المجد: هو موضع يقال له ثنية شيخان، عسكر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خرج لأحد، وهناك عرض الناس فأجاز من رأى وردّ من رأى، قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: كنت ممن ردّ من الشيخين يوم أحد، وقيل: هما أطمان، سميا به لأن شيخا وشيخة كانا يتحدثان هناك، وقال المطري: هو موضع بين المدينة وجبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه لأحد على الحرة الشرقية حرة واقم، وبات بالشيخين، وغدا صبح يوم السبت إلى أحد.
حرف الصاد
صاحة:
كرامة، الأرض التي لا تنبت أصلا، وهو اسم هضبات خمس لباهلة قرب عقيق المدينة، قاله المجد، وكأن الوليد بن عقبة جمعها حيث قال:
ولولا عليّ كان جلّ مقالهم ... كضرطة عير بالصحاصح من إضم
صارة:
جبل بين تيماء ووادي القرى، قال:
سقى الله حيّا بين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر
صارى:
بكسر الراء وتخفيف الياء، جبل في قبلة المدينة.
صايف:
موضع بنواحي المدينة.
صبح:
بالضم ثم السكون بلفظ أول النهار، قال ياقوت: صبح وصباح ما آن حيال نملي لبني قريظة، وقال الأصمعي: وفي حيال نملي صباح وصبح ما آن، قالت امرأة تزوجها رجل فحنت إلى وطنها:
ألا ليت لي من وطب أمي شربة ... تشاب بماء من صبيح فأبضع
أي أروى، والباضع: الريان، انتهى، وأما قول أعرابي:
ألا هل إلى أجبال صبح بذي الغضى ... غضى الأثل من قبل الممات معاد
فالظاهر: أنها جبال صبح التي عن يسار المتوجه إلى مكة ببدر وما حولها، ولهذا قال(4/103)
المجد: اجتزت بها في مسيري على المدينة من مكة، فذكر بعض العرب أن على متن جبال صبح نخيلا كثيرة ومزارع، انتهى. وليست هي في جهة نملي؛ لما سيأتي فيها.
الصحرة:
بالضم وإسكان الحاء المهملة لغة جوبة تنجاب في الحرة، وهي اسم أرض تحف قاع النقيع من غربيه، وأعراب تلك الجهة يسمونها اليوم السحرة بضم السين المهملة بدل الصاد.
صحن:
بلفظ صحن الدار، جبل فوق السوارقية، فيه ماء عذب يزرع عليه، قال شاعرهم:
جلبنا من جنوب الصحن جردا ... عتاقا سرها نسلا لنسل
فسوافينا بها يومي حنين ... رسول الله جدا غير هزل
صخيرات الثمام:
تقدم في الثاء المثلاثة.
صدار:
كغراب، موضع بنواحي المدينة.
قلت: لعله المعروف بالصدارة بوادي الروحاء.
صرار:
ككتاب، وروى بالضاد المعجمة، وهو وهم، قال الخطابي: هي بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق، قال عياض: ويدل لكونها اسم موضع غير بئر لكن بها بئار قول الشاعر:
لعل صرارا أن تجيش بئارها
قلت: سبق في منازل يهود أن أناسا منهم كانوا بالجوانية، وكان لهم بها الأطم الذي يقال له صرار، وبه سميت تلك الناحية صرارا، ولهم الريان أيضا، وصارا لبني حارثة، قال ابن زبالة: وله يقول نهيك بن سياف:
لعل صرارا أن تجيش بثاره ... ويسمع بالريان تبني مسار به
فصرار: أطم شامي المدينة من ناحية الحرة ومنازل بني حارثة، وسبق أنهم كانوا مع بني عبد الأشهل في دارهم، ثم أجلوهم إلى خيبر، ثم رق لهم حضير بن سماك الأشهلي لما عناه خفاف بن ندبة بقوله:
فإن حضيرا والذي قد أرادها ... حضير كرائي حفته وهو شاربه
لعل صرارا أن تغور بئاره ... ويسمع بالريان تعوى ثعالبه
فإن يهلكوا تهلك، وإن تدن دارهم ... تكون حبا خير أصابك خاصبه
فقال: إن هذا لهكذا، إني والله إن هلكت هلكت بنو حارثة، وإن يهلكوا نهلك، ولا مانع أن يكون في طريق العراق ماء يسمى بصرار أيضا، ويدل له قول نصر: صرار ماء(4/104)
بقرب المدينة محتفر جاهلي، له ذكر كثير على سمت العراق وقال ياقوت: صرار اسم جبل من جبال القبلية قرب المدينة، قال جرير:
إن الفرزدق لا يزايل لؤمه ... حتى تزول عن الطريق صرار
قال: وصرار أيضا موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق، انتهى.
وقال العمراني: صرار اسم جبل، وأنشدني جار الله العلامة للأفطس العلوي، وفي الأغاني أنه لأيمن بن خريم:
كأن بني أمية حين راحوا ... وعرّى من منازلهم صرار
وقال: هو من جبال القبلية، قال: وصرار أيضا بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة، على طريق العراق، وقيل: موضع بالمدينة، وفي غزوة عرفدة الكدر أنهم اقتسموا غنائمهم بصرار على ثلاثة أميال من المدينة، قاله ابن سعد.
قلت: والمراد من حديث أمره صلى الله عليه وسلم بنحر بقرة لما قدم صرارا إنما هو صرار الذي بالمدينة، ولهذا قال البخاري: صرار موضع ناحية بالمدينة، وترجم عليه «باب اتخاذ الطعام عند القدوم» وتوضحه الرواية الآخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزورا أو بقرة.
الصعبية:
بالفتح ثم السكون، آبار عذبة يزرع عليها، لبني خفاف من بني سليم قرب أبلى.
صعيب:
تصغير صعب، وقيل: صعين بالنون تصغير صعن، تقدم مستوفي في الاستشفاء بتراب المدينة، وله ذكر في البويرة.
الصّفاح:
بالكسر والحاء المهملة، موضع بالروحاء.
صفاصف:
موضع بين سد عبد الله بن عمرو بن عثمان وبين الصعبية.
الصفراء:
تأنيث الأصفر، واد كثير النخل والعيون والزروع، سبق ذكره في المساجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عنه إلى ذفران في المسير إلى بدر الكبرى، وسلكه في رجوعه، وقال المجد: سلكه النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة.
صفر:
بلفظ الشهر الذي يلي المحرم، جبل أحمر بفرش ملل، يقابل عبودا، الطريق بينهما، وبه بناء كان للحسن بن زيد، وبقفاه ردهة يقال لها ردهة العجوزين، والعجوزين:
هضبات هناك كان يسكنها أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب الزمعي جد ولد عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم لأمهم، وقال بعضهم في رثائه:(4/105)
إذا ما ابن زاد الركب لم يسر ليلة ... ففي صفر لم يقرب الفرش زائر
وقال عمر بن عائذ الهذلي:
أرى صفرا قد شاب قبل لداته ... وشابة أيضا شاب منه العواقر
وشابت قناة بالعجوزين لم تكن ... تشيب وشاب العرفط المتجاور
الصفة:
بالضم وفتح الفاء المشددة، تقدمت في الفصل الثامن من الباب الرابع.
صفنة:
بالفتح كجفنة بالنون، منزلة بني عطية بن زيد، وبه أطمهم شاس برحبة مسجد قباء.
صفينة:
كسفينة، موضع بين بني سالم وقباء.
ذو صلب:
بالضم، تقدم في أودية المدينة.
صلحة:
بالضم ثم السكون، اسم دار بني سلمة، سماها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق عن المجد في حربى، وأن الذي في نسخة ابن زبالة وخط المراغي طلحة بالطاء المهملة.
صلصل:
بالضم ثم السكون والتكرير، موضع على سبعة أميال من المدينة، قاله المجد، وسبق في أودية العقيق أن ما أقبل من الصلصلين يدفع في بئر أبي عاصية، وما دبر منهما يدفع في البطحاء، والبطحاء تدفع من بئر الجبلين في العقيق، وقال ابن سعد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح من المدينة يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر، فلما انتهى إلى الصلصل قدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين من المسلمين، ونادى مناديه: من أحبّ أن يفطر فليفطر، ومن أحبّ أن يصوم فليصم، وله شاهد بالإفراد، فما قيل في العقيق من الشعر فهو بالتثنية كما يأتي، وهو جبل معروف اليوم في أثناء البيداء على يمين المتوجه إلى مكة شرقي عظم إلى القبلة.
صلاصل:
أرض بحرة وادي بطحان، تقدمت في قصر عاصم بالعقيق، قال أبو معروف أخو بني عمرو بن تميم:
أحبّ الصلصلين فبطن خاخ ... إلى مفضى البلاط إلى النقيع
إلى قبر النبي فجانبيه ... إلى الفيفاء أو أدنى مطيع
إلى وادي صلاصل فالمصلّى ... إلى أكناف أعذق ذي وشيع
فتلك إذا تشاجرت النّواصي ... ولج الناس في الخلق البديع
منازل غبطة وبلاد أمن ... تكفّ عن المفاقر والقنوع(4/106)
الصمد:
بسكون الميم وإهمال الدال، ماء قرب المدينة، له يوم مشهور، قاله المجد. والصمد: موضع بقباء، وجمعه كعب بن مالك في شعره فقال:
ألا أبلغ قريشا أن سلعا ... وما بين العريض إلى الصماد
نواضح في الحروب مدربات ... وحوص نقيب من عهد عاد
الصمغة:
بالغين المعجمة، موضع بقرب قناة، ذكر ابن هشام نزول قريش بعينين على شفير وادي قناة، ثم ذكر تسريحهم الظّهر والكراع في زرع كانت بالصمغة من قناة.
الصمان:
بالفتح وتشديد الميم وألف ونون، جبل أحمر ينقاد ثلاثة أيام، وليس له ارتفاع، يجاور الدهناء، وقيل: قرب رمل عالج، قاله ياقوت.
قلت: والمراد من الدهناء التي هي سبعة أحبل بالحاء المهملة- من الرمل بديار تميم. والظاهر أنها رمل عالج، فالمراد من العبارتين واحد، ولذا قال في القاموس:
الصمان كل أرض صلبة ذات حجارة إلى جنب رمل، وموضع بعالج.
صوار:
بالضم وواو وألف وراء، موضع بالمدينة، قال الشاعر:
فمحيص فواقم فصوار ... فإلى ما يلي حجاج غراب
صورى:
كجمزى، قال ابن الأعرابي: واد في بلاد مزينة قرب المدينة.
قلت: هو بجهة النقيع، يعرف اليوم بصورية بزيادة هاء، وقد أورد الزبير شاهد ريم المتقدم، وفيه ذكره، ثم قال: وصورى من صدور أتمة ابن الزبير.
الصّوران:
تثنية صور بالفتح ثم السكون، النخل المجتمع الصغار، موضع بأقصى البقيع مما يلي طريق بني قريظة، قال مالك: كنت آتي نافعا مولى ابن عمر نصف النهار ما يظلني شيء من الشمس، وكان منزله بالبقيع بالصورين، وفي السير: لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة مر في طريقه بنفر من أصحابه بالصورين، وتقدم أن الصافية وما معها من الصدقات متجاورات بأعلى الصورين قصر مروان، وأن سيل مهزور يسقيها، ثم يفضي إلى الصورين قصر مروان، ثم يأخذ بطن الوادي على قصر بني يوسف، ثم يصب في النقيع، والصوران أيضا: في أدنى الغابة.
ذو صوير:
كزبير، من أودية العقيق بقرب صورى.
صهيّ:
بالضم، جمع صهوة، قلل في جبل تقدمت في روضة الصهى.
الصهباء:
بلفظ اسم الخمر، من أدنى خيبر، بها مسجد، وبها كان رد الشمس كما سبق، وهي على بريد من خيبر فيما قاله ابن سعد.
الصهوة:
من أودية العقيق، قال ابن شبة: وتصدّق عبد الله بن عباس رضي الله(4/107)
تعالى عنهما بماله بالصّهوة، وهو موضع بين بين وبين حورة، على ليلة من المدينة، وتلك الصدقة بيد الخليفة توكل بها.
الصياصي:
أربعة عشر أطما كانت بقباء يتعاطى أهلها النيران بينهم من قربها.
الصيصة: أطم بقباء.
حرف الضاد
ضاحك:
اسم فاعل من ضحك، جبل بفرش ملل، بينه وبين ضويحك واد يقال له يين.
ضأس: كفأس، موضع بين المدينة وينبع، قال كثير:
بعينك تلك العير حي تغيبت ... وحتى أتى من دونها الخبت أجمع
وحتى أجازت بطن ضأس ودونها ... دعان فهضبا ذي النخيل فينبع
ضاف:
واد غربي لنقيع، من أوديته، تحفه الجبال، وقدس في غربيه، وأرضه مستوية يخالطها حمرة مهبط ثنية تبع من أتمة ابن الزبير، قال عروة بن أذينة:
لسعدي بضاف منزل متأبد ... عفا ليس مأهولا كما كنت تعهد
ضبع:
بسكون الباء الموحدة وضمها، من أودية العقيق، فيه يقول أبو وجرة:
فما بغرة فالأجراع من ضبع ... فالموفيات فذات الغيض فالسند
والضبع أيضا: موضع بحرة بني سليم، بينها وبين أفاعية.
ضبوعة:
بالفتح كحلوبة، منزل عند بليل، بين مشيرب وبين الحلائق، ومشيرب:
شامي ذات الجيش، وسبق في الخلائق نزوله صلى الله عليه وسلم بمجتمع بليل ومجتمع الضبوعة، واستقى له من بئر الضبوعة، وفي بعض النسخ «الصبوغة» بالصاد المهملة والغين المعجمة.
ضجنان:
بالفتح وسكون الجيم ونونين بينهما ألف، قال أبو موسى: موضع أو جبل بين الحرمين، وقال البكري: بين قديد وضجنان يوم، وفي القاموس أنه على خمسة وعشرين ميلا من مكة.
ضحيان:
بالفتح وسكون الحاء المهملة وبالمثناة تحت، أطم بالعصبة لأحيحة بن الجلاح، وقال ياقوت: شاده بأرضه التي يقال لها قنان، وله يقول:
إني بنيت واقما والضحيان ... والمستظل قبله بأزمان
ضرعاء:
قرية قرب جبل شمنصير.
ضرية:
تقدمت في حمى ضرية.
ضرى:
كسمى، بئر من حفر عاد بضرية.
ضع ذرع:
أطم شبه الحصن، كان عند بئر بني خطمة المسماة بذرع.(4/108)
ضغاضغ:
بضادين وغينين معجمات، جبل قرب شمنصير، عنده قرى لبني سعد بن بكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم.
ضغن:
بالكسر وسكون الغين المعجمة ثم نون، ماء لفزارة، بين خيبر وفيد.
ضفيرة:
بالفتح وكسر الفاء، الحقف من الرمل، والمسناة المستطيلة في الأرض وما بعقد بعضه على بعض ليحبس السيل ونحوه، قال المجد: هي اسم أرض بالعقيق للمغيرة بن الأخنس، قال الزبير: أقطع مروان عبد الله العامري ما بين الميل الرابع من المدينة إلى ضفيرة أرض المغيرة بن الأخنس التي بالعقيق كما سبق.
قلت: هذا لا يقتضي أنها اسم لأرضه، بل مضافة لأرضه، وكأنها بناء يفصلها من غيرها ويحبس السيل، وسبق بالعقيق بناء الضفيرة به في غير موضع وأن أروى زعمت أن سعيد بن زيد أدخل ضفيرتها في أرضه، ثم أبدى السيل عن ضفيرتها خارجة عن أرضه، وقال الهجري: إن عثمان بن عنبسة ضفر بعين ضرية ضفيرة بالصحراء، وجعلها تحبس الماء.
ضلع:
بني الشيصبان وضلع بنى مالك جبلان بحمى ضرية، بينهما وادي التسرير مسيرة يوم، وبنو مالك: بطن من الجن مسلمون، وبنو الشيصبان: بطن من الجن كفار، ولم يزل الناس يذكرون إسلام هؤلاء وكفر هؤلاء، ويقع بينهما القتال، وفي ذلك خبر غريب نقله المجد، قال: وضلع بني مالك يحل به الناس ويرعون ويصيدون، بخلاف ضلع بني الشيصبان، وربما مر به من لا يعرف فيرعى الكلأ فأصابه شر، ولغنى ماء إلى جنب ضلع بني مالك.
ضويحك:
جبل يناوح ضاحكا، بينهما وادي بين.
الضيقة:
بقرب ذات خماط، بها مسجد تقدم في الفصل الرابع من الباب السادس، والضيقة أيضا: يسمى بها اليوم أعلى وادي إضم.
حرف الطاء
طاشا:
بالشين المعجمة، من أودية الأشعر الغورية، يصب على وادي الصفراء.
طخفه:
بالكسر وسكون الخاء المعجمة، جبل أحمر طويل حذاء منهل وآبار، سبق ذكره في حمى ضرية.
الطرف:
بفتح الراء وبالفاء، قال المجد: إنه على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، قال الواقدي: هو ماء دون النخيل، وقال ابن إسحاق: هو من ناحية العراق، وقال الأسدي في(4/109)
وصف طريق العراق: إنه على خمسة وعشرين ميلا من المدينة، وعلى عشرين ميلا من بطن نخل، وذكر فيه آبارا وبركا، قال: وآخر أعلى الطرف بئر أبي ركانة على عشرة أميال من المدينة.
ذو الطّفيتين:
بالضم وسكون الفاء، من غدران مسيل العقيق، واسمه اليوم أبو الطفا، قال الهجري: وهو في رضراضة غليظة من أعذب ماء شرب، ما شرب منه أحد إلا بال الدم.
طفيل:
قال عرام: إنه جبيل صغير متوسط للخبت، والخبت: يمين هرشى في المغرب، وهو غير طفيل المذكور في شعر بلال.
طويلع:
تصغير طالع، في ألسنة العامة أنه موضع بالمدينة، وليس كذلك، إنما هو موضع بنجد، وقيل: لبني تميم.
طيخة:
بسكون المثناة تحت وإعجام الخاء وقيل: مهملة- ويقال فيه «طيخ» بغير هاء، موضع بأسفل ذي المروة.
حرف الظاء
الظاهرة:
بناحية النقا والمدرج من الحرة الغربية، وسبق أواخر الفصل الحادي عشر من الباب الثالث قول الطائفتين من الأنصار: موعدكم الظاهرة، وهي الحرة، فخرجوا إليها، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إليهم فيمن عنده من المهاجرين.
ظبية:
بلفظ واحدة الظباء، موضع بديار جهينة، وفي حديث عمرو بن حزم: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ما أعطى محمد النبي صلى الله عليه وسلم عوسجة بن حرملة الجهني من ذي المروة إلى الظبية إلى الجعلات إلى جبل القبلية، وظبية أيضا: موضع بين ينبع وغيقة بساحل البحر، وماء بنجد.
ظبية:
بالضم ثم السكون، علم مرتجل يضاف إليه عرق الظبية المتقدم في مساجد طريق مكة بوادي الروحاء، وقال السهيلي: الظبية شجرة تشبه القتادة يستظل بها، وبهذا الموضع قتل عقبة بن أبي معيط صبرا منصرفهم من بدر، فقوله في حديث الصحيح رأيتهم صرعى ببدر» معناه أكثرهم، ولأن عمارة بن الوليد أيضا كان عند النجاشي، فاتهمه في حرمه، وكان جميلا، فنفخ في إحليله شجرا فهام مع الوحش في بعض جزائر الحبشة فهلك.
ظلم:
بالفتح ثم الكسر ككتف، من أودية القبلية، وعدّه الهجري في أودية الأشعر،(4/110)
وقال نصر: ظلم جبل بين إضم وجبل جهينة، وظلم أيضا كما قال الأصمعي جبل أسود لعمرو بن كلاب، وهو أحد الجبال لثلاثة التي تكتنف الطرق فيما قاله عرام.
الظهار:
ككتاب، حصن بخيبر.
حرف العين
عابد:
بكسر الباء الموحدة ودال مهملة، وعبّود- بالفتح وتشديد الموحدة- وعبيد بالضم مصغرا، ثلاثة أجبل ذكرها الهجري فيما نقله من وصف فرش ملل، وعبود في الوسط، وهو الأكبر، وهو بين مدفع مر بين وبين ملل مما يلي السيالة، وقيل: عنده البريد الثاني من المدينة، وبطرفه عين لحسن بن زيد، على الطريق منقطعة، فيها يقول ابن معقل الليثي:
قد ظهرت عين الأمير مظهرا ... بسفح عبود أتته من مرا
عارمة:
كفاطمة، ردهة بين هضبات تدعين عوارم بوسط حمى ضرية، وشاهدها في حليت.
عاص وعويص:
واديان عظيمان بين مكة والمدينة.
عاصم:
كصاحب، أطم لبني عبد الأشهل، كان على الفقارة في أدنى بيوت بني النجار، وأطم آخر لبعض يهود بقباء، وفيه البئر التي يقال لها قباء، وذو عاصم: من أودية العقيق، سمي بذلك لأن الأوس لما جلوا عن المدينة ونزلوا النقيع حالفوا مزينة، وعقد الحلف بينهم عاصم بن عدي بن العجلان، فسميت الشعبة التي وقع فيها الحلف: شعبة عاصم.
عاقل:
بكسر القاف، جبل يناوح منعجا، وكان يسكنه الحارث بن آكل المرار جدّ امرئ القيس بحمى ضرية.
العالية:
تأنيث العالي، قال عياض: العالية وعوالي المدينة كل ما كان من جهة نجد من المدينة من قراها وعمائرها إلى تهامة، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهي السافلة.
قلت: هذا مسمى العالية من حيث هي لا عالية المدينة؛ إذ مقتضاه أن المدينة وما حولها عالية لما سبق في الحجاز عن الأصمعي، وإن قلنا برأي عرام من أن المدينة نصفها حجازي ونصفها تهامي فلا تصدق العالية على شيء منها، أو على نصفها الذي يلي المشرق فقط، واستعمال عالية المدينة في الأحاديث وغيرها يخالفه لتصريح الأحاديث بأن قباء من العالية، ولما عدد ابن زبالة أودية العالية لم يعد قناة، وهي في شرقي المدينة، وعد رانوناء وهي في غربيها للقبلة، والمعروف أن ما كان من جهة قبلة المدينة على ميل(4/111)
أو ميلين فأكثر من المسجد النبوي فهو عالية المدينة كما سنوضحه، وقال المجد عقب ما سبق عن عياض: وقال قوم: العالية ما جاوز الرمة إلى مكة، وقال أبو منصور: عالية الحجاز أعلاها بلدا وأشرفها موضعا، وهي بلاد واسعة، انتهى، وبه يعلم أن هذا كله في مطلق العالية، لا في عالية المدينة، وقال عياض: والعوالي من المدينة على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وهذا حد أدناها، وأبعدها ثمانية أميال، انتهى، ويرده أنه قال في السنح: إنه منازل بني الحارث بن الخزرج بعوالي المدينة، بينه وبين منزل النبي صلى الله عليه السلام ميل، وذكره ابن حزم أيضا، ونقله الحافظ ابن حجر عن أبي عبيد البكري، وفي العتبية عن مالك: أقصى العالية على ثلاثة أميال، يعني من المسجد النبوي، ويؤيده ما في الصحيح عن أنس من طريق الزهري «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوها» ولفظ البيهقي «وبعد العوالي» بضم الموحدة، وفي رواية له «وبعد العوالي أربعة أميال أو ثلاثة» ولفظ أبي داود «العوالي على ثلاثة أميال» ووقع عند الدارقطني «على ستة أميال» وعند عبد الرزاق «على ميلين أو ثلاثة» .
وقوله «والعوالي» إلى آخره مدرج من كلام الزهري كما بينه عبد الرزاق وطريق الجمع أن أدنى العوالي من لمدينة على ميل أو ميلين، وأقصاها عمارة على ثلاثة أو أربعة أميال، وأقصاها مطلقا ثمانية أميال.
عائد: بكسر النون ودال مهملة، واد بجنب السقيا من عمل الفرع، ويروى «عايذ» بالياء والذال المعجمة، قاله المجد، وقال الأسدي: وادي العائد قبل السقيا يميل، ويقال له: وادي القاحة.
عائذ:
بالذال المعجمة، قرب الربذة.
عاير:
يضاف إليه ثنية العاير، عن يمين ركوبة، ويقال بالغين المعجمة أيضا، والأول أشهر.
عبابيد:
موضع قرب تعهن، وروى عبابيب بثلاث باآت موحدات بعد الثانية مثناة تحتية، ويروى العثيانية بمثلاثة ثم مثناة تحت ثم ألف ونون، جاء ذكره في سفر الهجرة.
عباثر:
جمع عبيثران للنبات المعروف، واد من الأشعر بين نخل وبواط، به نقب يؤدي إلى ينبع، وهو لبطن من جهينة، ابتاع موسى بن عبد الله الحسيني منهم أسفله، وعالج به عينا.(4/112)
العبلاء:
بالفتح ثم السكون ممدود، موضع من أعمال المدينة، ويقال لها: عبلاء الهرودة، نبت يصبغ به، وعبلاء البياض: موضع آخر.
عبود:
بالفتح ثم الضم مشددا، تقدم في عابد.
العتر:
بالكسر وسكون المثناة الفوقية ثم راء، جبل بالمدينة في قبلتها. يقال له:
المستندر الأقصى، قال زهير:
كمنصب العتر إذ في رأسه النسك
قالوا: أراد بمنصب العتر صنما كان يقرب له عتر، أي ذبيحة، والعتر بالفتح: الذبح، قاله المجد.
عثاعث:
جبال صغار سود بحمى ضرية مشرفات على مهزور.
عثعث:
بمثلثتين كربرب، الجبل الذي يقال له سليع بالمدينة، عليه بيوت أسلم.
العجمتان:
تثنية عجمة، بجانب البطحاء بالعقيق.
عدنة:
بالنون محركا، موضع من الشربة وهضبة بالفريش كان بها منزل داود بن عبد الله بن أبي الكرام وبني جعفر بن إبراهيم.
عدينة:
مصغر عدنة، أطم بالعصبة بين الصفاصف والوادي، سمي باسم امرأة كانت تسكنه.
عذق:
بالفتح ثم السكون، أطم لبني أمية بن زيد، وبئر عذق: تقدمت في الآبار.
عذيبة:
تصغير عذبة ماء بين الينبع والجار، ويقال فيها العذيب بغير هاء، قال كثير:
خليليّ إن أمّ الحكيم تحملت ... وأخلت لخيمات العذيب ظلالها
فلا تسقياني من تهامة بعدها ... بلالا، وإن صرب الربيع أسالها
عراقيب:
قرية ضخمة، ومعدن بحمى ضرية.
عرّى:
كغرّى، اسم وادي نقمي كما سيأتي في النون، قال سالم بن زهير الخضري:
إذا ما الصبا هبت وقد نام صبيتي ... بأخيال عرّى لم يرعنا حثيثها
عرب:
بكسر الراء ككتف، ناحية قرب المدينة أقطعها عبد الملك كثيرا الشاعر، وأما عرم بوزنه إلا أن آخره ميم فواد ينحدر من ينبع إلى البحر، وجيل لعله بالوادي المذكور، وإياه عنى كثير بقوله:
سحت بماء الفلاة من عرم
العرج:
بالفتح ثم السكون، قرية جامعة تقدمت في مساجد طريق مكة.
قال المجد: هي ثمانون ميلا إلى ميلين من المدينة، قيل: لما رجع تبّع من المدينة(4/113)
رأى هنا دوابّ تعرج فسماها العرج، وقيل لكثير: لم سميت بذلك؟ قال: لأنها يعرج بها عن الطريق، قال ابن الفقيه: يقال إن جبلها يمتد إلى الشام حتى يصل بلبنان، ثم إلى جبال أنطاكية وشمساط، وتسمى هناك اللكام، ثم إلى ملطية وقالى قلا إلى بحر الخزر، وفيه الباب ويتصل ببلاد الدان، وطوله خمسمائة فرسخ، وفيه اثنان وسبعون لسانا.
العرصة:
بالفتح ثم السكون وإهمال الصاد، كل جوبة متسعة لا بناء فيها لاعتراص الصبيان فيها، أي لعبهم، وعرصة العقيق: تقدمت في الفصل الثالث، وتنقسم إلى كبرى وصغرى كما سبق.
العرض:
بالكسر، اسم للجرف كما سبق فيه، قال المطري: إن حول مسجد القبلتين آبارا ومزارع تعرف بالعرض، في قبلة مزارع الجرف، قال شمر: وأعراض المدينة بطون سوادها حيث الزرع، وقال الأصمعي: أعراضها قراها التي في أوديتها، وقيل: كل واد فيه شجر فهو عرض، وقيل: كل واد عرض، ويقال للرساتيق بأرض الحجاز:
الأعراض، وقال يحيى بن أبي طالب:
ولست أرى عيشا يطيب مع النوى ... ولكنه بالعرض كان يطيب
عرفات:
بلفظ عرفات مكة، تل مرتفع في قبل مسجد قباء، سمي بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف يوم عرفة عليه، فيرى منه عرفات، كذا قاله ابن جبير في رحلته.
عرفجاء:
أحد مياه الأشق.
عرفة:
بالضم وسكون الراء وفتح الفاء، لغة: المتين المرتفع من الأرض فينبت الشجر، ويقال لمواضع متعددة منها: عرفة الأجبال، أجبال صبح في ديار فزارة بها ثنايا يقال لها المهادر، وعرفة الحمى حمى ضرية، وعرفة منعج.
عرق الظبية:
تقدم في الظاء المعجمة.
عريان:
بلفظ ضد المكتسي، أطم لآل النضر رهط أنس بن مالك من بني النجار، كما في صقع القبلة، كذا قاله المجد.
عريض:
تصغير عرض، واد بالمدينة، قاله الهمداني، وهو معروف شامي المدينة قرب قناة، وتقدم حديث «أصح المدينة من الحمى ما بين حرة بني قريظة إلى العريض» وفي السير أن أبا سفيان أحرق صورا من صيران نخل العريض، ثم انطلق هاربا.
عريفطان:
تصغير عرفطان تثنية عرفط، واد سبق في أبلى.
عرينة:
كجهينة، قرى بنواحي المدينة في طريق الشام، وعن معاذ بن جبل قال:
بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرى عرينة، فأمرني أن آخذ خط الأرض، رواه أحمد والطبراني(4/114)
في الكبرى، وقال الزهري: قال عمر وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [الحشر: 6] الآية: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قرى عرينة: فدك وكذا وكذا.
ووجد على حجر بالحمى كما سبق: أنا عبد الله الأسود رسول عيسى بن مريم إلى أهل قرى عرينة.
العزاف:
بالفتح وتشديد الزاي آخره فاء، جبل بالدهناء، قاله المجد، وسيأتي شاهده في المحيصر، وقال المجد هناك: ومن العزاف إلى المدينة اثنا عشر ميلا، وقال في القاموس: إنه بوزن شدّاد وسحاب فيه عزيف الرعد، ورمل لبني سعد، أو جبل بالدهناء على اثني عشر ميلا من المدينة، سمي بذلك لأنه كان يسمع به عزيف الجن، وأبرق
العزاف:
ماء لبني أسد يجاء من حومانة الدرّاج إليه، ومنه إلى بطن نخل، ثم الطرف، ثم المدينة، انتهى. وفي الصحاح العزاف: رمل لبني سعد، ويسمى أبرق العزاف، وهو قريب من زرود، وفي النهاية عزيف الجن جرس أصواتها، وقيل: هو صوت بسمع بالليل كالطبل، وقيل: إنه صوت الرياح في الجو فيتوهمه أهل البادية صوت الجن، وعزيف الرياح: ما يسمع من دويها.
عزوزي:
بزايين معجمتين، موضع بين الحرمين، وفي سنن أبي داود «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة نريد المدينة، حتى إذا كنا قريبا من عزوزي نزل، ثم رفع يديه فدعا الله ساعة ثم خرّ ساجدا» الحديث.
عسعس:
كفر قد، جبل بحمى ضرية تضاف إليه دارة عسعس.
عسفان:
بالضم ثم السكون وبالفاء، كانت قرية جامعة بين مكة والمدينة، على نحو يومين من مكة، سميت بذلك لعسف السيول فيها، وذكر الأسدي بها آبارا وبرك وعينا تعرف بالعولاء.
عسيب:
جبل يقابل براما، في شرقي النقيع، وهو أول أعلامه من أعلاه، ونقل الهجري عن بعضهم أن عليه مسجدا للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعروف بذلك إنما هو مقمل، قال:
وفيه يقول صخر، ونسبه المجد إلى امرئ القيس:
أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب
قال المجد: وهو جبل بعالية نجد لهذيل.
عسية:
بالفتح كدنية، موضع بناحية معدن القبلية، ويروى بالغين والشين المعجمتين.
العش:
بالضم للغراب وغيره، وذو العش: من أودية العقيق.(4/115)
العشيرة:
تصغير عشرة من العدد، وذو العشيرة: من أودية العقيق، قال عروة بن أذينة:
يا ذا العشيرة هيّجت الغداة لنا ... شوقا، وذكرتنا أيامنا الأولا
ما كان أحسن فيك العيش مرتبعا ... غضّا وأطيب في آصالك الأصلا
وذو العشيرة أيضا: تقدم في حدود الحرم شرقي الحفياء، وقال المطري: نقب بالحفياء من الغابة، وذو العشيرة أيضا: موضع بالصّمان ينسب إلى عشرة فيه نابتة، قال الأزهري: وذو العشيرة أيضا: حصن صغير بين ينبع وذي المروة يفضل تمره على سائر تمر الحجاز إلا الصيحاني بخيبر والبرني والعجوة بالمدينة، قاله أبو زيد، وتقدم في المساجد ذو العشيرة بينبع، وتقدمت غزوتها، وفي المغازي «باب غزوة العشيرة، أو العسيرة» بالشك بين إعجام الشين وإهمالها، وعند أبي ذر «ذو العشيرة» بالمعجمة من غير شك، ونقل عياض عن الأصيلي «العشيرة، أو العسير» بفتح العين وكسر السين المهملة، وعند القابسي في الأول «العشير» كالأول إلا أنه بغير هاء «أو العسر» كما للأصيلي في الثاني، وقيل: العشيرة أو العشير، بالشين المعجمة، بلفظ التصغير، ثم أضيف إليها «ذات» قال ابن إسحاق: ذات العشيرة من أرض بني مدلج، أي الغزوة، وقال فيها: حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، قال الحافظ ابن حجر: ومكانها عند منزل الحاج بينبع، ليس بينها وبين البلد إلا الطريق.
العصبة:
بإسكان الصاد المهملة، واختلف في أوله فقيل: بالضم، وقيل: بالفتح، وضبطه بعضهم بفتح العين والصاد معا، ويروى المعصّب كمحمد، منزل بني جحجبي، غربي مسجد قباء، وفي البخاري عن ابن عمر: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثر قرآنا، ثم أورده في الأحكام، وزاد: وفيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد بن حارثة وعامر بن ربيعة، واستشكل ذكر أبي بكر، وأجاب البيهقي باستمرار إمامته حتى قدم أبو بكر فأمّهم أيضا.
عصر:
بالكسر ثم السكون، ويروى بفتحتين، جبل سلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لخيبر، كما سبق في المساجد، وقال ابن الأشرف في حديث خيبر «سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها على عصر» : هو بفتحتين جبل بين المدينة ووادي الفرع، وعنده مسجد صلى به النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى، وفيه نظر.
عظم:
بفتحتين، تقدم في أعظم، وأما ذو عظم بضمتين فمن أعراض خيبر، فيه عيون ونخيل، قال ابن هرمة:(4/116)
أهاج صحبك شيئا من رواحلهم ... بذي شناصير أو بالنعف من عظم
ويروى عظم بالتحريك.
عقرب:
بلفظ عقرب الحشرات، أطم شامي الروحاء، به بنو بياضة.
العقيان:
بالكسر ثم قاف ومثناة تحت، أطم ببني بياضة، شامي أرض فراس مما يلي السبخة.
عقيربا:
مصغر عقرب، مال كان لخالد بن عقبة شامي بني حارثة.
العقيق:
بالفتح ثم الكسر وقافين بينهما مثناة تحتية ساكنة، تقدم أول الباب.
العلاء:
بالفتح والمد بمعنى الرفعة، أطم أو موضع بالمدينة، والعلا بالضم والقصر بناحية وادي القرى، تقدم في مساجد تبوك.
العلم:
بالتحريك، جبل فرد شرقي الحاجر يقال له أبان، فيه نخل، وفيه واد لو دخله مائة أهل بيت بعد أن يملكوا عليهم المدخل لم يقدر عليهم أبدا، وفيه مياه وزروع، قاله ياقوت، وكأن المراد بالحاجر حاجر الثنيا بطريق مكة، وهذا الوصف مشهور عن جبل هناك لصبح.
العمق:
بالفتح ثم السكون آخره قاف، واد يصب في الفرع، ويسمى عمقين، لبعض ولد الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، وقيل: هو عين بوادي الفرع، وسبق في أودية العقيق أن ما دبر من ثنية عمق يصب في الفرع، والعمق أيضا: منزل للحاج بين السليلة ومعدن بني شريد، وفي القاموس أنه كصرد، وبضمتين، أو بضمتين خطأ: منزل بين ذات عذق ومعدن بني سليم.
العميس:
بالفتح ثم الكسر وسكون المثناة تحت وسين مهملة، واد بين الفرش وملل، قال ابن إسحاق في المسير إلى بدر: ثم مر على تربان، ثم على ملل، ثم على عميس الحمام من مريين، ثم على صخيرات الثمام، قال المجد: هكذا ضبطه ابن الفرات، وعليه المحققون، وقيل: إنه بالغين المعجمة.
عتاب:
بالضم وفتح النون آخره موحدة، اسم الطريق المطروقة بين المدينة وفيد، وقيل: جبل، قال جرير:
أنكرت عهدك غير أنك عارف ... طللا بألوية العناب محيلا
العنابس:
بالفتح وكسر الموحدة، مزارع في جهة قبلة مسجد القبلتين.
العنابة:
بلفظ عناب بزيادة هاء، قارة سوداء أسفل من الرويثة إلى المدينة، وماءة في ديار بني كلاب على طريق كانت تسلك إلى المدينة، كان زين العابدين بن الحسين(4/117)
رضي الله تعالى عنهما يسكنها، والمحدثون يشددون، والعنابة أيضا: بركة ومكان قرب سميراء.
العناقة:
بالقاف كسحابة، موضع لغنى قرب ضرية، وفي القاموس أنها ماءة لهم.
العواقر:
هضبات بالفرش شاهدها في ضفر.
عوال:
بالضم والتخفيف، أحد الأجبل الثلاثة التي تكتنف الطريق، على يوم وليلة من المدينة، والآخران ظلم واللعباء، قاله المجد، وعبارة عرام: الطرف يكتنفه ثلاثة أجبال: ظلم، وحزم بني عوال، وهما لغطفان، وفي عوال آبار منها بئرلية، ثم قال:
والسد ماء سماء، واللعباء ماء سماء، فليس فيه أن اللعباء الجبل الثالث، وظاهره أن حزم بني عوال جبلان، أو في النسخة خلل، ونقل ياقوت عن عرام أن حزم بني عوال جبل لغطفان على طريق القاصد إلى المدينة فيه مياه آبار، ثم قال: وعوال ناحية يمانية عن الحازمي.
العوالي:
تقدمت في العالية.
عوسا:
تقدمت في وادي رانوناء.
العويقل:
تصغير العاقل، نقب بحزرة.
عير:
بالفتح وسكون المثناة تحت آخره راء حمار الوحش، اسم للجبل الذي في قبلة المدينة شرقي العقيق، سبق في حدود الحرم، وفوقه جبل آخر يسمى باسمه، ويقال له عير الصادر، وللأول عير الوارد، ولهذا قال الزبير في أودية العقيق: ثم شعار الحمراء والفراة وعيرين، قال: وفي عيرين يقول الأحوص:
أقوت رواوة من أسماء فالجمد ... فالنعف فالسفح من عيرين فالسند
قال الهجري: إن سيل العقيق يفضي لثنية الشريد، ثم قال: ويحف الثنية شرقيا عير الوارد، وغربيا جبل يقال له الفراة، ثم يفضي إلى الشجرة التي بها المحرم، وسبق في شوران قوله إن عرارا وعيرا جبلان أحمران، وذكر ابن أذينة أيضا عيرين في شعر تقد في شوظا، وقال عامر بن صالح الزبيري فيما نقله الزبير:
قل للذي رام هذا الحي من أسد ... رمت الشوامخ من عير ومن عظم
ونقل أيضا عن عمه مصعب الزبيري من أبيات:
وعلى عير فما جاز الفرا ... وابل مار عليه واكتسح
وهذا يقدح فيما سبق في حدود الحرم عن عياض أن مصعبا الزبيري قال: لا يعرف بالمدينة جبل يقال له عير ولا ثور، وتقدم في فضل أحد حديث «أحد على ركن من أركان(4/118)
الجنة، وعير على ركن من أركان النار» . وفي رواية لابن ماجه بإسناد واه «إن أحدا جبل يحبنا ونحبه وهو على ترعة من ترع الجنة، وعير على ترعة من ترع النار» .
العيص:
بالكسر ثم السكون وإهمال الصاد، من الأودية التي تجتمع مع إضم، وفي غزوة ودّان: وبعث النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص، وفي حديث أبي بصير: خرج حتى نزل بالعيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش إلى الشام، وقال ابن سعد: سرية زيد بن حارثة إلى العيص على أربع ليال من المدينة وعلى ليلة من ذي المروة.
عينان:
تثنية العين كما في المشارق والنهاية والقاموس، ونقل عن الصغاني وضبطه أولهم بكسر أوله، قال المجد: وليس بثبت، وضبطه المطري بالفتح ثم السكون وكسر النون الأولى، وسيأتي مستنده في عينين، وهو الجبل الذي كان عليه الرماة يوم أحد، وفي ركنه الشرقي مسجد نبوي كما سبق في مساجد المدينة وكانت قنطرة العين التي هناك عنده، ولعل عين الشهداء كانت هناك أيضا فسمي عينان، وقيل: إن إبليس قام عليه يوم أحد ونادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل.
وقال ابن إسحاق: وأقبلوا يعني المشركين حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة.
عين إبراهيم:
بن هشام بفرش ملل.
عين أبي زياد:
في أدنى الغابة، كما في خاتمة أودية المدينة.
عين أبي نيزر:
بفتح النون وسكون المثناة تحت وفتح الزاي ثم راء، بينبع من صدقة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
قال ابن شبة فيما نقل في صدقته: وكانت أمواله متفرقة بينبع، ومنها عين يقال لها:
عين البحير، وعين يقال لها: عين أبي نيزر، وعين يقال لها: نولا، وهي التي يقال: إن عليّا رضي الله تعالى عنه عمل فيها بيده، وفيها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى ذي العشيرة، وعمل على أيضا بينبع البغيبغات، وفي كتاب صدقته أن ما كان لي بينبع من ماء يعرف لي فيها وما حوله صدقة وقفتها غير أن رباحا وأبا نيزر وجبيرا أعتقناهم وهم ي عاملون في الماء خمس حجج، وفيه نفقتهم ورزقهم، انتهى، وأبو نيزر: مولى علي الذي تنسب إليه العين، كان ابنا للنجاشي الذي هاجر إليه المسلمون، اشتراه علي وأعتقه مكافأة لأبيه.
وذكروا أن الحبشة مرج أمرها بعد النجاشي، وأرسلوا إلى أبي نيرز ليملكوه، فأبى(4/119)
وقال: ما كنت أطلب الملك بعد ما منّ الله عليّ بالإسلام، وكان من أطول الناس قامة وأحسنهم وجها.
وقال ابن هشام: صح عندي أن أبا نيزر من ولد النجاشي، فرغب في الإسلام صغيرا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار مع فاطمة وولدها.
قال أبو نيزر: جاءني عليّ وأنا أقوم على الضيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة فقال: هل عندك من طعام؟ وذكر قصة أكله وشربه، قال: ثم أخذ المعول وانحدر فجعل يضرب، وأبطأ عليه الماء، فخرج وقد تصبّب جبينه عرقا، فانتكف العرق عن جبينه، ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها وجعل يهمهم، فسالت كأنها عنق جزور، فخرج مسرعا، وقال: أشهد الله أنها صدقة، عليّ بدواة وصحيفة، قال: فجئت بهما إليه، فكتب وذكر الصدقة بالضيعتين البغيبغة وعين أبي نيزر، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل، لا يباعان ولا يوهبان، إلا أن يحتاج لهما الحسن أو الحسين فهما طلق لهما، وليس ذلك لغيرهما.
قال ابن هشام: فركب الحسين رضي الله تعالى عنه دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع.
عين الأزرق:
وتسميها العامة العين الزرقاء، تقدمت في تتمة الفصل الأول من الباب السادس.
عين تحنّس:
بضم المثناة فوق وفتح الحاء المهملة وكسر النون المشددة وسين مهملة، كانت بالمدينة للحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، استنبطها غلام له يقال له تحنس، وباعها علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما من الوليد بن عقبة بن أبي سفيان بسبعين ألف دينار، قضى بها دين أبيه الحسين إذ قتل وعليه هذا القدر.
عين الحديد:
بإضم.
عيون الحسين:
بن زيد بن علي بن الحسين وهي ثلاث بأعمال المدينة: إحداهما بالمضيق، والآخرى بذي المروة، والثالثة بالسقيا.
روى أبو الفرج النهرواني عنه أنه نشأ في حجر أبي عبد الله جعفر الصادق، فلما بلغ قال له: ما يمنعك أن تتزوج من فتيات قومك؟ قال: فأعرضت عن ذلك، فأعاد، فقلت:
من ترى؟ فقال: كلثوم بنت محمد بن عبد الله الأرقط، فإنها ذات جمال ومال، فأرسلت إليها، فضحكت من رسولي وتعجّبت من جرأتي على ذلك، فأخبرت أبا عبد الله، فألبسني ثوبين يمنيين معلمين، ثم قال: تعرض أن تمر بمنزلها واحرص على أن تعلم(4/120)
بمكانك، فوقفت ببابها، فأشرفت فنظرت إليّ وقالت: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه، فأخبرت أبا عبد الله فقال: إذا شئت فتغيّب عن المدينة أياما، فغبت أتصيد، ثم نزلت المدينة فإذا مولاة لها أتتني فقالت: نحن نريدك للفرش وأنت تطلب الصيد؟ قد جئتك غير مرة من سيدتي، بعثت معي ألف دينار وعشرة أثواب وتقول لك: تقدم إذا شئت فاخطبني وامهر بها فإن لك عشرة جميلة، فغدوت فملكتها وأمرتها بالتهيؤ، ثم أخبرت أبا عبد الله، فقال: تهيأ للسفر، وإذا كان ليلة الخميس فادخل المسجد وسلّم على جدك، ونحن ننتظرك ببئر زياد بن عبيد الله، ففعلت، فأتيته، فأمر لي بثياب السفر، وقال: استشعر تقوى الله، وأحدث لكل ذنب توبة، امض فقد كتبت لك إلى معن بن زائدة، وغيبتك ثلاثة أشهر إن شاء الله، فإذا جئت صنعا فانزل منزلا وات معنا؟ ففعلت ما أمرني به، ودخلت على معن بإذن عام، فإذا به قاعدا والناس سماطان قياما، فسلمت فردّ وقال: من أنت؟ فأخبرته، فصاح: لا والله، ما أريد أن تأتوني، باب أمير المؤمنين أعود عليكم من بابي، فقلت: أستغفر الله من حسن الظن بك، وانصرفت، فأدركني رجل فقال: قد عوّضك الله خيرا مما فاتك، وآتاني ثلاثة آلاف دينار، وسألني عما أحتاج إليه من الكسوة، فكتبتها له، فلما كان بعد العشاء دخل عليّ معن بن زائدة وأكبّ على رأسي ويدي وقال: يا ابن سيدي وسادتي اعذرني فإني أعرف ما أداري، وأعطيته كتاب أبي عبد الله، فقبله وقرأه، ثم أمر لي بعشرة آلاف دينار، ثم قال: أيّ شيء أقدمك، فأخبرته خبري، فأمر لي بعشرة آلاف دينار أخرى وثلاث نجائب برحالها، وكساني ثلاثين ثوبا وغيرها، ثم ودّعني، فقضيت حوائجي وقدمت مكة موافيا لعمرة رمضان، فوافيت أبا عبد الله قدم مكة، وسلمت عليه، فقال: أصبت من معن بعد ما جبهك عشرين ألف دينار سوى ما أصبت من غيره؟ قلت: نعم، قال: فإن معنا جماعة كانوا يدعون الله لك، فمر لهم شيء، فقلت: ذاك إليك، قال: كم في نفسك أن تعطيهم؟ قلت: ألف دينار، قال:
إذا تجحف بنفسك، ولكن فرق عليهم خمسمائة دينار وخمسمائة لمن يعتريك بالمدينة، ففعلت، وقدمت المدينة واستخرج عينا بالمروة وعينا بالمضيق وعينا بالسقيا، وبنيت منازل بالبقيع، فتروني أؤدي شكر أبي عبد الله وولده أبدا؟.
عين الخيف:
تأتى من عوالي المدينة فتسقي ما حول مساجد الفتح، وهي متقطعة، وفقرها ظاهرة تسمى اليوم بشبشب.
عين رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تقدمت في تتمة الفصل الأول من الباب السادس.
عين الشهداء:
التي تقدم أن معاوية رضي الله تعالى عنه أجراها، وكانت تسمى(4/121)
الكاظمة، غير معروفة، وبقرب عينين مجرى عين فوقها ثنية تأتي من العالية، والظاهر أنها غير عين الشهداء.
عين الغوار:
بالغين المعجمة، بإضم.
عين فاطمة:
سبق لها ذكر في منازل يهود، وأنها حيث كان يطبخ اللبن للمسجد النبوي، وبالحرة الغربية قرب بطحان آرام كانت في مطابخ للآجر قديما، كما يظهر من رؤيتها، وهناك بئر طويلة على هيئة قصب العين.
عين القشيري:
بطريق مكة، بين السقيا والأبواء، كثيرة الماء، لها مشارع، يشرب منها الحاج، وعليها نخل كثير، كانت لعبد الله بن الحسن العلوي.
عين مروان:
بإضم، وكذا اليسرى.
عينين:
قال المجد: هو تثنية عين، وتقدم آنفا في عينان، لكن بعضهم يتلفظ به على هذه الصيغة في جميع أحواله، فإن الأزهري ذكره مبتدئا فقال: عينين بفتحتين جبل بأحد، انتهى.
وكذا صنع عياض في المشارع، وهو يقتضي أن بفتح العين والنون الأولى، وإنما خالف ما سبق في لزومه لذلك، لكن المطري ضبطه بفتح العين وكسر النون الأولى، فلعله كذلك في كلام الأزهري، فلا يكون تثنية عين، قال المجد: وضبطه بعضهم بكسر العين وفتح النون الأولى، وليس بثبت.
حرف الغين
الغابة:
قال في المشارق: بالموحدة، مال من أموال عوالي المدينة، وهو المذكور في السباق: من الغابة إلى كذا، ومن أثل الغابة حتى يأتي أحدا من الغابة، وفي تركة الزبير منها الغابة، فقد صحف قديما كثير هذا الحرف في حديث السباق، فقال: الغاية أي بالمثناة تحت فرده عليه مالك، انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر تبعا له: الغابة عن عوالي المدينة، وزاد أنها في جهة الشام، انتهى. والغابة إنما هي في أسفل سافلة المدينة، لا يختلف فيه اثنان، ولهذا قال: إنها في جهة الشام، وكيف تكون من عوالي المدينة وهي مغيض مياه أوديتها كما سبق في خاتمة الفصل الخامس؟
وقال الهجري: ثم تفضي يعني سيول المدينة إلى سافلة المدينة وعين الصورين بالغابة، انتهى.
وهي معروفة اليوم في سافلة المدينة، وكان بها أملاك لأهلها استولى عليها الخراب،(4/122)
وكان الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قد اشتراها بمائة وسبعين ألفا، وبيعت في تركته بألف ألف وستمائة ألف.
وروى الزبير بن بكار عن عبيد الله بن الحسن العلوي قال: قال معاوية بن أبي سفيان لعبد الرحمن بن أبي أحمد بن جحش، وكان وكيله بضياعه بالمدينة، يعني أودية اشتراها واعتملها، فلبث ثم جاء فقال: قد وجدت لك أودية بجهة، قال: قل، قال: البلدة، قال:
لا حاجة لي بها، قال: النخيل، قال: لا حاجة لي به، قال: رعان، قال: لا حاجة لي به، قال: الغابة، قال: اشترها لي، فقال له ابن أبي أحمد: ذكرت لك أودية لا تعرفها فكرهتها، وذكرت لك واديا لا تعرفه فقلت اشتره، فقال: ذكرت البلدة فبلدت عليّ والنخيل وكان مصغرا ورعان فنهتني عن نفسها والغابة فدلتني على كثرة مائها، وقد قال الأول:
إن كنت تبغي العلم أو مثله ... أو شاهدا يخبر عن غائب
فاختبر الأرض بأسمائها ... واعتبر الصاحب بالصاحب
قلت: أخذ من لفظ الغابة كثرة مائها لأنها لغة ذات الشجر المتكاتف، فتغيب ما فيها، وذلك لكثرة الماء، وعن محمد بن الضحاك أن العباس رضي الله تعالى عنه كان يقف على سلع فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم، وذاك من آخر الليل، وبينهما ثمانية أميال.
وقال المجد: الغابة على نحو بريد، وقيل: ثمانية أميال من المدينة.
قلت: يحمل البريد على أقصاها، وما بعده على أثنائها، وأما أدناها فقد سبق في الحفياء.
وقال ياقوت: إن السباع وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة تسأله أن يفرض لها ما تأكله، وروى ابن زبالة حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة بالغابة في غزوة ذي قرد.
ذات الغار:
بئر عذبة كثيرة الماء على ثلاثة فراسخ من السوارقية، وغار الآتي في شاهد مثعر هو من الصدارة نحو شرف السيالة شرقا، والغار بأحد فوق المهراس، لما سيأتي في المهراس.
الغبيب:
بالضم تصغير غب، اسم موضع مسجد الجمعة.
ذو غثث:
كصرد بمثلثتين، جبل بحمى ضرية.
غدير الأشطاط:
بالفتح وشين معجمة وطاءين، على ثلاثة أميال من عسفان مما يلي مكة.(4/123)
غدير خم:
سبق في الخاء المعجمة.
غراب:
بلفظ الطائر المعروف، جبل شامي المدينة، بينها وبين مخيض، وسبق عن المطري فيما يجتمع مع السيول برومة.
وقال ابن زبالة في المنازل: كان قوم من الأمم فيما بين مخيض إلى غراب الضائلة إلى القصاصين إلى طرف أحد.
وقال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريق الشام، ثم على مخيض، ويقال فيه: غرابات بصيغة الجمع، ومنه الحديث:
حتى إذا كنا بغرابات نظر إلى أحد، ويسمى اليوم غريبات بالتصغير قال المجد: وإياه أراد معن بن أوس بقوله:
فمندفع الغلان من جنب منشد ... فنعف الغراب خطبه وأساوده
قلت: قال الزبير في أودية العقيق: ثم راية الغراب، وفيها يقول معن بن أوس، وذكر البيت، وظاهره بعده عن هذا، وغراب أيضا: غدير في طريق الرحضية على يوم من المدينة.
غران:
بالضم والتخفيف، اسم وادي الأزرق، خلف أمج بميل، كما سبق إليه.
وقال المجد: هو علم مرتجل لوادي ضخم وراء وادي ساية، ويقال له أيضا:
رهاط.
قاب ابن إسحاق: غران واد بين نخل وعسفان إلى بلد يقال له ساية، وغران: منازل بني لحيان، وسبق في رهاط عن صاحب المسالك والممالك عدّه في توابع المدينة ومخاليفها.
ذو الغراء:
بالفتح ممدودا، بعقيق المدينة، له ذكر في شعر أبي وجرة.
غرة:
بالضم والتشديد، بلفظ غرة الفرس لبياض بجهته، اسم أطم موضعه منارة مسجد قباء، وكأنه يروى بالعين المهملة أيضا؛ لأن المجد ذكره فيهما.
غزة:
بالفتح وتشديد الزاي، منزل بنى خطمة عند مسجدهم، شبهوها بغزة الشام لكثرة أهلها.
غزال:
بلفظ واحد الظباء، واد يأتي من ناحية شمنصير سكانه خزاعة.
غشية: بالفتح وكسر المعجمة وتشديد المثناة تحت، موضع بناحية معدن القبلية، وروي بمهملتين.
ذو الغصن:
بلفظ غصن الشجرة، من أودية العقيق.(4/124)
غضور:
كجعفر والضاد معجمة آخره راء، موضع بين المدينة وبلاد خزاعة وكنانة، وقال ياقوت: هي بين مكة والمدينة بديار خزاعة.
ذو الغضوين:
محرك بلفظ تثنية الغضى، قال ابن إسحاق في سفر الهجرة: ثم تبطّن بهما الدليل مرجحا من ذي الغضوين، ويقال: من ذي العصوين بالمهملتين.
غمرة:
بالفتح ثم السكون ما يغمر الشيء ويعمه، اسم موضع بطريق نجد، أغزاه النبي صلى الله عليه وسلم عكّاشة بن محصن، وسماه ابن سعد «غمر مرزوق» بغير هاء، قال: وهو ماء لبني أسد.
الغموض:
بلفظ الغموض بالضم والضاد المعجمة، حصن بني الحقيق بخيبر، وقيل: هو قموص- بالقاف والصاد المهملة- وهو أقرب.
غميس:
كأمير والسين مهملة، تقدم في العين المهملة.
الغميم:
بالفتح، موضع بين رابغ والجحفة، قاله نصر، سمي برجل اسمه الغميم، أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفى بن موالية، وشرط عليه إطعام ابن السبيل والمنقطع، وكتب له كتابا في أديم، قاله المجد هنا، وأحال عليه في «كراع الغميم» لكن الأسدي ذكر كراع الغميم فيما بين عسفان ومر الظهران، وقال عياض: إن الغميم واد بعد عسفان بثمانية أميال، والكراع: جبل أسود بطرف الحرة يمتد لهذا الوادي.
قلت: ويؤيده قول ابن هشام: الغميم بين عسفان وضجنان.
الغور:
بالفتح ثم السكون، كل ما انحدر مغربا عن تهامة وما بين ذات عرق إلى البحر، وسمي الغور الأعظم، وموضع بديار بني سليم، وما سال من أرض القبلية إلى ينبع.
غول:
كجول، جبل غربي حلّيت، سبق شاهده فيه، وبه نخل ليس بالقليل.
غيقة:
بالفتح ثم السكون ثم قاف وهاء، موضع بساحل البحر قرب الجار، يصب فيها وادي ينبع ورضوى، قاله عرام.
وقال السكوني: هو ماء لبني غفار.
وقال ابن السكيت: غيقة: أحساء على شاطئ البحر فوق العذيبة، وغيقة أيضا: بظهر حرة النار لبني ثعلبة بن سعد، أو سرّة واد لهم.
حرف الفاء
فارع:
بالراء والعين المهملتين كصاحب، أطم كان في موضع دار جعفر بن يحيى بباب الرحمة، وجاء جلوس النبي صلى الله عليه وسلم في ظله، وفارع أيضا: قرية بأعلى ساية بها نخيل وعيون.(4/125)
فاضجة:
بكسر الضاد المعجمة وفتح الجيم، مال بالعالية معروف اليوم بناحية جفاف، كان به أطم لبني النضير عامة، وفاضجة أيضا: واد من شعبي إلى ضرية، قاله الهجري، وفاضجة: انفضاج أي انفراج من الأرض بين جبلين أو جبال.
فاضح:
بكسر الضاد ثم حاء مهملة، جبل قرب ريم، وواد في الشريف من بلاد بني العير.
فج الروحاء:
بالفتح ثم الجيم، بعد السيالة، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة.
فحلان بلفظ تثنية الفحل، موضع بحبل أحد، وفي القاموس فحلان- بالكسر- موضع في أحد.
الفحلتان:
قنتان مرتفعتان على يوم من المدينة، بينها وبين ذي المروة عند صحراء يقال لها: فيفاء الفحلين، لها ذكر في مساجد تبوك، وغزاة زيد بن حارثة لبني جذام.
فدك:
بالفتح وإهمال الدال ثم كاف، تقدمت في الصدقات، قال عياض: هي على يومين- وقيل: ثلاثة- من المدينة، واقتصر المجد على الأول، واستغرب عدم معرفة أهل المدينة لها اليوم، وكنت أيضا أستغربه لشهرتها وقربها، حتى رأيت كلام ابن سعد في سرية علي رضي الله تعالى عنه إلى بني سعد بن بكر بفدك، فنقل أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فبعث إليهم عليا رضي الله تعالى عنه في مائة رجل، فسار الليل وكمن النهار حتى انتهى إلى العجم وهو ما بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال، فوجد به رجلا، فسألوه عن القوم، فقال: أخبركم على أن تؤمنوني، فأمنوه، فدلّهم، فأغاروا عليهم، وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن، انتهى.
وسبق قول الأصمعي: حرة النار فدك، انتهى.
وكان أهلها يهود، فلما فتحت خيبر طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يتركوا له البلد، فكانت له خاصة، لأنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وفي رواية: أنهم صالحوه على النصف، وأن عمر رضي الله تعالى عنه لما أجلاهم بعث من قوّمها وعوّضهم من نصفها، ويجمع بأن الصلح وقع عليها كلها واستعملهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بشطر ثمارها كخيبر، فمن روى الصلح على الشطر نظر لما استقر عليه الأمر في الثمار.
قيل: وسميت بفذك بن حام؛ لأنه أول من نزلها.
الفراء:
بالراء والمد كالغرب، وجاء في الشعر مقصورا، جبل غربي عير الوارد، بينهما ثنية الشريد، وسبق شاهده، وفي القاموس: ذو الفراء موضع عند عقيق المدينة.(4/126)
فرش ملل:
والفريش مصغره معروفان قرب ملل، يفصل بينهما بطن واد يقال له مثعر، كان بهما منازل وعمائر، كان كثير بن العباس ينزل فرش ملل على اثنين وعشرين ميلا من المدينة.
الفرع:
بضم أوله وسكون ثانيه ثم عين مهملة، وقال السهيلي: هو بضمتين، قاله المجد، والثاني هو الذي اقتصر عليه في المشارق، وقال في التنبيهات: كذا قيده ابن سيد الناس، وكذا رويناه، وذكر عبد الحق عن الأجدل أنه بإسكان الراء، ولم يذكره غيره، انتهى. واقتضى ترجيح ما نقله المجد عن السهيلي، لكن قال ابن سيد الناس في غزوة نجران: قال ابن إسحاق: ثم غزا يريد قريشا حتى بلغ نجران معدنا بالحجاز من ناحية الفرع، قال: والفرع بفتح الفاء والراء قيده السهيلي، انتهى. فاقتضى أنه عند السهيلي محرك بالفتح، والمحرك بالفتح من أودية الأشعر قرب سويقة، بينها وبين مثعر، على مرحلة من المدينة، وهو فرع المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري على ما نقله الهجري، وأما الفرع الذي هو بضمتين أو بضمة وسكون ونجران من ناحيته فيما يظهر فهو كما قال عياض عمل من أعمال المدينة، واسع به مساجد للنبي صلى الله عليه وسلم ومنابر وقرى كثيرة.
وقال المجد: الفرع عن يسار السقيا على ثمانية برد من المدينة، وبها منبر ونخل ومياه كثيرة، وهي قرية غنّاء كبيرة، وأجل عيونها عينان غزيرتان: إحداهما الربض، والآخرى النجف، يسقيان عشرين ألف نخلة، وهي كالكورة، فيها عدة قرى، سبقت في آره.
قال السهيلي: يقال: هي أول قرية مارت إسماعيل وأمه التمر بمكة.
فريقات:
بلفظ جمع مصغر فرقة، من أودية العقيق، وهن عقد يدفعن في هلوان.
الفضاء:
بفتح الفاء والضاد المعجمة بالمد، وقال الصغاني: بالقصر، موضع بالمدينة، قاله المجد، وفضاء بني خطمة تقدم في منازلهم، ويفضي إليه سيل بطحان وبه يلتقي سيل مهزور ومذينب، وهو بقرب الماجشونية.
فعرى:
بسكون العين المهملة كسكرى، وقيل: بكسر الفاء، جبل يصب في وادي الصفراء.
الفغوة:
بسكون الغين المعجمة، قرية بلحف جبل آرة.
الفقار:
تقدم ذكره في حرزة بالحاء المهملة، وأظنه المعروف اليوم بالفقرة.
الفقير:
ضد الغني، اسم موضعين قرب المدينة يقال لهما: الفقيران، وعن جعفر(4/127)
الصادق رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع عليّا رضي الله تعالى عنه أربع أرضين:
الفقيرين، وبئر قيس، والشجرة، وقيل: الفقير اسم بئر بعينها، قاله المجد، وبعالية المدينة حديقة تعرف بالفقير بالضم تصغير الفقير بالفتح، ونقل ابن شبة في صدقة علي رضي الله تعالى عنه أن منها الفقيرين بالعالية، وأنه ذكر أن حسنا أو حسينا باع ذلك، فتلك الأموال متفرقة في أيدي الناس. ثم حكى كتاب الصدقة نصا، ولفظه: والفقير لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله. ثم ذكر تسويغ البيع لكل من الحسن والحسين دون غيرهما، وسبق في الصدقات مكاتبة سلمان سيده القرظي على أن يحيى له ذلك النخل بالفقير، فالظاهر أنه المعروف اليوم بالفقير قرب بني قريظة، وإن كان أصله مكبرا فقد صغروه كما صغروا الشجرة فيقولون فيها «الشجيرة» كما سبق.
الفلجان:
بالضم ثم السكون ثم جيم، اسم أرض سقيا سعد بالحرة الغربية.
فلجة:
بالفتح ثم السكون وفتح الجيم، من أودية العقيق كما سبق، قال الزبير:
وفيها يقول أبو وجرة السعدي:
إذا تربعت ما بين الشريق إلى ... روض الفلاج أولات السّرج والعنب
واحتلّت الجوّ فالأجراع من مرج ... فمالها من ملاحات ولا طلب
فعلم أن المراد بالفلاج جمع فلجة المذكور بعد حذف تائه، وبه صرح ياقوت، فقال: فلجة موضع بعقيق المدينة بعد الصوبر سماها أبو وجرة الفلاج، انتهى. وغاير المجد بينهما واستشهد للفلاج، وقال: هي ككتاب رياض بنواحي المدينة جامعة للناس أيام الربيع، وبها مسايل تجتمع فيها مياه المطر، ومنها غدير يقال له المختبى، قال: ومرج واد بين فدك والوابشة.
قلت: في غدران العقيق مرج، لكنه بالزاي. ولعله المراد في شعر أبي وجرة وبالعقيق مختبيات فليج الثلاثة، لكن ذكر عرام السوارقية وقبة الحجر ثم قال: وهناك واد يقال له ذو رولان لبني سليم فيه قرى، ثم قال: وبأعلى هذا الوادي رياض تسمى الفلاج، وذكر ما قاله المجد، إلا أنه لم يستشهد بالشعر.
فليج:
كزبير تصغير فلج بالكسر أو الفتح، من العيون التي تجتمع فيها فيوض أودية المدينة، قال هلال بن سعد المازني:
أقول وقد جاوزت نقمي وناقتي ... تحنّ إلى جنبي فليج مع الفجر
وهو يقتضي أنه بالضم.
فنيق:
بالفتح وكسر النون ثم مثناة تحتية وقاف، موضع قرب المدينة.(4/128)
فويرع:
أطم بمنازل بني غنم من بني النجار.
فيفاء الخبار:
تقدم في الخبار من الخاء المعجمة.
فيفاء الفحلين: في الفحلتين.
حرف القاف
القائم:
كصاحب، مال لبني أنيف، معروف في قبلة قباء من المغرب.
القار:
قرية من قرى المدينة كما في العباب.
القاحة:
بفتح الحاء المهملة ثم هاء، على ثلاث مراحل من المدينة كما في البخاري، وهي قبل السقيا لجهة المدينة بنحو ميل، قاله المجد، قال الحافظ ابن حجر وغيره: ويقال لواديها: وادي العباديد، وتقدم عن الأسدي أنه يقال له: وادي العائد، وهو لبني غفار، وقال عياض: القاحة واد بالعباديد، رواه الناس بالقاف إلا القابسي والهمداني فبالفاء وهو تصحيف، وفي حديث الهجرة: أجاز القاحة، قال المجد: الأشهر فيه القاف، وروى بالفاء، وقال عرام: وفي ثافل الأصغر ماء في دارة في جوفه يقال له القاحة، وظاهر إيراد المجد له هنا أنه بالقاف، والذي رأيته في نسختين من كتاب عرام بالفاء والجيم.
القاع:
موضع مسجد بني حرام غربي مساجد الفتح، وقال المجد: هو أطم البلويين، عنده بئر عذق، وما علمت مأخذه فيه، والقاع أيضا: بطريق مكة، وقاع النقيع:
بديار سليم.
قباء:
بالضم والقصر وقد تمد، وأنكر البكري القصر؛ وقال النووي: المشهور الفصيح فيه المد والتذكير والصرف، وقال الخليل: هو مقصور قرية بعوالي المدينة وقال ابن جبير: مدينة كبيرة كانت متصلة بالمدينة المقدسة، والطريق إليها من حدائق النخل، وفي الأحاديث ما يقتضي أن منها العصبة وبئر غرس، فيظهر أن ذلك حدها من المغرب والمشرق، وآبار عماراتها كثيرة ممتدة في جهة قبلة مسجدها، ولم أقف على شيء في حدها الشامي مما يلي المدينة إلا ما سيأتي في المسافة بينهما، وفي منازل بني عمرو بن عوف من الأوس، قال المجد تبعا للمشارق: وهي في الأصل اسم بئر هناك عرفت القرية بها، ومأخذه قول ابن زبالة: كان بقباء شخص من يهود له أطم بها يقال له عاصم، كان في دار ثوبة بن حسين بن السائب ابن أبي لبابة، وفيه البئر التي يقال لها قباء، وقال المراغي ومن خطه نقلت: وإنما سميت قباء ببئر كانت بها تسمى هبارا، فتطيروا منها فسموها قباء كما نقله ابن زبالة، انتهى. ولعله سقط من النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن زبالة لأني رأيته بخط الأقشهري: قال ابن زبالة: حدثني عبد الرحمن بن عمرو(4/129)
العجلاني قال: إنما سميت قباء ببئر كانت بها يقال لها قبار، فتطيروا منها، فسموها قباء، وكانت البئر في دار ثوبة بن حسين بن أبي لبابة، انتهى. وقتار في خط المراغي بالمثناة فوق، وفي خط الأقشهري بالباء الموحدة، قال المجد: وهي على ميلين من المدينة، وهو قول الباجي، ونقله النووي عن العلماء، وعبر بمنازل بني عمرو بن عوف، وفي مشارق عياض: هي قرية بالمدينة على ثلاثة أميال منها، وعبر عنه الحافظ ابن حجر بقوله: هي على فرسخ من المسجد النبوي بالمدينة.
قلت: وقد اختبرته من عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب جبريل إلى عتبة مسجد قباء، فكانت مساحة ذلك بذراع اليد المتقدم وصفه في حدود الحرم سبعة آلاف ذراع ومائتي ذراع، تزيد يسيرا، وذلك ميلان وخمسا سبع ميل على المعتمد من أن الميل ثلاثة آلاف ذراع، فالأصوب هو الأول، وإن صحح المطري الثاني، ونسب إلى عياض الأول.
وفضائل قباء وماثرها تقدمت في مسجدها.
وقباء أيضا:
قرية كبيرة لمحارب وعامر بن ربيعة وغيرهم، بها آبار ومزارع ونخيل، ذكرها عرام في ناحية أفاعية ومران، وذكرها الأسدي في طريق ضرية إلى مكة على نحو أربع مراحل من ذات عرق، وذلك بجهة الموضع المعروف اليوم بكشب.
قباب:
كغراب، من آطام المدينة، قاله الصغاني، وقال ياقوت: هو قبابة كصبابة.
القبلية:
بفتحتين مثال عربية، كأنه نسبة إلى القبل محركا، وهو النشر من الأرض يستقبلك، وفي القاموس أنها بالكسر والتحريك وإليها تضاف معادن القبلية، قال عياض وتبعه المجد: هي من نواحي الفرع، وفي النهاية: هي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: هي من ناحية الفرع، وهو موضع بين نخلة والمدينة، انتهى.
وقال الزمخشري: القبلية سراة فيما بين المدينة وينبع، ما سال منها إلى ينبع سمي بالغور، وما سال منها إلى المدينة سمي بالقبلية، وحدها من الشام ما بين الخبء وهو من جبال بني عراك من جهينة وما بين شرف السيالة، أرض يطؤها الحاج، وفيها جبال وأودية، انتهى. ويؤيده أن ما يذكر أنه بالقبلية ما هو معروف اليوم أنه بهذه الجهة، فالفرع الذي عمل فيه قرى ليست القبلية منه، وبالجهة التي ذكرها الزمخشري فرع المسور بفتحتين كما سبق، فالظاهر أنه المراد، ويؤيده أن الزبير نقل عن محمد بن المسور أنه كان بفرع المسور بن إبراهيم، قال: فرأى فراس المزني جبلا فيه عروق مرو، فقال: إن هذا المعدن فلو علمته، قال محمد بن المسور: فقلت: مالك وله؟ إنما هو ابتعنا مياهه وقطع لنا سائره(4/130)
أبان بن عثمان في إمارته، فقال المزني: عندي أحق من ذلك قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال محمد: فرجعت إلى إبراهيم فذكرت له ذلك، فقال: صدق إن يكن معدنا فهو لهم، قطع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معادن القبلية غوريها وجلسيها، يشير إلى حديث «أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية غوريها وجلسيها، وذات النصب وحيث صلح الزرع من قدس» وفي رواية «وثنايا عمق» وفي رواية عقب وجلسيها: عشبة وذات النصب وحيث صلح الزرع من قدس إن كان صادقا.
قلت: والجلسي نسبة إلى الجلس، وهو أرض نجد، يقال لكل مرتفع من الأرض جلس، والغور: ما انهبط من الأرض، فالمراد أنه أقطعه جميع تلك الأرض نجدها وغورها.
قدس:
بالضم وسكون الدال المهملة، قال الهجري: جبال قدس غربي ضاف من البقيع، وقدس: جبال متصلة عظيمة كثيرة الخير تنبت العرعر والخزم، وبهاتين وفواكه وفراع، وفيها بستان ومنازل كثيرة من مزينة، وسبق أن صدور العقيق ما دفع في النقيع من قدس، وذكر الأسدي أن الجبل الأيسر المشرف على عين القشيري يقال له قدس، أوله في العرج وآخره وراء هذه العين، وقال عرام: ورقان ينقاد إلى الجيّ بين العرج والرويثة، ويفلق بينه وبين قدس الأبيض ثنية بل عقبة يقال لها ركوبة، وقدس هذا ينقاد إلى المتعشى بين الفرع والسقيا، ثم يقطع بينه وبين قدس الأسود عقبة يقال لها حمت، والقدسان جميعا لمزينة.
القدوم:
كصبور، جبل قال المدائني: قناة واد يمرّ على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد، قال الزمخشري: وقدوم أيضا ثنية بالسّراة، وموضع من نعمان، واسم مختتن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، قال عياض: وأما طرف القدوم في حديث الفريعة فلم يختلف في فتح القاف فيه، وقالوه بتخفيف الدال وتشديدها، قال ابن وضاح:
هو جبل بالمدينة، وأما الذي في حديث أبي هريرة «قدوم ضان» مفتوحا مخففا فثنية من جبل ببلاد دوس.
قديد:
كزبير، قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه، قاله البكري، والمسلك الذي كان به شاه الطاغية ثنية مشرفة عليه، ويضاف إليه طرف قديد بطريق مكة.
قديمة:
بالضم ثم الفتح كجهينة، جبل بالمدينة، شاهده سبق فيما قيل في العقيق من الشعر.
قراضم:
بالضم وكسر الضاد المعجمة، موضع بنواحي المدينة، قال ابن هرمة:(4/131)
فأجزاع كفت فاللّوى فقراضم ... تناجي بليل أهله فتحملوا
قراقر:
بالفتح وقافين، موضع من أعراض المدينة لآل حسين بن علي بن أبي طالب.
القرائن:
ثلاث دور اتخذها عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فدخلت في المسجد، وقيل: ثلاث جنابذ له.
قران:
بالضم وتشديد الراء، واد بين مكة والمدينة إلى جنب أبلى.
قرح:
بالضم ثم السكون، سوق وادي القرى، يضاف إليه صعيد قرح، قاله المجد، ومقتضاه أن يكون بالراء، لكنه بخط المراغي في مساجد تبوك بفتح الزاي، وكان به سوق في الجاهلية، وقيل: بهذه القرية كان هلاك عاد قوم هود عليه الصلاة والسلام، وقال عبد الله بن رواحة:
جلبنا الخيل من آجام قرح ... تغرّ من الحشيش لها العكوم
قرد:
بفتحتين، وذو قرد: ما انتهى إليه المسلمون في غزاة الغابة، ولهذا أضيفت الغزوة إليه أيضا، قال ابن الأثير: هو بين المدينة وخيبر، على يومين من المدينة، وقال عياض: هو على نحو يوم من المدينة مما يلي بلاد غطفان، وقال أبان بن عثمان صاحب المغازي: ذو قرد ماء لطلحة بن عبيد الله اشتراه فتصدق به على مارة الطريق، قاله المجد، والذي سبق في بيسان ورواه المجد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في غزاة ذي قرد على ماء يقال له بيسان، وذكر ما سبق فيه، وشراه طلحة وتصدق به.
قردة:
كسجدة، ويقال بالفاء: ماء من مياه نجد، كان به سرية زيد بن حارثة، ومات بها زيد الخيل، قاله مغلطاي.
القرصة:
محركة والصاد المهملة، ضيعة لسعد بن معاذ، تقدمت في مساجد المدينة.
قرقرة الكديد:
ستأتي في الكاف، والقرقرة أيضا: بخيبر، سلك بهم الدليل يوم خيبر صدور الأودية فأدركتهم الصلاة بالقرقرة، فلم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بين الشق ونطاة، وفي مغازي ابن عقبة في قتل ابن رزام اليهودي: فلما بلغوا قرقرة تياز وهي من خيبر على ستة أميال، وذكر قتله مع أصحابه.
القرية:
مصغر كسميّة، موضع قرب المدينة، قال ابن هرمة:
انظر لعلك أن ترى بسويقة ... أو بالقريّة دون مغني عاقل
القرى:
جمع قرية يضاف إليها وادي القري الآتي، وسبق في العين قرى عرينة.(4/132)
قسيان:
كعثمان بمثناة تحتية، وقسيّان مصغرة: من أودية العقيق.
قشام:
كغراب بالشين المعجمة، جبل على أيام من المدينة، قال جبيهاء لزوجته في قصة طلبها سكنى المدينة:
إن المدينة لا مدينة فالزمي ... حقف الستار وفيئة لقشام
قصر إسماعيل بن الوليد:
على بئر إهاب، سبق فيها.
قصر إبراهيم بن هشام:
دون بني أمية بن زيد، ولعله بالناعمة التي له.
قصر بني حديلة:
بضم الحاء المهملة، تقدم في بيرحاء.
قصر خارجة:
بن حمزة بالعرصة، وسائر قصور العقيق تقدمت فيه.
قصر خل:
بالخاء المعجمة، ويعرف اليوم بحصن خل، غربي بطحان.
قال ابن شبة: وأما قصر خل الذي بظاهر الحرة على طريق رومة فإن معاوية أمر النعمان بن بشير ببنائه ليكون حصنا لأهل المدينة، ويقال: بل أمر به معاوية مروان بن الحكم وهو بالمدينة، فولاه مروان النعمان بن بشير، وفيه حجر منقوش فيه: لعبد الله معاوية أمير المؤمنين مما عمل النعمان بن بشير، وإنما سمي قصر خل لأنه على الطريق، وكل طريق في حرة أو رمل يقال له: خل، انتهى.
وروى ابن زبالة في بيرحاء عن أبي بكر بن حزم أن معاوية رضي الله تعالى عنه بنى قصر خل ليكون حصنا، لما كان يحدث أنه يصيب بني أمية، وإنما سمي قصر خل لأنه بني على خل من الحرة فقيل له: لو كان كوزماء ما بلغوه حتى يقتطعوا دونه، فلما شرى بيرحاء بنى قصر بني حديلة في موضعها؛ للذي كان يخاف من ذلك، وكان قصر خل في بعض السنين سجنا.
قصر ابن عراك:
بجهة مقبرة بني عبد الأشهل بطريق أحد.
قصر ابن عوان:
كان بالمدينة، وكان ينزل في شقه اليماني بنو الجذماء من اليمن قبل الأوس والخزرج، قاله ياقوت عن نصر.
قلت: وهو الذي قبله، إلا أن النسخة التي وقعت لنا من كتاب ابن زبالة «ابن عراك» ولفظه: كان بنو الجذماء ما بين مقبرة بني عبد الأشهل وبين قصر ابن عراك، انتهى.
قصر ابن ماه:
أسفل من بئر هجيم.
قصر مروان:
بن الحكم قرب الصورين والصدقات النبوية، وفي تلك الجهة مواضع تعرف بالقصور، كل حائط منها يضاف لمسالكه.(4/133)
قصر نفيس:
بفتح النون وكسر الفاء رجل من موالي الأنصار، وقصره بحرة واقم على ميلين من المدينة.
قصر بني يوسف:
موالي آل عثمان أسفل من قصر مروان مما يلي النقال والنقيع.
ذو القصة:
بالفتح وتشديد الصاد، موضع على بريد من المدينة تلقاء نجد، خرج إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقطع الجنود وعقد الألوية، قاله المجد، وقال الأسدي:
إنه على خمسة أميال من المدينة، وقال نصر: أربعة وعشرين ميلا، وقال ابن سعد: سرية محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة وبني عوال، وهم بذي القصة، بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، على طريق الربذة، وذو القصة أيضا: موضع بين زبالة والشقوق، دون الشقوق بميلين، فيه قلب للأعراب يدخلها ماء السماء، وليس هو من عمل المدينة، فإنه قبل فيد بأيام بجهة العراق.
القصيبة:
بالضم وفتح المهملة وسكون المثناة تحت وفتح الموحدة، واد بين المدينة وخيبر، وسيأتي في وادي الدوم.
ذو القطب:
بالضم وسكون الطاء المهملة، من أودية العقيق.
القف:
بالضم والتشديد، أصله ما ارتفع من الأرض وغلظ، وكان فيه إشراف على ما حوله وأحجار كالإبل البروك، وقد تكون فيه رياض وقيعان، وهو علم لواد من أودية المدينة فيه أموال لأهلها، وسبق له ذكر في زهرة، وكان بنو ماسكة مما يلي صدقة النبي صلى الله عليه وسلم لهم الأطمان اللذان في القف في القرية، كما سبق، وسبق أن حسناء أحد الصدقات بالقف تشرب بمهزور، وأن الظاهر أنها الموضع المعروف بالحسينيات، ويؤيده أن الحسينيات في شامي المشربة بقربها، وهي من القف، قال الزبير فيما نقله ابن عبد البر:
إن مارية ولدت إبراهيم عليه السلام بالعالية في المال الذي يقال له اليوم مشربة أم إبراهيم بالقف، وأسند أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له قطعة غنم ترعى بالقفّ تروح على مارية.
وروى أبو داود عن ابن عمر: أن نفرا من اليهود دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف، فأتاهم في بيت المدراس، وقد سبق بيان بيت المدراس في مسجد المشربة.
وفي الموطأ: أن رجلا من الأنصار كان يصلّي في حائط بالقف، وادي من أودية المدينة في زمان التمر والنخل، قد ذللت فهي مطوقة بتمرها، فنظر إليها فأعجبه ما رأى ممن تمرها، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة، فجاء عثمان وهو خليفة، فذكر له ذلك، فقال: هو صدقة فاجعله في صدقة الخير، فباعه عثمان بخمسين ألفا، فسمي ذلك المال «الخمسين» .(4/134)
وبقرب الحسينيات مال يعرف بالثمين، بمعنى كثير الثمن، فلعله هو فغير اسمه.
القلادة:
بلفظ قلادة العنق، جبل من جبال القبلية.
قلهيّ:
بفتحتين وكسر الهاء وبالياء المشددة، حفيرة قرب المدينة لسعد بن أبي وقاص، اعتزل بها بعد قتل عثمان، وأمر أن لا يحدّث بشيء من أخبار الناس حتى يصطلحوا.
وقال ابن السكيت: قلهيّ مكان به ماء لبني سليم، وفي أبنية كتاب سيبويه قلهيا وبرديا، قالوا في تفسيره: قلهيا حفيرة لسعد بن أبي وقاص، وقال كثير:
ولكن سقى صوب الربيع إذا أتى ... إلى قلهيا الدار والمتخيما
قلهى:
بفتحات كجمزى، وحكى بعضهم سكون لامه، قرية بوادي ذي رولان لبني سليم، قاطبة، وهي التي عنى ابن السكيت، وأنشد لزهير:
إلى قلهى تكون الدار منا ... إلى أكناف دومة والحجون
بأودية أسافلهن روض ... وأعلاها إذا خفنا حصون
وقال ياقوت: وأما قلهى بسكون اللام فقال عرام: بالمدينة وادي ذي رولان به قرى منها قلهى، وهي كثيرة، وقلهى في قول زهير:
إلى قلهى تكون الدار منا ... إلى أكناف مكة والحجون
فإني أظنه موضعا آخر، انتهى.
القموص:
كصبور بالصاد المهملة، جبل بخيبر، كذا في العباب، وقيل: حصن، وقيل: جبل عليه حصن لبني الحقيق اليهودي، وهو أصوب، وقيل: الحصن بالغين والضاد المعجمتين، وذكر موسى بن عقبة في غزوة خيبر أن اليهود دخلوا حصنا لهم منيعا يقال له القموص، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من عشرين ليلة، ثم ذكر خروج مرحب وإعطاء الراية لعلي وقتل مرحب.
قناة:
أحد أودية المدينة المتقدمة.
قنيع:
بالضم وفتح النون ثم مثناة تحتية، تقدم في حمى ضرية.
القواقل:
بقافين، أطم بطرف منازل بني سليم مما يلي العصبة.
القوبع:
بالفتح والموحدة، من أودية العقيق.
قوران:
واد يصب في الحرة، يبطنه قرية تسمى الملحاء من قرى السوارقية فيه مياه آبار كثيرة عذاب ونخل.
قورى:
كسكرى، تقدم في بعاث، والظاهر أنه الحائط المعروف اليوم بقوران شرقي المدينة أسفل الدلال، لما سبق في بعاث.(4/135)
قينقاع:
بالفتح ثم سكون المثناة تحت وضم النون وكسرها وفتحها ثم قاف وألف وعين مهملة، شعب من يهود يضاف إليهم سوق بني قينقاع لأنه كان بمنازلهم كما سبق.
حرف الكاف
كاظمة:
بالظاء المعجمة، قال ابن مرزوق في شرح البردة: رأيت ولا أتحقق الآن محله أن كاظمة موضع بقرب المدينة المشرفة، وقال الأصمعي: يخرج أي مريد مكة من البصرة إلى كاظمة فيسير ثلاثا، وماؤها ملح صلب، انتهى. وقال ياقوت بعد ذكر ما قاله الأصمعي: وكاظمة أيضا موضع ذكره أبو زياد.
قلت: ولعله الذي عناه ابن مرزوق.
كبا:
بالفتح والتشديد مقصور كحّتى، موضع ببطحان، قال الكلبي: كان بالمدينة مخنث يقال له البغاشي، فقيل لمروان: إنه لا يقرأ من القرآن شيئا، فاستقرأه أم القرآن، فقال: والله ما أقرأ بتاتها، فكيف الأم؟ فقال مروان: أتهزأ بالقرآن؟ وأمر به فضربت عنقه بموضع يقال له كبا في بطحان.
كتانة:
بالضم ثم مثناة فوقيه وألف ونون مفتوحة وهاء، عين بين الصفراء والأثيل لبني جعفر بن أبي طالب.
كتيبة:
بلفظ كتيبة الجيش، وقال أبو عبيد: بالثاء المثلاثة، حصن بخيبر، كان خمس الله وسهم رسوله صلى الله عليه وسلم وذوي القربى واليتامى والمساكين وطعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل فدك في الصلح.
وقال الواقدي بعد ذكر فتح الشق والنطاة: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تحول إلى الكتيبة بالوطيخ والسلالم، حصن ابن أبي الحقيق الذي كانوا فيه فتحصنوا أشد التحصن، وجاءهم كل فلّ انهزم من النطاة والشق فتحصنوا معهم في القبوص وهو في الكتيبة، وكان حصنا منيعا في الوطيخ والسلالم، وذكر محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لهم أربعة عشر يوما، وهمه بنصب المنجنيق، وسؤالهم الصلح على حقن دماء من في حصونهم وترك الذرية لهم، ويخلون مالهم من مال وأرض والصفراء والبيضاء والكراع والحلقة والبز إلا ثوبا على ظهر إنسان.
كدر:
بالضم جمع أكدر يضاف إليه «قرقرة الكدر» والقرقرة: أرض ملساء، والكدر:
طير في لونه كدرة، يسمى بذلك موضع بناحية المعدن قرب الرحضية.
وفي طبقات ابن سعد: قرقرة الكدر، ويقال: قرارة الكدرة بناحية معدن بني سليم قريب من الأرحضية، وراء سد معاوية، خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمع من سليم، فوجد(4/136)
الحي خلوفا، فاستاق النعم، ولم يلق كيدا، وبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة السويق يطلب أبا سفيان، وكان سلك النجدية بعد أن أحرق صورا بالعريض.
وقال ابن إسحاق في غزوة بني سليم: فبلغ صلى الله عليه وسلم ماء من مياههم يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال.
وقال عرام: في حرم بني عوال مياه آبار، منها بئر الكدر، وذلك بجهة الطرف، قال كثير:
سقى الكدر فاللعباء فالبرق فالحمى ... فكود الحصى من يعملين فأظلما
الكديد:
بالفتح ودالين مهملتين بينهما مثناة تحت ساكنة، واد قرب النخيل يقطعه الطريق من فيد إلى المدينة، على ميل منه مسجد تقدم، وقال بعضهم: هو قرب نخل، والمعروف اليوم ما سبق. والكديد أيضا: عين بعد خليص بثمانية أميال لجهة مكة يمنة الطريق.
كراع الغميم:
في الغين المعجمة.
الكر:
بالضم، جزيرة على البحر المالح على ستة أميال من الجحفة.
كشب:
بالمعجمة ككتب، جبل أسود تعرف به ناحيته، وبها ينزل أمراء المدينة أحيانا.
الكفاف:
بالكسر، موضع قرب وادي القرى.
كفت:
بالفتح ثم السكون، من نواحي المدينة، شاهده في قرى إضم.
كفتة:
بزيادة هاء في آخره، اسم لمقبرة بقيع الغرقد؛ لأنها تسرع البلى كما سبق عن الواقدي في الفصل الخامس من الباب الخامس، وقال المجد: سميت به لأنها تكفت الموتى، أي تحفظهم وتحرزهم.
الكلاب:
بالضم مخففا آخره موحدة. ماء بناحية حمى ضرية، قال الفرزدق:
ملوك منهم عمرو بن عمرو ... وسفيان الذي ورد الكلابا
أي سفيان بن مجاشع، كان يوم الكلاب أول الناس ورده.
كلاف:
بالضم آخره فاء، واد من أعمال المدينة.
كلب:
أطم من آطام المدينة، ورأس الكلب: جبل.
كليّة:
تصغير كلية، قرية بطريق مكة، وقال الأسدي: وعلى اثنى عشر ميلا من الجحفة إلى القاع بها بئر مالحة يقال لها كلية، فتحها ذراعان وعندها حوانيت.(4/137)
كملى:
ككسرى، اسم بئر ذروان، قال ابن الكلبي في رواية قصة السحر عن ابن عباس: تحت صخرة في بئر كملى، قاله المجد.
كنس حصين:
بالفتح وسكون النون وإهمال السين، وحصين: تصغير حصن، أطم كان عند المهراس بقباء.
كواكب:
بضم الكاف الأولى وقد تفتح، وكسر الثانية، جبل بين المدينة وتبوك، سبق في مساجدها، وقال أبو زياد الكلابي: الكواكب جبال عدة في بلاد أبي بكر بن كلاب.
كوث:
جبل بين المدينة والشام وقرية بالطائف، وكان الحجاج الثقفي معلما بها.
كومة:
أبي الحمراء الرابض كومة تراب كأنها آطام قريبة من ثمغ في شامي المدينة، وآخر بطن مهزور كومة أبي الحمراء، ثم تصب في قناة كما سبق، ولعلها كومة المدر.
كوير:
كزبير، جبل بضرية.
الكويرة:
كالذي قبله بزيادة هاء، من جبال القبلية.
كيدمة:
بالفتح وسكون المثناة تحت وفتح الدال المهملة والميم ثم هاء، سهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه من أموال بني النضير، تقدمت في بئر أريس، في الأوسط للطبراني بإسناد حسن أن عبد الرحمن بن عوف باع كيدمة من عثمان بأربعين ألف، وأنه قسم ذلك بين بني زهرة وفقراء المسلمين وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
حرف اللام
لأى:
بوزن لعا، من نواحي المدينة، قال ابن هرمة:
حيّ الديار بمسند فالمنتضى ... فالهضب هضب رواوتين إلى لأى
اللابتان
تثنية لابة وهي الحرة، وهما حرتا المدينة الشرقية والغربية، وقال الأصمعي: اللابة الأرض التي ألبست الحجارة السود.
لأي:
كلحي بهمزة ساكنة ثم ياء، من أودية العقيق، وقال المجد: موضع بالعقيق، وهو غير لأي المذكورة أولا، قال معن بن أوس:
تغير لأي بعدنا فعتائده ... فذو سلم أنشاجه فسواعده
لحيا جمل:
بالفتح ثم السكون تثنية لحي وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى، وجمل: بالجيم للبعير، وروى «لحي جمل» بالإفراد، وروى بكسر اللام، والفتح أشهر، وسبق بيانه في مسجد «لحي جمل» من مساجد طريق مكة، ولحيا جمل أيضا:(4/138)
جبل بطريق فيد على ستة أميال من الأحرجة، قال الأسدي: سميا بذلك لأنهما نشرا وامتدا واقترب ملتقاهما، فشبها باللحيين، وقال المجد في جمل: ولحى جمل أيضا بين المدينة وفيد على عشرة فراسخ من فيد، ولحى جمل أيضا: موضع بحران وتثليث، ولحيا جمل بالتثنية: جبلان بالمدينة في ديار قشير.
لظى:
بالقصر والفتح من أسماء النار، وذات لظى: منزل ببلاد جهينة في جهة خيبر، ويقال «ذات اللظى» أيضا.
اللعباء:
بالموحدة ممدودا، موضع كثير الحجارة بحزم بني عوال، قاله في القاموس، وسبق في عوال ما يخالف، وقال ياقوت: لعباء ماء سماء في حزم بني عوال، جبل لغطفان في أكناف الحجاز، واللعباء: أرض غليظة بأعلى الحمى لبني زنباع من بني أبي بكر بن كلاب.
لعلع:
بعينين مهملتين، جبل قرب المدينة، وجبل بمكة، وماء بالبادية، ومنزل بين البصرة والكوفة.
لفت:
بالفتح، وقيل: بالكسر، وقيل: بالتحريك، ثنية بطريق مكة إلى المدينة أقرب، وقيل: واد بجنب هرشى.
لقف:
بالكسر وسكون القاف ثم فاء، آبار عذبة ليس عليها مزارع ولا نخل، بأعلى قوران واد بناحية السوارقية، وفي لقف ولفت وقع الخلاف في حديث الهجرة، وكلاهما صحيح، هذا موضع وذاك آخر، قاله المجد، والصحة من حيث وجود الموضعين مسلمة، لكن ناحية السوارقية ليست في طريق الهجرة.
اللوى:
بالكسر والقصر كإلى، أطم ببني بياضة، وواد بمنازل بني سليم، وموضع بين رملة الدملول وبين الجريب على أربعين ميلا من ضرية، وسبق له شاهد في حرة النار، وقال بعضهم:
لقد هاج لي شوقا بكاء حمامة ... ببطن اللوى ورقاء تصرخ بالفجر
هتوف تبكي ساق حرّ ولا ترى ... لها عبرة يوما على خدها تحرى
حرف الميم
المابة:
مال لبني أنيف بقباء، كان بينه وبين القائم أطمان لهم.
الماجشونية:
نسبة إلى الماجشون، علم معرب، مال بوادي بطحان بقربه تربة صعيب.
المئثب:
مهموز كمنبر والثاء مثلاثة، في اللغة: ما ارتفع من الأرض، وكذا الأرض(4/139)
السهلة، وهو اسم لإحدى صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، كما سبق فيها، وفي القاموس: هو جبل أو موضع كان به صدقة النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: ووقع في كتاب يحيى ميثم بميم في آخره بدل الموحدة والأول أصوب.
وقال ياقوت: إنه بكسر الميم والياء الساكنة والمثلاثة والباء الموحدة، ومقتضى كلامه أنه غير مهموز، فإنه أورده أواخر الحرف في الميم مع الياء المثناة تحت.
المأثول:
بضم المثلاثة آخره لام، من نواحي المدينة.
مبرك:
كمقعد، مكان بركت فيه راحلة النبي صلى الله عليه وسلم ببني غنم عند مسجده، وهو معروف اليوم بالمدرسة الشهابية التي بنيت في موضع دار أبي أيوب كما سبق في الفصل الحادي عشر من الباب الثالث، ومبرك أيضا: نقب يخرج من ينبع إلى المدينة، عرضه نحو أربعة أميال أو خمسة، تنسب إليه ثنية مبرك، وهو معروف اليوم، وإياه عنى كثير بقوله:
فقد جعلت أشجان برك يمينها
قال المجد: الأشجان المسائل، وبرك هاهنا: نقب يخرج إلى المدينة، وذكر ما تقدم، قال: وكان يسمى مبركا، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن السكيت في قول كثير:
إليك ابن ليلى تمتطي العيس صحبتي ... ترامي بنا من مبركين المثاقل
أراد مبركا ومناخا فثنى، وهما نقبان ينحدر أحدهما على ينبع بين مضيق يلبل وفيه طريق المدينة، ومناخ على قفا الأشعر.
مبضعة:
بالضاد المعجمة، بين الجي والرويثة، قال ابن عاديا:
ولم أر غيرهن مجلجلات ... كأن ببطن مبضعة كلابا
متابع:
بالضم والمثناة فوق، جبل عن يمين أمرة بحمى ضرية، وقال ياقوت: متالع بضم الميم وكسر اللام: ماء شرقي الظهران عند الفوارة في جبل القنان، والظهران: جبل في أطراف القنان، وهو غير الوادي الذي قرب مكة.
مثعر:
بالمثلاثة والعين المهملة كمقعد، ويروى بالغين المعجمة، من أودية القبلية بين الثاجة وحورة، ويدفع فيما بين الفرش والفريش، قال ابن أذينة:
عفا بعدنا ذات السليم فمثعر ... ففرق فما حول الجراديج مقفر
مثقب:
بالكسر ثم السكون وفتح القاف ثم موحدة، اسم الطريق التي بين المدينة ومكة، قيل: سمي باسم رجل من أشراف حمير، بعثه بعض ملوكها على جيش فسلكه، ومثقب أيضا: طريق مكة إلى الكوفة، وعن الأصمعي فتح ميمه.(4/140)
المجتهر:
تقدم في حدود الحرم.
المجدل:
أطم بمزرعة تقابل سقاية سليمان بن عبد الملك، وقال ياقوت: هو بالفتح ثم السكون وفتح الدال المهملة منزل لهذيل.
مجر:
بالفتح ثم السكون ثم راء، غدير كبير بين هضبات ببطن قوران حول الملحاء بناحية السوارقية، ويقال للهضبات: ذو مجر.
المحضة:
بالحاء المهملة من المحض للخالص، قرية بلحف جبل آرة.
محنب:
بالضم ثم الفتح وكسر النون المشددة ثم موحدة، بئر وأرض بناحية طريق العراق.
المحيصر:
تصغير المحصر من الحصار، موضع قرب المدينة، قال جرير:
بين المحيصر والعزاف منزلة ... كالوحي من عهد موسى في القراطيس
محيص:
بالفتح ثم الكسر والصاد المهملة كمليك، موضع بالمدينة، قال الشاعر:
اسل عمّن سلا وصالك عمدا ... وتصابى وما به من تصاب
نم لا تنسها على ذاك حتى ... يسكن الحي عند بئر رئاب
فإلى ما يلي العقيق إلى الجم ... اوسلع ومسجد الأحزاب
فمحيص فواقم فصؤار ... فإلى ما يلي حجاج غراب
المخاضة:
بالخاء المعجمة، بقاع في حوزة اليمانية.
مخايل:
بالضم وكسر المثناة تحت آخره لام، من أودية العقيق، وقال الخلصي:
مخايل ثلاث عقد، فالعلياء تصب في أفلس، والثنتان على حضير، قال نمير مولى عمر:
ألا قالت أثيلة إذ رأتني ... وحلو العيش يذكر في السنين
سكنت مخايلا وتركت سلعا ... شقاء في المعيشة بعد لين
المختبى:
غدير بالفلاج من وادي ذي رولان، سمي بذلك لأنه بين عضاه وسلم وسدر وجلاف، وإنما يؤتى من طرفه دون جنبيه، لأن له حرفين لا يقدر عليه من جهتهما، قاله عرام، ومختبيات فليح: تقدمت في غدر العقيق.
مخرى:
بالضم ثم الفتح وكسر الراء المشددة اسم فاعل من خرّاه إذا أسلحه، اسم لأحد جبلي الصفراء، واسم الآخر مسلح، ولذلك كره النبي صلى الله عليه وسلم المرور بينهما كما سبق وسبب تسميتهما بذلك أن عبد الغفار كان يرعى بهما غنما فرجع يوما من المراعي فقال له سيده: لم رجعت؟ فقال: هذا الجبل مسلح للغنم، وهذا مخرى لها.
مخيض:
بلفظ مخيض اللبن، جبل سلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم على غراب، وسبق في حدود الحرم.(4/141)
المدارج:
عقبة العرج، قبله بثلاثة أميال مما يلي المدينة، قاله الأسدي، وبها ثنية الغاير وركوبة، وقال الأصمعي: طرف تهامة من جهة الحجاز مدارج العرج، وإذا تصوبت من ثنايا العرج فقد أتهمت، وقال ذو البجاذين في رجزه وقد سلكها مع النبي صلى الله عليه وسلم.
تعرضي مدارجا وسومي ... تعرّض الجوزاء للنجوم
هذا أبو القاسم فاستقيمي
مدجج:
بالضم وتشديد الجيم المكسورة كما في النهاية، من «دجّج» إذا لبس السلاح، واد بطريق مكة، زعموا أن دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلكه في سفر الهجرة.
مدران:
يضاف إليه «ثنية مدران» في مساجد تبوك، ذكره المجد هنا على الصواب، ثم أعاده في مردان بتقديم الراء على الدال، وقال: إنه اسم للموضع المذكور.
المدرج:
بفتح الراء المشددة من «درّجه» إذا رفعه درجة بعد أخرى، اسم محدث لثنية الوداع، قاله المجد بناء منه على أنها من جهة طريق مكة، فجعلها الثنية التي تنحدر على العقيق.
مدعي:
بالكسر ثم السكون والعين مهملة مقصورة، وقيل: الذال معجمة، ماء لبني جعفر بن كلاب بناحية ضرية، وقال الهجري: وادي مدعي يصبّ في ذي عثث، وذو عثث من أكرم مياه الحمى، وقال العامري: مدعي ورقا ما آن لغني بينهما ضحوة، وبمدعى بئر لبني جعفر، قال الشاعر:
فلن تردي مدعى، ولن تردي رقا ... ولا النقر إلا أن تخلي الأمانيا
ولن تسمعي صوت المهيب عشية ... بذي عثث يدعو القلاص الشواليا
مدين:
نقل المقريزي عن محمد بن أسهل الأحول أنها من أعراض المدينة مثل فدك والفرع ورهاط، قال المقريزي: ومدين على بحر القلزم تحاذي تبوك على نحو ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه الصلاة والسلام لسائمة شعيب وعمل عليها بيتا، انتهى.
المذاد:
بالفتح ثم ذال معجمة وآخره مهملة من «ذاده» إذا طرده، اسم أطم لبني حرام من بني سلمة غربي مسجد الفتح، به سميت الناحية، وعنده مزرعة تسمى بالمذاد، قال كعب بن مالك يوم الخندق:
من سرّه ضرب يرعبل بعضه ... بعضا كمعمعة الأباء المحرق
فليأت مأسدة نسل سيوفها ... بين المذاد وبين جزع الخندق
المذاهب: موضع بنواحي المدينة.(4/142)
مذينب:
تصغير مذنب، تقدم في الأودية.
المرابد:
جمع مربد، موضع بعقيق المدينة، قال معن بن أوس:
فذات الحماط خرجها وطلوعها ... فبطن العقيق قاعه فمرابده
كذا أورده المجد، والذي في كتاب الزبير:
فبطن النقيع قاعه فمرابده
مراخ:
بالضم آخره خاء معجمة، سبق في أودية العقيق مما يلي القبلة في المغرب، ويقال له «مراخ الصحرة» وبئر معروف اليوم.
المراض:
كسحاب، موضع بناحية الطرف على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، قاله ابن سعد، ويضاف إليه «روضات المراض» ويروى بكسر الميم.
مران:
بالفتح وتشديد الراء آخره نون، وحكى ضم أوله، موضع على ثمانية عشر ميلا من المدينة، كذا قال عياض، وقال المجد: مران في كتاب مكة، يعني «مرّ الظهران» المتقدم في مساجد طريق مكة بقربها، فإنه يقال فيه «مران» فكأنه ينكر مقالة عياض، لكن في عمل المدينة مران أيضا، وإن لم يكن على المسافة التي ذكرها عياض، فقد سبق في الجموم أنه بين قباء ومران، وليست قباء التي بالمدينة، بل بجهة أفاعية قرب معدن بني سليم، قال عرام: مران قرية غناء كبيرة كثيرة العيون والآبار والنخل والمزارع على طريق البصرة لبني هلال وجزء لبني ماعز، وبها حصن ومنبر، وفيها يقول الشاعر:
مررنا على مران يوما فلم نعج ... على أهل آجام به ونخيل
ثم ذكر قباء.
قلت: وهي بالجهة المعروفة اليوم بكشب.
المرواح:
بالفتح جمع مروح، أطم بقباء كان لثابت من بني ضبيعة.
المربد:
بالكسر ثم السكون ثم موحدة مفتوحة ودال مهملة، تقدم في بناء المسجد النبوي أنه كان مربدا، وكذا مسجد قباء، والمرابد كثيرة بالمدينة.
مربد النعم:
تيمم ابن عمر عنده كما في البخاري، وترجم عليه بالتيمم في الحضر، ورواه الشافعي بسند صحيح بلفظ أن ابن عمر أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم وصلى العصر، فقيل له: أتتيمم وجدران المدينة تنظر إليك؟ فقال: أو أحيا حتى أدخلها؟
ثم دخل المدينة والشمس حية مرتفعة ولم يعد الصلاة.
وقال الهجري: مربد النعم على ميلين من المدينة، وقال غيره: على ميل، وهو الأقرب، قال الواقدي في الأصطفاف في وقعة الحرة على أفواه الخنادق: كان يزيد بن(4/143)
هرمز في موضع ذباب إلى مربد النعم معه الدّهم من الموالي وهو يحمل رايتهم، قال الواقدي: ومربد النعم كانت النعم تحبس فيه زمن عمر بن الخطاب.
مربع:
كمنبر، أطم في بني حارثة.
مرتج:
بالفتح ثم السكون وكسر المثناة فوق آخره جيم، واد قرب المدينة لحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما، وقيل: موضع قرب ودان.
مرجح:
بجيم مفتوحة ثم حاء مهملة، موضع بطريق مكة، وقال ابن إسحاق في سفر الهجرة: ثم سلك بهما الدليل مرجح مجاج، ثم تبطّن بهما مرجحا من ذي العضوين، ثم بطن كشد، ثم على الجداجد، ثم ذكر الأجرد وذا سلم وتعهن.
وكان المنذر بن ماء السماء الملك نزل على مراد مراغما لأخيه عمرو بن هند، فتجبر عليهم فقلته المكشوح المرادي، وقال:
نحن قتلنا الكبش إذ ثرنا به ... بالخل من مرجح قمنا به
وقال قيس بن مكشوح لعمرو بن معدي كرب:
وأعمامي فوارس يوم لحج ... ومرجح إن شككت ويوم شام
مرحب:
بالحاء المهملة كمقعد، طريق سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لخيبر، وكان الدليل انتهى به إلى موضع وقال: إن لها طرقا تؤتى منها كلها، فقال: سمّها لي، فقال: طريق يقال لها حزن، قال: لا تسلكها، قال: طريق يقال لها شاش، قال: لا تسلكها، قال: طريق يقال لها حاطب، قال: لا تسلكها، ما رأيت كالليلة أسماء أقبح، قال: لها طريق واحدة لم يبق لها غيرها اسمها مرحب فقال: نعم اسلكها.
ذو المرخ:
بالخاء المعجمة وسكون الراء، موضع قرب ينبع بساحل البحر.
ذو مرخ:
بفتحتين وقد تسكن الراء، واد بين فدك والوابشية، قال الحطيئة:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
وأورد المجد هنا شاهد فلجة المتقدم فيها، والظاهر أن الذي فيه إنما هو مزج الآتي غير أنه حرك الزاي، لكن قال ياقوت: ذو مرخ بفتح الراء والخاء المعجمة بالعقيق، قال الزبير: مرخ وذو مرخ في العقيق، وأنشد لأبي وجزة:
واحتلت الجو فالأجراع من مرخ
وأنشد لابن المولى المدني:
هل تذكرين بجنب الروض من مرخ ... يا أملح الناس وعدا شفني كمدا
مروان:
تثنية مرو للحجارة البيض البراقة، جبل بأكناف الربذة، وقيل: حصن.(4/144)
ذو المروة:
بلفظ أخت الصفا، على ثمانية برد من المدينة كما سبق في مساجد تبوك، وقال المجد: هي قرية بوادي القرى، وهو مأخوذ من قول ياقوت: ذو المروة قرية بوادي القرى، على ليلة من أعمال المدينة، ثم قال المجد: وقيل: بين ذي خشب ووادي القرى.
قلت: كونها بين ذي خشب ووادي القرى المشهور هو المعروف، لكن أهل المدينة اليوم يسمون القرى التي بوادي ذي خشب «وادي القرى» فلعله مراد ياقوت.
وذكر الأسدي ما يقتضي أن ذا المروة بعد وادي القرى بنحو ثلاث مراحل لجهة المدينة الشريفة، وروى ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بذي المروة وصلّى بها الفجر، ومكث لا يكلمهم حتى تعالى النهار، ثم خرج حتى أتى المروة فأسند إليها ظهره ملصقا، ثم دعا حتى ذرّ قرن الشمس شرقا يدعو، ويقول في آخر دعائه: اللهم بارك فيها من بلاد، واصرف عنهم الوباء، وأطعمهم من الجني، اللهم اسقهم الغيث، واللهم سلمهم من الحاج، وسلم الحاج منهم، وفي رواية أنه نزل بذي المروة فاجتمعت إليه جهينة من السهل والجبل يشكون إليه نزول الناس بهم، وقهر الناس لهم عند المياه، فدعا أقواما فأقطعهم، وأشهد بعضهم على بعض بأبي قد أقطعتهم، وأمرت أن لا يضاموا، ودعوت لكم، وأمرني حبيبي جبريل أن أعدكم حلفاء، وسبق في آخر مساجد تبوك ذكر إقطاعها لبني رفاعة من جهينة.
مريح:
بالحاء المهملة تصغير مرح وهو الفرح، أطم كان لبني قينقاع، عند منقطع جسر بطحان، يمين قاصد المدينة.
مريخ:
بالخاء المعجمة تصغير مرخ للشجر المعروف، قرن أسود قرب ينبع، بين برك ورعان.
مريسيع:
بالضم ثم الفتح وسكون المثناة تحت وسين مهملة مكسورة ثم مثناة تحت وعين مهملة في أصح الروايات وأشهرها، وضبط بالغين المعجمة، وهو بناحية قديد إلى الساحل، قاله ابن إسحاق، وفي حديث للطبراني: هو ماء لخزاعة بينه وبين الفرع نحو يوم، وقال المجد: الفرع على ساعة من المريسيع، وبه غزو بني المصطلق وسبيهم.
مزاحم:
بالضم وكسر الحاء المهملة، أطم كان بين ظهراني بيوت بني الحبلى، وكان بزقاق ابن حيين سوق يقوم في الجاهلية وأول الإسلام يقال لموضعها مزاحم كما سبق في سوق المدينة.
مزج:
بالضم ثم السكون ثم جيم، من غدر العقيق، يفضي السيل من حضير إليه،(4/145)
وهو في شق بين صدمتين، يعني حجابين من الحرة يمر به السيل فيحفره لضيق مسلكه ولا يفارقه الماء.
المزدلف:
بالضم ثم السكون وفتح الدال المهملة وكسر اللام ثم فاء، أطم مالك بن العجلان والد عتبان، عند مسجد الجمعة.
المستظل:
اسم فاعل من قولك «استظلّ بالظل» أطم كان عند بئر غرس لأحيحة بن الجلاح، ثم صار لبني عبد المنذر في دية جدهم.
المستعجلة:
وهي المضيق الذي يصعد إليه من قطع النازية قاصدا الخيف والصفراء.
المستنذر:
جبل سبق في منازل بني الديل من القبائل، والمستنذر الأقصى: تقدم في العير.
المسير:
بالضم ثم الفتح وسكون المثناة تحت، أطم بني عبد الأشهل، كان لبني حارثة.
المسكبة:
بالفتح من السكب وهو الصّبّ، موضع شرقي مسجد قباء، كان به أطم يقال له واقم.
المسلح:
بالفتح ثم السكون ثم لام مفتوحة وحاء مهملة، موضع من أعمال المدينة.
مسلح:
بالضم ثم السكون وكسر اللام، أحد جبلي الصفراء كما سبق في مخرّى.
المشاش:
واد يصب في عرصة العقيق.
مسروح:
بالفتح ثم السكون وراء وحاء مهملة، موضع بنواحي المدينة.
مشعط:
كمرفق، أطم لبني حديلة غربي مسجد أبي بن كعب، وفي موضعه بيت أبي نبيه، ويؤخذ مما سبق في قبور أمهات المؤمنين وفاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن أنه في غربي البقيع لذكر خوخة أبي نبيه هناك، وسبق حديث «إن كان الوباء في شيء فهو في ظل مشعط» وفي الحديث الآخر «وما بقي منه فاجعله تحت ذنب مشعط» .
مشعل:
كمنبر، موضع بين مكة والمدينة.
المشفق:
واد بين المدينة وتبوك.
قال ابن إسحاق في منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشفق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
من سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يسقين منه شيئا حتى نأتيه، فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه لم ير شيئا، فقال: ألم أنههم، ثم لعنهم ودعا، ثم وضع يده تحت الوشل، فجعل يصب من يده ما شاء الله، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله،(4/146)
فانخرق من الماء كما يقول من سمعه أن له حسا كحس الصواعق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يده وما خلفه.
وذكره الواقدي بنحوه، إلا أنه قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا، حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة وكان فيه وشل.
المشيرب:
تصغير مشرب موضع الشرب، سبق في حدود الحرم.
مصرّ:
بفتحتين وتشديد الراء، واد بأعلى حمى ضرية.
مصلوق:
ماء من مياه بني عمرو بن كلاب يصدقهم المصدق عليها بعد مدعى، قال ابن هرمة:
لم ينس ركبك يوم ذاك مطيهم ... من ذي الحليف فصبحوا مصلوقا
المصلّى:
بالضم ثم الفتح وتشديد اللام، مصلى العيد بالمدينة، وموضع بعينه في عقيق المدينة، قال المجد منشدا يقول ابن هرمة:
ليت شعري هل العقيق فسلع
الأبيات المتقدمة في العقيق، وليس المراد منها إلا مصلى العيد.
المضيح:
بالضم وفتح الضاد المعجمة وتشديد المثناة تحت وإهمال آخره، جبل لهوازن، وماء لمحارب بن خصفة، وماء لبني الأضبط بن كلاب، وجبل بنجد على شط وادي الحريب كان معقلا في الجاهلية في رواية محصن قاله ياقوت.
المضيق:
بالفتح وكسر الضاد المعجمة ومثناة تحت وقاف، قرية تقدمت مع الفرع في آرة، وبها إحدى عيون الحسين بن زيد، ومضيق الصفراء: هو المستعجلة فما بعدها على ما سبق في المساجد.
مطلوب:
بئر بعيد القعر قرب المدينة في شاميها، وماء بنملى، وماء كان لحثعم، واتخذ عليه عبد الملك ضيعة من أحسن ضياع بني أمية.
مظعن:
بالضم وسكون الظاء المعجمة وكسر العين المهملة، واد بين السقيا والأبواء.
معجب:
وفي بعض النسخ «معجف» بالفاء بدل الموحدة، أحد أودية المدينة المتقدمة، ومعجف: اسم حائط كان لعبد الله بن رواحة جعله لله ورسوله في غزوة مؤتة.
معدن الأحسن:
ويقال «معدن الحسن» موضع أو قرية من أعمال المدينة لبني كلاب، وقيل: هو من قرى اليمامة.
معدن بني سليم:
بضم السين، ويقال له: «معدن قران» به قرية كبيرة بطريق نجد بها آبار وبرك على مائة ميل من المدينة، وقال ابن سعد: على ثمانية برد.(4/147)
معدن المأمون:
سيأتي في مغيث.
معدن النقرة:
على يومين من بطن نخل.
المعرس:
بالضم ثم الفتح وتشديد الراء المفتوحة وسين مهملة، سبق في مسجد المعرس، والتعريس: نومة المسافر وقت السحر بعد إدلاجه.
المعرض:
أطم بني قريظة الذي كانوا يلجؤون إليه إذا فزعوا، كان فيما بين الدوحة التي في بقيع بني قريظة إلى النخيل التي يخرج منها السيل. ومعرض أيضا: أطم لبني عمرو وبني ثعلبة من بني ساعدة بدار سويد المواجهة لمسجدهم.
المعرقة:
بالضم ثم السكون ثم الكسر وبالقاف، طريق كانت قريش تسلكها إذا سارت إلى الشام، تأخذ على ساحل البحر، وفيها سلكت عير قريش حين كانت وقعة بدر، وقال عمر لسلمان رضي الله تعالى عنهما: أين تأخذ أعلى المعرقة أم على المدينة؟
المعصب:
بوزن المعرس والصاد مهملة، اسم منازل بني جحجبى كما سبق في العصبة.
المغسلة:
بالغين المعجمة، قال المجد: هي بكسر السين المهملة كمنزلة: جبّانة بطرف المدينة يغسل فيها، كذا ذكره أصحاب التاريخ، وهي اليوم حديقة كبيرة من أقرب الحدائق الكبار إلى المدينة، انتهى. وهي غربي بطحان، لكنها معروفة اليوم بالمغسلة بفتح السين كمرحلة، وسبق أن مسجد بني دينار يعرف بمسجد الغسالين لأنه كان عند الغسالين وأن الظاهر أنه كان بها.
مغلاوان:
بالضم ثم الفتح، مغلى الموارد، ومغلى، الحرومة يلتقيان من المعرس،
والحرومة:
هضبة عظيمة هي على عين ابن هشام، وقال كثير:
فليت مغلاوين لم يك فيهما ... طريق يعديه من الناس راكب
مغيث:
اسم فاعل من «أغاثه» واد بين معدن النقرة والربذة، يعرف بمغيث ماوان، قاله المجد، وسماه الأسدي «مغيثة الماوان» بزيادة هاء، وذكر بها آبارا وبركا، قال: وعلى ميل ونصف منها معدن الماوان، ويقال للجبل المشرف على المعدن: مشقر.
مغوثة:
بضم الغين المعجمة وفتح الثاء المثلاثة، موضع قرب المدينة.
مفحل:
بالضم وسكون الفاء وكسر الحاء، من نواحي المدينة، قال ابن هرمة:
فكيف إذا حلت بأكناف مفحل ... وحل بوعساء الحليف تبيعها
مقاريب: ب
الفتح وبعد الألف راء ثم مثناة تحت وباء موحدة، من نواحي المدينة.
المقاعد:
جمع مقعد، موضع عند باب المدينة، وقيل: مساقف حولها، وقال الداودي: هي الدرج، وقيل: دكاكين عند دار عثمان بن عفان، قاله المجد وعبارة(4/148)
عياض: قيل: هو موضع عند باب المسجد، وقيل: مساطب حوله، وقال ابن حبيب عن مالك: هي دكاكين عند دار عثمان، انتهى. ودار عثمان عند باب المسجد في المشرق، فيوافق قول الباجي وغيره: هو موضع عند باب المسجد
وفي صحيح البخاري عن حمران قال: أتيت عثمان بطهور وهو جالس على المقاعد، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وهو في هذا المجلس، الحديث.
ولأبي داود: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه في المقاعد.
وفي خبر حكاه أبو الفرج النهرواني أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد أن ينشد رجل جاء به شعرا، قاله في الله ورسوله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قوموا بنا إلى المقاعد، فلما آتوا المقاعد أنشد شعره.
المقشعر:
اسم فاعل من القشعريرة من جبال القبلية.
مقمل:
بفتح القاف والميم المشددة، ظرب صغير على غلوة من برام بحمى النقيع، عليه مسجد مقمل المتقدم في المساجد.
المكرعة:
بالفتح، موضع بقباء قرب بئر عذق.
المكسر:
اسم مفعول من كسّره تكسيرا، وذو المكسر: من أودية العقيق.
مكيمن:
تصغير مكمن، ويقال: مكيمن الجماء، وهو الجبل المتصل بجماء تضارع ببطن العقيق، وفي أخبار مكة لابن شبة أنه كان بجماء العاقر بعقيق المدينة صنم يقال له المكيمن، فلعله سبب التسمية لقرب جماء العاقر منه، وقد ردّه إلى مكبره سعيد بن عبد الرحمن بن ثابت فقال:
عفا مكمن الجماء من أم عامر ... فسلع عفا منها فحرّة واقم
ملتذ:
بالضم ثم السكون ثم فتح المثناة فوق وذال معجمة، موضع بعقيق المدينة، قال عروة بن أذينة:
فروضه ملتذ فجنبا منيرة ... فوادي العقيق انساح فيهن وابله
الملحاء:
بالحاء المهملة ممدود، من أودية العقيق، قال ابن أذينة:
مباعدة بعد أزمامها ... بملحاء ريم وأمهارها
الملحة:
أطم لبني قريظة دبر مال ابن أبي جديس، وفي أسفل بني قريظة مزرعة إلى جانب ركية وضربة يقال لها «ملحة» بكسر الميم، وبها أطم، فلعله هو.
ملحتان:
تثنية ملحة للقطعة من الملح، من أودية القبلية بالأشعر مما يلي ظلم من شقه الشامي، وهما ملحة الرمث وملحة الحريض، وبها شعب ضيق بحرض الإبل.(4/149)
ملل:
بلامين محرّكا، واد بطريق مكة، على أحد وعشرين ميلا من المدينة، وعن ابن وضاح اثنين وعشرين ميلا، وقيل: ثمانية عشر ميلا، وقيل على ليلتين منها، وفي الموطأ أن عثمان بن عفان صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل قال مالك: وذلك للتهجير وسرعة السير، قال بعضهم: ملل واد ينحدر من ورقان جبل مزينة حتى يصب في فرش سويقة، ويقال: فرش ملل، ثم ينحدر من الفرش حتى يصب في إضم، وسبق أنه يلقى إضم بذي خشب، فذلك مراد القائل بأنه على ليلتين من المدينة، ويضاف إليه الفرش والفريش، وجمعه كثير في قوله:
إذ نحن بالهضبات من أملال
قال ابن الكلبي: لما صدر تبّع عن المدينة نزل ملل وقد أعيا وملّ، فسماه ملل، وقيل لكثير: لم سمي بذلك؟ قال: لأن ساكنه ملّ المقام به، وقيل: سمي به لأن الماشي من المدينة لا يبلغه إلا بعد جهد وملل.
وقال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي، وقيل: جعفر الزبيري:
أجزنا على ماء العشيرة والهوى ... على ملل بالهف نفسي على ملل
وفي كتاب النوادر لابن جني أن رجلا من أهل العراق نزل بملل، فسأل عنه، فأخبر باسمه، فقال: قبح الذي يقول:
على ملل يا لهف نفسي على ملل
أي شيء كان يتشوق إليه من هذه؟ وإنما هي حرة سوداء، فقالت له صبية كانت تلقط النوى: بأبي أنت وأمي إنه كان والله له بها شجن ليس لك.
المناصع:
متبرز النساء بالمدينة ليلا، قبل اتخاذ الكنف بالبيوت، على مذاهب العرب، وهو ناحية بئر أبي أيوب، ولعلها المعروفة اليوم ببئر أيوب شرقي سور المدينة شامي بقيع الغرقد، وزقاق المناصع: تقدم في الدور المطيفة بالمسجد من جهة المشرق.
المناقب:
جبل قرب المدينة، فيه ثنايا طرق إلى اليمن وإلى اليمامة وإلى أعالي نجد، قاله المجد، واستشهد بأبيات فيها ذكره وذكر العقيق. والذي يفهمه كلام الأصمعي أنه بنجد قرب ذات عرق، فليس المراد عقيق المدينة، لأن الأصمعي ذكر قرنا ونخلة اليمانية، ثم قال: ثم يجلس إلى نجد بطلع المناقب، ووصف ثناياه بما سبق، وقال: وإلى أعالي نجد إلى الطائف، قال: وفيه ثلاث مناقب: إحداها عقبة يقال لها الزلالة، بها صخرة، وهي التي أقحم فيها العقيلي ناقته فاقتحمت من شق فيها، وذاك أنهم خاطروه على ذلك.(4/150)
المنبجس:
بالضم ثم السكون ثم موحدة ثم جيم مكسورة ثم سين مهملة، وادي العرج.
منتخر:
بالضم ثم السكون ثم مثناة فوق وخاء معجمة مكسورة، موضع بفرش ملل بجنب مثعر.
المنحنى:
بالضم ثم السكون وفتح الحاء والنون الثانية، موضع له ذكر في الغزل بأماكن المدينة، وأهلها اليوم يقولون: إنه بقرب المصلى شرقي بطحان، ولهذا قال الشيخ شمس الدين الذهبي:
تولى شبابي كأن لم يكن ... وأقبل شيب علينا تولى
ومن عاين المنحنى والنقا ... فما بعد هذين إلى المصلى
منشد:
بالضم ثم السكون وكسر الشين المعجمة ثم دال مهملة، جبل في الشق الأيسر من حمراء الأسد كما قال الهجري، ولعله المعروف اليوم بحمراء نملة كما سبق، وفيه يقول الأحوص:
نظرت رجا بالموقران، وقد أرى ... أكاديس يحتلون خاخا فمنشدا
وقال المجد: هو على ثمانية أميال من حمراء المدينة بطريق الفرع، ومنشد أيضا:
موضع بين رضوى والساحل، وبلد لتميم، قال زيد الخيل:
سقى الله ما بين العقيق فطابة ... فما دون أزمام فما فوق منشد
منعج:
بالفتح ثم السكون وكسر العين المهملة وروى بفتحها، وسماه الهجري منجع بتقديم الجيم على العين، واد فيه أملاك لغني، بين أضاخ وأمرة، بناحية حمى ضرية، وقال المجد: هو موضع بحمى ضرية، وواد لبني أسد كثير المياه.
المنقي:
اسم مفعول من نقاه، قال المجد: هو اسم للأرض التي بين أحد والمدينة، قال ابن إسحاق: وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى انتهى بعضهم إلى المنقي دون الأعراض.
قلت: فالمنقي ليس اسما لما ذكر المجد لما سبق في الأعوص، بل هو معروف شرقي المدينة في طريق العراق، والمجد ظن أن الانهزام لم يكن إلا للمدينة، وليس كذلك، لما سبق في الشقرة، وفي معارف ابن قتيبة في ترجمة بعضهم أنه انهزم على مسيرة ثلاثة أيام.
منكثة:
من نكث ينكث إذا نقض، من أودية القبلية، يسيل من الأجرد جبل جهينة في الجلس، ويلقى بوطا.(4/151)
منور:
كمقعد آخره راء، جبل قرب المدينة، وفي القاموس هو موضع أو جبل بظهر حرة بني سليم، قال أبو هريرة: أيكم يعرف دور ومنور؟ فقال رجل من مزينة: أنا، قال:
نعم المنزل ما بين دور ومنور لأنها مقانب الخيل، أما والله لوددت أن حظي من دنياكم مسجد بين دور ومنور أعبد الله فيه حتى يأتيني اليقين، ومنور أيضا: أطم لبني النضير كان في دار ابن طهمان.
منيع:
فعيل، موضع أطم لبني سواد يماني مسجد القبلتين على ظهر الحرة.
منيف:
اسم فاعل من أناف، أطم لبني دينار بن النجار عند مسجدهم.
مهايع:
قرية غنّاء كبيرة، بها منبر، قرب ساية، وإليها كان من قبل أمير المدينة.
مهجور:
ماء بنواحي المدينة.
مهراس:
بالكسر ثم السكون آخره سين مهملة، ماء بحبل أحد، قاله المبرد، وهو معروف أقصى شعب أحد، يجتمع من المطر في نقر كبار وصغار هناك، والمهراس: اسم لتلك النقر.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش يوم أحد فجاءه علي في درقته بماء من المهراس، فوجد له ريحا فعافه وغسل به الدم عن وجهه وصبّ على رأسه، وفي رواية لأحمد «وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كان تحت المهراس» ثم ذكر إقبال النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
وفي مغازي ابن عقبة أن الناس أصعدوا في الشعب، وثبت الله نبيه وهو يدعوهم في أخراهم إلى قريب من المهراس في الشعب، ثم ذكر إصعاد النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب يدعوهم.
مهروز:
بضم الراء وآخره زاي، موضع سوق المدينة كما في معارف ابن قتيبة والفائق.
مهزور:
بالفتح ثم السكون وضم الزاي وآخره راء، تقدم في أودية المدينة.
مهزول:
آخره لام، واد في أقبال البئر بحمى ضرية، وقال الزمخشري: إنه في أصل جبل يقال له تنوف.
مهيعة:
كمعيشة بالمثناة تحت، ويقال «مهيعة» كمرحلة، اسم للجحفة، قال الحافظ المندري: لما أخرج العماليق بني عبيل أخي عاد من يثرب نزلوها، فجاءهم سيل الجحاف بضم الجيم- فجحفهم وذهب بهم، فسميت حينئذ الجحفة، انتهى. وقال عياض: سميت الجحفة لأن السيول أجحفتها وحملت أهلها، وقيل: إنما سميت بذلك من سنة سيل الجحاف سنة ثمانين لذهاب السيل بالحاج وأمتعتهم.(4/152)
الموجا:
بالفتح والجيم، أطم لبني وابل بن زيد كان موضع مسجدهم.
مياسر:
موضع بين الرحبة وسقيا الجزل ببلاد عذرة، قرب وادي القرى.
ذو الميثب:
بالكسر ثم السكون ثم مثلاثة، من أودية العقيق.
ميطان:
بالفتح ثم السكون وطاء مهملة وألف ونون، جبل شرقي بني قريظة وهو المذكور في شعرهم في مسلم، وقال عرام: هو حذاء شوران، به ماء بئر يقال لها صعة، وليس به نبات، وهو لسليم ومزينة، وبحذائه جبل يقال له سن، وجبال شواهق يقال لها الحلاء واحدها حلاة، وقال في النهاية: وفي حديث بني قريظة والنضير.
وفد كانوا ببلدتهم ثقالا ... كما ثقلت بميطان الصخور
وهو- بكسر الميم- موضع في بلاد بني مزينة بالحجاز، انتهى، والمعروف ما سبق.
المنفعة:
بالكسر ثم السكون وفاء وعين مهملة، موضع بناحية نجد وراء بطن نخل على النقرة قليلا، على ثمانية برد من المدينة، إليه كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي.
حرف النون
نابع:
كصاحب من نبع الماء إذا ظهر، موضع قرب المدينة.
ناجية:
بالجيم والمثناة التحتية، موضع قرب المدينة على طريق البصرة، قاله المجد، وقال الأصمعي: ماء ببلاد بني أسد أسفل من الحبس.
النازية:
بالزاي وتخفيف المثناة تحت، موضع واسع به عضاء ومرخ بين المستعجلة وهو مضيق الصفراء وبين مسجد المنصرف وهو مسجد الغزالة، وجعله عياض اسم عين هناك، فقال: هي عين كانت ترد على طريق الآخذ من مكة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب قبل مضيق الصفراء، سدت بعد حروب جرت فيها، انتهى. وتبعه المجد، وقال عرام بعد ذكر الرحضية: ثم يميل نحو مكة مصعدا إلى واد يقال له عريفطان، وحذاءه جبال يقال لها أبلى، وقنة يقال لها السودة لبني حقاق من بني سليم، وماؤهم الضبعية وهي آبار عذاب يزرع عليها، وأرض واسعة، وكانت بها عين يقال لها النازية بين بني حقاف وبين الأنصار، فتضاروا فيها فسدّوها، وهي عين ماؤها عذب كثير، وقد قتل فيها أناس كثيرون بذلك السبب، وطلبها سلطان البلد مرارا بالثمن الكثير فأبوا، ثم ذكر مياه أبلى، وقال: وإذا جاوزت عين النازية وردت ماء يقال له الهديناة، ثم ينتهي إلى السوارقية على ثلاثة أميال منها، انتهى؛ فالنازية التي هي عين وقع فيها حروب ليست فيما بين مضيق الصفراء والمدينة، بل في جهة أبلى والرحضية والسوارقية، ولكن اتفقا في الاسم.(4/153)
النازيين:
موضع مرتفع به قبر عبد الله بن الحارث كما سبق في مسجد مضيق الصفراء.
الناصفة:
بكسر الصاد المهملة، من أودية العقيق، وعدّه الزمخشري في أودية القبلية.
ناعم:
كصاحب، من حصون خيبر، قتل عنده محمود بن مسلمة يوم خيبر ألقوا عليه رحا وناعم: موضع آخر.
الناعمة:
حديقة غنّاء بالعوالي، وإلى جنبها النويعمة، ويعرف الموضع بالنواعم.
النباع:
بالكسر وعين مهملة، موضع بين ينبع والمدينة، وفي أودية العقيق نبعة العشرة، ثم نبعة الطوى، ثم الحيثية، ثم النبعة، قال الزبير عقبه: وفي النباع يقول خفاف بن ندبة:
عشقت ديارا ببطن النباع
فاقتضى أن النباع ما ذكر.
نبيع:
كزبير من نبع الماء، موضع قرب المدينة.
النبي:
بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، اسم جبل قرب المدينة، واسم أماكن أخرى، وقيل: رمل بعينه.
نجد:
ما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحده مما يلي المغرب الحجاز، وعن يسار القبلة اليمن، ونجد كلها من عمل اليمامة، قاله عياض، والصواب أن الذي من عمل اليمامة موضع مخصوص من نجد لاكله.
النجير:
بالضم وفتح الجيم آخره راء، ماء حذاء صفينة، قاله عرام.
النجيل:
بالجيم تصغير النجل، من أعراض المدينة قرب ينبع، قال كثير:
وحتى أجازت بطن ضاس ودونها ... رعان فهضبا ذي النجيل فينبع
وفي القاموس: النجيل كزبير موضع بالمدينة أو من أعراض ينبع.
نخال:
بالضم، علم مرتجل لواد يصب في الصفراء يقال له شعب، وشاهده في أرابن.
نخل:
بلفظ اسم جنس النخلة، من منازل بني ثعلبة بنجد، على يومين من المدينة، قال ابن إسحاق: وغزا النبي صلى الله عليه وسلم نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان حتى نزل نخلا، وهي غزوة ذات الرقاع، وقال الحافظ ابن حجر في غزوة ذات الرقاع: قوله «فنزل نخلا» هو مكان على يومين من المدينة بواد، يقال له شدخ، وبالوادي طوائف من قيس(4/154)
وفزارة وأشجع وأنمار ذكره أبو عبيد البكري، وذكر الواقدي في سبب غزوة ذات الرقاع ما يقتضي إيجادها مع غزوة أنمار، ونقل البيهقي في الدلائل عن الواقدي أنه قال: ذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقراء وبئر أرما، على ثلاثة أميال من المدينة، انتهى وصوابه ثلاثة أيام لقوله بين السعد والشقراء.
نخلى:
كجمزى ونسكى، من أودية الأشعر الغورية، تصب في ينبع، وبأسفله عيون لحسن بن علي بن حسن منها ذات الأسيل، وبأسفله البلدة والبليدة.
نخيل:
تصغير نخل، عين على خمسة أميال من المدينة، قاله المجد، وقال الأسدي: إنه منزل في طريق فيد به مياه وسوق قرية الكديد، وبه عيون كانت للحسين بن علي المقتول بفخ، وذكر ما يقتضي أنه على نيف وستين ميلا من المدينة وأن بالكديد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الوادي الذي به الطريق ذو أمر.
وإذا تأملت ذلك مع ما سبق في مساجد الغزوات علمت أن الذي عبر عنه بالنخيل هو نخل؛ لقوله في خبر المسجد «نزل بنخل، ثم أصعد في بطن نخل حتى جاز الكديد بميل» ويؤيده ما سبق في نخل عن الواقدي من تعبيره في ذات الرقاع بالنخيل مصغرا، لكن الأسدي غاير بين بطن نخل وبين النخيل، والنخيل معروف اليوم بقرب الكديد فوق الشقرة.
النسار:
ككتاب، جبل بحمى ضرية، وقيل: هما نسران جمعا وجعلا موضعا واحدا، وقيل: هو جبل يقال له «نسر» فجمع، وقال أبو عبيد: النسار أجبل متجاورة يقال لها الأنسر وهي النسار.
نسر:
بلفظ الطائر المعروف، موضع بنواحي المدينة، قال أبو وجزة السعدي:
بأجماد العقيق إلى مراخ ... فنعف سويقة فرياض نسر
نسع:
بالكسر ثم السكون وعين مهملة، موضع حماه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وهو صدر وادي العقيق، قاله المجد، وكأنه اسم لحمى البقيع؛ إذ هو صدر العقيق.
النصب:
بالضم ثم السكون وصاد مهملة وباء موحدة، موضع قرب المدينة، وقيل:
من معادن القبلية.
وعن مالك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة، والنصب بالضم وبالضمتين- الأصنام المنصوبة، قاله المجد، وسبق في ذات النصب أنها بضمتين من معادن القبلية، وهو الذي قاله عياض.
النصع:
بالكسر وإهمال الصاد والعين، جبال سود بين الصفراء وينبع، والنصيع مصغرا: جبل قرب العذيبة.(4/155)
نضاد:
بالفتح وضاد معجمة وآخره دال مهملة، والحجازيون يقولون نضاد كقطام، وتميم تنزله منزلة مالا ينصرف، وهو جبل لغني بحمى ضرية، وكان سراقة السليمي أصاب دما في قومه فانحاز لغني فقال:
حللت إلى غنيّ في نضاد ... بخير محلة وبخير حال
النضير:
بالفتح ثم الكسر ثم مثناة تحت ثم راء، قبيل من يهود تقدموا في منازلهم.
نطاة:
كقطاة، حصن من حصون خيبر، وقيل: كل أرض خيبر، وقيل: عين ماء وبيئة هناك، والذي يقتضيه كلام الواقدي أنه ناحية من خيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح حصن ناعم وغيره من حصونه تحوّل أهلها إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قلّة، قال: فجاء رجل من يهود للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق؟ فامنه، فقال: إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن لهم دبولا تحت الأرض يشربون منها، فقطع دبولهم، قال: وكان هذا آخر حصون النّطاة فتحا، ثم تحوّل إلى أهل الشق.
نعمان:
بالضم والعين المهملة، واد بالمدينة يلقى سيول المدينة هو ونقمي أسفل عين أبي زياد بالغابة، وفي دلائل النبوة للبيهقي عن ابن إسحاق أن المشركين في غزوة الخندق نزلوا باب نعمان إلى جانب أحد، وفي الاكتفاء عن ابن إسحاق أن عيينة بن حصن في غطفان نزلوا إلى جانب أحد بباب نعمان، والذي في تهذيب ابن هشام عن ابن إسحاق نزولهم بنقمي.
نعيم:
كزبير، موضع قرب المدينة، وجمعه بعضهم في شعره فقال نعائم.
نعف مناسير:
قال ابن السكيت: نعف هنا ما بين الدوداء وبين المدينة، وهو حد الخلائق خلائق الأحمديين، والخلائق: آبار، وسبق شاهد النعف في حمى النقيع فيما قيل فيه من الشعر، وسبق أيضا ذكر نعف النقيع، ومقتضى إثبات المجد له هنا أن يكون بالغين المعجمة، وإلا لقدمه على ما قبله، ولم يتعرض لذلك في القاموس، بل قال في النعف بالعين المهملة: إنه ما انحدر من حزونة الجبل وارتفع عن منحدر الوادي، ومن الرملة مقدمها وما استدق. وفي الصحاح في مادة العين المهملة أيضا: النعف ما انحدر من حزونة الجبل وارتفع عن منحدر الوادي، فما بينهما نعف وسرو وحنف، والجمع نعاف، انتهى، فالظاهر أن ما سبق كله بالعين المهملة الساكنة مع فتح أوله.
النفاع:
بالفتح وتشديد الفاء، أطم بمنازل بني خطمة، كان على بئر عمارة.
ذو نفر:
بالتحريك وقد تسكن الفاء، موضع خلف الربذة، على ثلاثة أيام من السليلة.(4/156)
نفيس:
بالفتح ثم الكسر يضاف إليه قصر نفيس المتقدم.
النقاب:
بلفظ نقاب المرأة، من أعمال المدينة، يتشعب منه طريقان إلى وادي القرى ووادي المياه.
النقا:
بالفتح والتخفيف مقصور، ما بين وادي بطحان والمنزلة التي بها السقيا المعروفة ببئر الأعجام، قال المطري: النقا المذكور في الأشعار غربي المصلى إلى منزلة الحاج غربي وادي بطحان، والوادي يفصل بين المصلى والنقا، ولمجاورة المكانين قال بعضهم موريا عن الشيب ومصلى الجنائز:
ألا يا ساريا في قعر عمرو ... يكاد وفي السرى وعرا وسهلا
بلغت نقا المشيب وجزت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى
نقب بني دينار:
بن النجار- ويقال «نقب المدينة» هو طريق العقيق بالحرة الغربية، وبه السقيا كما سبق عن الواقدي في بقع، وقال ابن إسحاق في المسير إلى بدر: فسلك طريق مكة على نقب المدينة، ثم على العقيق، وقال في موضع آخر: غزا قريشا فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخبار.
نقعاء:
كحمراء بالعين المهملة، موضع خلف حمى النقيع من ديار مزينة، نزله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، وهو من أودية العقيق، ولهذا روي في شعر الخنساء كما سبق:
وقولي إن خير بني سليم ... وغيرهم بنقعاء العقيق
وسمي كثير مرج راهط نقعاء راهط.
وفي سير الواقدي ذكر إسراعهم السير في الرجوع من المريسيع، وأنه صلى الله عليه وسلم نزل في اليوم الثالث ماء يقال له نقعاء فوق النقيع، وسرح الناس ظهورهم، فأخذهم ريح شديدة حتى أشفق الناس منها، ثم ذكر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الريح عصفت لموت منافق عظيم النفاق بالمدينة، وكان موته للمنافقين غيظا شديدا، وهو زيد بن رفاعة بن التابوت، مات ذلك اليوم، ولما قدموا المدينة ذكر لهم أهلها أنهم وجدوا مثل ذلك من شدة الريح، حتى دفن عدو الله فسكنت الريح.
نقمى:
قال المجد: هو مثال نسكى وجمزى موضع بقرب أحد، كان لأبي طالب، قال ابن إسحاق: وأقبلت غطفان يوم الخندق ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد وروى نقم، اه. وسبق في مجتمع الأودية أن وادي نقمى يلقاها أسفل من عين أبي زياد بالغابة، وروى الزبير عقبه عن عمر بن عبيد الله بن معمر أن اسم(4/157)
نقمي ليس نقمى، وإنما هو نقمان، أي بالتثنية، وأن اسمه أولا كان عرى فخرج رجلان من العرب لقومهما فرجعا فلم يحمدا فقيل نقمان، أي بالتثنية، فسميا بذلك السبب نقما، انتهى. ومقتضاه أن يكون بكسر القاف.
النقيع:
بالفتح ثم الكسر وسكون المثناة تحت وعين مهملة، تقدم في حمى النقيع.
نقيع الخضمات:
بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، قال المجد: نقيع الحمى غير نقيع الخضمات. وكلاهما بالنون، وأما الباء فيهما فخطأ صراح، والخضمة: النبات الناعم الأخضر والأرض الناعمة النبات، كأنهم جمعوها على خضمات تخفيفا، ونقيع الخضمات: موضع قرب المدينة حماه عمر رضي الله تعالى عنه لحيل المسلمين، وهو من أودية الحجاز، يدفع سيله إلى المدينة، وحمى النقيع على عشرين فرسخا، انتهى.
وذكر ابن سيد الناس حديث أبي داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: حدثني سلمة قال: كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمّع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات، ثم قال: نقيع الخضمات وقع في هذه الرواية بالتاء، وقيده البكري بالنون، وقال: هزم النبيت جبل على بريد من المدينة.
قلت: هو مردود بقوله في الحديث من حرة بني بياضة؛ لأنها موضع قريتهم من الحرة الغربية، ولهذا قال ابن زبالة في روايته: كان أول من جمّع بنا في هذه القرية في هزمة من حرة بني بياضة، فالصواب قول النووي في تهذيبه: نقيع الخضمان بالنون كما قيده الحارثي وغيره، وهي قرية بقرب المدينة على ميل من منازل بني سلمة، قاله الإمام أحمد كما نقله الشيخ أبو حامد، اه. وقرية بني بياضة على نحو الميل من بني سلمة، فهي المراد، ورأيت بين منازلهم بالحرة أماكن منخفضة يستنقع فيها ماء السيل، والهزم لغة: النقر والحفر، ويحتمل أن يراد به محل الهزيمة؛ فإن النبيت اسم لقبائل من الأوس، وقد وقع بينهم وبين بني بياضة من الخزرج حروب كان الظفر في أكثرهم قبل بعاث للخزرج.
نمرة:
كعطرة، موضع بقديد، ذكرها صاحب المسالك والممالك في توابع المدينة ومخاليفها.
نملى:
كجمزى وقلبى ونسكى، عن الجرميّ أنه ماء بقرب المدينة، ويقال نملاء كحمراء، كأنه سمي به لكثرة النمل عنده، وقال الأصمعي عن العامري: نملى جبال حواليها جبال متصلة فيها سواد وليست بطوال. ومن مياه نملى الحنجرة والودكاء، قال:(4/158)
ولأهل نملى ماء آخر بواد يقال له مهزور، ومقتضاه أنه بناحية حمى ضرية، قال: وسمع هاتف في جوف الليل من الجن يقول:
وفي ذات آرام حبوب كثيرة ... وفي نملى لو تعلمون الغنائم
نهبان:
بالفتح ثم السكون، نهب الأسفل ونهب الأعلى، وهما جبلان شامخان لمزينة وبني ليث يقابلان القدسين يمين طريق المصعد، يفرق الطريق بينهما وبين القدسين وورقان، وفي نهب الأعلى ماء في دوار من الأرض وبئر كبيرة غزيرة الماء عليها مباطح وبقول ونخلات يقال لها ذو خيما.
النواحان:
أطمان لبني أنيف بقباء.
النواعم:
سبقت في الناعمة، وهي منازل بني النضير في العالية.
نوبة:
بالضم ثم السكون وباء موحدة، موضع على ثلاثة أميال من المدينة، له ذكر في المغازي، قاله ياقوت، ونوبة أيضا: هضبة حمراء بأرض بني أبي بكر ابن كلاب.
نيار:
بالكسر آخره راء، أطم أو شخص أضيف إليه أطم نيار بمنازل بني مخدعة من بني حارثة.
النير:
بالكسر، جبال تقدم ذكرها في حمى ضرية، وقال الأصمعي: النير جبل بأعلى نجد، شرقية لغني، وغربية لفاخرة.
نيق العقاب:
بالكسر وضم العين، موضع قرب الجحفة، لقي به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن المغيرة مهاجرين عام الفتح، وفي الاستيعاب أنهما لقياه بين السقيا والعرج، وقيل: بالأبواء.
حرف الهاء
الهدبية:
بفتح أوله وثانيه وكسر الموحدة وتشديد المثناة تحت ثم هاء، ثلاث آبار لبني جفاف ليس عليهن مزارع ولا نخل، بقاع واسع بين حرتين سوداوين، على ثلاثة أميال من السوارقية.
هجر:
المذكور في حديث القلّتين، قال النووي: هي بفتح الهاء والجيم قرية قرب المدينة النبوية عملت فيها تلك القلال أولا، وليست هي هجر البحرين المدينة المعروفة، اه. قال الزركشي: وقيل هجر البحرين، وبه قال الأزهري، وهو الأسدّ.
قلت: ولذا لم يذكرها المجد.
الهجيم:
بالضم وفتح الجيم، أطم بالعصبة، تقدم في بئر هجيم.
الهدار:
بالفتح وتشديد الدال المهملة آخره راء مشددا، حساء من أحساء مغار قرب السوارقية، قاله ياقوت، والهدار أيضا: منزل مسيلمة الكذاب من ناحية اليمامة.(4/159)
الهدن:
بضمتين وإهمال الدال، ماء وراء وادي القرى.
هرشى:
كسكرى والشين معجمة، ينسب إليها ثنية هرشي، ويقال: عقبة هرشى.
وعلم منتصف طريق مكة دون عقبة هرشى بميل كما سبق في مسجدها.
قال عرام: هرشى هضبة ململمة بأرض مستوية لا تنبت شيئا، أسفلها ودان على ميلين مما يلي مغيب الشمس، يقطعها المصعدون من حجّاج المدينة، ويتصل بها عن يمينها، بينها وبين البحر خبت وهو رمل لا ينبت غير الأرطى، وهرشى على ملتقى طريق الشام وطريق المدينة، قال المجد: أراد بطريق الشام طريق مصر اليوم.
قلت: وهي طريق حجاج المدينة اليوم، لكن يكون هرشى على يسارهم؛ لأنهم يسيرون في الخبت، وودان أسفل منها إلى رابغ، فإنما كانت ملتقى الطريق قديما، ولها طريقان، وكلّ من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد، ولذلك قيل:
خذا أنف هرشى أو قفاها؛ فإنما ... كلا جانبي هرشى لهن طريق
وحكي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه استقرأ عقيل بن علقمة، فقرأ الزلزلة حتى بلغ آخرها فقرأ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فقال عمر: ألم أقل إنك لا تحسن أن تقرأ؟ إن الله قدم الخير وأنت قدمت الشر، فقال:
خذا أنف هرشى
البيت المتقدم فضحك القوم.
هلوان: من أودية العقيق، قال مصعب الزبيري:
وما حسنت من رحلة مثل رحلة ... بهلوان لما هيجتها المحاصر
هكر:
بالفتح ثم السكون ثم راء، موضع معروف، به ماء، على أربعين ميلا من المدينة، ينزله أمراؤها أحيانا، له ذكر في شعر امرئ القيس.
هكران:
محرك، جبل حذاء قباء التي بالناحية المعروفة بكشب.
همج:
محرك، ماء عيون عليه نخل من ناحية وادي القرى.
هيفاء:
بمثناة تحت وفاء، موضع على ميل من بئر المطلب، وفي سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة أن سرح المدينة كانت ترعى بهيفا على سبعة أميال من المدينة.
حرف الواو
وابل:
كصاحب، المطر الشديد الوقع، وهو موضع في أعالي المدينة.
الواتدة:
قرن منتصب شارع على أعلى نقيع الحمى بمدفع شجوى، ورواه الخلصي «الوتدة» بغير ألف، نقله الهجري.(4/160)
وادي:
معرفة غير مضاف، علم للوادي الذي به فج الروحاء، وتقدم في مفرش قول ابن عمر: هبطت بطن واد فإذا ظهر من بطن واد مع بيان المزية.
وادي أبي كبير:
فوق المخرم والمعرس وصدر الحفيرة.
وادي أحيليين:
بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة ثم مثناة تحتية ثم لام ومثناتين كذلك، تقدم في نار الحجاز.
وادي الأزرق:
بسكون الزاي ثم راء، سبق في جمدان أنه بعد أمج بميل وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية له جؤار إلى الله بالتلبية، ثم أتى على ثنية هرشى فقال:
«كأني أنظر إلى يونس بن متّى» ، الحديث.
وقوله: «ثم أتى» يعني في الرجوع إلى المدينة.
وادي بطحان:
وغيره من الأودية التي بالمدينة سبقت في الفصل الخامس وما قبله.
وادي الجزل:
بالجيم والزاي، الوادي الذي به الرحبة، وسقيا لجزل قرب وادي القرى، ويلقى وادي إضم في نخيل ذي المروة.
وادي دحيل:
سبق في حمى النقيع.
وادي الدوم:
معترض في شمالي خيبر إلى قبلتها، أوله من الشمال غمرة، ومن القبلة القصيبة، وهو فاصل بين خيبر والعراص.
وادي السّمك:
بفتح السين المهملة ثم السكون، بناحية الصفراء، يسلكه الحاج أحيانا، ذكره المجد في السين.
وادي القرى:
واد كثير القرى، بين المدينة والشام، وقال الحافظ ابن حجر: هي مدينة قديمة بين المدينة والشام، وأغرب ابن قرقول فقال: إنها من أعمال المدينة، انتهى.
ولا إغراب فيه لتصريح صاحب المسالك به كما سبق في تبوك، وسبق أن دومة الجندل من أعمال المدينة، وأنها بوادي القرى، بل يظهر أنها أبعد منه لأنها على خمس عشرة أو ست عشرة ليلة من المدينة، وأما وادي القرى ففي طبقات ابن سعد أن أسامة بن زيد لما رجع من غزوة الروم أجدّ السير، فورد وادي القرى في سبع ليال، ثم قصد يعدو في السير فسار إلى المدينة ستا، وسبق أن حجر ثمود على يوم من وادي القرى، وأن العلا بناحية وادي القرى.
وروى البيهقي: من طريق الواقدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، فلما نزلنا إلى وادي القرى انتهينا إلى يهود(4/161)
وقد ثوى إليها ناس من العرب، وذكر استقبال يهود لهم بالرمي وهم يصيحون في آطامهم وقتالهم حتى أمسوا، قال: وغدا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم. وفتحها عنوة، وغنمه الله أموالهم، أصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب، وترك الأرض والنخل بأيدي يهود، وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى صالحوه على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم فلما كان عمر أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام ويروى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وأن ما وراء ذلك من الشام فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ترفع من خيبر ومن وادي القرى، وقال أحمد بن جابر: قيل: إن عمر أجلى يهود وادي القرى، وقيل: لم يجلهم.
وسبق في ذي المروة أن بعضهم عده من وادي القرى، وأنه إن ثبت فهو غير وادي القرى المذكور، وسبق في بلاكث وبرمة ما يؤيده، وعليه أهل المدينة اليوم؛ لأنهم يسمون ناحية ذي المروة وناحية ذي خشب وادي القرى، ولعلها قرى عرينة.
واردات:
هضبات صغار بحمى ضرية، فيها يقول الأخطل:
إذا ما قلت قد صالحت بكرا ... أبي الأضغان والنسب البعيد
ومهراق الدماء بواردات ... تبيد لمجريات ولا تبيد
واسط:
أطم لبني خدرة، وأطم آخر لبني خزيمة رهط سعد بن عبادة، وآخر لبني مازن بن النجار، وموضع بين ينبع وبدر، وجبل تنتطح سيول العقيق عنده ثم يفضي إلى الجثجاثة، وفيه يقول كثير:
أقاموا، فأما آل عزة غدوة ... فبانوا، وأما واسط فمقيم
واقم:
كصاحب، أطم بني عبد الأشهل، نسبت إليه حرّتهم، وله يقول شاعرهم:
نحن بنينا واقما بالحره ... بلازب الطين وبالأصرّه
وواقم أيضا:
أطم بالمسكبة شرقي مسجد قباء لأبي عويم بن ساعدة، وأطم آخر في موضع الدار التي يقال لها واقم بقباء كان لأحيحة قبل تحوله للعصبة.
الوالج:
كان به الشيخان، وهما أطمان كما سبق، وبطرفه مما يلي قناة أطم يقال له الأزرق.
الوبرة:
بسكون الموحدة، قرية على عين من جبال آرة، وجاء ذكرها في حديث(4/162)
أهبان الأسلمي أنه كان يسكن يين وهي من بلاد أسلم: يينا هو يرعى بحرة الوبرة عدا الذئب على غنمه، الحديث، قاله المجد تبعا لياقوت، وهو وهم؛ لأن الوبرة هذه بالفرع كما يؤخذ مما سبق في آرة، على أربعة أيام من المدينة ويين على بريد من المدينة كما سيأتي، وتقدم عن المجد في حرة الوبرة ما يخالف المذكور هنا، وهو الصواب، وقد وقع الموضعان كذلك في كلام ياقوت فتبعه المجد.
وبعان:
بالفتح ثم الكسر وإهمال العين آخره نون، ويقال باللام بدل الباء، قرية على أكناف آرة، قاله المجد.
وجمة:
بالفتح وسكون الجيم، جبل يدفع سيله في عنقه.
الوحيدة:
مؤنث الوحيد للمنفرد، من أعراض المدينة بينها وبين مكة.
ودّان:
بالفتح ودال مهملة مشددة آخره نون، قرية من نواحي الفرع لضمرة وغفار وكنانة، على ثمانية أميال من الأبواء، أكثر نصيب من ذكرها قال:
أقول لركب قافلين عشية ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب
قفوا أخبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودّان راغب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وقال أبو زيد: ودّان من الجحفة على مرحلة، بينها وبين الأبواء ستة أميال وبها كان أيام مقامي بالحجاز رئيس لبني جعفر بن أبي طالب، ولهم بالفرع وساية ضياع وعشيرة، وبينهم وبين الحسنيين حروب، ولم يزل كذلك حتى استولت طائفة من اليمن تعرف ببني حرب على ضياعهم.
ودعان:
بالفتح ثم السكون وعين مهملة آخره نون، موضع بينبع.
هضب الوراق
جبل تقدم في حمى ضرية.
ورقان:
بالفتح ثم الكسر وقد تسكن وبالقاف، جبل عظيم أسود على يسار المصعد من المدينة، وينقاد من سيالة إلى الجي بين العرج والرويثة، وبسفحه عن يمينه سيالة ثم الروحاء ثم الرويثة ثم الجي، وفي ورقان أنواع الشجر المثمر وغير المثمر والقرظ والسماق، وفيه أوشال وعيون، سكانه بنو أوس من مزينة قوم صدق أهل عمود، قاله عرام.
وقال الأسدي: إنه على يسار الطريق حين يخرج من السيالة، ويقال: إنه يتصل إلى مكة، انتهى.
وذكر عرام أن الذي يليه عند الجي القدسان، يفصل بينه وبينهما عقبة ركوبة، وسبق(4/163)
في فضل أحد من حديث الطبراني أن ورقان من جبال الجنة، وحديث «خير الجبال أحد والأشعر وورقان» وأنه أحد الأجبل التي وقعت بالمدينة من الجبل الذي تجلى الله تعالى له، وفي رواية أنه أحد الأجبل التي بنيت الكعبة منها، وسبق في مسجد عرق الظبية قوله صلى الله عليه وسلم «هل تدرون ما اسم هذا الجبل» يعني ورقان «هذا حمت، جبل من جبال الجنة، اللهم بارك فيه وبارك لأهله» ثم قال «هذا سجاسج للروحاء، هذا واد من أودية الجنة» قال ابن شبة: يقال يوم حمت؛ إذا كان شد الحر: أي هو قوى شديد.
الوسباء:
بالفتح وسكون السين المهملة ثم باء موحدة وبالمد، ماء لبني سليم بلحف أبلى.
وسط: ج
بل بحمى ضرية، ينسب إليه دارة وسط بناحيته اليسرى.
وسوس:
من الوسواس من أودية القبلية، يصب من الأجرد على الحاضرة والنكباء، وهما فرعان بهما نخل لجهينة وغيرهم، والحاضرة عين لبني عبد العزيز بن عمر في صدر الحرار.
الوشيجة:
بالفتح وكسر الشين المعجمة ثم مثناة تحت وجيم وهاء، من أودية العقيق ذو وشيع بالفتح ثم الكسر آخره عين مهملة، من أموال المدينة.
الوطيح:
بالفتح وكسر الطاء المهملة وياء وحاء مهملة، من أعظم حصون خيبر، سمي بوطيح بن مازن رجل من ثمود، وفي كتاب أبي عبيدة «الوطيحة» بزيادة هاء.
وظيف الحمار:
بالظاء المعجمة والمثناة تحت والفاء، ستدق الذراع والساق من الحمار ونحوه، هو من العقيق ما بين سقاية سليمان بن عبد الملك إلى زغابة.
وفي طبقات ابن سعد في قصة ما عز: أنه لما مسّته الحجارة فر يعدو قبل العقيق فأدرك بالمكيمن، وكان الذي أدركه عبد الله بن أنيس بوظيف الحمار، فلم يزل يضربه حتى قتله، انتهى. والمكيمن: بالعقيق، لكنه بعيد من الموضع المذكور
وعيرة:
بالفتح وكسر العين المهملة وسكون المثناة تحت وفتح الراء ثم هاء، جبل شرقي ثور، أكبر منه وأصغر من أحد.
ولعان:
لغة في وبعان كما سبق.
حرف الياء
يتيب:
بالفتح ثم كسر المثناة فوق ثم مثناة تحت ثم موحدة، جبل له ذكر في حدود الحرم، وفي نزول أبي سفيان به حين حرق صورا من صيران العريص كذا قاله المجد، وسبق في حدود الحرم ما يخالفه في الضبط.(4/164)
يثرب:
تقدم في أسماء المدينة، وقال ابن زبالة: يثرب أم قرى المدينة، وهي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، أي هذا حدها من المشرق والمغرب وما بين المال الذي يقال له البرني إلى زبالة أي من الشام والقبلية، وفي شامي الموضع المعروف اليوم بيثرب نخل يعرف بالمال، وزبالة تقدم بيانها.
ذو يدوم:
من أودية العقيق.
يديع:
بالفتح وكسر الدال المهملة ومثناة تحتية ثم عين مهملة، ناحية بين فدك وخيبر، بها مياه وعيون لفزارة وغيرهم.
يراجم:
غدير ببطن قاع النقيع في صير الجبل نصيف روى الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من غدير يراجم بالنقيع وقال: إنكم ببقعة مباركة، وقال تبع الملك:
ولقد شربت على يراجم شربة ... كادت بباقية الحياة تذيع
يرعة:
محركة والعين مهملة، في ديار فزارة، بين ثوابة والحراضة.
يلبن:
بالفتح ثم السكون ثم موحدة مفتوحة ثم نون، غدير بنقيع الحمى في صير، وقال ابن السكيت: هو قلت «1» عظيم بالنقيع من حرة سليم، قال الهجري: ويقول الفصحاء فيه «ألبن» بهمزة بدال الياء و «يلبن» بالياء، وقال المجد: هو جبل قرب المدينة، وقيل: غدير بها.
اليسيرة:
بئر بني أمية بن زيد، تقدمت في الآبار.
يليل:
بياءين مفتوحتين بينهما لام وآخره لام، واد بناحية ينبع والصفراء، يصب في البحر، وبه عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أغزر ما يكون من العيون، وتجري في الرمل فلا يستطيعون الزراعة عليها إلا في أحياء الرمل، وبها نخل وبقول، وتسمى النجير، ويتلوها الجار، وهو على شاطئ من النجير، قاله عرام.
وفي غزوة بدر أن قريشا نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل ويليل بين بدر وبين العقنقل، فيليل هذا غير يليل السابق ذكره في الخلائق؛ لأن ذاك عند الضبوعة، ومن مجتمعها تخرج إلى فرش ملل.
وروي برجال وثقوا عن سبرة بن معبد قال: رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سحابة، فقالوا: يا رسول الله كنا نرجو أن تمطرنا هذه السحابة، فقال: إن هذه أمرت أن تمطر بيليل، يعني واديا يقال له يليل.
__________
(1) القلت: النقرة في أرض أو بدن.(4/165)
ينبع:
بالفتح ثم السكون وضم الموحدة وإهمال العين مضارع «نبع الماء» أي:
ظهر، من نواحي المدينة على أربعة أيام منها، وإنما أفردت عنها في الأعصر الأخيرة، سميت به لكثرة ينابيعها، قال بعضهم: عددت بها مائة وسبعين عينا.
ولما أشرف عليها علي رضي الله تعالى عنه ونظر إلى جبالها قال: لقد وضعت على نقي من الماء عظيم، وسكانها جهينة وبنو ليث والأنصار، وهي اليوم لبني حسن العلويين.
وروى ابن شبة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أقطع عليا بينبع، ثم اشترى عليّ إلى قطيعة عمر شيئا.
وروى أيضا عن كشد بن مالك الجهني قال: نزل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عليّ بالمنحار وهو موضع بين حوزة السفلى وبين منحوين على طريق تجار الشام يرقبان عير أبي سفيان، فأجازهما كشد، فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبع أقطعها لكشد، فقال: إني كبير، ولكن أقطعها لابن أخي، فأقطعها له، فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد الأنصاري بثلاثين ألف درهم، فخرج عبد الرحمن إليها وأصابه صافيها وربحها، فقدرها، وأقبل راجعا، فلحق علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دون ينبع، فقال: من أين جئت؟ فقال: من ينبع، وقد سئمتها، فهل لك أن تبتاعها؟ قال علي: قد أخذتها بالثمن، قال: هي لك، فكان أول شيء عمله علي فيها البغيبغة.
وعن عمار بن ياسر قال: أقطع النبي صلى الله عليه وسلم عليّا بذي العشيرة من ينبع، ثم أقطعه عمر بعد ما استخلف قطيعة، واشترى عليّ إليها قطيعة، وكانت أموال علي بينبع عيونا متفرقة تصدق بها.
وروى أحمد بن الضحاك أن أبا فضالة خرج عائدا لعلي بينبع، وكان مريضا، فقال له: ما يسكنك هذا المنزل؟ لو هلكت لم يلك إلا الأعراب أعراب جهينة، فاحتمل إلى المدينة فإن أصابك قدر وليك أصحابك، فقال علي: إني لست بميت من وجعي هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ أن لا أموت حتى أضرب ثم تخضب هذه يعني لحيته من هذه، يعني هامته.
يهيق:
موضع قرب المدينة، قال المجد: لم أر من تعرض له، وفي الحديث «ليوشكن أن يبلغ بنيانهم سيفا» يعني أهل المدينة.
يين:
بياءين مفتوحة ثم ساكنة ثم نون، وليس في كلامهم ما فاؤه وعينه ياء غيره، وضبطه الصغاني بفتح الياءين.
قال نصر: يين واد به عين من أعراض المدينة، على بريد منها، وهي منازل أسلم من خزاعة.(4/166)
وقال الزمخشري: يين عين بواد يقال له حورتان، لبني زيد الموسوي من بني الحسن.
وفي سر الصناعة: يين واد بين ضاحك وضويحك، جبلان بأسفل الفرش.
قلت: وسيلهما يصب في حورتين، فلا تخالف، وأثر العين والقرية اليوم موجود هناك، وكان بها فواكه كثيرة، حتى نقل الهجري أن يين بلد فاكهة المدينة، وكانت تعرف من قريب بقرية بني زيد، فوقع بينهم وبين بني يزيد حروب، فجلا بنو زيد عنها إلى الصفراء، وبنو يزيد إلى الفرع، فخربت، وكانت منازل بني أسلم قديما.
وعن أسماء بن خارجة الأسلمي قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، فقال:
أصمت اليوم يا أسماء؟ فقلت: لا، قال: فصم، قلت: قد تغديت، قال: صم ما بقي من يومك، وأمر قومك يصومونه، قال: فأخذت نعلي بيدي فما دخلت رجلي حتى وردت يين على قومي، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تصوموا بقية يومكم.
وفي حديث أهبان الأسلمي ثم الخزاعي أنه كان يسكن يين، فبينما هو يرعى بحرة الوبرة عدا الذئب على غنمه، الحديث.
وقال ابن هرمة:
أدار سليمي بين يين فمثعر ... أبيني، فما استخبرت إلا لتخبري
ومحجة يين طريق درب الفقرة التي في شامي الجمّاوات: لأن يين على يمين طريق مكة قرب ملل، وقال الهجري: قال أبو الحسن: عبود جبل بين مدفع مريين وبين ملل ومريين طريق، أي يسلك هناك ويريد مريين بطريق عبود. وقال ابن إسحاق، في المسير إلى بدر: ثم مر على تربان، ثم على ملل، ثم علي عميس الحمام من مريين ثم علي صخيرات الثمام، ويين أيضا: بئر بوادي بوادي عياش، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/167)
الباب الثامن في زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في الأحاديث الواردة في الزيارة نصّا
الحديث الأول
روى الدارقطني والبيهقي وغيرهما، قال الدارقطني: حدثنا القاضي المحاملي، حدثنا عبيد بن محمد الوراق، حدثنا موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زار قبري وجبت له شفاعتي» .
قال السبكي: كذا في عدة نسخ معتمدة من سنن الدارقطني عبيد الله مصغرا، وكذلك الدارقطني في غير السنن، واتفقت رواياته من طريق محمد بن أحمد بن محمد ومحمد بن عبد الملك بن بشران وأبي النعمان تراب بن عبيد كلهم عن الدارقطني عن المحاملي علي عبيد الله مصغرا، ورواه غير الدارقطني عن غير المحاملي كما رواه البيهقي من طريق محمد بن رنجويه القشيري، قال: حدثنا عبيد بن محمد بن القاسم بن أبي مريم الوراق، حدثنا موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، الحديث؛ فثبت عن عبيد بن محمد وهو ثقة روايته على التصغير، ورواه جماعة غيره عن موسى بن هلال منهم جعفر بن محمد البزوري حدثنا محمد بن هلال البصري عن عبيد الله مصغرا رواه العقيلي ومنهم محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، واختلف عليه؛ فروي عنه مصغرا كغيره، وروي عنه مكبرا، ومرّض ذلك الحافظ يحيى بن علي القرشي، وصوب التصغير، وفي تاريخ ابن عساكر بخط البرزالي: لمحفوظ عن ابن سمرة «عبيد الله» وفي كامل ابن عدي «عبد الله أصح» قال السبكي: وفيه نظر، والذي يترجح «عبيد الله» لتضافر روايات عبيد بن محمد كلها وبعض روايات ابن سمرة، ولما سيأتي في الحديث الثالث من متابعة مسلمة الجهني لموسى بن هلال، ويحتمل أن موسى سمع الحديث من عبيد الله وعبد الله جميعا، وحدث به عن هذا تارة وعن هذا أخرى. وممن رواه عن موسى عن عبد الله مكبرا الفضل بن سهل؛ فإن صح حمل على أنه عنهما، إذ لا منافاة، على أن المكبر روى له مسلم مقرونا بغيره، وقال(4/168)
أحمد: صالح، وقال أبو حاتم: رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه، وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال: إنه في نافع صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به، صدوق. وقال ابن حبان ما حاصله: إن الكلام عليه لكثرة غلطه لغلبة الصلاح عليه، حتى غلب عن ضبط الأخبار.
قال السبكي: وهذا الحديث ليس في مظنة الالتباس عليه، لا سندا ولا متنا؛ لأنه في نافع، وهو خصيص به، ومتنه في غاية القصر والوضوح، والرواة إلى موسى بن هلال ثقات، وموسى قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقد روى عنه ستة منهم الإمام أحمد، ولم يكن يروي إلا عن ثقة، فلا يضره قول أبي حاتم الرازي: إنه مجهول، وقول العقيلي: لا يتابع عليه، وقول البيهقي: سواء قال عبيد الله أم عبد الله فهو منكر عن نافع، لم يأت به غيره، فهذا وشبهه يدلك على أنه لا علة لهذا الحديث إلا تفرد موسى به، وأنهم لم يحتملوه له لخفاء حاله، وإلا فكم من ثقة ينفرد بأشياء وتقبل منه.
قلت: ولهذا قال بعض الحفاظ ممن هو في طبقة ابن منده: هذا الخبر رواه عن موسى بن هلال محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، ومحمد بن جابر المحاربي، ويوسف بن موسى القطان، وهرون بن سفيان، والفضل بن سهل، والعباس بن الفضل، وعبيد بن محمد الوراق، وبعض هؤلاء قال في حديثه: عن عبيد الله بن عمر، ذكرناه بأسانيده في الكتاب الكبير، ولا نعلم رواه عن نافع إلا العمري، ولا عنه إلا موسى بن هلال العبدي، تفرد به، انتهى.
قال السبكي عقب ما تقدم: وأما بعد قول ابن عدي في موسى ما قال ووجود متابع فإنه يتعين قبوله، ولذلك ذكره عبد الحق في الأحكام الوسطى والصغرى، وسكت عليه مع قوله في الصغرى «إنه تخيرها صحيحة الإسناد، معروفة عند النقاد» وقد نقلها الأثبات، وتداولها الثقات، وذكر نحوه في الوسطى المعروفة اليوم بالكبرى، وسبقه ابن السكن إلى تصحيح الحديث الثالث كما سيأتي، وهو متضمن لمعنى هذا، وأقل درجات هذا الحديث الحسن إن نوزع في صحته لما سيأتي من شواهده، وتضافر الأحاديث يزيدها قوة، حتى إن الحسن قد يترقى بذلك إلى درجة الصحيح.
وقال الذهبي: طرق هذا الحديث كلها لينة يقوى بعضها بعضا؛ لأنه ما في رواتها متهم بالكذب، قال: ومن أجودها إسنادا حديث حاطب «من رآني بعد موتي فكأنما رآني في حياتي» أخرجه ابن عساكر وغيره، انتهى.
ومعنى قوله «وجبت» أنها ثابتة لا بد منها بالوعد الصادق.(4/169)
وقوله «له» إما أن يراد بخصوصه فيخص الزائر بشفاعة لا تحصل لغيره، وإما أن يراد أنه تفرد بشفاعة مما يحصل لغيره، والإفراد للتشريف والتنويه بسبب الزيارة، وإما أن يراد أنه بعدم تركه الزيارة يجب دخوله فيمن تناله الشفاعة؛ فهو بشرى بموته مسلما، فيجري على عمومه، ولا يضم فيه شرط الوفاة على الإسلام، بخلافه على الأولين.
وقوله «شفاعتي» في هذه الإضافة تشريف، فإن الملائكة والأنبياء والمؤمنين يشفعون، والزائر له نسبة خاصة فيشفع هو فيه بنفسه، والشفاعة تعظم بعظم الشافع.
الحديث الثاني
روى البزار من طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري: حدثنا عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من زار قبري حلّت له شفاعتي» .
قال البزار: عبد الله بن إبراهيم حدث بأحاديث لم يتابع عليها، وإنما يكتب من حديثه ما لا يحفظ إلا عنه، وقال أبو داود: إنه منكر الحديث.
قال السبكي: وهذا الحديث هو الأول، ولذلك عزاه عبد الحق للدار قطني والبزار، إلا أن في الأول «وجبت» وفي هذا «حلت» فلذلك أفردته، والقصد تقوية الأول به، فلا يضره ما قيل في الغفاري، وكذا ما قيل في عبد الرحمن بن زيد، إذ ليس راجعا إلى تهمة كذب ولا فسق، ومثله يحتمل في المتابعات والشواهد، وقد روى الترمذي وابن ماجه لعبد الرحمن بن زيد، وقال ابن عدي: إن له أحاديث حسانا، وإنه ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم، وإنه ممن يكتب حديثه، وصحح الحاكم حديثا من جهته في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثالث
روى الطبراني في الكبير والأوسط، والدارقطني في أماليه، وأبو بكر بن المقرئ في معجمه، من رواية مسلمة بن سالم الجهني قال: حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاءني زائرا لا تحمله حاجة إلا زيارتي كان حقّا عليّ أن أكون له شفيعا يوم القيامة» وفي معجم ابن المقرئ عن مسلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من جاءني زائرا كان له حقا على الله عز وجل أن أكون له شفيعا يوم القيامة» فقد تابع مسلمة الجهني موسى بن هلال في شيخه عبيد الله العمري، والطرق كلها في روايته متفقة على عبيد الله المصغر الثقة، إلا أن مسلمة بن حاتم(4/170)
الأنصاري رواه عن مسلمة عن عبد الله مكبرا، وأورد الحافظ ابن السكن هذا الحديث في باب «ثواب من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم» من كتابه المسمى بالسنن الصحاح المأثورة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو إمام حافظ ثقة مات بمصر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وكتابه هذا محذوف الأسانيد، ومقتضى ما شرطه في خطبته أن يكون هذا الحديث مما أجمع على صحته.
قلت: ولهذا نقل عنه جماعة منهم الحافظ زين الدين العراقي أنه صححه، فإما أن يكون ثبت عنده من غير طريق مسلمة أو أنه ارتقى إلى ذلك بكثرة الطرق، وتبويبه دال على أنه فهم من هذا الحديث الزيارة بعد الموت، أو أن ما بعد الموت داخل في العموم، قال السبكي: وهو صحيح.
الحديث الرابع
روى الدارقطني، والطبراني في الكبير والأوسط، وغيرهما من طريق حفص بن داود القارئ عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» .
ورواه ابن الجوزي في «مثير الغرام الساكن» من طريق الحسن بن الطيب: حدثنا علي بن حجر حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبه» قال أبو اليمن بن عساكر: تفرد بقوله «وصحبتي» الحسن بن الطيب عن علي بن حجر، وفيه نظر، وهي زيادة منكرة، قال السبكي: ولم ينفرد بها ابن الطيب؛ فقد رواه كذلك ابن عدي في كامله من طريق الحسن بن سفيان عن علي بن حجر بالسند المتقدم، ورواه أبو يعلى من طريق حفص بن سليمان عن كثير بن شنطير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر بدون قوله «وصحبني» .
قلت: والتشبيه بمن صحبني لا يقتضي التشبيه به من كل وجه حتى يناقضه قوله «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا الحديث» كما زعمه بعضهم.
وروى بعض الحفاظ المعاصرين لابن منده هذا الحديث من طريق حفص بن سليمان عن ليث بلفظ «من حج فزارني في حياتي» قال السبكي: وحفص بن أبي داود وثّقه أحمد، ثم روى ذلك عنه من طريقين، قال: وذلك مقدم على من روى عنه تضعيفه، وضعفه جماعة، وهم حفص بن سليمان القارئ الغاضري على ما قاله البخاري وابن أبي حاتم وابن عدي وابن حبان وغيرهم، وهو لم ينفرد بهذا الحديث، ودعوى البيهقي انفراده به(4/171)
بحسب اطلاعه؛ فقد جاء في الكبير والأوسط للطبراني متابعته؛ فإنه رواه من طريق عائشة بنت يونس امرأة الليث عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» قال الهيتمي: فيه عائشة بنت يونس، ولم أجد من ترجمها.
الحديث الخامس
روى ابن عدي في الكامل من طريق محمد بن محمد بن النعمان حدثني جدي قال:
حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» قاله ابن عدي: ولا أعلم رواه عن مالك غير النعمان بن شبل، ولم أر في أحاديثه حديثا غريبا قد جاوز الحد فأذكره، وروى في صدر ترجمته عن عمران بن موسى أنه وثقه وعن موسى بن هارون أنه متهم، قال السبكي: هذه التهمة غير مفسدة، فالحكم بالتوثيق مقدم عليها، والحديث ذكره الدارقطني في غرائب مالك بالسند المتقدم وقال: تفرد به هذا الشيخ وهو منكر، والظاهر أن ذلك بحسب تفرده، وعدم احتماله له بالنسبة إلى الإسناد المذكور، ولا يلزم أن يكون المتن في نفسه منكرا ولا موضوعا، وذكر ابن الجوزي له في الموضوعات سرف منه.
الحديث السادس
روى الدارقطني في السنن في الكلام على حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «من استطاع أن يموت في المدينة فليفعل» من طريق موسى بن هارون عن محمد بن الحسن الجيلي عن عبد الرحمن بن المبارك عن عون بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني إلى المدينة كنت له شهيدا وشفيعا» قيل للجيلي: إنما هو سفيان بن موسى، قال: اجعلوه علي بن موسى. قال موسى بن هارون: ورواه إبراهيم بن الحجاج عن وهيب عن أيوب عن نافع مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أدري أسمعه إبراهيم بن الحجاج أولا؟
قلت: والصواب أنه من رواية سفيان بن موسى، وقد ذكره ابن حبان في الثقات.
قيل: وأخطأ راويه في متنه، والمعروف من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة- الحديث» وفيه نظر.
الحديث السابع
روى أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من(4/172)
زار قبري أو قال من زارني- كنت له شفيعا، أو شهيدا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجلّ في الآمنين يوم القيامة» .
قال السبكي: سوّار بن ميمون روى عنه شعبة، فدل على ثقته عنده، فلم يبق من ينظر فيه إلا الرجل الذي من آل عمر، والأمر فيه قريب، لا سيما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين.
الحديث الثامن
روى أبو جعفر العقيلي من رواية سوّار بن ميمون المتقدم عن رجل من آل الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة» وفي رواية أخرى عن هارون بن قزعة عن رجل من آل الخطاب مرفوعا نحوه، وزاد عقب قوله في جواري يوم القيامة «ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شهيدا، أو شفيعا، يوم القيامة» وقال في آخره «من الآمنين يوم القيامة» بدل «في الآمنين» . وهارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات، والعقيلي لم يذكر فيه أكثر من قول البخاري: إنه لا يتابع عليه، فلم يبق فيه إلا الرجل المبهم وإرساله.
وقوله فيه «من آل الخطاب» يوافق قوله في رواية الطيالسي «من آل عمر» وقد أسنده الطيالسي عن عمر رضي الله تعالى عنه، لكن البخاري لما ذكره في التاريخ قال: هارون بن قزعة عن رجل من ولد حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم «من مات في أحد الحرمين» روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، وقال ابن حبان: إن هارون بن قزعة روى عن رجل من ولد حاطب المراسيل، وعلى كلا التقديرين فهو مرسل جيد، وسيأتي عن هارون بن قزعة أيضا مسندا بلفظ خر في الحديث التاسع، قاله السبكي.
الحديث التاسع
روى الدارقطني وغيره من طريق هارون بن قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة» وفي رواية أحمد بن مروان صاحب المجالسة عن هارون بن أبي قزعة مولى حاطب عن حاطب، والرواية «عن رجل عن حاطب» كما سبق أولى الصواب.
الحديث العاشر
روى أبو الفتح الأزدي في الثاني من فوائده من طريق عمار بن محمد: حدثني خالي سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله(4/173)
صلى الله عليه وسلم «من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى في بيت المقدس، لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه» .
قال السبكي: وعمار هو ابن أخت سفيان، روى له مسلم والحسن بن عثمان الزيادي، ووثقه الخطيب، والراوي عنه ما علمت من حاله شيئا. وصاحب الخبر أبو الفتح من أهل العلم والفضل، وكان حافظا، ذكره الخطيب وابن السمعاني. وأثنى عليه محمد بن جعفر بن علان، وقال أبو النجيب الأرموي: رأيت أهل الموصل يوهّنونه جدا، وسئل البرقاني عنه، فأشار إلى أنه كان ضعيفا، وذكر غيره كلاما أشد من هذا الحديث.
الحديث الحادي عشر
روى أبو الفتوح سعيد بن محمد اليعقوبي في جزئه رواية إسماعيل المشهور بابن الأنباطي عنه قال فيه من طريق خالد بن يزيد: حدثنا عبد الله بن عمر العمري قال:
سمعت سعيدا المقبري يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حيّ، ومن زارني كنت له شهيدا، أو شفيعا، يوم القيامة» .
وخالد بن يزيد إن كان العمري فقد قال ابن حبان: إنه منكر الحديث.
الحديث الثاني عشر
روى ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن أبي فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من زارني بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة» وفي رواية «كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» ورواه البيهقي بهذا الطريق، ولفظه «من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة، ومن زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة» .
وإسماعيل مجمع عليه، وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: إنه منكر الحديث ليس بقوى.
قلت: وزعم ابن عبد الهادي أن روايته عن أنس منقطعة، وأنه لم يدركه، فإنه إنما يروى عن التابعين وأتباعهم.
الحديث الثالث عشر
روى ابن النجار في أخبار المدينة له، قال: أنبأنا أبو محمد بن علي أخبرنا أبو يعلى الأزدي أخبرنا أخبرنا أبو إسحاق البجلي أخبرنا أبو سعيد بن أبي سعيد النيسابوري أخبرنا إبراهيم بن محمد المؤدب حدثنا محمد بن محمد حدثنا محمد بن مقاتل حدثنا جعفر بن(4/174)
هارون حدثنا سمعان بن المهدي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني ميتا فكأنما زارني حيا، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر» .
قلت: لم يتكلم عليه السبكي، وقال الذهبي: سمعان بن مهدي عن أنس لا يعرف، ألصقت به نسخة مكذوبة، رأيتها، قبح الله من وضعها، انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وهي من رواية محمد بن مقاتل عن جعفر بن هارون الواسطي عن سمعان، وهي أكثر من ثلاثمائة حديث، أكثر متونها موضوعة، انتهى.
الحديث الرابع عشر
روى أبو جعفر العقيلي في الضعفاء في ترجمة فضالة بن سعيد بن زميل المازني من طريقه عن محمد بن يحيى المازني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا، أو قال شفيعا» وذكره ابن عساكر من جهته بإسناده إلا أنه قال «من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي» والباقي سواء.
وفضالة قال العقيلي: حديثه غير محفوظ، لا يعرف إلا به، قال السبكي: كذا رأيته في كتاب العقيلي. ونقل ابن عساكر عنه أنه قال: لا يتابع على حديثه من جهة تثبت، ولا يعرف إلا به. ومحمد بن يحيى المازني قال ابن عدي: أحاديثه مظلمة منكرة، ولم يذكر ابن عدي هذا الحديث في أحاديثه، ولم يذكر فيه ولا العقيلي في فضالة شيئا من الجرح سوى التفرد والنكارة.
الحديث الخامس عشر
روى بعض الحفاظ في زمن ابن منده قال: حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك بسرّ من رأى بنصيبين حدثنا أبو أيوب إسحاق بن يسار بن محمد النصيبي حدثنا أسيد بن زيد حدثنا عيسى بن بشير عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان» وهو في مسند الفردوس، ولم يذكره السبكي.
وأسيد بن زيد هو الجمال، قال الحافظ ابن حجر: هو ضعيف، أفرط ابن معين فكذبه، وله في البخاري حديث واحد معروف بغيره، انتهى، فهو ممن يستشهد به.
وعيسى بن بشير: مجهول، ومن بعده ثقة.(4/175)
الحديث السادس عشر
روى يحيى بن الحسن بن جعفر الحسيني في أخبار المدينة له من طريق النعمان بن شبل قال: حدثنا محمد بن الفضل مديني سنة ست وسبعين عن جابر عن محمد بن علي عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني» ولم يتكلم السبكي عليه.
والنعمان بن شبل: تقدم الكلام عليه في الحديث الخامس، وعن محمد بن الفضل قال: إنه مديني، فهو غير محمد بن الفضل بن عطية الذي كذبوه، خلاف قول ابن عبد الهادي إنه هو؛ لأن ذاك كوفي، ويقال: مروزي نزل بخارى. وجابر إن كان الجعفي كما قال ابن عبد الهادي فهو ضعيف، فيه كلام كثير وثقة شعبة والثوري. ومحمد بن علي إن كان أبا جعفر الباقر فالسند منقطع؛ لأنه لم يدرك جده علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وإن كان ابن الحنفية فقد أدرك أباه عليا، وقد قال أبو سعيد عبد الملك بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الجركوسي في شرف المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم: روى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزر قبري فقد جفاني» . وعبد الملك هذا توفي سنة ست وأربعمائة بنيسابور، وقبره فيها مشهور يزار، قاله السبكي، قال: وقد روى حديث علي من طريق أخرى ليس فيها تصريح بالرفع، ذكرها ابن عساكر من طريق عبد الملك بن هرون بن عنترة عن أبيه عن جده عن علي رضي الله تعالى عنه قال: من سأل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الدرجة والوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة، ومن زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الملك بن هارون بن عنترة فيه كلام كثير، رماه يحيى بن معين وابن حبان، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد:
ضعيف الحديث، اه.
قلت: وقد رأيت في نسخة من كتاب يحيى رواية ابنه طاهر بن يحيى عنه عقب حديث عليّ المتقدم ما لفظه: حدثنا أبو يحيى محمد بن الفصل بن نباتة النميري قال:
حدثنا الجمالي قال: حدثنا الثوري عن عبد الله بن السائب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله، اه. ولم أر ذلك في النسخة التي هي رواية ابن ابنه الحسين بن محمد بن يحيى عن جده يحيى.
الحديث السابع عشر
روى يحيى أيضا قال: حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا عبد الله بن وهب عن رجل عن(4/176)
بكر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى المدينة زائرا لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمنا» ولم يتكلم عليه السبكي.
ومحمد بن يعقوب هو أبو عمر الزبيري المدني، صدوق. وعبد الله بن وهب ثقة، ففيه الرجل المبهم. وبكر بن عبد الله إن كان المزني فهو تابعي جليل؛ فيكون مرسلا، وإن كان هو بكر بن عبد الله بن الربيع الأنصاري فهو صحابي.
الفصل الثاني في بقية أدلة الزيارة، وإن لم تتضمّن لفظ الزيارة نصّا
وبيان تأكد مشروعيتها وقربها من درجة الوجوب، حتى أطلقه بعضهم عليها، وبيان حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره، ومشروعية شدّ الرحال إليه، وصحة نذر زيارته صلى الله عليه وسلم، والاستئجار للسلام عليه.
روى أبو داود بسند صحيح كما قال السبكي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» وقد صدّر به البيهقي باب زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، واعتمد عليه جماعة من الأئمة فيها منهم الإمام أحمد، قال السبكي: وهو اعتماد صحيح؛ لتضمنه فضيلة رد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهي عظيمة.
وذكر ابن قدامة الحديث من رواية أحمد بلفظ «ما من أحد يسلّم عليّ عند قبري» فإن ثبت فهو صريح في تخصيص هذه الفضيلة بالمسلم عند القبر، وإلا فالمسلّم عند القبر امتاز بالمواجهة بالخطاب ابتداء وجوابا، ففيه فضيلة زائدة على الرد على الغائب، مع أن السلام عليه صلى الله تعالى عليه وسلم على نوعين: الأول ما يقصد الدعاء منا بالتسليم عليه من الله، سواء كان بلفظ الغيبة أو الحضور، كقولنا: صلى الله تعالى عليه وسلم، والصلاة والسلام عليك يا رسول الله، سواء كان من الغائب عنه أو الحاضر عنده، وهذا هو الذي قيل باختصاصه به صلى الله عليه وسلم عن الأمة، حتى لا يسلم على غيره من الأمة إلا تبعا كالصلاة عليه، فلا يقال: فلان عليه السلام. الثاني: ما يقصد به التحية كسلام الزائر إذا وصل إلى قبره، وهو غير مختص، بل يعم الأمة، وهو مبتدع للرد على المسلم بنفسه أو برسوله فيحصل ذلك منه عليه السلام. وأما الأول فالله أعلم، فإن ثبت امتاز الثاني بالقرب والخطاب، وإلا فقد حرم من لم يزر هذه الفضيلة، وهو مقتضي ما فسر به الحديث الإمام الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن زيد المقبري أحد أكابر شيوخ البخاري، حيث قال في قوله «ما من أحد يسلم عليّ الحديث": هذا في الزيارة إذا زارني فسلّم عليّ رد الله عليّ(4/177)
روحي حتى أرد عليه، وأما حديث «أتاني ملك فقال يا محمد أما يرضيك أن لا يصلي عليه أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، أو لا يسلم عليك إلا سلمت عليه عشرا؛ فالظاهر أنه في السلام بالنوع الأول.
وروى النسائي وإسماعيل القاضي بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض يبلّغون من أمتي السلام، وجاءت أحاديث أخرى في عرض الملك لصلاة الأمة وسلامها على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في حق الغائب. وأما الحاضر عند القبر، فهل يكون كذلك أو يسمعه صلى الله تعالى عليه وسلم بلا واسطة؟
فيه حديثان: أحدهما: «من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا بلّغته» رواه جماعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا من طريق أبي عبد الرحمن محمد بن مروان السدي الصغير، وهو ضعيف. قال الطيالسي: حدثنا العلاء بن محمود حدثنا أبو عبد الرحمن قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر، انتهى. قلت: وروى نحوه أبو محمد عبد الرحمن بن حمدان بن عبد الرحمن بن المرزبان الخلال من طريق أبي البحتري، وهو ضعيف جدا، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «من صلى عليّ عند قبري رددت عليه، ومن صلى علي في مكان آخر بلغونيه» .
والحديث الثاني وهو أضعف من الأول عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا «من صلى علي عند قبري وكّل الله بها ملكا يبلغني، وكفى أمر آخرته، وكنت له شهيدا وشفيعا» وفي رواية «ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل الله بها ملكا يبلغني، وكفى أمر آخرته ودنياه، وكنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة» فإن ثبت الأول فكفى بذلك شرفا، وإلا فهو مرجو، فينبغي الحرص عليه، قال السبكي: وسيأتي ما يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يسمع من يسلم عليه عند قبره ويرد عليه عالما بحضوره عند قبره. وكفى بهذا فضلا حقيقا بأن ينفق فيه ملك الدنيا حتى يتوصل إليه من أقطار الأرض.
قلت: روى عبد الحق في الأحكام الصغرى وقال: إسناده صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام» ورواه ابن عبد البر وصححه كما نقله ابن تيمية، لكن بلفظ «ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» وقال عبد الحق في كتاب العاقبة:
ويروى من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها «ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده(4/178)
إلا استأنس به حتى يقوم» وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام.
والآثار في هذا المعنى كثيرة، وقد ذكر ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم- كما نقه ابن عبد الهادي- أن الشهداء بل كل المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلّم عليهم عرفوا به، وردوا عليه السلام، فإذا كان هذا في آحاد المؤمنين فكيف بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؟
وذكر البارزي في «توثيق عرى الإيمان» عن سليمان بن سحيم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال:
وأرد عليهم.
وروى ابن النجار عن إبراهيم بن بشار، قال: حججت في بعض السنين، فجئت المدينة فتقدمت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فسمعت من داخل الحجرة: وعليك السلام، وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من الأولياء والصالحين.
ولا شك في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم حياة أكمل من حياة الشهداء التي أخبر الله تعالى بها في كتابه العزيز، ونبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم سيد الشهداء، وأعمال الشهداء في ميزانه، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم «علمي بعد وفاتي كعلمي في حياتي» رواه الحافظ المنذري.
وروى ابن عدي في كامله عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون» ورواه أبو يعلى برجال ثقات، ورواه البيهقي وصححه، وروى من طريق ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ- عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال «إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكن يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور» قال البيهقي:
وإن صح بهذا اللفظ فالمراد والله أعلم- لا يتركون لا يصلون إلا هذا المقدار، ثم يكونوا مصلين فيما بين يدي الله تعالى.
قال البيهقي: ولحياة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم- بعد موتهم شواهد من الأحاديث الصحيحة، ثم ذكر حديث «مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره» وغيره من أحاديث لقاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأنبياء وصلاته بهم، وحديث الصحيحين «فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن(4/179)
استثنى الله عز وجل» قال البيهقي: وهذا إنما يصح على أن الله عز وجل يردّ على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا فيمن صعق، ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه، إلا في ذهاب الاستشعار في تلك الحالة. ويقال: إن الشهداء ممن استثنى الله عز وجل بقوله: (إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) قال: وروينا في ذلك خبرا مرفوعا، وذكر أيضا حديث أوس بن أوس مرفوعا «أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون بليت، فقال «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه، وذكر البيهقي له شواهد، ثم ذكر حديث «إن لله ملائكة سيّاحين يبلغون عن أمتي السلام» وغيره.
وروى ابن ماجه بإسناد جيد- كما قال المنذري- عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحد يصليّ علي إلا عرضت عليّ صلاته حين يفرغ منها» قال: قلت: وبعد الموت؟ قال «وبعد الموت، إن الله حرم عليّ الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» فنبي الله صلى الله عليه وسلم حي يرزق، هذا لفظ ابن ماجه، قال السبكي: وفي إسناده زيد بن أيمن عن عبادة بن نسئ، إلا أنه بتقوى باعتضاده بغيره.
وروى البزار برجال الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن لله ملائكة سيّاحين يبلغونّي عن أمتي» قال: وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم» .
وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي في أجوبة مسائل الجاجرميين: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم حي بعد وفاته، يسرّ بطاعات أمته، وإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يبلون، وسيأتي في الفصل الثالث قول ابن حبيب:
فإنه صلى الله عليه وسلم يسمع ويعلم وقوفك بين يديه.
وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد ما قبضوا ردّت إليهم أرواحهم؛ فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة المعراج جماعة منهم، قال: وقد أفردنا لإثبات حياتهم كتابا.
قلت: ويؤيد ذلك حديث «إن عيسى ابن مريم عليه السلام مار بالمدينة حاجا أو معتمرا، وإن سلم عليّ لأردّنّ عليه» .(4/180)
فإن قيل: قوله في الحديث المصدر به هذا الفصل «إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه» دال على عدم استمرار الحياة.
فالجواب من وجوه: الأول: أن البيهقي استدل به على حياة الأنبياء، قال: وإنما أراد والله أعلم إلا وقد رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه، الثاني: أن السبكي قال: يحتمل:
أن يكون ردّا معنويا، وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة والملأ الأعلى عن هذا العالم؛ فإذا سلم عليه أقبلت روحه على هذا العالم لتدارك السلام وترد على المسلّم، يعني أن رد روحه الشريفة التفات روحاني، وتنزّل إلى دوائر البشرية من الاستغراق في الحضرة العلية. الثالث: قال بعضهم: هو خطاب على مقدار فهم المخاطبين في الخارج من الدنيا أنه لا بد من عود روحه حتى يسمع ويجيب، فكأنه قال: أنا أجيب ذلك تمام الإجابة، وأسمعه تمام السماع، مع دلالته على رد الروح عند سلام أول مسلّم، وقبضها بعد لم يرد، ولا قائل بتكرر ذلك، إذ يفضي ذلك إلى توالي موتات لا تحصر، مع أننا نعتقد ثبوت الإدراكات كالعلم والسماع لسائر الموتى، فضلا عن الأنبياء، ويقطع بعود الحياة لكل ميت في قبره، كما ثبت في السنة، ولم يثبت أنه يموت بعد ذلك موتة ثانية، بل ثبت نعيم القبر وعذابه، وإدراك ذلك من الأعراض المشروطة بالحياة، لكن يكفي فيه حياة جزء يقع به الإدراك، فلا يتوقف على البنية كما زعم المعتزلة.
وأما أدلّة حياة الأنبياء فمقتضاها حياة الأبدان كحالة الدنيا، مع الاستغناء عن الغذاء، ومع قوة النفوذ في العالم، وقد أوضحنا المسألة في كتابنا المسمى «بالوفا، لما يجب لحضرة المصطفى» صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الملك المرجاني في أخبار المدينة له: قال صاحب الدر المنظم: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما مات ترك في أمته رحمة لهم، روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما من نبي دفن إلا وقد رفع بعد ثلاث غيري، فإني سألت الله عز وجل أن أكون بينكم إلى يوم القيامة، اه وقال الحافظ ابن حجر: إن حديث «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» ذكره الغزالي لا أصل له، اه.
وروى عبد الرزاق أن سعيد بن المسيب رأى قوما يسلمون على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين، ثم روى عبد الرزاق إليّ حديث «مررت بموسى ليلة أسرى بي وهو قائم يصلي في قبره» كأنه أراد ردّ ما روي عن ابن المسيب، وهو رد صحيح، ولو صح قول ابن المسيب لم يقدح في مشروعية زيارة القبر؛ لشرفه بنسبته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلاقته به، وابن المسيب لم ينكر(4/181)
التسليم، وإنما أفاد تلك الفائدة، مع أنا قد قطعنا بوضع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبره الشريف، والأصل استمراره؛ فيستمر على ذلك حتى يقوم قاطع على خلافه، مع أنه جاء عن غير ابن المسيب ما يقتضي الاستمرار، فعن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه لما حصر أشار بعض الصحابة عليه أن يلحق بالشام، فقال: لن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيها، وقصة سعيد بن المسيب في سماعه الأذان والإقامة من القبر الشريف أيام الحرة مشهورة.
وقال يحيى: حدثنا هرون بن عبد الملك ابن الماجشون أن خالد بن الوليد بن الحارث بن الحكم بن العاص وهو ابن مطيرة قام على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة فقال: لقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو يعلم أنه خائن، ولكن شفعت له ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها، وداود بن قيس في الروضة، فقام فقال: أس، أي بسكته، قال: فمزق الناس قميصا كان عليه شقائق حتى وتروه، وأجلسوه حذرا عليه منه، وقال: رأيت كفّا خرجت من القبر قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يقول: كذبت يا عدوّ الله، كذبت يا كافر، مرارا.
وممن سافر إلى زيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الشام إلى قبره عليه السلام بالمدينة بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كما رواه ابن عساكر بسند جيد عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قال: لما رحل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من فتح بيت المقدس فصار إلى جابية، سأله بلال أن يقره بالشام، ففعل، وذكر قصة في نزوله بداريا، قال: ثم إن بلالا رأى في منامه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزينا وجلا خائفا، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال، نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد، ففعل، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال «الله أكبر الله أكبر» ارتجّت المدينة، فلما أن قال:
«أشهد أن لا إله إلا الله» ازدادت رجتها، فلما أن قال «أشهد أن محمدا رسول الله» خرجت العواتق من خدورهن، وقالوا: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما رؤي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك اليوم، كذا ذكر ابن عساكر فيما نقل السبكي، فقال الحافظ عبد الغني وغيره في ترجمة(4/182)
بلال: ولم يؤذن بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما روي إلا مرة واحدة في قدومه المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد طلب إليه الصحابة ذلك، فأذن ولم يتم الأذان، وقيل: إنه أذن لأبي بكر رضي الله تعالى عنه في خلافته، قال السبكي:
ليس اعتمادنا يعني في الأخذ بذلك في السفر للزيارة على رؤيا المنام فقط، بل على فعل بلال، سيما في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، والصحابة متوافرون ولا تخفى عنهم هذه القصة، ورؤيا بلال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مؤكدة لذلك.
وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يبرد البريد من الشام يقول: سلم لي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك في زمن صدر التابعين.
وممن ذكره عنه الإمام أبو بكر بن عمرو بن عاصم النبيل، ووفاته في المائة الثالثة، قال في مناسكه له «ألتزم له الثبوت» وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم السلام ثم يرجع، انتهى.
وفي فتوح الشام أن عمر رضي الله تعالى عنه لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح بإسلامه قال له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر المدينة كان أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.
وفي الموطأ رواية يحيى بن يحيى أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقف على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وعند ابن القاسم والقعنبي: ويدعو لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
وعن ابن عون قال: سأل رجل نافعا: هل كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسلم على القبر؟ قال: نعم، لقد رأيته مائة مرة أو أكثر من مائة، كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي.
وفي مسند أبي حنيفة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: من السنة أن تأتي قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل القبلة، وتجعل ظهرك إلى القبلة، وتستقبل القبر(4/183)
بوجهك، ثم تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، أخرجه الحافظ طلحة بن محمد في مسنده عن صالح بن أحمد عن عثمان بن سعيد عن أبي عبد الرحمن المقرئ عن أبي حنيفة عن نافع عن ابن عمر.
قلت: وقد تقرر أن قول الصحابي «من السنة كذا» محمول على سنته صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فله حكم المرفوع.
وروى أحمد بسند حسن كما رأيته بخط الحافظ أبي الفتح المراغي المدني قال:
حدثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدثنا كثير بن زيد عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوما، فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فأخذ مروان برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فقال: نعم إني لم آت الحجر، إنما جئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله، قال الهيتمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه كثير بن زيد، وثقة جماعة وضعفه النسائي وغيره.
قلت: هو كما قال في التقريب- صدوق يخطئ، وسيأتي في الفصل بعده أن يحيى رواه من طريقه، وأن السبكي اعتمد توثيقه.
وذكر المؤرّخون والمحدّثون منهم ابن عبد البر وأحمد بن يحيى البلاذري وابن عبد ربه أن زياد بن أبيه أراد الحج، فأتاه أبو بكرة وهو لا يكلمه، فأخذ ابنه فأجلسه في حجره ليخاطبه ويسمع زيادا، فقال: إن أباك فعل وفعل، وإنه يريد الحج، وأم حبيبة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هناك، فإن أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن هي حجبته فأعظم بها حجّة عليه، فقال زياد: ما تدع النصيحة لأخيك، وترك الحج تلك السنة فيما قاله البلاذري.
وحكى ابن عبد البر ثلاثة أقوال: أحدها أنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة.
والثاني أنه دخل المدينة وأراد الدخول على أم حبيبة رضي الله تعالى عنها فذكر قول أبي بكرة فانصرف. والثالث أن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها حجبته.
قال السبكي: والقصة على كل تقدير تشهد لأن زيارة الحاج كانت معهودة من ذلك الوقت، وإلا فكان زياد يمكنه الحج من غير طريق المدينة، بل هي أقرب إليه؛ لأنه كان بالعراق، ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمرا لا يترك.
وتقدم في سابع فصول الباب الثاني عند ذكر الخاصة الثمانين اختلاف السلف في أن الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة، وأن ممن اختار البداءة بالمدينة(4/184)