الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد ولد آدم محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمّا بعد.
فهذا كتاب في تاريخ المدينة المنوّرة مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو كتاب اختصره مؤلّفه من كتاب آخر له بعنوان «اقتفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلّى الله عليه وسلّم» .
اختصره مع توسّط غير مفرط كما يقول في مقدمة الكتاب.
وقد رتّبه على ثمانية أبواب مفصّلة في المقدمة.
وإذ نعيد- في دار الكتب العلمية- نشر هذا الكتاب، نشير إلى أنّنا لم نثقل حواشيه إلا بما دعت الضرورة إليه، كضبط الغريب وشرحه، وتخريج الآيات الكريمة، وبعض التعاليق الموجزة، ووضع بعض العناوين الفرعية.
راجين من الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملنا هذا في سجلّ حسناتنا، وأن ينفع به القرّاء الكرام، إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله أولا وآخرا.(1/3)
ترجمة المصنّف «1»
هو الإمام الحجّة نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي السمهودي. مؤرخ المدينة المنوّرة ومفتيها.
ولد في سمهود (بصعيد مصر) سنة 844 هـ (1440 م) ونشأ في القاهرة، واستوطن المدينة سنة 873 هـ.
من مؤلفاته:
وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
خلاصة الوفاء: اختصر به الأول.
جواهر العقدين: في فضل العلم والنسب.
الفتاوى: وهي مجموع فتاواه.
الغماز على اللماز: رسالة في الحديث.
درّ السموط: رسالة في شروط الوضوء.
الأنوار السنية في أجوبة الأسئلة اليمنية.
العقد الفريد في أحكام التقليد.
وغيرها.
توفي السمهودي في المدينة المنورة سنة 911 هـ (1506 م) .
__________
(1) انظر الأعلام للزركلي 4/ 307.(1/5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
خطبة المؤلف
أما بعد: حمد الله على آلائه «1» ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأصفيائه؛ فقد سألني من طاعته غنم، ومخالفته غرم، أن أختصر تأليفي المسمى ب «اقتفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» - صلّى الله عليه وسلّم! وزاده شرفا وفضلا لديه! - اختصارا مع توسط غير مفرط، هذا مع كونه بعد لم يقدّر إتمامه بتكامل أقسامه؛ لسلوكي فيه طريقة الاستيعاب، وجمع ما افترق من معاني تلك الأبواب، وتلخيص مقاصد جميع تواريخ المدينة التي وقفت عليها، وإضافة ما اقتضى الحال أن يضاف إليها، مع عروض الموانع، وترادف الشواغل والقواطع، فأجبته إلى سؤاله؛ لما رأيت من شغفه «2» بذلك وإقباله، مع ما رأيت في ذلك من الإتحاف بأمور لا توجد في غيره من المختصرات بل ولا المبسوطات، سيما فيما يتعلق بأخبار الحجرة الشريفة، ومعالمها المنيفة، فإني قد استفدته عيانا، وعلمت أخبارها إيقانا، بسبب ما حدث في زماننا من العمارة التي سنشير إليها، ونقف في محلها عليها؛ لاشتمالها على تجديد ما كاد أن يهي «3» في الحجرة الشريفة من الأركان، وإحكام ما أحاط بها من البنيان. وتشرفت بالخدمة في إعادة بنيانها، وتجنبت شهود نقض أركانها، وحظيت بالوقوف على عرصتها، وتمتعت بانتشاق «4» تربتها، ونعمت العين بالاكتحال بأرضها الشريفة، ومحال الأجساد المنيفة، فامتلأ القلب حياء ومهابة، واكتسى من ثياب الذال أثوابه، هذا وقد جبلت القلوب «5» على الشغف بأخبار هذا المحل وأحواله، كما هو دأب كل محب مغرم واله «6» ، ولله درّ القائل:
__________
(1) الآلاء: جمع الألى أي النعم.
(2) شغف به: أحبه وأولع به» .
(3) يهي: يسقط.
(4) انتشق تربتها: شم تربتها.
(5) جبل الله الخلق: خلقهم وطبعهم. وفي الأثر: «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها» .
(6) الواله: الذي اشتد حنينه حتى ذهب عقله.(1/7)
أملياني حديث من سكن الجز ... ع ولا تكتباه إلا بدمعي
فاتني أن أرى الدّيار بطرفي ... فلعلّي أرى الديار بسمعي
ولعمري إن الاعتناء بذاك وضبطه وإفادته من مهمّات الدين، وإن النظر فيه مما يزيد في الإيمان واليقين؛ لما فيه من معرفة معاهد دار الإيمان، ونشر أعلامها المرغمة للشيطان، وتذكر آياتها الواضحة التبيان، والمرجو من الله تعالى أن يكون كتابنا هذا تحفة لمحبّي دار الأبرار، ومن سكن بها من الأخيار، ووفد عليها من الوفّاد، وقد بذلت الجهد في تهذيبه وتقريبه، رجاء دعوة تمحو الأوزار «1» ، وتقيل العثار، ونظرة قبول من المصطفى المختار، صلى الله عليه وسلّم وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار!
وسميته «وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» صلى الله عليه وسلم، وشرف وعظم!
ورتّبته على أبواب:
أبواب الكتاب
الباب الأول: في أسماء هذه البلدة الشريفة.
الباب الثاني: في فضائلها، وبدء شأنها، وما يؤول إليه أمرها، وما يتعلق بذلك، وفيه ستة عشر فصلا: الأول: في تفضيلها على غيرها من البلاد، الثاني: في الحث على الإقامة بها، والصبر على لأوائها «2» وشدتها، وكونها تنفي الخبث والذنوب، ووعيد من أرادها وأهلها بسوء أو أحدث بها حدثا أو آوى محدثا، الثالث: في الحديث على حفظ أهلها وإكرامهم، والتحريض على الموت بها، واتخاذ الأصل، الرابع: في بعض دعائه صلّى الله عليه وسلّم لها ولأهلها، وما كان بها من الوباء، ودعائه بنقله، الخامس: في عصمتها من الدجال والطاعون، السادس: في الاستشفاء بترابها وتمرها، السابع: في سرد خصائصها، الثامن:
في صحيح ما ورد في تحريمها، التاسع: في بيان عير وثور اللذين وقع تحديد الحرم بهما، العاشر: في أحاديث أخر تقتضي زيادة الحرم على ذلك التحديد وأنه مقدر ببريد، الحادي عشر: في بيان ما في هذه الأحاديث من الألفاظ المتعلقة بالتحديد، ومن ذهب إلى مقتضاها، الثاني عشر: في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم، الثالث عشر: في أحكام هذا الحرم الكريم، الرابع عشر: في بدء شأنها، وما يؤول إليه أمرها، الخامس عشر: فيما ذكر من وقوع ما ورد من خروج أهلها وتركهم لها، السادس عشر:
__________
(1) الأوزار: جمع وزر: الذنب. والحمل الثقيل.
(2) اللأواء: ضيق المعيشة. وشدة المرض.(1/8)
في ظهور نار الحجاز التي أنذر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم فظهرت من أرضها، وانطفائها عند وصولها إلى حرمها.
الباب الثالث: في أخبار سكانها في سالف الزمان، ومقدمه صلّى الله عليه وسلّم إليها، وما كان من أمره بها في سني الهجرة، وفيه اثنا عشر فصلا. الأول: في سكانها بعد الطوفان، وما ذكر في سبب سكنى اليهود بها، وبيان منازلهم، الثاني: في سبب سكنى الأنصار بها، الثالث:
في نسبهم، الرابع: في ظهورهم على اليهود، وما اتفق لهم مع تبّع، الخامس: في منازلهم بعد إذلال اليهود، وشيء من آطامهم «1» وحروبهم، السادس: في ما كان بينهم من حرب بغاث، السابع: في مبدأ إكرام الله لهم بهذا النبي الكريم، وذكر العقبة الصغرى، الثامن: في العقبة الكبرى وما أفضت إليه «2» ، التاسع: في مبدأ هجرته صلّى الله عليه وسلم، العاشر: في دخوله صلّى الله عليه وسلّم أرض المدينة وتأسيس مسجد قباء، الحادي عشر: في قدومه باطن المدينة المنيفة، وسكناه بدار أبي أيوب الأنصاري، وخبر هذه الدار، ومؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، الثاني عشر: في ما كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم في سنين الهجرة.
الباب الرابع: فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم، والحجرات المنيفات، وما كان مطيفا بها من الدور والبلاط، وسوق المدينة، ومنازل المهاجرين، واتخاذ السور، وفيه سبعة وثلاثون فصلا: الأول: في أخذه صلّى الله عليه وسلّم لموضع مسجده الشريف، وكيفية بنائه، الثاني: في ذرعه وحدوده التي يتميز بها عن سائر مسجده اليوم، الثالث: في مقامه الذي كان يقوم به قبل تحويل القبلة وبعده، وما جاء في تحويلها، الرابع: في خبر الجذع، واتخاذ المنبر، وما اتفق فيه، الخامس: في فضل المسجد الشريف، السادس:
في فضل المنبر المنيف والروضة الشريفة، السابع: في الأساطين «3» المنيفة، الثامن: في الصّفّة وأهلها، وتعليق الأقناء «4» لهم بالمسجد، التاسع: في حجره صلّى الله عليه وسلم، وبيان إحاطتها بمسجده إلا من جهة المغرب، العاشر: في حجرة ابنته فاطمة رضي الله عنها، الحادي عشر: في الأمر بسد الأبواب، وبيان ما استثنى من ذلك، الثاني عشر: في زيادة عمر رضي الله عنه في المسجد، الثالث عشر: في البطيحاء التي بناها بناحيته، ومنعه من إنشاد الشعر ورفع الصوت فيه، الرابع عشر: في زيادة عثمان رضي الله عنه،
__________
(1) الآطام جمع الأطم: الحصن.
(2) أفضت إليه: النتائج التي ترتبت عليه.
(3) الأساطين مفردها الأسطوانة: العمود. والسارية.
(4) الأقناء جمع قنو: العذق بما فيه من الرطب.(1/9)
الخامس عشر: في المقصودة التي اتخذها به، السادس عشر: في زيادة الوليد على يد عمر بن عبد العزيز، السابع عشر: فيما اتخذه عمر فيها من المحراب والشرفات والمنارات والحرس، ومنعهم من الصلاة على الجنائز فيه، الثامن عشر: في زيادة المهدي، التاسع عشر: فيما كانت عليه الحجرة المنيفة الحاوية للقبور الشريفة في مبدأ الأمر، العشرون:
في عمارتها بعد ذلك، والحائز الذي أدير عليها، الحادي والعشرون: فيما روي في صفة القبور الشريفة بها، وأنه بقي هناك موضع قبر لعيسى عليه الصلاة والسلام، وتنزل الملائكة حافين بالقبر الشريف، وتعظيمه، والاستسقاء به، الثاني والعشرون: فيما ذكر من صفتها وصفة الحائز الدائر عليها، وما شاهدناه مما يخالف ذلك، الثالث والعشرون: في عمارة اتفقت بها بعدما تقدم، على ما نقله بعضهم، وما نقل من الدخول إليها وتأزيرها بالرخام، الرابع والعشرون: في الصندوق الذي في جهة الرأس الكريم والمسمار الفضة المواجه للوجه الشريف، ومقام جبريل عليه السلام، وكسوة الحجرة وتحليتها، الخامس والعشرون: في قناديلها ومعاليقها، السادس والعشرون: في الحريق الأول القديم المستولي على تلك الزخارف المحدثة بها وبالمسجد وسقفها وما أعيد من ذلك، السابع والعشرون: في اتخاذ القبة الزرقاء تمييزا للحجرة الشريفة والمقصورة الدائرة عليها، الثامن والعشرون: في عمارتها المتجدّدة في زماننا، على وجه لم يخطر قط بأذهاننا، وما حصل من إزالة هدم الحريق من ذلك والمحل الشريف، ومشاهد وضعه المنيف، وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة، التاسع والعشرون: في الحريق الحادث في زماننا بعد العمارة السابقة، وما ترتب عليه ألحقته هنا مع إلحاق ما تقدمت الإشارة إليه في الفصول؛ لحدوثه بعد الفراغ من مسوّدة كتابنا هذا، وفي آخره خاتمة فيما نقل من عمل نور الدين الشهيد لخندق مملوء من الرصاص حول الحجرة، الثلاثون: في تحصيب المسجد «1» ، وأمر البزاق فيه، وتخليقه «2» ، وإجماره، وشيء من أحكامه، الحادي والثلاثون: فيما احتوى عليه من الأروقة والأساطين والبلوعات والسقايات والحواصل، وغير ذلك، الثاني والثلاثون: في أبوابه وخوخاته، وما يميّزها من الدور المحاذية لها، الثالث والثلاثون: في خوخة آل عمر رضي الله عنه، الرابع والثلاثون: فيما كان مطيفا به من الدور، الخامس والثلاثون: في البلاط وما حوله من منازل المهاجرين، السادس والثلاثون: في سوق المدينة، السابع والثلاثون: في منازل القبائل من المهاجرين، وما حدث من اتخاذ السور.
__________
(1) حصّب المسجد: فرشه بصغار الحصى.
(2) الخلاق: ضرب من الطيب، أعظم أجزائه الزعفران. إجماره: تبخيره بالمجمر.(1/10)
الباب الخامس: في مصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأعياد، وغير ذلك من مساجد المدينة التي صلى فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم أو جلس مما علمت عينه أو جهته، وفضل مقابرها، ومن سمي ممن دفن بها، وفضل أحد والشهداء به، وفيه سبعة فصول: الأول: في مصلّى الأعياد، الثاني:
في مسجد قباء، وخبر مسجد الضرار، الثالث: في بقية المساجد المعلومة العين في زماننا، الرابع: فيما علمت جهته من ذلك، ولم يعلم عينه، الخامس: في فضل مقابرها، السادس: في تعيين بعض من دفن بالبقيع من الصحابة وأهل البيت رضوان الله عليهم، والمشاهد المعروفة بها، السابع: في فضل أحد والشهداء به.
الباب السادس: في آبارها المباركات، والعين والغراس والصدقات، التي هي للنبي صلّى الله عليه وسلّم منسوبات، وما يعزى إليه «1» من المساجد التي صلّى فيها في الأسفار والغزوات، وفيه خمسة فصول: الأول: في الآبار المباركات، وفيه تتمة في العين المنسوبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم والعين الموجودة في زماننا، الثاني: في صدقاته صلّى الله عليه وسلّم وما غرسه بيده الشريفة، الثالث: فيما ينسب إليه من المساجد التي بين مكة والمدينة بالطريق التي كان يسلكها صلّى الله عليه وسلّم الرابع: في بقية المساجد التي بينهما بطريق ركب الحاج في زماننا، وطريق المشيان، وما قرب من ذلك، الخامس: في بقية المساجد المتعلقة بغزواته وعمره صلّى الله عليه وسلّم.
الباب السابع: في أوديتها وأحمائها «2» وبقاعها وجبالها وأعمالها ومضافاتها، ومشهور ما في ذلك من المياه والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك، وفيه ثمانية فصول: الأول: في فضل وادي العقيق وعرصته وحدوده، الثاني: فيما جاء في إقطاعه وابتناء القصور به وطريق أخبارها، الثالث: في العرصة وقصورها، وشيء مما قيل فيها وفي العقيق من الشعر، الرابع: في جماواته، وأرض الشجرة، وثنية الشريد، وغيرها من جهاته، وفيه خاتمة في سرد ما يدفع فيه من الأودية وما به من الغدران، الخامس: في بقية أودية المدينة، السادس: فيما سمي من الأحماء ومن حماها وشرح حال حمى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنقيع، السابع: في شرح بقية الأحماء، وأخبارها، الثامن: في بقاع المدينة وأعراضها وأعمالها ومضافاتها وأنديتها وجبالها وتلاعها «3» ، ومشهور ما في ذلك من الآبار والمياه والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك وبالمساجد والآطام والغزوات، وشرح حال ما يتعلق بجهات المدينة وأعمالها من ذلك، على ترتيب حروف الهجاء.
__________
(1) يعزى إليه: يسند إليه.
(2) الأحماء: مواضع فيها كلأ يحمى من الناس أن يرعى.
(3) التلاع: ما ارتفع من الأرض. ومسيل الماء من أعلى إلى أسفل.(1/11)
الباب الثامن: في زيارته صلّى الله عليه وسلّم، وفيه أربعة فصول: الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة نصّا، الثاني: في بقية أدلتها، وبيان تأكد مشروعيتها، وقربها من درجة الوجوب، حتى أطلقه بعضهم عليها، وبيان حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في قبره، وشدّ الرحال إليه، وصحة نذر زيارته، والاستئجار للسلام عليه، الثالث: في توسّل الزائر، وتشفّعه به صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه تعالى، واستقباله له صلّى الله عليه وسلّم في سلامه وتوسّله ودعائه، الرابع: في آداب الزيارة والمجاورة، والتبرك بتلك المساجد والآثار، وهذا الباب وإن كان من حقه التقديم، لكنه لما كان كنتيجة الكتاب، ومقدماته ما تقدمه من الأبواب، ختمت به أقسامه؛ ليكون المسك ختامه، وسر الوجود تمامه، وتفاؤلا بأن يفتح لي به ثمانية أبواب الجنة، ويعظم لي بسببه سوابغ المنة «1» ، وبالله لا سواه أعتصم، وأسأله العصمة مما يصم «2» ، فهو حسبي ونعم الوكيل.
__________
(1) المنة: الإحسان والإنعام.
(2) يصمه وصما: يعيبه.(1/12)
الباب الأول في أسماء هذه البلدة الشريفة
أعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ولم أجد أكثر من أسماء هذه البلدة الشريفة، وقد استقصيتها بحسب القدرة حتى إني زدت على شيخ مشايخنا المجد الشيرازي اللغوي- وهو أعظم الناس في هذا الباب- نحو ثلاثين اسما، فرقمت على ذلك صورة ليتميزوها، وأنا أوردها مرتّبة على حروف المعجم.
أثرب
الأول: أثرب- كمسجد، بفتح الهمزة وسكون المثلاثة وكسر الراء وباء موحدة- لغة في «يثرب» الآتي، وأحد الأسماء كألملم ويلملم، قيل: سميت بذلك لأنه اسم من سكنها عند تفرّق ذرية نوح عليه السلام في البلاد، وهل هو اسم للناحية التي منها مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو للمدينة نفسها، أو لموضع مخصوص من أرضها؟ أقوال، الأول لأبي عبيدة، والثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومشى عليه الزمخشري، والثالث هو المعني بقول محمد بن الحسن أحد أصحاب مالك ويعرف بابن زبالة: وكانت يثرب أم قرى المدينة، وهي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين المال الذي يقال له البرني إلى زبالة، وقد نقل ذلك الجمال المطري عنه، وزاد في النقل أنه كان بها ثلاثمائة صائغ من اليهود، وابن زبالة إنما ذكر أن ذلك كان بزهوة، وقد غاير بينها وبين يثرب، وكأن الجمال فهم اتحادهما، وقد قال عقب نقله لذلك عنه: وهو يعني يثرب معروفة اليوم بهذا الاسم، وفيها نخيل كثيرة ملك لأهل المدينة وأوقاف للفقراء وغيرهم، وهي غربي مشهد سيدنا حمزة، وشرقي الموضع المعروف بالبركة مصرف عين الأزرق، ينزلها الحاج الشامي في وروده وصدوره، وتسميها الحجاج عيون حمزة، وهي إلى اليوم معروفة بهذا الاسم، أعني يثرب، وربما قالوا فيها «أثارب» بصيغة الجمع، وبه عبر البرهان ابن فرحون في مناسكه، فلك أن تعده اسما آخر، وهذا الموضع يثرب قال المطري: كان به منازل بني حارثة بطن ضخم من الأوس، قال: وفيهم نزل قوله تعالى في يوم الأحزاب: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب: 13] ورجح به القول الثالث، وذلك أن قريشا(1/13)
ومن معهم نزلوا يوم الأحزاب ويوم أحد أيضا على ما ذكره المطري برومة وما والاها بالقرب من منازل بني حارثة من الأوس ومنازل بني سلمة من الخزرج، وكان الفريقان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مركز الحرب، ولذلك خافوا على ذراريهم وديارهم العدو يوم أحد؛ فنزل فيها: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمران: 122] قال عقلاؤهم: ما كرهنا نزولها لتولي الله إيانا، ودفع الله عنهم ببركة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق نياتهم، وقيل: إن القائل لبني حارثة: «يا أهل يثرب لا مقام لكم» هو أوس بن قيظي ومن معه، وقيل: غير ذلك.
قلت: ويرجح القول الثالث أيضا قول الحافظ عمر بن شبّة النميري «1» : قال أبو غسان: وكان بالمدينة في الجاهلية سوق بزبالة في الناحية التي تدعى يثرب، انتهى. ولا شك في إطلاق يثرب على المدينة نفسها، كما ثبت في الصحيح، وشواهده أشهر من أن تذكر، وسيأتي في الفصل الرابع عشر من الباب الثاني ما يقتضي أن الله تعالى سماها قبل أن تعمر وتسكن، فإما أن يكون موضوعا لها، أو هو من باب إطلاق اسم البعض على الكل، أو من باب عكسه على الخلاف المتقدم.
وروى ابن زبالة وابن شبة نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن تسمية المدينة يثرب، وفي تاريخ البخاري حديث: من قال يثرب مرة فليقل المدينة عشر مرات» ، وروى أحمد وأبو يعلى حديثا:
«من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، وهي طابة» ورجاله ثقات، وفي رواية «فليستغفر الله ثلاثا» ولهذا قال عيسى بن دينار: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة، وكره بعض العلماء تسميتها بذلك، وما وقع في القرآن من تسميتها به إنما هو حكاية عن قول المنافقين، ووجه كراهة ذلك إما لأنه مأخوذ من الثّرب- بالتحريك- وهو الفساد، أو لكراهة التثريب وهو المؤاخذة بالذنب، أو لتسميتها باسم كافر، وقد ينازع في الكراهة بما في حديث الهجرة في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فذهب وهلي «2» إلى اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» وحديث مسلم: «إنه وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب» وكذا جاء في غيرهما من الأحاديث، وقد يجاب بأن ذلك كان قبل النبي.
أرض الله
الثاني: «أرض الله» قال الله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء:
__________
(1) عمر بن شبة النميري له ترجمة في تهذيب التهذيب (7/ 460) وفي خلاصة الخزرجي (283 بولاق) وثّقه الدارقطني، مات سنة 262 من الهجرة.
(2) ذهب وهلي: ذهب وهمي.(1/14)
97] ذكر مقاتل والثعلبي وغيرهما أن المراد به المدينة، وفي هذه الإضافة من مزيد التعظيم ما لا يخفى.
الهجرة
الثالث: «أرض الهجرة» كما في حديث «المدينة قبّة الإسلام» .
أكالة البلدان
الرابع: «أكالة البلدان» لتسلطها على جميع الأمصار، وارتفاعها على سائر بلدان الأقطار، وافتتاحها منها على أيدي أهلها فغنموها وأكلوها.
أكالة القرى
الخامس: «أكالة القرى» لحديث الصحيحين «أمرت بقرية تأكل القرى» وقد استدل به مثبتو الاسم قبله، وهو أصرح في هذا؛ للفرق بين البلدة والقرية.
الإيمان
السادس: «الإيمان» قال الله تعالى مثنيا على الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر: 9] وأسند ابن زبالة عن عثمان بن عبد الرحمن وعبد الله بن جعفر قالا: سمّى الله المدينة الدار والإيمان، وأسند ابن شبة عن الثاني فقط. وقال البيضاوي في تفسيره، قيل سمى الله المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره.
وروى أحمد الدينوري في كتابه المجالسة في قصة طويلة عن أنس بن مالك «أن ملك الإيمان قال: أنا أسكن المدينة، فقال ملك الحياء: وأنا معك» فأجمعت الأمة على أن الإيمان والحياء ببلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي في حديث «الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» «1» .
البارة والبرة
السابع: «البارة» ، الثامن «البرة» هما من قولك: امرأة بارة وبرة، أي: كثيرة البر، سميت بذلك لكثرة برها إلى أهلها خصوصا وإلى جميع العالم عموما؛ إذ هي منبع الأسرار وإشراق الأنوار، وبها العيشة الهنية، والبركات النبوية.
البحرة والبحيرة
التاسع: «البحرة» بفتح أوله وسكون المهملة. العاشر: «البحيرة» تصغير ما قبله.
__________
(1) أرز أرزا وأروزا: لجأ. ولاذ.(1/15)
الحادي عشر: «البحيرة» بفتح أوله- نقلت ثلاثتها عن منتخب كراع، والأولان عن معظم ياقوت، والاستبحار: السعة، ويقال: هذه بحرتنا، أي: أرضنا أو بلدتنا، سميت بذلك لكونها في متسع من الأرض، وفي الصحيح قول سعد في قصة ابن أبيّ «1» «ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه» رواه ابن شبة بلفظ «أهل هذه البحيرة» وقال عياض في المشارق: البحرة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويروى البحرة، والبحيرة: بضم الباء مصغرا وبفتحها على غير التصغير، وهي الرواية هنا، ويقال «البحر» أيضا بغير تاء ساكن الحاء، وأصله القرآن وكل قرية بحرة. انتهى.
الثاني عشر: «البلاط» بالفتح- نقل عن كتاب ليس لابن خالويه، وهو لغة الحجارة التي تفرش على الأرض، والأرض المفروش بها والمستوية الملساء، فكأنها سميت به لكثرته فيها، أو لاشتمالها على مواضع تعرف به كما سيأتي في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.
البلد
الثالث عشر: «البلد» قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1] قال الواسطي فيما نقله عن عياض: أي: يحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا وببركتك ميتا، يعني المدينة، وقيل: المراد مكة، ونقل عن ابن عباس، وبه استدل من ذكره في أسمائها، ورجّحه عياض لكون السورة مكية، والبلد لغة صدر القرى.
بيت الرسول
الرابع عشر: «بيت الرسول» صلّى الله عليه وسلّم قال تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال: 5] ، قال المفسرون: أي: من المدينة لأنها مهاجره ومسكنه فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه، أو المراد بيته بها.
ندد وتندر
الخامس عشر: «تندد» بالمثناة الفوقية والنون وإهمال الدالين.
السادس عشر: «تندر» براء بدل الدال الأخيرة مما قبله، وسيأتي دليلهما في يندد ويندر بالمثناة التحتية، وأن المجد صوّب حذف ما عدا يندر بالتحتية.
الجابرة
السابع عشر: «الجابرة» لعده في حديث «للمدينة عشرة أسماء» سميت به لأنها تجبر
__________
(1) هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول، أبوه أبيّ، وسلول أمه، وهو رأس المنافقين، وكان أهل المدينة قد أجمعوا قبل هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أن يجعلوه ملكا عليهم.(1/16)
الكسير، وتغني الفقير، وتجبر «1» على الإذعان لمطالعة بركاتها، وشهود آياتها: وجبرت البلاد على الإسلام.
جبار
الثامن عشر: «جبار» كحذام، رواه ابن شبة بدل الجابرة في الحديث المذكور.
الجبارة
التاسع عشر: «الجبارة» نقله صاحب كتاب أخبار النواحي مع الجابرة والمجبورة عن التوراة.
جزيرة العرب
العشرون: «جزيرة العرب» قال ابن زبالة: كان ابن شهاب يقول: جزيرة العرب المدينة، وسيأتي في حديث ابن عباس: «خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة، فالتفت إليها وقال: إن الله برّأ هذه الجزيرة من الشرك» ونقل الهروي عن مالك أن المراد من حديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» المدينة خاصة، والصحيح عن مالك كقولنا أن المراد الحجاز.
الجنة الحصينة
الحادي والعشرون: «الجنة الحصينة» بضم الجيم، وهي الوقاية؛ لما حكاه بعضهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أحد «أنا في جنة حصينة- يعني المدينة- دعوهم يدخلون نقاتلهم» وروى أحمد برجال الصحيح حديث: «رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة المدينة» وهذا هو المذكور في كتب السير.
الحبيبة
الثاني والعشرون: «الحبيبة» لحبه لها صلّى الله عليه وسلّم وقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» وسيأتي مزيد بيان لذلك في اسمها المحبوبة.
الحرم
الثالث والعشرون: «الحرم» بالفتح بمعنى الحرام؛ لتحريمها، وفي حديث مسلم «المدينة حرم» وفي رواية «إنها حرم آمن» .
حرم رسول الله
الرابع والعشرون: «حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لأنه الذي حرمها، وفي الحديث: «من
__________
(1) تجبر على الإذعان: تكره على الخضوع.(1/17)
أخاف أهل حرمي أخافه الله» ، وروى ابن زبالة حديث: «حرم إبراهيم مكة وحرمي المدينة» .
حسنة
الخامس والعشرون: «حسنة» بلفظ مقابل السيئة، قال تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [النحل: 41] قال المفسرون: مباءة حسنة»
، وهي المدينة، وقيل: حسنة اسم المدينة، وقد اشتملت على الحسن الحسي والمعنوي.
الخيرة
السادس والعشرون: «الخيّرة» بتشديد المثناة التحتية كالنيرة.
السابع والعشرون: «الخيرة» كالذي قبله إلا أن الياء مخففة، تقول: رجل خيّر وخير، وامرأة خيّرة وخيرة، بالتشديد والتخفيف، بمعنى، وهو الكثير الخير، وإذا أردت التفضيل قلت: فلان خير الناس، وفي الحديث: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» وسيأتي حديث «المدينة خير من مكة» .
الدار
الثامن والعشرون: «الدار» لقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر: 9] على ما سبق في الإيمان، سميت به لأمنها والاستقرار بها وجمعها البناء والعرصة.
دار الأبرار
التاسع والعشرون: «دار الأبرار» . الثلاثون «دار الأخيار» لأنها دار المصطفى المختار، والمهاجرين والأنصار، ولأنها تنفي شرارها ومن أقام بها منهم فليست في الحقيقة له بدار، وربما نقل منها بعد الدفن على ما جاء في بعض الأخبار.
دار الإيمان
الحادي والثلاثون: «دار الإيمان» كما في حديث «المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان» إذ منها ظهوره وانتشاره، وسيأتي في حديث «الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» .
دار السنة ونحوها
الثاني والثلاثون: «دار السنة» . الثالث والثلاثون: «دار السلامة» . الرابع والثلاثون:
«دار الفتح» . الخامس والثلاثون: «دار الهجرة» ؛ ففي صحيح البخاري قول عبد الرحمن لعمر رضي الله عنهما «حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة» وفي رواية الكشميهني
__________
(1) المباءة: المنزل. وتبوأ المكان: نزله وأقام به.(1/18)
«والسلامة» وقد فتحت منها مكة وسائر الأمصار، وكانت بها عصابة الأنصار، ومهاجرة النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرين الأبرار، ومنها انتشرت السنة في الأقطار.
ذات الحجر
السادس والثلاثون: «ذات الحجر» لاشتمالها عليها، قال أبو بكر رضي الله عنه مثنيا على الأنصار: ما وجدت لنا ولهذا الحيّ من الأنصار مثلا إلا ما قال طفيل الغنوي:
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الّذي يلقون منّا لملّت
هم خلطونا بالنّفوس وأولجوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلّت
ذات الحرار
السابع والثلاثون: «ذات الحرار» لكثرة الحرار بها، وفي قصة خنافر بن التوأم الحميري الكاهن عن رئيه من الجن وقد وصف له دين الإسلام، فقال له خنافر: من أين أبغى هذا الدين؟ قال: من ذات الأحرين، والنفر الميامين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال:
الحق بيثرب ذات النخل والحرة ذات النعل، قال الأصمعي: أحرون وحرار جمع حرة.
ذات النخل
الثامن والثلاثون: «ذات النخل» وهو وذات الحجر مما استعمله المتأخرون في أشعارهم، وقد نسجت على منوالهم حيث قلت في مطلع قصيدة:
أشجان قلبي بذات النّخل والحجر ... وأختها تلك ذات الحجر والحجر
تقسّم القلب بين البلدتين؛ فلا ... أنفك من لهب الأشواق في سعر
وفي أحاديث الهجرة «أريت دار هجرتي ذات نخل وحرة» «1» ، وقال عمران بن عامر الكاهن يصف البلاد لقومه: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل «2» ، فليلحق بالحرة ذات النخل. وروي كما سيأتي بيثرب ذات النخل
السلقة
التاسع والثلاثون: «السلقة» ذكره أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الإقشهري في أسمائها المنقولة عن التوراة، ولم نضبطه، وهو محتمل لفتح اللام وكسرها، والسّلق بالتحريك: القاع الصفصف «3» ، وسلقت البيض: أغليته بالنار، والمسلاق: الخطيب البليغ،
__________
(1) الحرّة: أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت (ج) حرار.
(2) المحل: انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلإ.
(3) الصفصف: المستوي من الأرض لا نبات فيه. والأرض المنبسطة بين الجبال.(1/19)
وربما قيل للمرأة السليطة: سلقة- بكسر اللام- فتسميتها بذلك لاتساعها وبعدها عن جبالها، أو للأوائها، أو لشدة حرها وما كان بها من الحمى الشديدة، أو لأن الله تعالى سلط أهلها على سائر البلاد فافتتحوها.
سيدة البلدان
الأربعون: «سيدة البلدان» لما أسنده الديلمي من الحلية لأبي نعيم عن ابن عمر مرفوعا «يا طيبة يا سيدة البلدان» .
الشافية
الحادي والأربعون: «الشافية» لحديث «ترابها شفاء من كل داء» وذكر الجذام والبرص، ولقد شاهدنا من استشفى بترابها من الجذام فنفعه الله به، والاستشفاء بتربة صعيب من الحمى مشهور، كما سيأتي، ولما صح في الاستشفاء بتمرها، وذكر ابن مسدي الاستشفاء من الحمى بكتابة أسمائها وتعليقها على المحموم، وسيأتي أنها تنفي الذنوب فتشفى من دائها.
طابة وطيبة
الثاني والأربعون: «طابة» بتخفيف الموحدة. الثالث والأربعون: «طيبة» بسكون المثناة التحتية.
الرابع والأربعون: «طيّبة» بتشديدها. الخامس والأربعون: «طائب» ككاتب، وهذه الأربعة مع اسمها المطيبة أخوات لفظا ومعنى، مختلفات صيغة ومبنى، وقد صح حديث «إن الله سمى المدينة طابة» وفي رواية «إن الله أمرني أن أسمي المدينة طابة» وروى ابن شبة وغيره: كانوا يسمون يثرب، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طيبة، وفي حديث «للمدينة عشرة أسماء هي المدينة وطيبة وطابة» ورواه صاحب النواحي بلفظ طابت بدل طيبة، وعن وهب بن منبه: والله إن اسمها في كتاب الله- يعني التوراة- طيبة وطابة، ونقل عن التوراة تسميتها بالمطيبة أيضا، وكذا بطابة والطيبة، وتسميتها بهذه الأسماء إما من الطيب بتشديد المثناة، وهو الطاهر؛ لطهارتها من أدناس الشرك، أو لموافقتها من قوله تعالى: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22] أو لحلول الطيب بها صلّى الله عليه وسلّم أو لكونها كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها، وإما من الطيب- بسكون المثناة- لطيب أمورها كلها، وطيب رائحتها، ووجود ريح الطيب بها، قال ابن بطّال: من سكنها يجد من ترتبها وحيطانها رائحة حسنة، وقال الإشبيلي: لتربة المدينة نفحة، ليس طيبها كما عهد من الطيب، بل هو عجب من الأعاجيب، وقال ياقوت:(1/20)
من خصائصها طيب ريحها، وللمطر فيها رائحة لا توجد في غيرها، وما أحسن قول أبي عبد الله العطار:
بطيب رسول الله طاب نسيمها ... فما المسك ما الكافور ما المندل الرّطب
ظباب
السادس والأربعون: «ظباب» ذكره ياقوت، ولم يضبطه، وهو إما بكسر المهملة أو بفتح المعجمة؛ فالأول بمعنى القطعة المستطيلة من الأرض، والثاني من ظبب وظبظب إذا حمّ؛ لأنها كانت لا يدخلها أحد إلا حمّ، قاله المجد.
العاصمة
السابع والأربعون: «العاصمة» لأنها عصمت المهاجرين ووقتهم أذى المشركين، ولما تقدم في «الجنة الحصينة» ويحتمل: أن يكون بمعنى المعصومة لعصمتها قديما بجيوش موسى وداود عليهما السلام المبعوث إلى من كان بها من الجبابرة، وحفظها حديثا نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلّم حتى صارت حرما آمنا، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، ومن أرادها بسوء أذابه الله.
العذراء
الثامن والأربعون: «العذراء» بإهمال أوله وإعجام ثانيه، منقول عن التوراة، سميت به لحفظها من وطء العدو القاهر في سالف الزمان، إلى أن تسلمها مالكها الحقيقي سيد الأنام، مع صعوبتها وامتناعها على الأعداء، ولذلك سميت البكر بالعذراء.
العرّاء
التاسع والأربعون: «العرّاء» بإهمال أوله وثانيه وتشديده، بمعنى الذي قبله، قال أئمة اللغة: العراء الجارية العذراء، كأنها شبهت بالناقة العراء التي لا سنام لها وصغر سنامها كصغر نهد العذراء أو عدمه؛ فيجوز أن يكون تسمية المدينة بذلك لعدم ارتفاع أبنيتها في السماء.
العروض
الخمسون: «العروض» كصبور، وقيل: هو اسم لها ولما حولها؛ لانخفاض مواضع منها ومسايل أودية فيها، وقال الخليل: العروض: طريق في عرض الجبل، وعرض الرجل إذا أتى المدينة؛ فإن المدينة سميت عروضا لأنها من بلاد نجد، ونجد كلها على خط مستقيم طولاني والمدينة معترضة عنها ناحية على أنها نجدية.(1/21)
الغرّاء
الحادي والخمسون: «الغرّاء» بالغين المعجمة- تأنيث الأغر، وهو ذو الغرة من الخيل:
أي: البياض في مقدم وجهه، والغرة أيضا: خيار كل شيء، وغرة الإنسان: وجهه، والأغر: الأبيض من كل شيء، والذي أخذت اللحية جميع وجهه إلا القليل، ومن الأيام الشديد الحر، والرجل الكريم، والغراء: نبت طيب الرائحة، والسيدة الكبيرة في قبيلتها؛ فسميت المدينة بذلك لشرف معالمها، ووضوح مكارمها، واشتهارها، وسطوع نورها، وبياض نورها، وطيب رائحتها، وكثرة نخلها، وسيادتها على القرى، وكرم أهلها، ورفعة محلها.
غلبة
الثاني والخمسون: «غلبة» محركة بمعنى الغلب؛ لظهورها واستيلائها على سائر البلاد، وهو اسم قديم جاهلي، قال ابن زبالة: حدثني داود بن مسكين الأنصاري عن مشيخته قالوا: كانت يثرب في الجاهلية تدعى غلبة، نزلت اليهود على العماليق فغلبتهم عليها، ونزلت الأوس والخزرج على اليهود فغلبوهم عليها، ونزل الأعاجم على المهاجرين فغلبوهم عليها، كذا في النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن زبالة، ونقله المجد عن الزبير بن بكار راوي كتاب ابن زبالة، وقال فيه بدل قوله ونزل الأعاجم: ونزل المهاجرون على الأوس والخزرج فغلبوهم عليها.
الفاضحة
الثالث والخمسون: «الفاضحة» بالفاء والضاد المعجمة والحاء المهملة- نقله بعضهم عن كراع، ومأخذها ما سيأتي في معنى كونها تنفي خبثها من أنها تميزه وتظهره فلا يبطن بها أحد عقيدة فاسدة أو يضمر أمرا إلا ظهر عليه، وافتضح به، بخلاف غيرها من البلاد، وقد شاهدنا ذلك كثيرا بها.
القاصمة
الرابع والخمسون: «القاصمة» بالقاف والصاد المهملة- نقل عن التوراة سميت به لقصمها كل جبار عناها «1» ، وكسر كل متمرد أتاها، ومن أرادها بسوء أذابه الله.
قبة الإسلام
الخامس والخمسون: «قبة الإسلام» لحديث «المدينة قبة الإسلام» .
قرية الأنصار
السادس والخمسون: «قرية الأنصار» قال ابن سيدة: القرية- بفتح القاف وكسرها-
__________
(1) عناها: أرادها. وقصدها بسوء.(1/22)
المصر الجامع، من قريت الماء في الحوض، إذا جمعته، وقال أبو هلال العسكري:
العرب تسمي كل مدينة صغرت أو كبرت قرية، قلت: وسيأتي في معنى «المدينة» ما يقتضي أنه يعتبر في مسماها زيادتها على القرية ونقصها على المصر، وقيل: يطلق عليه، والأنصار: واحدهم ناصر، سموا بذلك لنصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإيوائهم له وللمهاجرين، فمدحهم الله بقوله: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا [الأنفال: 72] فسماهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار، وكان يقال لهم قبل ذلك الأوس والخزرج، وفي الحديث عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس بن مالك: أرأيتم اسم الأنصار، كنتم تسمون به أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله. وسيأتي في حديث «إن الله قد طهر هذه القرية من الشرك» فلك أن تعده اسما آخر.
قرية رسول الله
السابع والخمسون: «قرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لما سيأتي في عصمتها من الدجال من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثم يسير حتى يأتي المدينة، ولا يأذن له فيها؛ فيقول: هذه قرية ذاك الرجل» يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قلب الإيمان
الثامن والخمسون: «قلب الإيمان» أورده ابن الجوزي في الوفاء في حديث «المدينة قبة الإسلام» .
المؤمنة
التاسع والخمسون: «المؤمنة» إما لتصديقها بالله حقيقة كذوي العقول؛ إذ لا بعد في خلق الله تعالى قوة في الجماد قابلة للتصديق والتكذيب، وقد سمع تسبيح الحصى في كفه صلّى الله عليه وسلّم أو مجازا لاتصاف أهلها بذلك، ولانتشار الإيمان منها، واشتمالها على أوصاف المؤمن من النفع والبركة وعدم الضرر والمسكنة، وإما لإدخالها أهلها في الأمان من الأعداء، وأمنهم من الدجال والطاعون، وروى ابن زبالة في حديث «والذي نفسي بيده إن ترتبها لمؤمنة» وروى «أنها مكتوبة في التوراة مؤمنة» .
المباركة
الستون: «المباركة» ؛ لأن الله تعالى بارك فيها بدعائه صلّى الله عليه وسلّم لحديث «اللهم اجعل(1/23)
بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» وغيره من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، وآثار تلك الدعوات من الأمور الظاهرات.
مبوأ الحلال والحرام
الحادي والستون: «مبوّأ الحلال والحرام» رواه الطبراني في حديث «المدينة قبة الإسلام» والتبوؤ: التمكن والاستقرار، سميت به لأنها محل تمكن هذين الحكمين واستقرارهما، وفي بعض النسخ «مثوى» بالمثلاثة الساكنة بدل الموحدة، والأول هو الذي رأيته بخط الحافظ أبي الفتح المراغي.
مبين الحلال والحرام
الثاني والستون: «مبين الحلال والحرام» رواه ابن الجوزي والسيد أبو العباس القرافي في حديث «المدينة قبة الإسلام» بدل الذي قبله، سميت به لأنها المحل الذي ابتدأ فيه ببيان الحلال والحرام.
المجبورة
الثالث والستون: «المجبورة» بالجيم- ذكره في حديث «للمدينة عشرة أسماء» ونقل عن الكتب المتقدمة، وسميت به لأن الله تعالى جبرها بسكنى نبيه وصفيه صلّى الله عليه وسلّم حيا وضمها لأعضائه الشريفة ميتا بعد نقل حمّاها، وتطييب مغناها، والحث على سكناها، وتنزل البركات بمدها وصاعها؛ فهي بهذا السر الشريف مسرورة، وبهذه المنح العظيمة محبورة، تسحب ذيل الفخار، على سائر الأقطار.
المحبه
الرابع والستون: «المحبة» بضم الميم وبالحاء المهملة وتشديد الموحدة- نقل عن الكتب المتقدمة.
المحبّبة
الخامس والستون: «المحببة» بزيادة موحدة على ما قبله.
المحبوبة
السادس والستون: «المحبوبة» نقل عن الكتب المتقدمة أيضا، وهذه ثلاثة مع ما تقدم من اسمها الحبيبة من مادة واحدة، سميت بذلك لما تقدم من حبه صلّى الله عليه وسلّم لها ودعائه بذلك، وجاء ما يقتضي أنها أحب البقاع إلى الله تعالى، ويؤيده أنه تعالى اختارها لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم حيّا وميتا؛ فهي محبوبة إلى الله تعالى ورسوله وسائر المؤمنين، ولهذا ترتاح النفوس لذكرها، وتهيم القلوب لشهود سرها.(1/24)
المحبورة
السابع والستون: «المحبورة» من الحبر، وهو السرور، وكذلك الحبر والحبور والحبرة، لما تقدم في الحبورة، أو هو من الحبرة بمعنى النعمة، والحبرة أيضا المبالغة فيما وصف بجميل، والمحبار من الأرض: السريعة النبات الكثيرة الخيرات.
المحرمة
الثامن والستون: «المحرمة» لما سيأتي في تحريمها.
المحفوفة
التاسع والستون: «المحفوفة» لأنها محفوفة بالبركات، وملائكة السموات، محفوظة من المخاوف والأوجال، وعلى أبوابها وأنقابها «1» الملائكة يحرسونها من الطاعون والدجال، وسيأتي حديث «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون» .
المحفوظة
السبعون: «المحفوظة» لأن الله تعالى حفظها من الدجال والطاعون وغيرهما، وفي حديث «القرى المحفوظة أربع» وذكر المدينة منها، وفي حديث آخر رويناه في فضائل المدينة للمفضل الجندي «المدينة مشتبكة بالملائكة، على كل نقب منها ملك يحرسها» فلك أن تسميها المحروسة أيضا.
المختارة
الحادي والسبعون: «المختارة» لأن الله تعالى اختارها للمختار من خلقه في حياته ومماته.
مدخل صدق
الثاني والسبعون: «مدخل صدق» قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء: 80] ، قال بعض المفسرين: مدخل صدق: المدينة، ومخرج صدق: مكة،
__________
(1) الأنقاب: جمع نقب. الطريق الضيق في الجبل.(1/25)
وسلطانا نصيرا: الأنصار، وروي ذلك عن زيد بن أسلم، ويدل له ما رواه الترمذي وصححه في سبب نزول الآية.
المدينة
الثالث والسبعون: «المدينة» . الرابع والسبعون: «مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم» من مدن بالمكان إذا أقام، أو من دان إذا أطاع، فالميم زائدة؛ لأن السلطان يسكن المدن فتقام له طاعة فيها، أو لأن الله تعالى يطاع فيها، والمدينة: أبيات مجتمعة كثيرة تجاوز حد القرى كثرة وعمارة، ولم تبلغ حد الأمصار، وقيل: يقال لكل مصر. والمدينة وإن أطلق على أماكن كثيرة فهو علم مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهجر كونه علما في غيرها، بحيث إذا أطلق لا يتبادر إلى الفهم غيرها؛ ولا يستعمل فيها إلا معرفة، قيل: لأنه صلّى الله عليه وسلّم سكنها، وله دانت الأمم ولأمته، والنكرة اسم لكل مدينة، وقد نسبوا للكل مديني، وإلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم مدني، للفرق، وتسميتها بذلك متكررة في القرآن العظيم، ونقل عن التوراة.
المرحومة
الخامس والسبعون: «المرحومة» نقل عن التوراة، سميت به لأنها دار المبعوث رحمة للعالمين، ومحل تنزيل الرحمة من أرحم الراحمين، وأول بلد رحمت بسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم.
المرزوقة
السادس والسبعون: «المرزوقة» لأن الله تعالى رزقها أفضل الخلق فسكنها، أو المرزوق أهلها أرزاقا حسية ومعنوية ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه كما جاء في الحديث.
مسجد الأقصى
السابع والسبعون: «مسجد الأقصى» نقله التادلي في منسكه عن صاحب المطالع.
المسكينة
الثامن والسبعون: «المسكينة» نقل عن التوراة، وذكر في حديث «للمدينة عشرة أسماء» وروي عن علي يرفعه «إن الله تعالى قال للمدينة: يا طيبة، يا طابة، يا مسكينة، لا تقبلي الكنوز، أرفع أجاجيرك على أجاجير «1» القرى» عن كعب أنه وجد ذلك في التوراة،
__________
(1) الأجاجير: السطوح التي لا سترة عليها.(1/26)
والأجاجير: السطوح، وأصل المسكنة الخضوع، فسميت بذلك إما لأن الله تعالى خلق فيها الخضوع والخشوع له، وإما لأنها مسكن المساكين، سكنها كل خاضع وخاشع، وفي الحديث «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكنيا، واحشرني في زمرة المساكين» .
المسلمة
التاسع والسبعون: «المسلمة» كالمؤمنة، وقد قدمناه، والإسلام يطلق على الانقياد والانقطاع إلى الله تعالى، فسميت بذلك إما لأن الله تعالى خلق فيها الانقياد والانقطاع إليه، وإما لانقياد أهلها بالطاعة والاستسلام، وفتح بلدهم بالقرآن، لا بالسيف والسهام، وانقطاعهم إلى الله ورسوله، وتبتلهم لنصره وتحصيل سوله «1» .
مضجع الرسول
الثمانون: «مضجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لما سيأتي في حفظ أهلها وإكرامهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم «المدينة مهاجري ومضجعي في الأرض» .
المطيبة
الحادي والثمانون: «المطيّبة» بضم أوله وفتح ثانيه- تقدم مع أخواته في الطيبة.
المقدسة
الثاني والثمانون: «المقدسة» لتنزّهها ولطهارتها من الشرك والخبائث، ولأنها يتبرك بها ويتطهر عن أرجاس الذنوب والآثام.
المقر
الثالث والثمانون: «المقرّ» بالقاف: من القرار كما رأيته في بعض كتب اللغة وسيأتي في دعائه صلّى الله عليه وسلّم لها قوله: «اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا حسنا» .
المكتان
الرابع والثمانون: «المكّتان» قال سعد بن أبي سرح في حصار عثمان:
أرى الأمر لا يزداد إلّا تفاقما ... وأنصارنا بالمكّتين قليل
وقال نصر بن حجاج فيما كتب به إلى عمر رضي الله عنه بعد نفيه إياه من المدينة لما سمع امرأة تترنم به في شعرها لجماله:
حقّقت بي الظّنّ الذي ليس بعده ... مقام؛ فما لي بالنّديّ كلام
__________
(1) سوله: سؤاله. وفي التنزيل الكريم: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [سورة طه: الآية 36] .(1/27)
فأصبحت منفيّا على غير ريبة ... وقد كان لي بالمكّتين مقام
والظاهر: أن المراد المدينة؛ لأن قصة عثمان ونصر بن حجاج كانتا بها، وأطلق ذلك لانتقال أهل مكة أو غالبهم إليها وانضمامهم إلى أهلها، وقد ذكر البرهان القيراطي المكتين في أسماء مكة، قال التقي الفاسي: ولعله أخذه من قول ورقة بن نوفل:
ببطن المكتين على رجائي
قال السهيلي: ثنّى مكة- وهي واحدة- لأن لها بطاحا وظواهر «1» ، وإنما مقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو أعلى البلد وأسفلها، فيجعلونها اثنين على هذا المعنى، انتهى. ويحتمل أن تكون التثنية فيما استشهدنا به من قبيل التغليب وأن المراد مكة والمدينة، فيسقط الاستشهاد به.
المكينة
الخامس والثمانون: «المكينة» لتمكنها في المكانة والمنزلة عند الله تعالى.
مهاجر الرسول
السادس والثمانون: «مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ؛ لقوله: «المدينة مهاجري» .
الموفية
السابع والثمانون: «الموفّية» بتشديد الفاء- من التوفية، ويجوز تخفيفها، إذ التوفية والإيفاء بمعنى؛ سميت به لتوفيتها حق الواردين، وإحسانها نزل الوافدين حسّا ومعنى، أو لأن سكانها من الصحابة الموفون بما عاهدوا الله عليه.
الناجية
الثامن والثمانون: «الناجية» بالجيم من نجا إذا خلص أو أسرع، أو من نجاه وناجاه سارّه، أو من النّجوة للأرض العالية، سميت بذلك لنجاتها من العتاة والطاعون والدجال، ولإسراعها في الخيرات، وسبقها إلى حيازة السبق بأشرف المخلوقات، ولارتفاع شأنها بين الورى، ورفع أجاجيرها على أجاجير القرى.
نبلاء
التاسع والثمانون: «نبلاء» نقل من كراع، وأظنه بفتح النون وسكون الموحدة ممدودا، من النبل- بالضم والسكون- وهو الفضل والنجابة، ويقال: امرأة نبيلة في الحسن، بينة النبالة، وأنبل النخل: أرطب، والنّبلة- بالضم- الثواب والجزاء والعطية.
__________
(1) البطاح: الباطن. الظواهر: الظاهر.(1/28)
النحر
التسعون: «النحر» بفتح النون وسكون الحاء المهملة- سميت به إما لشدة حرها، كما يقال: نحر الظهيرة، ولذا شاركتها مكة فيه، وإما لإطلاق النحر على الأصل، وهما أساس بلاد الإسلام وأصلها.
الهذراء
الحادي والتسعون: «الهذراء» ذكره ابن النجار بدل العذراء نقلا عن التوراة، وتبعه جماعة كالمطري؛ فلذلك أثبتناه، وإن كان الصواب إسقاطه كما بيناه في الأصل، وقد رويناه في كلام من أثبته بالذال المعجمة، فالتسمية به لشدة حرها، يقال: يوم هاذر شديد الحر، أو لكثرة مياهها وسوانيها المصوّتة عند سوقها، يقال: هذر في كلامه، إذا أكثره، والهذر- محركا- الكثير الرديء، ويحتمل أن يكون بالمهملة من «هدر الحمام» إذا صوّت، والماء انصب وانهمر، والعشب طال، وأرض هادرة: كثيرة النبات.
يثرب
الثاني والتسعون: «يثرب» لغة في أثرب، وقد تقدم الكلام عليه فيه، وليست المذكورة في قول الشاعر:
وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب «1»
لأن المجد قال: أجمعوا فيه على تثنية التاء وفتح الراء، وقال: هي مدينة بحضرموت، قيل: كان بها عرقوب صاحب المواعيد، مع أن المجد صحّح أنه من قدماء يهود مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي مشارق عياض قيل: إن يثرب المذكورة في البيت مثل يثرب المدينة النبوية، وقيل: قرية باليمامة، وقيل: إنما هي يترب بمثناة فوقية وراء مفتوحة اسم تلك القرية، وقيل: اسم قرية من بلاد بني سعد من تميم، كما اختلف في عرقوب هذا؛ فقيل: رجل من الأوس من أهل المدينة، وقيل: من العماليق أهل اليمامة، وقيل: من بني سعد المذكورين اه. وأما قول هند بنت عتبة:
لنهبطنّ يثربه ... بغارة منشعبه
فالظاهر أن الهاء فيه للسكت، فلس اسما آخر.
يندد
الثالث والتسعون: «يندد» ذكره كراع هكذا بالمثناة التحتية ودالين، وهو إما من النّدّ
__________
(1) السجيّة: الخلق والطبيعة. (ج) سجايا.(1/29)
وهو الطيب المعروف، وقيل: العنبر، أو من النّد للتل المرتفع، أو من الناد وهو الرزق.
يندر
الرابع والتسعون: «يندر» بإبدال الدال الأخيرة من الاسم قبله راء، ذكره المجد عند سرد الأسماء، ولم يتكلم عليه بعد، لما سنذكره، وإنباته لوقوعه كذلك في حديث «للمدينة عشرة أسماء» في بعض الكتب، وفي بعضها بمثناة فوقية ودالين، وفي بعضها كذلك مع إبدال الدال الأخيرة راء؛ فتحرر من مجموع ذلك أربعة أسماء: اثنان بالمثناة التحتية، واثنان بالفوقية، وذلك المستند في تقديمها في محلها، وقال المجد: إن ذلك كله تصحيف، وإن الصواب يندد بالمثناة التحتية ودالين، وفيه نظر؛ لأن الزركشي عند ذكر أسماء المدينة جمع بين اثنين من هذه الأربعة وقال: ذكرهما البكري؛ فيحتمل ثبوت الأخيرين، وحديث «للمدينة عشرة أسماء» رواه ابن شبة من طريق عبد العزيز بن عمران، وسردها فيه ثمانية فقط، ثم روى من طريقه أيضا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سمى الله المدينة الدار والإيمان، قال: وجاء في الحديث الأول ثمانية أسماء، وجاء في هذا اسمان، فالله أعلم أهما تمام العشرة أم لا اه. ورواه ابن زبالة كذلك إلا أنه سرد تسعة فزاد اسم الدار، وأسقط العاشر، ونقل ابن زبالة أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما، والله أعلم.(1/30)
الباب الثاني
في فضائلها، وبدء شأنها وما يؤول إليه أمرها، وظهور النار المنذر بها من أرضها، وانطفائها عند الوصول إلى حرمها، وفيه ستة عشر فصلا.
الفصل الأول في تفضيلها على غيرها من البلاد
مكة أفضل أم المدينة
قد انعقد الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة، حتى على الكعبة المنيفة، وأجمعوا بعد على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد، واختلفوا أيهما أفضل؛ فذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ومالك بن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة، وأحسن بعضهم فقال: محل الخلاف في غير الكعبة الشريفة، فهي أفضل من المدينة ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة إجماعا، وحكاية الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي قبله كما قال الخطيب ابن جملة، وكذا نقله أبو اليمن ابن عساكر وغيرهم، مع التصريح بالتفضيل على الكعبة الشريفة، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش.
وقال التاج الفاكهي: قالوا: لا خلاف أن البقعة التي ضمت الأعضاء الشريفة أفضل بقاع الأرض على الإطلاق حتى موضع الكعبة، ثم قال: وأقول أنا: أفضل بقاع السموات أيضا، ولم أر من تعرض لذلك، والذي أعتقده أن ذلك لو عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السموات تشرفت بمواطئ قدميه صلّى الله عليه وسلّم بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء شرفها لكون النبي صلّى الله عليه وسلّم حالّا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعين.
الأرض أفضل أم السماء؟
قلت: وقد صرح بما بحثه من تفضيل الأرض على السماء ابن العماد نقلا عن الشيخ تاج الدين إمام الفاضلية.
قال: وقالوا: إن الأكثرين عليه؛ لأن الأنبياء خلقوا من الأرض وعبدوا الله فيها، ودفنوا بها اه.(1/31)
وقال النووي: المختار الذي عليه الجمهور أن السموات أفضل من الأرض، وقيل:
إن الأرض أشرف؛ لأنها مستقر «1» الأنبياء ومدفنهم، وهو ضعيف.
قلت: وكأن وجه تضعيفه للثاني أن الكلام عن مطلق الأرض، ولا يلزم من تفضيل بعضها لكونها مدفن الأنبياء تفضيل كلها، وضعف ايضا بأن أرواح الأنبياء في السموات والأرواح أفضل من الأجساد، وجوابه ما سنحققه إن شاء الله تعالى من حياة الأنبياء في قبورهم، صلوات الله وسلامه عليهم.
وقال شيخنا المحقق ابن إمام الكاملية في تفسير سورة الصف: والحق أن مواضع الأنبياء وأرواحهم أشرف من كل ما سواها من الأرض والسماء، ومحل الخلاف في غير ذلك كما كان يقرره شيخ الإسلام البلقيني.
قال الزركشي: وتفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة للمجاورة، ولهذا يحرم للمحدث مس جلد المصحف.
عود لتفضيل مكة أو المدينة
قال القرافي: ولما خفي هذا المعنى على بعض الفضلاء أنكر حكاية الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة، وقال: التفضيل إنما هو بكثرة الثواب على الأعمال، والعمل على قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محرم، قال: ولم يعلم أن أسباب التفضيل أعم من الثواب، والإجماع منعقد على التفضيل بهذا الوجه لا بكثرة الثواب، ويلزمه ألايكون جلد المصحف- بل ولا المصحف نفسه- أفضل من غيره لتعذر العمل فيه، وهو خرق للإجماع.
قلت: وما ذكره من التفضيل بالمجاورة مسلّم، لكن ما اقتضاه من عدم التفضيل لكثرة الثواب في ذلك ممنوع لما سنحققه.
كلام للعز بن عبد السلام
وأصل الإشكال لابن عبد السلام فإنه قال في أماليه: تفضيل مكة على المدينة أو عكسه معناه أن الله يرتب على العمل في إحداهما من الثواب أكثر مما يرتبه على العمل في الآخرى؛ فيشكل قول القاضي عياض: أجمعت الأمة على أن موضع القبر الشريف أفضل؛ إذ لا يمكن أحد أن يعبد الله فيه.
__________
(1) مستقر الأنبياء: موطن دعوتهم في حياتهم، ومدفنهم بها بعد وفاتهم.(1/32)
كلام للتقي السبكي
قال التقي السبكي: وقد رأيت جماعة يستشكلون نقل هذا الإجماع، وقال لي قاضي القضاة السروجي الحنفي: طالعت في مذهبنا خمسين تصنيفا فلم أجد فيها تعرضا لذلك، قال السبكي: وقد وقفت على ما ذكره ابن عبد السلام من أن الأزمان والأماكن كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما، لا بصفات قائمة بها، ويرجع تفضيلها إلى ما ينيل الله العباد فيهما، وأن التفضيل الذي فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما، قال السبكي: وأنا أقول: قد يكون التفضيل لذلك، وقد يكون لأمر آخر فيهما، وإن لم يكن عمل؛ فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟ وليس محل عمل لنا، فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه، وأيضا فباعتبار ما قيل: إن كل أحد يدفن بالموضع الذي خلق منه، وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيها باعتبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حي، وأن أعماله مضاعفة أكثر من كل أحد؛ فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.
قلت: وهذا من النفاسة بمكان، على أني أقول: الرحمات والبركات النازلة بذلك المحل يعم فيضها الأمة، وهي غير متناهية؛ لدوام ترقياته عليه الصلاة والسلام، وما تناله الأمة بسبب نبيها هو الغاية في الفضل، ولذا كانت خير أمة بسبب كون نبيها خير الأنبياء، فكيف لا يكون القبر الشريف أفضل البقاع مع كونه منبع فيض الخيرات؟ ألا ترى أن الكعبة على رأي من منع الصلاة فيها ليست محل عملنا، أفيقول عاقل بتفضيل المسجد حولها عليها لأنه محل العمل مع أن الكعبة هي السبب في إنالة تلك الخيرات؟ وأيضا فاهتمامه صلّى الله عليه وسلّم بأمر أمته معلوم، وإقبال الله عليه دائم، وهو بهذا المحل الشريف، فتكثر شفاعته فيه لأمته وأمداده إياهم، وقد ورد في حديث «وفاتي خير لكم» وجاء بيان ذلك بأن «أعمالكم تعرض عليّ؛ فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم» وفي رواية «استوهبت الله ذنوبكم» وله شواهد تقويه، وسيأتي في الباب الثامن أن المجيء المذكور في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ [النساء: 64] الآية حاصل بالمجيء إلى قبره الشريف أيضا، فزيارته والمجاورة عنده من أفضل القربات، وعنده تجاب الدعوات، وتحصل الطلبات، فقد جعله الله تعالى سببا في ذلك أيضا، فهو روضة من رياض الجنة، بل أفضل رياضها، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لقاب قوس(1/33)
أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» بل لو تعلق متعلق بما قررناه من كون القبر الشريف منبع جميع الخيرات وهو بالمدينة فتكون هي أفضل لكان له وجه.
وقد قال الحكيم الترمذي في نوادره: سمعت الزبير بن بكار يقول: صنّف بعض أهل المدينة في المدينة كتابا، وصنف بعض أهل مكة في مكة كتابا، فلم يزل كل واحد منهما يذكر بقعته بفضيلة، يريد كل واحد منهما أن يبرز على صاحبه بها، حتى برز المدني على المكي في خلّة واحدة عجز عنها المكي، وأن المدني قال: إذ كل نفس إنما خلقت من تربته التي يدفن فيها بعد الموت، وكان نفس الرسول إنما خلقت من تربة المدينة؛ فحينئذ تلك التربة لها فضيلة بارزة على سائر الأرض.
يخلق الإنسان من تربة الأرض التي يدفن فيها
قلت: ويدل لما ذكر من أن النفس تخلق من تربة الدفن ما رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح وله شواهد صحيحة عن أبي سعيد، قال: «مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عند قبر، فقال: قبر من هذا؟ فقالوا: فلان الحبشي يا رسول الله، فقال: لا إله إلا الله، سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي منها خلق» ورواه الحكيم الترمذي بنحوه عن أبي هريرة، ورواه البزار عن أبي سعيد بنحوه، وفيه عبد الله والد ابن المديني وهو ضعيف، وروى الطبراني في الأوسط نحوه عن أبي الدرداء، وفيه الأحوص بن حكيم، وثّقه العجلي، وضعفه الجمهور، وروي في الكبير أيضا نحوه عن ابن عمر، وقال الذهبي في بعض رواته:
ضعفوه، وأسند ابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار: لما أراد الله عز وجل أن يخلق محمدا صلّى الله عليه وسلّم أمر جبريل فأتاه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبره صلّى الله عليه وسلّم فعجنت بماء التسنيم، ثم غمست في أنهار الجنة، وطيف بها في السموات والأرض، فعرفت الملائكة محمدا وفضله قبل أن تعرف آدم عليه السلام، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سرد خصائصها.
وقال الحكيم الترمذي في حديث: «إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة": إنما صار أجله هناك لأنه خلق من تلك البقعة، وقد قال الله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] الآية، قال: فإنما يعاد المرء من حيث بدئ منه، قال: وروي أن الأرض عجّت «1» إلى ربها لما أخذت تربة آدم عليه السلام، فقال لها: سأردها إليك، فإذا مات دفن في البقعة التي منها تربته.
وعن يزيد الجريري قال: سمعت ابن سيرين يقول: لو حلفت حلفت صادقا بارّا غير شاك ولا مستثن أن الله تعالى ما خلق نبيه صلّى الله عليه وسلّم ولا أبا بكر ولا عمر إلا من طينة واحدة ثم ردهم إلى تلك الطينة.
__________
(1) عجّ، عجا وعجّة: رفع صوته وصاح. ويقال: عجّ إلى الله بالدعاء.(1/34)
وروى ابن الجوزي في الوفاء عن عائشة قالت: لما قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم اختلفوا في دفنه؛ فقالوا: أين يدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال علي: إنه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيه صلّى الله عليه وسلّم وروى يحيى أن عليا قال لما اختلفوا: لا يدفن إلا حيث توفاه الله عز وجل، وأنهم رضوا بذلك.
قلت: ويؤخذ مما قاله على مستند نقل الإجماع السابق على تفضيل القبر الشريف؛ لسكوتهم عليه، ورجوعهم إلى الدفن به.
ولما قال الناس لأبي بكر رضي الله عنه: يا صاحب رسول الله، أين يدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: في المكان الذي قبض الله تعالى روحه فيه؛ فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، رواه الترمذي في شمائله، والنسائي في الكبرى، وإسناده صحيح، ورواه أبو يعلى الموصلي، ولفظه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه» .
قلت: وأحبها إليه أحبها إلى ربه؛ لأن حبه تابع لحب ربه إلا أن يكون حبه عن هوى نفس، وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل، ولهذا أخذت تفضيل المدينة على مكة من قوله صلّى الله عليه وسلّم كما في الصحيح: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» أي بل أشد، أو وأشد، كما روي به، ومن إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم كان يحرك دابته إذا رآها من حبها.
وقد روى الحاكم في مستدركه حديث: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي، فأسكنّي في أحب البقاع إليك» وفي بعض طرقه أنه صلّى الله عليه وسلّم قاله حين خرج من مكة، وفي بعضها أنه وقف بالحزورة «1» ، وفي بعضها بالحجون «2» فقاله، وقد ضعفه ابن عبد البر.
قيل: ولو سلمت صحته فالمراد أحب البقاع إليك بعد مكة؛ لحديث: «إن مكة خير بلاد الله» وفي رواية: «أحب أرض الله إلى الله» ولأنه قد صح لمسجد مكة من المضاعفة زيادة على ما صح لمسجد المدينة كما سيأتي.
قلت: فيما قدمناه من دعائه صلّى الله عليه وسلّم بحبها أشد من حب مكة مع ما أشرنا إليه من إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم ومن أنه تعالى لا يجعلها أحب إلى نبيه إلا بعد جعلها أحب إليه تعالى غنية عن صحة هذا الحديث، وكون المراد منه ما ذكر خلاف الظاهر، وما ذكر لا يصلح مستندا في
__________
(1) الحزورة: الرابية الصغيرة.
(2) الحجون: جبل بمكة.(1/35)
الصرف عن الظاهر؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم قصد به الدعاء للدار التي تكون هجرته إليها، فطلب من الله أن يصيرها أحب البقاع إليه تعالى، والحب من الله تعالى إنالة الخير والتعظيم للمحبوب، وهذا يمكن تجدده بعد أن لم يكن، وقوله: «إن مكة خير بلاد الله وأحبها إليه» محمول على أنه صلّى الله عليه وسلّم قاله في بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، فلما طالت إقامته صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وأظهر الله دينه، وتجدد لها ما سيأتي من الفضائل حتى عاد نفعها على مكة، فافتتحها الله وسائر بلاد الإسلام منها؛ فقد أنالها الله تعالى وأنال بها من الخير ما لم ينله غيرها من البلاد، وظهر إجابة الدعوة الكريمة، وأنها صارت خير أرض الله وأحبها إليه بعد ذلك، ولهذا لم يعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة بعد فتحها.
فإن قيل: إنما لم يعد إليها لأن الله افترض عليه المقام بدار هجرته.
قلنا: لم يكن الله ليفترض عليه المقام بها إلا وهي أفضل؛ لكرامته عنده، وقد حثّ صلّى الله عليه وسلّم على الاقتداء به في سكناها والإقامة بها، وقال: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» .
فإن قيل: قال التقي الفاسي: ظن بعض أهل عصرنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مكة خير بلاد الله» حين خرج من مكة للهجرة، وليس كذلك؛ لأن في بعض طرق الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك وهو على راحلته بالحزورة، وهو لم يكن بهذه الصفة حين هاجر؛ لأن الأخبار تقتضي أنه خرج من مكة مستخفيا، ولو ركب بالموضع المشار إليه- وهو الذي يقول له عوام مكة عزوة- لأشعر ذلك بسفره.
قلنا: جاء في رواية لابن زبالة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أمره الله بالخروج قال: «اللهم إنك أخرجتني» الحديث، وقد وقع في رواية لابن حبان في حديث الهجرة «فركبا- يعني هو وأبو بكر- حتى أتيا الغار- وهو ثور- فتواريا فيه» وسيأتي في أحاديث الهجرة ما يقتضي أنهما توجها إلى الغار ليلا بعد أن ذرّ صلّى الله عليه وسلّم ترابا على رؤوس جماعة من الكفار كانوا يرصدونه، وقرأ أوائل يس يستتر بها منهم، فلم يروه، فلا يمتنع أن يكون راكبا في هذا الموضع.
وأما أمر مزيد المضاعفة لمسجد مكة، فجوابه أن أسباب التفضيل لا تنحصر في المضاعفة، ألا ترى أن فعل الصلوات الخمسة للمتوجه إلى عرفات وظهر يوم النحر بمنى أفضل من فعلها بمسجد مكة، وإن اشتمل فعلها بالمسجد على المضاعفة إذ في الاتّباع ما يربو عليها، ولهذا قال عمر رضي الله عنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة كما سيأتي مع قوله بتفضيل المدينة، وغايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، ويؤيد ذلك ما سيأتي مع أن المضاعفة تعم الفرض والنفل، وأن النفل بالبيت أفضل، على أنه إن أريد بالمسجد الحرام في حديث المضاعفة الكعبة فقط كما ستأتي الإشارة إليه، فالجواب أن الكلام فيما(1/36)
عداها، مع أن دعاءه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة بضعفي ما بمكة من البركة، ومع البركة بركتين شامل للأمور الدينية والدنيوية، وقد يبارك في العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة لأكثرية المدعو به لها من البركة الشاملة.
ولا يرد على ما قررناه ما جاء في فضل الكعبة الشريفة؛ إذ الكلام فيما عداها، ولهذا روى مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه قال لعبد الله بن عياش المخزومي: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته، فقال عمر:
لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا، ثم قال عمر: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا، ثم انصرف، وفي رواية لرزين: فاشتد على ابن عياش، فانصرف.
ولا يرد أيضا ما بمكة من مواضع النسك؛ لتعلق النسك بالكعبة، وأيضا فقد عوّض الله المدينة عن العمرة ما سيأتي في مسجد قباء، وعن الحج ما سيأتي مرفوعا:
«من خرج لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» ، وهذا أعظم؛ لكونه أيسر، ويتكرر في اليوم والليلة مرارا، والحج لا يتكرر، ويؤخذ منه أنه يضاف إلى ما جاء في المضاعفة بمسجدها الحجة لمن أخلص قصده للصلاة.
ولا يرد أيضا كونه صلّى الله عليه وسلّم أقام بمكة بعد النبوة أكثر من إقامته بالمدينة، على الخلاف فيه؛ لأن إقامته بالمدينة كان سببا في إعزاز دين الله وإظهاره، وبها تقررت الشرائع، وفرضت غالب الفرائض، وأكمل الله الدين، واستقر بها صلّى الله عليه وسلّم إلى قيام الساعة.
وقد ثبت في محبته صلّى الله عليه وسلّم للمدينة ما لم يثبت مثله لمكة، وحثّ على الإقامة والموت بها، والصبر على لأوائها وشدتها، كما ستقف عليه، وسيأتي حديث: «اللهم لا تجعل منايانا بمكة» وحديث: «ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة، قالها ثلاث مرات.
وقد شرع الله لنا أن نحب ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبه، وأن نعظم ما كان يعظمه، وإذا ثبت تفضيل الموت بالمدينة ثبت تفضيل سكناها، لأنه طريقه هذا، وقد روى الطبراني في الكبير والمفضل الجندي في فضائل المدينة وغيرهما عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أشهد سمعت- وفي رواية «لسمعت» - رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المدينة خير من مكة» ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن الرداد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال:
كان يخطئ، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال أبو زرعة: ليّن، وقال الأزدي: لا يكتب حديثه، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، ولهذا قال ابن عبد البر: هو حديث ضعيف، وفيما قدمناه غنية عنه.(1/37)
وفي الصحيحين حديث: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» ويأرز كمسجد أي: ينقبض ويجتمع وينضم ويلتجئ، وقد رأينا كل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لحبه في النبي صلّى الله عليه وسلّم فيشمل ذلك جميع الأزمنة؛ لأنه في زمنه صلّى الله عليه وسلّم للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين للاقتداء بهم، ومن بعد ذلك لزيارته، وفضل بلده، والتبرك بمشاهدة آثاره، والاتباع له في سكناها.
وروينا في فضائل المدينة للجندي حديث: «يوشك الإيمان أن يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» يعني: يرجع إليها الإيمان.
وأسند ابن زبالة حديث: «لا تقوم الساعة حتى يحاز الإيمان إلى المدينة كما يحوز السيل الدّمن» .
وقد تقدم في الأسماء حديث الصحيحين: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة» قال ابن المنذر: يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها؛ فمعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما، وهذا أبلغ من تسمية مكة «أم القرى» ؛ لأن الأمومة لا تنمحي معها ما هي له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى.
وجزم القاضي عبد الوهاب بهذا الاحتمال.
وروى البزار عن علي رضي الله عنه حديث: «إن الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا» يعني: المدينة «وبجزيرة العرب، ولكن التحريش بينهم» وله أصل في صحيح مسلم من حديث جابر.
وروى أبو يعلى بسند فيه من اختلف في توثيقه وبقية رجاله ثقات عن العباس رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة فالتفت إليها وقال: «إن الله قد برأ هذه الجزيرة من الشرك» وفي رواية: «إن الله قد طهّر هذه القرية من الشرك، إن لم تضلّهم النجوم، قال: ينزل الله الغيث، فيقولون: مطرنا بنوء «1» كذا وكذا» وقد تقدم في الأسماء تسميتها بالمؤمنة والمسلمة، وأنه لا مانع من إجرائه على ظاهره فهو مقتض للتفضيل، سيما وسببه ما سبق من كونه صلّى الله عليه وسلّم خلق من تربتها.
وقد استدل أبو بكر الأبهري من المالكية على تفضيلها على مكة بما سبقت الإشارة إليه من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مخلوق من تراب المدينة، وهو أفضل البشر، فكانت تربته أفضل الترب. قال الحافظ ابن حجر: وكون تربته أفضل الترب لا نزاع فيه، وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة؟ لأن المجاور للشيء لو ثبت له جميع مزاياه
__________
(1) النوء: المطر الشديد. والنجم إذا مال للغروب.(1/38)
لكان لجار ذلك المجاور نحو ذلك؛ فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكة، وليس كذلك اتفاقا، كذا أجاب به بعض المتقدمين، وفيه نظر، انتهى.
قلت: لم يبين وجه النظر، ولعل وجهه أن الأفضل لقوة أصالته في الفضل يفيد مجاوره الأفضلية لمزية هذه المجاورة الخاصة، وهي منتفية عن مجاور المجاور، ألا ترى أن جلد المصحف قد ثبت له مزية التعظيم للمجاورة، ولم يلزم من ذلك ثبوت نحوها لمجاوره، وأيضا فالمقتضى لتفضيل المدينة خلقه صلّى الله عليه وسلّم من تربتها، وهذا لا يوجد لمجاورها، والله أعلم.
الفصل الثاني وعد من صبر على شدها
في الحث على الإقامة بها، والصبر على لأوائها وشدتها، وكونها تنفي الخبث والذنوب، ووعيد من أرادها وأهلها بسوء أو أحدث بها حدثا أو آوى محدثا.
روينا في الصحيحين حديث «من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» .
وفي صحيح مسلم عن سعيد مولى المهري أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك! لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يصبر» وفي رواية «لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» وفي رواية «فقال أبو سعيد: لا تفعل، الزم المدينة» وذكر الحديث بزيادة قصة.
وفي مسلم وفي الموطأ والترمذي عن يحنّس مولى مصعب بن الزبير أنه كان جالسا عند ابن عمر في الفتنة، فأتته مولاة له تسلم عليه، فقالت: إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن، اشتد علينا الزمان، فقال لها عبد الله: اقعدي لكاع «1» ، ولفظ الترمذي: اصبري لكاع. فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» .
فإن قيل: ما معنى التردد في قوله: «شفيعا أو شهيدا» ؟ وما معنى هذه الشفاعة مع عموم شفاعته صلّى الله عليه وسلّم؟
__________
(1) لكاع: يقال في سبّ المرأة بالحمق: يا لكاع.(1/39)
قلنا: ذكر عياض ما ملخصه أن بعض مشايخه جعل «أو» للشك من الراوي، وأن الظاهر خلافه لكثرة رواته بذلك، بل الظاهر أنه من لفظه صلّى الله عليه وسلّم فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا، وإما أن تكون «أو» للتقسيم، ويكون شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين، أو شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده، قال: وهذه الشفاعة أو الشهادة زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاملين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بذلك مزية وزيادة منزلة وحظوة قال: ويحتمل أن يكون «أو» بمعنى الواو.
قلت: ويدل له ما رواه البزار برجال الصحيح عن عمر رضي الله عنه بلفظ: «فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة» وأسنده ابن النجار بلفظ: «كنت له شفيعا وكنت له شهيدا يوم القيامة» وأسنده المفضل الجندي في فضائل المدينة عن أبي هريرة أيضا بلفظ: «لا يصبر أحد على لأواء المدينة» وفي نسخة: «وحرها إلا كنت له شفيعا وشهيدا» قال القاضي: وإذا جعلنا «أو» للشك فإن كانت اللفظة شهيدا فالشهادة أمر زائد على الشفاعة المجردة المدخرة لغيرهم من الأمة، وإن كانت اللفظة شفيعا فهذه شفاعة غير العامة تكون لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامات كإيوائهم في ظل العرش أو كونهم في روح «1» وعلى منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات. قلت: ويحتمل: أن يجمع لهم ببركة شفاعته صلّى الله عليه وسلّم أو شهادته الخاصة بين ذلك كله؛ فالجاه عظيم، والكرم واسع، وتأيد الوصية بالجار يؤيد ذلك، ويحتمل أيضا: أن يكون المراد مع ذلك البشرى بموتهم على الإسلام؛ لأن شفاعته وشهادته صلّى الله عليه وسلّم المذكورة خاصة بالمسلمين، وكفى بذلك نعمة ومزية، وسيأتي الإشارة إلى نحو ذلك في أول الباب الثامن.
وفي الموطأ والصحيحين حديث: «تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» الحديث.
وقوله «يبسون» بفتح المثناة التحتية أوله وضم الباء الموحدة وكسرها، ويقال أيضا بضم المثناة وكسر الموحدة- يسوقون بهائمهم سوقا شديدا، وقيل: البسّ: سرعة الذهاب.
المدينة تنفي الخبث
وفي مسلم حديث «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه: هلم إلى الرخاء، هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج
__________
(1) كونهم في روح: في راحة.(1/40)
أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» .
وفي الصحيحين: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد» وفي رواية لابن زبالة: «إن المدينة تنفي خبث الرجال» وفي رواية: «خبث أهلها كما ينفي الكير خبث الحديد» . وفي صحيح البخاري حديث: «إنها طيبة تنفي الذنوب كما ينفي الكير خبث الفضة» .
وفي الصحيحين قصة الأعرابي الذي جاء من الغد محموما فقال: أقلني بيعتي، فأبى صلّى الله عليه وسلّم فخرج الأعرابي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيّبها» .
قوله: «أقلني بيعتي» أي: انقض العهد حتى أرجع إلى وطني، وكأنه كان قد بايع على هجرة الإقامة. وقوله: «تنفي خبثها» يحتمل أن يكون بمعنى الطرد والإبعاد لأهل الخبث، وقصة الأعرابي المذكور ظاهرة فيه، وخصه ابن عبد البر بزمنه صلّى الله عليه وسلّم والظاهر كما قال النووي عدم التخصيص؛ ففي الصحيح: «لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها» يعني عند ظهور الدجال، وسيأتي في الفصل الخامس في حديث أحمد وغيره برجال الصحيح قصة خروج من بالمدينة من المنافقين إلى الدجال، ثم قال: «وذلك يوم التخليص، ذلك يوم تنفي المدينة الخبث» وقال عمر بن عبد العزيز مشفقا إذ خرج منها لمن معه: أتخشى أن نكون ممن نفت المدينة؟ وقد طهرها الله تعالى ممن كان بها من أرباب الأديان المخالفين لدين الإسلام، وأهلك من كان بها من المنافقين، وهؤلاء هم أهل الخبث الكامل، ومن عداهم من أهل الخبث والذنوب قد يكون طرده وإبعاده إن استمر على ذلك باخرة الأمر بنقل الملائكة له إلى غيرها من الأرض كما أشار إليه الأقشهري قال: ويكون قوله: «تنفي خبثها، وتنفي الذنوب» أي أهل ذلك، على طريقة حذف المضاف، ويحتمل أن يكون بمعنى طرد أهل الخبث الكامل، وهم أهل الشقاء والكفر، لا أهل السعادة والإسلام؛ لأن القسم الأول ليس قابلا للشفاعة ولا للمغفرة، وقد وعد صلّى الله عليه وسلّم من يموت بها بالشفاعة لهذا وجب انتفاء القسم الأول منها، ويحتمل أن يكون بمعنى تخليص النفوس من شرهها وميلها إلى اللذات بما فيها من اللأواء والشدة، ويؤيده رواية «إنها طيبة تنفي الذنوب» الحديث، ويكون نفيها للذنوب على ظاهره، سيما وقد اشتملت على عظيم المضاعفات، وتنوع المثوبات، وتوالي الرحمات، وقد قال تعالى:
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] مع ما لأهلها من الشفاعة والشهادة الخاصة، وما بها من تضاعف البركات، ويحتمل أن يكون بمعنى أنه لا يخفى حال من انطوى فيها على خبث، بل تظهر طويته كما هو مشاهد بها، ولم أر الآن من نصّ على هذا الاحتمال،(1/41)
وهو في حفظي قديما، ويؤيده ما في غزوة أحد في الصحيح من أنه صلّى الله عليه وسلّم لما خرج إلى أحد رجع ناس من أصحابه- أي وهم المنافقون- فقال صلّى الله عليه وسلّم: «المدينة كالكير» الحديث، ولهذا سميت بالفاضحة كما قدمته، مع أن الذي ظهر لي من مجموع الأحاديث واستقراء أحوال هذه البلدة الشريفة أنها تنفي خبثها بالمعاني الأربعة.
وقوله: «وتنصع» بالفوقانية المفتوحة والنون والمهملتين كتمنع- أي: تخلص، والناصع: الخالص الصافي، و «طيبها» بفتح الطاء والتشديد منصوبا على أنه مفعول هذا هو المشهور فيه، والله أعلم.
وعيد من أراد أهلها بسوء
وفي صحيح مسلم من حديث جابر في تحريم المدينة مرفوعا: «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء» .
قال عياض: قوله «في النار» يدفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها هذه الزيادة، ويبين أن هذا حكمه في الآخرة. قال: وقد يكون المراد به أن من أرادها في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم كفي المسلمون أمره، واضمحل كيده كما يضمحل الرصاص في النار. قال:
ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها فلا يتم له أمر، بخلاف من أتى ذلك جهارا. قال: وقد يكون في اللفظ تقديم وتأخير: أي أذابه الله كذوب الرصاص في النار، ويكون ذلك لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطانا، بل يذهبه عن قرب، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة، فأهلك في منصرفه منها. ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك، وغيرهما ممن صنع صنيعهما، انتهى.
وهذا الاحتمال الأخير هو الأرجح، وليس في الحديث ما يقتضي أنه لا يتم له ما أراد منهم، بل الوعد بإهلاكه، ولم يزل شأن المدينة على هذا حتى في زماننا هذا لما تظاهرت طائفة العياشي بإرادة السوء بالمدينة الشريفة لأمر اقتضى خروجهم منها حتى أهلك الله تعالى عتاتهم مع كثرتهم في مدة يسيرة.
وقد يقال: المراد من الأحاديث الجمع بين إذابته بالإهلاك في الدنيا وبين إذابته في النار في الآخرى، والمذكور في هذا الحديث هو الثاني، وفي غيره الأول؛ ففي رواية لأحمد برجال الصحيح من جملة حديث: «من أرادها بسوء» يعني المدينة «أذابه الله كما(1/42)
يذوب الملح في الماء» وكذا في مسلم أيضا، وفي فضائل المدينة للجندي حديث «أيما جبّار أراد المدينة بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء» وفي رواية لمسلم «من أراد أهل هذه البلدة بسوء- يعني المدينة- أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء» في رواية له أيضا «من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء» ، وروى البزار بإسناد حسن حديث: «اللهم اكفهم من دهمهم ببأس» يعني أهل المدينة «ولا يريدها أحد بسوء إلا أذابه الله كما يذوب الملح في الماء» .
وقوله: «دهمهم» محركا أي: غشيهم بسرعة، وقوله في الحديث قبله «بدهم» بفتح أوله وإسكان ثانيه- أي بغائلة وأمر عظيم، ولذا قيل: المراد غازيا مغيرا عليها.
وفي البخاري حديث «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء» وأسند ابن زبالة عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشرف على المدينة فرفع يديه حتى رؤي عفرة إبطيه ثم قال: «اللهم من أرادني وأهل بلدي بسوء فعجّل هلاكه» وروى الطبراني في الأوسط برجال الصحيح حديث: «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل» وفي رواية لغيره:
«من أخاف أهل المدينة أخافه الله يوم القيامة، وغضب عليه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا» وروى النسائي حديث: «من أخاف أهل المدينة ظالما لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله» الحديث، ولابن حبان نحوه، وروى أحمد برجال الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن أميرا من أمراء الفتنة قدم المدينة، وكان قد ذهب بصر جابر، فيل لجابر: لو تنحيت عنه، فخرج يمشي بين ابنيه، فنكب، فقال: تعس من أخاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! فقال ابناه، أو أحدهما: يا أبت، فكيف أخاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد مات؟ فقال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي» .
بسر بن أرطاة يغزو المدينة
قلت: والظاهر أن الأمير المشار إليه هو بسر بن أرطاة.
قال القرطبي: ذكر في رواية ابن عبد البر أن معاوية رضي الله عنه بعد تحكيم الحكمين أرسل بسر بن أرطأة في جيش، فقدموا المدينة، وعاملها يومئذ لعلي رضي الله عنه أبو أيوب الأنصاري- رضي الله عنه! - ففر أبو أيوب ولحق بعلي، ودخل بسر المدينة، وقال لأهلها: والله لولا ما عهد إلى أمير المؤمنين ما تركت فيها محتلما إلا قتلته، ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية، وأرسل إلى بني سلمة فقال: ما لكم عندي أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، فأخبر جابر، فانطلق حتى جاء أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لها: ماذا ترين فإني أخشى أن أقتل، وهذه بيعة ضلال، فقالت: أرى أن(1/43)
تبايع، وقد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع، فأتى جابر بسرا فبايعه، وهدم بسر دورا بالمدينة، ثم انطلق.
وفي رواية ستأتي في الفصل الخامس عشر أن أهل المدينة فرّوا يومئذ حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم، والله أعلم.
وفي الكبير للطبراني حديث: «من آذى أهل المدينة آذاه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرف ولا عدل» .
وروى ابن النجار حديث: «من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وعيد من أحدث بها حدثا
وفي الصحيحين في أحاديث تحريم المدينة: «فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» ولفظ البخاري: «لا يقبل منه صرف ولا عدل» قيل: الصرف الفريضة، والعدل التطوع، ونقل عن الجمهور، وقيل: عكسه، وقيل: الصرف التوبة، والعدل الفدية، قيل: والمعنى لا يقبل الله فريضته ونافلته أو توبته قبول رضا، ولا يجد في القيامة فداء يفتدى به من يهودي أو نصراني، بخلاف سائر المذنبين، وقيل غير ذلك، ومعنى هذا اللعن المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله تعالى والطرد عن الجنة أول الأمر لأنه كلعن الكفار.
قال القاضي: ومعنى قوله: «من أحدث فيها حدثا إلى آخره» من أتى فيها إثما أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه، وآوى بالمد والقصر، قال: واستدلوا به على أن ذلك من الكبائر؛ لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة.
قلت: فيستفاد منه أن إثم الصغيرة بها كإثم الكبيرة بغيرها؛ لصدق الإثم بها، بل نقل الزركشي عن مالك رحمه الله ما يقتضي شمول الحديث المذكور للمكروه كما بيناه في الأصل، وذلك لأن الإساءة بحضور الملك ليست كالإساءة في أطراف المملكة، وفقنا الله تعالى لحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة بمنّه وكرمه!!(1/44)
الفصل الثالث في الحث على حفظ أهلها، وإكرامهم
، والتحريض على الموت بها واتحاذ الأصل.
الوصية بحفظ أهلها
روينا في كتاب ابن النجار عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المدينة مهاجري، فيها مضجعي، ومنها مبعثي، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، من حفظهم كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال» قيل للمزني: ما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار. قلت: قال بعضهم: المراد بالمزني معقل بن يسار، وتفسير طينة الخبال بذلك رفعه مسلم، والحديث في الكبير للطبراني بسند فيه متروك، ولفظه «المدينة مهاجري ومضجعي في الأرض، حق على أمتي أن يكرموا جيراني ما اجتنبوا الكبائر، فمن لم يفعل ذلك سقاه الله من طينة الخبال» قلنا: يا أبا يسار، وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار.
وروى القاضي أبو الحسن علي الهاشمي في فوائده عن خارجة بن زيد عن أبيه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المدينة مهاجري وفيها مضجعي، ومنها مخرجي، حق على أمتي حفظ جيراني فيها، من حفظ وصيتي كنت له شهيدا يوم القيامة، ومن ضيّعها أورده الله حوض الخبال، قيل: وما حوض الخبال يا رسول الله؟ قال: حوض من صديد أهل النار» .
وروى ابن زبالة عن عطاء بن يسار وغيره حديث: «إن الله جعل المدينة مهاجري، وبها مضجعي، ومنها مبعثي، فحق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، فمن حفظ فيهم حرمتي كنت له شفيعا يوم القيامة، ومن ضيع فيهم حرمتي أورده الله حوض الخبال» . وفي رواية له: «المدينة مهاجري، وبها وفاتي، ومنها محشري، وحقيق على أمتي أن يحافظوا جيراني ما اجتنبوا الكبيرة، من حفظ فيهم حرمتي كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» .
وفي مدارك عياض قال محمد بن مسلمة: سمعت مالكا يقول: دخلت على المهدي فقال: أوصني، فقلت: أوصيك بتقوى الله وحده، والعطف على أهل بلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجيرانه؛ فإنه بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المدينة مهاجري، ومنها مبعثي، وبها قبري، وأهلها جيراني، وحقيق على أمتي حفظ جيراني؛ فمن حفظهم فيّ كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال» .
وروى مالك في الموطأ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا وقبر يحفر بالمدينة، فاطّلع رجل في القبر فقال: بئس مضجع المؤمن! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس ما قلت» قال الرجل: إني(1/45)
لم أرد هذا، إنما أردت القتل في سبيل الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا مثل للقتل في سبيل الله، ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة، ثلاث مرات.
وروى ابن شبة في أخبار مكة عن سعيد بن أبي هند قال: سمعت أبي يذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا دخل مكة قال: اللهم لا تجعل منايانا بمكة حتى نخرج منها» ورواه أحمد في مسنده برجال الصحيح عن ابن عمر مرفوعا، إلا أنه قال: «حتى تخرجنا منها» .
وروى مالك والبخاري ورزين العبدري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك، زاد رزين أن ذلك كان من أجلّ «1» دعاء عمر.
وسبق ما جاء في أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها؛ فالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأكثر أصحابه وأفضلهم خلقوا من تربة المدينة، وقد ثبت حديث: «من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة» ورواه البيهقي بلفظ: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت، فمن مات بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا» وفي رواية له: «فإنه من يمت بها أشفع له، أو أشهد له» وقد ذكر هذه الرواية ابن حبان في صحيحه.
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه وابن ماجه والبيهقي وعبد الحق وصححه حديث «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها» ولفظ ابن ماجه «فإني أشهد» بدل «فإني أشفع» ورواه الطبراني في الكبير بسند حسن، ولفظه «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإنه من مات بها كنت له شهيدا- أو شفيعا- يوم القيامة» ورواه ابن رزين بنحوه، وزاد «وإني أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون، ثم أنتظر أهل مكة فأحشر بين أهل الحرمين» وفي رواية لابن النجار «فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى البقيع فيبعثون، ثم يبعث أهل مكة» .
وروى الطبراني حديث «أول من أشفع له من أمتي أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف» وأخرجه الترمذي بالواو بدل ثم، وسيأتي في فضل البقيع زيادة تتعلق بذلك.
وبالجملة: فالترغيب في الموت في المدينة لم يثبت مثله لغيرها، والسكنى بها وصلة إليه؛ فيكون ترغيبا في سكناها، وتفضيلا لها على غيرها، واختيار سكناها هو المعروف من حال السلف، ولا شك أن الإقامة بالمدينة في حياته صلّى الله عليه وسلّم أفضل إجماعا، فنستصحب ذلك بعد وفاته حتى يثبت إجماع مثله برفعه.
__________
(1) أجلّ: أعظم وأقوى.(1/46)
وأسند ابن شبة في أخبار مكة عن إسماعيل بن سالم قال: سألت عامرا عن فتيا أفتى بها حبيب بن أبي ثابت، فقال: ألا يفتي حبيب نفسه حيث نزل مكة وهي قرية أعرابية، ولأن أنزل دوران أحب إلي من أن أنزل مكة، وهي قرية هاجر منها النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وعن الشعبي أنه كان يكره المقام بمكة، ويقول: هي دار أعرابية، هاجر منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألا يفتي حبيب نفسه حيث يجاور بمكة وهي دار أعرابية، وقال عبد الرزاق في مصنفه: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحجون ثم يرجعون، ويعتمرون ثم يرجعون، ولا يجاورون.
قلت: ولم أظفر عن السلف بنقل في كراهة المجاورة بالمدينة الشريفة، بخلاف مكة، لكن اقتضى كلام النووي في شرح مسلم حكاية الخلاف فيها، وكأنه قاس المدينة على مكة من حيث إن علة الكراهة وهي خوف الملل وقلة الحرمة للأنس وخوف ملابسة الذنوب لأن الذنب بها أقبح، ونحوه موجود بالمدينة، ولهذا قال: والمختار أن المجاورة بهما جميعا مستحبة إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة.
وقال الزركشي عقب نقل كلام النووي: إن الظاهر ضعف الخلاف في المدينة أي:
لما قدمناه من الترغيب فيها، ولأن كل من كره المجاورة بمكة استدل بترك الصحابة الجوار بها، بخلاف المدينة فكانوا يحرصون على الإقامة بها، وقد روى الطبراني في الأوسط حديث «من غاب عن المدينة ثلاثة أيام جاءها وقلبه مشرب جفوة» وأسند ابن أبي حثمة حديث «من كان له بالمدينة أصل فليتمسك به، ومن لم يكن له بها أصل فليجعل له بها أصلا ولو قصرة» قال ابن الأثير: القصرة محركة أصل الشجرة، أي ولو نخلة واحدة، والقصرة أيضا: العنق، وقال الخطابي: القصرة النخلة، وقرأ الحسن إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات: 32] وفسروه بأعناق النخل، ورواه الطبراني في الكبير بلفظه إلى قوله «فليجعل له بها أصلا» وقال عقبه: «فليأتين على الناس زمان يكون الذي ليس له بها أصل كالخارج منها المجتاز إلى غيرها» ورواه ابن شبة أيضا بنحوه، ثم أسند عن الزهري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا الأموال بمكة، واتخذوها الأموال في دار هجرتكم؛ فإن المرء مع ماله» وأسند أيضا عن ابن عمر حديث «لا تتخذوا من وراء الروحاء مالا، ولا تردوا على أعقابكم بعد الهجرة ولا تنكحوا بناتكم طلقاء أهل مكة، وأنكحوهن بأترابهن فأترابهن» أي: مستويات في السن في ثلاث وثلاثين سنة.
وهذا كله متضمّن للحث على سكنى المدينة وتفضيله على سكنى مكة، وهي جديرة بذلك؛ لأن الله تعالى اختارها لنبيه صلّى الله عليه وسلّم قرارا، وجعل أهلها شيعة له وأنصارا، وكانت لهم(1/47)
أوطانا، ولو لم يكن إلا جواره صلّى الله عليه وسلّم بها وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «ما زال جبريل يوصيني بالجار» الحديث، ولم يخص جارا دون جار، ولا يخرج أحد عن حكم الجار وإن جار، ولهذا اخترت تفضيل سكناها على مكة، مع تسليم مزيد المضاعفة لمكة؛ إذ جهة الفضل غير منحصرة في ذلك؛ فتلك لها مزيد العدد، ولهذه تضاعف البركة والمدد، ولتلك جوار بيت الله، ولهذه جوار حبيب الله وأكرم الخلق على الله، سر الوجود، والبركة الشاملة لكل موجود.
قال عياض في المدارك: قال مصعب: لما قدم المهدي المدينة استقبله مالك وغيره من أشرافها على أميال، فلما بصر بمالك انحرف المهدي إليه فعانقه وسلّم عليه وسايره، فالتفت مالك إلى المهدي فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تدخل الآن المدينة فتمر بقوم عن يمينك ويسارك، وهم أولاد المهاجرين والأنصار، فسلم عليهم؛ فإنه ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة، ولا خير من المدينة، قال: ومن أين قلت ذلك يا أبا عبد الله؟
فقال: إنه لا يعرف قبر محمد صلّى الله عليه وسلّم عندهم فينبغي أن يعرف فضلهم على غيرهم، ففعل المهدي ما أمره به، فأشار مالك- رحمه الله! - إلى أن المقتضى للتفضيل هو وجود قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بها، ومجاورة أهلها له.
الفصل الرابع في بعض دعائه صلّى الله عليه وسلّم لها ولأهلها
، وما كان بها من الوباء، ونقله
حب النبي صلّى الله عليه وسلّم للمدينة
روينا في الصحيحين حديث «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» ورواه رزين العبدري والجندي بالواو بدل «أو» مع أن أوفى تلك الرواية بمعنى بل، وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم في محبة المدينة ما لم يرد مثله لمكة؛ ففي صحيح البخاري وجامع الترمذي حديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلته «1» ، وإن كان على دابة حركها من حبها» وفي رواية لابن زبالة «تباشرا بالمدينة» ، وفي رواية له «كان إذا أقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه عن منكبيه وقال: هذه أرواح طيبة» وقد تكرر دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم بتحبيب المدينة إليه كما سيأتي، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول، والتكرير لطلب الزيادة، وفي كتاب الدعاء للمحاملي وغيره عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه «كان إذا قدم من سفر من أسفاره فأقبل على المدينة يسير أتم السير، ويقول: اللهم اجعل لنا بها قرارا، ورزقا حسنا» .
__________
(1) أوضع راحلته: حملها على السير السريع.(1/48)
دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة بالبركة
وفي الصحيحين حديث «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» .
وفي مسلم «اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدّنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» وفيه أيضا «اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين» وفيه أيضا وفي الترمذي حديث «كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاؤوا به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا أخذه قال: اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا» الحديث، وهو يقتضي تكرر هذا الدعاء بتكرر ظهور التمرة والإتيان بأولها، وفي الترمذي- وقال: حسن صحيح- عن علي رضي الله عنه «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كنا بحرة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائتوني بوضوء، فتوضأ ثم قال فاستقبل القبلة فقال: اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك، ودعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثلي ما باركت لأهل مكة، مع البركة بركتين» . ورواه ابن شبة في أخبار مكة بنحوه، إلا أنه قال: «حتى إذا كنا بالحرة بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائتوني بوضوء، فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم قال» الحديث بنحوه، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد، ولفظه:
«خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كنا عند السقيا التي كانت لسعد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك وإني أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم مثل ما باركت لأهل مكة، واجعل مع البركة بركتين» هكذا في النسخة التي وقعت لنا، ولعله «مثلي» كما في الرواية السابقة، ويؤخذ منه الإشارة إلى أن المدعو به ستة أضعاف ما بمكة من البركة، وفي حديث رواه ابن زبالة عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خرج إلى ناحية من المدينة، وخرجت معه، فاستقبل القبلة ورفع يديه حتى إني لأرى بياض ما تحت منكبيه، ثم قال: اللهم إن إبراهيم نبيك وخليلك دعاك لأهل مكة، وأنا نبيك ورسولك أدعوك لأهل المدينة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم، وقليلهم وكثيرهم، ضعفي ما باركت لأهل مكة، اللهم من هاهنا وهاهنا وهاهنا، حتى أشار إلى نواحي الأرض كلها، اللهم من أرادهم بسوء فأذبه كما يذوب الملح في الماء» وفي الأوسط للطبراني ورجاله ثقات عن ابن عمر قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر، ثم أقبل على القوم فقال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا(1/49)
وصاعنا» الحديث، وفي الكبير له ورجاله ثقات عن ابن عباس نحوه، وروى أحمد والبزار وإسناده حسن عن جابر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر يوما إلى الشام فقال: اللهم أقبل بقلوبهم، ونظر إلى العراق فقال: اللهم مثل ذلك، ونظر قبل كل أفق ففعل ذلك، وقال:
اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض، وبارك لنا في مدنا وصاعنا» وفي الصحيحين حديث «اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم» قال القاضي في الكلام عليه: البركة هنا بمعنى النمو والزيادة، وتكون بمعنى الثبات، فقيل: يحتمل أن تكون هذه البركة دينية، وهي ما تتعلق بهذه المقادير في الزكاة والكفارات؛ فتكون بمعنى الثبات لثبات الحكم بها وبقائه ببقاء الشريعة، ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير الكيل والقدر بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى كثرة ما يكلا بها من غلاتها وثمراتها، وفي هذا كله ظهر إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم وقال النووي: الظاهر أن المراد البركة في نفس المكيل في المدينة، بحيث يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها. قلت: هذا هو الظاهر فيما يتعلق بأحاديث الكيل، وأما غيرها فعلى عمومه في سائر الأمور الدينية والدنيوية. وروينا في فضائل المدينة للجندي حديث:
«اللهم حبّب إلينا المدينة، كحبنا مكة وأشد، وصححها لنا، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها، واجعلها بالجحفة» وروى أحمد برجال الصحيح عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «صلى بأرض سعد بأصل الحرة عند بيوت السقيا، ثم قال: اللهم إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثلي ما دعاك به إبراهيم لمكة، أدعوك أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم، الله حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، واجعل ما بها من وباء بخم» الحديث، وقوله «بخم» بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم- مكان قرب الجحفة كما سيأتي في موضعه، وروى ابن زبالة حديث «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وعك فيها أصحابه» وفيه «فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، ثم رفع يده، ثم قال: اللهم انقل عنا الوباء» فلما أصبح قال: أتيت هذه الليلة بالحمى، فإذا بعجوز سوداء ملبّبة في يدي الذي جاء بها، فقال: هذه الحمى، فما ترى فيها؟ فقلت: اجعلوها بخّم» .
الدعاء بنقل وبائها
وفي مسلم حديث عن عائشة رضي الله عنها: «قدمنا إلى المدينة وهي وبية فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكوى أصحابه قال: «اللهم حبّب إلينا(1/50)
المدينة كما حببت مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وحوّل حمّاها إلى الجحفة» .
وهو في البخاري بلفظ: «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وعك أبو بكر وبلال- رضي الله عنهما! - وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كلّ امرئ مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا قلع عنه يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنّة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حمّاها إلى الجحفة» قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا، تعني ماء آجنا «1» .
ورواه في الموطأ بزيادة: «وكان عامر بن فهيرة يقول:
قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه»
ورواه ابن إسحاق بزيادة أخرى، ولفظه: «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرفه الله عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال مولى أبي بكر مع أبي بكر في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، ولهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر، فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ أي كيف تجد نفسك، فقال:
كل امرئ
البيت المتقدم، فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه «2»
قالت: فقلت ما يدري عامر ما يقول، وقالت: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته وقال:
__________
(1) أجن الماء: تغير لونه وطعمه ورائحته، البطحان: واد بالمدينة.
(2) الروق: قرن الدابة.(1/51)
ألا ليت شعري
البيتين.
ورواه ابن زبالة بلفظ: «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وعك أصحابه، فخرج يعود أبا بكر، فوجده يهجر «1» ، فقال: يا رسول الله:
لقد لقيت الموت قبل ذوقه
البيت المتقدم، فخرج من عنده، فدخل على بلال فوجده يهجر وهو يقول:
ألا ليت شعري
البيتين المتقدمين، ودخل على أبي أحمد بن جحش فوجده موعوكا، فلما جلس إليه قال:
وا حبذا مكّة من وادي ... أرض بها تكثر عوّادي
أرض بها تضرب أوتادي ... أرض بها أهلي وأولادي
أرض بها أمشي بلا هادي
فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا أن ينقل الوباء من المدينة فيجعله بخم.
وفي رواية له أنه «أمر عائشة بالذهاب إلى أبي بكر ومولييه، وأنها رجعت وأخبرته بحالهم، فكره ذلك، ثم عمد إلى بقيع الخيل- وهو سوق المدينة «2» - فقام فيه ووجهه إلى القبلة، فرفع يديه إلى الله فقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لأهل المدينة في سوقهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم، اللهم انقل ما كان بالمدينة من وباء إلى مهيعة» .
قوله «رفع عقيرته» أي صوته، وقوله «بواد» روى «بفخ» وهو وادي الزاهر، والجليل- بالجيم- الثمام، ومجنة- بكسر الميم وفتحها- سوق بأسفل مكة، وقال الأصمعي: بمر الظهران، وشامة وطفيل: جبلان يشرفان على مجنة، قاله ابن الأثير، قال: ويقال «شابة» بالباء الموحدة، وهو جبل حجازي، قال المحب الطبري: وروايته بالباء الموحدة بخط شيخنا الصاغاني، وكتب عليها صح، وقال الطبري: والأشهر أنهما جبلان على مراحل من مكة من جهة اليمن، وقال الخطابي: عينان. وقوله «بطوقه» أي بطاقته، وقوله «بروقه» أي بقرنه، و «مهيعة» هي الجحفة أحد المواقيت المشهورة، وخم: بقربها، وإنما دعا صلّى الله عليه وسلّم بنقل الحمى إليها لأنها كانت دار شرك، ولم تزل من يومئذ أكثر بلاد الله حمى، قال بعضهم:
وإنه ليتقى شرب الماء من عينها التي يقال لها عين خم، فقلّ من شرب منها إلا حم.
__________
(1) هجر المريض: هذي في مرضه وفي نومه.
(2) البقيع: المكان المتسع فيه أشجار مختلفة. ومقبرة أهل البقيع. وهو سوق المدينة.(1/52)
وروى البيهقي حديث عائشة من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وفيه «قال هشام:
فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تضرعه الحمى «1» » .
وقال الخطابي: كان أهل الجحفة إذ ذاك يهودا، وقيل: إنه لم يبق أحد من أهلها إلا أخذته الحمى.
قال النووي: وهذا علم من أعلام نبوته صلّى الله عليه وسلّم فإن الجحفة من يومئذ وبية، ولا يشرب أحد من مائها إلا حم.
وبطحان: من أودية المدينة كما سيأتي، والماء الآجن: المتغير الطعم واللون.
الوباء بالمدينة جاهلي قديم
واتفق أهل الأخبار أن الوباء بالمدينة كان شديدا، حتى روى ابن إسحاق عن هشام بن عروة قال: كان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له: انهق، فينهق كما ينهق الحمار.
وفي دلائل النبوة من طريق هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهي أوبأ أرض الله، وواديها بطحان نجل يجري عليه الأثل» قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيا فأشرف عليه الإنسان قيل له: انهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي، قال الشاعر حين أشرف على المدينة:
لعمري لئن عشّرت من خيفة الرّدى ... نهيق الحمار إنني لجزوع
قالت عائشة: فاشتكى أبو بكر، الحديث.
ثنية الوداع
وروى ابن شبة عن عامر بن جابر قال: كان لا يدخل المدينة أحد إلا من طريق واحد، من ثنية الوداع، فإن لم يعشّر بها- أي: ينهق كالحمار عشرة أصوات في طلق واحد- مات قبل أن يخرج منها، فإذا وقف على الثنية قيل: قد ودع، فسميت ثنية الوداع، حتى قدم عروة بن الورد العبسي، فقيل له: عشر بها، فلم يعشر، وأنشأ يقول:
لعمري لئن عشّرت من خشية الردى ... نهاق الحمار إنني لجزوع
ثم دخل فقال: يا معشر يهود، ما لكم وللتعشير؟ قالوا: إنه لا يدخلها أحد من غير أهلها فلم يعشّر بها إلا مات، ولا يدخلها أحد من غير ثنية الوداع إلا قتله الهزال، فلما ترك عروة التعشير تركه الناس ودخلوا من كل ناحية.
__________
(1) أضرعته الحمّى: أوهنته.(1/53)
تحويل الوباء من دلائل النبوة
وتحويل الوباء من أعظم المعجزات؛ إذ لا يقدر عليه جميع الأطباء، وفي البخاري حديث «رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة» وفي الأوسط للطبراني نحوه، وفي كتاب ابن زبالة «أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما، فجاءه إنسان كأنه قدم من ناحية طريق مكة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل لقيت أحدا؟ قال: لا، إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الشعر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تلك الحمى، ولن تعود بعد اليوم أبدا» وفيه أيضا حديث: «اللهم حبّب إلينا المدينة، وانقل وباءها إلى مهيعة، وما بقي منه فاجعله تحت ذنب مشعط» وحديث: «إن كان الوباء في شيء من المدينة فهو في ظل مشعط» . قال المجد: هو جبل أو موضع بالمدينة. قلت:
سيأتي عن ابن زبالة في المنازل أن بني حديلة ابتنوا أطمين أحدهما يقال له «مشعط» كان موضعه في غربي مسجد بني حديلة، وفي موضعه بيت يقال له بيت أتى نبيه، ثم أورد عقبه الحديث المذكور، فأفاد أنه هو المراد، وفيه أيضا حديث: «أصح المدينة من الحمى ما بين حرّة بني قريظة والعريض» وهو يؤذن ببقاء شيء من الحمى بالمدينة، وأن الذي نقل عنها أصلا ورأسا سلطانها وشدتها ووباؤها وكثرتها بحيث لا يعد ما بقي بالنسبة إليه شيئا، ويحتمل أنها رفعت أولا بالكلية، ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها كما أشار إليه الحافظ بن حجر، ويدل له ما روى أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن جابر: استأذنت الحمى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: من هذه؟ فقالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء، فلقوا ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فأتوه فشكوا ذلك إليه، فقال: ما شئتم، إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم، وإن شئتم تكون لكم طهورا، قالوا:
أو تفعل؟ قال: نعم، قالوا: فدعها» ورواه الطبراني بنحوه، وقال فيه: «إن شئتم تركتموها وأسقطت بقية ذنوبكم، قالوا: فدعها يا رسول الله» وروى أحمد ورجاله ثقات حديث:
أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون بالشام، فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكفار» والأقرب أن هذا كان في آخر الأمر بعد نقل الحمى بالكلية، لكن قال الحافظ ابن حجر: لما دخل صلّى الله عليه وسلّم المدينة كان في قلة من أصحابه، فاختار الحمى لقلة الموت بها على الطاعون لما فيها من الأجر الجزيل، وقضيتها إضعاف الأجساد، فلما أمر بالجهاد دعا بنقل الحمى إلى الجحفة، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له(1/54)
الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة، يعني بعد كثرة المسلمين تمييزا لها على غيرها، انتهى، وهو يقتضي عود شيء من الحمى إليها باخرة الأمر، والمشاهد في زماننا عدم خلوها عنها أصلا، لكنه كما وصف أولا، بخلاف الطاعون، فإنها محفوظة عنه بالكلية كما سيأتي، والأقرب أنه صلّى الله عليه وسلّم لما سأل ربه تعالى لأمته أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه ذلك فقال في دعائه: «فحمى إذا أو طاعونا» أراد بالدعاء بالحمى للموضع الذي لا يدخله طاعون كما سنشير إليه في الفصل الآتي؛ فيكون ما بالمدينة اليوم ليس هو حمى الوباء، بل حمى رحمة بدعائه صلّى الله عليه وسلّم كما سنوضحه، والله أعلم.
الفصل الخامس في عصمتها من الدجال والطاعون
حراسة المدينة من الدجال والطاعون
روينا في الصحيحين وغيرهما حديث «على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» وفيهما أيضا حديث «ليس من بلد إلا سيطؤها الدجال، إلا مكة والمدينة، ليس نقب من أنقابها إلا عليه ملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق» وفي رواية «فيأتي سبخة الجرف، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة» وفي البخاري حديث «لا يدخل المدينة رعب المسيح، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان» وفي مسلم حديث «يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام، وهناك يهلك» وفي الصحيحين «قصة خروج الرجل الذي هو خير الناس، أو من خير الناس، من المدينة إلى الدجال إذا نزل بعض سباخها فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» الحديث بطوله.
قال معمر فيما رواه أبو حاتم: يرون هذا الرجل هو الخضر عليه السلام.
وروى أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: «أشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فلق «1» من أفلاق الحرة ونحن معه، فقال: نعم الأرض المدينة، إذا خرج الدجال، على كل نقب من أنقابها ملك لا يدخلها، فإذا كان ذلك رجفت المدينة بأهلها ثلاث رجفات لا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، وأكثرهم- يعني من يخرج إليه- النساء، وذلك يوم التخليص، ذلك يوم تنفي المدينة الخبث كما ينفي
__________
(1) الفلق: الطريق المطمئن بين الربوتين.(1/55)
الكير خبث الحديد، يكون معه سبعون ألفا من اليهود، على كل رجل منهم ساج وسيف محلى؛ فيضرب قبته بهذا المضرب الذي بمجتمع السيول» الحديث بطوله، ولفظ الطبراني «يا أهل المدينة، اذكروا يوم الخلاص، قالوا: وما يوم الخلاص؟ قال: يقبل الدجال حتى ينزل بذباب، فلا يبقى في المدينة مشرك ولا مشركة، ولا كافر ولا كافرة، ولا منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، ويخلص المؤمنون، فذلك يوم الخلاص» وروى أحمد برجال الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوم الخلاص، وما يوم الخلاص؟
ثلاثا، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: يجيء الدجال فيصعد أحدا فيقول لأصحابه:
أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكا مصلتا، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص» وقال الحافظ ابن حجر: إن أحمد والحاكم أخرجا من رواية محجن بن الأدرع رفعه «يجيء الدجال فيصعد أحدا فيطلع فينظر إلى المدينة فيقول لأصحابه: ألا ترون إلى هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد في كل نقب من أنقابها ملكا مصلتا سيفه» وبقيته بلفظ الحديث المذكور، إلا أنه قال في آخره: «فتخلص المدينة، فذلك يوم الخلاص» والمراد بالرواق الفسطاط، ولابن ماجه من حديث أبي أمامة «ينزل عند الطريق الأحمر عند منقطع السبخة» ولأحمد من حديث ابن عمر «ينزل الدجال في هذه السبخة بمرقناة» أي: ممرها، وفي عقيق المدينة للزبير بن بكار عن أبي هريرة «ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مجتمع السيول، فقال: ألا أخبركم بمنزل الدجال من المدينة؟ ثم قال: هذا منزله، يريد المدينة، لا يستطيعها، يجدها متمنطقة بالملائكة، على كل نقب من أنقابها ملك شاهر سلاحه، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، فيزلزل بالمدينة وبأصحاب الدجال زلزلة، لا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، وأكثر من يتبعه النساء، فلا يعجز الرجل أن يمسك سفيهته» .
قلت: يستفاد منه أن المراد من قوله في الأحاديث المتقدمة: فترجف المدينة يعني بسبب الزلزلة، فلا يشكل بما تقدم من أنه لا يدخل المدينة رعب المسيخ الدجال فيستغنى عما جمع به بعضهم من أن الرعب المنفي هو ألايحصل لمن بها بسبب قربه منها خوف، أو هو عبارة عن غايته، وهو غلبته عليها، والمراد بالرجفة إشاعة مجيئه وأن لا طاقة لأحد به؛ فيتسارع حينئذ عليه من كان يتصف بالنفاق أو الفسق، قاله الحافظ ابن حجر، وما قدمناه أولى.
وفي الأوسط للطبراني حديث «ينزل الدجال حذو المدينة، فأول من يتبعه النساء والإماء» وفي حديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له ورجاله ثقات في وصف الدجال «ثم(1/56)
يسير حتى يأتي المدينة، ولا يؤذن له فيها، فيقول: هذه قرية ذاك الرجل، ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله عز وجل عند عقبة أفيق» وروى أبو يعلى حديث الجساسة المشهور في الصحيح بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح وزاد فيه «هو المسيح تطوى له الأرض في أربعين يوما، إلا ما كان من طيبة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وطيبة المدينة، ما باب من أبوابها إلا وملك مصلت سيفه يمنعه، وبمكة مثل ذلك» وفي البخاري والترمذي حديث «المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى» .
وروى أحمد ورجاله ثقات وابن شبة برجال الصحيح حديث «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون» ، وروى أحمد مرسلا وابنه متصلا وكذا الطبراني ورجاله ثقات حديث «ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل خرج من بعض الأرياف، حتى إذا كان قريبا من المدينة ببعض الطريق أصابه الوباء؛ ففزع الناس؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني لأرجو ألايطلع علينا نقابها» يعني: المدينة؛ ونقابها وأنقابها:
طرقها وفجاجها؛ واحدها نقب، بكسر النون.
وقوله في الرواية المتقدمة «فلا يقربها الدجال ولا الطاعون» فيقتضي جواز دخول الطاعون المدينة، ويرده الجزم في سائر الأحاديث، والصواب حفظها منه كما هو المشاهد.
وقد استشكل قرن الدجال بالطاعون مع أن الطاعون شهادة ورحمة فكيف يتمدح بعدمه؟
والجواب من وجوه: أحدها: أن كونه كذلك ليس لذاته، وإنما المراد ترتب ذلك عليه، وقد ثبت تفسيره من رواية أحمد «بوخز أعدائكم من الجن» ؛ فيكون الإشارة بذلك إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من الطعن، كما أن الدجال ممنوع منها، ألا ترى أن قتل الكافر المسلم شهادة، ولو ثبت لمحل أن الكفار لا تسلط عليه لحاز بذلك غاية الشرف، ثانيها: أن أسباب الرحمة لم تنحصر في الطاعون، وقد عوضهم صلّى الله عليه وسلّم عنه الحمى حيث اختارها عندما عرضا عليه كما تقدم، وهي مطهرة للمؤمن وحظه من النار، والطاعون يأتي في بعض الأعوام، والحمى تتكرر في كل حين، فيتعادلان، وفيه نظر؛ لأن تكثير أسباب الرحمة مطلوب، ولأنه لا يدفع إشكال التمدح بعدمه، ثالثها: أنه وإن اشتمل(1/57)
على الرحمة والشهادة فقد ورد أن سببه أشياء تقع من الأمة كظهور بعض المعاصي، وقد روى أحمد بأسانيد حسان وصحاح عن شرحبيل بن حسنة وغيره «أنه- يعني الطاعون- رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم» وروى أحمد أيضا تفسير كونه دعوة نبيكم عن أبي قلابة بأنه صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه عز وجل ألا يهلك أمته بستة، فأعطيها، وسأله ألا يسلط عليهم عدوّا من غيرهم، فأعطيها، وسأله ألا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، فمنعه، فقال صلّى الله عليه وسلّم في دعائه: فحمى إذا أو طاعونا» كرره ثلاثا؛ فقد تضمن الطاعون نوعا من المؤاخذة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم دعا به ليحصل كفاية إذاقة بعضهم بأس بعض، ويكون هلاكهم حينئذ بسبب لا يعصون به، بل يثابون؛ فحفظ الله تعالى بلد نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الطاعون المشتمل على الانتقام إكراما لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وجعل لهم الحمى المضعفة للأبدان عن إذاقة بعضهم بأس بعض والمطهرة لهم؛ فقوله صلّى الله عليه وسلم «فحمى إذا» أي: للموضع الذي لا يدخله الطاعون، بل عصم منه وهو جواره الشريف، وقوله «أو طاعونا» أي للموضع الذي لم يعصم منه، وهو سائر البلاد، هذا ما ظهر لي في فهم هذه الأحاديث، وهو يقتضي شرف الحمى الواقعة بالمدينة وفضلها؛ لأنها دعوة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ورحمة ربنا أيضا؛ لأنها من لازم دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولأنها جعلت في مقابلة الطاعون الذي هو رحمة لغيرهم؛ فتكون الحمى رحمة لهم؛ فهي غير حمى الوباء الذاهبة من المدينة، رابعها- ذكره الحافظ ابن حجر نقلا عن القرطبي- وهو أن المعنى لا يدخل إلى المدينة من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس «1» ، قال الحافظ ابن حجر: وهو يقتضي أن الطاعون يدخلها في الجملة، وليس كذلك؛ فقد جزم ابن قتيبة وتبعه جمع جم من آخرهم النووي بأن الطاعون لا يدخل المدينة أصلا، ولا مكة أيضا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه دخلها أصلا، ثم ذكر الحافظ ابن حجر الحديث المتقدم المشتمل على ذكر مكة أيضا، ثم قال:
وعلى هذا فالذي نقل أنه وجد بمكة ليس كما ظن ناقله كونه طاعونا، بل وباء، وهو أعم من الطاعون، أو يجاب بجواب القرطبي المتقدم، قال: ولعله بنى جوابه على أن الطاعون ما ينشأ عن فساد الهوى فيقع به الموت الكثير، وليس كذلك؛ ففي الصحيح قول أبي الأسود: قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا؛ فهذا وقع بالمدينة وهو وباء، ولكن الشأن في تسميته طاعونا، قال: والحق أن المراد بالطاعون في هذه الأحاديث الذي ينشأ
__________
(1) عمواس: كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس.(1/58)
عن طعن الجن فيهيج به الدم في البدن فيقتل، فهذا لم يدخل المدينة قط. قلت: نقل الزركشي عن القرطبي أنه فسر الطاعون بالموت العام الفاشي، وهو صريح في أنه أراد ما فهمه عنه الحافظ ابن حجر، ويرده قوله في الحديث المتقدم «حتى إذا كان قريبا من المدينة ببعض الطريق أصابه الوباء فأفزع الناس» فإن المراد فيه بالوباء الطاعون المعروف بعلاماته عندهم، وإلا فموت الشخص الواحد لا يفزع ولا يسمى موتا عاما، ويبعد جعل الموت العام بمجرده شهادة، وقد أخبر بعض الأولياء بمشاهدة الجن يقظة يطعنون الناس في بعض سني الطاعون، ورأيته أنا كذلك مناما، ورأيت أن بيني وبينهم حائلا، فحماني الله منه في تلك السنة، على أنه لو سلّم أن المراد ما ذكره القرطبي فالإشكال المتقدم باق؛ إذ يقال: لم لم يكثر بالمدينة وهو رحمة؟ فالحق ما قدمناه، وهذا- كما قال بعضهم- من المعجزات العظيمة المستمرة التي هي من أعلام نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأن الأطباء بأجمعهم قد عجزوا عن دفع الطاعون عن بلد ما في دهر من الدهور. وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، مع أنه يقع بالحجاز الشريف، ويدخل قرية الينبع وجدة والفرع والصفراء والخيف وغير ذلك من الأماكن القريبة من المدينة، ولا يدخلها هي كما شاهدنا ذلك في طاعون أواخر سنة إحدى وثمانين وثمانمائة مع أوائل التي بعدها؛ فإنه عم أكثر الأماكن القريبة من المدينة، وكثر بجدة، واختلف في دخوله مكة، والذي تحققناه كثرة الموت بها في ذلك الزمان، وكثرت الحمى بالمدينة، لكن لم يكثر بها موت، وبالجملة فهي محفوظة منه أتم الحفظ؛ فلله الحمد والمنة.
الفصل السادس في الاستشفاء بترابها، وبتمرها
، وما جاء فيه
ما جاء في أن ترابه شفاء
روينا في كتاب ابن النجار والوفاء لابن الجوزي حديث «غبار المدينة شفاء من الجذام» وفي جامع الأصول لابن الأثير وبيّضا لمخرجه عن سعد رضي الله عنه قال: «لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك تلقاه رجال من المخلّفين من المؤمنين، فأثاروا غبارا، فخمر- أو فغطى- بعض من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنفه، فأزال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللثام عن وجهه، وقال: والذي نفسي بيده إن في غبارها شفاء من كل داء» قال: وأراه ذكر «ومن الجذام والبرص» وقد أورده كذلك رزين العبدري في جامعه، وهو مستند ابن الأثير في إيراده، قال الحافظ المنذري: ولم أره في الأصول.(1/59)
الاستشفاء بتراب صعيب
وروى ابن رزين أيضا عن ابن عمر نحوه، إلا أنه قال: «فمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده فأماطه عن وجهه، وقال: أما علمت أن عجوة المدينة شفاء من السقم، وغبارها شفاء من الجذام» ورواه ابن زبالة مختصرا عن صيفي بن أبي عامر، ولفظه «والذي نفسي بيده إن تربتها لمؤمنة، وإنها شفاء من الجذام» وروي أيضا عن أبي سلمة: بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«غبار المدينة يطفي الجذام» . قلت: وقد رأينا من استشفى بغبارها من الجذام، وكان قد أضرّ به كثيرا؛ فصار يخرج إلى الكومة البيضاء ببطحان بطريق قباء ويتمرغ بها ويتخذ منها في مرقده، فنفعه ذلك جدّا. وروى ابن زبالة ويحيى بن الحسن بن جعفر العلوي وابن النجار كلاهما من طريقه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى بلحارث، فإذا هم روبى «1» ، فقال: ما لكم يا بني الحارث روبى؟ قالوا: أصابتنا يا رسول الله هذه الحمى، قال: فأين أنتم عن صعيب؟
قالوا: يا رسول الله ما نصنع به؟ قال: تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء، ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: بسم الله، تراب أرضنا، بريق بعضنا، شفاء لمريضنا، بإذن ربنا، ففعلوا، فتركتهم الحمى» قال ابن النجار عقبه: قال أبو القاسم طاهر بن يحيى العلوي: صعيب:
وادي بطحان دون الماجشونية، وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه، وهو اليوم إذا وبأ إنسان أخذ منه. قلت: قد رأيت ذلك في نسخة كتاب يحيى التي رواها ابنه طاهر بن يحيى عنه، والماجشونية هي الحديقة المعروفة اليوم بالمدشونية، وقال ابن النجار عقبه: وقد رأيت أنا هذه الحفرة اليوم، والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم قد جربوه فوجدوه صحيحا، قال:
وأخذت أنا منه أيضا. قلت: وهذه الحفرة موجودة اليوم، مشهورة سلفا عن خلف، يأخذ الناس منها وينقلونه للتداوي، وقد بعثت منها لبعض الأصحاب أخذا مما ذكروه في أخذ نبات الحرم للتداوي، ثم رأيت الزركشي قد قال: ينبغي أن يستثنى من منع نقل تراب الحرم تربة حمزة رضي الله عنه؛ لإطباق السلف والخلف على نقلها للتداوي من الصداع، فقلت عند الوقوف عليه: أين هو من تراب صعيب لما قدمناه فيه؟ بخلاف ما ذكره إذ لا أصل له، وذكر المجد أن جماعة من العلماء ذكروا أنهم جربوا تراب صعيب للحمى فوجدوه صحيحا، قال: وأنا بنفسي سقيته غلاما لي مريضا من نحو سنة تواظبه الحمى، فانقطعت عنه من يومه، وذكر المجد أيضا في موضع آخر كيفية الاستشفاء به أنه يجعل في الماء ويغتسل به، وكذا ذكره الجمال المطري عند ذكر صعيب فقال: وفيه حفرة يؤخذ من ترابها ويجعل في الماء ويغتسل به من الحمى. قلت: فينبغي أن يجعل في الماء ثم يتفل عليه، وتقال الرقية الواردة، ثم يجمع بين الشرب والغسل منه، ويستأنس للغسل بما رويناه عن جزء وأبي مسعود بن
__________
(1) روبى: (ج) روبان: من فترت نفسه من نعاس ومرض، فاختلط عقله ورأيه من شدة الإعياء.(1/60)
الفرات الرازي عن ثابت بن قيس «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاده وهو مريض فقال: أذهب الباس ربّ الناس «1» ، عن ثابت بن قيس بن شماس، ثم أخذ كفا من بطحاء، فجعله في قدح من ماء، ثم أمر فصب عليه» وفي الصحيحين حديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال بأصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها، وقال: بسم الله، تربة أرضنا، بريق بعضنا، يشفي سقيمنا، بإذن ربنا» ورواه أبو داود بنحوه، وفي رواية «يقول بريقه، ثم قال به في التراب: تربة أرضنا» وروى ابن زبالة «أن رجلا أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبرجله قرحة، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرف الحصير، ثم وضع أصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعدما مسها بريقه، وقال: بسم الله، ريق بعضنا، بتربة أرضنا، ليشفي سقيمنا، بإذن ربنا، ثم وضع أصبعه على القرحة، فكأنما حل من عقال» وروى أيضا حديث «تراب أرضنا، شفاء لقرحنا، بإذن ربنا» وأن أم سلمة كانت تنعت من القرحة تراب الضبة.
ما جاء في أن تمرها شفاء
وفي مسلم حديث «من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره شيء حتى يمسي» وفي الصحيحين حديث «من تصبّح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر» ورواه أحمد برجال الصحيح بلفظ «من أكل سبع تمرات عجوة مما بين لابتي المدينة على الريق لم يضره يومه ذلك شيء حتى يمسي» قال فليح: وأظنه قال «وإن أكلها حين يمسي لم يضره شيء حتى يصبح» ورواه ابن زبالة بلفظ «من تصبح بسبع تمرات من العجوة» لا أعلمه إلا قال «من العالية لم يضره يومئذ سم ولا سحر» وفي صحيح مسلم حديث «إن في عجوة العالية شفاء، أو إنها ترياق أول البكرة» وروى أحمد برجال الصحيح حديثا فيه «واعلموا أن الكمأة دواء العين، وأن العجوة من فاكهة الجنة» وروى النسائي وأبو داود الطيالسي والطبراني في الثلاثة بسند جيد حديث «الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم» وقد صح في سنن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص قال «مرضت مرضا، فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال: إنك رجل مفؤد، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة، فليجأهن «2» ثم ليلدّك بهن» ورواه الطبراني لكن عن سعد بن أبي رافع.
قوله «فليجأهن» أي فليدقهن، قال عياض: وقال ابن الأثير فليجأهن أي: فليدقهن،
__________
(1) الباس: الشدة، والعذاب الشديد. ويضرب لكل شيء يخاف منه الشر.
(2) وجأ التمر: دقّه حتى تلزّج.(1/61)
وبه سميت الوجيئة، وهو تمر يبل بلبن ثم يدق حتى يلتئم «1» ، ومنه الحديث «أنه دعا سعدا فوصف له الوجيئة» وقوله «ثم ليلدك» أي: يسقيك، يقال: لدّه باللّدود، إذا سقاه الدواء في أحد جانبي الفم.
وفي كامل ابن عدي حديث «ينفع من الدؤام أن يأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة كل يوم يفعل ذلك سبعة أيام» وفي غريب الحديث للخطابي عن عائشة رضي الله عنهما «أنها كانت تأمر للدؤام والدوار بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات على الريق» والدؤام والدوار: ما يأخذ الإنسان في رأسه فيدومه، ومنه تدويم الطائر، وهو: أن يستدير في طيرانه، قال الخطابي: كون العجوة عوذة من السم والسحر إنما هو من طريق التبرك بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا لأن طبعها يفعل شيئا، وقال النووي: في تخصيصها دون غيرها وعدد السبع من الأمور التي علمها الشارع، ولا نعلم نحن حكمتها؛ فيجب الإيمان بها، واعتقاد فضلها، وما ذكره المازري والقاضي في هذا باطل، وقصدت بذلك التحذير من الاغترار به، انتهى. وأشار به لقول القاضي في أثناء تعليل ذلك: إنه لتأثير في الأرض أو الهواء، ولقول المازري: لعل ذلك كان لأهل زمنه صلّى الله عليه وسلّم خاصة، أو لأكثرهم؛ إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زمننا غالبا، وإن وجد ذلك في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب الحال، انتهى.
وقد جعله ابن التين احتمالا، وزاد عليه آخر أعجب منه، فقال: يحتمل أن يكون المراد نخلا خاصّا من المدينة لا يعرف الآن، ويحتمل: أن يكون ذلك خاصّا بزمانه صلّى الله عليه وسلّم انتهى.
وهو مردود؛ لأن سوق الأحاديث وإيراد العلماء لها وإطباق الناس على التبرك بعجوة المدينة وتمرها يرد التخصيص بزمنه صلّى الله عليه وسلّم مع أن الأصل عدمه، ولم تزل العجوة معروفة بالمدينة يأثرها الخلف عن السلف، يعلمها كبيرهم وصغيرهم علما لا يقبل التشكيك.
وقال الداودي: هي من أوسط التمر كما هو المشاهد اليوم. وقال غيره: هي من أجود تمر المدينة، ومراده أنها ليست من رديه. وقال ابن الأثير: العجوة ضرب من التمر أكبر من الصّيحاني يضرب إلى السواد، وهو مما غرسه النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده بالمدينة.
وذكر هذا الأخير البزار أيضا، فلعل الأوداء «2» التي كاتب سلمان الفارسي أهله عليها وغرسها صلّى الله عليه وسلّم بيده الشريفة بالفقير أو غيره من العالية كانت عجوة، والعجوة «3» توجد بالفقير
__________
(1) الوجيئة: تمر يدق حتى يخرج نواه، ثم يبل بلبن أو سمن حتى يلزم بعضه بعضا، ثم يؤكل.
(2) الأوداء: صغار الفسيل.
(3) العجوة: ضرب من أجود التمر بالمدينة.(1/62)
إلى يومنا هذا، ويبعد أن يكون المراد أن هذا النوع إنما حدث بغرسه صلّى الله عليه وسلّم وأن جميع ما يوجد منه من غرسه كما لا يخفى.
وروى ابن حبان عن ابن عباس ل «كان أحب التمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العجوة» وفي حديث ضعيف «خير تمركم البرني، يخرج الداء، ولا داء فيه» ورواه ابن شبة بنحوه خطابا لوفد عبد القيس في ثمارهم، وكذا الحاكم في مستدركه، وفي مسلم حديث «يا عائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله» قالها مرتين أو ثلاثا، وفيه أيضا حديث «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر» وفي الكبير والصغير للطبراني ورجال الصغير رجال الصحيح عن ابن عباس «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بالباكورة من الثمار وضعها على عينيه ثم قال: اللهم كما أطعمتنا أوله فأطعمنا آخره، ثم يأمر به للمولود من أهله» ولفظ الكبير «كان إذا أتى بالباكورة من التمر قبّلها وجعلها على عينيه» الحديث، وفي نوادر الحكيم الترمذي عن أنس بن مالك قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى بالباكورة من كل شيء قبّلها ووضعها على عينه اليمنى ثلاثا، ثم على عينه اليسرى ثلاثا، ثم يقول: اللهم» الحديث بنحوه.
وروى البزار بسند فيه ضعيف حديث «يا عائشة إذا جاء الرطب فهنيني» ورويناه في الغيلانيات، وفيها أيضا حديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يفطر على الرطب في أيام الرطب، وعلى التمر إذا لم يكن رطب، ويختم بهن، ويجعلهن وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا» وفيها حديث «كلوا التمر على الريق؛ فإنه يقتل الدود» .
وأنواع تمر المدينة كثيرة، ذكرنا ما أمكن جمعه منها في الأصل فبلغ مائة وبضعا وثلاثين نوعا: منها النوع المسمى بالصّيحاني، وقد أسند الصدر إبراهيم بن محمد بن مؤيد الحموي في كتابه فضل أهل البيت عن جابر رضي الله عنه قال «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما في بعض حيطان المدينة، ويد علي في يده، قال: فمررنا بنخل، فصاح النخل: هذا محمد سيد الأنبياء، وهذا علي سيد الأولياء أبو الأئمة الطاهرين، ثم مررنا بنخل فصاح النخل: هذا محمد رسول الله، وهذا علي سيف الله، فالتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى علي، فقال له: يا علي سمّه الصيحاني، فسمي من ذلك اليوم الصيحاني» وهو حديث غريب؛ فكان هذا سبب تسمية ذلك النوع بهذا الاسم؛ لأن تلك النخلات كانت منه، ويحتمل أن يكون المراد تسمية ذلك الحائط بهذا الاسم، وبالمدينة اليوم موضع بجفاف يعرف بالصيحاني.
وروى بعضهم هذا الحديث عن علي بألفاظ فيها نكارة، وفي آخره «يا علي سمّ نخل المدينة صيحانيا لأنهن صحن بفضلي وفضلك» .(1/63)
الفصل السابع في سرد خصائصها
وهي كثيرة لا تكاد تنحصر، وها أنا ذاكر ما حضرني منها الآن وإن شاركتها مكة في بعضه، فأقول وبالله التوفيق:
الخاصة الأولى: ما تقدمت الإشارة إليه من كونه صلّى الله عليه وسلّم خلق من طينتها،
وكذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأكثر الصحابة والسلف ممن دفن بها وروى أن الله تعالى بعث جبريل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض بقدميه، فصار بعض الأرض بين قدميه وبعض الأرض موضع أقدامه، فخلقت النفس مما مس قدم إبليس؛ فصارت مأوى الشر، ومن التربة التي لم يصل إليها قدم إبليس أصل الأنبياء والأولياء.
قال في العوارف: وكانت درة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موضع نظر الله تعالى من قبضة عزرائيل لم يمسها قدم إبليس.
وقيل: لما خاطب الله السموات والأرض بقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت:
11] الآية أجاب من الأرض موضع الكعبة ومن السماء ما يحاذيها.
وعن ابن عباس: أصل طينة النبي صلّى الله عليه وسلّم من سرة الأرض بمكة، يعني الكعبة، وهو مشعر بأن ما أجاب من الأرض درته صلّى الله عليه وسلّم ومن الكعبة دحيت الأرض؛ فصار صلّى الله عليه وسلّم هو الأصل في التكوين.
قال في العوارف عقبه: وتربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى ذلك أن يكون مدفنه هناك، لكن قيل: لما تموج الماء رمى الزبد إلى النواحي، فوقعت جوهرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يحاذي تربته الشريفة بالمدينة، فكان مكيا مدنيا.
قلت: فلمكة الفضل بالبداية، وللمدينة بالاستقرار والنهاية.
الثانية: اشتمالها على البقعة التي انعقد الإجماع على تفضيلها على سائر البقاع،
كما تقدم تحقيقه.
الثالثة: دفن أفضل الأمة بها
والكثير من الصحابة الذين هم خير القرون.
الرابعة: أنها محفوفة بأفضل الشهداء
الذين بذلوا نفوسهم في ذات الله بين يدي نبيه صلّى الله عليه وسلّم؛ فكان شهيدا عليهم.
ونقل عياض في المدارك وابن الجوزي في منسكه أن مالكا كان يقول في فضل المدينة: هي دار الهجرة والسنة، وهي محفوفة بالشهداء، وبها خيار الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(1/64)
الخامسة: أن الله تعالى اختارها دارا وقرارا لأفضل خلقه
وأكرمهم عليه صلّى الله عليه وسلّم.
السادسة: أن الله تعالى اختار أهلها للنصرة والإيواء.
السابعة: أن سائر البلاد افتتحت بالسيف، وافتتحت هي بالقرآن،
كما هو مروي عن مالك، ورفعه ابن زبالة من طريقه.
الثامنة: أن الله تعالى افتتح منها سائر بلاد الإسلام،
حتى مكة المشرفة، وجعلها مظهر دينه القويم.
التاسعة: ما ذكره عياض من الاتفاق على وجوب الهجرة إليها قبل فتح مكة،
ووجوب سكناها لنصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومواساته بالأنفس، قال ومن هاجر قبل الفتح فالجمهور على منعه من الإقامة بمكة بعد الفتح، ورخص له في الإقامة ثلاثة أيام بعد قضاء نسكه.
العاشرة: أنه يبعث أشراف هذه الأمة يوم القيامة منها،
على ما نقله عياض في المدارك عن مالك في ضمن أشياء في فضل المدينة، قال وهذا لا يقوله مالك من عند نفسه.
الحادية عشرة: ما تقدم في الأسماء من تسميتها بالمؤمنة والمسلمة،
وإن ترتبتها لمؤمنة، وأنه لا مانع من أن الله خلق ذلك فيها.
الثانية عشرة: إضافتها إلى الله تعالى
في قوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً [النساء 97] على ما تقدم في الأسماء، وقد جاءت الأرض غير مضافة إلى الله تعالى والمراد بها مكة، وذلك في قوله تعالى وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال 26] .
الثالثة عشرة: إضافة الله إياها إلى رسوله بلفظ البيت
في قوله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال 5] على ما تقدم في الأسماء.
الرابعة عشرة: إقسام الله تعالى بها
في قوله لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد 1] على ما سبق في الأسماء، أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بك، و «لا» زائدة للتأكيد، ويدل عليه قراءة الحسن والأعمش «لأقسم» .
الخامسة عشرة: أن الله بدأ بها
في قوله وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء 80] فمدخل صدق هي، ومخرجه مكة كما تقدم، مع أن القياس البداءة بالمخرج لموافقة الواقع. فإن قيل التقديم للاهتمام بأمر المدخل، قلنافي الاهتمام به كفاية.
السادسة عشرة: تسميتها في التوراة بالمرحومة ونحوه،
ومخاطبة الله إياها كما تقدم.(1/65)
السابعة عشرةدعاؤه صلّى الله عليه وسلّم بحبها كمكمة وأشد، وتسميتها بالحبيبة وغيره مما تقدم، ودعاؤه أن يجعل الله له بها قرارا ورزقا حسنا.
الثامنة عشرة: تحريكه صلّى الله عليه وسلّم دابته أو إيضاعها إذا أبصر جدرانها عند قدومها،
وأنه كان إذا أقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه عن منكبيه وقال «هذه أرواح طيبة» كما تقدم.
التاسعة عشرة: اهتمامه صلّى الله عليه وسلّم بأمر الدعاء لها
بالبركة وغير ذلك.
العشرون: تحريمها على لسان أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه إكراما له،
وكونه لا جزاء فيها على القول به دليل عظيم حرمتها حيث لم يشرع فيها جابر.
الحادية والعشرون تأسيس مسجدها الشريف على يده صلّى الله عليه وسلّم وعمله فيه بنفسه، ومعه خير الأمة المهاجرون الأولون والأنصار المقدمون.
الثانية والعشرون: اختصاصها بالمسجد
الذي أنزل الله فيه لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة 108] .
الثالثة والعشرون: كون ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة،
وفي رواية «ما بين منبري وهذه الحجر» يعني حجره صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي بيان أن ذلك يعم مسجده صلّى الله عليه وسلّم على ما هو المشهور بين الناس في تحديد المسجد الشريف؛ ولهذا قال بعضهم هذا المسجد هو المسجد الذي لا تعرف بقعة في الأرض من الجنة غيره.
الرابعة والعشرون: كون منبره الشريف على ترعة من ترع الجنة،
وأن قوائمه رواتب في الجنة، وفي رواية «ومنبري على حوضي» .
الخامسة والعشرون: ما ورد في مسجده الشريف من المضاعفة الآتي بيانها.
السادسة والعشرون: حديث «من صلّى في مسجدي هذا أربعين صلاة كتب له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبرئ من النفاق»
رواه الطبراني في الأوسط.
السابعة والعشرون: ما سيأتي أن من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة فيه كان بمنزلة حجة،
وأن الخارج إليه من حين يخرج من منزله فرجل تكتب حسنة ورجل تحط خطيئة.
الثامنة والعشرون: أن إتيان مسجد قباء يعدل عمرة
كما سيأتي.
التاسعة والعشرون: حديث «صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها، وصلاة الجمعة في المدينة كألف صلاة فيما سواها»
فسائر أفعال البر كذلك كما قيل به في مكة، وبه صرح أبو سليمان داود الشاذلي في الانتصار، ثم رأيته في الإحياء، قال إن الأعمال في المدينة تتضاعف، قال صلّى الله عليه وسلّم «صلاة في مسجدي هذا» الحديث، ثم قال فكذلك كل عمل بالمدينة بألف انتهى، وقال ابن الرفعة في المطلب وقد ذهب(1/66)
بعض العلماء إلى أن الصيام بالمدينة أفضل من الصلاة، والصلاة بمكة أفضل من الصيام، مراعاة لنزول فرضيتهما، انتهى.
قلت: ويؤخذ من هذه العلة أن كل عبادة شرعت بالمدينة فهي بها أفضل منها بمكة، ولك أن تعد هذا خاصة مستقلة.
الثلاثون: حديث «لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق» .
الحادية والثلاثون: تأكد التعلم والتعليم بمسجدها
كما سيأتي.
الثانية والثلاثون: اختصاصه بمزيد الأدب وخفض الصوت؛
لكونه بحضرة سيد المرسلين، واختصاصه عند بعضهم بمنع أكل الثوم ونحوه من دخوله؛ لاختصاصه بملائكة الوحي.
الثالثة والثلاثون: أنه لا يجتهد في محرابه؛ لأنه صواب قطعا؛
فلا مجال للاجتهاد فيه حتى باليمنة واليسرة، بخلاف محاريب المسلمين، والمراد مكان مصلاه صلّى الله عليه وسلّم قال الرافعي وفي معناه سائر البقاع التي صلّى فيها صلّى الله عليه وسلّم إذا ضبط المحراب، قلت وفي ضبطه بغيرها عسر أو تعذر.
الرابعة والثلاثون: أن ما بين منبره صلّى الله عليه وسلّم ومسجد المصلى روضة من رياض الجنة،
وهذا جانب كبير من هذه البلدة.
الخامسة والثلاثون: حديث «أحد على ترعة من ترع الجنة»
وحديث «أحد جبل يحبنا ونحبه» .
السادسة والثلاثون: حديث «إن بطخان على ترعة من ترع الجنة» .
السابعة والثلاثون: وصف العقيق بالوادي المبارك،
وأنه صلّى الله عليه وسلّم يحبه، وفي رواية «يحبنا ونحبه» .
الثامنة والثلاثون: حثه صلّى الله عليه وسلّم على الإقامة بها.
التاسعة والثلاثون: حثه على اتخاذ الأصل بها.
الأربعون: حثه على الموت بها،
والوعد على ذلك بالشفاعة أو الشهادة أو هما.
الحادية والأربعون: حرصه صلّى الله عليه وسلّم على موته بها.(1/67)
الثانية والأربعون: كون أهلها أول من يشفع لهم،
واختصاصهم بمزيد الشفاعة والإكرام كما تقدم.
الثالثة والأربعون: بعث الميت بها من الآمنين
على ما سيأتي.
الرابعة والأربعون: أنه يبعث من بقيعها سبعون ألفا على صورة القمر يدخلون الجنة بغير حساب،
ومثله في مقبرة بني سلمة، وتوكل ملائكة بمقبرة البقيع كلّما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفؤها في الجنة.
الخامسة والأربعون: بعث أهلها من قبورهم قبل سائر الناس.
السادسة والأربعون: شهادته- أو شفاعته- صلّى الله عليه وسلّم لمن صبر على لأوائها وشدتها.
السابعة والأربعون: وجوب شفاعته صلّى الله عليه وسلّم لمن زاره بها.
الثامنة والأربعون: استجابة الدعاء بها عند القبر الشريف،
ويقال إنه مستجاب عند الأسطوان المخلق، وعند المنبر، وفي زاوية دار عقيل بالبقيع، وبمسجد الفتح بعد صلاة الظهر يوم الأربعاء، واستجابة الدعاء بمسجد الإجابة ومسجد السقيا وبالمصلى عند القدوم، وعند بركة السوق في يوم العيد، وعند أحجار الزيت وبالسوق، لما سيأتي عند ذكر هذه الأماكن من ورود ذلك عنه صلّى الله عليه وسلّم بها.
التاسعة والأربعون: كونها تنفي خبثها.
الخمسون: كونها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة.
الحادية والخمسون: الوعيد الشديد لمن ظلم أهلها أو أخافهم.
الثانية والخمسون: من أرادها وأهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء،
وفي رواية أذابه الله في النار، ويؤخذ من ترتيب الوعيد على الإرادة مساواة المدينة لحرم مكة في هذا، وفيه قال تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحج 25] الآية، ويتمسك للمساواة أيضا بقوله صلّى الله عليه وسلّم «كما حرم إباهيم مكة» فقول ابن مسعودما من بلدة يؤاخذ العبد فيها بالهم قبل الفعل إلا مكة وتلا الآية مشكل، وأيضا فالهم العارض الوارد من غير عزم لا مؤاخذة به مطلقا بالاتفاق، وأما الثابت الذي يصحبه التصميم فالعبد مؤاخذ به بمكة وبغيرها، وإنما خصوصية الحرم تعظيم العذاب لمن همّ فيه لجرأته؛ ولذا روى أحمد في معنى الآية بإسناد صحيح مرفوعا «لو أن رجلا همّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذابا أليما» .
الثالثة والخمسون: الوعيد الشديد لمن أحدث بها حدثا أو آوى محدثا،
وتقدم تفسير الحديث بالإثم مطلقا، وأنه دال على أن الصغيرة بها كبيرة؛ وللوعيد الشديد في ذلك؛(1/68)
لأنها حضرة أشرف المرسلين صلّى الله عليه وسلّم وسوء الأدب على بساط الملك ليس كالإساءة في أطراف المملكة.
قال بعض السلف: إياك والمعصية فإن عصيت ولا بد فليكن في مواضع الفجور، لا في مواضع الأجور؛ لئلا يتضاعف عليك الوزر، أو تعجل لك العقوبة.
فإن قيل هذا قول بتضعيف السيئات في الحرم، والراجح خلافه؛ لقوله تعالى:
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام: 160] .
قلنا: تحرير النزاع أن القائل بالمضاعفة أراد مضاعفة مقدارها: أي: عظمها، لا العدد، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن السيئات قد تتفاوت عقوبتها باختلاف الأشخاص والأماكن، كما أن تقدير كل أحد بما يليق به في الزجر، فجزء السيئة مثلها، ومن المماثلة رعاية ما اقترن بها مما دل على جرأة مرتكبها، ولا تكتب إلا واحدة، والله أعلم.
الرابعة والخمسون: الوعيد لمن لم يكرم أهلها وأن إكرامهم وحفظهم حق على الأمة،
وأنه صلّى الله عليه وسلّم شفيع- أو شهيد- لمن حفظهم فيه.
الخامسة والخمسون: حديث «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ» .
السادسة والخمسون: حديث «من غاب عن المدينة ثلاثة أيام جائها وقلبه مشرب جفوة» »
وإنه «لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله تعالى فيها خيرا منه» كما في حديث مسلم، قال المحب الطبري: فيه إشعار بذم الخروج منها، وذهب بعضهم إلى أنه مخصوص بمدة حياته صلّى الله عليه وسلّم فأما بعد وفاته فقد خرج نفر كثير من كبار الصحابة، وذهب آخرون إلى أنه عام أبدا، قال الطبري: وهو ظاهر اللفظ، نعم هو مخصوص بالمستوطن، لا من نوى الإقامة بها مدة ثم ينقلب إلى وطنه.
السابعة والخمسون: إكرام الله لها بنقل وبائها وتحويل حماها.
الثامنة والخمسون: الاستشفاء بترابها،
وما تقدم في ثمارها.
التاسعة والخمسون: عصمتها من الطاعون.
الستون: عصمتها من الدجال،
وخروج الرجل الذي هو خير الناس- أو من خير الناس- إليه منها، وقوله له: أشهد أنك الدجال، وأنه لا يسلّط عليه باخرة الأمر، وبهذا تتميز على مكة، والسر فيه أن سيد المرسلين- وهو حجة الله على العباد- بالمدينة.
الحادية والستون: ما في حديث الطبراني من قوله صلّى الله عليه وسلّم «وحق على كل مسلم زيارتها» .
الثانية والستون: سماعه صلّى الله عليه وسلّم سلام من سلّم وصلاة من صلّى عليه عند قبره الشريف،
ورده عليه.
__________
(1) مشرب الرجل: ميله وهواه.(1/69)
الثالثة والستون: اختصاصها بملك الإيمان والحياء،
كما تقدم في الأسماء.
الرابعة والستون: كون الإيمان يأزر إليها.
الخامسة والستون: اشتباكها بالملائكة وحراستهم لها.
السادسة والستون: كونها أول أرض اتخذ بها مسجد لعامة المسلمين في هذه الأمة.
السابعة والستون: كون مسجدها آخر مساجد الأنبياء،
وآخر المساجد التي تشد إليها الرحال، وكونه أحق المساجد أن يزار كما سيأتي.
الثامنة والستون: كثرة المساجد والمشاهد والآثار بها،
بل البركة عامة منبثة بها، ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا يعني المدينة أو بمكة؟ فقال: هاهنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة؟
التاسعة والستون: ما يوجد بها من رائحة الطيب الزكية،
على ما تقدم في الأسماء.
السبعون: طيب العيش بها،
على ما تقدم هناك أيضا.
الحادية والسبعون: استحقاق من عاب تربتها للتعزير؛
فقد أفتى مالك فيمن قال «تربة المدينة رديئة» بأن يضرب ثلاثين درة، وأمر بحبسه، وكان له قدر، وقال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم يزعم أنها غير طيبة؟
الثانية والسبعون: الوعيد الشديد لمن حلف يمينا فاجرة عند منبرها.
الثالثة والسبعون: استحباب الدخول لها من طريق والرجوع في أخرى،
لما سيأتي في مسجد المعرّس «1» .
الرابعة والسبعون: استحباب الاغتسال لدخولها.
الخامسة والسبعون: استحباب الدعاء والطلب من الله الموت بها.
السادسة والسبعون: أنها دار إسلام أبدا؛
لحديث «إن الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا» .
السابعة والسبعون: أنها آخر قرى الإسلام خرابا،
رواه الترمذي وقال: حسن غريب، ورواه ابن حبان بلفظ «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة» .
الثامنة والسبعون: تخصيص أهلها بأبعد المواقيت وأفضلها؛
تعظيما لأجورهم.
التاسعة والسبعون: ذهب بعض السلف إلى تفضيل البداءة بالمدينة قبل مكة،
وهي مسألة عزيزة، وممن نص عليها ابن أبي شيبة في مصنفه فروى عن علقمة والأسود وعمرو بن ميمون أنهم بدؤوا بالمدينة قبل مكة، وأن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا
__________
(1) المعرّس: المكان ينزل فيه المسافر آخر الليل.(1/70)
يبدؤون بالمدينة، وفي المناسك الكبير للإمام أحمد رواية ابنه عنه: سئل عمن يبدأ بالمدينة قبل مكة، فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد قالوا: إذا أردت مكة فلا تبدأ بالمدينة وابدأ بمكة، فإذا قضيت حجك فامرر بالمدينة إن شئت، وعن إبراهيم النخعي ومجاهد: إذا أردت مكة للحج والعمرة فاجعل كل شيء لها تبعا، ثم روى أن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يبدؤون بالمدينة إذا حجوا، يقولون: نبدأ من حيث أحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: وهذا أرجح؛ لتفضيل ميقات المدينة، وإتيان المدينة أولا وصلة إليه، مع ما فيه من البداءة بزيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإيثارها، ولعله السبب عند من بدأ بالمدينة ممن تقدم ذكره من التابعين كما قال السبكي. ونقل الزركشي عن العبدي شارح الرسالة من المالكية أنه قال: المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس، انتهى. والخلاف فيما إذا لم تكن المدينة على طريقه؛ لأن مأخذ من رجّح البداءة بمكة المبادرة إلى قضاء الفرض، ولهذا قال الموفق ابن قدامة: قال أحمد: وإذا حج الذي لم يحج قط- يعني من غير طريق الشام- لا يأخذ على طريق المدينة؛ لأني أخاف أن يحدث به حدث، فينبغي أن يقصد مكة من أقصر الطرق ولا يتشاغل بغيره، قال السبكي: وهو في العمرة متجه؛ لإمكان فعلها متى وصل، وأما الحج فله وقت مخصوص فإذا كان متسعا لم يفت بمروره بالمدينة شيء. قلت: ومع ذلك فهو في الفرض، ولهذا قال في الفصول: نقل صالح وأبو طالب: إذا حج للفرض لم يمر بالمدينة؛ لأنه إن حدث به حدث الموت كان في سبيل الحج، وإن كان تطوعا بدأ بالمدينة، انتهى. وممن نص على المسألة أيضا الإمام أبو حنيفة على ما نقله أبو الليث السمرقندي، وقال: إن الأحسن البداءة بمكة.
الثمانون: اختصاص أهلها في قيام رمضان بستّ وثلاثين ركعة،
على المشهور عند الشافعية، قال الرافعي والنووي: قال الشافعي: رأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر، قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة ذلك؛ لشرفهم بمهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقبره، ثم قال الرافعي: وسبب فعل أهل المدينة ذلك أن الركعات العشرين خمس ترويحات، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعا، ويصلون ركعتي الطواف أفرادا، وكانوا لا يفعلون ذلك بين الفريضة والتراويح ولا بين التراويح والوتر، فأراد أهل المدينة أن يساووهم في الفضيلة، فجعلوا مكان كل أسبوع- أي: مع كل ركعتيه- ترويحة؛ فحصل أربع ترويحات هي ستة عشر ركعة، انتهى.
ونقل الروياني في البحر هذا السبب عن الشافعي. وقال القاضي أبو الطيب الطبري:(1/71)
قال الشافعي: لا يجوز لغير أهل المدينة أن يماروا أهل مكة ولا ينافسوهم لأن الله فضّلهم على سائر البلاد، انتهى. وحاصل التوجيه أن الحسد في الخير مطلوب، وهو في الحقيقة غبطة كما حسد المهاجرون- لما لم يكن لهم ما يتصدقون به- الأنصار فقالوا: ذهب أهل الدثور بالأجور «1» ، فأثبت أهل المدينة هذا العدد بضرب من الاجتهاد ليلحقوا بأهل مكة، وقد تشارك البلدان في الفضائل حتى اختلف في تفضيل كل منهما على الآخرى، وجعل لأهل المدينة ما يحصل به ثواب الاعتمار والحج، وامتازت المدينة بالمهاجر والقبر، فجعل لأهلها طريق إلى تحصيل تلك الفضيلة السابقة مع إقامتهم بها، ولعله لو لم يشرع لهم ذلك لحملتهم الرغبة في الخير على الانتقال إلى مكة، وسكنى المدينة مطلوب، وأما غيرهم فليس له شيء من هذا الفضل، فكيف يتأتى له مساواة أهل مكة؟ فلم يشرع لهم ذلك، هذا وإجماع أهل المدينة حجة عند مالك، والقيام بهذا العدد بالمدينة باق إلى اليوم إلا أنهم يقومون بعشرين ركعة عقب العشاء، ثم يأتون آخر الليل فيقومون بستة عشر ركعة، فوقع لهم خلل في أمر الوتر نبّهنا عليه في كتاب «مصابيح القيام، في شهر الصيام» وكنت قد ذكرت لهم ما يحصل به إزالة ذلك، ففعلوه مدة، ثم غلبت الحظوظ النفسية على بعضهم فعاد الأمر كما كان.
الحادية والثمانون: زيادة البركة بها، على مكة المشرفة،
وقد قدمنا حديثا يشير إلى أن المدعو به لها ستة أضعاف ما بمكة من البركة، والمصرح به في الأحاديث «ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» وفي بعضها «مثل ما جعلت بمكة من البركة ومع البركة بركتين» .
الثانية والثمانون: نقل عن مالك أن خبر الواحد إذا عارضه إجماع أهل المدينة قدم إجماعهم،
ولهذا روي حديث خيار المجلس ثم قال: وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به؛ لما اختص به أهل المدينة من سكناهم مهبط الوحي ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ، فمخالفتهم تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل من ناسخ أو دليل راجح، والمحققون على أن البقاع لا أثر لها في ذلك، وقد بلغ ابن أبي ذئب- وهو من أقران مالك- مخالفته للحديث فأغلظ في ذلك لأن العصمة إنما تثبت في إجماع جميع الأمة، ويؤخذ من كلام مالك اختصاص ذلك بعمل أهل ذلك العصر من أهل المدينة.
__________
(1) أهل الدثور: أصحاب الأموال الكثيرة.(1/72)
الثالثة والثمانون: حديث النسائي والبزار والحاكم واللفظ له «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة»
وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد كان ابن عيينة يقول: نرى هذا العالم مالك بن أنس، انتهى. قال الزركشي:
وفيما حكاه عن سفيان نظر؛ لما في صحيح ابن حبان أن إسحاق بن موسى قال: بلغني عن ابن جريح أنه كان يقول: نرى أنه مالك بن أنس، فذكرت ذلك لسفيان بن عيينة فقال:
إنما العالم من يخشى الله، ولا نعلم أحدا كان أخشى لله من العمري، قال التوربشتي في شرح المصابيح: يعني عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، كان من عباد الله الصالحين المشائين في بلاده وعباده بالنصيحة. بلغنا أنه كان يخرج إلى البادية ليتفقد أهلها شفقة عليهم وأداء الحق النصيحة فيهم، وقد أخرج الترمذي الحديث وحسّنه، وتكلم ابن حزم فيه، ثم قال: ولم يتعين هذا في مالك؛ لأنه كان في عصره جماعة لا يفضل على واحد منهم، وكان بالمدينة من هو أجل منه كسعيد بن المسيب؛ فهذا الحديث أولى به. وقال ابن عيينة: ولو سئل أيّ الناس أعلم؟ لقالوا: سفيان الثوري، قال ابن حزم: وإن صح هذا الحديث فإنما إذا قرب قيام الساعة وأرز الإيمان إلى المدينة وغلب الدجال على الأرض خلا مكة والمدينة، وأما حتى الآن فلم يأت صفة ذلك الحديث؛ لأن الفقه انقطع من المدينة جملة، واستقر في الآفاق، انتهى. ولا يخلو عن نزاع.
الرابعة والثمانون: تحريم نقل أحجار حرمها وترابه
كما سيأتي بيانه.
الخامسة والثمانون: لو نذر تطييب مسجد المدينة وكذا الأقصى ففيه تردد لإمام الحرمين؛
لأنا إن نظرنا إلى التعظيم ألحقناهما بالكعبة، أو إلى امتياز الكعبة بالفضل فلا، وكلام الغزالي في آخر باب النذر يقتضي اختصاصه بالمسجدين كما فرضناه، لا في غيرهما من المساجد، والإمام طرده في الكل، وحيث كان الملحظ ما ذكر فينبغي أن لا يتوقف فيما لو نذر تطييب القبر الشريف.
السادسة والثمانون: إذا نذر زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لزمه الوفاء بذلك وجها واحدا،
وفي وجوب الوفاء في زيارة قبر غيره وجهان، قاله ابن كجّ، وأقره عليه الرافعي والنووي وغيرهما.
السابعة والثمانون: قيام مسجدها مقام المسجد الأقصى كالمسجد الحرام
فيما لو نذر الصلاة أو الاعتكاف في الأقصى؛ فإن الأصح لزومه به، وأجزأ مسجد المدينة لزيادة فضله، ولو نذرهما بمسجد المدينة لم يجزه فعل ذلك بالأقصى ويجزيه بالمسجد الحرام.
الثامنة والثمانون: الاكتفاء بزيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن نذر إتيان مسجد المدينة،
كما قال الشيخ أبو علي تفريعا على القول بلزوم إتيانه كما قاله الشافعي والبويطي وعلى أنه لا بد من ضم قربة إلى الإتيان كما هو الأصح تفريعا على اللزوم، وعلله الشيخ أبو علي(1/73)
بأن زيارته صلّى الله عليه وسلّم من أعظم القربات، وتوقف في ذلك الإمام من جهة أنها لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه، قال: وقياسه أنه لو تصدق في المسجد أو صام يوما كفاه، وفيه نظر، على أن الصحيح ما نص عليه في المختصر من عدم لزوم الإتيان، وإن كان اللزوم أرجح دليلا، ورجح الرافعي تفريعا على اللزوم ضم صلاة أو اعتكاف، وكذا إذا نذر إتيان الأقصى، فإن نفس المرور لما لم يكن في نفسه مزية انصرف النذر إلى ما يقصد فيه من القرب وبهذا يترجح ما قاله الشيخ أبو علي، لأن إتيان مسجد المدينة يقصد للصلاة والاعتكاف والزيارة بخلاف غيره.
التاسعة والثمانون: قال ابن المنذر: إذا نذر أن يمشي إلى مسجد الرسول والمسجد الحرام لزمه الوفاء به لأنه طاعة؛
ومن نذر أن يمشي إلى بيت المقدس كان بالخيار: إن شاء مشى إلى المسجد الأقصى، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام؛ لحديث أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في مسجد بيت المقدس، قال صلى الله عليه وسلم: «صلّ هنا، ثلاثا» انتهى. ويعلم مما تقرر في إجزاء مسجد المدينة عن الأقصى في الإتيان والصلاة إجزاؤه هنا كالمسجد الحرام، والذي اقتضاه كلام البغوي تصحيح عدم لزوم المشي في مسجد المدينة والأقصى، وهو الذي رجحوه.
التسعون: قوله صلّى الله عليه وسلّم في أحاديث تحريمها «ولا يحمل فيها سلاح لقتال» .
الحادية والتسعون: قوله فيها أيضا: «ولا تلتقط لقطته إلا لمن أشاد بها» .
الثانية والتسعون: إذا قلنا بضمان صيدها وقطع شجرها فالصحيح أنه يسلب الصائد كما يسلب قتيل الكفار،
وهذا أبلغ في الزجر من الجزاء.
الثالثة والتسعون: جواز نقل ترابها للتداوي.
الرابعة والتسعون: ظهور نار الحجاز التي أخبر بها صلّى الله عليه وسلّم مما حولها؛
لأنها للإنذار، فاختصت ببلد النذير، ثم لما بلغت الحرم وكان محرّمه المبعوث بالرحمة خمدت وطفئت، على ما سيأتي.
الخامسة والتسعون: دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم بالبركة في سوقها.
السادسة والتسعون: ما سيأتي في سوقها من أن الجالب إليه كالمجاهد في سبيل الله.
السابعة والتسعون: أن المحتكر فيه كالملحد في كتاب الله.
الثامنة والتسعون: ما سيأتي في بئر غرس من أنه صلّى الله عليه وسلّم «رأى أنه أصبح على بئر من آبار الجنة، فأصبح على بئر غرس»
ورؤيا الأنبياء حق، عليهم الصلاة والسلام!
التاسعة والتسعون: ما سبق في ثمارها من أن العجوة من الجنة؛
فقد اشتملت المدينة على شيء من أرض الجنة ومياهها وثمارها، والله أعلم.(1/74)
الفصل الثامن في الأحاديث الواردة في تحريمها، وهي كثيرة
روينا في الصحيحين منها حديث عبد الله بن زيد «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها» ، وفي لفظ «ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة» الحديث.
وفي البخاري حديث أبي هريرة رضي الله عنه «حرم ما بين لابتي المدينة على لساني» قال: وأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بني حارثة فقال: «أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم، ثم التفت فقال: بل أنتم فيه» وسيأتي بيان منازلهم، وفيه أيضا عنه: لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بين لابتيها حرام» وهو في مسلم بزيادة، ولفظه «جرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بين لابتي المدينة» قال أبو هريرة: فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى.
وفي مسلم أيضا عن عاصم الأحول: «سألت أنسا أحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة؟
قال: نعم، هي حرام: لا يختلى خلاها «1» ، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» .
وفيه أيضا حديث رافع بن خديج رضي الله عنه «إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها» يريد المدينة.
وفيه أيضا حديث جابر «إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: لا تقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها» .
وفيه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما، وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها، ألايهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط «2» فيها شجرة إلا لعلف» الحديث.
وفيه أيضا من حديث أنس «اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم عليه السلام مكة» .
قلت: المراد بجبليها عير وثور، وهما المعبر عنهما في الحديث قبله بمأزميها على ما صوبه النووي، ونسبة تحريم مكة لإبراهيم عليه السلام دليل لما ذهب إليه جماعة من أنها لم تزل حلالا كغيرها إلى زمن إبراهيم عليه السلام، فحرمت، والثاني- وصححه النووي، ونقل عن الأكثرين- أنها لم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض، ثم أظهر الله
__________
(1) اختلى: قطع ونزع. الخلا: الرطب من النبات.
(2) خبط الشجرة بالمخبط: ضربها به ليسقط ورقها.(1/75)
تعالى ذلك على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام. قال الزركشي: وفيه جمع بني الأحاديث.
قلت: الأحكام قديمة؛ لأنها خطاباته تعالى، والحادث إنما هو تعلقاتها بالمكلفين، فإذا كان ظهور تحريمها على لسان إبراهيم عليه السلام فذلك أول تعلق الحكم التكليفي، فما معنى ما يقوله الثاني من تحريمها يوم خلق الله السموات والأرض مع انتفاء التعلق التكليفي حينئذ؟ ويجوز أن يكون بمعنى أن الله تعالى أظهر ذلك لملائكته يوم خلق السموات والأرض وعرفهم به، وتأخر تعلق التكليف به حتى ظهر على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام وهذا لا يأباه القول الأول، بل يسلمه، وهو حسن، وبه يجتمع معنى الأحاديث، ولا يخفى أن خطاب الله تعالى بتحريم المدينة قديم أيضا، وتأخره من حيث التكليف إلى أن أظهره النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس فيه حط لرتبتها، بل دليل كمالها حيث ادخر الله ذلك حتى جعله على لسان أشرف المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، مع أنهم ذكروا في معنى تحريم إبراهيم لها احتمالين: أحدهما: أنه بأمر الله تعالى له، والثاني: أنه دعا لها فحرمها الله بدعوته، ويقال مثله في تحريمه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة.
وقوله: «ما بين لابتيها» أي: حرّتيها الشرقية والغربية والمدينة بينهما، ولها أيضا حرة بالقبلة وحرة بالشام، لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما، ولهذا جمعها صلّى الله عليه وسلّم كلها في اللابتين كما نبه عليه الطبري.
قال النووي: وهو حد الحرم من جهة المشرق والمغرب، وما بين جبليها بيان لحده من جهة الجنوب والشمال، قال: ومعنى قوله «ما بين لابتيها» اللابتان وما بينهما، والمراد تحريم المدينة ولابتيها.
قلت: ويؤيده أن اللابتين شرقا وغربا في محاذاة أحد الجبلين الآتي بيانهما، وأن منازل بني حارثة في محاذاة اللابة الغربية على ما اقتضاه كلاه المطري فيما قدمناه عنه من الباب الأول في ترجمة أثرب، والذي ترجح عندي أن منازلهم كانت باللابة الشرقية مما يلي العريض وما قارب ذلك؛ لأن الإسماعيلي روى الحديث المتقدم بلفظ: «ثم جاء بني حارثة وهم في سند الحرة» أي: الجانب المرتفع منها، وسيأتي في منازلهم ما يبين أن المراد الحرة الشرقية، وليس الموضع الذي ذكره المطري في سند واحدة من الحرتين، والله أعلم. ويؤيد أيضا ما قاله النووي أن البيهقي روى في المعرفة حديث الصحيفة عن علي بلفظ: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين حرتيها وجمامها: لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها» يعني: أنشد «ولا(1/76)
يقطع شجرها إلا أن يعلف رجل بعيرا، ولا يحمل فيها سلاح لقتال» الحديث، ورواه أحمد كذلك أيضا، وهو حديث صحيح، وجمام المدينة ثلاثة كما سيأتي، وهي مما يلي حرتها الغربية من جهة المغرب والحرة بين الجمام والمدينة.
وروى مسلم حديث الصحيفة بلفظ: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور» والبخاري بلفظ: «المدينة حرم ما بين عاير إلى كذا» وأبو داود بلفظ: «المدينة حرام ما بين عاير إلى ثور» ثم زاد فيه وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يلقط لقطتها إلا من أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره» ورواه الطبراني برجال موثّقين مختصرا، ولفظه عن أبي جحيفة أنه دخل على علي رضي الله عنه فدعا بسيفه، فأخرج من بطن السيف أدما عربيا، فقال: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا غير كتاب الله الذي أنزل إليه وقد بلغته غير هذا، فإذا: بسم الله الرحمن الرحيم، محمد رسول الله قال: «لكل نبي حرم وحرمي المدينة» .
الفصل التاسع في بيان عير وثور
وهما المراد بجبليها كما تقدم.
موقع جبل عير
أما عير- بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف بلفظ العير مرادف الحمار، ويقال: عاير- فجبل كبير مشهور في قبلة المدينة بقرب ذي الحليفة ميقات المدينة.
موقع جبل ثور
وأما ثور- بالمثلاثة بلفظ الثور فحل البقر- فجبل صغير خلف أحدكما سنحققه، فإنه خفي على جماعة من فحول العلماء فاستشكلوا الحديث، وقالوا: ليس بالمدينة ثور، إنما هو بمكة، ولهذا في أكثر روايات البخاري من عاير إلى كذا، وفي بعضها من عير إلى كذا، ولم يبين النهاية، فكأنه يرى أن ذكر ثور وهم فأسقطه، وترك بعض الرواة موضع ثور بياضا ليتبين الوهم، وضرب آخرون عليه.
الاختلاف في وجود جبل ثور بالمدينة
وقال المازري: نقل بعض أهل العلم أن ذكر ثور هنا وهم من الراوي؛ لأن ثورا بمكة، والصحيح «إلى أحد» .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: عير وثور جبلان بالمدينة، وأهل المدينة لا يعرفون(1/77)
بها جبلا يقال له ثور، وإنما ثور بمكة، قال: فإذا نرى أن الحديث أصله «ما بين عير إلى أحد» .
قلت: وكذا رواه الطبراني برجال ثقات، بلفظ: «ما بين عير وأحد حرام، حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» وهو كذلك في رواية لابن زبالة.
وقال الحازمي: الرواية الصحيحة «ما بين عير إلى أحد» وقيل: «إلى ثور» وليس له معنى، وتكلف بعضهم فقال: إلى بمعنى مع، كأنه جعل المدينة مضافة إلى مكة في التحريم لأن ثورا بها.
وقال الموفق بن قدامة: يحتمل أن المراد تحريم قدر ما بين ثور وعير اللذين بمكة، أو سمى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرا وثورا ارتجالا، انتهى. وهو يقتضي إنكار وجود عير بالمدينة أيضا.
وقد قال الزركشي: نقل عياض عن بعضهم أنه ليس بالمدينة ولا ما يقرب منها جبل يعرف بأحد هذين الاسمين، أعني عيرا وثورا. قال ياقوت في معجمه: وهذا وهم، فإن عيرا جبل مشهور بالمدينة، وقال ابن السيد: عير جبل بقرب المدينة، وعبارة عياض في المشارق: عير وعاير المذكوران في حرم المدينة في أكثر الروايات عير، وفي حديث علي عاير، قال الزبير بن بكار: هو جبل بالمدينة، وقال عمه مصعب: لا يعرف بالمدينة عير ولا ثور، انتهى.
وقال في المطالع: أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري: ليس بالمدينة عير ولا ثور، وأثبت غيره عيرا، ووافقه على إنكار ثور.
قلت: سيأتي في ترجمة عير من فصل البقاع عن مصعب الزبيري ما يقتضي إثباته له، وشهرة عير غير خافية بين العلماء، إنما الغرابة في ثور.
وقال النووي عقب نقل الحازمي المتقدم: ويحتمل: أن ثورا كان اسما لجبل هناك:
إما أحد، وإما غيره، فخفي اسمه.
وقال صاحب البيان والانتصار: قد صحت الرواية بلفظ ثور؛ فلا ينبغي الإقدام على توهيم الرواة بمجرد عدم العرفان، فإن أسماء الأماكن قد تتغير، أو تنسى ولا يعلمها كثير من الناس، قال: وقد سألت بمكة عن وادي محسّر وغيره من أماكن تتعلق بالنسك، فلم أخبر عنها مع تكرر مجيء الناس إليها، فما ظنك بغيرها؟ وأيضا فقد يكون للشيء اسمان فيعرف أحدهما دون الآخر.
وقال المجد: لا أدري كيف وقعت المسارعة من هؤلاء الأعلام إلى إثبات وهم في(1/78)
الحديث المتفق على صحته، بمجرد ادعاء أن أهل المدينة لا يعرفون جبلا يسمى ثورا، وذكر احتمال طرق التغيير في الأسماء والنسيان لبعضها، قال: حتى إني سألت جماعة من فقهاء المدينة وأمرائها وغيرهم من الأشراف عن فدك ومكانها فكلهم أجابوا بعدم معرفة موضع يسمى بذلك في بلادهم، مع أن هذه القرية لم تبرح في أيدي الأشراف والخلفاء يتداولونها إلى أواخر الدولة العباسية، فكيف بجبل صغير لا يتعلق به كبير أمر، مع أنه معروف بين أهل العلم بالمدينة، ونقل بعض الحفاظ وصفه بذلك خلفا عن سلف؟ اه.
قلت: قد حكى البيهقي في المعرفة قول أبي عبيد: أهل المدينة لا يعرفون جبلا يقال له ثور، ثم قال البيهقي: وبلغني عن أبي عبيدة أنه قال في كتاب الجبال: بلغني أن بالمدينة جبلا يقال له ثور، انتهى.
ونقل المجد في ترجمة عير عن نصر أنه قال: عير جبل يقابل الثنية المعروفة بشعب الجوز، وثور جبل عند أحد، انتهى. فدل على أن ما اشتهر في زماننا وقبله من وجود ثور بالمدينة له أصل في الزمن القديم، وإن خفي على بعضهم، وقد أخبرني بوجوده جماعة كثيرة من الخواص، وأروني إياه خلف أحد، ونقل جماعة عن المحدث أبي محمد عفيف الدين عبد السلام بن مزروع البصري نزيل المدينة المشرفة أنه رآه غير مرة، وأنه لما خرج رسولا من صاحب المدينة إلى العراق كان معه دليل يذكر له الأماكن والأجبل، فلما وصلا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير، فسأله: ما اسم هذا الجبل؟ فقال له: يسمى ثورا، وقد حكى عنه نحو هذا القطب الحلبي في شرح البخاري، وقال المحب الطبري: أخبرني الثقة الصدوق الحافظ العالم المجاور بحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال، فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور، قال الطبري: فعلمنا بذلك أن ما تضمنه الحديث صحيح، وعدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه، انتهى.
وقد رد الجمال المطري في تاريخه على من أنكر وجود ثور، وقال: إنه خلف أحد من شماليه، صغير مدور، يعرفه أهل المدينة خلف عن سلف.
وقال الأقشهري: وقد استقصينا من أهل المدينة تحقيق خبر جبل يقال له ثور عندهم، فوجدنا ذلك اسم جبل صغير خلف جبل أحد يعرفه القدماء دون المحدثين من أهل المدينة، والذي يعلم حجة على من لا يعلم، اه.(1/79)
وقال العلامة أبو العباس بن تيمية: عير جبل عند الميقات يشبه العير، وهو الحمار، وثور جبل في ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة.
وروى بعض شراح المصابيح أن الله تعالى لما كلم موسى عليه السلام على الجبل تقطع ست قطع، فصارت ثلاث بمكة: حراء، وثبير، وثور، وثلاث بالمدينة: عير، وثور، ورضوى، وكأن ثورا سمي باسم فحل البقر لشبهه به، وهو إلى الحمرة أقرب، وقد صح بما قدمناه أن أحدا من الحرم؛ لأن ثورا حده من جهة الشام كما أن عيرا حده من جهة القبلة، ويقوم ذلك على الرواية التي فيها ذكر أحد بدل ثور، لما في ذلك من الزيادة عليها، وأنها من باب ذكر فرد مما شمله ذلك العموم بحكم العموم فلا تخصص، مع إفادتها لإدخال ما حاذى أطراف أحد شرقا وغربا، وما وقع في الشرحين والروضة وغيرهما من التحديد بما بين اللابتين وبما بين عير وأحد مبني على ما تقدم من أن الرواية الصحيحة «أحد» لعدم وجود ثور؛ فقد اتضح الحال، ولله الحمد.
الفصل العاشر في أحاديث تقتضي زيادة الحرم على ذلك التحديد، وأنه مقدر ببريد
أعلم أن قوله في حديث مسلم «وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» ظاهر في التحريم لذلك القدر؛ إذ حول المدينة إنما هو حرمها، وحمى النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي ليس بحرم لم يكن حول المدينة على ما سيأتي بيانه، ولأن التقي السبكي قال: إن في سنن أبي داود تحديد حرم المدينة ببريد من كل ناحية، قال: وإسناده ليس بالقوي، والذي رأيته في أبي داود عن عدي بن يزيد «حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا، لا يخبط شجره، ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل» رواه البزار بنحوه، ورواه ابن زبالة بلفظ «حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شجر المدينة بريدا في بريد منها، وأذن في المسد «1» والمنجدة ومتاع الناضح أن يقطع منه» والمنجدة: عصا الناضح «2» .
وروى المفضل الجندي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: في قصة العبد الذي وجده يعضد- أو يخبط- عضاها بالعقيق: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من وجد من يعضد أو يخبط «3» شيئا من عضاه المدينة بريدا في في بريد فله سلبه، فلم أكن لأرد شيئا أعطانيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
__________
(1) المسد: الحبل المضفور المحكم الفتل. والمحور من الحديد تدور عليه البكرة.
(2) المنجدة: (ج) مناجد: عود ينفش به الصوف أو القطن. وعصا تحث بها الدّابة.
(3) عضد: جزّ وقطع. العضاة: كل شجر له شوك صغر أو كبر. الواحدة: عضاهة.(1/80)
وروى البزار عن جابر قال: «حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة بريدا من نواحيها» .
وفي الأوسط للطبراني- وفيه ضعيف- عن كعب بن مالك قال: «حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشجر بالمدينة بريدا في بريد، وأرسلني فأعلمت على الحرم: على شرف ذات الحبيش، وعلى شريب، وعلى أشراف مخيض» .
ورواه ابن النجار بلفظ: «حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة بريدا في بريد، وأرسلني فأعلمت على الحرم: على شرف ذات الجليس، وعلى مشيرب، وعلى أشراف المجتهر، وعلى تيم» ورواه ابن زبالة بهذا اللفظ، إلا أنه أسقط أشراف المجتهر، وأبدل تيم بثيب، وزاد «وعلى الحفياء وعلى ذي العشيرة» .
وروي أيضا عن كعب بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «حمى الشجر ما بين المدينة إلى وعيرة، وإلى ثنية المحدث، وإلى أشراف مخيض، وإلى ثنية الحفياء، وإلى مضرب القبة، وإلى ذات الجيش: من الشجر أن يقطع، وأذن لهم في متاع الناضح أن يقطع من حمى المدينة» .
وروي أيضا عن سلمان بن كعب الديناري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «نزل بمضرب القبة وقال: ما بيني وبين المدينة حمى لا يعضد، فقالوا: إلا المسد، فأذن لهم في المسد» .
وروي أيضا من طريق مالك بن أنس عن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في الحمى: «إلى مضرب القبة» قال مالك: وذلك نحو من بريد.
وروي أيضا عن جابر مرفوعا «كل دافعة دفعت علينا من هذه الشعاب فهي حرام أن تعضد- أو تخبط، أو تقطع- إلا لعصفور قتب أو مسد محالة أو عصا حديدة» «1» .
وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن عن الحسن بن رافع أنه سأل جابر بن عبد الله فقال: لنا غنم وغلمان، ونحن وهم بثرير، فهم يخبطون على غنمهم هذه الثمرة، يعني الحبلة- قال خارجة: وهي ثمر السّمر- قال جابر: لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن هشوا هشا، ثم قال جابر: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليمنع أن يقطع المسد، قال خارجة: والمسد مرود البكرة.
وروى ابن زبالة عن أبي سعيد الخدري قال: بعثتني عمتي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تستأذنه في مسد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عمتك السلام، وقل لها: لو أذنت لكم في مسد طلبتم ميزابا، ولو أذنت لكم في ميزاب طلبتم خشبة، ثم قال: حماي من حيث استاقت بنو فزارة لقاحي» .
__________
(1) القتب: الرحل الصغير على قدر سنام البعير. المسد: الحبل المضفور المحكم الفتل. والمحور من الحديد تدور عليه البكرة.(1/81)
الفصل الحادي عشر في بيان ما في هذه الأحاديث من الألفاظ المتعلقة بالتحديد
، ومن ذهب إلى مقتضاها.
ذات الجيش
قوله: «شرف ذات الجيش» قال ابن زبالة: ذات الجيش: لقب ثنية الحفيرة من طريق مكة والمدينة، وقال المطري: هي وسط البيداء، والبيداء هي التي إذا رحل الحجاج من ذي الحليفة استقبلوها مصعدين إلى جهة الغرب، وهي على جادة الطريق.
قلت: ويؤيده قول ياقوت: ذات الجيش موضع بعقيق المدينة، أراد بقربه، أو لأن سيلها يدفع فيه كما سيأتي، وقد رأيته يطلق ذلك على ما يدفع في العقيق وإن بعد عنه.
وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأسدي في وصف الطريق بين مكة والمدينة: إن من ذي الحليفة إلى الحفيرة ستة أميال، قال: وهي متعشا، وبها بئر طيبة وحوض، وعمر بن عبد العزيز هو الذي حفر البئر، وبها أبيات ومسجد، اه. ومقتضاه أن يكون ثنية الحفيرة بعد البئر، فلعلها ثنية الجبل المسمى اليوم بمفرح، وهناك واد قبل وادي تربان يسمونه سهمان ينطبق عليه الوصف المذكور، وهو موافق لقول من قال: ذات الجيش واد بين ذي الحليفة وتربان. فأطلق اسمها على الوادي التي هي فيه، ولقول عياض: ذات الجيش على بريد من المدينة، وهو ظاهر رواية الطبراني المتقدمة، لكنه مخالف لما سيأتي في معنى التحديد بالبريد، وهناك حبس النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابتغاء عقد عائشة رضي الله عنها، ونزلت آية التيمم، والترديد في حديث عائشة: «حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش» كأن سببه قرب الموضعين، وهو ظاهر في المغايرة بينهما. وقال أبو علي الهجري: ذات الجيش: شعبة على يمين الخارج إلى مكة بحذاء الحفيرة، قال: وصدر الحفيرة وما قبل من الصلصلين يدفع في بئر أبي عاصية، ثم يدفع في ذات الجيش، وما دبر منها يدفع في البطحاء، ثم تدفع البطحاء من بين الجبلين في وادي العقيق، وذات الجيش تدفع في وادي أبي كبير، وهو فوق مسجد الحرم والمعرس، وطرف أعظم الغربي يدفع في ذات الجيش، وطرفه الثاني يدفع في البطحاء.
قلت: وأعظم- ويقال عظم كما سيأتي- جبل معروف اليوم على جادة مكة، قال المطري: وهو في شامي ذات الجيش، ويشهد له ما سبق عن الهجري.
شريب
قوله «شريب» الظاهر أنه مشيرب تصغير مشرب كما في الرواية الآخرى، وهو(1/82)
ما بين جبال في شامي ذات الجيش، بينها وبين خلائق الضبوعة، والضبوعة منزل عند يليل «1» .
أشراف مخيض
قوله: «أشراف مخيض» بلفظ المخيض من اللبن- هي جبال مخيض من طريق الشام، قاله ابن زبالة، وقال الهجري: مخيض واد يصب في أضم على طريق الشام من المدينة، انتهى؛ فكأنه يطلق على الجبال وواديها، وقال المطري: جبل مخيض هو الذي على يمين القادم من طريق الشام، حين يفضي من الجبال إلى البركة التي هي مورد الحجاج من الشام، ويسمونها عيون حمزة.
أشراف المجتهر
قوله: «أشراف المجتهر» كذا رواه ابن النجار، وتبعه المطري، ولم يبيناه، وقال المجد: هكذا وقع بالجيم والهاء المفتوحة، فإن صح فهو اسم موضع بالمدينة، وإلا فيحتمل أن يكون تصحيف «المحيصر» بالحاء والصاد المهملتين تصغير «المحصر» موضع قريب من المدينة. قلت: الأقرب أنه تصحيف المخيض؛ لمجيئه بدله في بقية الروايات.
الحفياء
قوله «الحفياء» قال ابن زبالة: هي بالغابة في شامي المدينة، وقال الهجري: وراء الغابة بقليل، وسيأتي في ترجمتها أن بينها وبين المدينة نحو ستة أميال.
ذو العشيرة
قوله: «ذي العشيرة» تصغير عشرة من العدد، قال ابن زبالة: شرقي الحفياء، وقال المطري: نقب في الحفياء.
ثيب
قوله: «ثيب» بفتح المثلاثة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم موحدة- كذا في النسخة التي وقعت عليها من ابن زبالة، وقال: إنه جبل في شرقي المدينة، وكذا هو في العقيق للزبير بن بكار، وكذا رأيته مضبوطا بالقلم في أصل معتمد من تهذيب ابن هشام؛ فإنه قال في غزوة السويق: فخرج أبو سفيان حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له ثيب من المدينة على بريد أو نحوه، وكذا هو في العقيق لأبي علي الهجري، إلا أنه قال عقبه: ثيئب كتيعب، فاقتضى أن الياء الساكنة بعدها همزة، ويشهد لذلك ما سيأتي في أسماء البقاع في
__________
(1) يليل: موضع قرب وادي الصفراء.(1/83)
ترجمة الشظاة من شعر عباس بن مرداس، وفي كتاب ابن شبة في حديث سلمة الآتي أول الباب السابع: فقلت يا رسول الله، تباعد الصيد، فأنا أصيد بصدور قناة نحو تيب، كذا رأيته مضبوطا بالقلم من غير همزة، لكنه بالمثناة من فوق، ووقع في كتاب ابن النجار وتبعه المطري تيم بفتح المثناة الفوقية والتحتية وبالميم. قلت: وفي شرقي المدينة جبل يعرف اليوم بهذا الاسم، وقال المجد: إنه تصحيف، والصواب يتيب، بلفظ مضارع تاب إذا رجع، فهو بالتاء المثناة من فوق، ولذا ذكره في مادتها من القاموس، وقال في مادتها أيضا تيأب كفعلل موضع، ولم يتعرض لذلك في الثاء المثلاثة.
وعيرة
قوله: «وعيرة» - بفتح أوله من الوعورة، وهو خشونة الأرض- جبل شرقي ثور، وهو أكبر من ثور وأصغر من أحد.
ثنية المحدث
وقوله: «ثنية المحدث» لم أر من تكلم عليه من مؤرخي المدينة وغيرهم، والعجب من المجد كيف أهمله مع إيراده الحديث في كتابه.
مضرب القبة
قوله: «مضرب القبة» قال المجد كالمطري: ليس اليوم معروفا، ولا تعلم جهته، قال: والذي يظهر أنه ما بين ذات الجيش من غربي المدينة إلى مخيض.
قلت: قال أبو علي الهجري: مضرب القبة بين أعظم وبين الشام نحو ستة أميال، أي من المدينة، وقد تقدم قول مالك عقب التحديد به: وذلك نحو من بريد، ولعله يريد مجموع الحرم.
ثرير
قوله: «بثرير» لم أر من تكلم عليه حتى المجد.
غزوة ذي قرد
قوله: «من حيث استاقت بنو فزارة لقاحي» كانت لقاحه صلّى الله عليه وسلّم ترعى بالغابة وما حولها، فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاري يوم ذي قرد، واتفق لسلمة بن الأكوع ما اتفق من استنقاذ اللقاح ووصول الفرسان إليه وهو يقاتلهم ويرميهم بالنبل، وسميت غزوة ذي قرد بالموضع الذي كان فيه القتال.
والتحديد بهذه الأماكن مؤيد لكون مجموع الحرم بريدا، ولذلك قال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه: وذلك كله يشبه أن يكون بريدا في بريد، انتهى. ويحمل عليه قول أبي هريرة(1/84)
في حديث مسلم: «وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» لأن ذلك هو البريد أي:
ستة أميال من جهة قبلتها، وستة أميال من جهة شاميها، وكذلك في المشرق والمغرب، ومثله حديث «حمى كل ناحية من المدينة بريدا» أي من القبلة إلى الشمال بريدا، ومن المشرق إلى المغرب بريدا، وقد أخذ بذلك مالك رحمه الله، لكن فرّق بين حرم الشجر وحرم الصيد، وجعل البريد حرم الشجر، وما بين اللابتين حرم الصيد.
قال عياض في الإكمال: قال ابن حبيب: تحريم ما بين اللابتين مخصوص بالصيد، قال: وأما قطع الشجر فبريد في دور المدينة كلها، بذلك أخبرني مطرف عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب، انتهى. وحكى الباجي في المنتقى مثله عن ابن نافع، ونقل ابن زبالة عن مالك أنه قال: الحرم حرمان؛ فحرم الطير والوحش من حرة واقم- أي: وهي الحرة الشرقية- إلى حرة العقيق- أي وهي الغربية- وحرم الشجر بريد في بريد، وقال البرهان بن فرحون: حرم الصيد ما بين حرارها الأربع، وسماهما أربعا لوجود الحرتين المذكورتين في الجهات الأربع؛ لانعطاف بعض الشرقية والغربية من جهة الشمال والقبلة، ولم يعول أصحابنا في تحديد الحرم على البريد مع ما فيه من الزيادة؛ لأن أدلته ليست بالقوية، فعولوا على ما اشتملت عليه الأحاديث الصحيحة من الجبلين واللابتين، على أن إطلاق أحاديث التحريم مقتض لعدم الفرق بين حرم الشجر وحرم الصيد، سواء كان الحرم بريدا أو دونه، غير أن في أحاديث البريد ما يشعر بأنه للشجر، مع أن ابن زبالة- ومحله من الضعف معلوم- روي عن ابن بشير المازني أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرّم ما بين لابتيها- يعني: المدينة- من الصيد، وعن أبي هريرة وغيره نحوه، وفي رواية له «من الطير أن يصاد بها» وقد يقال: هو من باب إفراد فرد مما حرم بالذكر.
فإن قيل: قوله في حديث مسلم: «حرم ما بين لابتيها، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» دال على الفرق المذكور.
قلنا: ممنوع؛ لأن غايته أن يراد بالحمى الحرم، فكأنه قال: وجعل اثني عشر ميلا حولها حرما؛ إذ ليس فيه أنه جعله حمى الشجر.
مقدار البريد والفرسخ والميل
تتمة: البريد أربع فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع بذراع اليد على الأصح، كما صححه ابن عبد البر وغيره، وهو الموافق لاختيار ما ذكره من المسافات في الحرم المكي وغيره، وذراع اليد- على ما ذكره المحب الطبراني والنووي وغيرهما- أربعة وعشرون أصبعا، كل أصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض، وغلط النووي القلعي في قوله «ثلاث شعيرات» ومقدار الذراع المذكور من ذراع(1/85)
الحديد المستعمل في القماش بمصر الآن ذراع إلا ثمن ذراع، كما اعتبرته أنا وغيري، ومشى عليه التقي الفاسي في تاريخ مكة المشرفة، وليكن ذلك على ذكر منك إذا مررت بشيء مما ضبطناه في المسافات في كتابنا هذا، وقيل: الميل ستة آلاف ذراع، ومشى عليه النووي، وهو بعيد، ولعل قائله هو الذي يجعل الإصبع في الذراع ثلاث شعيرات فقط، وقيل: الميل ألفا ذراع، والصواب ما قدمناه، والله أعلم.
الفصل الثاني عشر في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم
حكمة التخصيص
اعلم أن المفهوم من تحريم ذلك تشريف المدينة الشريفة وتعظيمها به لحلول أشرف المخلوقين صلوات الله وسلامه عليه، وانتشار أنواره وبركاته بأرضها، وكما أن الله تعالى جعل لبيته حرما تعظيما له جعل لحبيبه وأكرم الخلق عليه ما أحاط بمحله حرما تلتزم أحكامه، وتنال بركاته، ويوجد فيه من الخير والبركة والأنوار المنتشرة والسلامة العاجلة والآجلة ما لا يوجد في غيره، ولهذا حث النبي صلّى الله عليه وسلّم بني حارثة على الكون به، كما أشار إليه بقوله: «أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم» ثم التفت فقال: «بل أنتم فيه» وذلك لخصوصية الكون فيه على الكون خارجه، وتخصيص ذلك المقدار إما أن يكون لما شاهده صلّى الله عليه وسلّم فيه من أمر رباني، وسر روحاني بثه الله فيه إلى تلك الحدود المتقدمة، وقد ذكر أهل الشهود أنهم يشاهدون الأنوار منبثة في الحرم وأهله إلى حدوده، ولها منابع تفيض عنها، وذلك في الحرمين جميعا، فترتبت الأحكام الظاهرة على تلك الحقائق الباطنة، ولهذا لما بلغت النار الآتي ذكرها طرف هذا الحرم الشريف طفئت كما سيأتي، وإما أن يكون بمقتضى أمر إلهي، ووحي رباني لا ندركه نحن؛ إذ العقول البشرية قاصرة عن إدراك معاني الأحكام المتلقاة عن النبوة، وإنما يظهر لها لايحه من شوارق مطالعها عند التأييد والتسديد، هدانا الله لإدراكها بمنه وكرمه.
وجوه تذكر في حكمة التحديد
وقد قيل في حكمة تحديد الحرم المكي أشياء يمكن مثلها هنا؛ فقيل: لما أهبط آدم إلى الأرض أرسل الله ملائكة حفوا بمكة من كل جانب ووقفوا في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم عليه السلام، فصار ذلك حرما. وقيل: لما وضع الخليل عليه السلام الحجر الأسود في الكعبة حين بناها- وهو من أحجار الجنة- أضاء الحجر من الجهات الأربع، فحرم الله تعالى الحرم من حيث انتهى النور. وقيل: إن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام(1/86)
أن ينزل بياقوتة من الجنة، فنزل بها، فمسح بها رأس آدم، فتناثر الشعر منه، فحيث بلغ نورها صار حرما، وهو من جنس ما قبله. وقيل غير ذلك؛ وحينئذ فيحتمل: أن تكون الملائكة الموكلة بحراسته صلّى الله عليه وسلّم وحراسة بلده الشريف قائمة بتلك الحدود، فانتهى الحرم إليها، ويحتمل: أن درته الشريفة التي خلق منها لما كان مأخذها موضع قبره الشريف، وهو أعظم رياض الجنة، واشتمل مسجده أيضا على روضة من رياض الجنة، انبثت الأنوار من ذلك إلى ما لا يعلم غايته إلا الله، ولكن أبصار الناظرين لها غايات؛ فقد يكون انتهاؤها إلى تلك الحدود فانتهى الحرم إليها، ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم يوم قدومه إلى المدينة انتشرت الإضاءة، وشوهد وصولها إلى تلك الحدود، وسيأتي قول أنس بن مالك في وصف يوم قدومه صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت مثل ذلك اليوم قط، والله لقد أضاء منها كل شيء، يعني: المدينة، والله أعلم.
الفصل الثالث عشر في أحكام هذا الحرم الشريف، وفيه مسائل
الأولى: القول في تحريم الصيد وقطع الشجر
اتفق الشافعي ومالك وأحمد على تحريم صيد حرم المدينة، واصطياده، وقطع شجره. وقال أبو حنيفة: لا يحرم شيء من ذلك، والأحاديث الصحيحة الصريحة حجة عليه، وقد قدمنا جملة منها، ولو لم يكن إلا قوله صلّى الله عليه وسلّم «كما حرم إبراهيم مكة» لكان كفاية؛ فإنه يتمسك به في كل ما لم يقم دليل على افتراق الحرمين فيه. وروى أبو داود- وسكت عليه، قال النووي: وهو صحيح أو حسن، أي: كما هو قاعدته فيما يسكت عليه- أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلبه ثيابه، فجاء مواليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حرم هذا الحرم، وقال: من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه» وسيأتي عنه نحوه في قطع الشجر، وفي الموطأ عن أبي أيوب الأنصاري أنه وجد غلمانا قد ألجؤوا ثعلبا إلى زاوية، فطردهم عنه، قال مالك:
لا أعلم إلا أنه قال: أفي حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنع هذا؟ وروى الطبراني برجال الصحيح مثله عن زيد بن ثابت بدل أبي أيوب، وفي الموطأ أيضا أن رجلا قال: دخل علي زيد بن ثابت وأنا بالأسواف «1» ، وقد اصطدت نهسا «2» فأخذه من يدي، فأرسله. ورواه
__________
(1) الأسواف: موضع بين الحرتين، ببعض أطراف المدينة.
(2) النهس: طائر من الفصيلة الصردية لونه كستنائي وهو أكبر من العصفور، ضخم الرأس والمنقار، شرس الطباع.(1/87)
الطبراني أيضا مع تسمية المبهم، ولفظه: عن شر حبيل بن سعيد قال: أخذت نهسا- يعني طائرا- بالأسواف، فأخذه مني زيد بن ثابت فأرسله، وقال: أما علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم ما بين لابتيها. وفي رواية له «أتانا زيد بن ثابت ونحن في حائط لنا، ومعنا فخاخ ننصب بها، فصاح وطردنا، وقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم صيدها. ورواه أحمد أيضا- وكذا الشافعي في حرملة- عن شرحبيل بن سعد، وقد وثّقه ابن حبان وضعفه غيره، ولفظه: دخل علينا زيد بن ثابت حائطا ونحن غلمان ننصب فخاخا للطير، فطردنا وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم صيدها» . ورواه ابن زبالة بلفظ: كنت مع بني زيد بن ثابت بالأسواف، فأخذوا نهسا، فاستفتح زيد بن ثابت وهو في أيديهم، فدفعوه في يدي وفروا، فدخل زيد، فأخذه من يدي فأرسله، ثم لطم في قفاي وقال: لا أم لك، ألم تعلم، وذكر الحديث المتقدم. وروى الطبراني عن حاجب مولى زيد بن ثابت قال: دخل علي زيد بن ثابت وأنا بالأسواف قد اصطدت نهسا، فأخذ بأذني من قفاي وقال: تصيد هاهنا وقد حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بين لابتيها؟
والنّهس، كصرد: طائر يشبهه وليس بالصرد، وقيل: إنه اليمام.
وفي الكبير للطبراني برجال ثقات عن عبد الله بن عباد الزرقي- قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه- قال: كنت أصيد العصافير في بئر أهاب، وكانت لهم، قال: فرآني عبادة بن الصامت وقد أخذت العصفور، فينزعه مني فيرسله، ويقول: أي بني، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم مكة.
وروى ابن زبالة ومن طريقه البزار عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال:
اصطدت طيرا بالقنبلة «1» ، فلقيني أبي عبد الرحمن، فعرك أذني، ثم أخذه مني فأرسله، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم صيد ما بين لابتيها.
وفي أبي داود عن مولى لسعد، أن سعدا وجد عبيدا من عبيد المدينة يقطعون شجرا من شجر المدينة، قال: فأخذ متاعهم، وقال يعني لمواليهم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ينهى أن يقطع من شجر المدينة شيء، وقال: من قطع شيئا فلمن أخذه سلبه» ورواه مسلم عن إسماعيل بن محمد بن عامر بن سعد، ولفظه: أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا، أو يخبطه، فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم- أو عليهم- ما أخذ من غلامهم، فقال: «معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ورواه المفضل الجندي عنه، ولفظه: أن سعدا ركب إلى قصر له بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرة، فأخذ سلبه، وذكره بنحوه. ورواه ايضا عن عبد الله بن عمر، ولفظه: أن
__________
(1) القنبلة: مصيدة يصاد بها أبو براقش.(1/88)
سعدا وجد إنسانا يعضد، أو يخبط، عضاها بالعقيق، فأخذ فأسه ونطعه وشيئا سوى ذلك، فاطلع العبد إلى ساداته فأخبرهم الخبر، فركبوا إلى سعد فقالوا: الغلام غلامنا، فاردد إليه ما أخذت منه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر ما قدمناه عنه في الفصل العاشر، وقال في آخره: «فلم أكن لأرد شيئا أعطانيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ورواه ابن زبالة من طرق بنحوه.
وفي بعضها أن سعد بن أبي وقاص وجد جارية لعاصية السلمية تقطع الحمى فضربها وسلبها شملة لها وفأسا كانت معها، فدخلت عاصية السلمية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستعدت على سعد، فقال: اردد إليها يا أبا إسحاق شملتها وفأسها، فقال:
«لا، والله لا أرد إليها غنيمة غنمنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعته يقول: من وجدتموه يقطع الحمى فاضربوه واسلبوه» واتخذ من فأسها مسحاة فما زال يعمل بها حتى لقي الله. وفي بعضها: أخذ سعد بن أبي وقاص جارية لعاصية السلمية تقطع شجرا بالعقيق، فنزع سلبها، وذكر نحوه. وروى أيضا عن سعد قال: غنّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من وجدناه يقطع من شجر حرم المدينة الرطب منه. وعن زيد بن أسلم نحوه. وروى الجندي عن عبد الكريم بن أبي المخارق قال: أتى عمر بن الخطاب ناحية من المدينة فوجد غلاما لبعضهم في حائط، فقال: هل يأتيك هاهنا أحد يحتطب؟ قال: نعم، فقال له عمر: إن رأيت منهم أحدا فخذ فأسه وحبله، قال: وثوبه؟ قال: فأبى، وفس نسخة فأفتى، وفي رواية عنه: أن عمر قال لغلام قدامة بن مظعون: أنت على هؤلاء الحطابين، فمن وجدته احتطب فيما بين لابتي المدينة فلك فأسه وحبله، قال: وثوباه؟ قال عمر: ذلك كثير.
وقد اختلف القائلون بالتحريم في حرم المدينة بالنسبة إلى الضمان بالجزاء، فعن أحمد روايتان، وللشافعي أيضا قولان كالروايتين: الجديد منهما عدم الضمان وهو قول مالك؛ لأنه ليس بمحل نسك، فأشبه مواضع الحمى ووج الطائف «1» ، والقديم الضمان، وهو المختار كما قاله النووي وغيره، لحديث سعد المتقدم، والجواب عنه مسكل، وعلى هذا فالأصح أنه يسلب الصائد وقاطع الشجر والكلأ كما يسلب القتيل من الكفار حتى يؤخذ فرسه وسلاحه، وقيل: الثياب فقط، ويكون ذلك للسالب على الأصح، وقيل:
لفقراء المدينة كما أن جزاء صيد مكة لفقرائها، وقيل: يوضع في بيت المال وسبيله سبيل السهم المرصد للمصالح. قال الشيخ أبو محمد: ويعطى المسلوب إزارا يستر به عورته، فإذا قدر على ما يستر به عورته أخذه منه، واختار الروياني أنه يترك له، وصوبه النووي.
قال الرافعي: والذي يسبق إلى الفهم من الحديث وكلام الأئمة أنه يسلب إذا اصطاد، ولا يشترط الإتلاف، ولفظ الغزالي في الوسيط: لا يسلب حتى يصطاد أو يرسل الكلب،
__________
(1) الوجّ: واد بين الطائف ومكة.(1/89)
ويحتمل التأخير إلى الإتلاف، انتهى. ولا فرق في هذا بين صيد وصيد، ولا بين شجرة وشجرة، وكأن السلب في معنى العقوبة لمتعاطي ذلك. قال السراج البلقيني: ولو كان الصائد أو قاطع الشجر في حرم المدينة عبدا هل يسلب ثيابه كما اتفق لسعد بن أبي وقاص؟ قال: والذي يقتضيه النظر أنه لا يسلب العبد؛ فإنه لا ملك له، وكذلك لو كان على الصائد ثوب مستأجر أو مستعار فإنه لا يسلب، ولم أر من تعرض له، انتهى. قلت:
التحقيق التفصيل بين ما إذا أمره السيد أو من في معناه بذلك وبين ما إذا لم يأمره، ويحمل ما اتفق لسعد على الأول، ولو كان على الصائد والمحتطب ثياب مغصوبة لم تسلب بلا خلاف، كما نقله في شرح المهذب، ونقله في المطلب عن البحر، ثم قال: وينبغي أن تكون المستعارة كذلك، ولو لم يشاهده أحد يصطاد فالظاهر أنه يجب عليه حمل السلب إلى نائب الإمام، ولو تحدث بحضرة أحد فسمعه فهل يجوز له أن يسلبه؟ الظاهر عندي لا، انتهى. ولو أدخل إلى حرم المدينة صيدا لم يلزمه إرساله، وله ذبحه به اتفاقا، وكذا حرم مكة عندنا. وقد روى البيهقي أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقدمون مكة فيرون بها في الأقفاص القماري «1» واليعاقيب، وهذا محمل حديث «يا أبا عمير، ما فعل النغير «2» » أو أنه كان قبل تحريم المدينة؛ لأنه في أول الهجرة، وتحريم المدينة كان بعد رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من خيبر، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر. وقد تمسك أبو حنيفة بقصة أبي عمير فيما ذهب إليه من عدم تحريم صيد المدينة؛ لذهابه في حرم مكة إلى وجوب الإرسال على من أدخل إليه صيدا من خارجه، قال: فلو حرم النبي صلّى الله عليه وسلّم صيد المدينة لما أقر النغير في يد أبي عمير. وجوابه ما تقدم، قال البيهقي: والذاهب إلى عدم تحريم الصيد وغيره بالمدينة زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما أراد بقاء رينة المدينة وبهجتها لتستوطن كما منع من هدم آطام المدينة لذلك، قال أبو هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هدم آطام المدينة، وقال: إنها زينة المدينة، أي فالنهي للتنزيه. قال البيهقي: والنهي عندنا على التحريم حتى تقوم دلالة على التنزيه، قال: واستدل المخالف بحديث سلمة «أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيّعتك إذا ذهبت وتلقيتك إذا جئت، فإني أحب العقيق» قال البيهقي: وهو حديث ضعيف، ومن يدعي العلم بالآثار لا ينبغي له أن يعارض الأحاديث الثابتة في حرم المدينة لهذا الحديث الضعيف، وقد يجوز أن يكون الموضع الذي كان سلمة يصيد فيه خارجا من حرم المدينة، والموضع الذي رأى فيه سعد بن أبي وقاص غلاما يقطع شجرا من حرم المدينة داخله، حتى لا يتنافيان، ولو اختلفا كان الحكم لرواية
__________
(1) القماري: واحدها القمريّ: ضرب من الحمام مطوّق حسن الصوت.
(2) النّغير مصغر النّغر (ج) نغران: فرخ العصفور. والبلبل.(1/90)
سعد لصحة حديثه وثقة رجاله، دون حديث سلمة. قلت: مع أن الذي في الصحيح من حديث سعد لا تعرض فيه لأن القطع كان بالعقيق، وركوبه إلى قصره بالعقيق لا يقتضي أن القطع كان به، بل يقتضي أن القطع في موضع من الحرم خارج، على أن ما يلي ذا الحليفة من العقيق ليس من الحرم عندنا لخروجه عما بين اللابتين، والمالكية وإن اعتبروا البريد فحرم الصيد عندهم ما بين اللابتين كما تقدم، مع امتداد العقيق إلى النقيع «1» ؛ فبعضه خارج عن الحرم بكل حال، فصح ما قاله البيهقي، وقصر سعد مع قصور العقيق في الطرف الداخل منه في الحرم عندنا؛ لكونه بالحرة الغربية. هذا، مع احتمال حديث سلمة لكونه كان قبل تحريم المدينة، والله أعلم.
الثانية: ما يستثنى مما يحرم
استثنى المطري تبعا لابن النجار جواز أخذ ما تدعو الحاجة إليه للرحل- بالحاء المهملة- والوسائد، من شجر حرم المدينة، وما تدعو الحاجة إليه من حشيشه للعلف، بخلاف مكة، هكذا قالاه، وسبقهما إليه ابن الجوزي من الحنابلة فقال في منسكه: إن المدينة تفارق مكة في أنه يجوز أن يؤخذ من شجر المدينة ما تدعو الضرورة إليه للرحل وشبهه، انتهى، ومأخذهم في ذلك ما تقدم في الفصل العاشر في بعض تلك الأحاديث المشتملة على الترخيص في ذلك ونحوه، مع ما رواه ابن زبالة من حديث: يا رسول الله، إنا أصحاب عمل ونضح، وإنا لا نستطيع أن ننتاب أرضا، فرخص لهم في القائمتين والوسادة والعارضة والأسنان، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط، والكلام أولا في توجه الاستدلال بذلك من حيث الإسناد، مع أنا قدمنا في غضون تلك الأحاديث ما يقتضي المنع، سيما حديث الطبراني بإسناد حسن إذ فيه قول جابر: لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن هشوا هشا، ثم قال جابر: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليمنع أن يقطع المسد. قال خارجة: والمسد مرود البكرة، ومن تأمل كلام أصحابنا الشافعية لا يفهم منه سوى استواء الحرمين في ذلك؛ لقولهم: إنه يجوز أخذ حشيش حرم مكة لعلف الدواب على الأصح. وقد قال النووي في الكلام على قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث مسلم المتقدم «ولا يخبط شجره إلا لعلف» : إن فيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف، بخلاف خبط الأغصان وقطعها فإنه حرام، انتهى. وقد قال هو وغيره في شجر مكة: إنه يجوز أخذ أوراقها لكنها لا تهش حذرا من أن يصيب لحاها. وفي شرح المهذب: يجوز أخذ ورقها والأغصان الصغيرة للسواك ونحوه، انتهى؛ فقد استوى الحرمان في ذلك. وقد قال
__________
(1) النقيع: البئر الكثيرة الماء. وهو موضع قريب من المدينة.(1/91)
الغزالي في البسيط والوسيط في حرم مكة: إنه لو قطع منه للحاجة التي يقطع لها الإذخر «1» كتسقيف البيوت ونحوه ففيه الخلاف في قطعه للدواء: أي: والأصح جوازه، وتبعه على ذلك صاحب الحاوي الصغير؛ فجوز القطع للحاجة مطلقا، ولم يخص الدواء، وقل من تعرض للمسألة، ومنه يؤخذ جواز ما استثناه المطري، لكن مع استواء الحرمين في ذلك. وقال القاضي عياض: قال المهلب: قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم النخل من المدينة حين بنى مسجده، وذلك يدل على أن النهي لا يتوجه لقطع شجرها للعمارة وجهة الإصلاح، وأن يقطع شجرها ليتخذ موضعه جنانا وعمارة، وأن توجه النهي إنما هو لقطع الإفساد واستبقاء بهجة المدينة وخضرتها في عين الوارد إليها، انتهى. ونحوه ما روى ابن زبالة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لبني حارثة في طرف من الحمى «أعطيكم على أنه من قطع شجرة غرس مكانها نخلة» ومحل ابن زبالة من الضعف معروف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قطع النخل وهو شجر يستنبته الآدميون، وفيه خلاف؛ فالذي ذهب إليه المالكية والحنفية جواز قطعه في حرم مكة فضلا عن المدينة، وهو أحد القولين عندنا، لكن الأصح إلحاقه بالذي ينبت بنفسه، والجواب عنه باحتمال كونه قبل تحريم المدينة، أو أنه قطعه لحاجة العمارة؛ فإن المتجه جوازه كما تقدم عن الغزالي، ولم يزل أهل المدينة يسقفون بيوتهم بما يقطعون من نخلها. وقد نقل الواقدي في الحرم المكي عن ابن الزبير الترخيص في قطع شجر الحرم المكي للعمارة لكن مع الفداء، على أن الماوردي قال فيما يستنبته الآدميون: محل الخلاف فيما أنبت في موات الحرم، فإن أنبته في أملاكه لم يحرم بلا خلاف، انتهى. وأما ما يستنبت من غير الشجر كالحنطة والخضروات فيجوز قطعه بلا خلاف، وكذا ما يتغذى به مما ينبت بنفسه كالرجلة المسماة بالبقلة الحمقاء ونحو ذلك؛ لأنه في معنى الزرع، صرح باستثنائه المحب الطبري في شرح التنبيه، وهو ظاهر؛ لأنه إذا جاز الأخذ لإطعام البهائم فالآدمي أولى.
الثالثة: ما ذكروه في الأخذ للدواء ونحوه
يتناول تحصيله وادخاره لذلك الغرض، وإن لم يكن السبب قائما، إلا أن عبارة الروضة: ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدواء. وفي شرح المهذب أنه يجوز أخذ النبات للعلف، ولو أخذه ليبيعه ممن يعلف به لم يجز، ومقتضاه أن الدواء كذلك، وظاهر إطلاق الماوردي الجواز مطلقا، وهو ظاهر استناد بعضهم إلى نقل السنا المكي من غير نكير.
الرابعة: دية القتل الخطأ في المدينة مغلظة
تغلّظ الدية في الخطأ على القاتل في حرم المدينة كمكة في وجه الصحيح خلافه، ومأخذه عموم قوله «كما حرم إبراهيم مكة» .
__________
(1) الإذخر: حشيشة تسقف بها البيوت فوق الخشب ولها رائحة طيبة.(1/92)
وقد اختار السراج البلقيني هذا الوجه، قال: لأن الخلاف في ذلك مبني على الخلاف في ضمان صيدها، والمختار عند النووي ضمان صيدها بسلب الصائد. قلت: وما قاله متجّه؛ لعموم قوله «كما حرم إبراهيم مكة» وإنما اختصت مكة بمنع الكافر من دخولها مطلقا، بخلاف المدينة فيجوز أن يدخلها بإذن الإمام أو نائبه للمصلحة؛ لأن المشركين أخرجوا منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعاقبهم الله بالمنع من دخولها بكل حال تعظيما لرسوله صلّى الله عليه وسلّم واستحسن الروياني في البحر التسوية بين مكة والمدينة في أن من مات من الكفار بهما يخرج ويدفن خارجهما، وعلى القول باختصاصه بمكة موجبه ما قدمناه.
الخامسة: حكم لقطة حرم المدينة
سوّى صاحب الانتصار من أصحابنا بين حرم مكة والمدينة في أن لقطتهما لا تحل للتملك، بل للحفظ أبدا، وقال الدارمي: لا تلحق لقطة حرم المدينة بحرم مكة في ذلك. قلت: والذي يقتضيه الدليل ترجيح الأول؛ للنص على ذلك في الأحاديث المتقدمة في الفصل الثامن، وإن كان الأصحاب خصوا مكة بالذكر.
السادسة: حكم المقاتلة في حرم المدينة
مقتضى قوله صلّى الله عليه وسلّم في الأحاديث المتقدمة أيضا «ولا يحمل فيها سلاح لقتال» أن يأتي فيها ما نقل من الخلاف في حرم مكة من أن المقاتلة الجائزة في غيره تحرم فيه كقتال البغاة به «1» ، بل يضيق عليهم إلى أن يخرجوا أو يفيئوا «2» كما ذهب إليه جماعة.
وقال الجمهور: يقاتلون؛ لأن هذا القتال من حقوق الله، وحفظها في الحرم أولى، والحرم لا يعيذ عاصيا. وذهب الحسن البصري إلى أنه لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة؛ للنهي عن القتال فيه، فلا يحمل ما هو من أسبابه، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة» رواه مسلم.
السابعة: حكم الاستنجاء بحجارة الحرم
حكى الماوردي وجهين في جواز الاستنجاء بحجارة الحرم، قال ظاهر المذهب سقوط الفرض بذلك مع تأثيمه. قلت: ينبغي حمله على من نقله من الحرم ليستنجي به في الحل مثلا، وإلا فهو مشكل؛ إذ لا خلاف في إباحة البول في الحرم، فالاستنجاء بالحجارة كذلك، وعبارة شرح المهذب في النقل عن الماوردي بعد حكاية الوجهين في سقوط فرض الاستنجاء بالذهب والديباج: وطردهما الماوردي في الاستنجاء
__________
(1) البغاة: جمع باغي: الخارج عن القانون.
(2) الفيئة: التوبة الحسنة.(1/93)
بحجارة الحرم، انتهى. وهي محتملة لما قررناه، وقد نقل النووي عدم جواز الأكل في الأواني المعمولة من تراب الحرم، على ما قاله الدميري، ولا شك أنه إنما عنى به المنع منه لمن أخرجها من الحرم كما لا يخفى.
الثامنة: حكم نقل تراب الحرم المدني
جزم النووي بتحريم نقل تراب الحرم المدني وأحجاره، اكتفاء بما ذكره من الخلاف في الحرم المكي، وصحح فيه التحريم، والرافعي الكراهة، ونقلها النووي عن كثيرين أو الأكثرين، ونقلها القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي في القديم، ونقل التحريم عن نصه في الجامع الكبير؛ وقال في الأم في حجارة الحرم وترابه: لا خير في أن يخرج منها شيء إلى الحل، لأن له حرمة باين بها ما سواها من البلدان، فلا أرى- والله أعلم- أن جائزا لأحد أن يزيله من الموضع الذي باين به البلدان؛ إذ يصير كغيره.
وروى الشافعي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما كراهة ذلك. قال الشافعي:
وقال غير واحد من أهل العلم: لا ينبغي أن يخرج من الحرم شيء إلى غيره. وحكى الشافعي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة عن ذلك فقال: لا بأس به. قال أبو يوسف: وحدثنا شيخ عن رزين مولى علي بن عبد الله بن عباس أن عليا كتب إليه أن يبعث إليه بقطعة من المروة «1» فيتخذه مصلى يسجد عليه، ونقل القاضي أبو الطيب عن الشافعي أنه قال: رخص بعض الناس في ذلك، واحتج بشراء البرام من مكة، وهو غلط؛ فإن البرام ليست من حجارة الحرم، بل تحمل من مسيرة يومين وثلاثة من الحرم، وحكى في شرح المهذب اتفاق الأصحاب على أن الأولى ألايحمل تراب الحل وأحجاره إلى الحرم؛ لئلا يحدث لها حرمة لم تكن، قال: ولا يقال «إنه مكروه» مع إطلاقه في الروضة والمناسك كراهته، فكأنه أراد بها معنى خلاف الأولى. وقول صاحب البيان «قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم» محمول على نفي الإباحة بمعنى استواء الطرفين، كما وقع مثله في مواضع، وبناء آدم البيت من أجبل ليست من الحرم كلبنان وطور سيناء: إما لأن تحريم الحرم إنما تعلق حكمه وظهر على لسان إبراهيم عليه السلام، وإما لأن شرعه اقتضى ذلك، مع أن الظاهر استثناء نقل حجارة الحل لمصلحة يقتضيها الحال، وما نقله أهل السير من أنهم كانوا يأخذون من تراب قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرت عائشة رضي الله عنها بجدار فضرب عليهم، لا متمسك فيه؛ إذ لم يعرف الفاعل، بل الظاهر أنه ممن لا يحتج بفعله، وأمر عائشة بضرب الجدار يقتضي المنع من
__________
(1) المرو: حجارة بيض رقاق برّاقة تقدح منها النار.(1/94)
ذلك، على أنه ليس فيه أنه كان يؤخذ للنقل من الحرم، وقد نقل أبو المعلى السبتي- وكذا خليل والتادلي المالكيون- كلام النووي في المنع من نقل تراب الحرم وأقروه؛ فالظاهر أنه جار على قواعدهم؛ إذ منها سد الذرائع. وقد قيل في سبب عبادة الأصنام: إن بعضهم كان يصحب معه الحجر من الحرم ليتبرك به، واستشكله البرهان بن فرحون بأمور: منها ما تقدمت الإشارة إلى جوابه، ومنها الإجماع على نقل ماء زمزم واستهداء النبي صلّى الله عليه وسلّم له من سهيل بن عمرو فبعث إليه منه، وجوابه أن ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم، مع أنه يخلف؛ فأشبه الحشيش الذي يخلف، ولهذا قال الشافعي: فأما ماء زمزم فلا أكره الخروج به، والماء ليس بشيء يزول ولا يعود، انتهى. مع أن المحذور المتقدم في الأحجار لا يتوقع مثله في الماء؛ إذ المقصود من نقله شربه وهو ظاهر، بخلاف الحجر وشبهه؛ فإن القصد التبرك به، وهو شيء لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولذا أقول: إن من نقل من فخار الحرم كالكراريز «1» لحاجة استعمالها جاز له، ويحمل كلام من أطلق المنع على ما يراد للتبرك أو مع عدم الحاجة إليه، وإذا جاز أخذ حشيش الحرم للتداوي فهذا أولى، وإذا كان الاحتياج إلى آنية الذهب والفضة يجوّز استعمالها فهذا أولى، فإن أريد نقل ذلك لحاجة متوقعة في المستقبل فينبغي تخريجه على ما تقدم في أخذ نبات الحرم للدواء ونحوه، وقد قدمنا فيما جاء في ترابه استثناء تربة صعيب لما جاء فيها من التداوي، وأن الزركشي استثنى تربة حمزة رضي الله عنه لإطباق الناس على نقلها للتداوي بها من الصداع، وحكى البرهان ابن فرحون عن الإمام العالم أبي محمد عبد السلام بن إبراهيم بن ومصال الحاحاني، قال: نقلت من كتاب الشيخ العالم أبي محمد صالح الهزميري قال:
قال صالح بن عبد الحليم: سمعت أبا محمد عبد السلام بن يزيد الصنهاجي يقول: سألت أحمد بن يكوت عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرك هل يجوز أو يمنع؟
فقال: هو جائز، وما زال الناس يتبركون بقبور العلماء والشهداء والصالحين، وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب في القديم من الزمان. قال ابن فرحون عقبه: والناس اليوم يأخذون من تربة قريبة من مشهد سيدنا حمزة، ويعملون منها خرزا يشبه السبح، واستدل ابن فرحون بذلك على جواز نقل تراب المدينة، وقد علمت مما تقدم أن نقل تربة حمزة رضي الله عنه إنما هو للتداوي؛ ولهذا لا يأخذونها من نفس القبر، بل من المسيل الذي عنده المسجد «2» ، ولئن صح مشروعية التبرك بتراب قبور
__________
(1) الكراريز: أكواز ضيقة الرأس. واحدها: كراز.
(2) المسيل الذي من جهة أحد، لا من القبلة.(1/95)
الصالحين فهو أمر خاص بها لا دلالة فيه على جواز نقل مطلق تراب الحرم، وهو أمر لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم والخير كله في الاتباع، وقد قالت الحنابلة أيضا: يكره نقل حصى الحرم وترابه إلى غيره، ولا يدخل غيره إليه، ونقلوا عن أحمد أنه قال:
الإخراج أشد، انتهى. ويجب على من أخرج شيئا من تراب الحرم أو حجره أن يرده إليه، ولا ضمان عليه في ترك الرد، قال الكمال الدميري: وإذا نقل تراب أحد الحرمين إلى الآخر هل يزول التحريم- أي فينقطع وجوب الرد- أو يفرق بين نقله للأشرف وعكسه؟
فيه نظر، والله أعلم.
الفصل الرابع عشر في ذكر بدء شأنها، وما يؤول إليه أمرها
روى ابن لهيعة بسنده إلى عائشة مرفوعا: «إن مكة بلد عظّمه الله، وعظّم حرمته، خلق مكة وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الأرض كلها بألف عام، ووصلها بالمدينة، ووصل المدينة ببيت المقدس، ثم خلق الأرض كلها بعد ألف عام خلقا واحدا» قال العلامة المقدسي في بعض تأليفاته: هذا حديث غريب جدّا، بل منكر.
وعن سليمان عن أبي عمرو الشيباني عن علي رضي الله عنه: كانت الأرض ماء، فبعث الله ريحا فمسحت الأرض مسحا، فظهرت على الأرض زبدة، فقسمها أربع قطع، خلق من قطعة مكة، والثانية المدينة، والثالثة بيت المقدس، والرابعة الكوفة. وهو أثر واه.
وروينا في الكبير للطبراني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله عز وجل اطلع إلى أهل المدينة وهي بطحاء قبل أن تعمر ليس فيها مدر ولا بشر، فقال: يا أهل يثرب، إني مشترط عليكم ثلاثا وسائق إليكم من كل الثمرات: لا تعصي، ولا تعلي، ولا تكبّري، فإن فعلت شيئا من ذلك تركتك كالجزور لا يمنع من أكله.
وأخرج النسائي من رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس في حديث الإسراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل» الحديث، وفيه: «فركبت ومعي جبريل، فسرت فقال: انزل فصلّ، ففعلت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجر» يعني بفتح الجيم.
ووقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني أنه قال: «أول ما أسري به صلّى الله عليه وسلّم مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل فصل، فنزل فصلى، فقال: صليت بيثرب» الحديث.(1/96)
وروى رزين عن أنس يرفعه «لما تجلى الله لجبل طور سيناء تشظى ستة أشظاظ «1» » وفي رواية غير رزين «شظايا، فنزلت بمكة ثلاثة: حراء، وثبير، وثور، وفي المدينة:
أحد، وعير، وورقان» وفي رواية «ورضوى» بدل عير، ولا يشكل ذلك بكون رضوى بينبع؛ لأن الينبع من توابع المدينة ومضافاتها كما سيأتي، ورواه بعض شراح المصابيح بلفظ «عير، وثور، ورضوى» ومنه يؤخذ حكمة أخرى في تحديد الحرم بعير وثور، وسيأتي بيان أول من سكنها بعد الطوفان في أخبار سكانها.
وروينا في الأمام للشافعي حديث «أسكنت أقل الأرض مطرا، وهي بين عيني السماء عين الشام وعين اليمن» ورواه ابن زبالة بزيادة «فاتخذوا الغنم على خمس ليال من المدينة» .
وروى أيضا حديث «يا معشر المهاجرين إنكم بأقل الأرض مطرا، فأقلوا من الماشية، وعليكم بالزرع، وأكثروا فيه من الجماجم» .
وروى الشافعي أيضا حديث «توشك المدينة أن تمطر مطرا لا يكن أهلها «2» البيوت، ولا يكنهم إلا مظال الشعر» .
وروى أيضا: «توشك المدينة أن يصيبها مطر أربعين ليلة لا يكن أهلها بيت من مدر» .
وروى ابن زبالة حديث «كيف بك يا عائشة إذا رجع الناس بالمدينة وكانت كالرمانة المحشوة؟ قالت: فمن أين يأكلون يا نبي الله؟ قال: يطعمهم الله من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومن جنات عدن» .
وأورد المرجاني في كتابه أخبار المدينة عن جابر مرفوعا «ليعودن هذا الأمر إلى المدينة كما بدأ منها، حتى لا يكون إيمان إلا بها» الحديث.
وروى أحمد برجال ثقات «يوشك أن يرجع الناس إلى المدينة حتى يصير مسالحهم بسلاح» ومسالحهم: جمع مسلح، وهم القوم الذين يحفظون الثغور، وسلاح- كقطام- موضع بقرب خيبر.
وفي مسلم حديث: «تبلغ المساكن أهاب أو يهاب» بكسر المثناة التحتية.
وروى أحمد في حديث طويل أنه صلّى الله عليه وسلّم «خرج حتى أتى بئر الأهاب، قال: يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان» وبئر أهاب: سيأتي أنها بالحرة الغربية.
وروى أبو يعلى عن زيد بن وهب قال: حدثني أبو ذر رضي الله عنه قال: قال لي
__________
(1) الأشظاظ: شظايا مفردها شظية: الفلقة تتناثر من جسم صلب. ورؤوس الأضلاع السفلى وهي شبيهة بالغضاريف.
(2) كنّ الشيء: ستره.(1/97)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بلغ البناء- أي: بالمدينة- سلعا فارتحل إلى الشام» فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام.
وروى ابن زبالة حديث «ليوشكن الدين أن ينزوي إلى هذين المسجدين، ويوشكن أن يتشاحوا على موضع الوتد بالحمى كشح أحدكم أن ينقص من داره إلى جانب المسجد، وليوشكن أن يبلغ بنيانهم يهيقا» قالوا: يا رسول الله، فمن أين يأكلون؟ قال: «من هنا وهاهنا» يشير إلى السماء والأرض.
ويهيقا أوله آخر الحروف: موضع بقرب المدينة على ما سيأتي عن المجد آخر الباب السابع.
وذكر ابن زبالة الشجرة التي يضاف إليها مسجد ذي الحليفة، ثم روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لا تقوم الساعة حتى يبلغ البناء الشجرة» .
وروي أيضا عنه: «أريتك شرف السيالة وشرف الروحاء؛ فإنه منازل أهل الأردن إذا أجيز الناس إلى المدينة» .
وفي الكبير للطبراني في حديث: «سيبلغ البناء سلعا، ثم يأتي على المدينة زمان يمر السفر على بعض أقطارها فيقول: قد كانت هذه مدة عامرة من طول الزمان وعفو الأثر» .
وروى النسائي عن أبي هريرة حديث: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة» ورواه الترمذي بنحوه، وقال: حسن غريب، ورواه ابن حبان بلفظ: «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة» .
وروى أبو داود عن معاذ مرفوعا: «عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية وخروج الدجال» وروى أبو داود أيضا مرفوعا «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر» .
وفي ابن شبة عن أبي هريرة: «ليخرجن أهل المدينة من المدينة خير ما كانت، نصفا زهوا، ونصفا رطبا، قيل: من يخرجهم منها يا أبا هريرة؟ قال: أمراء السوء» .
وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا نحوه، وأن عبد الله بن عمر كان يردّ عليه، فقال له أبو هريرة: لم تردّ علي؟ فوالله لقد كنت أنا وأنت في بيت حين قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يخرج منها أهلها خير ما كانت» فقال ابن عمر: أجل، قد كنت أنا وأنت في بيت، ولكن لم يقله، إنما قال: «أعمر ما كانت» ولو قال: «خير ما كانت» لكان ذلك وهو حي وأصحابه، فقال أبو هريرة: صدقت والذي نفسي بيده، وفيه عنه أيضا: «ليجيئن الثعلب حتى يقيل في ظل المنبر، ثم يروح لا ينهنهه أحد» .(1/98)
وفي رواية عنه: «لا تقوم الساعة حتى يجيء الثعلب فيربض على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينهنهه أحد» وفيه أيضا عن شريح بن عبيد أنه قرأ كتابا لكعب: «ليغشين أهل المدينة أمر يفزعهم حتى يتركوها وهي مذللة «1» ، وحتى يبول السنانير على قطايف الخز ما يروعها شيء، وحتى يخرق الثعالب في أسواقها ما يروعها شيء» .
وفي الصحيحين حديث «لتتركون المدينة» ولفظ مسلم: «لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي» يريد عوافي الطير والسباع «وآخر من يحشر منها راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحوشا» ولفظ مسلم «حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرّا على وجوههما» وهو في الموطأ بلفظ: «لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الكلب أو الذئب فيغذى على بعض سواري المسجد» .
ورواه ابن شبة ولفظة: «فيغذى على سواري المسجد أو المنبر» .
ويغدي- بالغين والذال المعجمتين- أي يبول عليها دفعة دفعة، يقال: غذت المرأة ولدها بالتشديد، إذا أبالته، وبالتخفيف إذا أطعمته.
وفي ابن زبالة- وتبعه ابن النجار- حديث «لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذئاب والضباع فيمر الرجل ببابه فيريد أن يصلى فيه فما يقدر عليه» .
وفي ابن شبة بسند صحيح حديث: «أما والله لتدعنها مذللة أربعين عاما للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع» ورواه ابن زبالة بنحوه.
وروى أحمد برجال الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صعد أحدا، فأقبل على المدينة وقال:
ويل أمها قرية، يدعها أهلها كأينع ما تكون» الحديث، وفي رواية له: «ويل أمك قرية، يدعك أهلك وأنت خير ما تكونين» .
وروي أيضا بإسناد حسن حديث للبشير بن راكب في حب وادي المدينة: «فليقولن لقد كان في هذه مرة حاضرة من المؤمنين» .
وروى أيضا برجال ثقات حديث: «المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة، قالوا: فمن يأكلها؟ قال: السباع والعائف» .
الفصل الخامس عشر فيما ذكر من وقوع ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم من خروج أهلها وتركها، وذكر كائنة الحرة المقتضية لذلك
قد اختلف الناس: متى يكون هذا الترك؟ فقال القاضي عياض: إن هذا جرى في
__________
(1) مذللة: مسهّلة وممهدة.(1/99)
العصر الأول، وإنه من المعجزات، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة إلى الشام والعراق، وذلك أحسن ما كانت من حيث الدين والدنيا: أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها واتساع حال أهلها، قال: وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس، وبقيت ثمارها للعوافي «1» ، وخلت مدة، ثم تراجع الناس إليها.
وحكى البدر ابن فرحون في شرح الموطأ، ومن خطه نقلت، عن القاضي أيضا أنه قال: وقد حكى قوم كثيرون أنهم رأوا ما أنذر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من تغذية الكلاب على سواري مسجدها، انتهى.
وقال النووي: الظاهر المختار أن الترك للمدينة يكون آخر الزمان عند قيام الساعة، ويوضحه قصة الراعيين من مزينة، فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة، ولفظ مسلم واضح في ذلك؛ فإنه قال «ثم يحشر راعيان» ويؤيده كونها آخر قرى الإسلام خرابا.
قلت: ويؤيده رواية ابن شبة المتقدمة «ليدعنها مذللة أربعين عاما للعوافي» وهذا لم يقع اتفاقا، على أنه ورد ما يقتضي أن الترك للمدينة يكون متعددا، فلعل ما ذكره القاضي هو المرة الأولى، وبقي الترك الذي يكون آخر الزمان؛ لأن ابن شبة روى حديث «ليخرجن أهل المدينة من المدينة، ثم ليعودن إليها، ثم ليخرجن منها، ثم لا يعودون إليهما، وليدعنها وهي خير ما يكون مونعة «2» » .
وروي أيضا عن عمر مرفوعا «يخرج أهل المدينة منها ثم يعودون إلها فيعمرونها حتى تمتلئ وتبني، ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبدا» .
وروى ابن شبة عن أبي هريرة قال: «آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة وآخر من مزينة فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس» .
وروي أيضا عن حذيفة بن أسيد قال: «آخر الناس محضرا رجلان من مزينة يفقدان الناس، فيقول أحدهما لصاحبه: قد فقدنا الناس منذ حين، انطلق بنا إلى شخص من بني فلان، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، ثم يقول: انطلق بنا إلى المدينة، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، ثم يقول: انطلق بنا إلى منزل قريش ببقيع الغرقد، فينطلقان فلا يريان إلا السباع والثعالب، فيوجهان نحو البيت الحرام» .
__________
(1) العواف: ما يظفر به الإنسان والحيوان ليلا من صيد ونحوه.
(2) المونعة: الثمرة الناضجة.(1/100)
قلت: وكأنهما إذا توجها نحو البيت الحرام ينزل إليهما الملكان قبل ذهابهما؛ فلا يخالف ما تقدم، فالظاهر أن ما ذكره القاضي هو الترك الأول، وسببه فيما يظهر كائنة الحرة، وقد تقدم من حديث أبي هريرة أنه قيل له: من يخرجهم منها يا أبا هريرة؟ قال:
أمراء السوء، وروى الشيخان- واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة مرفوعا «يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم» .
وروى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: «قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه» الحديث، وفي رواية عنه: أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما هو كائن إلى أن تقوم القيامة، فما من شيء إلا قد سألته، إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة، وروى الترمذي حديثا «إذا مشت أمتي المطيطا «1» ، وخدمتهم بنات فارس والروم، رد الله بأسهم بينهم، وسلط شرارهم على خيارهم» . وروى ابن شبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والذي نفسي بيده ليكونن بالمدينة ملحمة يقال لها الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، فاخرجوا من المدينة ولو على قدر بريد» .
وروى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: اللهم لا تدركني سنة ستين، ولا إمرة الصبيان، يشير إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك، كما قاله الحافظ ابن حجر، فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها، فأشار إلى دولة يزيد وفيها كانت وقعت الحرة، وتسمى حرة واقم، وحرة زهرة.
وروى الواقدي في كتاب الحرة عن أيوب بن بشير المعادي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خرج سفرا من أسفاره، فلما مر بحرة زهرة وقف واسترجع، فسيء بذلك من معه، فظنوا أن ذلك من أمر بسفرهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما الذي رأيت؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما إن ذلك ليس من سفركم هذا، قالوا: فما هو يا رسول الله قال؟ يقتل في هذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي» .
وروي أيضا عن سفيان بن أبي أحمد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أشرف على بني عبد الأشهل أشار بيده، فقال: «يقتل بهذه الحرة خيار أمتي» وروي أيضا عن كعب قال:
نجد في التوراة أن في حرة شرقي المدينة مقتلة تضيء وجوههم يوم القيامة صنعا» وروى أيضا أنه ذكر عند ابن عباس قتلى الحرة، فقال ابن عباس: يرحمهم الله، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقتل بحرة زهرة خيار أمتي» .
__________
(1) المطيطاء: التبختر في المشي ومد اليدين.(1/101)
وروى البيهقي في الدلائل خبر أيوب بن بشير المتقدم، ثم قال: هذا مرسل وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها [الأحزاب: 14] قال: لأعطوها، يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة.
ورواه بالسند إلى ابن عباس وقال: إنه مؤكد لمرسل ابن بشير، وسيأتي في حرة واقم ما رواه ابن زبالة من أن السماء مطرت على عهد عمر رضي الله عنه، فخرج مع أصحابه حتى أتوا حرة واقم وشراجها تطرد، فقال كعب: أما والله يا أمير المؤمنين لتسيلن هذه الشراج بدماء الناس كما تسيل بهذا الماء، فدنا منه ابن الزبير فقال: يا أبا إسحاق ومتى ذلك؟ فقال: إياك أن تكون على رجلك أو يدك!
وروى ابن زبالة عن كعب أيضا: إنا نجد في كتاب الله: حرة شرقي المدينة يقتل بها مقتله تضيء وجوههم يوم القيامة كما يضيء القمر ليلة البدر.
وقعة الحرة
قلت: وسياق كلام القرطبي يقتضي أنها هي السبب في خروج أهل المدينة المذكور في كلام عياض؛ فإنه ذكر نحو كلام عياض، وقال: فلما انتهى حالها- يعني المدينة- كمالا وحسنا تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها، وتوالت الفتن فيها؛ فخاف أهلها، فارتحلوا عنها، ووجّه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش عظيم من أهل الشام، فنزل بالمدينة، فقاتل أهلها، فهزمهم وقتلهم بحرة المدينة قتلا ذريعا، واستباح المدينة ثلاثة أيام، فسميت وقعة الحرة لذلك، ويقال لها: حرة زهرة، وكانت الوقعة بموضع يعرف بواقم على ميل من المسجد النبوي، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار وخيار التابعين، وهم ألف وسبعمائة، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان، وقتل بها من حملة القرآن سبعمائة رجل، ومن قريش سبعة وتسعون قتلوا ظلما في الحرب صبرا، قال: وقال الإمام الحافظ ابن حزم في المرتبة الرابعة: وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبالت، وراثت بين القبر والمنبر أدام الله تشريفها وأكرهوا الناس أن يبايعوا ليزيد على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، وذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعة على حكم القرآن والسنة، فأمر بقتله، فضربت عنقه صبرا، وذكر الأخباريون أنها خلت من أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي كما قال صلّى الله عليه وسلّم وفي حال خلائها غذت الكلاب على سواري المسجد، انتهى كلام القرطبي.
سبب نقمة يزيد بن معاوية على أهل المدينة
وروى الطبراني في خبر طويل عن عروة بن الزبير قال: لما مات معاوية رضي الله عنه تثاقل عبد الله بن الزبير عن طاعة ابنه يزيد، وأظهر شتمه، فبلغ ذلك يزيد، فأقسم لا(1/102)
يؤتى به إلا مغلولا، وإلا أرسل إليه، فقيل لابن الزبير: ألا نصنع لك أغلالا من فضة تلبس عليها الثوب وتبر قسمه فالصلح أجمل بك؟ قال: فلا أبرّ الله قسمه، ثم قال:
ولا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
ثم دعا إلى نفسه، فوجه إليه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش أهل الشام، وأمرهم بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك صار إلى مكة، قال: فدخل مسلم بن عقبة المدينة، وهرب منه يومئذ بقايا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاث فيها، وأسرف في القتل، ثم خرج منها، فلما كان في بعض الطريق مات واستخلف حصين بن نمير الكندي، ثم ذكر حصاره ابن الزبير، ورميه بالمنجنيق، واحتراق الكعبة، قال: وبلغ حصين بن نمير موت يزيد بن معاوية فهرب.
قلت: وسبب أمر يزيد بقتال أهل المدينة ما ذكره الإمام ابن الجوزي قال: لما دخلت سنة اثنين وستين ولّى يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة، فبعث إلى يزيد وفدا من المدينة، فلما رجع الوفد أظهروا شتم يزيد، وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويلعب بالكلاب؛ وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه. وقال المنذر: أما واله لقد أجازني مائة ألف درهم، ولا يمنعني ما صنع أن أصدقكم عنه؛ والله إنه يشرب الخمر، وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة؛ ثم بايعوا لعبد الله بن حنظلة الغسيل؛ وأخرجوا عثمان بن محمد عامل يزيد؛ وكان ابن حنظلة يقول: يا قوم؛ ما خرجنا على يزيد حتى خفت أن نرمى بالحجارة من السماء؛ والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا؛ وكانت قصة الحرة سنة ثلاث وستين؛ وفي هذه السنة أخرج أهل المدينة عامل يزيد المتقدم ذكره.
قلت: وفي كتاب الحرة للواقدي ما ملخصه: أن أول ما هاج أمر الحرة أن ابن ميناء كان عاملا على صوافي «1» المدينة- وبها يومئذ صواف كثيرة- حتى كان معاوية يجد بالمدينة وأعراضها مائة ألف وسق وخمسين ألف وسق، ويحصد مائة ألف وسق حنطة، واستعمل يزيد على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان؛ وأن ابن ميناء أقبل بشرج له من الحرة يريد الأموال التي كانت لمعاوية؛ فلم يزل يسوقه ولا يصده عنه أحد حتى انتهى إلى بلحارث بن الخزرج، فنقب النقيب فيهم، فقالوا: ليس ذلك لك، هذا حدث وضرر علينا، فأعلم الأمير عثمان بن محمد بذلك، فأرسل إلى ثلاثة من بلحارث، فأجابوه إلى أن يمر به، فأعلم ابن ميناء فغدا بأصحابه فذبّوهم «2» ، فرجع إلى الأمير فقال: اجمع لهم
__________
(1) الصوافي: الأملاك، والأرض مات أهلها ولا وارث لها. والضياع كان يستخلصها السلطان لخاصته.
(2) ذبّ عنه: دفع عنه ومنع.(1/103)
من قدرت، وبعث معه بعض جند، وقال: مر به ولو على بطونهم، فغدا ابن ميناء متطاولا عليهم، وعدا من يذبهم من الأنصار، ورفدتهم قريش «1» فذبوهم حتى تفاقم الأمر؛ فرجع ولم يعمل شيئا. وكتب عثمان بن محمد إلى يزيد يخبره بذلك، ويحرضه على أهل المدينة جميعا؛ فاستشاط غضبا؛ وقال: والله لأبعثن إليهم الجيوش، ولأوطئنها الخيل. انتهى.
وقال ابن الجوزي: قال أبو الحسن المدايني- وكان من الثقات-: أتى أهل المدينة المنبر فخلعوا يزيد، فقال عبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي، ونزعها عن رأسه، إني لأقول هذا وقد وصلني وأحسن جائزتي، ولكن عدو الله سكر. وقال آخر: قد خلعته كما خلعت نعلي؛ حتى كثرت العمائم والنعال.
ثم ولوا على قريش عبد الله بن مطيع؛ وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة. ثم حاصر القوم من كان بالمدينة من بني أمية في دار مروان. فكتب مروان ومن معه إلى يزيد: إنا قد حصرنا ومنعنا العذب، فيا غوثاه. فوصل الكتاب إليه. فبعث إلى مسلم بن عقبة- وهو شيخ كبير- فجاء حتى دخل عليه، وقال له: اخرج وسر بالناس، فخرج مناديه، فنادى:
أن تسيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته. فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل. وكتب يزيد إلى ابن مرجانة أن اغز ابن الزبير، فقال: لا والله لا أجمعها للفاسق أبدا قتل ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإغزاء البيت وقال يزيد لمسلم: إن حدث بك حادث فاستخلف حصين بن نمير السكوني. وقال له: ادع القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا بما فيها من مال أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عنهم، وانظر علي بن الحسين فاستوص به، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه، فلما بلغ أهل المدينة إقبال الحصين وثبوا على من كان محصورا من بني أمية، وقالوا: لا نكف عنكم حتى نضرب أعناقكم أو تعطونا عهد الله وميثاقه ألا تبغوا غائلة»
، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوا، فاعطوهم العهد على ذلك، فأخرجوهم من المدينة، فخرجوا حتى لقوا مسلم بن عقبة، وأرسل إليه مروان ابنه عبد الملك فأشار عليه أن يأتيهم من ناحية الحرة، وأن ينتظرهم ثلاثا ففعل، فلما مضت الثلاث قال: يا أهل المدينة، ما تصنعون؟ قالوا:
__________
(1) رفدتهم قريش: أعانتهم وساعدتهم على طردهم.
(2) الغائلة (ج) غوائل: الفساد والشر.(1/104)
نحارب، قال: لا تفعلوا وادخلوا في الطاعة، قالوا: لا نفعل، وكانوا قد اتخذوا خندقا، فنزل منهم جماعة، وحمل ابن الغسل على الخيل حتى كشفها، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعل مسلم يحرض أصحابه، وكان به مرض؛ فنصب له سرير بين الصفين وقال: قاتلوا عن أميركم؛ وأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال، ورفعوا على النساء؛ وقاتل عبد الله بن مطيع حتى قتل هو وبنون له سبعة؛ وبعث برأسه إلى يزيد؛ فأفزع ما جرى من بالمدينة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ونقل الواقدي أن القوم لما قربوا تشاور أهل المدينة في الخندق خندق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وشكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية؛ وعملوا في الخندق خمسة عشر يوما، وكان لقريش ما بين راتج إلى مسجد الأحزاب، والأنصار ما بين مسجد الأحزاب إلى بني سلمة، وللموالي ما بين راتج إلى بني عبد الأشهل، فلما وصل القوم عسكروا بالجرف، وبعثوا رجالا من رجالهم، فأحدقوا بالمدينة من كل ناحية، فما يجدون مدخلا، والناس متلبسون السلاح قد قاموا على أفواه الخنادق يرمون بالنبل والحجارة، وجلس مسلم بناحية واقم، فرأى أمرا هائلا، فاستعان بمروان وكان وعده بوجه في ذلك لما لقيه بوادي القرى؛ فخرج مروان حتى جاء بني حارثة، فكلم رجلا منهم ورغبه في الصنيعة «1» ، وقال: تفتح لنا طريقا فاكتب بذلك إلى يزيد فيصل أرحامكم، ففتح لهم طريقا من قبلهم حتى أدخل له الرجال من بني حارثة إلى بني عبد الأشهل، وجاء الخبر عبد الله بن حنظلة وكان بناحية الصورين في أصحابه، وأقبل عبد الله بن مطيع وكان من ناحية ذباب، وأقبل ابن هريرة في الموالي يطوف بهم على الخنادق، وأقبل ابن ربيعة وكان من ناحية بطحان، فاجتمعوا جميعا من حيث يدخل أهل الشام، قال محمود بن لبيد: قد حضرت يومئذ، فإنما أتينا من قومنا بني حارثة، وكان مروان حين أخرج عمل به عمل قبيح، فكلم رجلا فأدخله ومعه فارس ثم جعلت الخيل تتحدر على أثره، وقد وقفنا بني عبد الأشهل فقاتلنا ما وجدنا حتى عاينا الموت وكثرت القوم وتفرق الناس فقتلوا في كل وجه.
وروى الواقدي أيضا أن قصر بني حارثة كان أمانا لمن أراد أهل الشام أن يؤمنوه، وكانت بنو حارثة آمنين، وأول دار انتهبت والحرب بعد لم ينقطع دار بني عبد الله الأشهل، انتهى.
وأخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ أهل
__________
(1) الصنيعة: كل ما عمل من خير أو إحسان. (ج) صنائع.(1/105)
المدينة يتحدثون أن معاوية رضي الله عنه لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته، فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة، فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرض الناس على يزيد، وعابه، ودعاهم إلى خلع يزيد، فأجابوه، فبلغ ذلك يزيد، فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير؛ وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوما من الشاميين من جانب المدينة، فترك أهل المدينة القتال، ودخلوا المدينة خوفا على أهليهم، فكانت الهزيمة، وقتل من قتل، وبايع مسلم الناس على أنهم خول «1» ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم بما شاء، انتهى.
وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها [الأحزاب: 14] يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة في وقعة الحرة، قال يعقوب: وكانت وقعة الحرة سنة ثلاث وستين، اه.
قالوا: وكلمات امرأة مسلم بن عقبة في ولدها، وقالت: أنا مولاتك، وابني في الأسر؛ فقال: عجلوه لها؛ فضربت عنقه وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين ألاتقتلي حتى تكلمي في ابنك؟!
قلت: وسموه مسرفا لإسرافه في القتل.
ونقل الواقدي في كتاب الحرة أن يزيد دخل على مسرف وكان قد جعله في علية لمرضه؛ فقال له: لولا مرضك لكنت أنت صاحب هذا الأمر، لما أعرف نصيحتك، قال مسرف: أنشدك الله يا أمير المؤمنين ألا تولي أمرهم غيري؛ فإني والله أنا صاحبهم، رأيت في النوم شجرة غرقد تصيح بأغصانها: يا ثارات عثمان، فأقبلت وجعلت الشجرة تقول: على يدي مسلم بن عقبة، حتى جئتها فأخذتها، فعبرت ذلك أني أكون القائم بأمر عثمان؛ فهم قتلته، قال يزيد: فسر إليهم على بركة الله، فأنت صاحبهم، وانظر إذا قدمت المدينة، فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حربا فالسيف السيف، لا تبق فيهم، وأنهبها ثلاثا، وأجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم، وإياك أن تبقي عليهم، وإن لم يعرضوا لك فامض إلى ابن الزبير.
وروى ابن الجوزي من طريق المدايني عن جويرية أن مسلما نظر إلى قتلى الحرة فقال: لئن دخلت النار بعدها إني لشقي، وأسر أسرى فحبسهم ثلاثة أيام لم يطعموا،
__________
(1) الخول: عطيّة الله من النعم والعبيد والإماء وغيرهم من الأتباع والحشم.(1/106)
وجاؤوا بسعيد بن المسيب فقالوا: بايع، فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل أنه مجنون، فخلى عنه.
عدد القتلى في وقعة الحرة
وعن المدايني أيضا عن شيخ من أهل المدينة قال: سألت الزهري: كم كانت القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس قريش والأنصار والمهاجرين، ومن وجوه الموالي وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
وفي كتاب الحرة للواقدي قال: حدثني عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري: كم قتل من الناس يومئذ؟ قال: أما من وجوه الناس فأكثر من سبعمائة من قريش والأنصار ووجوه الموالي، ثم عدّد علي من قتل حتى ما كنت أرى أنه بقي أحد إلا قتل يومئذ، ثم قال الزهري: ولقد قتل ممن لا يعرف من الموالي والعبيد والصبيان والنساء أكثر من عشرة آلاف، ودخلوها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
قلت: وقال القرطبي لليلتين بقيتا من ذي الحجة، وعن الأقشهري عن أبي معشر والواقدي أنها يوم الأربع لليلتين خلتا من ذي الحجة، قلت: ولم أره في كتاب الواقدي، ولعله سبق قلم، والله أعلم.
وذكر المجد أنهم سبوا الذرية، واستباحوا الفروج، وأنه كان يقال لأولئك الأولاد من النساء اللاتي حملن: أولاد الحرة، قال: ثم أحضر الأعيان لمبايعة يزيد، فلم يرض إلا أن يبايعوه على أنهم عبيد يزيد، فمن تلكأ أمر بضرب عنقه، وجاؤوا بعلي بن عبد الله بن عباس، فقال الحصين بن نمير: يا معشر اليمن عليكم ابن أختكم، فقام معه أربعة آلاف رجل، فقال لهم مسلم: أخلعتم أيديكم من الطاعة؟ فقالوا: أما فيه فنعم، فبايعه على أن ابن عم يزيد، انتهى.
وعن المدايني أيضا عن محمد بن عمر قال: قال ذكوان مولى مروان: شرب مسلم بن عقبة دواء بعدما أنهب المدينة، ودعا بالغداء، فقال له الطبيب: لا تعجل فإني أخاف عليك إن أكلت قبل أن تكمل الدواء، قال: ويحك! إنما كنت أحب البقاء حتى أشفي نفسي من قتلة عثمان، فقد أدركت ما أردت، فليس شيء أحب إلي من الموت على طهارتي؛ فإني لا أشك أن الله قد طهّرني من ذنوبي بقتل هؤلاء الأرجاس.
قلت: هذا من عظيم حمقه، قاتله الله وأشقاه! فإن هذا مما يزيد في عظيم جرمه.(1/107)
من قتل من الصحابة يوم الحرة
وممن قتل صبرا يومئذ من الصحابة: عبد الله بن حنظلة الغسيل- قال ابن حزم: قتل مع ثمانية من بنيه- وعبد الله بن زيد حاكي وضوء النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعقل بن سنان الأشجعي- وكان شهد فتح مكة، وكان معه راية قومه يومئذ- وفيه يقول الشاعر:
ألا تلكم الأنصار تبكي سراتها ... وأشجع تبكي معقل بن سنان
ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وقد ذكر ابن جرير الطبري الإمام أن عبد الله بن الغسيل كان يقول:
بعدا لمن رام الفساد وطغى ... وجانب القصد وأسباب الهدى
لا يبعد الرحمن إلا من عصى
ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وقتل معه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وأبوه كان خطيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين ورد وفد تميم، وجعل مسلم بن عقبة يطوف على القتلى ومعه مروان بن الحكم، حتى مر على عبد الله بن الغسيل وهو ماد أصبعه السبابة، فقال مروان: أما والله لئن نصبتها ميتا لطالما نصبتها حيا.
وروى عن محمد بن كعب القرظي قال: قال مروان لعبد الله بن حنظلة الغسيل وقد رآه مشيرا بأصبعه وقد يبست: لئن أشرت بها ميتا لطالما دعوت وتضرعت بها إلى الله تعالى، فقال رجل من أهل الشام: إن كان هو كما تقول فما دعوتنا إلا لقتل أهل الجنة، فقال مروان: خالفوا ونكثوا.
وفي الذيل على ابن النجار للعراقي: ذكر محمد بن سعد في الطبقات أن مروان بن الحكم كان يحرض مسلم بن عقبة على أهل المدينة، وجاء معه معينا له حتى ظفر بهم، وانتهبت المدينة، فلما قدم مروان على يزيد شكر له ذلك وأدناه.
وروى ابن الجوزي بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: ما أصلي لله تعالى صلاة إلا دعوت على بني مروان.
وبسنده أيضا إليه قال: لقد رابني ليالي الحرة ما في المسجد أحد من خلق الله غيري، وإن أهل الشام ليدخلون زمرا يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون، ولا يأتي وقت صلاة إلا سمعت أذانا من القبر، ثم أقيمت الصلاة فتقدمت فصليت وما في المسجد أحد غيري.
وبسنده أيضا إلى المدايني عن أبي قرة قال: قال هشام بن حسان: ولدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج.(1/108)
وعن المدايني أيضا عن أبي عبد الرحمن القرشي عن خالد الكندي عن عمته أم الهيثم بنة يزيد قالت: رأيت امرأة من قريش تطوف، فعرض لها أسود فعانقته وقبلته، فقلت: يا أمة الله، أتفعلين هذا بهذا الأسود؟ فقالت: هو ابني، وقع علي أبوه يوم الحرة.
ونقل العراقي في ذيله عن شيخه أبي المظفر السمعاني أنه روي بسنده إلى أبي غزية الأنصاري قال: كان قوم من أهل المدينة يجتمعون في مجلس لهم بالليل يسهرون فيه، فلما قتل الناس قتلوا ونجا منهم رجل فجاء إلى مجلسه فلم يحس منهم أحدا، ثم جاء الليلة الثانية فكذلك، ثم جاء الثالثة فكذلك، فتمثل بهذا البيت:
ألا ذهب الكماة وخلّفوني ... كفى حزنا بذكرى للكماة
قال: فنودي من المجلس:
فدع عنك الكماة فقد تولّت ... ونفسك فابكها قبل الممات
فكلّ جماعة لا بدّ يوما ... يفرّق بينها شعب الشّتات
وروى الطبراني عن أبي هارون العبدي قال: رأيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ممعط اللحية «1» ، فقلت: تعبث بلحيتك؟ قال: لا، هذا ما لقيت من ظلمة أهل الشام، دخلوا زمن الحرة، فأخذوا ما كان في البيت من متاع أو خرثي «2» ، ثم دخلت طائفة أخرى فلم يجدوا في البيت شيئا فأسفوا أن يخرجوا بغير شيء، فقالوا: أضجعوا الشيخ، فجعل كل يأخذ من لحيتي خصلة.
حرق مسلم بن عقبة والخلاف فيه
وروي أيضا عن محمد بن سعيد خبرا قال فيه: فلما جاء يزيد خلاف ابن الزبير ودعاؤه إلى نفسه دعا مسلم بن عقبة المري وقد أصابه الفالج وقال: إن أمير المؤمنين- يعني أباه- عهد إلي في مرضه إن رابني من أهل الحجاز ريب أن أوجهك إليهم، وقد رابني، فقال: إني كما ظن أمير المؤمنين، اعقد لي وعبّ الجيوش، قال: فورد المدينة فأباحها ثلاثا، ثم دعا إلى بيعة يزيد على أنهم أعبد له قن في طاعة الله ومعصيته، فأجابوه إلى ذلك، إلا رجلا واحدا من قريش أمه أم ولد، فقال له: بايع ليزيد على أنك عبد في طاعة الله ومعصيته، قال: بل في طاعة الله، فأبى أن يقبل ذلك منه، فقتله، فأقسمت أمه قسما لئن أمكنها من مسلم حيا أو ميتا أن تحرقه بالنار، فلما خرج مسلم بن عقبة من المدينة اشتدت علته فمات، فخرجت أم القرشي بأعبد لها إلى قبر مسلم، فأمرت به أن ينبش من عند رأسه فلما وصلوا إليه إذا بثعبان قد التوى على عنقه قابضا بأرنبة أنفه
__________
(1) ممعط اللحية: تساقط شعرها من داء ونحو ذلك.
(2) الخرثى: أثاث البيت، أو أردأ المتاع والغنائم.(1/109)
يمصها، قال: فكاع «1» القوم عنه، وقالوا: يا مولاتنا انصرفي فقد كفاك الله شره، وأخبروها، فقالت: لأوفين الله بما وعدته، ثم قالت: انبشوه من عند الرجلين، فنبشوا، فإذا بالثعبان لاو ذنبه برجليه، قال: فتنحت وصلت ركعتين، ثم قالت: اللهم إنك تعلم أني إنما غضبت على مسلم بن عقبة اليوم لك فخل بيني وبينه، ثم تناولت عودا فمضت إلى ذنب الثعبان فانسل من مؤخر رأسه فخرج من القبر، ثم أمرت به؛ فأخرج من القبر ثم أحرق بالنار.
قلت: وفي كتاب الحرة للواقدي أن الثابت بالبلد عندنا أن مسرفا لما دفن بثنية المشلل «2» وكانت أم ولد ليزيد بن عبد الله بن ربيعة تسير وراء العسكر بيومين أو ثلاثة حتى جاءها الخبر بذلك، فانتهت إليه، فنبشته ثم صلبته على المشلل، قال الضحاك:
فحدثني من رآه مصلوبا يرمى كما يرمى قبر أبي رغال.
وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث قال: والله ما خلصت إليه، ولقد نبشت عنه ولكنها لما انتهت إلى لحده وجدت أسود من الأساود منطويا على رقبته فاتحا فاه، فانصرفت عنه.
وقال ابن الجوزي: لما دخلت سنة أربع وستين- وقد فرغ مسلم من قتال أهل المدينة- سار متوجها إلى مكة، واستخلف على المدينة روح بن زنباع، وسار إلى ابن الزبير؛ فمات في الطريق.
قلت: وذلك مصداق ما جاء في من يقصد أهل المدينة بسوء؛ فأهلكه الله سريعا.
قال القرطبي: أهلكه الله منصرفه عن المدينة، ابتلاه الله بالماء الأصفر في بطنه؛ فمات بقديد بعد الوقعة بثلاث ليال.
وقال الطبري: مات بهرشى بعد الوقعة بثلاث ليال، وكان لحماقته الموفرة يقول عند موته: اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة ألاإله إلا الله أحب إلي من قتال أهل المدينة، ولئن دخلت النار بعدها إني لشقي، ثم دعا حصين بن نمير السكوني وقال له:
أمير المؤمنين ولاك بعدي. فأسرع السير، ولا تؤخر ابن الزبير، وأمره أن ينصب المجانيق على مكة، وقال: إن تعوذوا بالبيت فارمه، وحاصر مكة أربعة وستين يوما جرى فيها قتال
__________
(1) كاعوا عنه: ابتعدوا عنه.
(2) المشلل: جبل يهبط منه إلى قديد.(1/110)
شديد، وقذفت الكعبة بالمجانيق يوم السبت ثالث ربيع الأول، وأخذ رجل قبسا في رأس رمح فطارت به الريح فاحترق البيت، فجاءهم نعي يزيد بن معاوية إهلال ربيع الآخر، وكان بين الحرة وبين موته ثلاثة أشهر، وقال القرطبي: دون ثلاثة أشهر؛ لأنه توفي بالذبحة وذات الجنب في نصف ربيع الأول، فلقد ذاب ذوب الرصاص، واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام، فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته فنكس عنها، فقال لهم بنو أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام، ففعلوا، ومضى ذلك الجيش حتى دخلوا الشام.
وكانت وقعة الحرة، وقتل الحسين، ورمي الكعبة بالمنجنيق من أشنع شيء جرى في أيام يزيد.
وقال عبد الرحمن بن سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم:
فإن تقتلونا يوم حرّة واقم ... فنحن على الإسلام أول من قتل
ونحن قتلناكم ببدر أذلة ... وأبنا بأسلاب لنا منكم نفل
فإن ينج منها عائذ البيت سالما ... فكلّ الذي قد نابنا منكم جلل «1»
يعني بعائذ البيت عبد الله بن الزبير.
وهذه الكائنة غير الإغزاء المذكور في حديث البيداء؛ ولهذا روى ابن شبة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يجيء جيش من قبل الشام حتى يدخل المدينة، فيقتلون المقاتلة، ويبقرون بطون النساء، ويقولون: الحبلى في البطن: اقتلوا صبابة الشر، فإذا علوا البيداء من ذي الحليفة خسف بهم فلا يدرك أسفلهم أعلاهم ولا أعلاهم أسفلهم، قال أبو المهزم: فلما جاء جيش ابن ذبحة قلنا: هم، فلم يكونوا هم.
قلت: وقد جاء في بعض الأخبار بيان أن ذلك الجيش جيش السفياني، يبعثه لقتال المهدي.
وقال يحيى بن سعيد: لم تترك الصلاة في هذا المسجد منذ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا ثلاثة أيام: يوم قتل عثمان، ويوم الحرة، قال مالك: ونسيت الثالث، وفي العتبية عن مالك أنه بلغه ذلك عن سعيد بن المسيب بمعناه، قال ابن رشد: واليوم الثالث الذي ذكر مالك أنه نسيه، قال محمد بن عبد الحكم: هو يوم خرج به أبو حمزة الخارجي، وكان خروجه- فيما ذكروا- في دولة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفاء بني أمية.
__________
(1) الجلل: هيّن يسير. والشيء الكبير العظيم.(1/111)
مسير أبي حمزة إلى المدينة
قال خليفة بن خياط: سار أبو حمزة في أول سنة ثلاثين ومائة، يريد المدينة، واستخلف على مكة إبراهيم بن الصباح الحميري، وجعل على مقدمته فلح بن عقبة السعدي، وخرج أهل المدينة والتقوا بقديد يوم الخميس لتسع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة، وفلح في ثلاثين ألف فارس، فقال لهم: خلوا طريقنا فنأتي هؤلاء الذين بغوا علينا وجاروا في الحكم فإنا لا نريد قتالكم، فأبوا؛ فقاتلوهم فانهزم أهل المدينة، وجاءهم أبو حمزة فقال له علي بن الحصين: اتبع هؤلاء القوم، وأثخن على جريحهم، فإن لكل زمان حكما، والإثخان في مثل هؤلاء أمثل، قال: ما أرى ذلك، ومضى أبو حمزة إلى المدينة فدخلها يوم الإثنين لثلاث عشر خلت من صفر، ففي يوم دخوله إياها- والله أعلم- خلي مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم من أن يجمع فيه، وأصيب من قريش يومئذ ثلثمائة رجل، ومن آل الزبير اثنا عشر رجلا، فما سمع الناس بواكي أوجع للقلوب من بواكي قديد، ما بقي بالمدينة أهل بيت إلا فيهم بكاء، وقالت نائحة تبكيهم:
ما للزمان وما ليه ... أفنى قديد رجاليه
فلأبكينّ سريرة ... ولأبكين علانيه
قلت: وذكر الذهبي عن خليفة بن خياط في خبر أبي حمزة هذا ما ملخصه: أن عبد الله بن يحيى الأعور الكندي المسمى طالب الحق- بعد أن ملك حضرموت وصنعاء- بعث إلى مكة أبا حمزة الخارجي الأباضي المذكور، فخاف عبد الواحد بن سلميان بن عبد الملك- وكان واليا على مكة والمدينة- وخذله أهل مكة، ففارقها في النفر الأول، وقصد المدينة، فغلب أبو حمزة على مكة، ثم سار منها بعد أن استخلف عليها، فلقي بقديد الجيش الذي أرسله عبد الواحد بن سليمان لقتاله، فظفر أبو حمزة، وسار إلى المدينة فدخلها، وقتل فيها جماعة منهم أربعون رجلا من بني عبد العزى، وجهز إليه مروان عسكرا، فلقي بوادي القرى فلحا، وهو على مقدمة أبي حمزة، فاقتتلوا، فقتل فلح وعامة أصحابه، ثم أدركوا أبا حمزة بمكة، فقتلوه في خلق من أصحابه، ثم ساروا لطالب الحق فقتلوه، انتهى ملخصا.
قلت: ولا يحتمل أن ما نقل عن الأخباريين في الخروج من المدينة إنما كان في هذه الكائنة أو قبل ذلك كله في كائنة بسر بن أرطأة، فإن القرطبي قال: وذكر أبو عمرو الشيباني قال: لما وجه معاوية رضي الله عنه بسر بن أرطأة لقتل شيعة علي رضي الله عنه(1/112)
سار إلى أن أتى المدينة، فقتل ابني عبيد الله بن العباس رضي الله عنهما، وفر أهل المدينة حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم، ولكنه بعيد، والأقرب ما قدمناه، والله أعلم.
الفصل السادس عشر في ظهور نار الحجاز التي أنذر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم
فظهرت بأرض المدينة وأطفأها الله تعالى عند وصولها إلى حرمها، كما سنوضحه.
الأحاديث الواردة في هذه النار
روينا في مسند أحمد برجال ثقات عن أبي ذر قال: أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأينا ذا الحليفة، فتعجل رجال إلى المدينة، وبات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبتنا معه، فلما أصبح سأل عنهم، فقيل: تعجلوا إلى المدينة، فقال: «تعجلوا إلى المدينة والنساء، أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت» ثم قال: «ليت شعري متى تخرج نار بأرض اليمن من جبل الوراق تضيء منها أعناق الإبل ببصرى بروكا كضوء النهار» ورواه ابن شبة من غير ذكر «بأرض اليمن» ولفظه «ليتركنها أحسن ما كانت، ليت شعري متى تخرج نار من جبل الوراق تضيء لها أعناق الإبل ببصرى بروكا كضوء النهار» .
وأخرج الطبراني في آخر حديث لحذيفة بن أسد: وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من رومان- أو ركوبة- تضيء منها أعناق الإبل ببصرى» .
قلت: وركوبة كما سيأتي: ثنية قريبة من ورقان، ولعله المراد بجبل الوراق، قال الحافظ ابن حجر: ورومان لم يذكره البكري. ولعل المراد رومة البئر المعروفة بالمدينة، ثم نقل عن البكري أن ركوبة بني المدينة والشام، وسيأتي رده.
وهذه النار مذكورة في الصحيحين في حديث «لا تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز» ، ولفظ البخاري: «تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» .
وروى الطبراني بسند فيه ضعيف عن عاصم بن عدي الأنصاري قال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدثنا ما قدم، فقال: «أين حبس سيل؟» قلنا: لا ندري، فمر بي رجل من بني سليم، فقلت: من أين جئت؟ فقال: من حبس سيل، فدعوت بنعلي، فانحدرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، سألتنا عن حبس سيل، فقلنا: لا علم لنا به، وإنه مر بي هذا الرجل فسألته فزعم أن به أهله، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أين أهلك؟»(1/113)
فقال: بحبس سيل، فقال: «أخرج أهلك منها؛ فإنه يوشك أن تخرج منه نار تضيء أعناق الإبل ببصرى» .
وحديث: «يوشك نار تخرج من حبس سيل تسير سير بطيئة الإبل، تسير النهار وتقيم الليل» الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى من رواية رافع بن بشير السلمي عن أبيه. قال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير رافع، وهو ثقة، انتهى.
وفي مسند الفردوس عن عمر حديث: «لا تقوم الساعة حتى يسيل واد من أودية الحجاز بالنار يضيء له أعناق الإبل ببصرى» وأخرجه ابن عدي في كامله من طريق عمر بن سعيد التنوخي عن ابن شهاب عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رفعه، وعمر بن سعيد ذكره ابن حبان في الثقات، وكتبه ابن عدي والدارقطني.
بيان أن المدينة يمانية كما أنها حجازية
وقد ظهرت هذه النار بالمدينة الشريفة كما سنبينه، ولا إشكال في كون المدينة حجازية، وأما كونها يمانية فقد نص عليه الشافعي. قال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي: ومكة والمدينة يمانيتان. قلت: وقد ذكر الشافعي في الأم حديث: «أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا» الحديث، ثم روى «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقف على ثنية تبوك فقال: ما هاهنا شام، وأشار بيده إلى جهة الشام، وما هاهنا يمن، وأشار بيده إلى جهة المدينة» هكذا نقلته من الأم بهذا اللفظ، وهو في مسند الشافعي بلفظ «ما هاهنا شام، وأشار بيده إلى الشام، ومن هاهنا يمن، وأشار بيده إلى جهة المدينة» قال ابن الأثير في شرحه: الغرض منه بيان حد الشام واليمن، وقد جعل المدينة من اليمن، اه. والعجب أن النووي قال في فتاويه: مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليست يمانية ولا شامية، بل هي حجازية، قال: وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وكأنه لم يقف على هذا.
وأما حبس سيل فقد قيل: إن حبس- بالضم ثم السكون- بين حرة بني سليم والسوارقية، وقد كان إقبال هذه النار من المشرق في جهة طريق السوارقية كما سيأتي، وقال نصر: حبس سيل- بالفتح- إحدى حرتي بني سليم. قلت: وأهل المدينة اليوم(1/114)
يسمون السد الآتي وصفه فيما أحدثته هذه النار بالحبس. وفي كلام ياقوت ما يقتضي أنه كان يسمى بالسد قبل هذه النار؛ فإنه لم يدركها، ومع ذلك قال: إن أعلى وادي قناة عند السد يسمى بالشظاة، اه.
وظهور النار المذكورة بالمدينة الشريفة قد اشتهر اشتهارا بلغ حد التواتر عند أهل الأخبار، وكان ظهورها لإنذار العباد بما حدث بعدها؛ فلهذا ظهرت على قرب مرحلة من بلد النذير صلوات الله وسلامه عليه، وتقدمها زلازل مهولة، وقد قال تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: 59] وقال تعالى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الإسراء: 16] ولما ظهرت النار العظيمة الآتي وصفها، وأشفق منها أهل المدينة غاية الإشفاق، والتجؤوا إلى نبيهم المبعوث بالرحمة، صرفت عنهم ذات الشمال، وزاحت عنهم الأوجال، وظهرت بركة تربته صلّى الله عليه وسلّم في أمته، ولعل الحكمة في تخصيصها بهذا المحل- مع ما قدمناه من كونه حضرة النذير- الرحمة لهذه الأمة فإنها لو ظهرت بغيره وسلطان القهر والعظمة التي هي من آثاره قائم لربما استولت على ذلك القطر ولم تجد صارفا؛ فيعظم ضررها على الأمة، فظهرت بهذا المحل الشريف لحكمة الإنذار، فإذا تمت قابلتها الرحمة فجعلتها بردا وسلاما، إلى غير ذلك من الأسرار.
ابتداء الزلزلة التي حدثت بالمدينة
وكان ابتداء الزلزلة بالمدينة الشريفة مستهلّ جمادى الآخرة أو آخر جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وستمائة، لكنها كانت خفيفة لم يدركها بعضهم مع تكررها بعد ذلك، واشتدت في يوم الثلاثاء على ما حكاه القطب القسطلاني، وظهرت ظهورا عظيما اشترك في إدراكه العام والخاص، ثم لما كان ليلة الأربعاء ثالث الشهر أو رابعه في الثلث الأخير من الليل حدث بالمدينة زلزلة عظيمة أشفق الناس منها، وانزعجت القلوب لهيبتها، واستمرت تزلزل بقية الليل، واستمرت إلى يوم الجمعة ولها دوي أعظم من الرعد، فتموج الأرض، وتتحرك الجدارات، حتى وقع في يوم واحد دون ليله ثمانية عشر حركة على ما حكاه القسطلاني.
وقال القرطبي: قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت بقريظة بطرف الحرة، ترى في صفة البلد العظيم، عليها سور محيط عليه شراريف وأبراج وموادن، وترى رجال يقودونها، لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق له دوي كدوي الرعد، يأخذ الصخور بين يديه، وينتهي إلى محط الركب العراقي، واجتمع من(1/115)
ذلك ردم صار كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر، وقال لي بعض أصحابنا:
رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى، اه.
وقال النووي: تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام.
ونقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة الشريفة وغيره أن في ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت في تلك الليلة تزلزل، ثم استمرت تزلزل كل يوم وليلة مقدار عشر مرات- وفي كتاب بعضهم أربع عشرة مرة- قال: والله لقد زلزلت مرة ونحن حول الحجرة فاضطرب لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتا للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، زاد القاشاني: ثم في اليوم الثالث- وهو يوم الجمعة- زلزلت الأرض زلزلة عظيمة، إلى أن اضطربت منام المسجد، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، قال القطب: فلما كان يوم الجمعة نصف النهار ظهرت تلك النار، فثار من محل ظهورها في الجو دخان متراكم غشى الأفق سواده، فلما تراكمت الظلمات وأقبل الليل سطع شعاع النار، فظهرت مثل المدينة العظيمة في جهة المشرق، والحكمة في ظهورها في يوم الجمعة غير خافية، ففي الحديث «من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ» الحديث، وفي الحديث أيضا: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفهي أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» رواه أبو داود، وهو اليوم الذي ادخره الله لهذه الأمة، وأكمل فيه دينهم؛ فأراد الله أن يخوف عباده فيه بذلك ليردهم إليه، فتلك النار نعمة في صورة نقمة، ولهذا وجلت «1» منها القلوب وأشفقت، وأيقن الناس أن العذاب قد أحاط بهم. قال القاضي سنان: وطلعت إلى الأمير- وكان عز الدين منيف بن شيحة- وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله، فأعتق كل مماليكه، ورد على الناس مظالمهم- زاد القاشاني: وأبطل المكس- ثم هبط الأمير للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبات في المسجد ليلة الجمعة وليلة السبت، ومعه جميع أهل المدينة حتى النساء والصغار، ولم يبق أحد في النخل إلا جاء إلى الحرم الشريف، وبات الناس يتضرعون
__________
(1) وجلت منها القلوب: خافت وفزعت.(1/116)
ويبكون، وأحاطوا بالحجرة الشريفة كاشفين رؤوسهم مقرّين بذنوبهم مبتهلين مستجيرين بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم. قال القطب: ولما عاين أمير المدينة ذلك أقلع عن المخالفة، واعتبر، ورجع عما كان عليه من المظالم وانزجر، وأظهر التوبة والإنابة، وأعتق جميع مماليكه، وشرع في رد المظالم، وعزم أهل المدينة على الإقلاع عن الإصرار وارتكاب الأوزار، وفزعوا إلى التضرع والاستغفار، وهبط أميرهم من القلعة مع قاضيهم الشريف سنان وأعيان البلد، والتجؤوا إلى الحجرة الشريفة، وباتوا بالمسجد الشريف بأجمعهم حتى النساء والأطفال؛ فصرف الله تعالى عنهم تلك النار العظيمة ذات الشمال، ونجوا من الأوجال، فسارت تلك النار من مخرجها وسالت ببحر عظيم من النار، وأخذت في وادي أحيليين وأهل المدينة يشاهدونها من دورهم كأنها عندهم، ومالت من مخرجها إلى جهة الشمال واستمرت مدة ثلاثة أشهر على ما ذكره المؤرخون.
مدة النار
وذكر القطب القسطلاني في كتاب أفرده لهذه النار، وهو ممن أدركها، لكنه كان بمكة فلم يشاهدها: أن ابتداءها يوم الجمعة السادس من شهر جمادى الآخرة، وأنها دامت إلى يوم الأحد السابع والعشرين من رجب، ثم خمدت، فجملة ما أقامت اثنان وخمسون يوما، لكنه ذكر بعد ذلك أنها أقامت منطفية أياما، ثم ظهرت، قال: وهي كذلك تسكن مرة وتظهر أخرى؛ فهي لا يؤمن عودها، وإن طفئ وقودها، انتهى؛ فكأن ما ذكره المؤرخون من المدة باعتبار انقطاعها بالكلية، وطالت مدتها ليشتهر أمرها فينزجر بها عامة الخلق ويشهدوا من عظمها عنوان النار التي أنذرهم بها حبيب الحق.
قوة النار
وذكر القسطلاني عمن يثق به أن أمير المدينة أرسل عدة من الفرسان إلى هذه النار للإتيان بخبرها، فلم تجسر الخيل على القرب منها، فترجل أصحابها وقربوا منها، فذكروا أنها ترمي بشرر كالقصر، ولم يظفروا بجلية أمرها، فجرد عزمه للإحاطة بخبرها، فذكر أنه وصل منها إلى قدر غلوتين بالحجر ولم يستطع أن يجاوز موقفه من حرارة الأرض وأحجار كالمسامير تحتها نار سارية ومقابله ما يتصاعد من اللهب، فعاين نارا كالجبال الراسيات، والتلال المجتمعة السائرات، تقذف بزبد الأحجار كالبحار المتلاطمة الأمواج، وعقد لهيبها(1/117)
في الأفق قتاما حتى ظن الظان أن الشمس والقمر كسفا إذ سلبا بهجة الإشراق في الآفاق، ولولا كفاية الله كفتها لأكلت ما تقدم عليه من الحيوان والنبات والحجر، انتهى.
وذكر الجمال المطري ما يخالف بعض هذا؛ فإنه قال: أخبرني علم الدين سنجر العزي من عتقاء الأمير عز الدين منيف بن شيحة صاحب المدينة قال: أرسلني مولاي الأمير عز الدين بعد ظهور النار بأيام، ومعي شخص من العرب، وقال لنا ونحن فارسان:
اقربا من هذه النار، وانظرا هل يقدر أحد على القرب منها، فإن الناس يهابونها لعظمها، فخرجت أنا وصاحبي إلى أن قربنا منها؛ فلم نجد لها حرا، فنزلت عن فرسي، وسرت إلى أن وصلت إليها، وهي تأكل الصخر والحجر، فأخذت سهما من كنانتي، ومددت به يدي إلى أن وصل النصل إليها فلم أجد لذلك ألما ولا حرا، فعرق النصل ولم يحترق العود، فأدرت السهم وأدخلت فيها الريش فاحترق الريش ولم يؤثر في العود.
وذكر المطري قبل ذلك أنها كانت تأكل كل ما مرت عليه من جبل وحجر، ولا تأكل الشجر، قال: وظهر لي في معنى ذلك أنه لتحريم النبي صلّى الله عليه وسلّم شجر المدينة؛ فمنعت من أكل شجرها لوجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم على كل مخلوق.
قلت: وذكر القسطلاني أن هذه النار لم تزل مارة على سبيلها حتى اتصلت بالحرة ووادي الشظاة، وهي تسحق ما والاها، وتذيب ما لاقاها من الشجر الأخضر والحصى من قوة اللظى، وأن طرفها الشرقي أخذ بين الجبال فحالت دونه ثم وقفت، وأن طرفها الشامي- وهو الذي يلي الحرم- اتصل بجبل يقال له وعيرة على قرب من شرقي جبل أحد، ومضت في الشظاة الذي في طرفه وادي حمزة رضي الله عنه، ثم استمرت حتى استقرت تجاه حرم النبي صلّى الله عليه وسلّم فطفئت، قال: وأخبرني شخص أعتمد عليه أنه عاين حجرا ضخما من حجارة الحرة كان بعضه خارجا عن حد الحرم، فعلقت بما خرج منه، فلما وصلت إلى ما دخل منه في الحرم طفئت وخمدت، انتهى.
وهذا أولى بالاعتماد من كلام المطري؛ لأن المطري لم يدرك هذه النار وإن أدرك من أدركها، بخلاف القطب فإنه أدركها، واعتنى بجمع أخبارها، وأفردها بالتصنيف، ولم يقف عليه المطري، وهذا أبلغ في الإعجاز، حيث لم تدخل هذه النار حرمه الشريف؛ إذ هي للإنذار والتخويف وهو نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلّم.
ضوء النار
وقد نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب القاضي سنان الحسيني أن سيل النار انحدر مع وادي الشظاة حتى حاذى جبل أحد، وكادت النار تقارب حرة العريض وخاف الناس منها خوفا عظيما، ثم سكن قتيرها الذي يلي المدينة، وطفئت مما يلي العريض بقدرة الله(1/118)
تعالى، فرجعت تسير في الشرق، وهو مؤيد لما ذكره القطب، ومشاهدة آثارها اليوم تقضي بذلك.
قال المطري: وأخبرني بعض من أدركها من النساء أنهن كن يغزلن على ضوئها بالليل على أسطحة البيوت بالمدينة الشريفة.
وقال القسطلاني: إن ضوءها استوى على ما بطن من القيعان «1» ، وظهر من القلاع، حتى كأن الحرم النبوي عليه الشمس مشرقة، وجملة أماكن المدينة بأنوارها محدقة، ودام على ذلك لهبها حتى تأثر له النيران، وصار نور الشمس على الأرض تعتريه صفرة، ولونها من تصاعد الالتهاب يعتريه حمرة، والقمر كأنه قد كسف من اضمحلال نوره، قال:
وأخبرني جمع ممن توجه للزيارة على طريق المشيان أنهم شاهدوا ضوءها على ثلاثة مراحل للمجدّ، وآخرون أنهم شاهدوها من جبال ساية.
قلت: نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة أن هذه النار رئيت من مكة ومن الفلاة جميعها، ورآها أهل ينبع.
قال أبو شامة: وأخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها بالمدينة أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب.
وقال المجد: والشمس والقمر في المدة التي ظهرت بها ما يطلعان إلا كاسفين.
قال أبو شامة: وظهر عندنا بدمشق أثر ذلك الكسوف من ضعف النور على الحيطان، وكنا حيارى من سبب ذلك، إلى أن بلغنا الخبر عن هذه النار، وكل من ذكر هذه النار يقول في آخر كلامه: وعجائب هذه النار وعظمتها يكلّ «2» عن وصفها البنان والأقلام، وتجل عن أن يحيط بشرحها البيان والكلام؛ فظهر بظهورها معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لوقوع ما أخبر به وهي هذه النار؛ إذ لم تظهر من زمنه صلّى الله عليه وسلّم قبلها ولا بعدها نار مثلها.
هل رؤيت النار ببصرى
وقال القسطلاني: إن جاء من أخبر برؤيتها ببصرى فلا كلام، وإلا فيحتمل أن يكون ذكر ذلك في الحديث على وجه المبالغة في ظهورها، وأنها بحيث ترى، وقد جاء من أخبر أنه أبصرها بتيماء، وبصرى منها مثل ما هي من المدينة في البعد.
قلت: قد تقدم عن القرطبي أنه بلغه أنها رئيت من جبال بصرى، وصرح الشيخ عماد الدين بن كثير بما يقتضي أنه أضاءت من هذه النار أعناق الإبل ببصرى، فقال: أخبرني قاضي القضاة صدر الدين الحنفي قال: أخبرني والدي الشيخ صفي الدين مدرس مدرسة
__________
(1) القيعان: (ج) قاع، أرض سهلة مستوية مطمئنة عما يحيط بها من الجبال والآكام، تنصبّ إليها مياه الأمطار فتمسكها ثم تنبت العشب.
(2) كلّ: كلولا وكلالة: ضعف وعجز.(1/119)
بصرى أنه أخبره غير واحد من الأعراب صبيحة الليلة التي ظهرت فيها هذه النار ممن كان يحاضره ببلد بصرى أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء تلك النار، فقد تحقق بذلك أنها الموعود بها، والحكمة في إنارتها بالأماكن البعيدة من هذا المظهر الشريف حصول الإنذار، ليتم به الانزجار، كما اتفق لأهل المدينة، وفي هذا المعنى يقول قائلهم:
يا كاشف الضّرّ صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء
نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها ... حملا ونحن بها حقا أحقّاء «1»
زلازلا تخشع الصّمّ الصّلاب لها ... وكيف تقوى على الزلزال شمّاء «2»
أقام سبعا يرجّ الأرض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء
بحر من النار تجري فوقه سفن ... من الهضاب لها في الأرض إرساء
ترمي لها شررا كالقصر طائشة ... كأنها ديمة تنصبّ هطلاء
تنشقّ منها بيوت الصخر إن زفرت ... رعبا، وترعد مثل السعف أضواء
منها تكاثف في الجو الدخان إلى ... أن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سعفة في البدر لفحتها ... فليلة التم بعد النور عمياء
تحدت النيرات السبع ألسنها ... بما تلاقي بها تحت الثرى الماء
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى ... أن صار يلفحها بالأرض أهواء
فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ... منا الذنوب وساء القلب أسواء
فاسمح وهب وتفضل بالرضى كرما ... وارحم فكلّ لفرط الجهل خطّاء
فقوم يونس لما آمنوا كشف الت ... عذيب عنهم وعمّ القوم نعماء
ونحن أمة هذا المصطفى، ولنا ... منه إلى عفوك المرجو دعّاء
هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت ... محجة في سبيل الله بيضاء
فارحم وصلّ على المختار ما خطبت ... على علا منبر الأوراق ورقاء
مبدأ ظهور النار
قال المؤرخون: وكان ظهور هذه النار من صدر واد يقال له وادي الأحيليين وقال البدر بن فرحون: إنها سالت في وادي أحيليين، وموضعها شرقي المدينة على طريق السوارقية مسيرة من الصبح إلى الظهر.
قال القطب القسطلاني: ظهرت في جهة المشرق على مرحلة متوسطة من المدينة في
__________
(1) الحقيق: الحريص.
(2) الشماء: المراد بها الجبال أو المكان المرتفع.(1/120)
موضع يقال له قارع الهيلاء على قرب من مساكن قريظة شرقي قباء، فهي بين قريظة وموضع يقال له أحيليين، فثارت من هذا القاع، ثم امتدت فيه آخذة في الشرق إلى قريب من أحيليين، ثم عرجت واستقبلت الشام سائلة إلى أن وصلت إلى موضع يقال له قرين الأرنب بقرب من أحد، فوقفت وانطفت وانصرفت، انتهى.
من فوائد هذه النار
قال المؤرخون: واستمرت هذه النار مدة ظهورها تأكل الأحجار والجبال، وتسيل سيلا ذريعا في واد يكون طوله مقدار أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض والصخر يذوب حتى يبقى مثل الآنك «1» ، فإذا خمد اسودّ بعد أن كان أحمر، ولم يزل يجتمع من هذه الحجارة المذابة في آخر الوادي عند منتهى الحرة حتى قطعت في وسط وادي الشظاة إلى جهة جبل وعيرة، فسدت الوادي المذكور بسد عظيم من الحجر المسبوك بالنار ولا كسد ذي القرنين، يعجز عن وصفه الواصف، ولا مسلك لإنسان فيه ولا دابة.
قلت: وهذا من فوائد إرسال هذه النار؛ فإن تلك الجهة كثيرا ما يطرق منها المفسدون لكثرة الأعراب بها؛ فصار السلوك إلى المدينة متعسّرا عليهم جدّا.
قال القسطلاني: أخبرني جمع ممن أركن إلى قولهم إن النار تركت على الأرض من الحجر ارتفاع رمح طويل على الأرض الأصلية.
قال المؤرّخون: وانقطع وادي الشظاة بسبب ذلك، وصار السيل إذا سال ينحبس خلف السد المذكور حتى يصير بحرا مد البصر عرضا وطولا، فانخرق من تحته في سنة تسعين وستمائة لتكاثر الماء من خلفه، فجرى في الوادي المذكور سنتين كاملتين، أما السنة الأولى فكان قد ملأ ما بين جانبي الوادي، وأما الثانية فدون ذلك، ثم انخرق مرة أخرى في العشر الأول بعد السبعمائة فجرى سنة كاملة أو أزيد، ثم انخرق في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وكان ذلك بعد تواتر أمطار عظيمة في الحجاز، فكثر الماء وعلا من جانبي السد ومن دونه مما يلي جبل وعيرة وتلك النواحي، فجاء سيل طام لا يوصف، ولو زاد مقدار ذراع في الارتفاع وصل إلى المدينة، وكان أهل المدينة يقفون خارج باب البقيع على التل الذي هناك فيشاهدونه ويسمعون خريرا توجل القلوب دونه، فسبحان القادر على ما يشاء!
__________
(1) الآنك: الرصاص.(1/121)
النذر الحادثة في عام النار والذي يليه
ومن العجائب أن في السنة التي ظهرت فيها هذه النار احترق المسجد الشريف النبوي بعد انطفائها كما سيأتي، وزادت دجلة زيادة عظيمة فغرق أكثر بغداد وتهدمت دار الوزير، وكان ذلك إنذارا لهم، وليتهم اتعظوا.
ثم في أول السنة التي تلي هذه السنة وقعت الطامة الكبرى، وهي أخذ التتار لبغداد وقتل الخليفة المستعصم وبعده المسلمون، وبذل السيف ببغداد نيفا وثلاثين يوما، وأخرجت الكتب فألقيت تحت أرجل الدواب، وشوهد بالمدرسة المستنصرية معالف الدواب مبنية بالكتب موضع اللبن «1» ، وخلت بغداد من أهلها، واستولى عليها الحريق على ما ذكره سعيد الذهلي، واحترقت دار الخلافة، وعم الحريق أكثر الأماكن حتى القصور البرانية وترب الرصافة مدفن ولاة الخلافة، وشوهد على بعض حيطان منها مكتوب:
إن ترد عبرة فهذا بنو ... العباس دارت عليهم الدائرات
استبيح الحريم إذ قتل الأحي ... اء منهم وأحرق الأموات
ثم كثر الموت والفناء ببغداد، وطوى بساط الخلافة منها من ذلك الزمان، فلله الخلق والأمر!
وقد نظم بعضهم خروج هذه النار وغرق بغداد، وأصلحه أبو شامة منبها على أن الأمرين في سنة بقوله:
سبحان من أصبحت مشيئته ... جارية في الورى بمقدار
في سنة أغرق العراق، وقد ... أحرق أرض الحجاز بالنار
بعض ما يناسب هذه النار
قال المجد: ومما يناسب هذه النار ويضاهيها ما حكاه ابن جبير أنه رأى من أخبره أن في بحر رومية جزيرتين يخرج منهما النار دائما، قال: وأبصرنا الدخان صاعدا منهما، وتظهر بالليل نار حمراء ذات ألسن تصعد في الجو، قال: وأعلمنا أن خروجها من جبلين يصعد منهما نفس ناري شديد، وربما قذف فيها الحجر فتلقى به مسودا إلى الهواء بقوة ذلك النفس، وتمنعه من الانتهاء إلى القعر، قال: وأما الجبل الشامخ الذي بالجزيرة المعروف بجبل النار فشأنه أيضا عجيب، وذلك أن نارا تخرج منه في بعض السنين كالسيل
__________
(1) اللّبن: المضروب من الطين النيئ يا بنى به دون أن يطبخ.(1/122)
العرم؛ فلا تمر بشيء إلا أحرقته، حتى تنتهي إلى البحر فتركب ثبجه «1» طائرة على صفحته حتى تغوص فيه.
شأن خالد بن سنان العبسي
قلت: وأقرب من ذلك في مناسبة هذه النار ما ذكره ابن شبة في أخبار المدينة- عند ذكر خالد بن سنان العبسي الذي قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما جاءته بنته «هذه ابنة نبي ضيعه قومه» - فروى ابن شبة في خبره من طرق ما ملخصه أنه كان بأرض الحجاز نار يقال لها نار الحدثان (حرة بأرض بني عبس) تعشى الإبل «2» بضوئها من مسيرة ثماني ليال، وربما خرج منها العنق فذهب في الأرض فلا يبقي شيئا إلا أكله، ثم يرجع حتى يعود إلى مكانه، وإن الله تعالى أرسل إليها خالد بن سنان، فقال لقومه: يا قوم، إن الله أمرني أن أطفئ هذه النار التي قد أضرت بكم فليقم معي من كل بطن رجل، فخرج بهم حتى انتهى إلى النار فخط عليهم خطا ثم قال: إياكم أن يخرج أحد منكم من هذا الخط فيحترق، ولا ينوهن باسمي فأهلك، وجعل يضرب النار ويقول: بدا بدا «3» كل هدي لله مودا، حتى عادت من حيث جاءت، وخرج يتبعها حتى ألجأها في بئر في وسط الحرة منها تخرج النار، فانحدر فيها خالد. وفي درة الغواص: فإذا هو بكلاب تحتها فرضهن بالحجارة، وضرب النار حتى أطفأها الله على يده، ومعهم ابن عم له، فجعل يقول: هلك خالد، فخرج وعليه بردان ينطفان «4» من العرق وهو يقول: كذب ابن رايعة المعزى لآخرجنّ منها وثيابي تندى، فسموا بني ذلك الرجل «بني راعية المعزى» إلى اليوم، وفي رواية أن قومه سالت عليهم نار من حرة النار في ناحية خبير، والناس في وسطها، وهي تأتي من ناحيتين جميعا، فخافها الناس خوفا شديدا. وفي رواية: وهي تخرج من شق جبل من حرة يقال لها حرة أشجع، فقال لهم خالد بن سنان: ابعثوا معي إنسانا حتى أطفئها من أصلها، فخرج معه راعي غنم، وهو ابن راعية، حتى جاء غارا تخرج منه النار. وفي رواية: أنها كانت تخرج من بئر، ثم قال خالد للراعي: أمسك ثوبي، ثم دخل في الغار، وفي رواية:
أنه انطلق في ناس من قومه حتى أتوها، وقال لهم: إن أبطأت عنكم فلا تدعوني باسمي، فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضا، فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه ويقول:
هديا هديا، كل نهب مودى، زعم ابن راعية المعزى، أني لا أخرج منها وثيابي تندى،
__________
(1) ثبج البحر: وسطه (ج) أثباج وثبوج.
(2) عشا بصره: ساء بصره ليلا.
(3) بدا بدا: تبدّدي وتفرّقي.
(4) نطف- نطفانا: جهد حتى نطف عرقه.(1/123)
حتى دخل معها الشعب، فأبطأ عليهم، فقال بعضهم: لو كان حيّا لخرج إليكم، فقالوا:
إنه قد نهاها أن ندعوه باسمه، قال: ادعوه باسمه، فو الله لو كان حيّا لخرج إليكم بعد، فدعوه باسمه، فخرج وهو آخذ برأسه؛ فقال: ألم أنهكم أن تدعوني باسمي؟ قد والله قتلتموني، احملوني وادفنوني، فإذا مرت بكم حمر معها حمار أبتر، وفي رواية فإذا دفنتموني وأتى عليّ ثلاثة أيام فأتوا قبري، فإذا عرضت لكم عانة «1» من حمر وحش وبين يديها عير فانبشوني فإني أقوم فأخبركم ما هو كائن إلى يوم القيامة، فأتوا القبر بعد ثلاث وسنحت لهم الحمر، فأرادوا نبشه، فمنعهم قوم من أهل بيته، وقالوا: لا ندعكم تنبشون صاحبنا فنعير بذلك، وفي رواية: فيكون سبة علينا، فتركوه.
وفي رواية لابن القعقاع بن خليد العبسي عن أبيه عن جده، قال: بعث الله خالد بن سنان نبيا إلى بني عبس، فدعاهم فكذبوه، فقال قيس بن زهير: إن دعوت فأسيل علينا هذه الحرة نارا اتبعناك؛ فإنك تخوفنا بالنار، وإن لم تسل نارا كذبناك، قال: فذلك بيني وبينكم؟
قالوا: نعم، قال: فتوضأ ثم قال: اللهم إن قومي كذّبوني ولم يؤمنوا برسالتي إلا أن تسيل عليهم هذه الحرة نارا، فأسلها عليهم نارا، قال: فطلع مثل رأس الحريش «2» ، ثم عظمت حتى عرضت أكثر من ميل، فسالت عليهم، فقالوا: يا خالد ارددها فإنا مؤمنون بك، فتناول عصا ثم استقبلها بعد ثلاث ليال فدخل فيها فضربها بالعصا، فلم يزل يضربها حتى رجعت، قال: فرأيتنا نعشى الإبل على ضوء نارها ضلعا الربذة وبين ذلك ثلاث ليال.
قف على كرامة لتميم الداري
وروى له ابن شبة أخبارا أخرى مع قومه، وروى البيهقي في دلائل النبوة في باب «ما جاء في الكرامة التي ظهرت على تميم الداري شرفا للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم وتنويها باسم من آمن به، عن معاوية بن حرمل، وذكر خبرا في قدومه المدينة، وقول عمر له: اذهب إلى خير المؤمنين فانزل عليه، ثم قال: فبينا نحن ذات يوم إذ خرجت نار بالحرة، فجاء عمر رضي الله عنه إلى تميم الداري رضي الله عنه، فقال: قم إلى هذه النار، فقال: يا أمير المؤمنين ومن أنا؟ قال: فلم يزل به حتى قام معه، قال: وتبعتهما فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها «3» بيده حتى دخلت الشعب، ودخل تميم خلفها، فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير، قالها ثلاثا، والله أعلم.
__________
(1) العانة: القطيع من حمر الوحش. العير: الحمار.
(2) الحريش: جنس حيوانات من كثيرات الأرجل الشفوية.
(3) حاش- الدواب- حوشا: ساقها وجمعها.(1/124)
الباب الثالث في أخبار سكانها في سالف الزمان، ومقدمه صلّى الله عليه وسلّم إليها،
وما كان من أمره بها في سنين الهجرة، وفيه اثنا عشر فصلا
الفصل الأول في سكانها بعد الطوفان، وما ذكر في سبب نزول اليهود بها، وبيان منازلهم
نزول عبيل بيثرب
أسند الكلبي عن ابن عباس أن مخرج الناس من السفينة نزلوا طرف بابل، وكانوا ثمانين نفسا، فسمى الموضع سوق الثمانين، قال: وطول بابل مسيرة عشرة أيام واثني عشر فرسخا، فمكثوا بها حتى كثروا، وصار ملكهم نمروذ بن كنعان بن حام، فلما كفروا بلبلوا، فتفرقت ألسنتهم على اثنين وسبعين لسانا، ففهّم الله العربية منهم عمليق وطسم ابني لوذا بن سام، وعادا وعبيل ابني عوص بن أرم بن سام، وثمود وجديس ابني جاثق بن أرم بن سام، وقنطور بن عابر بن شالخ بن أرفحشذ بن سام، فنزلت عبيل يثرب، ويثرب اسم ابن عبيل، ثم أخرجوا منها فنزلوا الجحفة، فجاءهم سيل أجحفهم فيه، فلهذا سميت جحفة، فرثاهم رجل منهم فقال:
عين جودي على عبيل وهل ير ... جع من فات بيضها بالسحام؟
عمروا يثربا وليس بها شف ... ر ولا صارخ ولا ذو سنام
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام
أول من سكن يثرب
وقال أبو القاسم الزجاجي: أول من سكن المدينة عند التفرق يثرب بن قاينة ابن مهلائيل بن أرم بن عبيل بن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، وبه سميت يثرب، وروي عن ابن عباس ما يدل له.
سكنى العماليق المدينة
وقال ياقوت: كان أول من زرع بالمدينة، واتخذ بها النخل، وعمر بها الدور والآطام، واتخذ بها الضياع، العماليق، وهم بنو عملاق بن أرفخشذ بن سام بن نوح،(1/125)
وكانت العماليق ممن انبسط في البلاد، فأخذوا ما بين البحرين وعمان والحجاز كله إلى الشام ومصر، وجبابرة الشام وفراعنة مصر منهم، وكان منهم بالبحرين وعمان أمة يسمون جاسم، وكان ساكن المدينة منهم بنو هف وبنو مطرويل، وكان ملكهم بالحجاز الأرقم بن أبي الأرقم.
وأسند ابن زبالة عن زيد بن أسلم أن ضبعا رؤيت وأولادها رابضة في حجاج عين رجل من العماليق- والحجاج، بكسر أوله وفتحه: العظم الذي ينبت عليه الحاجب- قال زيد بن أسلم: وكان تمضي أربعمائة سنة وما يسمع بجنازة.
قوم من اليهود ينزلون المدينة
وأسند رزين عن أبي المنذر الشرقي قال: سمعت حديث تأسيس المدينة من سليمان بن عبيد الله بن حنظلة الغسيل، قال: وسمعت أيضا بعض ذلك من رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عمار بن ياسر، قال: فجمعت حديثهما لكثرة اتفاقه وقلة اختلافه، قالا: بلغنا أنه لما حج موسى صلوات الله عليه حج معه أناس من بني إسرائيل، فلما كان في انصرافهم أتوا على المدينة، فرأوا موضعها صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيّين، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به، فنزلوا في موضع بني قينقاع، ثم تألفت إليهم أناس من العرب فرجعوا على دينهم، فكانوا أول من سكن موضع المدينة.
وذكر بعض أهل التواريخ أن قوما من العمالقة سكنوه قبلهم، قلت: وهو الأرجح.
داود النبي يغزو سكان المدينة
وأسند ابن زبالة مصدّرا به كتابة في بدء من سكنها عن مشيخة من أهل المدينة قالوا:
كان ساكن المدينة في سالف الزمان صعل وفالج، فغزاهم داود النبي عليه الصلاة والسلام، وأخذ منهم مائة ألف عذراء، قالوا: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل، وهي التي بناحية الجرف، وبقيت امرأة منهم تعرف بزهرة، وكانت تسكن بها، فاكترت من رجل وأرادت الخروج إلى بعض تلك البلاد، فلما دنت لتركب غشيها الدود، فقيل لها: إنا لنرى دودا يغشاك، فقالت: بهذا هلك قومي، ثم قالت: ربّ جسد مصون، ومال مدفون، بين زهرة ورانون، قالوا: وقتلها(1/126)
قلت: وداود بعد موسى عليهما السلام، وكان يدعو إلى شريعته.
وقد عبّر ابن النجار عما سبق بقوله: فال أهل السير: أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهم صعل وفالج، وذكر قصة داود ملخصة، ثم قال: قالوا: وكان قوم من الأمم يقال لهم: بنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق فيما بين مخيض إلى غراب الضائلة إلى القصاصين إلى طرف أحد؛ فتلك آثارهم هنالك.
وروى ابن زبالة عند ذكر جماء أم خالد بوادي العقيق عن عثمان بن عبد الرحمن قال: وجد قبر في الجماء عليه حجر مكتوب فيه فهبط بالحجر فقرأه رجل من أهل اليمن، فإذا فيه: أنا عبد الله رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سليمان بن داود إلى أهل يثرب، وأنا يومئذ على الشمال.
وروى أيضا عن عمر بن سليم الزرقي قال: رقينا الجماء فوجدنا قبرا إرميا على رأسها عنده حجران مكتوبان لا تقرأ كتابتهما، فحملناهما، فثقل علينا أحدهما فرميناه في الجماء، وأخذت الآخر، فكان عندي، فعرضته على أهل التوراة من يهود فلم يعرفوه، ثم عرضته على أهل الإنجيل من النصارى فلم يعرفوه، فأقام عندي حتى دخل المدينة رجلان من أهل ماه، فسألتهما: هل كان لكم كتاب؟ قالا: نعم، فأخرجت إليهما الحجر، فقرآه فإذا فيه: أنا عبد الله الأسود رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل قرى عرينة، وقالا: نحن كنا أهل هذه القرية في أس «1» الدهر، وسيأتي بقية ما جاء في ذلك في رابع فصول الباب السابع.
مهلك العماليق بالحجاز
وأسند ابن زبالة أيضا عن عروة بن الزبير قال: كانت العماليق قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله، وعتوا عتوّا كبيرا، فلما أظهر الله موسى عليه السلام على فرعون وطئ الشام وأهلك من بها، يعني من الكنعانيين وقيل: بعث إليهم بعثا، فأهلك من كان بها منهم، ثم بعث بعثا آخر إلى الحجاز للعماليق، وأمرهم ألايستبقوا أحدا منهم بلغ الحلم، فقدموا عليهم، فأظهرهم الله فقتلوهم، حتى انتهوا إلى ملكهم الأرقم بن أبي الأرقم فقتلوه، وأصابوا إبنا له- وكان شابا من أحسن الناس- فضنوا به عن القتل، وقالوا: نستحييه حتى نقدم به على نبي الله موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم، فقبض الله موسى قبل قدوم الجيش، فلما سمع بهم الناس تلقوهم فسألوهم فأخبروهم بالفتح، وقالوا: لم نستبق منهم إلا هذا الفتى، فإنا لم نر شابا أحسن
__________
(1) الأس: الأساس. ومن الدهر: قدمه.(1/127)
منه، فتركناه حتى نقدم به على نبي الله موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه، فقالت لهم بنو إسرائيل: إن هذه لمعصية منكم لما خالفتم أمر نبيكم، لا والله لا تدخلون علينا بلادنا أبدا، فقال الجيش: ما بلد إذ منعتم بلادكم بخير من البلد الذي خرجتم منه، وكان الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله وأظهره ماء، قال: وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق.
سبب نزول اليهود المدينة
وفي الروض الأنف عن أبي الفرج الأصبهاني أن السبب في كون اليهود بالمدينة- وهي وسط أرض العرب- أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم العماليق من أرض الحجاز، وكانت منازلهم يثرب والجحفة إلى مكة، فشكت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى، فوجه إليهم جيشا، وذكر نحو ما تقدم، ثم قال: وأصح من هذا ما ذكره الطبري أن نزول بني إسرائيل بالحجاز كان حين وطئ بختنصر بلادهم بالشام وخرب بيت المقدس، انتهى.
وحكى ابن النجار عن بعض العلماء أن سببه أن علماءهم كانوا يجدون صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، وأنه يهاجر إلى بلد فيه نخل بين حرتين، فأقبلوا من الشام يطلبون الصفة، فلما رأوا تيماء وفيها النخل نزلها طائفة منهم، وظن طائفة أنها خيبر فنزلوها، ومضى أشرفهم وأكثرهم فلما رأوا يثرب سبخة وحرة وفيها النخل قالوا: هذه البلد التي تكون مهاجر النبي العربي عليه الصلاة والسلام، فنزل النضير بطحان، ثم حكى ما سيأتي من نزول قريظة والنضير بمذينيب ومهزور.
وحكى ياقوت عن بعض علماء الحجاز من يهود أن سبب نزولهم الحجاز أن ملك الروم حين ظهر على بني إسرائيل وملك الشام خطب إلى بني هرون، وفي دينهم أن لا يزوجوا النصارى، فخافوه وأنعموا له، وسألوه أن يشرفهم بإتيانه إليهم، فأتاهم، ففتكوا به وبمن معه، ثم هربوا حتى لحقوا بالحجاز فأقاموا بها، وزعم بنو قريظة أن الروم لما غلبوا على الشام خرج قريظة والنضير وهدل هاربين من الشام يريدون من كان بالحجاز من بني إسرائيل، فوجه ملك الروم في طلبهم؛ فأعجزوا رسله، وانتهى الرسل إلى ثمد «1» بين الحجاز والشام فماتوا عنده عطشا، فسمي الموضع «ثمد الروم» وهو معروف بذلك، والله أعلم أي ذلك كان.
وروى بعض أهل السير عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بحنتصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون
__________
(1) الثمد: الماء القليل الذي ليس له مدد. والمكان يجتمع فيه الماء.(1/128)
محمدا صلّى الله عليه وسلّم منعوتا في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل، ولما خرجوا من أرض الشام كانوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم، ويرجون أن يلقوا محمدا فيتبعونه، حتى نزل من بني هرون ممن حمل التوراة بيثرب منهم طائفة، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أنه جاء، ويحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدركه من أبنائهم فكفروا به وهم يعرفونه: أي حسدا للأنصار حيث سبقوهم إليه.
وقال ابن زبالة عقب ما قدمناه عنه من عود الجيش من بني إسرائيل إلى الحجاز وسكناهم المدينة: فركحوا منها حيث شاؤوا- أي: تفسحوا وتبوؤوا- فكان جميعهم بزهرة، وكانت لهم الأموال بالسافلة، وزهرة ثبرة- أي أرض سهلة بين الحرة والسافلة مما يلي القف- ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب بمجتمع السيول مما يلي زغابة، قالوا:
وكانت يثرب سقيفة طويلة فيها بغايا يضرب إليهن من البلدان، وكانوا يروحون في قرية يثرب ثمانين جملا جونا «1» سوى سائر الألوان.
ثم أسند عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هدل وعمرو أبناء الخزرج بن الصريح بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوى بن جبر بن النحام بن عازر بن عيرز بن هرون بن عمران عليه السلام والنضير بن النحام بن الخزرج بن الصريح بعد هؤلاء، فتبعوا آثارهم، فنزلوا بالعالية على واديين يقال لهما مذينيب ومهزور، فنزلت بنو النضير على مذينيب واتخذوا عليه الأموال فكانوا أول من احتفر بها- أي بالعالية- الآبار وغرس الأموال، قال: ونزل عليهم بعض قبائل العرب فكانوا معهم، فاتخذوا الأموال، وابتنوا الآطام والمنازل.
وأسند هو وابن شبة أيضا عن جابر مرفوعا: أقبل موسى وهارون حاجّين فمرا بالمدينة، فخافا من يهود، فخرجا مستخفيين، فنزلا أحدا، فغشى هارون الموت، فقام موسى فحفر له ولحد، ثم قال: يا أخي إنك تموت، فقام هارون فدخل في لحده، فقبض «2» عليه موسى التراب.
__________
(1) الجون: الأسود تخالطه الحمرة.
(2) حثا عليه التراب: أهال عليه التراب.(1/129)
قلت: وإسناد ابن شبة لا بأس به، غير أن فيه رجلا لم يسمّ، وسماه ابن زبالة، وذلك المسمى لا بأس به أيضا، لكن ابن زبالة لا يعتمد عليه في ذلك، وهو دال على أن اليهود نزلوا المدينة في زمن موسى عليه السلام، وطالت مدتهم بها في حياته، حتى وقع منهم ما يقتضي خوفه منهم عند مروره، وهو إنما يتأتى على ما قدمناه من أنه لما حج ومعه ناس من بني إسرائيل فرأوا موضع المدينة صفة بلد خاتم النبيين، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به، ويكون ما اتفق لموسى وهارون عليهما السلام في حجة أخرى بعد ذلك، وسيأتي في مسجد عرق الظبية بالروحاء حديث «ولقد مر به موسى بن عمران حاجّا ومعتمرا في سبعين ألفا من بني إسرائيل» ومن الغريب ما نقل الحافظ ابن حجر عن كتاب الأنواء لعبد الملك بن يوسف قال: إن قريظة كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله عليه السلام، وإن ذلك محتمل؛ فإن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة- قال الحافظ ابن حجر: وهو بعيد جدّا- ونقل ابن زبالة ما حاصله: أن ممن كان من العرب مع يهود قبل الأنصار بنو أنيف حي من بلي، ويقال: إنهم بقية من العماليق، وبنو مريد حي من بلى، وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم، وبنو الجذماء حي من اليمن، وكانت الآطام عزّ أهل المدينة ومنعتهم التي كانوا يتحصنون فيها من عدوهم، وروى حديث النهي عن هدم آطام المدينة، قال: وكان لبني أنيف بقباء: الأجش عند البئر التي يقال لها لاوة، وأطمان فيما بين المال الذي يقال لها الماثة والمال الذي يقال له القائم، وآطام عند بئر عذق وغيرها، قال شاعرهم فيها:
ولو نطقت يوما قباء لخبرت ... بأنّا نزلنا قبل عاد وتبّع
وآطامنا عاديّة مشمخرّة ... تلوح فتنكى من نعادي وتمنع
بقايا اليهود بالمدينة
وكان ممن بقي من اليهود- حين نزلت عليهم الأوس والخزرج- جماعات منها بنو القصيص وبنو ناغصة كانوا مع بني أنيف بقباء، وكان بقباء رجل من اليهود يقال «إنه من بني النضير» كان له أطم يقال له «عاصم» كان في دار ثوبة بن حسين بن السائب بن أبي لبابة، وفيه البئر الذي يقال لها قباء، وقيل: إن بني ناغصة حي من اليمن كانت منازلهم في شعب بني حرام حتى نقلهم عمر بن الخطاب إلى مسجد الفتح، ومنها بنو قريظة في دارهم المعروفة بهم اليوم، وكان لهم بها آطام: من ذلك أطم الزبير بن باطا القرظي، كان موضعه في موضع مسجد بني قريظة، وأطم كعب بن أسد يقال له بلحان بالمال الذي يقال له الشجر، وله يقول الشاعر:
من سره رطب وماء بارد ... فليأت أهل المجد من بلحان(1/130)
وكان مع قريظة في دارهم إخوتهم بنو هدل وبنو عمرو المقدم ذكرهم، وإنما سمي هدلا بهدل كان في شفته، ومن ولده ثعلبة وأسد ابنا سعيّة وأسد بن عبيد ورفاعة بن سموأل وسخيت ومنبه ابنا هدل، ومنها بنو النضير في النواعم، ومنهم كعب بن الأشرف، وكان لهم عامة أطم في المال الذي يقال له فاضجة، وأطم في زقاق الحارث دبر قصر ابن هشام دون بني أمية بن زيد كان لعمر بن جحاش، وأطم البويلة، وغير ذلك، هذا ما ذكره ابن زبالة.
ونقل ابن عساكر عن الواقدي أنه قال: كانت منازل بني النضير بناحية الغرس.
قلت: والظاهر أنهم كانوا بالنواعم، وتمتد منازلهم وأموالهم إلى ناحية الغرس وإلى ناحية الصافية وما معها من صدقات النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض منازلهم كانت بجفاف؛ لأن فاضجة به، ورأيت بالحرة في شرقي النواعم آثار حصون وقرية بقرب مذينيب يظهر أنها من جملة منازلهم، وأن ما في قبلة ذلك في شرقي العهن من منازل بني أمية بن زيد كما سيأتي، ومنها بنو مريد في بني خطمة وناعمة إبراهيم بن هشام، وكان لهم أطم يعرف بهم فيه بئر، ومنها بنو معاوية في بني أمية بن زيد، ومنها بنو ماسكة بقرب صدقة مروان بن الحكم مما يلي صدقة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان لهم الأطمان اللذان في القف في القرية، ومنها بنو محمم في المكان الذي يقال له بنو محمم، وكان لهم المال الذي يقال له خناقة، معروف اليوم، وكان رجل منهم قطع يد رجل في الجاهلية فقال المقطوع: أعطني خناقة عقلا بيدي، فأبى، وحفر للذي قطعه كوة في خناقة، ثم أخرج يده منها من وراء الحائط وقال: اقطع، فقطع يده، فقال حين قطع يده:
الآن قد طابت ذرى خنافة ... طابت فلا جوع ولا مخافة
ومنها بنو زعورا عند مشربة أم إبراهيم بن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولهم الأطم الذي عندها، وكان الأطم الذي في مال جحاف لبعض من كان هناك من اليهود، ومنها بنو زيد اللات، قال ابن زبالة: وهم رهط عبد الله بن سلام، كانوا قريبا من بني غصينة، ومنها بنو قينقاع عند منتهى جسر بطحان مما يلي العالية، وكان هناك سوق من أسواق المدينة، وكان لهم الأطمان اللذان عند منقطع الجسر على يمينك وأنت ذاهب من المدينة إلى العالية إذا سلكت الجسر، وغير ذلك، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن بني قينقاع هم رهط عبد الله بن سلام، خلاف ما تقدم عن ابن زبالة، قال الحافظ ابن حجر: وهم من ذرية يوسف الصديق عليه السلام، ومنها بنو حجر عند المشربة التي عند الجسر، ولهم أطم يعرف بهم، ومنها بنو ثعلبة وأهل زهرة بزهرة، وهم رهط الفطيون، وهو ملكهم الذي كان يفتض نساء أهل المدينة قبل أن يدخلن على أزواجهن، وكان لهم الأطمان اللذان على(1/131)
طريق العريض حين يهبط من الحرة، وكانت بزهرة جماع من اليهود وكانت من أعظم قرى المدينة، وقد بادوا، ومنها ناس كانوا بالجوانية- بفتح الجيم وتشديد الواو والياء المثناة من تحت: موضع بقرب أحد في شمالي المدينة كما سيأتي- ولهم أطمان صارا لبني حارثة بن الحارث وهما صرار والريان، ولذلك يقول نهيك بن سياف:
لعل صرارا أن تعيش بياره ... ويسمع بالريان تبنى مشاربه
وكانت بنو الحذماء المتقدم ذكرهم- وهم حي من اليمين- ما بين مقبرة بني عبد الأشهل وبين قصر ابن عراك، ثم انتقلوا إلى راتج، ومنها بنو عكوة في يماني بني حارثة، ومنها بنو مرابة في شامي بني حارثة، ولهم الأطم الذي يقال له الشبعان في ثمغ صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنها ناس براتج، وهو أطم سميت به الناحية، وهو الذي يقول له قيس بن الخطيم:
ألا إن بين الشرعبيّ وراتج ... ضرابا كتخديم السبال المعضد
ومنها ناس بالشوط والعنابس والوالج وزبالة إلى عين فاطمة حيث كان يطبخ الآجر لمسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكان لأهل الشوط الأطم الذي يقال له الشرعبي، وهو الأطم الذي دون ذباب، وقد صار لبني جشم بن الحارث بن الخزرج أي الأصغر يعني إخوة بني عبد الأشهل، وكان لأهل الوالج أطم بطرفه مما يلي قناة، وكان لبعض من هناك من اليهود الأطمان اللذان يقال لهما الشيخان بمفضاهما المسجد الذي صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سار إلى أحد، وكان لأهل زبالة الأطمان عند كومة أبي الحمراء الرابض والذي دونهما، ومنها أهل يثرب، وكانوا جماعا من اليهود بها وقد بادوا فلم يبق منهم أحد.
قلت: ونقل رزين عن الشرقي أن يهود كانوا نيفا وعشرين قبيلة، وقال ابن النجار:
إن آطامهم كانت تسعة خمسين أطما، وللعرب النازلين عليهم قبل الأنصار ثلاثة عشر أطما، وقد ذكر ابن زبالة أسماء كثير منها حذفناه لعدم معرفته في زماننا.
فهذا علم من سكن المدينة بعد الطوفان إلى قدوم الأوس والخزرج.
الفصل الثاني في سبب سكنى الأنصار بها
قصة مأرب وسيل العرم غسان
نقل ابن زبالة وغيره أن اليهود لم تزل هي الغالبة بالمدينة، الظاهرة عليها، حتى كان من أمر سيل العرم ما كان وما قص الله من قصته في مائه يعني قصة أهل مأرب، ومأرب مهموز: أرض سبأ المعنية بقوله تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ [سبأ: 15] عن ابن عباس أنها كانت أخصب البلاد وأطيبها، تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها أي بمغزلها وتسير(1/132)
بين ذلك الشجر، فيمتلئ مما يتساقط فيه من الثمر، فطغوا، وقيل: بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيّا يدعونهم إلى الله، ويذكرونهم نعمة الله عليهم، فكذبوهم، وقالوا: ما نعرف لله نعمة، قال المسعودي: وكان طول بلدهم أكثر من شهرين للراكب المجد، وكذلك عرضها، وكان أهلها في غاية الكثرة مع اجتماع الكلمة والقوة، وكانوا كما قص الله من خبرهم بقوله: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني: قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً [سبأ: 18] يعني متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها، فكانوا آمنين في بلادهم، تخرج المرأة لا تتزود شيئا، تبيت في قرية، وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام، فقالوا: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 19] لأنهم بطروا النعمة وملوها، وقالوا: لو كان جني جناتنا أبعد كان أجدر أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد، فجعل الله لهم الإجابة كما قال: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ: 19] وعن الضحاك أنهم كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فسلط عليهم سيل العرم، قيل: العرم: المطر الشديد، وقيل: جرذ أعمى فنقب عليهم السد، وكان فرسخا في فرسخ بناه لقمان الأكبر العادي، وكان بناه للدهر على زعمه، وكان يجتمع إليه مياه اليمن ثم تتفرق في مجاري على قدر حاجة جنانهم، وقيل: بناه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وساق إليه سبعين واديا، ومات قبل أن يكمله فأكمله بعده ملوك حمير، وكان أولاد حمير بن سبأ وأولاد كهلان بن سبأ سادة اليمن في ذلك الزمان، وكان كبيرهم وسيدهم جد الأنصار عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، ويقال: الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ذكر نسبه كذلك ابن هشام وابن حزم وابن الكلبي فيما نقله عنه ابن عبد البر، ونقل غيره عنه أنه جعل ثعلبة بين حارثة وبين امرئ القيس، وكانت الأنصار تقول: سمى عمرو مزيقياء لأنه كان يلبس في كل يوم حلتين ثم يمزقهما لئلا يلبسهما أحد بعده، وقيل لأبيه «ماء السماء» لجوده وقيامه عند الجدب مقام الغيث، وكان لعمرو مزيقياء أخ كاهن لم يعقب يسمى عمران، وكانت زوجة عمرو مزيقياء يقال لها طريفة من حمير، وكانت كاهنة، فولدت له ثلاثة عشر رجلا، ولدت ثعلبة وهو الذي أخرج جرهم من مكة هو وأخواته، ومن انخرع معه من الأزد على ما نقله رزين، ونقل أن والد ثعلبة- وهو عمرو بن عامر- توفي قبل(1/133)
غلبة ثعلبة لجرهم، وثعلبة أبو الأوس والخزرج، وولدت له أيضا حارثة والد خزاعة على ما سيأتي، وقيل: غير ذلك، وولدت له أيضا جفنة والد غسان، سموا باسم ماء نزلوا عليه يقال له: غسان، والأشهر أنهم بنو مازن بن الأزد بن الغوث، وولدت له أيضا وداعة، وأبا حارثة، والحارث، وعوفا، وكعبا، ومالكا، وعمران، هؤلاء أعقبوا كلهم، والثلاثة الباقون لم يعقبوا.
غسان
وقال ابن حزم: إن غسان هم بنو الحارث وجفنة ومالك وكعب بني عمرو مزيقياء، شربوا كلهم من ماء غسان، بخلاف بقية ولد عمرو مزيقياء فلم يشربوا من ذلك الماء، فليسوا غسان، وكان لعمرو بن عامر بمأرب من القصور والأموال ما لم يكن لأحد.
أول خبر سيل العرم
ونقل رزين أنه كان أول شيء وقع بمأرب من أمر سيل العرم أن عمران بن عامر رأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم، وأن بلادهم ستخرب، فذكر ذلك لأخيه عمرو بن عامر؛ فكان بين التصديق والتكذيب، فبينا طريفة امرأته ذات يوم نائمة إذ رأت فيما يرى النائم أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت، فذعرت ذعرا شديدا، فسكّنوها، فقالت: يا عمرو بن عامر، الذي رأيت في الغيم، أذهب عني النوم، رأيت غيما أرعد وأبرق، طويلا ثم أصعق، فما وقع على شيء إلا احترق؛ فما بعده إلا الفرق «1» ، فلما رأوا ما بها خفضوها «2» حتى سكنت، ثم إن عمرو بن عامر دخل حديقة ومعه جاريتان له، فبلغ ذلك طريفة خرجت نحوه، فلما خرجت من بيتها عارضها ثلاث مناجذ- وهي دواب تشبه اليرابيع- منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن، فلما رأتهن طريفة وضعت يدها على عينها وقعدت على الأرض، فلما ذهبت المناجذ خرجت مسرعة، فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت في الطريق على ظهرها، وجعلت تروم «3» الانقلاب وتستعين بيدها فلا تستطيع، فتحذف التراب على نفسها، وتقذف بالبول من تحتها، فلما رأت طريفة ذلك جلست على الأرض حتى عادت السلحفاة إلى الماء، ثم مضت طريفة حتى دخلت الحديقة التي فيها عمرو بن عامر حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها، وإذا الشجرة من غير ريح تتكفأ،
__________
(1) الفرق: الجزع وشدة الخوف.
(2) خفضوها: سكّنوا قلبها وهدّؤوا روعها.
(3) رام الشيء- روما ومراما: طلبه.(1/134)
فمرت حتى دخلت على عمرو، فلما رآها قال: هلمي يا طريفة، فقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء، إن الماء لغائر، وإن الشجر لهالك، فقال عمرو: ومن أخبرك بذلك؟ قالت: أخبرتني المناجذ، بسنين شدائد، يقطع فيها الولد الوالد، وسلحفاة تحذف بالتراب حذفا، وتقذف بالبول قذفا، ورأيت الشجر من غير ريح ولا مطر تكفأ، قال: وما ترين ذلك؟ قالت: داهية وكيمة «1» ، وأمور جسيمة، قال: أما إن كان ذلك فلك الويل. قالت: أجل وما لعمرو فيها من نيل، مما يجيء به السيل، فألقى بنفسه على الفراش وقال: ما هذا الذي تقولين إلا أمر جليل، وخلف قليل، وأخذ القليل خير من تركه، قال عمرو: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: إذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر، ويقلب منه بيديه الصخر، فاعلم أن قد وقع الأمر. فانطلق عمرو إلى السد ينظر فإذا جرذ يقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلها خمسون رجلا من أسد، فرجع إلى طريفة فأخبرها.
ثم رأى عمرو رؤيا أنه لا بد من سيل العرم، وقيل: إن آية ذلك أن ترى الحصى قد ظهر في شرب النخل، فذهب فرأى ذلك، فعرف أن ذلك واقع، وأن بلادهم ستخرب، فكتم ذلك وأخفاه، وأجمع على أن يبيع كل شيء له بأرض سبأ ويخرج منها هو وولده، فخشي أن يستنكر الناس ذلك، فاحتال في الأمر، فأمر بإبل فنحرت، وبغنم فذبحت، وصنع طعاما واسعا، وبعث إلى أهل مأرب بأجمعهم، وكان فيمن دعا يتيم كان رباه وأنكحه، وقال له فيما بينه وبينه: إذا أنا جلست أطعم الناس فاجلس بجنبي ثم نازعني الحديث واردد عليّ مثل ما أقول لك، وافعل بي مثل ما أفعل بك، فكلمه عمرو في شيء، فرد عليه، فضرب عمرو وجهه وشتمه، ففعل اليتيم به مثله، فصاح عمرو: وا ذلاه، اليوم ذهب فخر عمرو ومجده، فحلف ليقتلنه، فلم يزالوا به حتى تركه، وقال: والله لا أقيم ببلدة صنع بي هذا فيه أبدا، ولأبيعن أموالي كلها وأرحل عنكم، فاغتنم الناس غضبه واشتروا منه أمواله، فباع جميع عقاره، وتبعه ناس من الأزد فباعوا أموالهم، ولما كثر البيع استنكر الناس ذلك، فأمسكوا، فلما اجتمع عند عمرو بن عامر أثمان أمواله أخبر الناس بأمر سيل العرم، فخرج من مأرب ناس كثير، وأقام بها من قضي عليه بالهلاك، هذا ما نقله رزين في تاريخه وقد اقتفيت أثره في ذلك في كتابي.
وذكر ابن هشام في سيرته نحوه، وقال: إن الأسد- يعني الأزد- قالوا: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، وقيل: كانت طريفة زوجة ثعلبة، وإنه صاحب القصة والمحتال في بيع ماله.
__________
(1) وكيمة داهية: مصيبة محزنة.(1/135)
وقال ياقوت: إن عمرو بن عامر مات قبل سيل العرم، وصارت الرئاسة إلى أخيه عمران بن عامر الكاهن، وكان عاقرا لا يولد له، وإنه صاحب القصة مع طريفة الكاهنة، وإنها أقبلت عليه يوما وقالت: والظلمة والضياء، والأرض والسماء، ليقبلن إليكم الماء، كالبحر إذا طما، فيدع أرضكم فلا يسفى عليها الصبا، وذكر القصة، وأنه احتال لبيع أمواله بأن قال لحارثة أحد أولاد أخيه عمرو بن عامر إذا اجتمع الناس إليّ فإني سامرك بأمر فأظهر فيه العصيان فإذا ضربت رأسك بالعصا فقم إليّ والطمني، فقال: وكيف يلطم الرجل عمه؟ فقال: افعل يا بني فإن في ذلك صلاحك وصلاح قومك، وذكر القصة، قال: فجاء بعد رحيلهم بمديدة السيل وقد خرب الجرذ السد فلم يجد مانعا، فغرق البلاد حتى لم يبق من جميع الأرضين والكروم إلا ما كان في رؤوس الجبال والأمكنة البعيدة مثل ذمار «1» وحضرموت وعدن، وذهبت الضياع والحدائق والجنان، وجاء السيل بالرمل وطمّها، فمضى على ذلك إلى اليوم، وباعد الله بين أسفارهم كما سألوا.
عمرو بن عامر يصف البلاد لقومه
ونقل رزين أن عمرو بن عامر الكاهن قال لهم عند خروجهم: سأصف لكم البلاد، فقال: من كان منكم ذا همّ بعيد، وجمل شديد، ومراد حديد، فليلحق بقصر عمان المشيد؛ فسكنها أزدعمان. قال: ومن كان منكم ذا هم غير بعيد، وجمل غير شديد، ومراد غير حديد؛ فليلحق بالشعب من كرود- وهي من أرض همدان- فكان الذين سكنوه وداعة بن عمرو بن عامر فانتسبوا في همدان. قال: ومن كان منكم ذا هم مدن، وجمل معن، فليلحق بالثنى من شن، وهو بالسراة، فسكنه أزدشنوءة. قال: ومن كان منكم ذا جلد وبصر، وله صبر على أزمات الدهر، فليلحق ببطن مر، فسكنته خزاعة. قال: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بالحرة ذات النخل؛ فكان الذين سكنوها الأوس والخزرج. قال: ومن كان يريد الخمر والخمير، والديباج والحرير، والأمر والتأمير، فليلحق ببصرى وسدير- وهما من أرض الشام- فكان الذين سكنوه آل جفنة بن غسان. قال: ومن كان يريد الثياب الرقاق، والخيول العتاق، والكنوز من الأرزاق، فليلحق بالعراق؛ فكان الذين لحقوا بالعراق جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة من غسان.
قلت: وقيل: إن الذي سجع لهم بذلك طريفة الكاهنة، وإنها قالت: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل.
__________
(1) ذمار: قرية بالقرب من صنعاء.(1/136)
وروى ابن زبالة سجع عمرو بن عامر في المدينة بلفظ: من كان يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، المدركات بالذحل «1» ، فليلحق بيثرب ذات النخل؛ فلما سمعوا ذلك القول خرج عمرو بن عامر بجميع ولده ومن معه من الأزد يريد أرضا يقيمون بها، ففارقهم وداعة بن عامر فسكن همدان، ثم سار عمرو حتى إذا كان بين السراة ومكة أقام هنالك ناس من الأزد، وأقام معهم عمران بن عمرو بن عامر، ثم سار عمرو في باقي ولده وفي ناس من بني مازن من الأزد حتى نزلوا ماء يقال له غسان، وغلب عليهم اسمه حتى قال شاعرهم:
إمّا سألت فإنّا معشر نجب ... الأزد نسبتها والماء غسان
نزول خزاعة في مكة
قال أبو المنذر الشرقي: ومن ماء غسان انخزع لحيّ- واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن حارثة- فأتى مكة فتزوج بنت عامر الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عمرو بن لحي الذي غيّر دين إبراهيم، فسمى ولده خزاعة لأن أباهم انخزع من غسان.
وقال غيره ما يخالف ذلك؛ فروى الأزرقي أن عمرو بن عامر سار هو وقومه لا يطؤون بلدا إلا غلبوا عليه، فلما انتهوا إلى مكة- وأهلها جرهم قد قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وغيرهم- أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر يقول: يا قوم إنا خرجنا من بلادنا، فلم ننزل بلدا إلا فسح أهله لنا فنقيم معهم حتى نرسل روّادنا إلى الشام والمشرق، فحيث ما قيل لنا إنه أمثل لحقنا به، فأبت جرهم ذلك، فأرسل إليهم ثعلبة: إنه لا بد لي من المقام، فإن تركتموني نزلت وحمدتكم وواسيتكم في الماء والمرعى، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا ولا تشربوا إلا رنقا- يعنى الكدر- فإن قاتلتموني قاتلتكم، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء وقتلت الرجال، ولم أترك أحدا منكم ينزل الحرم أبدا، فأبت جرهم، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم انهزمت جرهم، فلم ينفلت منهم إلا الشريد، وأقام ثعلبة بمكة وما حولها بعساكره حولا، فأصابتهم الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى، فدعوا طريفة الكاهنة فشكوا إليها الذي أصابهم، فقالت: قد أصابني الذي تشكون، ثم ذكر الأزرقي سجعها في أمر الدلالة على البلاد في هذا المحل وهو غى سجع عمران بن عامر عند تفرقهم من سبأ، ثم ذكر لحوق كل فرقة منهم ببلدها على النحو الذي قدمناه، وأن الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر- وهم الأنصار- نزلوا بالمدينة، ثم قال: وانخزعت خزاعة بمكة،
__________
(1) الذحل: الحقد والثأر.(1/137)
فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحيّ، فولي أمر مكة، فهذا يقتضي أنهم إنما افترقوا من مكة، ولا شك أن منها افترق الذين وصلوا إليها.
نزول ثعلبة بن عمرو في المدينة
وقال ياقوت: إنهم لما ساروا من اليمن عطف ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السما بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن الراد بن الغوث نحو الحجاز، فأقام ما بين الثعلبية إلى ذي قار، وباسمه سميت الثعلبية، فنزلها بأهله وولده ومن تبعه، فأقام هناك يتبع مواقع القطر، فلما كثر ولده وقوي ركنه سار بهم نحو المدينة وبها يهود فاستوطنوها؛ فأقاموا بها بين قريظة والنضير وخيبر وتيماء ووادي القرى، ونزل أكثرهم بالمدينة.
الفصل الثالث في نسبهم
قد قدمنا انتسابهم إلى عمرو مزيقياء، وانتساب عمرو إلى قحطان.
نسب قحطان
وقال ابن رزين نقلا عن الشرقي: أصل الأنصار الأوس والخزرج وهما من ولد ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان، وكأنه سقط من النسخة بعد الغوث «بن نبت» فإنه بين مالك والغوث كما قدمناه، وجماع قبائل اليمن تنتهي إلى قحطان، وقحطان اختلف في نسبه، فالأكثرون قالوا: إنه عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وقيل:
هو من ولد هود نفسه، وقيل: ابن أخيه، ويقال: قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو والد العرب المتعربة، وأما إسماعيل فهو والد العرب المستعربة، وأما العرب العاربة فكانوا قبل ذلك كعاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وغيرهم، وقيل: إن قحطان أول من قيل له:
أبيت اللّعن»
، وعم صباحا. وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام، وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل عليه السلام، ويدل له تبويب البخاري بأن نسبة اليمن إلى إسماعيل، وأورد فيه الحديث المتضمن لمخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بني أسلم بأنهم من بني إسماعيل، وأسلم هو ابن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس صاحب النسب المتقدم، فدل على أن اليمن بني قحطان من بني
__________
(1) أبيت اللّعن: أن تأتي ما تلعن به وعليه.(1/138)
إسماعيل، وهو ظاهر قول أبي هريرة في الصحيحين في قصة هاجر «فتلك أمكم يا بني ماء السماء» يخاطب الأنصار؛ لأن جدهم عامرا والد عمرو كان يلقب بذلك، كما تقدم، أو أراد أبو هريرة رضي الله عنه العرب كلهم؛ لكثرة ملازمتهم الفلوات التي بها مواقع القطر، وهذا متمسّك من ذهب إلى أن جميع العرب من ولد إسماعيل عليه السلام.
قال ابن حبان في صحيحه: كل من كان من ولد إسماعيل يقال له «ابن ماء السماء» لأن إسماعيل ولد هاجر، وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء، ورجح عياض أن مراد أبي هريرة الأنصار خاصة، ونسبتهم إلى جدهم المعروف بماء السماء، انتهى. ودلالته على أن قبائل اليمن كلها من ولد إسماعيل ظاهرة.
قال الحافظ ابن حجر: وهو الذي يترجح في نقدي، وقد ذكر ابن عبد البر من طريق القعقاع بن أبي حدرد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «مرّ بناس من أسلم وخزاعة وهم يتناضلون فقال: ارموا بني إسماعيل» وأسلم وخزاعة قد تقدم نسبهما في قبائل اليمن التي جماع نسبتها قحطان، ومما يؤيد ذلك قول المنذر بن عمرو جد حسان بن ثابت الأنصاري:
ورثنا من البهلول عمرو بن عامر ... وحارثة الغطريف مجدا مؤثّلا
ماثر من آل ابن نبت بن مالك ... ونبت بن إسماعيل ما إن تحوّلا
وأول ذلك كله المخالفون بتأويلات بعيدة، بل الذي أميل إليه أن العرب كلهم من ولد إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يتم ذلك فالعرب الذين لهم الشرف بالتقديم في الكفاءة وغيرها شرعا هم بنو إسماعيل، ويدل له قول بعض أصحابنا في الإمامة: إذا لم يوجد قرشي مستجمع للشروط نصب كناني، فإن لم يكن فرجل من ولد إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه، فإن تعذر انتقلنا إلى العجم، ولم يقولوا انتقلنا إلى بقية العرب، لكن في التتمة للمتولي: فإن لم يوجد من ولد إسماعيل عليه السلام يولّى جرهمي، وجرهم أصل العرب، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسحاق عليه السلام، اه.
وهو مخالف لقول البغوي في التهذيب: فإن لم يوجد ولد إسماعيل فمن العجم، وأيضا فالمتولي جعل جرهما متأخرين عن ولد إسماعيل، وجعل لهم فضلا في الجملة على العجم، كذا قدم بعض العجم على بعض، وإسماعيل أبو العرب الذين شرف نسبهم بمشاركة نسبة أشرف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، وهو الأسّ في ذلك،(1/139)
وعربي اللسان لا عبرة به، على أن في مستدرك الحاكم من حديث ابن عباس «أول من نطق بالعربية إسماعيل» لكن في الصحيح أن إسماعيل تعلم العربية من جرهم الذين نزلوا مع أمه.
أول من تكلم بالعربية
قال ابن إسحاق: وكان جرهم وأخوه قطورا ابنا قحطان أول من تكلم بالعربية عند تبلبل الألسن.
قلت: وهو جار على رأي من يقول: إن العرب كلها ليست من ولد إسماعيل.
وروى الزبير بن بكار في النسب من حديث علي بإسناد حسن قال: أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل؛ فبهذا القيد يجمع بين الخبر المتقدم وبين ما في الصحيح، فيكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان، لا الأولية المطلقة، فيكون بعد تعلم أصل العربية من جرهم ألهمه الله العربية الفصيحة المبينة؛ فعلى تقدير تسليم أن العرب كلهم ليسوا من ولد إسماعيل فالمستحق للشرف إنما هو عربية إسماعيل، فيمتاز بنوه بما تقدم.
وقال ابن دريد في الوشاح: أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان، ثم إسماعيل، ونقل ابن هشام عن الشرقي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم، وكله جار على خلاف ما قدمناه من أن العرب كلها من ولد إسماعيل، والله أعلم.
أم الأنصار ونسبها
وأم الأنصار في قول الكلبي: قيلة بنت عمرو بن جفنة، وقال ابن حزم: هي بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياء، ويقال: بنت كاهل بن عذرة من قضاعة، وقضاعة من حمير عند الأكثر، واشتهرت الأنصار ببني قيلة ولهم يقول القائل:
بهاليل من أولاد قيلة، لم يجد ... عليهم خليط من مخالطة عتبا
مطاعيم في المقري، مطاعين في الوغى ... يرون عليهم فعل آبائهم نحبا
«1» وذكر رزين عن الشرقي عقب ما قدمناه عنه من أن الأنصار أصلهم الأوس والخزرج وهما من ولد ثعلبة بن عمرو، فقال: فولد لثعلبة بن عمرو بن حارثة الأوس والخزرج، وأمهما قيلة؛ فولد الأوس مالكا، ومن مالك قبائل الأوس كلها، فولد لمالك عمرو وعوف ومرة، ويقال لهم أوس الله، وهم الجعادرة، سموا بذلك لقصر فيهم.
__________
(1) المقري: الذي يقري الضيف. نحبا: نذرا.(1/140)
قلت: وسيأتي ما يخالف هذا مع بيان قبائل الأوس المنتشرة من هؤلاء.
وروى الخرائطي أنه لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو الوفاة اجتمع عليه قومه، فقالوا: قد حضر من أمر الله ما ترى، وقد كنا نأمرك في شبابك أن تتزوج فتاة، وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك ولد غير مالك، فقال: لن يهلك هالك، ترك مثل مالك، إن الذي يخرج النار من الرينة قادر أن يجعل لمالك نسلا، ورجالا بسلا، وكل إلى موت، ثم أقبل على مالك فقال: أي بني، المنية ولا الدنية، وذكر حكما سجع بها، قال: ثم أنشأ يقول:
شهدت السبايا يوم آل محرّق ... وأدرك عمري صيحة الله في الحجر
فلم أر ذا ملك من الناس واحدا ... ولا شوقه إلا إلى الموت والقبر
فعلّ الذي أردى ثمودا وجرهما ... سيعقب لي نسلا على آخر الدهر
تقربهم من آل عمرو بن عامر ... عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر
فإن تكن الأيام أبلين جدّتي ... وشيبن رأسي والمشيب مع العمر
فإنّ لنا ربّا علا فوق عرشه ... عليما بما يأتي من الخير والشر
ألم يأت قومي أنّ لله دعوة ... يفوز بها أهل السعادة والبرّ
إذا بعث المبعوث من آل غالب ... بمكة فيما بين زمزم والحجر
هنالك فابغوا نصره ببلادكم ... بني عامر؛ إن السعادة في النصر «1»
ثم قضى من ساعته.
وقال ابن حزم: إن بني عامر بن عمرو بن مالك بن الأوس كانوا كلهم بعمان لم يكن منهم بالمدينة أحد؛ فليسوا من الأنصار.
قال الشرقي: وولد الخزرج بن حارثة أخو الأوس أيضا خمس بنين. وتفرقوا بطونا كثيرة.
قلت: وهم عمرو، وعوف، وجشم، وكعب، والحارث، وسيأتي بيان ما انتشر من قبائلهم.
وقال ابن حزم: إن عقب السائب بن قطن بن عوف بن الخزرج لم يكن منهم أحد بالمدينة، كانوا بعمان؛ فليسوا من الأنصار، وذكر نحو ذلك في بعض بني الحارث بن الخزرج الأكبر كما سيأتي، وذكر أيضا أن بعض بني جفنة بن عمرو مزيقياء كانوا بالمدينة في عداد الأنصار، والله أعلم.
__________
(1) ابغوا: أعينوه على طلبه.(1/141)
الفصل الرابع في تمكنهم بالمدينة، وظهورهم على يهود، وما اتفق لهم مع تبع
قال الشرقي: لما قدمت الأوس والخزرج المدينة تفرقوا في عاليتها وسافلتها، ومنهم من نزل مع قوم من بني إسرائيل في قراهم، ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين كانوا قد تألفوا إلى بني إسرائيل، وكانت الثروة في بني إسرائيل، كانوا نيفا على عشرين قبيلة، ولهم قرى أعدّوا بها الآطام، فنزلت الأوس والخزرج بينهم وحواليهم.
إقامة الأوس والخزرج مع اليهود
وقال ابن زبالة عن مشيخة من أهل المدينة قالوا: أقامت الأوس والخزرج بالمدينة، ووجدوا الأموال والآطام والنخيل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم، فمكثت الأوس والخزرج ما شاء الله، ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض، ويمتنعون به ممن سواهم، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا، فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا، وأمرت «1» الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد، فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم، وكانت قريظة والنضير أعدّ وأكثر، وكان يقال لهما الكاهنان، وبنو الصريح، وفي ذلك يقول قيس بن الخطيم مثنيا عليهم:
كنا إذا رامنا قوم بمظلمة ... شدت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا
نسوا الرهون وآسونا بأنفسهم ... بنو الصّريح فقد عفّوا وقد كرموا
قصة الفطيون ملك اليهود الطاغية
فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، حتى نجم «2» منهم مالك بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج وسوّده «3» الحيان الأوس والخزرج، وكان الفطيون- أي بالفاء المكسورة، وقال ياقوت: الفيطوان- ملك اليهود بزهرة، وكانت لا تهدى عروس بيثرب من الحيين الأوس والخزرج حتى تدخل عليه فيكون هو الذي يفتضها قبل زوجها، فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلا من قومها، فبينا مالك في
__________
(1) أمرت: كثر مالها.
(2) نجم: ظهر ونبغ.
(3) سوّد فلان: جعله سيدا.(1/142)
نادي قومه إذ خرجت أخته فضلا، فنظر إليها أهل المجلس، فشق ذلك على مالك، ودخل فعنّفها وأنبها، فقالت: ما يصنع بي غدا أعظم من ذلك، أهدى إلى غير زوجي، فلما أمسى مالك اشتمل على السيف ودخل على الفطيون متنكرا مع النساء، فلما خف من عنده عدا عليه فقتله وانصرف إلى دار قومه، ثم بعث هو وجماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم بحالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود، وكان رسولهم الرمق بن زيد بن امرئ القيس أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج، وكان قبيحا دميما شاعرا بليغا، فمضى حتى قدم على أبي جبيلة أحد بني جشم بن الخزرج الذين ساروا من يثرب إلى الشام، وقال بعضهم: كان أبو جبيلة من ولد جفنة بن عمرو بن عامر قد أصاب ملكا بالشام وشرفا.
قلت: قد تقدم أن أبناء جفنة من غسان، وكانوا بالشام ملوكا.
ولما ذكر ابن حزم بني جشم بن الخزرج قال: فولد جشم غضب، فولد غضب مالك، فولد مالك عبد حارثة، فولد عبد حارثة حبيب، فولد حبيب عبد الله، فولد عبد الله أبا جبيلة الملك الغساني الذي جلبه مالك بن العجلان لقتل اليهود، انتهى.
وفيه نظر؛ إذ ليس من بطون الخزرج غساني كما يؤخذ مما قدمناه عن ابن حزم أيضا، والمشهور ما قدمناه، قالوا: فشكا إليه حالهم وغلبة اليهود عليهم، وما يتخوفون منهم، وأنهم يخشون أن يخرجوهم، وأنشده من شعره. فتعجب من شعره وبلاغته وقبحه ودمامته، وقال: عسل طيب في وعاء خبيث. فقال الرمق: أيها الملك، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه. فقال: صدقت؛ وأقبل أبو جبيلة في جمع كثير لنصرة الأوس والخزرج. كذا قاله ابن زبالة.
وقد نقل رزين عن الشرقي ما يقتضي أن مالك بن العجلان هو الذي توجّه بنفسه، وأن ما ذكر من سيرة الفطيون في افتضاض الأبكار إنما كانت في غير الأوس والخزرج، وأنه أراد أن يسير فيهم بذلك، فقتله مالك بن العجلان، فإنه قال: إن الفطيون كان قد شرط ألاتدخل امرأة على زوجها حتى تدخل عليه، فلما سكن الأوس والخزرج المدينة أراد أن يسير فيهم بتلك السيرة؛ فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلا من بني سليم، فأرسل الفطيون رسولا في ذلك وكان مالك أخوها غائبا، فخرجت تطلبه، فمرت بقوم أخوها فيهم، فنادته، فقال أخوها: لقد جئت بسبّة يا هنتاه، تناديني ولا تستحيي؟ فقالت:
الذي يراد بي أكبر، فأخبرته، فقال لها: أكفيك ذلك، فقالت: وكيف؟ فقال: أتزيا بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف فأقتله، ففعل، ثم خرج حتى قدم الشام فنزل على أبي(1/143)
جبيلة، وكان نزلها حين نزلوا هم المدينة، فجيّش جيشا عظيما، وأقبل كأنه يريد اليمن واختفى معهم مالك بن العجلان، فجاء فنزل بذي حرض، وأرسل إلى أهل المدينة من الأوس والخزرج فأتوا إليه فوصلهم وأعطاهم، ثم أرسل إلى بني إسرائيل- يعني اليهود- وقال: من أراد الحباء «1» من الملك فليخرج إليه، وإنما فعل ذلك خيفة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم، فخرج إليه أشراف بني إسرائيل كلهم، فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا، فقتلهم من عند آخرهم، فلما فعل ذلك صار الأوس والخزرج أعز أهل المدينة؛ ففي ذلك يقول البلوي يمدح مالكا فيما فعل:
فليشهدنّ بما أقول عصابة ... بلويّة وعصابة من سالم
هل كان للفطيون عقر نساكم ... حكم النصيب وليس حكم الحاكم
حتى حباه مالك عن عرسه ... حمراء تضحك عن نجيع قاتم
ثم ذكر أبياتا نسبها إلى أبي يزيد بن سالم أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج مدح بها أبا جبيلة ونسبها ابن زبالة للرمق فإنه قال: إن الأوس والخزرج قالوا لأبي جبيلة لما قدم لنصرهم: إن علم القوم ما تريد تحصنوا في آطامهم فلم تقدر عليهم، ولكن ادعهم للقائك وتلطفهم حتى يأمنوك ويطمئنوا فتستمكن منهم، فصنع لهم طعاما وأرسل إلى وجوههم ورؤسائهم، فلم يبق من وجوههم أحد إلا أتاه، وجعل الرجل منهم يأتي بحامته وحشمه «2» رجاء أن يحبوهم، وكان قد بنى لهم حيّزا وجعل فيه قوما فأمرهم أن يقتلوا من دخل عليهم منهم، ففعلوا حتى أتوا على وجوههم ورؤسائهم، فعزت الأوس والخزرج بالمدينة، واتخذوا الديار والأموال والآطام، فقال الرمق يثني على أبي جبيلة:
لم تقض دينك من حسان ... وقد عنيت وقد عنينا
قضيت همك في الحسان ... فقد عنيت وقد عنينا
وفي رواية رزين:
الراشقات المرشقا ... ت الجازيات بما جزينا
أمثال غزلان الصّرا ... ثم يأتزرن ويرتدينا
الرّيط والدّيباج والحلي ... المفصل والبرينا «3»
وأبو جبيلة خير من ... يمشي، وأوفاه يمينا
__________
(1) الحباء: ما يحبو به الرجل صاحبه ويكرمه به.
(2) حامته وحشمه: خاصته من أهله وخدمه.
(3) البرة: كل حلقة من سوار وقرط وخلخال وما أشبه ذلك.(1/144)
وأبرّهم برا وأع ... لمهم بهدي الصالحينا
القائد الخيل الصوا ... نع بالكماة المعلمينا
أبقت لنا الأيام والحر ... ب الملمة تعترينا
كبشا له در يغل متو ... نها الذكر السمينا
ومعاقلا شمّا وأسيا ... فا يقمن وينحنينا
ومحلة زوراء تج ... حف بالرجال الظالمينا
وفي بعض الروايات أن مالك بن العجلان لما قتل الفطيون قصد اليمن إلى تبّع الأصغر؛ فشكا إليه ما كان الفطيون يسير فيهم، فعاهد ألايقرب امرأة ولا يمس طيبا ولا يشرب خمرا حتى يسير إلى المدينة ويذل من بها من اليهود؛ ففعل ذلك.
وذكر ابن قتيبة في معارفه تبّع بن حسان، قال: وهو تبع الأصغر آخر التبابعة، وذكر أنه صار إلى الشام وملوكها غسان فأطاعته، قال: وصار إلى ابن أخيه الحارث وهو بالمستقر من ناحية هجر فأتاه قوم كانوا وقعوا إلى يثرب ممن خرج مع عمرو مزيقياء وحالفوا اليهود بيثرب- أي وهم الأنصار- فشكوا اليهود، وذكروا سوء مجاورتهم، ونقضهم الشرط الذي شرطوه لهم عند نزولهم، ومتّوا «1» إليه بالرحم، فأحفظه ذلك «2» ، فصار إلى يثرب ونزل في سفح أحد، وبعث إلى اليهود، فقتل منهم ثلاث مائة وخمسين رجلا صبرا، وأراد خرابها، فقام إليه رجل من اليهود قد أتت عليه مائتان وخمسون سنة فقال: أيها الملك، مثلك لا يقتل على الغضب، وأمرك أعظم من أن يطير بك برق أو يسرع بك لجاج، فإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية، قال: ولم؟ قال: لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من عند هذه البنية، يعني البيت الحرام، فكف تبع ومضى ومعه هذا اليهودي ورجل آخر من اليهود عالم، وهما الحبران، فأتى مكة، وكسا البيت ثم رجع إلى اليمن ومعه الحبران وقد دان بدينهما وآمن بموسى صلّى الله عليه وسلّم اه.
فلعل مالك بن العجلان كان قد توجه إلى جهة ملك غسان وبها تبّع المذكور فوقع من كل منهما نصره، فأضافه قوم إلى تبع، وقوم إلى أبي جبيلة الغساني.
قالوا: ولعنت اليهود مالك بن العجلان في كنائسهم وبيوت عباداتهم، فبلغه ذلك، فقال:
تحامى اليهود بتلعانها ... تحامي الحمير بأبوالها «3»
__________
(1) متّوا: تقربوا.
(2) أحفظه ذلك: أغضبه ذلك.
(3) تلعن القوم: التعنوا.(1/145)
وماذا عليّ بأن يلعنوا ... وتأتي المنايا بإذلالها
وقالت سارة القرظية ترثي من قتل من قومها:
بأهلي رمّة لم تغن شيئا ... بذي حرض تعفّيها الرياح
كهول من قريظة أتلفتهم ... سيوف الخزرجية والرماح
ولو أذنوا بأمرهم لحالت ... هنالك دونهم حرب رداح «1»
قال أهل السير: ثم انصرف أبو جبيلة راجعا إلى الشام، وقد ذلّل الحجاز والمدينة، ومهّدها للأوس والخزرج.
ونقل المجد عن ياقوت أن تبّعا كان بالمدينة، فإنه قال: وعكس ياقوت قصة افتضاض الأبكار؛ فجعل أنها كانت باليمامة، وأن أهل المدينة مع تبّع هم الذين أزالوا هذه الفضيحة من اليمامة، ثم أورد كلام ياقوت، وليس مضمونه ما ذكره؛ بل مضمونه أن من كان يفعل فيهم هذه الفضيحة باليمامة احتالوا في دفعها وقتلوا من كان يفعل بهم ذلك وغلبوا عليهم، فهرب منهم شخص ولحق بتبع فنصره تبع مع أهل المدينة، وهو خبر ممتنع فلنورده تبعا للمجد، قال ياقوت: إن طسما وجديسا من ولد لاوذ بن إرم بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام أقاموا باليمامة، وكثروا بها، حتى ملكوا عليهم عمليق الطّسمي- وكان جبارا غشوما، وكان قد قضى بقضاء جائر بين امرأة وزوجها من جديس، فأنشدت المرأة أبياتا بلغته، فأمر ألا تزوج بكر من جديس حتى تدخل عليه فيكون هو الذي يفترعها «2» - ولقوا منه ذلا، حتى زوجت منهم أخت الأسود بن غفار سيد جديس، وكان جلدا، فلما كانت ليلة الإهداء خرجت والقيان «3» حولها لتحمل إلى عمليق وهن يضربن بمعازفهن ويقلن:
أبدى بعمليق وقومي فاركبي ... وبادري الصبح بأمر معجب
فسوق تلقين الذي لم تطلبي ... وما لبكر دونه من مهرب
ثم أدخلت على عمليق فافترعها، وقيل: كانت أيدة «4» ، فامتنعت عليه، فخاف العار فوجأها «5» بحديدة في قبلها فأدماها، فخرجت وقد تقاصرت إليها نفسها فشقّت ثوبها من خلفها ودماؤها تسيل، فمرت بأخيها في جمع من قومه وهي تبكي وتقول:
__________
(1) حرب رداح. وكتيبة رداح: كثيرة جرارة.
(2) افترع البكر: افتض بكارتها.
(3) القيان: الإماء والجواري. وغلب على المغنيات.
(4) الأيدة: القوية الشديدة.
(5) وجأها: دفعها ووخزها.(1/146)
لا أحد أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس
في أبيات، فأغضب ذلك أخاها، ووقفها على نادي قومه، وهي تقول:
أيجمل أن يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم رجال فيكم عدد الرمل
أيجمل تمشي في الدما فتياتكم ... صبيحة زفّت في العشاء إلى بعل
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تغب من الكحل
ودونكم ثوب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل
فلو أننا كنا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقر على الذل
فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم ... وكونوا كنار شب بالحطب الجزل
وإلا فخلوا بطنه وتحمّلوا ... إلى بلد قفر وهزل من الهزل
فللموت خير من مقام على أذى ... وللفقر خير من مقام على ثكل
فدبّوا إليه بالصّوارم والقنا ... وكل حسام محدث العهد بالصّقل
ولا تجزعوا للحرب قومي فإنما ... يقوم رجال للرجال على رجل
فيهلك فيها كل وغل مواكل ... ويسلم فيها ذو الجلادة والفضل
فامتلأت جديس غيظا، ونكسوا رؤوسهم حياء، وتشاوروا في الأمر، فقال الأسود:
أطيعوني فإنه عز الدهر، وقد رأيت أن أصنع للملك طعاما ثم أدعوه وقومه، فإذا جاؤونا قتلت الملك، وقام كل منكم إلى رئيس منهم فقتله، فلا يبقى للباقين قوة، فنهتهم أخت الأسود عن الغدر، وقالت: ناجزوهم فلعل الله أن ينصركم عليهم لظلمهم؛ فعصوها فقالت:
لا تغدرنّ فإنّ الغدر منقصة ... وكل عيب يرى عيبا وإن صغرا
إني أخاف عليكم مثل تلك غدا ... وفي الأمور تدابير لمن نظرا
حشّوا سعيرا لهم فيها مناجزة ... فكلكم باسل أرجو له الظفرا
فأجابها أخوها:
شتان باغ علينا غير متئد ... يغشى الظلامة لا يبقى ولن يذرا
إنا لعمرك لا نبدي مناجزة ... نخاف منها صروف الدهر من ظفرا
إني زعيم بطسم حين تحضرنا ... عند الطعام بضرب يهتك الفقرا(1/147)
وصنع الأسود الطعام، ودفن كل منهم سيفه تحته في الرمل مجردا، فلما جلس الملك وقومه للأكل وثبت عليهم جديس حتى أبادوهم، ثم قتلوا باقيهم، فهرب رجل من طسم حتى لحق بتبّع تبان أسعد بن كلكيكرب، وقيل: بحسان بن تبّع الحميري وكان بالمدينة، فاستغاثه، وذكر أبياتا فيها غدر جديس بهم، فوعده بنصره، ثم رأى منه تباطؤا فقال:
إني طلبت لأوتاري ومظلمتي ... بال حسّان آل العز والكرم
المنعمين إذا ما نعمة ذكرت ... والواصلين بلا قربى ولا رحم
قصة زرقاء اليمامة
في أبيات أخرى، فسار تبع من المدينة في جيوشه، حتى إذا كان عند جبل على ليلة من اليمامة قال له الطسمي: توقف أيها الملك فإن لي أختا متزوجة في جديس يقال لها يمامة أبصر خلق الله على بعد، وإني أخاف أن ترانا فتنذرهم بنا، فأقام تبع، وأمر رجلا فصعد الجبل ليرى ما هناك، فدخل في رجله شوكة بالجبل، فأكب يستخرجها، فأبصرته اليمامة، وكانت زرقاء العين، فقالت لهم: إني أرى على الجبل الفلاني رجلا وما أظنه إلا عينا، فقالوا: ما يصنع؟ فقالت: إما يخصف «1» نعلا أو ينهش كتفا، فكذبوها، ثم قال الطسمي لتبع: إن بصرها بالليل أنفذ فمر أصحابك ليقطعوا من الشجر أغصانا ليستتروا بها فيشبهوا «2» عليها الأمر، ففعلوا، حتى إذا دنوا من اليمامة ليلا؛ فنظرت اليمامة فقالت: يا جديس سارت إليكم الشجر، أو جاءتكم أوائل خيل حمير، فكذبوها، فصبّحتهم حمير، فهرب الأسود في نفر من قومه لجبلي طيىء وفتح أهل المدينة حصون اليمامة، وامتنع عليهم حصن زرقاء اليمامة؛ فصابره تبع حتى افتتحه، وقبض عليها، وسألها: كيف أبصرتهم؟ فأخبرته بخبر الذي صعد الجبل، فسأله تبع، فقال: صعدت فانقطع شراك نعلي وأصابتني شوكة؛ فعالجت إصلاحها وإصلاح قبالي بفمي، فقال لها: أنّى لك هذا؟ قالت:
كنت آخذ حجرا أسود فأدقه وأكتحل به: فكان يقوي بصري، فيقال: إنها أول من اكتحل بالإثمد، فأمر تبع بقلع عينيها ليرى ما فيهما، فوجد عروقها كلها محشوة بالإثمد، وخربت اليمامة يومئذ؛ لأن تبعا قتل أهلها، ولم يخلف بها أحدا، ورجع إلى المدينة.
هذا ما ذكره المجد عن ياقوت باختصار، وليس فيه عكس القضية؛ فيجوز أن يقع بكل من اليمامة والمدينة مثل هذا، والظاهر أن قصة اليمامة كانت بعد قصة المدينة.
__________
(1) يخصف نعلا: يصلح نعلا.
(2) اشتبه عليها الأمر: اختلط عليها الأمر.(1/148)
ونقل رزين عن الشرقي أن أبا جبيلة لما فرغ من نصر أهل المدينة رجع إلى الشام؛ فأقبل تبع الأخير- وهو كرب بن حسان بن أسعد الحميري، والتبابعة كلهم من حمير- يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل؛ فمر بالمدينة، فخلف فيها ابنا له ومضى حتى قدم الشام، ثم سار حتى قدم العراق، فلما كان بالعراق قتل ابنه بالمدينة غيلة «1» فأقبل راجعا يريد تخريب المدينة، فنزل بسفح أحد، فاحتفر بئرا ثم أرسل إلى أشراف المدينة، فلما جاءهم الرسول قال بعضهم: إنما أراد أن يملكنا على قومنا، وقال أحيحة: والله ما دعاكم لخير، وكان لأحيحة رئيّ من الجن فخرجوا وخرج أحيحة معه بقينة وخمر وخباء، فضرب الخباء وجعل فيه القينة والخمر، ثم دخل على تبع أول الناس. فتحدث معه، ففطن بالشر، ثم قال: إن أصحابي يصلونك إلى الظهر، فاستأذن في الخروج إلى الخيمة، فأذن له، فشرب وجعلت القينة تغنيه بأبيات صنعها لها تقول:
لتبكني قينة ومزهرها ... وتبكني قهوة وشاربها
وتبكني عصبة إذا اجتمعت ... لا يعلم الناس ما عواقبها
وهو يقلّ من الشراب، وجاء أصحابه قريبا من الليل، فأمر لهم تبع بضيافة، فلما كان في جوف الليل أرسل إليهم ليقتلهم، ففطن أحيحة، فقال للقينة: أنا سائر إلى أهلي، فإذا طلبني الملك فقولي: هو نائم، فإذا ألحوا فقولي: يقول لك: أما أحيحة فقد ذهب فاغدر بقينته أو دع، وانطلق فتحصن في حصنه، فحاصروه ثلاثا يقاتلهم بالنهار، وإذا كان بالليل يرمي إليهم بتمر ويقول: هذا ضيافتكم. فأخبروا تبعا أنه في حصن حصين، فأمرهم أن يحرقوا نخله، واشتعلت الحرب بين تبع وأهل المدينة من اليهود والأوس والخزرج، وتحصنوا في الآطام، فخرج رجل من أصحاب تبع حتى جاء بني عدي بن النجار، فدخل لهم حديقة، فرقي على عذق منها. فأخذ يجده «2» ، فنزل إليه صاحب العذق «3» فقتله وجره إلى بئر وألقاه فيها، وهو يقول:
جانا يجدّ نخيلنا ... وكان الجداد لمن قد أبر «4»
فزاد ذلك تبعا حنقا «5» ، وجرد إلى بني النجار خيلا، فقاتلهم بنو النجار ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلحة أخو بني معاوية بن مالك بن النجار، ورمى عسكر تبع حصون
__________
(1) الغيلة: الغدر.
(2) جدّ الشيء: قطعه.
(3) العذق: كل غصن له شعب.
(4) أبّر النخل: أصلحه.
(5) حنق عليه: اشتد غيظه.(1/149)
الأنصار بالنبل، فلقد جاء الإسلام والنبل فيها، وجزع في القتال فرس تبع فحلف لا يبرح حتى يخربها بزعمه، فسمع بذلك أحبار من اليهود فنزلوا إليه وقالوا: أيها الملك إن هذه البلدة محفوظة، فإنا نجد اسمها في الكتاب طيبة، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل من الحرم، وهي تكون قراره فلن تسلط عليها، فأعجب تبع بقولهم، فصرف تبع نبته عنها، وأمر أهل المدينة فتبايعوا مع العسكر، وكان تبع قد استوبأ بئره «1» التي حفر، فمرض، فجاءته امرأة من بني زريق اسمها فاكهة براوية «2» من بئر رومة فأعجبه فاستلذه، فلما كان رحيله قال لها: يا فاكهة ما نترك في موضعنا من شيء إذا رحلنا فهو لك، فأخذت ذلك، فاستغنت منه، وخرج تبع يريد اليمن ومعه من الأحبار الذين نهوه عن خراب المدينة رجلان أو ثلاثة، فقال لهم: تسيرون معي أياما آنس بحديثكم، فكانوا يحدثونه عن الكتاب وعن قصة النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يتركهم حتى وصلوا معه إلى اليمن؛ فهم كانوا أول يهودي دخل اليمن، واتفق في مسيرة قصة إكسائه الكعبة.
وقد قدمنا في بعض الروايات أن مالك بن العجلان لما قتل ملك اليهود قصد اليمن إلى تبع الأصغر، وأنه الذي نصرهم على يهود، ولعل هذا مراد ياقوت لقوله «إن يهود كانوا أهل المدينة حتى أتاهم تبع فأنزل معهم بني عمرو بن عوف» لكن نقل المجد وغيره عن المبتدأ لابن إسحاق أنه قال في بيت أبي أيوب الذي نزله النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدمه المدينة: إن تبعا الأول بناه لما مر بالمدينة، قال في المبتدأ: واسمه تبان أسعد بن كلكيكرب، وكان معه أربعمائة عالم، فتعاقدوا على ألايخرجوا منها، فسألهم تبع عن سر ذلك، فقالوا:
إنا نجد في كتبنا أن نبيا اسمه محمد هذه دار مهاجره؛ فنحن نقيم لعل أن نلقاه، فأراد تبع الإقامة معهم، ثم بنى لكل واحد من أولئك دارا واشترى له جارية وزوجها منه وأعطاه مالا جزيلا، وكتب كتابا فيه إسلامه، ومنه:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النّسم «3»
فلو مدّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وختمه بالذهب ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إن أدركه، وإلا فمن أدركه من ولده أو ولد ولده، وبنى للنبي صلّى الله عليه وسلّم دارا لينزلها إذا قدم المدينة، فتداول
__________
(1) استوبأ البئر: استوخمها. ووجدها وبيئة.
(2) الراوية: المزادة فيها الماء. (ج) روايا.
(3) النسم: الخلق والناس.(1/150)
الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب وهو من ولد ذلك العالم، وأهل المدينة الذين نصروه كلهم من أولاد أولئك العلماء، انتهى.
زاد غير المجد: ويقال: إن الكتاب الذي فيه الشعر كان عند أبي أيوب حين نزل عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فدفعه له، وهو غريب، وكتب التواريخ متظاهرة «1» على ما قدمناه في أمر الأنصار ونسبهم.
وقد ذكر السهيلي إيمان تبّع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر البيتين، وروى حديث «لا تسبوا تبّعا فإنه كان مؤمنا» .
وروى عبد الرزاق عن وهب بن منبه قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سب أسعد وهو تبّع.
قال وهب: وكان على دين إبراهيم.
وروى أحمد من حديث سهل بن سعيد رفعه «لا تسبوا تبّعا فإنه كان قد أسلم» وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس مثله، وإسناده أصلح من إسناد سهل، وأما ما رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة مرفوعا «لا أدري تبع كان لعينا أم لا» فمحمول على أنه صلّى الله عليه وسلّم قاله قبل أن يعلم بحاله.
وقال المرجاني: إن أبا كرب بن أسعد الحميري آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقال: «شهدت على أحمد- البيتين المقدمين» وإن أباه أسعد هو تبّع الذي كسا الكعبة، ونقله عن حكاية ابن قتيبة، والذي رأيته في المعارف لابن قتيبة أن أسعد أبا كرب الحميري هو الموصوف بما ذكره. وروى ابن زبالة أن تبعا لما قدم المدينة وأراد إخراجها جاءه حبران من قريظة يقال لهما سحيت ومنبه فقالا: أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج في آخر الزمان، فأعجبه ما سمع منهما، فصدقهما وكفّ «2» عن أهل المدينة.
الفصل الخامس في منازل قبائل الأنصار بعد إذلال اليهود،
وشيء من آطامهم، وما دخل بينهم من الحروب، وهو نافع في معرفة جهات المساجد التي لا تعرف اليوم، وغير ذلك.
اعلم أن ابن زبالة نقل ما حاصله أن الأوس والخزرج بعد انصراف أبي جبيلة ونصره
__________
(1) متظاهرة: متوافقة.
(2) كفّ عنهم: انصرف وامتنع عنهم.(1/151)
لهم تفرقوا في عالية المدينة وسافلتها، واتخذوا الأموال والآطام، فنزل بنو عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر وبنو حارثة بن الحارث بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة فكلاهما من الأوس دار بني عبد الأشهل قبلي دار بني ظفر مع طرف الحرة الشرقية، قاله المطري، والذي يظهر لي أن منازلهم كانت قريبة من منازل بني ظفر في شاميها وتمتد إلى الحرة المعروفة اليوم بدشم وما حولها، بل سيأتي في ترجمة الخندق ما يقتضي أن منازلهم كانت بالقرب من الشيخين. وابتنى بنو عبد الأشهل أطما يقال له «واقم» وبه سميت الناحية واقما، وكان لحضير بن سماك، وله يقول شاعرهم:
نحن بنينا واقما بالحره ... بلازب الطين وبالأصره
وله يقول خفاف بن ندبة:
لو أنّ المنايا جزن عن ذي مهابة ... لهبن حضيرا يوم أغلق واقما «1»
يطيف به حتى إذا الليل جنّه ... تبوّأ منه مضجعا متناغما
وأطما يقال له: «الرعل» بالمال الذي يقال له واسط لصخرة أم بني عبد الأشهل، وله يقول شاعرهم يوم بعاث:
نحن بنو صخرة أرباب الرعل
وآطاما غير ذلك، وابتنى بنو حارثة أطما اسمه «المسيّر» صار لبني عبد الأشهل بعد خروج بني حارثة من دارهم؛ فإن بني حارثة تحولوا من دارهم هذه إلى غربي مشهد سيدنا حمزة رضي الله عنه في الموضع المعروف اليوم بيثرب؛ فكانت بها منازلهم على ما قدمناه عن المطري في الباب الأول. والذي تحرر لي من مجموع كلام الواقدي وابن زبالة وغيرهما أن منازلهم التي استقروا بها وجاء الإسلام وهم فيها كانت في شامي بني عبد الأشهل بالحرة الشرقية. ويؤيد ذلك ما سيأتي في ترجمة الخندق من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطه من أجمة الشيخين طرف بني حارثة كما رواه الطبراني.
وقد قال المطري كما سيأتي عنه: الشيخان: موضع بين المدينة وبين جبل أحد، على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد. ويؤيده أيضا أن المطري قد ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم غدا إلى أحد يوم وقعته على الطريق الشرقية المذكورة، وسيأتي أنه بات بالشيخين.
__________
(1) جزن تجاوزن. ذو المهابة: ذو الهيبة. هاب. خاف.(1/152)
وفي المعارف لابن قتيبة عن ابن إسحاق: فلما سارت قريش لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى نزلوا بيوت بني حارثة، فأقاموا بقية يومهم وليلتهم.
ثم خرج في غد، وذكر انخزال «1» عبد الله بن أبيّ؛ فتحرر أن بيوت بني حارثة عند الشيخين وفي ناحيتهما.
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز ذلك اليوم في حائط لمربع بن قيظ، واتفق له معه ما سيأتي ذكره: ومربع هذا من بني حارثة وأيضا فقد قدمنا في الفصل الرابع في تحريمها قول أبي هريرة في رواية الإسماعيلي: ثم جاء- يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم- بني حارثة وهم في سند الحرة. اه. وليس الموضع الذي ذكره المطري في سند الحرة، بخلاف الموضع الذي قدمناه، مع أنه يحتمل أن بعض منازل بني حارثة كانت بالموضع الذي ذكره المطري أيضا.
قال ابن زبالة: وابتنوا بها- أي بدارهم الثانية- أطما يقال له «الريان» عند مسجد بني حارثة كان لبني مجذعة بن حارثة، وسبب خروج بني حارثة من دار بني عبد الأشهل حرب كانت بينهم وبين عبد الأشهل، ووالى بنو ظفر بني عبد الأشهل، ثم هزمهم بنو حارثة وقتلوا سماك بن رافع وكان باغيا، قتله مسعود أبو محيصة الحارثي، وظفرت بهم بنو حارثة فأجلوهم أولا؛ فلحقوا بأرض بني سليم، فسار حضير بن سماك ببني سليم حتى قاتل بني حارثة، فقتل منهم، واشتد عليهم الحصار بأطمهم المسير المتقدم ذكره في دار بني عبد الأشهل، فسارت بنو عمرو بن عوف وبنو خطمة إليهم، وقالوا: إما أن تخلّوا سبيلهم، وإما أن تأخذوا عقل «2» صاحبكم، وإما أن تصالحوهم، فاختاروا أن يجلوهم، فخرج بنو حارثة إلى خيبر فكانوا بها قريبا من سنة، ثم رق لهم حضير وطلب صلحهم، فخرجت السفراء في ذلك حتى اصطلحوا، وأبت بنو حارثة أن ينزلوا دارهم مع بني عبد الأشهل، ونزلوا الدار المعروفة بهم اليوم، اه.
ونزل بنو ظفر وهو كعب بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس دارهم شرقي البقيع عند مسجدهم: أي المعروف بمسجد البغلة بجوار بني عبد الأشهل.
وذكر ابن حزم في الجمهرة أن بطون بني عمرو بن مالك بن الأوس [وهم]
__________
(1) انخزل: ارتد وضعف.
(2) عاقلة الرجل: ديته. وودّاه فعقل ديته بالعقل في فناء ورثته.(1/153)
النبيت: منهم ظفر، وحارثة، وبنو عبد الأشهل، وبنو زعورا بن جشم بن الحارث أخي عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.
ولم يذكر ابن زبالة بني زعورا في هذه البطون، بل ولا في بطون الأنصار كلها.
وذكر ابن حزم أن منهم مالك بن التيهان وبني أوس بن عتيك وغيرهم، وقال في موضع آخر: فولد جشم عبد الأشهل، بطن ضخم، وزعورا بطن، وهم أهل راتج.
ونزل بنو عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس قباء؛ فابتنوا أطما يقال له «الشّنيف» عند دار أبي سفيان بن الحارث بين أحجار المراء وبين مجلس بني الموالي، كان لبني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف، وأطما في دار عبد الله بن أبي أحمد، كان لكلثوم بن الهدم من بني عبيد بن زيد بن أظلم أخي بني عبيد بن زيد بن مالك، وأطما يقال له واقم كان بقباء لأحيحة بن الجلاح الجحجبي ثم صار لبني عبد المنذر بن رفاعة في دية جدهم رفاعة بن زر بن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف، وله يقول كعب بن مالك:
فلا تتهدّد بالوعيد سفاهة ... وأوعد شنيفا إن عصيت وواقما
وكان في رحبة بني زيد بن مالك بن عوف أربعة عشر أطما يقال لها: الصّياصي، وكان لهم أطم بالمسكبة شرقي مسجد قباء، وأطم يقال له «المستظل» كان موضعه عند بئر غرس، كان لأحيحة ثم صار لبني عبد المنذر في دية جدهم رفاعة، ثم خرجت بنو جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف من قباء حين قتلوا رفاعة بن زر وغنما أخا بني عمرو بن عوف فسكنوا العصبة، وهي غربي مسجد قباء، قال سعد بن عمرو الجحجبي لبشر بن السائب: تدري لم سكنا العصبة؟ قال: لا، قال: لأنا قتلنا قتيلا منكم في الجاهلية، فقال بشر: والأمانة لوددت أنكم قتلتم منا آخر وأنكم وراء عير، يعني الجبل الذي غربي العصبة.
وابتنى أحيحة بن الجلاح بالعصبة أطما يقال له «الضحيان» وهو الأطم الأسود الذي بالعصبة، وكان عرضه قريبا من طوله، بناه أولا من بثرة بيضاء»
فسقط، يعني من حجارة الحرار البيض. وكان يرى من المكان البعيد، وفيه يقول أحيحة:
وقد أعددت للحدثان حصنا ... لو أنّ المرء تنفعه العقول
طويل الرأس أبيض مشمخرّ ... يلوح كأنه سيف صقيل
وابتنوا هم وبنو مجدعة أطما يقال له «الهجيم» عند المسجد الذي صلّى فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد تقدم أن بني أنيف كانوا مع اليهود بقباء، وأنهم حي من بلى؛ فلذلك لم يذكر ابن
__________
(1) البثرة (ج) بثور: حجارة صغيرة.(1/154)
زبالة منازلهم هنا، وسيأتي في المساجد عن المطري وتبعه المجد أن بني أنيف بطن من الأوس، وأن منازلهم كانت بين بني عمرو بن عوف وبين العصبة، ومأخذ المطري في نسبتهم إلى الأوس قول أهل السير في المغازي: شهد من الأوس كذا وكذا رجلا، ثم يذكرون فيهم بعض بني أنيف؛ وذلك لأنهم حلفاء الأوس، لا لأنهم منهم، نبه عليه ابن إسحاق حيث قال: شهد بدرا من الأوس بضع وستون رجلا، فذكر من بني جحجبا جماعة، ثم قال: ومن حلفائهم من بني أنيف أبو عقيل، ثم نسبه إلى بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، لكن استفدنا من كلام المطري أن منازلهم بين العصبة وقباء، ويستفاد مما قدمناه عن ابن زبالة أن من منازلهم بئر عذق وما حولها والمال الذي يقال له القائم، وذلك معروف بقباء.
وخرجت بنو معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف فسكنوا دارهم التي وراء بقيع الغرقد المعروفة بهم، ولا يشكل عليه ما سيأتي في دور بني النجار من الخزرج من أن حديلة لقب لمعاوية بن عمرو بن مالك بن النجار للاشتراك في الاسم، ولكن الشهرة ببني معاوية لهؤلاء، وأولئك يعرفون ببني حديلة، وقد اشتبه ذلك على المطري فقال في مسجد بني معاوية- وهو مسجد الإجابة- ما لفظه: هو مسجد بني معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، ثم قال في دور بني النجار: إن بني حديلة هم بنو معاويةبن عمرو بن مالك بن النجار، ودارهم عند بئر حاء، ثم قال: ودار بني دينار بين دار بني معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أهل مسجد الإجابة، ودار بني حديلة، فذكر أولا أنهم هم، ثم غاير بينهما، والصواب المغايرة، وأن بني حديلة من الخزرج، وبني معاوية من الأوس، وقد صرح بتغايرهما أهل السير، ونسبوهما كما ذكرنا، ومسجد الإجابة لبني معاوية من الأوص، والذي أوقع المطري في هذا ما سيأتي عن عياض في بني حديلة إن شاء الله تعالى.
ومن بني معاوية هؤلاء حاطب بن قيس، وفيه كانت حرب حاطب كما ذكره ابن حزم.
وخرجت بنو السميعة- وهم بنو لوذان بن عمرو بن عوف- فسكنوا عند زقاق ركيح، وابتنوا أطما يقال له «السعدان» وموضعه في الربع (حائط هناك) ذكره ابن زبالة، ولعل الربع هو الحديقة المعروفة اليوم بالربعي، وكان بنو السميعة يدعون في الجاهلية بنو الصماء، فسماهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بني السميعة.
ونزل بنو واقف والسلم ابنا امرئ القيس بن مالك بن الأوس عند مسجد الفضيخ، فكانا هنالك وولدهما.(1/155)
وابتنى بنو واقف أطما يقال له «الزيدان» وله يقول قيس بن رفاعة:
وكيف أرجو لذيذ العيش بعدهم ... وبعد من قد مضى من أهل زيدان
كان لهم عامة موضعه في قبلة مسجد الفضيخ، وأطما كان موضعه عند بئر عائشة الواقفي، وغير ذلك، ثم كان بين السّلم وواقف كلام، فلطم واقف وهو الأكبر عين السلم- وكان شرسا- فحلف لا يساكنه، فنزل السلم على بني عمرو بن عوف، فلم يزل ولده فيهم، (ومن بقيتهم سعد بن خيثمة بن الحارث) ثم انقرضوا سنة تسع وتسعين ومائة.
وكان لبني السلم حصن شرقي مسجد قباء، ذكره ابن زبالة، وقد ذكر ابن حزم انقراض جميع بني السلم، قال: وكان قد بلغ عددهم في الجاهلية ألف مقاتل.
قلت: وفي قبلة مسجد الفضيخ عند الحديقة المعروفة بالأشرفية والسابور آثار آطام وقرية وحصن عظيم، فهي منازل بني واقف.
ونزل بنو وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس في دارهم المعروفة بهم، وابتنوا أطما يقال له: «الموجا» كان موضعه في مسجد بني وائل.
ونزل بنو أمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس في دارهم المعروفة بهم التي بها الكبا يمر فيها سيل مذينيب بين بيوتهم ثم يلتقي هو وسيل بني قريظة بفضاء بني خطمة، ويؤخذ مما ذكره ابن زبالة في منازل بني النضير بالنواعم قربه منزل بني أمية بن زيد منهم.
وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، نتناوب النزول على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن زبالة: وابتنوا أطما يقال له: «أطم العذق» كان عند الكبا المواجهة مسجد بني أمية، وأطما كان في دار آل رويفع التي في شرقي مسجد بني أمية.
ونزل بنو عطية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس بصفنة فوق بني الحبلى، وصفنة- كجفنة- بإهمال أوله سميت بذلك لارتفاعها عن السيول فلم تشرب بشيء منها، وابتنوا فيها أطما اسمه «شاس» كان لشاس بن قيس أخي بني عطية بن زيد، وهو الذي على يسارك في رحبة مسجد قباء مستقبل القبلة، ووائل وأمية وعطية بنو زيد هم الجعادرة، سموا به لأنهم كانوا إذا أجاروا جارا قالوا له: جعدر حيث شئت أي: اذهب حيث شئت، فلا بأس عليك، فقال الرمق بن زيد:
وإن لنا بين الجواري وليدة ... مقابلة بين الجعادر والكسر
متى تدع في الزيدين زيد بن مالك ... وزيد بن قيس تأتها عزة النصر(1/156)
قالوا: والكسر أمية وعبيد وضبيعة بنو زيد بن مالك بن عوف، كان يقال لهم كسر الذهب وذلك أراد الرمق بقوله «والكسر» كذا قاله ابن زبالة، ونقل رزين أن الجعادرة الأوس كلهم فإنه قال فيما نقل عن الشرقي: فولد الأوس مالكا ومن مالك قبائل الأوس كلها، فولد لمالك عمرو وعوف ومرة، ويقال لهم: أوس الله، وهم الجعادرة، سموا بذلك لقصر فيهم، اه.
قلت: وسيأتي عن ابن إسحاق في آخر الفصل السابع ما يقتضي أن أوس الله هم بنو أمية بن زيد ووائل وواقف وخطمة، والله أعلم.
ونزل بنو خطمة- وخطمة هو عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس- دارهم المعروفة بهم، وابتنوا بها الآطام، وغرسوا النخيل، فابتنوا بها أطما يقال له «صع ذرع» ليس فيه بيوت، جعلوه كالحصن الذي يتحصنون فيه للقتال، وكان لخطمة كلها، وكان موضعه عند مهراس بني خطمة، وإنما سمي «صع ذرع» لأنه كان عند بئر بني خطمة التي يقال لها ذرع، وابتنى أمية بن عامر بن خطمة أطما كان موضعه في مال الماجشون الذي يلي صدقة أبان بن أبي حدير.
قلت: والظاهر أنه المسمى اليوم «بالمجشونية» فإن اسمه الأصلي «الماجشونية» على ما تقدم في تربة صعيب.
وقال المطري: منازل بني خطمة لا يعرف مكانها اليوم، إلا أن الأظهر أنهم كانوا بالعوالي شرقي مسجد الشمس؛ لأن تلك النواحي كلها ديار الأوس، وما سفل من ذلك إلى المدينة ديار الخزرج، اه.
وفي قوله: «وما سفل إلخ» نظر، والذي يظهر أن أول منازل الخزرج في هذه الجهة منازل بني الحارث كما سيأتي، وفوقها بنو خطمة، وسيأتي في وادي بطحان ووادي مهزور ما يؤيد ذلك.
وكان بنو خطمة متفرقين في آطامهم، لم يكن في قصبة دارهم منهم أحد، فلما جاء الإسلام اتخذوا مسجدهم، وابتنى رجل منهم عند المسجد بيتا سكنه، فكانوا يسألون عنه كل غداة مخافة أن يكون السبع عدا عليه، ثم كثروا في الدار حتى كان يقال لهم غزة، تشبيها بغزة الشام من كثرة أهلها.
وقد انتهى الكلام في منازل الأوس وهذه منازل الخزرج.
قال ابن زبالة: ونزل بنو الحارث بن الخزرج الأكبر بن حارثة وهم بلحارث دارهم المعروفة بهم بالعوالي: أي: شرقي وادي بطحان وتربة صعيب، يعرف اليوم بالحارث بإسقاط بني، وابتنوا أطما كان لبني امرئ القيس بن مالك وخرج جشم وزيد ابنا الحارث بن(1/157)
الخزرج وهما التوأمان فسكنا السنح، وهذا هو المراد بقول ابن حزم: كان سكنى بني الحارث بالسّنح على ميل من مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم انتهى.
قال ابن زبالة: وابتنوا أطما يقال له «السّنح» وبه سميت الناحية، ويقال بل اسمه «الريان» انتهى. وبالسّنح كان منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه بزوجته بنت خارجة بن زيد، قاله عياض، قال: وهو منازل بني الحارث بن الخزرج بعوالي المدينة، وبينه وبين منزل النبي صلّى الله عليه وسلّم ميل، انتهى. فكأن السنح- وهو كما قال عياض وغيره بالسين المهملة ثم النون- بالقرب من منازل بني الحارث بالعوالي. وخرج عتبة بن عمر بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج فسكن الشوط وكوم الكومة يقال لها «كومة أبي الحمراء» ثم رجع في السنح. وخرجت بنو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج حتى سكنوا الدار التي يقال لها «جرار سعد» مما يلي سوق المدينة، وخرجت بنو الأبجر وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج وهم بنو خدرة أخوة بني خدارة فسكنوا دارهم المعروفة ببني خدرة، وابتنوا أطما يقال له «الأجرد» وهو الأطم الذي يقال لبئره البصة، كان لمالك بن سنان جد أبي سعيد الخدري، وذكر ابن حزم للحارث بن الخزرج الأكبر ابنا اسمه الخزرج ابن الحارث، وقال فيه: فولد الخزرج كعبا، فسار بعض بنيه إلى الشام مع غسان، فليس من الأنصار، ثم سمى من بقي منهم الأنصار.
ونزل سالم وغنم ابنا عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأكبر الدار التي يقال لها «دار بني سالم» على طرف الحرة الغربية غربي الوادي الذي به مسجد الجمعة ببطن رانونا، وابتنوا آطاما: منها «المزدلف» أطم عتبان بن مالك، قاله المطري، وقال: المزدلف هو الأطم الذي بناه عتبان بن مالك، كان لمالك بن العجلان السالمي، وله يقول مالك «إنّي بنيت للحروب المزدلف» ومنها «الشماخ» كان خارجا عن بيوت بني سالم من جهة القبلة، ومنها أطم «القواقل» وهو الذي في طرف بيوت بني سالم مما يلي ناحية العصبة، كان لبني سالم بن عوف، وتسميته بذلك يرجح ما ذكره ابن سيد الناس من أن القواقل «1» بنو غنم وبنو سالم ابني عوف، سموا بذلك لأنهم كانوا إذا أجاروا جارا قال له: قوقل حيث شئت، وأفهم سياق بعضهم أن القواقل بعض بني سالم بن غنم، وهم بنو الحبلى، وما
__________
(1) قوقل: ارتقى في الجبل وصعد.(1/158)
قدمناه هو الظاهر؛ لما سيأتي في خروجه صلّى الله عليه وسلّم من قباء إلى المدينة. وقال ابن حزم: ولد عوف بن عمر وسالم بطن، وغنم بطن، وعنز بطن، وهو قوقل، وذكر من ولده عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن قوقل بن عوف بن عمرو.
ونزل بنو غصينة حي من بلى حلفاء لبني سالم عند مسجد بني غصينة.
ونزل بنو الحبلى- بلفظ المرأة الجبلى- واسمه مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأكبر الدار المعروفة بهم بين قباء وبين دار ابني الحارث بن الخزرج التي شرقي وادي بطحان وصعيب، كذا قاله المطري، وأظن مستنده ما تقدم في منازل الأوس من قول ابن زبالة: ونزل بنو عطية بن زيد بن قيس بصفنة فوق بني الحبلى إلى آخره، وقال ابن حزم: كانت دار بني الحبلى بين دار بني النجار وبين بني ساعدة.
قلت: وسيأتي في خروجه صلّى الله عليه وسلّم من قباء إلى المدينة ما يؤيده، وكذلك مروره صلّى الله عليه وسلّم بعبد الله بن أبي في ذهابه لعيادة سعد بن عبادة، وما ذكره من أن الحبلى اسمه مالك بن سالم ذكره ابن زبالة، وقال ابن هشام: الحبلى سام بن غنم بن عوف، وإنما سمي الحبلى لعظم بطنه، انتهى.
وذكر ابن حزم نحوه، والظاهر أن الحبلى كان يطلق على سالم والد مالك المذكور، ثم اشتهر به ابنه هذا من بني بنيه، وحينئذ فيحمل ما تقدم عن ابن زبالة في نزول بني عطية بن زيد بصفنة فوق بني الحبلى، على أن المراد
دار سالم بن غنم في دار بني سالم؛ لكونه ذكر في آطام بني الحبلى هؤلاء ما يوافق كلام ابن حزم في نزولهم قرب دار بني ساعدة، فقال: وابتنوا آطاما منها «مزاحم» بين ظهران بيوت بني الحبلى، وهو لعبد الله بن أبي بن سلول. ومنها أطم كان بين مال عمارة بن نعيم البياضي وبين مال ابن زمانة. ومنها أطم كان في جوف بيوتهم. انتهى.
وسيأتي في منازل بني ساعدة ذكر الحماضة، وهي مذكورة في منازل بني بياضة، وقد صرح ابن حزم وغيره من أهل السير وعلماء النسب بأن عبد الله بن أبي من بني الحبلى من الخزرج؛ فالظاهر أن ما وقع للحافظ ابن حجر في حديث زوجة ثابت بن قيس بن شماس في الخلع من أن عبد الله بن أبي من بني مغالة من بني النجار وهم. نعم داره غربي المسجد قريبة من دار بني مغالة فيما يظهر. والله أعلم.
ونزل بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن شاردة بن تزيد (بالمثناة من فوق) بن جشم بن الخزرج الأكبر ما بين مسجد القبلتين إلى المذاد أطم بني حرام في سند تلك الحرة، وكانت دارهم هذه تسمى خربى. قال ابن زبالة: فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «طلحة» كذا هو في نسخة ابن زبالة بالطاء، ونقله عنه الزين المراغي أيضا كذلك كما رأيته بخطه.(1/159)
ولعل الصواب ما ذكره المجد في تاريخه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سماها «صلحة» بضم الصاد المهملة وسكون اللام، وقال في قاموسه: خربا كحبلى: منزلة كانت لبني سلمة غيّرها صلّى الله عليه وسلّم وسماها صالحة.
ونزل بنو سواد بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد القبلتين إلى أرض ابن عبيد الديناري، ولهم مسجد القبلتين، قاله ابن زبالة، وهو يرد ما سيأتي عن المطري وغيره من أن المسجد لبني حرام، وابتنوا أطما يقال له «الأغلب» كان على المهد الذي عليه الأحجار التي يستريح عليها السقاؤون حين يفيضون من زقاق رومة إلى بطحان، وأطمأ يقال له «خيط» في شرقي مسجد القبلتين على شرف الحرة وعند منقطع السهل من أرض بني سلمة، وأطما يقال له «منيع» في يماني مسجد القبلتين على ظهر الحرة يمين الحزن الذي في أرض ابن أبان أو دون ذلك قليلا.
ونزل بنو عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد الخربة إلى الجبل الذي يقال له الدويخل جبل بني عبيد، ولهم مسجد الخربة، وابتنوا «الأشنق» وهو المواجه لمسجد الخربة، كان للبراء بن معرور صخر بن حسان بن سنان بن عبيد، وابتنوا «الأطول» عند قبلة مسجد الخربة أو عن يسارها.
ونزل بنو حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد بني حرام الصغير الذي بالقاع بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك والأرض التي كانت لمعبد بن مالك، وكانوا بين مقبرة بني سلمة إلى المذاد، والمذاد: هو الذي يقول له كعب بن مالك:
فليأت مأسدة تسن سيوفها ... بين المذاد وبين جزع الخندق
وهو أطم لهم سميت به الناحية، وابتنوا أطما يقال له «جاعس» كان في السهل بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك وبين العين التي عملها معاوية بن أبي سفيان، كان لعمرو بن الجموح جد جابر بن عبد الله بن عمرو.
قلت: وهذه العين لعلها التي ذكر ابن النجار أنها تأتي إلى النخل الذي بأسفل المدينة حوالي مسجد الفتح، يعني في غربيه، ويعرف ذلك الموضع بالسّيح- بالسين المهملة والمثناة التحتية- كما قال المطري، والله أعلم.
وابتنى بنو مر بن كعب بن سلمة- وهم حلفاء بني حرام- أطما يقال له «أخنس» وهو الأسود القائم في بني سلمة في غربي الحائط الذي كان لجابر بن عتيك مما يلي جبل بني عبيد، ذكره ابن زبالة.
وقوله «عند مسجد بني حرام الصغير» يفهم أن لهم مسجدا آخر كبيرا، وهو الآتي في منزلهم الثاني بشعب سلع، وسيأتي في المساجد وصف مسجد بني حرام الذي صلّى فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه بالقاع، وأنه لم يصل في مسجدهم الأكبر.(1/160)
وكل هؤلاء بنو سلمة، وكانوا بهذه الدور، وكلمتهم واحدة، وملكوا عليهم أمّة بن حرام، فلبث فيهم زمانا حتى هلك رجل من بني عبيد ذو أموال كثيرة، له ولد واحد اسمه صخر، فأراد أمة أن ينزع طائفة من أمواله فيقسمها في بني سلمة، فعظم ذلك على صخر، وشكا ذلك على بني عبيد وبني سواد، وقال: إن فعل أمة ذلك لأضربنه بالسيف، وسألهم أن يمنعوه إن هو فعل، فأطاعوا له، فلما فعل أمة ذلك ضربه صخر فقطع حبل عاتقه، وقامت دونه بنو عبيد وبنو سواد، فنذر أمة ألايؤويه ظل بيت ما عاش حتى يقتل بنو سلمة صخرا أو يأتوه به فيرى فيه رأيه، وجلس أمة عند الضرب الذي فوق مسجد الفتح مما يلي الجرف في الشمس، فمرت به وليدة حطابة فقالت: مالك يا سيدي هنا في الشمس؟ فقال:
إن قومي أجمعوا لي أمرهم ... ثم نادوا لي صخرا فضرب
إنني آليت لا يسترني ... سقف بيت من حرور ولهب
أبدا ما دام صخر آمنا ... بينهم يمشي ولا يخشى العطب
فذهبت الجارية، فأخبرتهم، فربطوا صخرا ثم أتوه به، فعفا عنهم وأخذ الذي كان يريد أن يأخذ من أمواله؛ فهذا خبر ما دخل بين بني سلمة.
وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله أن بني سلمة قالوا: يا رسول الله، نبيع دورنا ونتحول إليك، فإن بيننا وبينك واديا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اثبتوا فإنكم أوتادها، وما من عبد يخطو إلى الصلاة خطوة إلا كتب الله له أجرا» .
وروى أيضا عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة قال: شكا أصحابنا- يعني بني سلمة وبني حرام- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن السيل يحول بينهم وبين الجمعة، وكانت دورهم مما يلي نخيلهم ومزارعهم في مسجد القبلتين ومسجد الخربة، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما عليكم لو تحولتم إلى سفح الجبل» يعني سلعا، فتحولوا؛ فدخلت حرام الشّعب، وصارت سواد وعبيد إلى السفح.
قلت: وشعب بني حرام معروف بسلع، وهناك آثار منازلهم وآثار مسجدهم في غربي جبل سلع على يمين السالك إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية، وعلى يسار السالك إلى المدينة وعلى مقربة من محاذاته في جهة المغرب حصن خل.
وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن جابر بن عبد الله قال: كان السيل يحول بين بني حرام وبين مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنقلهم عمر بن الخطاب إلى الشعب، وكلهم قوما(1/161)
كانوا فيه من أهل اليمن يقال لهم بنو ناغضة، فانتقلوا إلى الشعب الذي تحت مسجد الفتح، فاثارهم هناك، واشترت بنو حرام غلاما روميّا من أعطياتهم، وكان ينقل الحجارة من الحرة وينقشها، فبنوا مسجدهم الذي في الشعب وسقفوه بخشب وجريد، وكان عمر بن عبد العزيز زاد فيه مدماكين من أعلاه، وطابق سقفه، وجعل فيه ذيت مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: وآثار خرز أساطينه وما تكسر منها موجود اليوم فيه، يعرف محله بالشعب المذكور.
وقد روى المجد في فضل المساجد الخبر المتقدم، إلا أنه قال: وجعل فيه ذيت مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: والذيت الساج الذي يظهر على الحائط، انتهى. ولم يضبطه غير أنه بالذال في كتابه، والذي في كتاب ابن زبالة ويحيى ما قدمناه، والله أعلم.
ونزل بنو بياضة وزريق ابنا عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الأكبر، وبنو حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب، وبنو عذارة وهم بنو كعب بن مالك بن غضب، وبنو الليل وهم بنو عامر بن مالك بن غضب، وبنو أجدع وهم بنو معاوية بن مالك بن غضب دار بني بياضة. قال المطري: فيما بين دار بني سالم بن عوف بن الخزرج التي عند مسجد الجمعة إلى وادي بطحان قبلي دار بني مازن بن النجار.
قلت: الذي يترجح عندي أن دارهم كانت في شامي دار بني سالم بن عوف وقبلي دار بني مازن، ممتدة في الحرة الغربية، حتى إن في كلام ابن زبالة ما يقتضي أن بعض منازلهم تمتد إلى منازل بني ساعدة لما سنذكره.
وابتنوا بدارهم الآطام، وروى ابن زبالة أنه كان بدارهم تسعة عشر أطما، وأن الذي أحصاه لبني أمية بن عامر بن بياضة خاصة ثلاثة عشر أطما: منها أطم أسود في يماني أرض فراس بن ميسرة، كان في الحرة، ومنها «عقرب» كان في شامي المزرعة المسماة بالرحابة في الحرة على الفقارة، ومنها «سويد» كان في شامي الحائط الذي يقال له الحماضة، ولصاحبه كانت الحماضة، وسيأتي ذكر الحماضة في منازل بني ساعدة، لكن يبعد أن يكون هي المراد هنا، ومنها «اللواء» كان موضعه في حد السرارة بينه وبين زاوية الجدار الشامي الذي يحيط على الحماضة عشرون ذراعا، ومنها أطم كان في السرارة، والسرارة: ما بين أرض ابن أبي قليع إلى منتهى الحماضة، وما بين الأطم الذي يقال له(1/162)
اللواء إلى الجدار الذي يقال له بيوت بني بياضة، والجدار الذي بناه زياد بن عبيد الله لبركة السوق وسط السرارة، قاله ابن زبالة، وهو يقتضي أن السرارة قرب سوق المدينة، ويؤيده ذكر الحماضة في منازل بني ساعدة، لكن الظاهر أن المراد ببركة السوق هنا بركة كانت مما يلي سيل بطحان ورانونا؛ لأن ابن شبة قال في سيل رانونا: إنه يقترن بذي صلب، يعني موضع مسجد الجمعة، ثم يستبطن السرارة حتى يمر على قعر البركة، ثم يفترق فرقتين، إلى آخر ما سيأتي عنه.
ونقل رزين أن السرارة بين بني بياضة والحماضة. ثم ذكر ابن زبالة بقية آطامهم، وذكر ما يقتضي أن ما حول السرارة هو أقصى بيوت بني بياضة. ثم قال: وابتنى بنو حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الأطم الذي في أدنى بيوت بني بياضة الذي دونه الجسر الذي عند ذي ريش. ثم قال: فلبث بنو غضب بن جشم بن الخزرج- أي الفرق المذكورين كلهم- في دار بني بياضة، وأمرهم جميع، ثم إن زريق بن عامر هلك فأوصى ببنيه إلى عمه حبيب بن عبد حارثة، فكان حبيب يكلفهم النّضح بأيديهم، فلما اشتد عليهم عدوا عليه فقتلوه، فحالف بنو حبيب بني بياضة على نصرهم على بني زريق، فخافت بنو زريق أن يكثروهم. وكانت بنو بياضة حينئذ أثرى من بني زريق، فخرجوا من دار بني بياضة حتى حلوا دارهم المعروفة بهم قبليّ المصلى وسور المدينة الموجود اليوم وداخله بالموضع المعروف بذروان وما والاه، وابتنوا آطاما منها أطم في زاوية دار كبير بن الصلت بالمصلى، وأطما يقال له «الريان» عند سقيفة آل سراقة التي يقال لها «سقيفة الريان» وأقام بنو عمرو بن عامر بن زريق مع بني بياضة، ولهم الأطم الذي في شامي أرض فراس بن ميسرة في أدنى بيوت بني بياضة مما يلي السبخة، فلبثوا هناك حتى انتقل رافع بن مالك هو وولده قبيل الإسلام فسكنوا طرف السبخة ما بين الأساس إلى طرف السبخة إلى الدار التي فيها يسكن إسحاق بن عبيد بن رفاعة، وكان يقال لرافع بن مالك «الكامل» لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون لمن كان كاتبا شاعرا «الكامل» وانتقل سائر بني عمرو بن عامر بعد ذلك، فاشتروا من بني عوف بن زريق بعض دورهم وحقوقهم، وخرجت بنو عوف بن زريق قبيل الإسلام إلى الشام؛ فيزعمون أن هنالك ناسا منهم، ولبث بنو بياضة وبنو حبيب زمانا لا يقاتلون بني زريق، والرسل تجري بينهم، وبنو زريق يدعونهم إلى الصلح والدية، وعرضوا على بني حبيب أن يقطعوا لهم طائفة من ديارهم، فقبلوا ذلك، ووضعوا الحرب، وسمي الزقاق الذي دفعوه لهم «زقاق الدية» وانتقل بنو مالك بن زيد بن حبيب بن عبد حارثة من بني بياضة، ونزلوا الناحية التي ودت بنو زريق، وابتنوا أطما كان لبني المعلى بن لوذان، وتخلف بنو الصمة بن حارثة بن(1/163)
الحارث بن زيد بن حبيب في بني بياضة، فلبثت بنو المعلى بن لوذان في بني زريق ما شاء الله.
ثم إن عبيد بن المعلى قتل حصن بن خالد الزرقي، فأراد بنو زريق أن يقتلوه، ثم بدا لهم أن يدوا حصن بن خالد من أموالهم عن عبيد على أن يحالفهم بنو المعلى، ويقطعون حلفهم مع بني بياضة، ففعلوا، وكان عامر بن زريق بن عبد حارثة والد زريق وبياضة لما حضرته الوفاة أوصى ابنه بياضة بالصبر في الحروب وشدة البأس، وأوصاه بأخيه زريق وكان أصغرهما، فقال بعض شعرائهم في ذلك:
بالصّبر أوصى عامر بياضه
ويقال للأوس والخزرج: أبطأهم فرة وأرعهم كرة بنو بياضة وبنو زريق وبنو ظفر، وإن الأوس والخزرج لم يلتقوا في موطن قط إلا كان لهذه القبائل فضل بيّن على غيرهم من بطون الأوس والخزرج.
وأما بنو عذارة بن مالك بن غضب بن جشم فكانوا أقل بطون بني مالك بن غضب عددا، وكانوا قوما ذوي شراسة وشدة أنفس، فقتلوا قتيلا من بعض بطون بني مالك بن غضب إما من بني اللين أو بني أجدع، وأبى أهل القتيل الدية، وذهبوا إلى بني بياضة ليعينوهم على بني عذارة حتى يعطوهم القاتل، فكلمات بنو بياضة بني عذارة في ذلك، فأبوا أن يخلوا بينهم وبينه، فأرادت بنو بياضة أن يأخذوه عنوة «1» ، فخرجوا من دار بني بياضة حتى نزلوا قباء على بني عمرو بن عوف فحالفوهم وصاهروهم، وامتنعوا من بني بياضة، ثم إنه دخل بين بني عذارة وبين بني عمرو بن عوف قبيل الإسلام أمر، فأجمعوا أن ينتقلوا من عندهم إلى بني زريق، وكرهوا أن يرجعوا إلى بني بياضة، فجاؤوهم وذكروا لهم ذلك، فلقوهم بما يحبون، وسددوا رأيهم «2» ، وأتوا أبا عبيدة سعيد بن عثمان الزرقي فذكروا له ذلك، فرحب بهم وذكر شرفهم وفضلهم، ثم قال: إني أشير عليكم أن ترجعوا إلى أخوالكم- يعني: بني عمرو بن عوف- ولا تنتقلوا إلى بني زريق، فإن في أخلاقكم شراسة وفي أخلاق بني زريق مثلها، فتفرقوا عن رأيه، فلم يزالوا كذلك إلى أن فرض المهدي للأنصار سنة ستين ومائة، فانتقلوا بديوانهم إلى بني بياضة، وكان بطنان من بطون بني مالك بن غضب ممن كان بدار بني بياضة- لا ندري أهم من الليلن أم من أجدع- كان
__________
(1) عنوة: قسرا.
(2) سدد رأيه: أصاب في قوله وفعله.(1/164)
بينهم ميراث في الجاهلية، فاشتجروا فيه، فلما رأوا أنهم لا يستقيمون فيه على أمر تداعوا إلى أن يدخلوا حديقة كانت في بني بياضة فيقتتلوا فيها، فدخلوا جميعا ثم أغلقوها، فاقتتلوا حتى لم يبق منهم عين تطرف، فسميت تلك الحديقة «حديقة الموت» وكان بنو مالك بن غضب سوى بني زريق ألف مقاتل في الجاهلية، وأما بنو أجدع فلم يبق منهم أحد، وأما بنو اللين فكان بقي منهم رجلان ثم انقرضا لا عقب لهما.
وذكر ابن حزم: أن زيد بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب المتقدم ذكر بنيه كان له أخ، وهو عبد الله بن حبيب، وأن عبد الله بن حبيب هذا ولد أبى جبيلة الغساني الذي جلبه مالك بن العجلان لقتل اليهود بالمدينة كما قدمنا الإشارة إليه، والله أعلم.
ونزل بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر مفترقين في أربع منازل: فنزل بنو عمرو وبنو ثعلبة ابنا الخزرج بن ساعدة دار بني ساعدة التي بين السوق- أي سوق المدينة- وبين بني ضمرة؛ فهي في شرقي سوق المدينة مما يلي الشام. وقال المطري: قرية بني ساعدة عند بئر بضاعة، والبئر وسط بيوتهم. قال ابن زبالة: فابتنوا أطما يقال له «معرض» في الدار المواجهة مسجد بني ساعدة، وهو آخر أطم بني بالمدينة، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهم يبنونه، فاستأذنوه في إتمامه، فأذن لهم فيه، وله يقول شاعرهم:
ونحن حمينا عن بضاعة كلّها ... ونحن بنينا معرضا فهو مشرف
فأصبح معمورا طويلا فدى له ... وتخرب آطام بها وتصفصف
وأطما في دار أبي دجانة الصغرى التي عند بضاعة، ونزلت بنو قشبة- واسم قشبة عامر بن الخزرج بن ساعدة- قريبا من بني حديلة، وابتنوا أطما عند خوخة عمرو بن أمية الضّمري.
قلت: فمنزلهم في شرقي بني ضمرة، والمنزل المذكور قبل، والله أعلم.
ونزلت بنو أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة- وهم رهط سعد بن عبادة الدار التي يقال لها جرار سعد وهي جرار كان يسقي الناس فيها الماء بعد موت أمه.
قال ابن زبالة: عرض سوق المدينة ما بين المصلى إلى جرار سعد بن عبادة.
قلت: فهي مما يلي السوق، فإما أن يكون من جهة المشرق والمصلى حده من جهة المغرب، فيشهد ذلك لأنها الموضع المعروف اليوم بين أهل درب السويقة بسقيفة بني ساعدة، ويكون إطلاق السقيفة على ذلك المحل صحيحا، لا كما قال المطري: إنها بقرية ببني ساعدة عند بئر بضاعة؛ لأن سعد بن عبادة لم يكن هناك، وإنما كان مع رهطه في منزلهم، والسقيفة كانت عند منزله، وإما أن يكون جرار سعد مما يلي السوق من جهة(1/165)
الشام، ويكون المصلى حده القبلي، وهذا هو الأرجح؛ لأن الجهة التي بالمشرق مما تقدم إنما هي من منازل بني زريق، والله أعلم.
قال ابن زبالة: فابتنوا أطما يقال له واسط، وقد تقدم أن بني خدارة نزلوا بجرار سعد أيضا، فكأنها كانت منزلها، وبنو خدارة من بني الحارث بن الخزرج كما تقدم، فدارهم المرادة في حديث عيادة سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، لا دار بني الحارث المعروفة بهم لبعدها جدا عن منازل بني ساعدة، وليسوا قوم سعد إلا من حيث إن الكل من الخزرج.
وفي حديث عائشة في الصحيح بعد قول عروة لها: ما كان يعيشكم؟ قالت:
الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيران من الأنصار كانت لهم منايح، الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في بيان ذلك: جيرانه صلّى الله عليه وسلّم من الأنصار سعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حزم وأبو أيوب وسعد بن زرارة؛ فيبعد كون سعد بن عبادة في دار بني الحارث لعده في الجيران، ومأخذ الحافظ ابن حجر في ذلك ما رواه ابن سعد عن أم سلمة قالت: كان الأنصار يكثرون إلطاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعمارة بن حزم، وأبو أيوب، وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى، والله أعلم.
ونزلت بنو وقش وبنو عنان ابنا ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الدار التي يقال لها «بنو ساعدة» ويقال لها أيضا «بنو طريف» وهي بين الحماضة وجرار سعد، وسيأتي في ترجمة الشوط ما يقتضي أن لبني ساعدة منزلا في شامي مسجد الراية، والظاهر أنه هذا المنزل، والله أعلم.
ونزل بنو مالك بن النجار دارهم المعروفة بهم، فابتنى بنو غنم بن مالك أطما يقال له «فويرع» وفي موضعه دار حسن بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه!
قلت: وهي الدار المقابلة لدار جعفر الصادق التي في قبلة المدرسة الشهابية، كما سيأتي نقله عن ابن شبة.
وابتنى بنو مغالة- وهم بنو عدي بن عمرو بن مالك، ومغالة أم عدي- أطما يقال له «فارع» وهو الأطم الذي واجه دور بني طلحة بن عبيد الله، ودخل في دار [جعفر] بن يحيى بن خالد بن برمك، وله يقول حسان بن ثابت:
أرقت لتوماض البروق اللوامع ... ونحن نشاوى بين سلع وفارع
قاله ابن زبالة.(1/166)
وقال الزين المراغي: إن هذا الأطم كان لثابت والد حسان بن ثابت، وإنه دخل في الدار المواجهة لباب الرحمة التي كانت دار عاتكة، ومأخذه في ذلك أن دار عاتكة من جملة دار جعفر بن يحيى، لكن سيأتي من كلام ابن زبالة ويحيى عند ذكر أبواب المسجد أن دار جعفر بن يحيى، لكن سيأتي من كلام ابن زبالة ويحيى عند ذكر أبواب المسجد أن دار جعفر بن يحيى دخل فيها بيت عاتكة وفارع أطم حسان بن ثابت، وبيّنا محله هناك في شامي الدار المذكورة، أعني دار عاتكة، وفارع هذا هو الأطم الذي كانت به صفية عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق وعندها حسان.
وفي مسلم في حديث ابن صياد «فوجده عند أطم بني مغالة» .
قال عياض: بنو مغالة كل ما كان على يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل المسجد النبوي.
وابتنى بنو حديلة (بضم الحاء المهملة) وهو- كما قال ابن زبالة وغيره- لقب معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أطما يقال له «مشعط» كان في غربي مسجدهم الذي يقال له «مسجد أبي» يعني أبي بن كعب، وفي موضعه بيت يقال له «بيت أبي نبيه» وقد أسند ابن زبالة عقب ذكره الحديث المتقدم «إن كان الوباء في شيء فهو في ظل مشعط» وذكر ابن شبة قصر بني حديلة، وقال: بناه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ليكون حصنا، قال: وله بابان: باب شارع على خط بني حديلة، وباب في الزاوية الشرقية اليمانية عند دار محمد بن طلحة التّيمي، وفي وسطه بئر حاء، انتهى.
وقال عياض في المشارق: بئر حاء: موضع يعرف بقصر بني حديلة، وقد قال ابن إسحاق: بنو عمرو بن مالك بن النجار هم بنو حديلة، أي لأن حديلة بطن منهم؛ لما قدمناه من أنه لقب أبيهم معاوية بن عمرو بن مالك.
قلت: فليس بنو حديلة هؤلاء بني معاوية من الأوس أهل مسجد الإجابة كما قدمناه ولكن الاشتراك في الاسم أوجب الوهم، فقد وقع للقاضي عياض في المشارق ما يخالف كلام عامة الناس، فقال: قال الزبير: كل ما كان من المدينة عن يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بنو مغالة، والجهة الآخرى أي التي على يسارك بنو حديلة، وهم بنو معاوية وهم من الأوس.
قال الجوهري: هي قرية من قرى الأنصار، قال القاضي: هم بطن من الأنصار سميت جهتهم بهم، وهم أيضا بنو حديلة (بحاء ودال مهملتين) وحديلة أمهم، انتهى.
والذي نقله غيره عن الزبير أن بني حديلة من بني النجار من الخزرج، وبنو معاوية من الأوس غيرهم، وقد قدمناه عن ابن زبالة شيخ الزبير، وقد ذكر ابن حزم في الجمهرة(1/167)
معاوية من الأوس، وذكر بني حديلة من الخزرج، فقال وولد مالك بن النجار معاوية وأمه حديلة فنسب إليها، والظاهر أن قول القاضي «وهم من الأوس» ليس من كلام الزبير في هذا الموضع، ولكن القاضي لما رأى قوله «وهم بنو معاوية» ظن أنهم بنو معاوية من الأوس، وهذا موجب ما وقع للمطري من الخبط في هذا المحل، حيث غاير بينهما مرة وجعلهما متحدين أخرى، ولا يصح الجمع بما ذكره المراغي من احتمال أن يكون بنو معاوية بطنا أو فخذا من بني حديلة؛ لما قدمناه.
وابتنى بنو مبذول- واسمه عامر بن مالك بن النجار- أطما يقال له «السلج» وأطما كان في دار آل حييّ بن أخطب كان لبني مالك بن مبذول، وأطما كان في دار سرجس مولى الزبير التي إلى بقيع الزبير كان لآل عبيد بن النعمان أخي النعمان بن عمرو بن مبذول، وبقيع الزبير ذكر في أماكن يؤخذ منها أنه كان في شرقي الدور التي تلي قبة المسجد النبوي إلى بني زريق، وإلى بني غنم، وإلى البقال «1» كما سيأتي.
ونزل بنو عدي بن النجار دارهم المعروفة بهم غربي المسجد النبوي، على ما قاله المطري، وكان بها الأطم الذي في قبلة مسجدهم، وابتنوا أطما يقال له «أطم الزاهريرة» امرأة سكنته كان في دار النابغة عند المسجد الذي في الدار.
ونزل بنو مازن بن النجار دارهم المعروفة بهم قبلى بئر البصة، وتسمى الناحية اليوم أبو مازن، غيّرها أهل المدينة.
قال المطري: وابتنوا بها أطمين أحدهما يقال له «واسط» قلت: والذي يؤخذ من كلام ابن شبة الآتي في منازل القبائل أن منازل بني مازن كانت في قبلة المدينة شرقي منازل بني زريق قريبة منها، والله أعلم.
ونزل بنو دينار بن النجار دارهم التي خلف بطحان المعروفة بهم، وابتنوا أطما يقال له «المنيف» عند مسجدهم الذي يقال له مسجد بني دينار، قاله ابن زبالة، وقال المطري في بيان هذا المسجد: ودار بني دينار بن النجار بين دار بني حديلة ودار بني معاوية أهل مسجد الإجابة، ودار بني حديلة عند بئر حاء، اه.
ولا أدري من أين أخذ هذا، وما ذكره ابن زبالة أقرب وأولى بالاعتماد لأمور سنذكرها في بيان مسجدهم.
قال ابن زبالة: وزعم بنو دينار أنهم نزلوا أولا دار أبي جهم بن حذيفة العدوي، وكانت امرأة منهم هنالك، وكان لها سبعة إخوة، فوقفت على بئر لهم بدار أبي جهم ومعها مدرى لها من فضة فسقط منها في البئر، فصرخت بإخوتها، فدخل أولهم يخرجه
__________
(1) البقال: اسم موضع.(1/168)
فأسر، فاستغاث ببعض إخوته حتى دخلوا جميعا فماتوا في تلك البئر، فهذه منازل بني النجار.
قال المطري وتبعه من بعده: إن دار النابغة المتقدمة في بني عدي كانت غربي مسجد الرسول، وهي دار بني عدي بن النجار، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما يليه من جهة الشرق دار بني غانم بن مالك بن النجار، ودور بني النجار بالمدينة وما حولها من الشمال إلى مسجد الإجابة، والنجار: هو تيم الله بن ثعلبة، وسمي بذلك لأنه ضرب رجلا فنجره، فقيل له: النجار، وفي دور بنيه هؤلاء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل» وهم من الأوس كما سبق. وفي رواية أخرى: «ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى، قال: بنو عبد الأشهل، وهم رهط سعد بن معاذ، قالوا: ثم من يا رسول الله قال: ثم بنو النجار» وراويهما واحد، وقد صحتا، فاختلف عليه، وتقديم بني النجار روى عن أنس من غير اختلاف عليه، ولها مؤيدات أخرى، وهم أخوال عبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك نزل عليهم صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي، ثم ذكر في الرواية المذكورة بعد بني عبد الأشهل بني الحارث بن الخزرج أي الأكبر «ثم بنو ساعدة» وقال في هذه الرواية أيضا «وفي كل دور الأنصار خير» وكأن المفاضلة وقعت بحسب السبق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلام كلمة الله.
قال ابن زبالة عقب ذكر جميع منازل الأنصار المتقدمة: ونزل بنو الشطبة حين قدموا من الشام ميطان، فلم يوافقهم، فتحولوا قريبا من جذمان، ثم تحولوا فنزلوا براتج، فهم أحد قبائل راتج الثلاث، وقد ذكر راتج في منازل يهود فقال: وكان براتج ناس من اليهود، وكان راتج أطما سميت به تلك الناحية، ثم صار لبني الجذماء، ثم صار بعد لأهل راتج الذين كانوا حلفاء بني عبد الأشهل، وهو الذي يقول له قيس بن الخطيم:
ألا إن بين الشّرعبى وراتج
البيت.
وقد قدمنا عن ابن حزم أن أهل راتج هم بنو زعورا بن جشم أخي عبد الأشهل بن جشم، وذكر أيضا أن من أهل راتج بني سعد بن مرة بن مالك بن الأوس.
وقال المطري: راتج جبيل صغير غربي وادي بطحان، وبجنبه جبيل آخر صغير يقال له: جبل بني عبيد، انتهى. وسيأتي ما ينازع فيه مع بيان أن راتجا في ناحية مسجد الراية.(1/169)
الفصل السادس فيما كان بينهم من حرب بعاث
نقل رزين عن الشرقي أن الأوس والخزرج لبثوا بالمدينة ما شاء الله وكلمتهم واحدة، ثم وقعت بين الأوس والخزرج حروب كثيرة حتى لم يسمع قط في قوم أكثر منها ولا أطول.
الحروب قبل بعاث
أولها: حرب سمير، وسببه رجل من بني ثعلبة كان حليفا لمالك بن العجلان، قتله رجل من الأوس يقال له سمير بالمهملة مصغرا. ثم حرب كعب بن عمرو، ثم يوم السرارة، وهو موضع بين بني بياضة والحماضة، ثم يوم الديك، وهو موضع أيضا، ثم حرب بعاث، وهو كان آخرها، قتل فيه سراة الأوس والخزرج ورؤسائهم.
قلت: في كلام بعضهم أنه كان بين الأوس والخزرج وقائع من أشهرها يوم السرارة، ويوم فارع، ويوم الفجار الأول والثاني، وحرب حضير بن الأسلت، وحرب حاطب بن قيس، إلى أن كان آخر ذلك يوم بعاث، فقول الخطابي «يوم بعاث يوم مشهور كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام على ما ذكره ابن إسحاق وغيره» مؤول بأن حروب الأوس والخزرج كلها قبل بعاث وبعده مكثت هذه المدة، وإلا فهو مردود، وسيأتي تعيين تاريخ يوم بعاث.
سبب حرب بعاث
وكان سببه أن الحروب المتقدمة كلها كان الظفر في أكثرها للخزرج على الأوس، حتى ذهبت الأوس لتحالف قريظة، فأرسلت إليهم الخزرج: لئن فعلتم فأذنوا بحرب، فتفرقوا وأرسلوا إلى الخزرج: إنا لا نحالفهم، ولا ندخل بينكم، فقالت الخزرج لليهود: فأعطونا رهائن، وإلا فلا نأمنكم، فاعطوهم أربعين غلاما من بينهم، ففرقهم الخزرج في دورهم، فلما أيست الأوس من نصرة اليهود حالفت بطونا من الخزرج منهم بنو عمرو بن عوف، وقال سائرهم: والله لا نصالح حتى ندرك ثأرنا، فتقاتلوا، وكثر القتل في الأوس لما خذلهم قومهم، وخرج سعد بن معاذ الأشهلي، فأجاره عمرو بن الجموح الحرامي، فلما رأت الأوس أن أمرهم إلى قل عزموا على أن يكونوا حلفا للخزرج في المدينة، ثم اشتوروا في أن يحالفوا قريشا، فأظهروا أنهم يريدون العمرة، وكان بينهم أن من أراد حجا أو عمرة لم يعرض له، فأجار أموالهم بعدهم البراء بن معرور، فأتوا مكة فحالفوا قريشا، ثم جاء أبو جهل- وكان غائبا- فنقض حلف قريش بحيلة احتالها.(1/170)
قلت: روى ابن شبة عن أفلح بن سعيد ما يخالفه في نسبة ذلك لأبي جهل مع بيان الحيلة، فقال: خرجت الأوس جالية من الخزرج حتى نزلت على قريش بمكة فحالفتها، فلما حالفتهم قال الوليد بن المغيرة: والله ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم وورثوا ديارهم، فاقطعوا حلف الأوس، فقالوا: بأي شيء؟ قال: إن في القوم حمية، قولوا لهم: إنا نسينا شيئا لم نذكره لكم، إنا قوم إذا كان النساء بالبيت فرأى الرجل امرأة تعجبه قتلها ولمسها بيده، فلما قالوا ذلك للأوس نفرت وقالوا: اقطعوا الحلف بيننا وبينكم، فقطعوه، انتهى.
فلما لم يتم لهم الحلف ذهبت النبيت إلى خيبر- قلت: أراد بالنبيت بعضهم، وهم بنو حارثة؛ لما قدمناه من أن النبيت يطلق عليهم وعلى بني عبد الأشهل وبني ظفر وبني زعورا، والذي انتقل من هؤلاء إلى خيبر هم بنو حارثة فقط كما سبق، إلا أن يريد غيره- فأقاموا بها سنة، وماتت منهم عجوز فقالوا «أهون حادث موت عجوز في سنة» فذهب مثلا، فلما رأت الخزرج أن قد ظفرت بالأوس افتخروا عليهم في أشعارهم، وقال عمرو بن النعمان البياضي: يا قوم إن بياضة بن عمرو أنزلكم منزل سوء، والله لا يمس رأسي غسلا حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير وأقتل رهنهم، وكان لهم غزار المياه وكرام النخل، وقال رجل منهم أيضا شعرا يتغنى به يذكر جلاء النبيت إلى خيبر وأخذهم الرهن من اليهود:
هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم ... وإذ أصلحوا ما لا لجذمان ضائعا
إذا ما امرؤ منهم أساء عمارة ... بعثنا عليهم من بني العير جادعا
فأما الصّريح منهم فتحمّلوا ... وأما اليهود فاتخذنا بضائعا
وذاك بأنا حين نلقى عدوّنا ... نصول بضرب يترك العز خاشعا
فبلغ قولهم قريظة والنضير وهم المعينون بالصريح لأنهم من بني الكاهن بن هارون، وبلغ ذلك أيضا من كان في المدينة من الأوس، فمشوا إلى كعب بن أسد القرظي، فدعوه إلى المحالفة على الخزرج، ففعل، ثم تحالفوا مع قريظة والنضير، ثم أرسلوا بذلك إلى النبيت فقدموا فأخذت الخزرج في قتل الرهن، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: إنما هي ليلة ثم تسعة أشهر وقد جاء الخلف، وأرسلوا إلى الأوس وقالوا لههم: انهضوا إلينا، فنأتيهم بأجمعنا، فجاءت الخزرج إلى عبد الله بن أبي فقالوا: مالك لا تقتل الرهن؟ فقال:
لا أغدرهم أبدا، وأنتم البغاة، وقد بلغني أن الأوس تقول: منعونا الحياة فيمنعونا الموت، ووالله ما يموتون أو تهلكون عامتكم، فقال له عمرو بن النعمان: انتفخ والله سحرك، فقال: إني لا أحضركم، ولكأني أنظر إليك قتيلا يحملك أربعة في كساء.(1/171)
فاجتمع الخزرج ورأسوا عليهم عمرو بن النعمان قلت: الذي ذكره ابن حزم أن رئيس الخزرج يومئذ هو والد النعمان، وهو رحيلة بن ثعلبة البياضي، والله أعلم. فاقتتلوا في بعاث، وهو موضع عند أعلى قوري، وكانت الدّبرة على الخزرج، وقتل عمرو بن النعمان، وجيء به تحمله أربعة كما قال له ابن أبي، وحلفت اليهود لتهدمن حصن عبد الله بن أبي، وكان أبو عمرو الراهب مع الأوس، وكانت تحته جميلة بنت أبي، وهي أم حنظلة الغسيل، فلما أحاطوا بالحصن قال لهم عبد الله: أما أنا فلم أحضر معهم، وهؤلاء أولادكم الذين عندي فإنني لم أقتل منهم أحدا، ونهبت الخزرج فعصوني، وكان جل من عنده من الرهن من أولاد بني النضير، ففرحوا حين سمعوا بذلك، فأجاروه من الأوس ومن قريظة، فأطلق أولادهم وحالفهم، ولم يزل حتى ردهم حلفاء الخزرج بحيل تحيّل بها، وكان رئيس الأوس في هذه الحرب حضير الذي قال له «حضير الكتائب» والد أيد بن حضير، وبها قتل، وقال خفاف بن ندبة يرثي حضيرا:
أتاني حديث فكذّبته ... وقالوا: خليلك في المرمس
فيا عين بكى حضير الندى ... حضير الكتائب والمجلس
وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي كما تقدم أيضا، قال بعضهم: وكان النصر فيها أولا للخزرج، ثم ثبّت حضير الأوس فرجعوا وانتصروا.
وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن سبب ذلك أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف، فقتل رجل من الأوس حليفا للخزرج، فأرادوا أن يقيدوه فامتنعوا، فوقعت بينهم الحرب لأجل ذلك.
وكان يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين على الأصح، وقيل: بأربعين سنة، وقيل:
بأكثر، وهو اليوم الذي تقول فيه عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح «كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في دخولهم في الإسلام، فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم» يعني الأوس والخزرج، ومعناه أنه قتل فيه من أكابرهم من كان لا يؤمن أن يتكبر ويأنف أن يدخل في الإسلام لتصلبه في أمر الجاهلية ولشدة شكيمته حتى لا يكون تحت حكم غيره، وقد كان بقي منهم من هذا النمط عبد الله بن أبيّ بن سلول، وقصته في ذلك مشهورة، وكذلك أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالفاسق، قال أهل السير: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول، كان من الخزرج ثم من بني عوف بن الخزرج ثم من بني الحبلى، لا يختلف في شرفه في قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين حتى جاء الإسلام غيره، ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع أبو عامر بن(1/172)
صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو أبو حنظلة الغسيل، وكان قد ترهب ولبس المسوح، فشقيا بشرفهما: أما عبد الله بن أبي فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استلبه ملكا، فلما راى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن، فكان رأس المنافقين، وإليه يجتمعون، وهو القائل في غزوة بني المصطلق لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقين: 8] وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام. وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال: فأنا عليها، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنك لست عليها، قال: إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها، قال: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال:
الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أجل، فمن كذب ففعل الله ذلك به، فكان هو ذاك عدو الله: خرج إلى مكة مفارقا الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تقولوا الراهب، ولكن قولوا الفاسق» فلما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، فمات بها طريدا غريبا وحيدا.
وروى بعضهم أنه لم يكن في الأوس والخزرج رجل أوصف لمحمد صلّى الله عليه وسلّم من أبي عامر المذكور، وكان يألف اليهود ويسائلهم فيخبرونه بصفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم خرج إلى يهود تيماء وإلى الشام، فسأل النصارى فأخبروه بذلك، فرجع وهو يقول: أنا على دين الحنيفية، وترهب ولبس المسوح، وزعم أنه ينتظر خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما ظهر بمكة لم يخرج إليه، فلما قدم المدينة حسد وبغى، وذكر إتيانه النبي صلّى الله عليه وسلّم بنحو ما سبق، إلا أنه قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكاذب أماته الله وحيدا طريدا» قال: آمين، ثم ذكر خروجه إلى مكة، وزاد: فكان مع قريش يتبع دينهم وترك ما كان عليه؛ فهذا مصداق ما ذكرت عائشة رضي الله عنها.
الفصل السابع في مبدأ إكرام الله لهم بهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر العقبة الصغرى
اعلم أن تلك الحروب المتقدمة لم تزل بين الأوس والخزرج حتى أكرمهم الله باتباعه صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض نفسه في كل موسم من مواسم العرب على قبائلهم، ويقول: ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي، فيأبونه ويقولون: قوم الرجل أعلم به.
وذكر ابن إسحاق عرضه عليه الصلاة والسلام نفسه على كندة وعلى كلب وعلى بني(1/173)
حنيفة، قال: ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم، وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان في تلك السنين- أي التي قبل الهجرة- يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي، فلا يقبله أحد.
وذكر الواقدي دعاءه صلّى الله عليه وسلّم بني عبس إلى الإسلام، وأنه أتى غسان في منازلهم بعكاظ وبني محارب كذلك، ولم يزل صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى دين الله، ويأمر به كل من لقيه ورآه من العرب، إلى أن قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف من الأوس، وكان يسمى «الكامل» لجلده وشعره، وهو القائل:
فرشني بخير طالما قد بريتي ... فخير الموالي من يريش ولا يبري
فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فلم يبعد ولم يجب، ثم انصرف إلى يثرب، فلم يلبث أن قتل يوم بعاث.
قال ابن إسحاق: فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا نراه قد قتل وهو مسلم، وقدم مكة أبو الحيسر أنس بن رافع وهو في فتية من قومه بني عبد الأشهل يطالبون الحلف، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فقال رجل منهم اسمه إياس بن معاذ وكان شابا: هذا والله خير مما قدمنا، فضربه أبو الحيسر وانتهره، فسكت، ثم لم يتم لهم الحلف، فانصرفوا إلى بلادهم، ومات إياس بن معاذ فقيل: إنه مات مسلما.
وقال رزين في ذكر هذه القصة: ثم جاءت الأوس تطلب أن تحالف قريشا، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرض نفسه عليهم، وقال: اسمعوا مني، هل لكم في خير مما جئتم له؟
وتلا عليهم القرآن، ثم قال: بايعوني واتبعوني، فإلكم ستجمعون بي، فقال عمرو بن الجموح: هذا أي قوم والله خير لكم مما جئتم له، فانتهروه، وقالوا: ما جئنا لهذا، ولم يقبلوا عليه، ثم انصرفوا، فكانت وقعة بعاث.
وقال ابن زبالة: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض نفسه على القبائل فيأبونه، حتى سمع بنفر من الأوس قدموا في المنافرة التي كانت بينهم، فأتاهم في رحالهم، فقالوا: من أنت؟ فانتسب لهم، وأخبرهم خبره، وقرأ عليهم القرآن، وذكر أنهم أخواله، وسألهم أن يؤووه ويمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: والله هذا صادق، وإنه للنبي الذي يذكر أهل الكتاب ويستفتحون به عليكم، فاغتنموه وآمنوا به، فقالوا: أنت رسول الله، قد عرفناك وآمنا بك وصدقناك، فمرنا بأمرك فإنا لن نعصيك، فسر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعل يختلف إليهم، ويزدادون فيه بصيرة، ثم أمرهم صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوا قومهم إلى دينهم،(1/174)
فسألوه أن يرتحل معهم، فقال: حتى يأذن لي ربي، فلحقوا بأهلهم المدينة، ثم شخصوا إليه في الموسم فكان من أمر العقبة ما كان، وهو مخالف لما تقدم من أن النفر من الأوس لم يقبلوا.
وقد أخرج الحاكم وغيره بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب وخرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسابة، فقال: من القوم؟ قالوا: ربيعة، فذكر حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة، ثم قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار، لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ابن إسحاق في ذكر العقبة الأولى: لما أراد الله عز وجل إظهار دينه خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج، قال: أمن موالي «1» يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وكان مما صنع الله لهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل علم وكتاب، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم في بلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: تعلموا إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، وقالوا له: إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم ليدعوا قومهم، فلما جاؤوهم لم يبق دار من دور قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: وهم- يعني أصحاب العقبة الأولى- فيما ذكر لي ستة نفر من الخزرج، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، كلاهما من بني غنم بن مالك بن النجار، ورافع بن مالك بن العجلان الزرقي، وقطبة بن عامر بن حديدة، وجابر بن عبد الله بن رئاب، وعقبة بن عامر بن نابي، وهؤلاء الثلاثة من بني سلمة.
وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبي الأسود عن عروة: هم أسعد بن زرارة، ومعاذ بن عفراء وهي أمه، وهو ابن عمرو بن الجموح من بني غنم بن مالك بن النجار أيضا، ورافع بن مالك، ويزيد بن ثعلبة البلوي، ثم من بني غصينة حليفهم، وأبو الهيثم
__________
(1) الموالي: المناصرين (ج) مولى.(1/175)
مالك بن التيهان الأوسي، ثم من بني جشم أخي عبد الأشهل بن جشم، وعويم بن ساعدة الأوسي، ثم من بني أمية بن زيد، ويقال: كان فيهم عبادة بن الصامت الخزرجي ثم من بني غنم أخي سالم بن عوف، وذكوان الزرقي، فيكونون ثمانية، ومنهم من عدهم سبعة فأسقط جابر بن عبد الله أو عبد الله بن زيد، وقيل: إنما أسلم في العام الأول اثنان فقط، هما أسعد بن زرارة وذكوان.
قال ابن إسحاق في ذكر العقبة- يعني: الثانية لما قدمه، وبعضهم يسميها الأولى-:
فلما كان الموسم- يعني: من العام المقبل- وافاه منهم اثنا عشر رجلا، فذكر الستة الذين قدمهم غير جابر بن عبد الله، وزاد: ذكوان الزرقي، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة بن نضلة الغنمي السالمي الخزرجي، ومعاذ بن عفراء، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة، قال: فبايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة على بيعة النساء: أي على وفق بيعة النساء التي نزلت بعد الفتح، عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة: 12] إلى آخر الآية، ولم يكن أمر بالقتال بعد، بل كان جميع ذلك قبل نزول الفرائض ما عدا التوحيد والصلاة، وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم مصعب بن عمير ليفقههم في الدين ويعلمهم الإسلام، فكان يصلي بهم، وقيل: بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليعلمهم ويقرئهم القرآن، فكان يسمى «المقرئ» وهو أول من سمي به، فنزل على أسعد بن زرارة، وقيل:
بعث إليهم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم؛ فكان مصعب بن عمير يؤمهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض، فجمّع بهم أول جمعة في الإسلام، وفي الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمّع بهم فجمّع بهم وكانوا اثني عشر.
قال الزهري: وعند ابن إسحاق أول من جمّع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وفي أبي داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمّع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات. قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون. قال البيهقي: ولا يخالف هذا ما روي عن الزهري من تجميع مصعب بن عمير بهم وأنهم كانوا اثني عشر؛ إذ مراد الزهري أنه أقام الجمعة بمعونة النفر الإثني عشر الذين بايعوا في العقبة وبعثه صلّى الله عليه وسلّم في صحبتهم أو على أثرهم حين كثر المسلمون، ومنهم أسعد بن زرارة، فالزهري أضاف التجمع إلى مصعب لكونه الإمام، وكعب أضافه إلى أسعد لنزول مصعب أولا عليه ونصره له وخروجه به إلى دور الأنصار يدعوهم إلى الإسلام، وأراد الزهري بالاثني عشر عدد الذين خرجوا به، وكانوا له ظهرا، ومراد كعب جميع من صلّى معه، هذا وقول كعب متصل، وقول الزهري منقطع، اه.(1/176)
وروى الطبراني مرسلا في خبر طويل قال فيه عن عروة: ثم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يدعو الناس بكتاب الله؛ فإنه أدنى أن يتبع «1» ؛ فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة، فجعل يدعو الناس، ويفشو الإسلام، وهم في ذلك مستخفون بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا مرقا أو قريبا منها، فجلسا هنالك، وبعثا إلى رهط من أهل الأرض، فأتوهم مستخفين، فبينا مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن أخبر بهم سعد بن معاذ، فأتاهم في لأمته «2» ومعه الرمح حتى وقف عليه فقال: غلام يأتينا في دارنا، هذا الوحيد الفريد الطريد الغريب ليسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم، لا أراكما بعد هذا بشيء من جوارنا، فرجعوا، ثم إنهم عادوا الثانية ببئر مرق أو قريبا منها فأخبر بهم سعد بن معاذ الثانية، فتوعدهم بوعيد دون الأول، فلما رأى أسعد منه اللين قال: يا ابن خالة، اسمع من قوله، فإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه، وإن سمعت خيرا فأجب إليه، فقال: ماذا يقول؟ فقرأ عليه مصعب: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 1- 3] فقال سعد: وما أسمع إلا ما أعرف، فرجع وقد هداه الله، ولم يظهر أمر الإسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه، وقال: من شك فيه من صغير أو كبير فليأتنا بأهدى منه، فو الله لقد جاء أمر لتحزّنّ فيه الرقاب، فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلامه ودعائه إلا من لا يذكر فكانت أول دار من دور الأنصار أسلمت بأسرها، ثم إن بني النجار اشتدوا على أسعد بن زرارة، وأخرجوا مصعب بن عمير، فانتقل إلى سعد بن معاذ، فلم يزل يدعو ويهدي على يديه، حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس، وأسلم أشرافهم، وأسلم عمرو بن الجموح، وكسرت أصنامهم، فكان المسلمون أمر أهلها، ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اه.
وقد روى هذه القصة ابن إسحاق عمن سمى من شيوخه بزيادة ونقص، فقال: إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر يقال لها بئر مرق، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير- وهما يومئذ سيدا قومهما بني عبد الأشهل- وكلاهما مشرك، قال سعد لأسيد: لا أبالك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا؛ فإنه لولا أن أسعد
__________
(1) أدنى أن يتبع: أولى أن يتبع.
(2) اللامة: أداة الحرب كلها. وتشمل جميع أنواع السلاح.(1/177)
ابن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال: فوقف عليهما متشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر، وتطهر ثيابك ثم تتشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام ففعل ذلك، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ، ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال:
كلمات الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذي ذكر له، فأخذ الحربة من يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما ثم قال: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره، وقد قال أسعد لمصعب بن عمير أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم؟ فذكرا له ما تقدم، ففعله، ثم أقبل عامر إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، أفضلنا رأيا، وأيماننا نقبية «1» ، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا
__________
(1) فلان ميمون النقيبة: مبارك السجية والطبيعة.(1/178)
مسلما أو مسلمة، ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس ابن صيفي بن الأسلت، وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعون، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومضى بدر وأحد والخندق، ثم أسلموا كلهم.
وفي التأريخ الأوسط للبخاري أن أهل مكة سمعوا هاتفا يهتف قبل إسلام سعد بن معاذ:
فإن يسلم السّعدان يصبح محمد ... بمكّة لا يخشى خلاف المخالف
فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدي وتمنّيا ... على الله في الفردوس منية عارف
في أبيات أخرى.
وذكر لها رزين سببا آخر كما سيأتي، وهذا أصح، ولم يذكر ابن إسحاق في الخبر المتقدم إسلام عمرو بن الجموح، بل ذكره بعد ذكر العقبة الآتية كما سنذكره، نعم ابنه معاذ شهد العقبة.
الفصل الثامن في العقبة الكبرى
وبعضهم يسميها العقبة الثانية، ومقتضى ما قدمناه أن تسمى الثالثة.
قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين للقائهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ومبايعته في الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم ما أراد: من كرامته، والنصر لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
وروى ابن إسحاق وصححه ابن حبان من طريقه عن كعب بن مالك قال: خرجنا حجاجا مع مشركي قومنا، وقد صلينا وفقهنا «1» ، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فكذر شأن صلاته إلى الكعبة، قال: فلما وصلنا إلى مكة ولم نكن رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك، فسألنا عنه، فقيل: هو مع العباس في المسجد، فدخلنا فجلسنا إليه، فسأله البراء عن القبلة، ثم خرجنا إلى الحج وواعدناه العقبة، فلما كانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها. وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا ومعنا عبد الله بن عمرو والد
__________
(1) فقه الأمر: أحسن إدراكه وفهمه.(1/179)
جابر. ولم يكن أسلم قبل، فعرفناه أمر الإسلام، فأسلم حينئذ وصار من النقباء «1» ، قال:
فنمنا تلك الليلة في قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسلل القطا مستخفين، فاجتمعنا في الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعين رجلا، ومعنا امرأتان: أم عمارة بنت كعب إحدى نساء بني مازن، وأسماء بنت عمر بن عدي إحدى نساء بني سلمة، قال: فجاء ومعه العباس، فتكلم فقال: إن محمدا منا من حيث علمتم، وقد منعناه، وهو في عز، وقد أبى إلا الانحياز إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وذاك، وإلا فمن الآن، قال: فقلنا:
قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم، فدعا إلى الله، وقرا القرآن، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، فقال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أصحاب الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر، فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال- يعني اليهود- حبالا ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، قال: فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم «2» ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس:
فمن الخزرج أسعد بن زرارة نقيب بني النجار، وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة نقيبا بني الحارث بن الخزرج ورافع بن مالك بن العجلان نقيب بني زريق، والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام نقيبا بني سلمة، وعبادة بن الصامت نقيب القبائل وفي الطبراني أنه نقيب بني عدي من الخزرج، فكأنه نقيب الجميع، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو نقيبا بني ساعدة- ومن الأوس أسيد بن حضير نقيب بني عبد الأشهل، وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر نقيبا بني عمرو بن عوف.
قال ابن إسحاق: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان، ولا يعدون رفاعة.
قلت: فيكون أبو الهيثم نقيبا ثانيا لبني عبد الأشهل فإنه منهم، وقد صرحوا به.
__________
(1) النقيب: كبير القوم المعنيّ بشؤونهم. (ج) نقباء.
(2) دم هدم: دم مهدور.(1/180)
وجعل صلّى الله عليه وسلّم النقباء على عدة الأسباط، وروى أنه نقب على النقباء أسعد بن زرارة، فتوفي بعد والمسجد النبوي يا بنى، قيل: فاجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسألوه أن يجعل منهم شخصا بدله نقيبا عليهم، فقال لهم: أنتم أخوالي، وأنا فيكم، وأنا نقيبكم، وكره صلّى الله عليه وسلّم أن يخص بها بعضهم دون بعض، فكان ذلك من فضل بني النجار الذي يعدون.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للنقباء: أنتم كفلاء على قومكم كفالة الحواريين لعيسى بن مريم، قالوا: نعم.
وحدث عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟
قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت «1» أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على ما ذكرت لكم فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على ما قلت، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.
قال عاصم: ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد في أعناقهم، وقال غيره: أراد التأخير تلك الليلة رجاء أن يحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى للأمر.
أول من بايع
قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان، وفي حديث كعب المتقدم أنه البراء ابن معرور، ثم بايع القوم.
وفي المستدرك عن ابن عباس: كان البراء بن معرور أول من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة العقبة، وعند أحمد عن جابر وعند الحاكم في الإكليل عن كعب بن مالك: قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزل إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111] الآية.
وفي حديث كعب المتقدم بعد ذكر صراخ الشيطان أن العباس بن نضلة قال للنبي
__________
(1) نهكت أموالكم مصيبة: أذهبت أموالكم مصيبة.(1/181)
صلّى الله عليه وسلّم: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه، ولقد صدقوا لم يعلموه.
وفي حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبي، فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل هذا، وما علمته كان، وروي أن مشركي الأنصار الذين حجوا في ذلك العام كانوا خمسمائة نفر، وأن أهل العقبة كانوا سبعين نفرا.
عدة أهل البيعة
وفي لفظ عن ابن إسحاق: من الأوس أحد عشر رجلا: ومن القبائل أربعة نفر حلفاء الخزرج، وكان من بني الحارث بن الخزرج اثنان وستون رجلا، فكأنه أدخل في الخزرج حلفاءهم الأربعة، وإلا فتزيد العدة على ثلاثة وسبعين أربعة.
وروى رزين أن أهل العقبة كانوا سبعين رجلا وامرأتان؛ فإنه روى حديث العقبة هذه عن عبادة بن الصامت بنحو حديث كعب المتقدم، فقال: قال عبادة بن الصامت: فلما كان العام المقبل أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن سبعون رجلا وامرأتان من قومنا، فواعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند مسجد شعب العقبة، عن يسارك وأنت ذاهب إلى منى، فلما توافينا عنده جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه عمه العباس، وقال: يا معشر الخزرج، وهذا الاسم يغلب على الأوس والخزرج جميعا إذ ذاك، إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه كما بلغكم، فإن كنتم تعلمون أنكم تقدرون على منعه، وإلا فذروه فهو مع قومه في عز ومنعة، فقام البراء بن معرور فقال: قد سمعنا ما قلت، وإنا ما ضربنا إليه أكباد الإبل إلا وقد علمنا أنه نبي، فبايعنا يا رسول الله، واشترط لنفسك ولربك ما شئت، فحمد الله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، فأخذ البراء بيده، وقال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، ونحن أهل الحلقة والحصون والحروب، فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نصرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل الدم الدم والهدم الهدم، المحيا محياكم، والممات مماتكم، وأحارب من حاربكم، وأسالم من سالمكم، أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونوا نقباء على الناس، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من(1/182)
الأوس، فبينما هم في ذلك إذ صرخ الشيطان يقول: يا أهل الجباجب، وهي المنازل، هل لكم في الصبأة «1» قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا أزب العقبة لأفرغن لك أي عدو الله، ارجعوا إلى رحالكم، نصركم الله، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة:
والذي بعثك بالحق نبيا لئن شئت لنميلن بأسيافنا غدا علي مني، فقال له: لم أومر بذلك، ثم ذكر قصة كلام قريش في ذلك وحلف مشركي قومهم لهم عن ذلك، قال: ثم إنهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتخرج معنا؟ قال: ما أمرت به.
قال رزين: وقد قيل إنه وقع بين قريش والأنصار كلام في سبب خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم، ثم ألقي الرعب في قلوب قريش فقالوا: ليس يخرج معكم إلا في بعض أشهر السنة، ولا يتحدث العرب بأنكم غلبتمونا، فقالت الأنصار: الأمر في ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن سامعون لأمره، فأنزل الله على رسوله وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال: 62] أي: إن كان كفار قريش يريدون المكر بك فسيمكر الله بهم، فانصرفت الأنصار إلى المدينة.
وقيل: إن قريشا بدا لهم فخرجوا في آثارهم، فأدركوا منهم رجلين كانا تخلفا في أمر، فردوهما إلى مكة: المنذر، وعباس بن عبادة، فأدركهما جبير بن مطعم والحارث بن أمية، فخلصاهما ولحقا أصحابهما.
قلت: والذي ذكره غيره أن الرجلين هما المنذر وسعد بن عبادة، فأما المنذر فأعجز القوم ونجا، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير، ثم خلصه منهم جبير بن مطعم والحارث بن أمية؛ لأنه كان يجير لهما تجارهما ويمنعهم أن يظلموا ببلده.
إسلام عمرو بن الجموح
وذكر رزين عقب ما تقدم عنه إسلام عمرو بن الجموح كما ذكره أهل السير عقب ذلك أيضا، وكان عمرو شيخا كيرا من سادات بني سلمة، وشهد معاذ ابنه العقبة، وكان لعمرو في داره صنم من خشب يعبده يدعى مناة، فكان معاذ ابنه ومعاذ بن جبل وفتيان بني سلمة يدلجون بالليل على صنم عمرو فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح قال عمرو: من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسه، حتى إذ وجده غسله وطيبه ثم يقول: والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزيته، فتكرر ذلك، فطهره يوما وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني والله لا أعلم من يصنع بك
__________
(1) الصبأة: الخارجون عن دينهم. مفردها: صابئ.(1/183)
ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك، فلما نام أخذوا السيف وقرنوا كلبا ميتا بالصنم بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر، فلم يجده عمرو في مكانه، فخرج حتى وجده كذلك، فلما أبصر ما به وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه، وقال في ذلك:
والله لو كنت إلاها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن
أفّ لملقاك إلاها مستدن ... الآن فتّشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديّان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن
الفصل التاسع في هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها
رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم دار هجرته
روينا في الصحيحين حديث «رأيت أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» ووقع للبيهقي من حديث صهيب «أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرّتين، فإما أن يكون هجر أو يثرب» ولم يذكر اليمامة، وللترمذي من حديث جرير «أوحى إلي: أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين» واستغربه، وفيه نظر؛ لمخالفته لما في الصحيح من ذكر اليمامة، وأما هجر فيصح التعبير بها عنها لكونها من بلاد البحرين، وأما قنسرين فهي من أرض الشام، ويحتمل أن يكون أري ما في الصحيح وأوحى إليه بالتخيير قبل أو بعد، فاختار المدينة.
وقال ابن التين: أري النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت.
إذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه في الهجرة
ثم أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه في الهجرة إلى المدينة، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، فتوجه بين العقبتين جماعة منهم ابن أم مكتوم، ويقال: إن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة عبد الأسد المخزومي زوج أم سلمة، وذلك أنه أوذي لما رجع من الحبشة، فعزم على الرجوع إليهما، ثم بلغة قصة الاثني عشر من الأنصار فتوجه إلى المدينة، فقدمها بكرة، وقدم بعده عامر بن ربيعة عشية، ثم توجه مصعب بن عمير ليفقه من أسلم من الأنصار كما تقدم، ثم توالى خروجهم بعد العقبة الأخيرة، فخرجوا أرسالا:(1/184)
منهم عمر بن الخطاب، وأخوه زيد، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب، وحمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان بن عفان، وغيرهم، حتى لم يبق معه صلّى الله عليه وسلّم بمكة إلا علي بن أبي طالب والصديق رضي الله عنهما، كذا قاله ابن إسحاق وغيره، والظاهر أن المراد لم يبق من أعيانهم؛ لما روي من أن من كان بمكة ممن يطيق الخروج من المسلمين خرجوا بعد خروجه صلّى الله عليه وسلّم من مكة، فطلبهم أبو سفيان وغيره من المشركين، فردوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس؛ ففي هذا دلالة على بقاء جماعة غير الصديق وعلي رضي الله عنهما مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حينئذ، فلما رأت قريش ذلك علموا أن أصحابه قد أصابوا منعة، ونزلوا دارا، فحذروا «1» خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، فاجتمعوا بدار الندوة ليأتمروا في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيهم أبو جهل، وزعم ابن دريد في الوشاح أنهم كانوا أنهم كانوا خمسة عشر رجلا، وفي المولد لابن دحية كانوا مائة رجل، وجاءهم إبليس في صورة شيخ نجدي فقال: أدخلوني معكم، فلن تعدموا مني رأيا، فأدخلوه، فقال بعضهم: نخرجه من بين أظهرنا، وقال آخرون: بل نحبسه ولا يطعم حتى يموت، فقال أبو جهل: قد رأيت أصلح من رأيكم: أن يعطى خمس رجال من خمس قبائل سيفا سيفا فيضربونه ضربة رجل، فيتفرق دمه في هذه البطون، فلا يقدر لكم بنو هاشم على شيء، فقال النجدي: لا أرى غير هذا، فأخبر جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله على نبيه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال: 30] فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي: نم على فراشي وتسجّ ببردي فلن يخلص إليك منهم أمر، فترد هذه الودائع إلى أهلها، لأن كفار قريش كانت تودع عنده لأمانته، وكان اسمه عندهم الأمين الصادق، وأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق فأعلمه، وقال: قد أذن لي، فقال: الصحبة يا رسول الله، وكان إنما حبس نفسه عليه لما ثبت في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر لأصحابه رؤياه المتقدمة هاجر من هاجر منهم قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له:
وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم، فحبس نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصحبه، وكان عمر قد تقدم إلى المدينة، وعلف أبو بكر راحلتين كانت عنده الخبط «2» أربعة أشهر، فعرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم إحداهما، فقال: بالثمن، وفي رواية ابن إسحاق قال: لا أركب بعيرا ليس هو لي، فقال: فهو لك، قال: لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، قال: أخذتها
__________
(1) حذروا: قدّروا واعتقدوا.
(2) الخبط: ما سقط من ورق الشجر بالخبط والنفض.(1/185)
بكذا وكذا، قال: قد أخذتها بذلك، قال: هي لك، والحكمة فيه- كما أفاده بعضهم- أنه صلّى الله عليه وسلّم أحب ألاتكون هجرته إلا من مال نفسه، وذكر ابن إسحاق أن الناقة التي أخذها هي الجدعاء، وأنها كانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان، وأنها الجدعاء، وأفاد الواقدي أن الثمن كان ثمان مائة درهم، وأن المأخوذة هي القصوى، وأنها كانت من نعم بني قشير، وأنها عاشت حتى ماتت في خلافة الصديق، وكانت مرسلة ترعى في النقيع، وفي طبقات ابن سعد أن ثمنها ثمان مائة درهم، اشتراها أبو بكر من نعم بني قشير، وأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم منه القصوى بثمنها، وسيأتي من رواية يحيى الحسيني أيضا أنها القصوى، وجاء عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن له في الهجرة إلى المدينة بقوله تعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [الإسراء:
80] أخرجه الترمذي وصححه هو والحاكم، فذهب أبو بكر إلى عبد الله بن أريقط قاله ابن عقبة. وفي تهذيب ابن هشام «عبد الله بن أرقد» وفي رواية الأموي عن ابن إسحاق «ابن أريقد» وفي الغنية عن مالك اسمه «رقيط من بني الديل من كنانة» فاستأجره، وكان هاديا خرّيتا «1» : أي ماهرا بالهداية، وكان على دين الكفار. قال النووي: لا نعلم له إسلاما، فأمره أن يأتيهما بعد ثلاث في غار ثور، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى منزله، فجاءه علي رضي الله عنه، واجتمعت قريش على باب الدار ليقتلوه بزعمهم، فقال لهم أبو جهل: لا تقتلوه حتى يجتمعوا، يعني الخمسة من القبائل الخمس، وجعل يقول لهم: هذا محمد كان يزعم لكم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوك العرب والعجم، ويكون لكم في الآخرة جنات تأكلون منها، وإن لم تتابعوه يكون له فيكم ذبح في الدنيا، ويوم القيامة نار تحرقون فيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم والله كذا أقول، وكذا يكون، وأنت أحدهم، ثم أخذ حفنة من تراب فرماها في وجوههم، فأخذ على أبصارهم ولم على أصمختهم فجعل على رأس كل رجل منهم ترابا وهو يقرأ أول سورة يس يستتر بها منهم إلى «فهم لا يبصرون» وتلا: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء:
45] ثم أتى منزل أبي بكر، فخرجا من خوخة كانت له، وأتيا غار ثور، وأقام المشركون ساعة، فجعلوا يتحدثون، فجاءهم رجل كان إذ ذاك بعيدا منهم فقال لهم: وما تنتظرون؟
فقالوا: أن نصبح فنقتل محمدا، قال: قبحكم الله وخيبكم، أو ليس قد خرج عليكم وجعل على رؤوسكم التراب، قال أبو جهل: أو ليس هو ذاك مسجى ببرده؟ الآن كلمنا، فلما أصبحوا قام علي من الفراش، فقال أبو جهل: صدقنا ذلك المخبر، فاجتمعت قريش،
__________
(1) الخرّيت: الدليل الحاذق بالدلالة.(1/186)
وأخذت الطرق، وجعلت الجعائل «1» لمن جاء به، فانصرفت أعينهم ولم يجدوا شيئا، فجاء الديلي بعد ثلاث بالراحلتين، ولا ينافي هذا ما وقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان حيث قال: فركبا حتى أتيا الغار فتواريا؛ لاحتمال أنهما ركبا غير هاتين الراحلتين، أو هما ثم ذهب بهما عامر بن فهيرة إلى الديلي.
وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب في الحديث المتقدم أن عليا رقد على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوري عنه، وباتت قريش تحلف وتأتمر، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا بعلي، فسألوه فقال: لا علم لي، فعلموا أنه فر منهم.
وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية فذكر تشاور قريش ثم قال: فبات علي على فراشه صلّى الله عليه وسلّم وخرج هو حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه، فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال:
لا أدري، فاقتصّوا أثره «2» ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال، وذكر نحوه موسى بن عقبة عن الزهري، وكله مقتض لأن الخروج إلى الغار كان في بقية تلك الليلة، وكان ذلك بعد العقبة شهرين وليال، وقال الحاكم: بثلاثة أشهر أو قريبا منهم، ويرجح الأول ما جزم به ابن إسحاق من أنه خرج أول يوم من ربيع الأول؛ فيكون بعد العقبة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم به الأموي، فقال: خرج لهلال ربيع الأول، وقدم المدينة لاثني عشر خلت منه، وعلى هذا كان خروجه يوم الخميس، وهو الذي ذكره محمد بن موسى، لكن قال الحاكم: تواترت الأخبار بأن الخروج كان يوم الإثنين، وجمع الحافظ ابن حجر بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس: أي في أثناء ليلته لما قدمناه، وخروجه من الغار- يعني غار ثور- ليلة الإثنين؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال، ومن روى ليلتين لعله لم يحسب أول ليلة، وأما حديث الحاكم «لبثت مع صاحبي» يعني: أبا بكر «في الغار بضعة عشر يوما، ما لنا طعام إلا ثمر البرير» أي الأراك، فقال الحاكم: معناه مكثنا مختفين من الكفار في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، وقال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أنها قصة أخرى، لما في الصحيح من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، وكذا قصة نزولهما بخيمة أم معبد، وغير ذلك، وكان مدة مقامه صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد النبوة بضع عشر سنة. وقال عروة:
__________
(1) الجعائل: ما جعل على العمل من أجر أو رشوة. مفردها: الجعالة.
(2) اقتصوا أثره: تتبعوا أثره.(1/187)
عشرا، وقال ابن عباس: خمس عشر سنة، وفي رواية عنه: ثلاث عشرة، ولم يعلم بخروجه إلا علي وآل أبي بكر، وكان من قصة نسج العنكبوت وغيره من أمر الغار ما كان، وانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، ومعهما عامر بن فهيرة يخدمهما يردفه أبو بكر ويعقبه، والدليل، فأخذ بهم في أسفل مكة حتى أتى بهما طريق السواحل أسفل من عسفان، ثم عارض الطريق على أمج «1» ، ثم نزل من قديد خيام أم معبد الخزاعية من بني كعب، وبقية المنازل إلى قباء ذكرها ابن زبالة، وقد أوضحناه في الأصل، واتفق في مسيرهم قصة سراقة عارضهم يوم الثلاثاء بقديد على ما ذكره ابن سعد وغيرها من القصص المشتملة على الآيات البينات.
قال رزين: وأقامت قريش أياما لا يدرون أين أخذ محمد صلّى الله عليه وسلّم فسمعوا صوتا على أبي قبيس وهو يقول:
فإن يسلم السّعدان يصبح محمد ... من الأمن لا يخشى خلاف المخالف
فقالت قريش: لو علمنا من السعدان، فقال:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتبوّآ ... من الله في الفردوس زلفة عارف
فعلموا إذ ذاك أنه أخذ طريق المدينة.
قلت: والأقرب ما تقدم من إنشاد هذه الأبيات قبل ذلك؛ لأن السعدين كانا قد أسلما قبل، ثم سمعوا قائلا بأسفل مكة لا يرى يقول:
جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا: خيمتي أم معبد
قصة أم معبد
قلت: وروى هذا مع الأبيات الآتية مما سمع حينئذ، وقيل: سمعوا هاتفا على أبي قبيس يقول:
جزى الله خيرا والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد
هما رحلا بالحقّ وانتزلا به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمة من محمد
وأكسى لبرد الخال قبل ابتذله ... وأعطى لرأس السانح المتجدد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مرّ بأم معبد، فاستسقاها لبنا، فقالت: ما عندنا من لبن،
__________
(1) أمج: موضع بين المدينة ومكة.(1/188)
ونحن في سنة «1» ، فنظر إلى شاة قد نحلت عجفاء من الهزال، فقال: قرّبي لي هذه الشاة، فقربتها، فمسح ضرعها بيده المباركة وسمّى ودعا، ثم قال: هات قدحا، فجاءت بقدح، فحلب فيه حتى امتلأ، فأمر أبا بكر أن يشرب، فقال: بل أنت فاشرب يا رسول الله، قال: ساقي القوم آخرهم شربا، فشرب أبو بكر، ثم حلب فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم حلب فشربت أم معبد، ثم حلب فقال: ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك، ثم ركبوا وساروا، فلما أتى أبو معبد أخبرته بما رأت، وسقته اللبن، فعلم أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فركب راحلته وخرج في أثره يطلب أن يسلم، فقيل: إنه قال في طريقه:
جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسودد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشّاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد
وقال الشرقي: بلغني أن أبا معبد أدركهما ببطن ريم، فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانصرف.
قلت: وذكر غير رزين هذه الأبيات كلها فيما سمع بأسفل مكة من القائل الذي لا يدرون، فلما سمع حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك جعل يجاوب الهاتف ويقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدّس من يسري إليهم ويغتدي
ترحّل عن قوم فضلت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضلالة ربّهم ... وأرشدهم؛ من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلّال قوم تسكعوا ... عمى وهداة يهتدون بمهتد «2»
لقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى رحلّت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى غد
ليهن أبا بكر سعادة جدّه ... بصحبته؛ من يسعد الله يسعد
__________
(1) السنة: القحط والجدب.
(2) تسكع: لم يهتد لوجهته.(1/189)
خروج أبي بريدة لاستقبال الرسول صلّى الله عليه وسلّم
قال أبو سليمان الخطابي: لما شارف النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة لقيه بريدة الأسلمي في سبعين من قومه بني أسلم، فقال: من أنت؟ قال: بريدة فقال لأبي بكر: برد أمرنا وصلح، ثم قال: ممن؟ قال: من أسلم، قال: سلمنا، ثم قال: ممن؟ قال: من بني سهم، قال:
خرج سهمنا «1» .
وقد روى ابن الجوزي في شرف المصطفى من طريق البيهقي موصولا إلى بريدة قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتطير، وكان يتفاءل، وكانت قريش جعلت مائة من الإبل لمن يأخذ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فيرده إليهم حين توجه إلى المدينة، فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم، فلقي نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: من أنت؟ قال: أنا بريدة، فالتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، برد أمرنا وصلح، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: ممن أنت؟ قال: من أسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: سلمنا، ثم قال: ممن؟
قال: من بني سهم، قال: خرج سهمك، فقال بريدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد الله رسول الله، فقال بريدة: أشهد ألاإله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعا، فلما أصبح قال بريدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحل عمامته ثم شدّها في رمح ثم مشى بين يديه صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله تنزل على من؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن ناقتي هذه مأمورة، قال بريدة:
الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم طائعين.
وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر ثياب بياض.
وروى أن طلحة كان قدم من الشام ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام، فلما لقيه أعطاه، فلبس منها النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر.
قال الحافظ ابن حجر: فيحتمل: أن كلا من طلحة والزبير أهدى لهما، والذي في السّير هو طلحة؛ فالأولى الجمع، وعند ابن أبي شيبة ما يؤيده، وإلا فما في الصحيح أصح.
__________
(1) خرج سهمنا: أي فزنا وظفرنا.(1/190)
الفصل العاشر في دخوله صلّى الله عليه وسلّم أرض المدينة، وتأسيس مسجد قباء
كان المسلمون بالمدينة قد سمعوا بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة أول النهار فينتظرونه، فما يردهم إلا حرّ الشمس، فبعد أن رجعوا يوما أو في رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مبيضين، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا بني قيلة- يعني الأنصار- وفي رواية: يا معشر العرب، هذا جدكم، يعني حظكم- وفي رواية: صاحبكم الذي تنتظرونه- فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء على كلثوم بن الهدم، قيل: وكان يومئذ مشركا، وبه جزم ابن زبالة، وقال رزين: نزل في ظل نخلة، ثم انتقل منها إلى دار كلثوم أخي بني عمرو بن عوف، وفي «أخبار المدينة» ليحيى الحسيني جد أمراء المدينة اليوم في النسخة التي رواها ابنه طاهر بن يحيى عنه من طريق محمد بن معاذ، قال: حدثنا مجمّع بن يعقوب عن أبيه وعن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش عن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قالا: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر حرّتنا، ثم ركب فأناخ إلى عذق عند بئر غرس قبل أن تبزغ الشمس وما يعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبي بكر، عليهما ثياب متشابهة، فجعل الناس يقفون عليهم حتى بزغت الشمس من ناحية أطمهم الذي يقال له «شنيف» فأمهل أبو بكر ساعة حتى خيل إليه أنه يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحر الشمس، فقام فستر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بردائه، فعرف القوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا يأتون فيسلمون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت لمجمّع بن يعقوب: إن الناس يرون أنه جاء بعدما ارتفع النهار وأحرقتهم الشمس، قال مجمع: هكذا أخبرني أبي وسعيد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن يزيد قال: ما بزغت الشمس إلا وهو جالس في منزله صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: ولم أر هذا الخبر في النسخة التي رواها ولد ابن يحيى عن جده، وقوله «عند بئر غرس» الظاهر أنه تصحيف، ولعله «بئر عذق» لبعد بئر غرس من منزله صلّى الله عليه وسلّم بقباء، بخلاف بئر عذق، وإلا فهو قادح فيما يعرفه الناس اليوم من أن بئر غرس هي هي المعروفة بمحلها الآتي بيانه.
وفي كتاب يحيى أيضا عن محمد بن إسماعيل بن مجمّع قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على كلثوم بن الهدم هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة قال: يا نجيح، لمولى له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتفت إلى أبي بكر: أنجحت، أو أنجحنا، فقال: أطعمنا رطبا، قال:(1/191)
فأتوا بقنو من أم جرذان فيه رطب منصف وفيه زهو «1» ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا؟ قال: عذق أم جرذان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم بارك في أم جرذان، وقد أخرجه أبو سعيد في شرف المصطفى من طريق الحاكم، وقال قوم بمنزله صلّى الله عليه وسلّم على سعد بن خيثمة. وقد رواه يحيى أيضا، قال رزين: والأول أصح اه.
اختلاف العلماء في تاريخ مقدمة المدينة
وقال الحاكم: إنه الأرجح، قال: وقد قاله ابن شهاب وهو أعرف بذلك من غيره، وقال بعضهم: كان سعد عزبا، فكان صلّى الله عليه وسلّم يجلس مع أصحابه في بيته، فلذلك قيل: إنه نزل عنده، ويشهد له ما نقله ابن الجوزي عن ابن حبيب الهاشمي قال: نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم على كلثوم، وكان يتحدث في منزل سعد بن خيثمة، ويسمى «منزل العزاب» وفي الصحيح:
فتلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرة، فعدل بهم «2» ذات اليمين حتى ينزل بهم في بني عمرو بن عوف، وفي رواية له: علو المدينة وقباء معدودة من العالية، وكأن حكمته التفاؤل له ولدينه بالعلو، وذلك يوم الإثنين نهارا عند الأكثر، قال الحافظ ابن حجر: وهو المعتمد، وشذ من قال يوم الجمعة. قلت: لعل مراد هذا القائل القدوم الآتي للمدينة نفسها بعد الخروج من قباء، وقيل: ليلة الإثنين؛ لقوله في مسلم «ليلا» قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل، فدخل نهارا. قلت: وفيه نظر، وكان ذلك أول ربيع الأول على ما رواه موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وقيل: لثمان خلون منه. وفي الإكليل عن الحاكم: تواترت الأخبار بذلك، وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق:
قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عن أبي معشر، ولكن قال: ليلة الإثنين، ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم، وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق: لاثنتي عشرة ليلة خلت منه حين اشتد الضحى، وهذا ما جزم به الكلبي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر. وحكاه ابن الجوزي في شرف المصطفى عن الزهري فقال: قال الزهري: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وبه جزم النووي في السّير من الروضة، وكذا ابن النجار، ونقل المراغي هذا عن النووي وابن النجار فقط، وتعجب من عدم موافقته لشيء من الأقوال، وكأنه فهم أن مرادهما المدينة نفسها بعد الخروج من قباء، وليس ذلك مرادهما؛ فإن ابن النجار عبر بقوله: فعدل بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين لاثني عشر من شهر ربيع الأول، وأما النووي وإن عبر بالمدينة فليس مراده
__________
(1) نصف البسر والثمر: رطّب نصفه: زها البسر: تلوّن بحمرة أو صفرة.
(2) عدل بهم: عطف بهم.(1/192)
سوى ذلك، والعلماء كلهم يطلقون على ذلك قدوم المدينة. وفي شرف المصطفى لابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين، واستنبئ يوم الإثنين، ورفع الحجر يوم الإثنين، وخرج مهاجرا من مكة يوم الإثنين، وقدم المدينة يوم الإثنين، وقبض يوم الإثنين. وفي روضة الأقشهري: قال ابن الكلبي: خرج من الغار ليلة الإثنين أول يوم من ربيع الأول، وقدم المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. قال أبو عمر: وهو قول ابن إسحاق إلا في تسمية اليوم. وعند أبي سعيد في شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول، وهذا الجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال. وعنده من حديث عمر: ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول، ولعل الرواية خلتا ليوافق ما تقدم. ونقل ابن زبالة عن ابن شهاب أن ذلك كان في النصف من ربيع الأول، وقيل:
كان قدومه في سابعه، وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي إنه خرج من الغار ليلة الإثنين أول يوم من ربيع الأول، فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الإثنين ثامن ربيع الأول، وإذا ضم ذلك إلى ما سيأتي عن أنس أنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة نفسها كان لاثنين وعشرين منه، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه؛ فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبان؛ فإنه قال: أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس، يعني وخرج يوم الجمعة، فلم يعتد بيوم الخروج، وكذا قال موسى بن عقبة: إنه أقام فيهم ثلاث ليال؛ فكأنه لم يعد يوم الدخول ولا الخروج. وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يوما، حكاه ابن زبالة. وفي البخاري من حديث أنس «أقام فيهم أربع عشرة ليلة» وهو المراد في رواية عائشة بقولها «بضع عشرة ليلة» وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: أقام فيهم ثلاثا، قال: وروى ابن شهاب عن مجمع بن حارثة أنه أقام اثنتين وعشرين ليلة. وقال ابن إسحاق: أقام فيهم خمسا، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك. قال الحافظ ابن حجر: أنس ليس من بني عمرو بن عوف؛ فإنه من الخزرج، وقد جزم بأربع عشرة ليلة، فهو أولى بالقبول، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتاريخ فكتب من حين الهجرة في ربيع، رواه الحاكم في الإكليل، وهو معضل، والمشهور أن ذلك كان في خلافة عمر رضي الله عنه، وأن عمر قال: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخ بها، وابتدأ من المحرم بعد إشارة علي وعثمان رضي الله عنهما بذلك، وقد ذكرنا ما قيل في(1/193)
سببه في الأصل، وأفاد السهيلي أن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة: 108] .
ابتداء التأريخ من الهجرة
وفي الصحيح أنهم لما قدموا قام أبو بكر للناس: أي يتلقاهم، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطفق من جاء من الأنصار يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه أبا بكر، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به، وفي رواية ابن إسحاق: حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل، فعرفناه بذلك.
ونزل أبو بكر رضي الله عنه على حبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح، ويقال: على خارجة بن زيد منهم.
وأقام علي رضي الله عنه بعد مخرجه صلّى الله عليه وسلّم أياما، قال بعضهم: ثلاثة، حتى أدى للناس ودائهم التي كانت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفه لردها، ثم خرج فلحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقباء، فنزل على كلثوم بن الهدم، قال فيما رواه رزين: فبينا أنا بائت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا برجل يضرب باب امرأة، فخرجت فأعطاها شيئا وانصرف، ثم فعل ذلك ليلة ثانية أيضا، فذكرت ذلك لها فقالت: هذا سهل بن حنيف يغدو كل ليلة على أصنام قومه فيكسرها ثم يأتي بها لأوقدها حطبا، وقد علم أن ليس لي من الحطب شيء.
وروى يحيى عن عبد العزيز بن عبيد الله بن عثمان بن حنيف قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بني عمرو بن عوف، وقد كان بين الأوس والخزرج ما كان من العداوة، وكانت الخزرج تخاف أن تدخل دار الأوس، وكانت الأوس يخاف أن تدخل دار الخزرج، وكان أسعد بن زرارة قتل نبتل بن الحارث يوم بعاث، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين أسعد بن زرارة؟ فقال سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر ورفاعة بن عبد المنذر: كان يا رسول الله أصاب منا رجلا يوم بعاث، فلما كانت ليلة الأربعاء جاء أسعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم متقنّعا بين المغرب والعشاء، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا أبا أمامة، جئت من منزلك إى هاهنا وبينك وبين القوم ما بينك؟ قال أبو أمامة: لا والذي بعثك بالحق ما كنت لأسمع بك في مكان إلا جئت، ثم بات عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أصبح، ثم غدا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(1/194)
لسعد بن خيثمة ورفاعة ومبشر ابني عبد المنذر: أجيروه، قالوا: أنت يا رسول الله فأجره فجوارنا في جوارك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يجيره بعضكم، فقال سعد بن خيثمة: هو في جواري، ثم ذهب سعد بن خيثمة إلى أسعد بن زرارة في بيته فجاء بن مخاصرة يده في يده ظهرا حتى انتهى به إلى بني عمرو بن عوف، ثم قالت الأوس: يا رسول الله كلنا له جار، فكان أسعد بن زرارة بعد يغدو ويروح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى.
وكان لكلثوم بن الهدم بقباء مربد، والمربد: الموضع الذي يبسط فيه التمر لييبس، فأخذه منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسسه وبناه مسجدا كما رواه ابن زبالة وغيره.
وفي الصحيح عن عروة: فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وفي رواية عبد الرزاق عنه قال: الذين بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف، وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عايد، ولفظه: ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال، واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو بن عوف؛ فهو الذي أسس على التقوى.
وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة قال:
لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء، فهو أول مسجد بني، يعني لعامة المسلمين أو للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وهو في التحقيق أول مسجد صلّى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا، وإن كان قد تقدم بناء غيره من المساجد، فقد روى ابن أبي شبة عن جابر قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة، ولذا قيل: كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه، يعني هذا المسجد، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وورد قباء صلى بهم فيه إلى بيت المقدس، ولم يحدث فيه شيئا: أي: في مبدأ الأمر؛ لأن ابن شبة روى ذلك، ثم روى أنه صلّى الله عليه وسلّم بنى مسجد قباء وقدم القبلة إلى موضعها اليوم، وقال: جبريل يؤم بي البيت، وقد اختلف في المراد بقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فالجمهور على أن المراد به: مسجد قباء، ولا ينافيه قوله صلّى الله عليه وسلّم لمسجد المدينة «هو مسجدكم هذا» إذ كل منهما أسس على التقوى على ما سيأتي إيضاحه.
وفي الكبير للطبراني- وفيه ضعيف- عن جابر بن سمرة قال: لما سأل أهل قباء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يا بني لهم مسجدا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليقم بعضكم فيركب الناقة» فقام أبو بكر رضي الله عنه فركبها فحركها فلم تنبعث، فرجع فقعد، فقام عمر رضي الله عنه فركبها(1/195)
فلم تنبعث، فرجع فقعد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «ليقم بعضكم فيركب الناقة» فقام علي رضي الله عنه فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أرخ زمامها، وابنوا على مدارها فإنها مأمورة» .
وروى الطبراني- وفيه من لم يعرف- عن جابر أيضا قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال لأصحابه: «انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم، فأتاهم فسلم عليهم، فرحّبوا به، ثم قال: يا أهل قباء ائتوني بأحجار من هذه الحرة، فجمعت عنده أحجار كثيرة، ومعه عنزة له «1» ، فخط قبلتهم، فأخذ حجرا فوضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: يا أبا بكر، خذ حجرا فضعه إلى حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر، ثم التفت إلى الناس فقال: ليضع كل رجل حجره حيث أحب على ذلك الخط.
متى بني مسجد قباء
قلت: وهو يقتضي أن هذا البنيان لم يكن عند قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قباء، بل بعد قدوم عثمان رضي الله عنه من الحبشة؛ فإنه كان قد هاجر إلى أرض الحبشة فارا بدينه مع زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان أول خارج إليها، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة؛ فيمكن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسسه عند قدومه، ثم بناه بعد ذلك، وإلا فلم يكن عثمان رضي الله عنه حاضرا، كذا نبه عليه بعضهم ولهذا قال السهيلي: أول من وضع حجرا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أبو بكر، ثم عمر، ولم يذكر عثمان، ثم قال: وصلّى فيه نحو بيت المقدس قبل أن يأتي المدينة، انتهى. وسيأتي عند ذكره في المساجد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وأصحابه ننقل حجارته على بطوننا، ويؤسسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل يؤم به البيت، ولم أر من نبه على تعيين زمان قدوم عثمان من الحبشة، وسيأتي في بنائه صلّى الله عليه وسلّم لمسجد المدينة أخبار تقتضي حضور عثمان له، وهو محتمل أيضا للبناء الأول والثاني، وسبق في الفصل قبله عد عثمان فيمن قدم المدينة قبل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها، وهو كذلك في كلام ابن إسحاق.
وقال المحب الطبري: الظاهر أن قدوم عثمان من الحبشة كان قبل هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بعدها وقبل وقعة بدر؛ لأنه صح أنه كان في وقعة بدر متخلفا في المدينة على زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت مريضة، ووقعة بدر في الثانية، وكان قدوم أكثر مهاجري الحبشة في السابعة كما سيأتي، والله أعلم.
__________
(1) العنزة: أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زجّ كزجّ الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير.(1/196)
وفي الكبير للطبراني ورجاله ثقات عن الشموس بنت النعمان قالت: نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول: بأبي وأمي يا رسول الله أعطني أكفك، فيقول: لا، خذ مثله، حتى أسسه، ويقول: إن جبريل عليه السلام هو يؤم الكعبة، قالت: فكان يقال: إنه أقوم مسجد قبلة.
قلت: قد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يستقبل بيت المقدس حتى نسخ ذلك، وجاءت القبلة وهم في صلاة الصبح فأخبرهم، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة؛ فيحتمل:
أن جبريل عليه السلام كان يؤم به البيت ليستدل به على جهة بيت المقدس لتقابل الجهتين، ولعلمه بما يؤول إليه الأمر من استقبال الكعبة، أو أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مخيّرا في ابتداء الهجرة في التوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة كما قاله الربيع فأمّ به جبريل البيت لذلك، واختياره الصلاة لبيت المقدس أولا لاستمالة اليهود، أو أن استقبال الكعبة كان مشروعا في ذلك الوقت ثم نسخ ببيت المقدس ثم نسخ بالكعبة، لما قاله ابن العربي وغيره من أن القبلة نسخت مرتين، أو أن ذلك تأسيس آخر غير التأسيس الأول، ويدل لهذا الأخير ما قدمناه من راوية ابن شبة.
وقوله في حديث الشموس المتقدم «حتى يهصره الحجر» أي: يميله. وأورده المجد من رواية الخطابي بلفظ آخر، فقال: وروى الخطابي عن الشموس بنت النعمان قالت:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بنى مسجد قباء يأتي بالحجر قد صهره «1» إلى بطنه فيضعه، فيأتي الرجل يريد أن يقله فلا يستطيع حتى يأمره أن يدعه ويأخذ غيره، ثم قال: صهره وأصهره إذا ألصقه بالشيء، ومنه اشتقاق الصهر في القرابة.
وروى ابن شبة أيضا أن عبد الله بن رواحة كان يقول وهم يبنون في مسجد قباء:
أفلح من يعالج المساجدا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المساجدا» فقال عبد الله:
ويقرأ القرآن قائما وقاعدا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «وقاعدا» فقال عبد الله:
ولا يبيت الليل عنه راقدا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «راقدا» ، والله أعلم.
__________
(1) صهر الشيء إليه: قرّبه وأدناه.(1/197)
الفصل الحادي عشر في قدومه صلّى الله عليه وسلّم باطن المدينة
، وسكناه بدار أبي أيوب الأنصاري، وأمر هذه الدار، وما آلت إليه، وما وقع من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
قال أهل السير: ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاؤوا متقلدين بالسيوف، وكانوا أخواله، وذلك أن هاشم بن عبد مناف تزوج منهم امرأة، وهي سلمى بنت عمرو، فجاءه منها ولد، فلما مات هاشم وكبر الغلام مر به قوم من قريش فأبصروه وقد ترعرع وهو ينتضل «1» ويقول: أنا القرشي، فجاؤوا وأخبروا عمه المطلب بن عبد مناف، فذهب فجاء به، فدخل به مكة وهو ردفه وعليه ثياب السفر، فقالت قريش: هذا عبد المطلب، فغلب عليه هذا الاسم؛ فلذلك كان أخواله بني النجار، فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اركبوا آمنين مطاعين.
وفي البخاري من حديث أنس: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا بالسيوف، ثم رواه البخاري بلفظ آخر، فقال: قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزل جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار فجاؤوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب حتى نزل جانب دار أبي أيوب.
قال الحافظ ابن حجر: تقديره فنزل جانب الحرة فأقام بقباء المدة التي أقام بها وبنى بها مسجده، ثم بعث إلى آخره.
وفي التأريخ الصغير للبخاري عن أنس أيضا قال: إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا:
محمد جاء، فننطلق فلا نرى شيئا، حتى أقبل وصاحبه، فكمنا «2» في بعض جوانب المدينة، وبعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما «3» ، فاستقبله خمسمائة من الأنصار، فقالوا:
انطلقا آمنين مطاعين، الحديث، ففيه طي لذكر قصة قباء، إلا أن يريد أن ذلك وقع في مبدأ الأمر عند نزوله صلّى الله عليه وسلّم بقباء، وهو ما اقتضاه رواية رزين، فإنه قال: عن أنس قال: كنت إذ قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة ابن تسع سنين، فأسمع الغلمان والولائد يقولون: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنذهب فلا نرى شيئا، حتى جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، فكمنا في
__________
(1) انتضل القوم: استبقوا بالرمي. ويفتخروا.
(2) كمنا: استخفا في مكمن لا يفطن له.
(3) يؤذن بهما: ينذر بهما ويخبر عنهما.(1/198)
خرب في طرف المدينة، وأرسلا رجلا يؤذن لهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار، حتى انتهوا إليهما، قال: فما رأيت مثل ذلك اليوم قط، والله لقد أضاء منها كل شيء، ونزلا على كلثوم بن الهدم، ثم ذكر تأسيس مسجد قباء، ثم قال: ثم خرج منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد المدينة، فلا يمر بدار من دور الأنصار إلا عرضوا عليه، وذكر نحو ما سيأتي؛ فهو صريح في أن ذلك كان عند مقدمه صلّى الله عليه وسلّم في بدء الأمر.
وكان خروجه صلّى الله عليه وسلّم من قباء يوم الجمعة، وتعيينه من الشهر مرتب على ما تقدم في قدومها.
وروى يحيى أنه صلّى الله عليه وسلّم لما شخص: أي: من قباء، اجتمعت بنو عمرو بن عوف فقالوا:
يا رسول الله أخرجت ملالا أم تريد دارا خيرا من دارنا؟ قال: إني أمرت بقرية تأكل القرى، فخلوها- أي ناقته- فإنها مأمورة فخرج صلّى الله عليه وسلّم من قباء، فعرض له قبائل الأنصار كلهم يدعوه ويعدوه النصرة والمنعة، فيقول: خلوها فإنها مأمورة، حتى أدركته الجمعة في بني سالم، فصلى في بطن الوادي الجمعة وادي ذي صلب.
قلت: قيل كانت هذه أول جمعة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وقيل: إنه كان يصلي الجمعة في مسجد قباء في إقامته هناك، والله أعلم.
وروى أيضا عن عمارة بن خزيمة قال: لما كان يوم الجمعة وارتفع النهار دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم براحلته، وحشد المسلمون، ولبسوا السلاح، وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناقته القصوى، والناس معه عن يمينه وعن شماله وخلفه: منهم الماشي والراكب، فاعترضنا الأنصار فما بدار من دورهم إلا قالوا هلم يا رسول الله إلى العز والمنعة والثروة، فيقول لهم خيرا، ويدعو، ويقول: إنها مأمورة، خلوا سبيلها، فمر ببني سالم، فقام إليه عتبان بن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك بن العجلان وهو آخذ بزمام راحلته يقول: يا رسول الله انزل فينا فإن فينا العدد والعدة والحلقة، ونحن أصحاب العصا والحدائق والدرك، يا رسول الله قد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفا فيلجأ إلينا فنقول له: قوقل حيث شئت، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبسم ويقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فقام إليه عبادة بن الصامت وعباس بن الصامت بن نضلة بن العجلان فجعلا يقولان: يا رسول الله انزل فينا، فيقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: بارك الله عليكم، إنها مأمورة، فلما أتى مسجد بني سالم- وهو المسجد الذي في الوادي- فجمّع بهم فخطبهم، ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن يمين الطريق حتى جاء بني الحبلى، فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي، فلما رآه ابن أبي وهو(1/199)
عند مزاحم أي الأطم محتبيا قال: اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم، فقال سعد بن عبادة لا تجد «1» يا رسول الله في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه عليها، ولكن هذه داري، فمر ببني ساعدة فقال له سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة: هلم يا رسول الله إلى العز والثروة والقوة والجلد، وسعد يقول: يا رسول الله ليس من قومي أكثر عذقا «2» ولا فم بئر مني مع الثروة والجلد والعدد والحلقة؛ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بارك الله عليكم، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: يا أبا ثابت خلّ سبيلها فإنها مأمورة، فمضى، واعترضه سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وبشير بن سعد فقالوا: يا رسول الله لا تجاوزنا فإنا أهل عدد وثروة وحلقة، قال: بارك الله فيكم، خلوا سبيلها فإنها مأمورة، واعترضه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو- أي: من بني بياضة- يقولان: يا رسول الله هلم إلى المواساة والعز والثروة والعدد والقوة، نحن أهل الدرك يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ثم مر ببني عدي بن النجار- وهم أخواله- فقام أبو سليط وصرمة بن أبي أنيس في قومهما فقالا: يا رسول الله نحن أخوالك هلم إلى العدد والمنعة مع القرابة، لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا بك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ويقال: إن أول الأنصار اعترضه بنو بياضة، ثم بنو سالم، ثم مال إلى ابن أبي، ثم مر على بني عدي بن النجار، حتى انتهى إلى بني مالك بن النجار.
قلت: وقول بني عدي بن النجار «نحن أخوالك» لأنهم أقاربه من جهة الأمومة؛ لأن سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار كانت أم جده عبد المطلب، وقول البراء في حديث الصحيح «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال أخواله، من الأنصار» فيه تجوز من حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم إنما نزل على إخوتهم بني مالك بن النجار، أو أراد أنه نزل بخطة بني النجار لتقارب منازلهم الجميع ومنهم بنو عدي.
وقال الحافظ ابن حجر في المقدمة في الكلام على الحديث المذكور: هم من بني عمرو بن عوف من الخزرج، وكانت أم عبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم، واسمها سلمى؛ فهم أجداده حقيقة، وأخواله مجازا، والشك من راوي الخبر، انتهى.
وهو وهم، سببه اشتباه النزول الأول بقباء بهذا النزول الذي وقع فيه الاستقرار، وليس بنو عمرو بن عوف ممن يوصف بذلك، وقد تنبه له في الشرح؛ فذكره على الصواب كما قدمناه، والله أعلم.
__________
(1) الوجد: الحزن والغضب.
(2) أكثر عذقا: أكثر نخلا.(1/200)
وروى رزين أنه صلّى الله عليه وسلّم سار من قباء ومعه جماعة من الأنصار في السلاح وجميع المهاجرين، وذكر صلاة الجمعة، قال: ثم ركب فجاء بني الحبلى فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي بن سلول، وكان جالسا محتبيا عند أطم له، فقال: اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم، فقال سعد بن عبادة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تجد عليه، فإن أهل هذه البحرة كانوا قد أجمعوا على أن يعصّبوه»
ويتوّجوه، فلما رد الله عليه ذلك بالحق الذي أعطاك شرق لذلك «2» .
قلت: الذي في الصحيح ذكر سعد لذلك في قصة عيادته صلّى الله عليه وسلّم له من مرض بعد سكناه بالمدينة، والذي في كتب السير عن ابن إسحاق أن الجمعة أدركته في وادي رانونا فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وكانوا أربعين، وقيل: مائة، فأتاه عتبان بن مالك في رجال من بني سالم فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، لناقته، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة، فأجابهم بمثل ما تقدم، فخلوا سبيلها، حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث، فأجابهم بما تقدم، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار- وهم أخواله دنيا- اعترضهم سليط بن قيس في رجال منهم، فأجابهم بمثل ما تقدم، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده صلّى الله عليه وسلّم ثم وثبت وسارت غير بعيد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تلحلحت وأرزمت «3» ووضعت جرانها «4» فنزل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي رواية أنها لما وثبت من مبركها الأول بركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ثم ثارت منه وبركت في مبركها الأول، وفي رواية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا المنزل إن شاء الله.
وذكر ابن سيد الناس بعد قصة بني سالم أن راحلته انطلقت حتى وازنت دار بني بياضة، فذكر قصتهم، ثم قال: فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة، وذكر قصتهم، ثم قال: فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع، وذكر قصتهم، ثم ذكر القصة كما قدمناه.
__________
(1) عصّبه القوم: سوّدوه وجعلوه سيدا عليهم.
(2) شرق لذلك: غصّ وضاق صدره لذلك.
(3) تحلحلت: تحركت عن موضعها. أرزمت: اشتد صوتها.
(4) الجران: باطن العنق من البعير وغيره.(1/201)
وذكر يحيى في رواية أخرى أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن سار من بني سالم تيامن، فأتى منزل ابن أبي، ثم مضى في الطريق والطريق يومئذ فضاء حتى انتهى إلى سعد بن عبادة، ثم اعترضت له بنو بياضة عن يساره، ثم مضى حتى أتي بني عدي بن النجار، ثم أتى إلى بني مازن بن النجار، فقامت إليه وجوههم، ثم مضى حتى انتهى إلى باب المسجد وقد حشدت «1» بنو مالك بن النجار فهم قيام ينتظرونه إلى أن طلع فهش إليه أسعد بن زرارة وأبو أيوب وعمارة بن حزم وحارثة بن النعمان يقول: يا رسول الله قد علمت الخزرج أنه ليس ربع أوسع من ربعي، قال: فبركت بين أظهرهم، فاستبشروا، ثم نهضت كأنها مذعورة ترجّع الحنين «2» ، فساءهم ذلك، وجعلوا يعدون بجنبها حتى أتت إلى زقاق الحبشي ببئر جمل فبركت والنبي صلّى الله عليه وسلّم عليها مرخ لها زمامها ثم قامت عودها على بدئها تزيد في المشي حتى بركت على باب المسجد وضربت بجرانها وعدلت ثفناتها «3» ، وجاء أبو أيوب والقوم يكلمونه في النزول عليهم، فأخذ رحله فأدخله، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رحله وقد حط فقال: «المرء مع رحله» .
وذكر رزين اعتراض بني سالم له وقوله «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» ثم قال: فمر ببني بياضة فكذلك، ثم ببني ساعدة فكذلك، ثم بدار بني الحارث بن الخزرج فكذلك، ثم مر بدار عدي بن النجار فكذلك، فمضت حتى إذا أتت دار بني مالك بن المجار بركت على باب المسجد اليوم، ولم ينزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت، ثم وثبت فسارت غير بعيد ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها الأول، فنزل إذا ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أي الدور أقرب؟ فقال أبو أيوب: داري، هذا بابي، وقد حططنا رحلك فيها، فقال: «المرء مع رحله» فمضت مثلا.
وروى ابن زبالة أنها لما بركت بباب أبي أيوب جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن ينزل فتحلحل فيطيف حولها أبو أيوب فيجد جبار بن صخر أخا بني سلمة ينخسها برجله، فقال أبو أيوب: يا جبار عن منزلي تنخسها؟ أما والذي بعثه بالحق لولا الإسلام لضربتك بالسيف، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منزل أبي أيوب، وقر قراره، واطمأنت داره، ونزل معه زيد بن حارثة.
وعند الحاكم عن أنس: جاءت الأنصار فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال: دعو الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب.
__________
(1) احتشد القوم: اجتمع القوم.
(2) ترجع الحنين: عادت ومدّت صوتها.
(3) الثفنة: الركبة. والجزء من جسم الدابة تلقى به الأرض فيغلظ ويجمد.(1/202)
وروى الطبراني في الأوسط وفيه صديق بن موسى- قال الذهبي: ليس بالحجة- عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة فاستناخت راحلته بين دار جعفر بن محمد بن علي ودار الحسن بن زيد، فأتاه الناس فقالوا: يا رسول الله المنزل، فانبعثت به راحلته، فاستناخت ثم تحلحلت، وللناس ثم عريش كانوا يرشونه ويعمرونه ويبردون فيه، حتى نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن راحلته فاوى إلى الظل فنزل فيه، فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله منزلي أقرب المنازل إليه أفأنقل رحلك؟ قال: نعم، فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله انزل علي، فقال: إن الرجل مع رحله حيث كان، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بنى المسجد.
قلت: دار جعفر بن محمد هي التي في قبلة دار أبي أيوب ملاصقة لها، ودار الحسن ابن زيد تقابلها من جهة المغرب، بينهما الشارع.
وعند ابن عائذ وسعيد بن منصور أن ناقته صلّى الله عليه وسلّم استناخت به أولا، فجاءه ناس فقالوا:
المنزل يا رسول الله، فقال دعوها، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلحلت، فنزل عنها، فأتاه أبو أيوب فقال: منزلي أقرب المنازل فاذن لي أن أنقل رحلك، قال: نعم، وأناخ الناقة في منزله.
وقال الواقدي: أخذ أسعد بن زرارة بزمام راحلته فكانت عنده، ونقله الحافظ ابن حجر عن ابن سعد ونقل الأقشهري، في روضته عن ابن نافع صاحب مالك في أثناء كلام نقله عن مالك أن ناقته صلّى الله عليه وسلّم لما أتت موضع مسجده بركت وهو عليها، وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي، ثم ثارت من غير أن تزجر وسارت غير بعيد، ثم التفتت، ثم عادت إلى المكان الذي بركت فيه أول مرة فبركت، فسرّي عنه، فأمر أن يحط رحله، في بعض الروايات أن القوم لما تنازعوا أيهم ينزل عليه قال: إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك.
وفي البخاري من حديث عائشة أنه صلّى الله عليه وسلّم أقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب، فقال: أيّ بيوت أهلنا أقرب؟ أيّ أخوال جده، فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي، قال: فانطلق فهيئ لنا مقيلا «1» .
وفي رواية لابن زبالة: اختار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عينه، فنزل منزله وتخيره، وأراد أن يتوسط الأنصار كلها.
قال المطري: وهو غير مناف لما تقدم من قوله: «دعوها فإنها مأمورة» ؛ لأن الله اختار له ما كان يختار لنفسه.
__________
(1) المقيل: المكان الذي تؤخذ فيه القيلولة.(1/203)
وفرح أهل المدينة بمقدمه صلّى الله عليه وسلّم إليهم فرحا شديدا؛ ففي البخاري من حديث البراء:
«ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم» الحديث، وروى أبو داود أن الحبشة لعبت بحرابهم فرحا بقدومه صلّى الله عليه وسلّم.
قال رزين: وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير «1» يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
وفي رواية:
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
والغلمان والولائد يقولون: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرحا به.
وفي شرف المصطفى: لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار من بني النجار يضربن بالدفوف ويقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتحببناني؟ قلن: نعم يا رسول الله، فقال: والله وأنا أحبكن، قالها ثلاثا، وفي رواية: «يعلم الله إني أحبكن» .
وأخرج الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة: فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن، وذكر البيت المتقدم.
وروى عن أنس قال: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة أظلم منها كل شيء، فلما دخل المدينة أضاء منها كل شيء، ورواه ابن ماجه بلفظ: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء. ورواه أبو داود بلفظ: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه صلّى الله عليه وسلّم وما رأيت يوما كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، أضاء منها كل شيء، الحديث. ورواه ابن أبي خيثمة عنه بلفظ: شهدت يوم دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ.
وروى يحيى عن عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة انجفل الناس «2» إليه، وقيل: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجئت أنظر، فلما تبينت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يتكلم قال: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام، وهذا الحديث بنحوه في الترمذي وصححه.
__________
(1) الأجاجير: سطوح المنازل.
(2) انجفل الناس: قدموا إليه مسرعين.(1/204)
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة أعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم بنتيه وسودة زوجته وأم أيمن زوج زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأختها أسماء زوج الزبير وأمها أم رومان، فلما قدموا المدينة أنزلهم في بيت حارثة بن النعمان.
وقال رزين: إن أبا بكر أرسل عبد الله بن أريقط مع زيد بن حارثة ليأتيه بعائشة وأم رومان أمها وعبد الرحمن.
قال بعضهم: ووجدوا طلحة بن عبيد الله على خروج، فخرج معهم، فقدموا كلهم.
وروى ابن إسحاق عن أبي أيوب الأنصاري قال: لما نزل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت، قال:
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفله، وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حب لنا «1» فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه شيء فيؤذيه.
قلت: وذكر بعضهم أن ذلك هو سبب سكناه في العلو بعد ذلك، والذي في صحيح مسلم عن أبي أيوب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل عليه، فنزل صلّى الله عليه وسلّم في السفل وأبو أيوب في العلو، فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم؟! فتنحوا وباتوا في جانب، ثم قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: السفل أرفق، فقال: لا أعلو سقيفة وأنت تحتها، فتحول النبي صلّى الله عليه وسلّم في العلو وأبو أيوب في السفل.
وقد قدمنا في آخر الفصل الرابع أن ابن إسحاق ذكر أن هذا البيت بناه تبّع الأول لما مرّ بالمدينة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ينزله إذا قدم المدينة، فتداول البيت الملاك إلى أن صار لأبي أيوب، وأن أبا أيوب من ذرية الحبر الذي أسلمه تبع كتابه.
وقد نقل الحافظ ابن حجر ذلك عن حكاية ابن هشام في التيجان، قال: وأورده ابن عساكر في ترجمة تبع، فما نزل صلّى الله عليه وسلّم إلا في بيته، وقد ابتاع المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بيت أبي أيوب هذا من ابن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري بألف دينار، فتصدق به، وهو في شرقي المسجد المقدس كما سيأتي في الدور المطيفة بالمسجد.
وقد اشترى الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بن شادي عرصة دار أبي أيوب هذه، وبناها مدرسة للمذاهب الأربعة،
__________
(1) الحب: الجرّة.(1/205)
ووقف عليها أوقافا بميّا فارقين التي هي دار ملكه، وبدمشق لها وقف آخر أيضا، ولها بالمدينة الشريفة أيضا وقف من النخيل وغيرها، غير أنه شمل ذلك ما عم الأوقاف، وكان بها كتب كثيرة نفيسة فتفرقت أيدي سبا، وآل حال هذه المدرسة إلى التعطيل، فسكنها بعض نظارها، فتشاءمت على عياله، واتصل ذلك بسلطان مصر فخرج منها، والمدرسة قاعتان: كبرى، وصغرى، وفي إيوان الصغرى الغربي خزانة صغيرة جدا، فما يلي القبلة فيها محراب.
قال المطري: يقال إنها مبرك ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وكانت إقامته صلّى الله عليه وسلّم بهذه الدار كما أفاده ابن سعد سبعة أشهر: أي: بتقديم السين على الباء، حتى بنى مساكنه. وقال رزين: أقام عند أبي أيوب من شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الثانية، وقال الدولابي: شهرا، وفي كتاب يحيى عن زيد بن ثابت: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي أيوب لم يدخل منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدية أول من هدية دخلت بها عليه قصعة مثرودة خبز بر وسمنا ولبنا فأضعها بين يديه، فقلت: يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: بارك الله فيها، ودعا أصحابه فأكلوا، فلم أرم الباب «1» حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة على رأس غلام مغطاة، فأقف على باب أبي أيوب فأكشف غطاءها لأنظر، فرأيت ثريدا عليه عراق، فدخل بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال زيد: فقد كنا في بني مالك بن النجار ما من ليلة إلا على باب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منا الثلاثة والأربعة يحملون الطعام ويتناوبون بينهم، حتى تحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بيت أبي أيوب، وكان مقامه فيه سبعة أشهر، وما كانت تخطئه جفنة سعد بن عبادة وجفنة أسعد بن زرارة كل ليلة.
وفيه أنه قيل لأم أبي أيوب: أيّ الطعام كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنكم عرفتم ذلك لمقامه عندكم؟ قالت: ما رأيته أمر بطعام فصنع له بعينه، ولا رأيناه أتى بطعام قط فعابه.
وقد أخبرني أبو أيوب أنه تعشى عنده ليلة من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة طفيشل «2» فقال أبو أيوب: فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهل تلك القدر ما لم أره ينهل غيرها، فكنا نعملها له، وكنا نعمل له الهريس وكانت تعجبه، وكان يحضر عشاءه خمسة إلى ستة عشر كما يكون الطعام في الكثرة والقلة.
__________
(1) لم أرم الباب: لازمته.
(2) طفيشل: نوع من الأدم.(1/206)
وفيه عن أبي أيوب أنهم تكلفوا له طعاما فيه بعض هذه البقول، فلما أتوه به كرهه وقال لأصحابه: كلوا فإني لست كأحدكم، إني أخاف أن أوذي صاحبي «1» .
وفي كتاب رزين عنه بعد ذكر نزوله عليه قال: وما مرت ليلة من نحو السنة إلا وتأتيه جفنة سعد بن معاذ ثم سائر الناس، يتناوبون ذلك نوبا، قال أبو أيوب: فصنعت له ليلة طعاما، وجعلت فيه ثوما، فلم يأكل منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففزعت فنزلت إليه فقلت له:
أحرام هو؟ فقال: إني أناجي، وأنا أكرهه لذلك، وأما أنتم فكلوه، قال: فقلت: فإني أكره ما تكره يا رسول الله.
المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين
قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود «2» ، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط لهم، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا: تاخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي.
قلت: كانت هذه المؤاخاة بعد مقدمه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة أشهر، وقيل: ثمانية، وهو يا بني المسجد، وقيل: بعده، وقيل: قبله، وذكره أبو حاتم في السنة الأولى، والظاهر أن ابتداءها كان فيها، واستمرت على حسب من يدخل في الإسلام أو يحضر، كما يعلم من تفاصيلها، قيل: وكانوا تسعين رجلا من كل طائفة خمسة وأربعون، وقيل: مائة، آخى بينهم على الحق والمواساة والتوارث، وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ [الأنفال: 75] الآية.
وقال الواقدي: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار.
وقال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين: الأولى قبل الهجرة بمكة بين المهاجرين، فاخى بين أبي بكر وعمر، وهكذا حتى بقي علي رضي الله عنه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة، والمواخاة الثانية ما تقدم من مواخاة المهاجرين والأنصار، وهي المرادة بقول الحسن: كان التوارث بالحلف؛ فنسخ باية المواريث.
__________
(1) البقول: المراد بها البصل والثوم والكراث.
(2) وادع فلان: صالحه وسالمه وهادنه.(1/207)
ولأبي داود عن أنس بن مالك: حالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، وحديث «لا حلف في الإسلام» معناه: حلف التوارث، والحلف على ما منع الشرع منه، وعبر رزين عن المواخاة بين المهاجرين والأنصار فيما نقله عن أبي حاتم بقوله: ثم آخى بين أصحابه، ودعا لكل واحد منهم دعوة، وقال: أبشروا أنتم في أعلى غرف الجنة، وقال لعلي: ما أخرتك إلا لنفسي، أنت أخي ووارث علمي، وأنت معي في الجنة في قصري مع ابنتي، وقصة المؤاخاة الأولى أقر بها الحاكم؛ فذكر المؤاخاة بين أبي بكر وعمر، وذكر جماعة، ثم قال: فقال علي: يا رسول الله، إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: أنا أخوك.
وقد أنكر ابن تيمية في الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين خصوصا مؤاخاة النبي لعلي، قال: لأنها شرعت للإرفاق والتألف؛ فلا معنى لها بينهم، وهو رد للنص وغفلة عن حقيقة الحكمة في ذلك، مع أن بعضهم كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، والارتفاق ممكن، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقوم بعلي من عهد الصبا، واستمر ذلك.
وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن أنه صلّى الله عليه وسلّم «آخى بين الزبير وابن مسعود» وهما من المهاجرين.
اليهود تحاول الإفساد بين الأوس والخزرج
والتأم شمل الحيين الأوس والخزرج ببركته صلّى الله عليه وسلّم فمر شاس بن قيس- وكان شيخا من اليهود شديد الضغن على المسلمين والحسد لهم- على نفر من الأوس والخزرج في مجلس يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر شابا من يهود كان معه فقال: اجلس إليهم ثم اذكر يوم بعاث، وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل الشاب ذلك، فتنازع القوم وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، وهما أوس بن قيظي وجبار بن صخر، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة، وهي الحرة، فخرجوا إليها، وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال:
يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الأوس(1/208)
والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس، فأنزل الله في شأنه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران: 98- 99] ، وأنزل الله في الذين صنعوا ما صنعوا من الحيين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلى قوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 100- 103] .
وكان حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله تعالى فيهما:
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ إلى قوله: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 109] .
وحدثت صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة غدا عليه أبي وعمي مغلّسين «1» ، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع. فو الله ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت، فشقيا بجسدهما، والله أعلم.
الفصل الثاني عشر فيما كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم بها في سني الهجرة إلى أن توفاه الله عز وجل مختصرا
وقد لخصه رزين من تأريخ أبي حاتم، فزدت فيه نفائس ميزتها، فأقول في أولها «قلت» وفي آخرها «والله أعلم» وقد أقام صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين بالإجماع كما حكاه النووي.
السنة الأولى من الهجرة:
وقد تقدم بعض ما فيها من بناء مسجد قباء وغيره.
وقال أبو حاتم: كان فيها بناء المسجد النبوي، ومات أسعد بن زرارة والمسجد يا بنى؛ فكان أول من دفن بالبقيع من المسلمين.
__________
(1) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.(1/209)
قلت: ومن هذا يعلم أن عثمان بن مظعون أول من دفن به من المهاجرين، جمعا بين النقلين، ومات كلثوم بن الهدم قبل أسعد بن زرارة؛ فهو أول من مات من الأنصار بعد مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: توفي أسعد بن زرارة في الثانية، والله أعلم.
ومات البراء بن معرور قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأوصى أن يوجّه إلى الكعبة، وصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قبره، وكانت الأنصار يتقربون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهدايا رجالهم ونساؤهم، وكانت أم سليم تتأسف على ذلك، وما كان لها شيء، فجاءت بابنها أنس، وقالت: يخدمك أنس يا رسول الله؟ قال: نعم.
قلت: الذي في الصحيح عن أنس «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيّس «1» فليخدمك، قال: فخدمته، الحديث، وقد يجمع بأنها جاءت به أولا، وانطلق به أبو طلحة ثانيا؛ لأنه وليه وعصبته، وهذا غي مجيئه به لخدمته صلّى الله عليه وسلّم في غزوة خيبر كما يفهمه لفظ الحديث، والله أعلم.
ثم زيد في صلاة الحضر ركعتين بعد مقدمه المدينة بشهر.
قلت: قال السهيلي: إن ذلك كان بعد الهجرة بعام أو نحوه، والذي عليه الأكثر أن الصلاة نزلت بتمامها من بدء الأمر، والله أعلم.
ووعك أصحابه فدعا بنقل وبائها إلى الجحفة، وقال: «اللهم حبب إلينا المدينة» ثم آخى بين أصحابه كما سبق، ثم مات الوليد بن المغيرة بمكة، وولد عبد الله بن الزبير، جاءت أمه أسماء بعد الهجرة فنفست به في قباء في شوال، فكان أول مولود ولد في الإسلام بها بعد الهجرة، وكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تفل في فيه.
قلت: سيأتي في مسجد دار سعد بن خيثمة من المساجد التي لا تعلم عينها أن الذهبي قال: إن عبد الله ولد في الثانية، والله أعلم.
ثم عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء لابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب على ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، وهي أول راية عقدت في الإسلام، ورمى فيها سعد بن أبي وقاص بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام، فالتقى مع أبي سفيان بن حرب، وقيل: عكرمة بن أبي جهل، وكان في مائة من المشركين ببطن رابغ ويعرف بودان فانحاز
__________
(1) كيّس: فطن. والكياسة: تمكن النفوس من استنباط ما هو أنفع.(1/210)
إلى المسلمين من المشركين المقداد بن عمرو بن الأسود وعتبة بن غزوان، وكان حامل اللواء لعبيدة مصلح بن أثاثة.
أول راية عقدت في الإسلام
قلت: وذكر أبو الأسود في مغازيه عن عروة، ووصله ابن عائذ من حديث ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصل إلى الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا» وذكر القصة، فيكون ذلك في السنة الثانية، وبه صرّح بعض السير، والله أعلم.
ثم عقد لواء لعمه حمزة على ثلاثين من المهاجرين- قيل: ومن الأنصار- ليتعرض عير قريش، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب، فحجب بينهم مجدي بن عمرو، وكان حليفا للفريقين، وانصرفوا من غير قتال، وكان حامل لواء حمزة يومئذ أبو مرثد.
قلت: قدم بعضهم هذه على سرية عبيدة، وقال: إن لواء حمزة أول لواء عقد في الإسلام، ورجح ابن إسحاق الأول، وقال: إنما أشكل أمرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيعهما جميعا، وذكر أبو عمر أن أول راية عقدت لعبد الله بن جحش. وقيل: إن سرية حمزة هذه كانت في السنة الثانية، والله أعلم.
زواج عائشة
ثم بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعائشة وهي بنت تسع، وكان عقد بها في مكة قبل الهجرة بثلاث وهي بنت ست.
زواج سودة بنت زمعة
قلت: وعقد على سودة بنت زمعة بعد عائشة- وقيل: قبلها، وبنى بها بمكة- وكان بناؤه بعائشة على رأس تسعة أشهر- وقيل: ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا- من قدومه، والله أعلم.
ثم عقد لواء لسعد بن أبي وقاص في عشرين يريدون عير قريش في ذي القعدة، فخرجوا على أقدامهم يكمنون «1» بالنهار ويسيرون بالليل، وكان حامل اللواء لسعد المقداد بن عمرو، فلم يجدوا شيئا، ثم جاء أبو قيس بن الأسلت ليسلم، فلقيه ابن أبيّ ابن سلول، فقال: تربص «2» حتى ترى، فرجع فمات كافرا.
__________
(1) يكمنون: يستخفون في مكمن لا يفطن له.
(2) تربص: انتظر به خيرا أو شرّا يحل به.(1/211)
إسلام عبد الله بن سلام
قلت: وأسلم عبد الله بن سلام في أول قدومه صلّى الله عليه وسلّم؛ ففي البخاري من حديث عائشة التصريح بأنه جاء قبل دخوله صلّى الله عليه وسلّم دار أبي أيوب لما سمع بقدومه صلّى الله عليه وسلّم ثم رجع إلى أهله، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم لأبي أيوب: اذهب فهيئ لنا مقيلا، فقال: قوما على بركة الله، أي هو وأبو بكر، قالت: فلما جاء نبي الله صلّى الله عليه وسلّم جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك قد جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت؛ فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر اليهود، ويلكم! اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا، قالوا: ما نعلمه، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم، قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: أفرأيتم إن أسلم، قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، كرر عليهم ذلك ثلاثا فيقولون له ذلك، قال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج عليهم، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه جاء بحق، فقالوا:
كذبت، فأخرجهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي رواية أن عبد الله بن سلام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء، فلما أعلمه بها أسلم، وفي هذه الرواية ذكر قصة اليهود المتقدمة، وأن عبد الله بن سلام لما خرج إليهم وتشهد قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه؛ فقال: هذا كنت أخاف يا رسول الله، ونصبت أحبار اليهود العداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم بغيا وحسدا: منهم حيي بن أخطب، وأبو رافع الأعور، وكعب بن الأشرف، وعبد الله بن صوريا، والزبير بن باطا، وشمويل، ولبيد بن الأعصم، وغيرهم، ودخل منهم جماعة في الإسلام نفاقا، وانضاف إليهم من الأوس والخزرج منافقون، وأرى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الأذان، وقيل: كان ذلك في السنة الثانية عندما شاور صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة؛ إذ كان اجتماعهم قبل بمناد «الصلاة جامعة» والله أعلم.
السنة الثانية من الهجرة
السنة الثانية: فلما جاء العاشر من المحرم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصومه، وقال: «نحن أحق بموسى من اليهود» ثم زوج عليا بفاطمة.
قلت: وذلك قبل بدر، في رجب على الأصح، وبنى بها في ذي الحجة كما سيأتي، وكان لها خمس عشرة سنة، وقل: ثمان عشرة، وقيل: تزوجها بعد أحد، والله أعلم.
ثم غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه إلى الأبواء وهي من ودان على ستة أميال مما يلي المدينة.(1/212)
قلت: ولتقاربهما أطلق عليها «غزوة ودان» ، والله أعلم.
واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وكان حامل لوائه سعد بن أبي وقاص، ثم رجع، ولم يلق كيدا، فانصرف بعدما وادع مجدي بن عمرو الضمري، ثم غزا في مائتين من أصحابه إلى ناحية رضوى، وحامل لوائه سعد بن أبي وقاص، ثم رجع ولم يلق كيدا.
قلت: وهي غزوة «بواط» خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد تجار قريش أيضا، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، وقال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، وفي نسخة السائب بن مظعون، وقال الواقدي: سعد بن معاذ، والله أعلم.
ثم أغار على سرح المدينة كرز بن جابر الفهري، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أثره في المهاجرين، وحامل لوائه علي بن أبي طالب، فانتهى إلى بدر، وفاته كرز، وهذه بدر الأولى.
قلت: ذكر ذلك ابن إسحاق بعد «العشيرة» بليال، والله أعلم.
ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش في سرية، وهم الذين قتلوا في الشهر الحرام في اثني عشر نفسا، فأضل عتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص راحلتيهما، فتخلفا عنهم، ومضى العشرة حتى لقوا جماعة من قريش: منهم عثمان بن عبد الله بن المغيرة، وافتدى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحكم ابن كيسان، أسلم، وقتلوا عمرو بن الحضرمي.
قلت: ذكرها بعضهم بعد العشيرة، ووصلوا نخلة على يوم وليلة من مكة، فمرت بهم عير قريش تحمل زبيبا وأدما من الطائف معها الجماعة المذكورون في آخر يوم من رجب، فاستأسروا الأسيرين، وقتلوا عمرا، واستاقوا العير، وكانت أول غنيمة في الإسلام، والله أعلم.
ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى العشيرة، فوادع بني مدلج وحفاءهم، ثم رجع.
قلت: وكان خروجه فيها يعترض عيرا لقريش، ففاتته بأيام، واستخلف أبا سلمة بن عبد الأسد، والله أعلم.
التوجه إلى الكعبة
قال أبو حاتم: وبلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فدعا الله تعالى، فأنزل قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ إلى قوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] وقت صلاة الظهر يوم الثلاثاء النصف من شعبان ثانية سني الهجرة.
قلت: سيأتي ما فيه من الخلاف في الفصل الثالث من الباب بعده، والله أعلم.
ثم نزلت فريضة الصوم في شعبان، فصاموا رمضان، فلما فرض رمضان لم يأمرهم بصيام عاشوراء ولا نهاهم.(1/213)
ثم كانت غزوة بدر في رمضان لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وقيل: يوم جمعة صبيحة سبع عشرة منه، وقيل: صبيحة أربع وعشرين منه، وكان المسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر.
قلت: الراجح القول الثاني، وخرجت الأنصار معه صلّى الله عليه وسلّم فيها، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، ومعهم ثلاثة أفراس، وكان المشركون ألفا، ويقال، تسعمائة وخمسين رجلا معهم مائة فرس، وهذه بدر الثانية لما تقدم، والله أعلم.
ثم قتل عمير بن عدي الخطمي العصماء امرأة من الأنصار، وهي زوج يزيد الخطمي، كانت تؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعر، فقتلها، ثم جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينتطح فيها عنزان» .
قلت: قال في الاكتفاء: إن العصماء هذه نافقت لما قتل أبو عفك (بالفاء وإهمال أوله) وقالت شعرا تعيب الإسلام وأهله، وتؤنب الأنصار في اتباعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن عميرا رجع إلى قومه بعد قتلها يومئذ كثير موجهم «1» في شأنها، ولها بنون خمسة رجال، فقال: يا بني خطمة، أنا قتلت بنت مروان، يعني العصماء، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فذلك اليوم أول ماء الإسلام في دار بني خطمة، وكان يستخفي بإسلامه فيهم من أسلم، ويومئذ أسلم رجال منهم لما رأوا من عز الإسلام، انتهى. والذي رواه ابن سيد الناس عن ابن سعد أنه قال بعد ذكر قتل عمير للعصماء: ثم في شوال كانت سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك اليهودي، وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخا قد بلغ عشرين ومائة، وكان يحرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقول الشعر، فقال سالم بن عمير وهو أحد البكائين وممن شهد بدرا: علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، وذكر قتله إياه، وهو مخالف لما قدمناه عن الاكتفاء من تقديم قتل أبي عفك على قتل العصماء، وذكر ابن سعد أيضا أن قتل العصماء كان لخمس ليال بقين من شهر رمضان، وأن عميرا كان ضرير البصر، وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البصير، قيل: وكان أول من أسلم من بني خطمة، وكان إمام قومه وقارئهم، وكان يدعى «القارئ» ، والله أعلم.
ثم خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل الفطر بيومين يعلّم الناس زكاة الفطر.
قلت: وقيل: في أول شوال، وصلّى صلاة الفطر، وفيها فرضت زكاة الأموال أيضا، وقيل: في الثالثة، وقيل: في الرابعة، وقيل: قبل الهجرة، وثبتت بعدها، والله أعلم.
ثم غزا بني قينقاع في شوال.
__________
(1) ماج القوم: اختلفت أمورهم واضطربت.(1/214)
قلت: قد تقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد وادع اليهود، وكانوا يرجعون إلى ثلاث طوائف:
بني قينقاع، والنضير، وقريظة، فنقض الثلاثة العهد طائفة بعد طائفة، فأول من نقض منهم بنو قينقاع فحاربهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد بدر في شوال، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فنزلوا على حكمه، فأراد قتلهم، فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات، وفي الاكتفاء: وكان منشأ أمرهم، يعني في نقض العهد، أن امرأة من العرب قدمت بجلب «1» لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقلته، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فوقع الشر بينهم وبين المسلمين، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلوا على حكمه.
وروي أن ابن أبيّ قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، وأنه قال: أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هم لك، وقال مغلطاي في غزوة بني قينقاع، قال الحاكم: هذه وبني النضير واحد، وربما اشتبهتا على من لا يتأمل، وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكر أنهم أول من نقض العهد: فغزاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم بني النضير، وأغرب الحاكم فزعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني النضير كان في زمن واحد ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق، وذكر الواقدي أن إجلاء بني قينقاع كان في شوال سنة اثنتين، يعني بعد بدر بشهر، ويؤيده ما روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس قال: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا يوم بدر جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قاتلتنا لعرفت أنا الرجال؛ فأنزل الله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى قوله: لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 12- 13] وأصاب صلّى الله عليه وسلّم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف ودر عين أحدهما تسمى فضة والآخرى تسمى السغدية (بالسين المهملة والغين المعجمة) قال بعض الحفاظ: وكانت السغدية درع داود عليه السلام التي لبسها حين قتل جالوت، والله أعلم.
غزوة السويق
قلت: سميت به لأنه كان أكثر زاد المشركين، وغنمه المسلمون لأن أبا سفيان خرج
__________
(1) الجلب: ما جلب من إبل وغنم ومتاع من البادية للتجارة.(1/215)
في مائتي راكب، وقيل: في أربعين، حتى أتوا العريض، فحرق نخلا، وقتل رجلا من الأنصار وأجيرا له، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طلبه، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون للهرب فيلقون جرب السويق، فأخذها المسلمون فرجعوا، وذلك بعد بدر، فإن أبا سفيان حلف بعدها ألايمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، ففعل ذلك، ورأى أن يمينه انحلت، والله أعلم.
ثم مات عثمان بن مظعون في ذي الحجة، فهول أول من مات من المهاجرين بالمدينة، ثم صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة العيد، ثم ضحى بكبش، ثم بنى علي بفاطمة في ذي الحجة.
قلت: وقال النووي: وتوفيت في ذي الحجة منها رقية ابنته صلّى الله عليه وسلّم لكن ذكر أهل السير ما يقتضي أن وفاتها كانت في رمضان منها، والله أعلم.
السنة الثالثة من الهجرة
السنة الثالثة: ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لكعب بن الأشرف» ؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له، ثم قتله.
قلت: ابن الأشرف كان أصله عربيا من نبهان على ما قاله ابن إسحاق، أتى أبوه المدينة فخالف بني النضير، فشرف فيهم، وتزوج بنت أبي الحقيق، فولدت له كعبا، وكان جسيما شاعرا، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى مكة وأنشدهم الأشعار، وبكى أصحاب القليب «1» من قريش، ونزل فيهم على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وعنده عاتكة بنت أبي العيص ابن أمية، فهجاه حسان وهجا امرأته عاتكة، فطردته، فرجع إلى المدينة وشبب بنساء المسلمين، وكان يهجو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويحرض عليه كفار قريش، وقيل: صنع طعاما وواطأ يهود أن يدعو النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا حضر فتكوا به، ثم دعاه، فأعلمه جبريل فقام منصرفا وقال: «من لكعب بن الأشرف» فانتدب له محمد بن مسلمة في نفر، واحتال عليه حتى نزل له ليلا فقتله، وقيل: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه، والله أعلم.
غزوة الكدر
ثم غزا غزوة الكدر، وكان حامل لوائه علي بن أبي طالب، فرجع ولم يلق كيدا.
قلت: خرج فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد بني سليم، واستخلف سباع بن عرفطة، وقيل:
__________
(1) القليب: البئر. أصحاب القليب: المشركون الذين قتلوا ببدر، وطرحوا بالبئر.(1/216)
ابن أم مكتوم، فبلغ ماء يقال له الكدر، وتعرف بغزوة «قرقرة» ، ويقال نجران، فلم يلق أحدا، والله أعلم.
غزوة أنمار
ثم غزا غزوة أنمار، فجاءه دعثور فوجده نائما تحت الشجرة، فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم على رأسه بالسيف، فقال له دعثور: من يمنعك مني؟ قال: الله، فوقع السيف من يده، وأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، قال: اذهب لشأنك، فولى وهو يقول: محمد خير مني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم، وأنا أحق بذلك منك، فنذرت غطفان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهربوا.
غزوة ذي أمر
قلت: هذه غزوة ذي أمر، وسماها الحاكم غزوة أنمار، وسمى بعضهم الأعرابي غورث، ويقال: كان ذلك في ذات الرقاع، ولا مانع من تعدد ذلك، وكأن أبا حاتم رأى اتحادهما فلم يذكر ذات الرقاع، وهي بنخل عند بعضهم؛ فلذلك لم يذكرها أيضا، والله أعلم.
ثم كانت سرية القردة، وكان أميرها زيد بن حارثة، فلقي بها عير قريش، فأخذها، وأسر فرات بن حيان، وبلغ الخمس من تلك الغنيمة عشرين ألفا.
سرية القردة
قلت: والقردة ماء من مياه نجد، فإن قريشا بعد بدر خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام، فسلكوا طريق العراق، وكان في هذه العير أبو سفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة هي عظم تجارتهم، والله أعلم.
ثم كانت أحد.
غزوة أحد
قلت: كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وشذ من قال: سنة أربع، وقال ابن إسحاق: لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لسبع ليال، وقيل: لثمان؛ وقيل:
لتسع، وقيل: في نصفه، وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة، وفيه تجوز، لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق، فهي بعدها بسنة وشهر لم يكمل، ولهذا قال مرة أخرى: كانت بعد الهجرة بإحدى وثلاثين شهرا.
وكان السبب فيها أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع من بقي منهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيرهم، فكلموا أبا سفيان ومن له في العير مال في(1/217)
الاستعانة بها على حرب النبي صلّى الله عليه وسلّم ففعلوا، وقيل: كان المال خمسين ألف دينار، فسلم إلى أهل العير رؤوس أموالهم، وعزلت الأرباح، وكانوا يربحون في تجارتهم الدينار دينارا، وجهزوا الجيش بذلك، وحركوا من أطاعهم من القبائل، وخرجوا بأحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن «1» لئلا يفروا، فخرج أبو سفيان- وكان قائدهم- بهند بنت عتبة، وكذلك سار أشرافهم خرجوا بنسائهم، وكان جبير بن مطعم أمر غلامه وحشيا الحبشي بالخروج مع الناس، وقال له: إن قتلت حمزة عم محمد صلّى الله عليه وسلّم بعمي طعمة بن عدي فأنت عتيق، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة، قاله ابن إسحاق، ووادي قناة خلف عينين بينه وبين أحد، فإن عينين في مقابلة أحد، فنزلوا هم أمام عينين مما يلي المدينة وفي غربيه لجهة بئر رومة؛ فلا يخالف ما سيأتي عن المطري، ونقل ابن عقبة أن أبا سفيان سار بجمعه حتى طلعوا من بئر الجماوين، ثم نزلوا ببطن الوادي الذي قبل أحد، وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، وتمنوا لقاء العدو، وأرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح، والله خير، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته «2» ، أو قال به فلول، فكرهته وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة، وأني مردف كبشا، قالوا: ما أولتها؟ قال: أولت البقر بقرا يكون فينا، وأولت الكبش كبش الكتيبة [3] ، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت، ونقل ابن إسحاق أيضا أن عبد الله بن أبي قال: يا رسول الله، أقم بالمدينة، ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم، فقال أولئك القوم: يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم، وأبى كثير من الناس إلا الخروج، فلما صلّى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج، فندم ذوو الرأي منهم، فقالوا: يا رسول الله امكث كما أمرتنا، فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل، فخرج بهم وهم ألف رجل، وكان المشركون ثلاثة آلاف. وقال المطري: إن نزول قريش يوم أحد بالمدينة كان يوم الجمعة، قال: وقال ابن إسحاق: يوم الأربعاء.
قال المطري: فنزلوا برومة من وادي العقيق، وصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجمعة بالمدينة، ثم
__________
(1) الظعينة: الراحلة يرتحل عليها. والهودج.
(2) الظّبة: حدّ السيف والسنان والخنجر وما أشبهها.(1/218)
خرج هو وأصحابه على الحرة الشرقية حرة واقم، وبات بالشيخين موضع بين المدينة وبين جبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد، وغدا صبح يوم السبت إلى أحد، انتهى. ونقل الأقشهري أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية؛ فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وقيل: إلى سعد بن عبادة، ولواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب، وقيل: إلى مصعب بن عمير، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم ركب فرسه، وتقلد القوس، ثم أخذ قناته بيده، وفي المسلمين مائة دارع، وخرج السعدان أمامه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة والناس على يمينه وشماله، فمضى حتى إذا كان بالشيخين- وهما أطمان- التفت فنظر إلى كتيبة حسنة لها زجل «1» ، فقال: ما هذه؟ قالوا: حلفاء ابن أبي من يهود، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا نستنصر بأهل الشرك، فلما بلغوا الشوط انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس، انتهى.
وفي الاكتفاء أن مخيريقا كان من أحبار يهود، فقال لهم يومئذ، لقد علمتم إن نصر محمد عليكم لحق، فتعللوا بسبتهم، فقال لهم: لا سبت لكم، وأخذ سيفه وعدته فلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقاتل معه حتى قتل بعد أن قال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، وفيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مخيريق خير يهود» انتهى.
وروى الطبراني في الكبير والأوسط برجال ثقات عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج يوم أحد حتى إذا جاوز ثنية الوداع فإذا هو بكتيبة حسناء، فقال: من هؤلاء؟
قالوا: عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من اليهود من بني قينقاع، فقال: وقد أسلموا؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: مروهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين.
قال الأقشهري عقب كلامه السابق: وعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عرض ورد من رد في ذلك الموضع، يعني بالشيخين، وأذن بلال المغرب فصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه، وبات بذلك الموضع صلّى الله عليه وسلّم واستعمل على الحرس في تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين يطوفون بالعسكر، وأدلج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السحر وهو يرى المشركين ودليله أبو خيثمة الحارثي، فانتهى إلى موضع القنطرة، فحانت الصلاة فصلى بأصحابه الصبح صفوفا عليهم السلاح، قال: وقال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منزل عائشة على رجليه إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوّم القدح، وقال ابن إسحاق: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أحد حتى إذا كان بالشوط انخذل عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، وفي رواية بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، وقال ابن عقبة: فبقي صلّى الله عليه وسلّم في سبعمائة،
__________
(1) الزجل: صوت الناس.(1/219)
فلما رجع عبد الله بن أبي سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين- وهما بنو حارثة وبنو سلمة- وقال الأقشهري: فبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبعمائة، ومعه فرسه وفرس لأبي بردة بن نيار، وهذه رواية الواقدي، والذي رواه ابن عقبة- كما سيأتي- أنه لم يكن مع المسلمين فرس، وفي الاكتفاء بعد ذكر انخذال ابن أبي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضى حتى سلك في حرة بني حارثة، ثم قال: من رجل يخرج منا على القوم من كثب، أي من قرب، من طريق لا يمر بنا عليهم؟ فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي، وكان منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه قام فحثا في وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وذكر أنه أخذ حفنة من تراب، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال الأقشهري: وجعل أحدا خلف ظهره، واستقبل المدينة، وجعل عينين الجبل عن يساره، وقال ابن عقبة: وصفّ المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة، وتعبوا للقتال، وعلى خيل المشركين- وهي مائة فرس- خالد بن الوليد، وليس مع المسلمين فرس، وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان، وأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا، وعهد إليهم ألايتركوا منازلهم. ونقل الأقشهري أنه جعلهم على جبل عينين. وفي الاكتفاء أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأميرهم: انضح الخيل عنا لا يأتونا من خلفنا، إن كان لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين درعين، وتعبأ قريش، وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائة فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وقد كان أبو عامر الراهب من الأوس خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان يعد قريشا أن لو لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم هو في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق، وبذلك سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فلما سمع ردهم عليه قال:
لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالا شديدا، ثم راضخهم بالحجارة، انتهى.
وروى البزار- ورجاله ثقات- عن الزبير بن العوام قال: عرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفا يوم أحد فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام أبو دجانة فقال: يا رسول الله أنا آخذه بحقه، فأعطاه إياه، فخرج، فأتبعته فجعل لا يمر بشيء إلا أفراه «1» وهتكه، حتى أتى نسوة في سفح الجبل ومعهن هند وهي تقول:
__________
(1) فرى الشيء: فتّته وشقّه.(1/220)
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
والدر في المخانق ... والمسك في المفارق
«1»
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
«2» يعني تحرضهم بذلك، قال: فحمل عليها، فنادت بالصحراء فلم يجبها أحد، فانصرف عنها، فقلت له: كل سيفك رأيته فأعجبني غير أنك لم تقتل المرأة، قال: فإنها نادت فلم يجبها أحد، فكرهت أن أضرب بسيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امرأة لا ناصر لها.
وفي الاكتفاء: ذكر الزبير رضي الله عنه أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرجونا، فعاد في يده سيفا قائمه منه، فقاتل به؛ فكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل بعد يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار.
وروى البزار برجال الصحيح عن بريدة أن رجلا قال يوم أحد: اللهم إن كان محمد على الحق فاخسف به، قال: فخسف به.
وقال ابن إسحاق: قتل أصحاب لواء المشركين وهم تسعة بأحد واحد بعد واحد.
وقال غيره: أحد عشر آخرهم غلام لبني طلحة.
وقال ابن عقبة: وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، فبارز طلحة بن عثمان من بني عبد الدار فقتله، وحمل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم «3» ، وحملت خيل المشركين فنضحهم الرماة بالنبل ثلاث مرات، فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتهبوه، فرأى ذلك الرماة، فتركوا مكانهم، ودخلوا العسكر، فأبصر ذلك خالد ومن معه، فحملوا على المسلمين في الخيل، فمزقوهم، وصرخ صارخ: قتل محمد، أخراكم، فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل، وثبت نبي الله حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم، حتى رجع إليه بعضهم وهو عند المهراس في الشعب، وتوجه النبي صلّى الله عليه وسلّم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، فمر مصعدا «4» في الشعب ومعه طلحة والزبير، وقيل: معه طائفة من الأنصار منهم سهل بن بيضاء والحارث بن الصمة، واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان
__________
(1) الفرق: الفاصل بين صفين من الشعر. المخنق: العنق، النحر.
(2) الوامق: المحب الذي يحب الآخر لغير ريبة.
(3) أجهضوهم: نحّوهم وأزالوهم.
(4) صعّد في الشعب: نظر إلى أعلاه وأسفله يتأمله.(1/221)
والأنوف والفروج ويبقرون البطون، وهم يظنون أنهم أصابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأشراف أصحابه، فقال أبو سفيان يفتخر بإلهه: «اعل هبل» فناداه عمر: الله أعلى وأجل، ورجع المشركون إلى أثقالهم.
الرسول يقتل أبي بن خلف
قال ابن إسحاق: كان أول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهزيمة، وتحدث الناس بقتله، كعب بن مالك الأنصاري، قال: عرفت عينيه يزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إلي أن أنصت، فلما عرف المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقال القوم:
يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فقال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم: فلما أخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها «1» عن فرسه مرارا، وكان أبي بن خلف يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العود فرسا أعلفه كل يوم فرقا «2» من ذرة أقتلك عليه، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا أقتلك إن شاء الله، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد، فقالوا: ذهب والله فؤادك، والله إن يك بأس، قال: إنه قد كان، قال بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني، فمات عدو الله بسرف وهم قافلون»
إلى مكة، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قاله يومئذ: اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسحقا لأصحاب السعير.
وفي الصحيح عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله، أخراكم، فرجعت أولاهم، فاجتلدت مع أخراهم، فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه فنادى: أي عباد الله، أبي أبي، فقالت: فو الله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم.
ونقل الأقشهري أن أبا سفيان بن حرب قال يومئذ لبني عبد الدار: إنكم ضيعتم اللواء يوم بدر، فأصابنا ما رأيتم، فادفعوا اللواء إلينا نكفكم، وإنما أراد تحريضهم على القتال
__________
(1) تدأدأ: تمايل.
(2) الفرق: مكيال يساوي ثلاثة آصع.
(3) قافلون: عائدون.(1/222)
والثبات، فغضبوا وأغلظوا له، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل: من يحمل لواء المشركين؟ قيل:
عبد الدار، قال: نحن أحق بالوفاء منهم؟ أين مصعب بن عمير؟ فقال: ها أنا، قال: خذ اللواء، فأعطاه اللواء، وإن حمزة رضي الله عنه حمل على عثمان بن طلحة حامل لواء المشركين فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره «1» ، ثم إن أصحاب اللواء قتلوا واحدا بعد واحد، فانكشف المشركون منهزمين، ونساؤهم يدعون بالويل والثبور، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح، ووقفوا يأخذون الغنائم، فلما رأى الرماة ذلك أقبل جماعة منهم وخلوا الجبل، فكر خالد بالخيل، فتبعه عكرمة، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير، وانتقضت صفوف المسلمين، ونادى إبليس: قتل محمد، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يزول، يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا، ويرمي بالحجارة، وثبت معه عصابة من الصحابة أربعة عشر من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر وسبعة من الأنصار، اه.
وروى النسائي عن جابر قال: لما ولّى الناس يوم أحد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في اثني عشر رجلا من الأنصار فيهم طلحة.
ووقع عند الطبري من طريق السدي قال: تفرق الصحابة فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو الناس إلى الله، فرماه ابن قميئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله، فتراجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثون رجلا، فجعلوا يذبون عنه «2» ، فحمله منهم طلحة وسهل بن حنيف، فرمي طلحة بسهم فيبست يده، وقال بعض من فر إلى الجبل: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان، فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه، ثم ذكر قصة قتله، وقصد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجبل، فأراد رجل من أصحابه أن يرميه بسهم، فقال: أنا رسول الله، فلما سمعوا ذلك فرحوا به، واجتمعوا حوله، وتراجع الناس.
وروى أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد، وقد أخرجه الشيخان، وفي رواية لمسلم: يعني جبريل ومكائيل، وقول مجاهد: «لم تقاتل الملائكة يومئذ ولا قبله ولا بعده، إلا يوم بدر» . قال البيهقي: أراد به أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به.
__________
(1) المؤتزر: النصف الأسفل من البدن. والموضع الذي يلبس فيه الإزار.
(2) ذبّ عنه: دافع عنه.(1/223)
وعن عروة بن الزبير: كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهده إليهم وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران: 152] فصدق الله وعده، وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء.
وعند ابن سعد: ثبت معه صلّى الله عليه وسلّم سبعة من الأنصار وسبعة من قريش.
وفي مسلم من حديث أنس: أفرد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش طلحة وسعد.
وقال ابن إسحاق: حدثني حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعية النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وشج في وجهه، فجعل يسيل الدم على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول:
كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128] الآية.
وروى بن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص أخا سعد هو الذي كسر رباعية النبي صلّى الله عليه وسلّم السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب هو الذي شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قميئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مص الدم من وجهه، ثم ازدرده «1» ، فقال له: لن تمسك النار.
وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد فشج وجهه، وكسر رباعيته، وقال: خذها وأنا بن قميئة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يمسح الدم عن وجهه: ما لك أقمأك الله، فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
وقال السهيلي: الذي كسر رباعية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتبة بن أبي وقاص أخو سعد، لم يولد من نسله ولد فبلغ الحلم إلا وهو أبخر أو أهتم، يعرف بذلك في عقبه.
وروى ابن الجوزي عن محمد بن يوسف الفريابي قال: لقد بلغنى أن الذين كسروا رباعية النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يولد لهم صبي فنبتت له رباعية.
وقيل: كان سبب الهزيمة أن ابن قميئة الليثي قتل مصعب بن عمير، وكان مصعب إذا
__________
(1) ازدرد اللقمة: ابتلعها.(1/224)
لبس لأمته يشبه النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما قتله ظن أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجع إلى قريش وقال: قد قتلت محمدا، فازدادوا جرأة وصاح إبليس من العقبة: قتل محمد، فلما سمع المسلمون ذلك وهم متفرقون كانت الهزيمة، فلم يلو أحد على أحد «1» .
والصواب أن السبب مخالفة الرماة للأمر، وهذا مؤكد له ومتمم، مع أن الأصل في ذلك- مع إرادة الله تعالى- ما اتفق ببدر من أخذ الفداء، فقد أخرج الترمذي والنسائي عن علي أن جبريل هبط فقال: خيّرهم في أسارى بدر القتل أو الفداء على أن يقتل منهم من قابل مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا، وقال الترمذي: حسن، وذكر غيره له شواهد تقويه، ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، وقتلوا سبعين، وأسروا سبعين. وفيه أيضا أن المشركين أصابوا يوم أحد من المسلمين سبعين، ولفظه من حديث البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم جيشا من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، وقال: لا تبرحوا، فإن رأيتمونا ظهرنا عليهم «2» فلا تبرحوا «3» ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا، فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلا خلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله: عهد إلي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألاتبرحوا، فأبوا، فلما أبوا صرف الله وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا.
ووقع عند مسلم من طريق ابن عباس عن عمر في قصة بدر قال: فلما كان يوم أحد قتل منهم سبعون وفروا، وكسرت رباعية النبي صلّى الله عليه وسلّم وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها [آل عمران:
165] الآية، والمراد بكسر الرباعية- وهي السن التي تلي الثنية والناب- أنها كسرت فذهب منها فلقة، ولم تقلع من أصلها، وقوله «وفروا» أي: بعضهم، أو أطلق ذلك باعتبار تفرقهم، والواقع أنهم صاروا ثلاث فرق: فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة، فما رجعوا حتى انقضى القتال، وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [آل عمران: 155] وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل، فصار غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه، أو يستمر على نصرته في القتال إلى أن يقتل، وهم أكثرهم، وفرقة بقيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم تراجع إليهم القسم الثاني شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي، وما ورد من الاختلاف في العدد محمول على تعدد المواطن في القصة.
__________
(1) لا يلو أحد على أحد: لا يقيم عليه ولا ينتظره.
(2) ظهر على عدوه: غلبه.
(3) برح مكانه: زال عنه وغادره.(1/225)
ووقع عند أبي يعلى في حديث عمر المتقدم: فلما كان عام أحد عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون.
وفي الاكتفاء: أنه لما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل في رجال من المسلمين، ولما اشتد القتال جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدم الراية، فتقدم فقال: أنا أبو القصم، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟ قال: نعم، فبرزا بين الصفين، فاختلفا ضربتين: فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه «1» ، فقال له أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله.
وقد قيل: إن سعد بن أبي وقاص هو الذي قتل أبا سعد هذا.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس قال: دخل علي بن أبي طالب على فاطمة يوم أحد فقال: خذي هذا السيف غير ذميم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسنه سهل بن حنيف وأبو دجانة بن خرشة.
وذكر في الاكتفاء دخول الحلقتين من حلق المغفر في وجنته صلّى الله عليه وسلّم وأنه وقع في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر الراهب ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ علي بيده، ورفعه طلحة حتى استوى قائما، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجهه، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلّى الله عليه وسلّم فسقطت ثنيته، ثم نزع الآخرى فسقطت ثنيته الآخرى، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل ويقول: «ارم فداك أبي وأمي» ، وأصيب ويمئذ عين قتادة بن النعمان فردها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فكانت أحسن عينيه، وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصابه بعضها في رجله فعرج، فلما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، فبينا هم في الشعب إذ علت عالية من قريش: الجبل، فقال: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع، وقد كان بدّن «2» وظاهر بين درعين «3» ، فجلس تحته طلحة بن
__________
(1) أجهز على الجريح: أسرع في قتله وتمم عليه.
(2) بدن: سمن وضخم.
(3) ظاهر بين الدرعين: طابق بينهما.(1/226)
عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة» «1» وصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يومئذ الظهر قاعدا من الجراح التي أصابته، وصلّى المسلمون خلفه قعودا.
وفي الصحيح من حديث البراء أن أبا سفيان- حين أراد الانصراف- قال: «لنا العزى ولا عزى لكم» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» .
وفيه أيضا أن أبا سفيان أشرف يوم أحد فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: لا تجيبوه، قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فلما لم يجبه أحد قال: إن هؤلاء قتلوا، ولو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال:
كذبت يا عدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك.
قال ابن إسحاق: فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم إلي يا عمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمر: ائته فانظر ما شأنه، فجاء، فقال له أبو سفيان: أنشدك بالله يا عمر أقتلنا محمدا، فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر، ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل من أصحابه: «قل: نعم، هو بيننا وبينكم موعد» ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم، فخرج علي فرآهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، وفزع الناس لقتلاهم، وانتشروا يبتغونهم، وسيأتي خبرهم وتعيينهم إن شاء الله تعالى في الفصل السادس من الباب الخامس، وبكى المسلمون يومئذ على قتلاهم، فسر المنافقون، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق.
الحكم التي في قصة أحد
قال العلماء: وكان في قصة أحد من الحكم والفوائد أشياء عظيمة.
منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي؛ لما وقع من الرماة.
ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة.
__________
(1) أوجب: استحق الجنة الثواب.(1/227)
ومنها: إظهار أهل النفاق حتى عرف المسلمون أن لهم عدوا بين أظهرهم.
ومنها: أن في تأخير النصر هضما للنفس.
ومنها: أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فسبب لهم ذلك ليبلغوها.
ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء، فساقها لهم بين يدي الرسول ليكون شهيدا عليهم.
قال ابن إسحاق: وفي شأن أحد أنزل الله ستين آية من آل عمران.
وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف:
أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ إلى قوله: أَمَنَةً نُعاساً [آل عمران: 121- 154] .
أبو عزة الجمحي ومقتله
ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الوقعة مرهبا لعدوه حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فأخذ في وجهه ذلك أبا عزّة الجمحي، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد منّ عليه يوم بدر بغير فداء، وأخذ عليه ألايظاهر «1» عليه أحدا، وكان شاعرا، فقال له صفوان بن أمية: إنك امرؤ شاعر فأعنّا بلسانك، ولم يزل به حتى خرج معهم، فلما أخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يا رسول الله أقلني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير، فضرب عنقه.
تحريم الخمر السنة الرابعة من الهجرة غزوة الرجيع غزوة بني النضير.
وفي رواية أنه قال له: «إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت» فضرب عنقه.
تحريم الخمر
وفي هذه السنة أيضا حرمت الخمر، ويقال: في التي بعدها، وقال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان، واستدل بشيء فيه نظر.
وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في شعبان على الأصح، وقيل: في التي قبلها، وزينب بنت خزيمة أم المساكين في رمضان، فمكثت عنده شهرين أو ثلاثة، وقيل: ثمانية أشهر، وماتت، وولد الحسن بن علي في منتصف رمضان،
__________
(1) لا يظاهر أحدا عليه: لا يساعد أحدا عليه.(1/228)
وعلقت أمه بالحسين بعد خمسين ليلة، وتزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم.
السنة الرابعة من الهجرة
السنة الرابعة: وكانت بئر معونة أولها في المحرّم.
قلت: في الصحيح من رواية أنس قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان، فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوه على قومهم، فأمدهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبعين من الأنصار، قال أنس: كنا نسميهم القراء، يحطبون بالنهار ويصلون بالليل، فانطلقوا بهم حتى بلغوا بئر معونة غدروا بهم وقتلوهم، فقنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان، وفي بعض الروايات ما يقتضي أن الذين استمدوا لم يظهروا الإسلام، بل كان بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد، وأنهم غير الذين قتلوا القراء لكنهم من قومهم، وهو الذي في كتب السير وقد بين ابن إسحاق في المغازي وكذلك موسى بن عقبة عن ابن شهاب أسماء الطائفتين، وأن أصحاب العهد هم بنو عامر ورأسهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، المعروف بملاعب الأسنة، وأن الطائفة الآخرى من بني سليم، وأن عامر بن أخي ملاعب الأسنة أراد الغدر بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فدعا بني عامر إلى قتالهم، فامتنعوا وقالوا: لا نخفر «1» ذمة أبي براء، فاستصرخ عليهم عصية وذكوان من بني سليم، فأطاعوه وقتلوهم، قالوا: ومات أبو براء بعد ذلك آسفا على ما صنع به عامر بن الطفيل، وقيل: أسلم أبو براء عند ذلك، وقاتل حتى قتل، وعاش عامر بن الطفيل حتى مات كافرا بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أصابته غدة كغدة البعير «2» ، ولم يكن القراء المذكورون كلهم من الأنصار، بل كان بعضهم من المهاجرين مثل عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ونافع بن ورقاء الخزاعي وغيرهما، كما يؤخذ من الصحيح أيضا، والله أعلم.
ثم كانت غزوة الرجيع في صفر.
غزوة الرجيع
قلت: ذكرها ابن إسحاق في الثالثة قبل بئر معونة، والرجيع: موضع ببلاد هذيل، والله أعلم.
ثم كانت غزوة بني النضير.
__________
(1) لا نخفر العهد: لا ننقض العهد ولا نغدر به.
(2) غدة البعير: طاعون الإبل.(1/229)
غزوة بني النضير
قلت: ذكرها بعضهم في الثالثة قبل أحد، وقال الزهري: كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد، وذكرها ابن إسحاق في الرابعة بعد بئر معونة وأن سببها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءهم يستعينهم في دية، وجلس إلى جنب جدار لهم، فخلا بعضهم ببعض، وأمروا عمرو بن جحاش أن يرقى فيلقي عليه صخرة، فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهرا أن يقضي حاجة، وقال لأصحابه: لا تبرحوا، ورجع مسرعا إلى المدينة، فأمر بحربهم والمسير إليهم، وأمر بقطع النخل والتحريق، قال: وحاصرهم ست ليال، فسألوا أن يجلوا من أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل، فصولحوا على ذلك، فاحتملوا إلى خيبر وإلى الشام؛ فكانت أموالهم له صلّى الله عليه وسلّم خاصة، ووافق ابن إسحاق على ذلك جل أهل المغازي، وأصح منه ما رواه ابن مردويه بسند صحيح أنهم أجمعوا على الغدر، فبعثوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر بني النضير قبل أن يصل إليهم، فرجع وصبّحهم بالكتائب، فحصرهم يومه، ثم غدا على بني قريظة فحاصرهم، فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل «1» إلا السلاح، فاحتملوا أبواب بيوتهم؛ فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام.
ورواه أيضا عبد بن حميد في تفسيره، وروى أيضا من طريق عكرمة أن غزوتهم كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف، وروى أن قريشا كتبوا لبني النضير يحثونهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأضمروا الغدر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ولما حرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخلهم قال حسان رضي الله عنه يعير قريشا من أبيات:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولم يكن أسلم حينئذ:
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أيّنا منها بنزه ... وتعلم أي أرضينا تضير
أي: ستعلم أينا منها ببعد، وأي الأرضين أرضنا أو أرضكم يحصل لها الضير: أي الضرر؛ لأن بني النضير إذا خربت أضرت بما جاورها وهو أرض الأنصار لا أرض
__________
(1) ما أقلت الإبل: ما نقلته.(1/230)
قريش، ونقل ابن سيد الناس عن أبي عمرو الشيباني أن الذي قال البيت المتقدم المنسوب لحسان هو أبو سفيان بن الحارث، وأنه لما قال:
وعزّ على سراة بني لؤي
بدل «هان» قال: ويروى «بالبويلة» بدل «بالبويرة» وأن المجيب له بالبيتين المتقدمين هو حسان، وما قدمناه هو رواية البخاري.
قال ابن سيد الناس: وما ذكره الشيباني أشبه.
قلت: كأنه استبعد أن يدعو أبو سفيان في حالة كفره على أرض بني النضير، وقد قدمنا وجهه، وكان أشراف بني النضير بنو الحقيق وحيي بن أخطب، فكانوا في من سار إلى خيبر، فدان «1» لهم أهلها، وأسلم منهم يامين بن عمير وأبو أسعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
وروى ابن شبة عن الكلبي قال: لما ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أموال بني النضير قال للأنصار: إن إخوانكم من المهاجرين ليست لهم أموال، فإن شئتم قسمت هذه الأموال بينهم وبينكم جميعا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم فقسمت هذه فيهم، قالوا: بل اقسم هذه فيهم واقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] . وقال ابن إسحاق: قسمها صلّى الله عليه وسلّم في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبو دجانة، ذكرا فقرا فأعطاهما منها، والله أعلم.
ثم ولد الحسين بن علي.
قلت: المشهور في ولادته أنها في الثالثة كما قدمناه، والله أعلم.
ثم كانت بدر الموعود.
قلت: هي بدر الثالثة لما تقدم، والله أعلم.
ثم كان مقتل سلام بن مشكم أي أبي رافع، ويقال: عبد الله بن أبي الحقيق وهي سرية عبيد الله بن عتيك. ثم رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهوديين اللذين كان يحني أحدهما على الآخر.
زواج أم سلمة هند بنت أبي أمية
قلت: وفيها في شوال تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة هند- وقيل: رملة- بنت أبي
__________
(1) دان لهم أهلها: خضع لهم أهلها وأطاعوهم.(1/231)
أمية، وهي أول من هاجر مع زوجها أبي سلمة إلى الحبشة ثم هاجرت إلى المدينة، كذا ذكر بعض أهل السير، وقال أبو عمر: تزوجها صلّى الله عليه وسلّم سنة اثنتين بعد بدر في شوال.
غزوة ذات الرقاع
وفيها غزوة ذات الرقاع بعد بني النضير بشهرين عند ابن إسحاق، وقيل: في الخامسة، وذكرها البخاري بعد خيبر لما في الصحيح من حضور أبي موسى الأشعري فيها، وهو من أصحاب السفينة، ولا مانع من التعدد، والله أعلم.
السنة الخامسة من الهجرة
السنة الخامسة: ثم فك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلمان من الرق، ثم خرج إلى دومة الجندل، فرجع ولم يلق كيدا. ثم توفيت أم سعد بن عبادة.
ثم كسف القمر في جمادى الآخرة؛ فصلى بهم كصلاة كسوف الشمس.
قلت: وجعلت اليهود يضربون بالطساس، ويقولون: سحر القمر. وروى ابن حبان في صحيحه أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى لكسوف القمر، والله أعلم.
ثم أصابت قريشا شدة، فبعث إليهم بفضة يتألفهم بها. ثم وفد بلال بن الحارث المزني، فكان أول وافد مسلم إلى المدينة. ثم قدم ضمام بن ثعلبة، ثم غزا المريسيع في شعبان، وفيها أنزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة رضي الله عنها.
قلت: وسيأتي أن الأشبه أن بني المصطلق هي هذه، والله أعلم.
ثم غزوة الخندق.
غزوة الخندق
قلت: هكذا ذكره ابن إسحاق، وهو المعتمد، وقال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع، وصححه النووي في الروضة، مع قوله بأن بني قريظة في الخامسة، وهو عجيب؛ لما سيأتي من أنها كانت عقيب الخندق، سميت بذلك لحفر النبي صلّى الله عليه وسلّم الخندق بإشارة سلمان الفارسي، وتسمى بالأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين فيها على الحرب، وهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب، وأنزل الله في ذلك صدر سورة الأحزاب، وذلك أن حيي بن أخطب في نفر من بني النضير خرجوا من خيبر إلى مكة، فحرضوا قريشا على الحرب، وخرج كنانة بن أبي الحقيق يسعى في بني غطفان ويحضهم على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن لهم نصف ثمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل إليهم طليحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش، فنزلوا مر الظهران، فجاءهم من أجابهم من بني سليم، وكانوا قد استمدوهم فصاروا في جمع عظيم- ذكر ابن إسحاق بأسانيد أن عدتهم عشرة آلاف، قال:(1/232)
وكان المسلمون ثلاثة آلاف- وقيل: كان المسلمون ألفا، والمشركون أربعة آلاف- وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار كانت عشرين يوما، ونزلت قريش بمجتمع السيول من رومة بني الجرف وزغابة، وغطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب نقمى إلى جانب أحد.
وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس: ونزل عيينة في غطفان ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أحد بباب نعمان، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، والخندق بينه وبين القوم، وجعل النساء والذراري في الآطام.
وقال ابن إسحاق: نزلت قريش بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة، ونزل عيينة في غطفان، وذكر ما تقدم من رواية ابن عباس المذكورة.
وروى الطبراني ورجاله ثقات عن رافع بن خديج قال: لم يكن حصن أحصن من حصن بني حارثة، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم النساء والصبيان والذراري فيه، وقال: إن لم يكن أحد فالمعن بالسيف، فجاءهن رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له «نجدان» أحد بني جحاش على فرس حتى كان في أصل الحصن، ثم جعل يقول للنساء: أنزلن إلي خير لكن، فحركن السيف، فأبصره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فابتدر الحصن «1» قوم فيهم رجل من بني حارثة يقال له: ظفر بن رافع، فقال: يا نجدان ابرز، فبرز إليه، فحمل عليه فقتله، وأخذ رأسه فذهب به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وروى البزار بإسناد ضعيف عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج للخندق جعل نساءه وعمته صفية في أطم يقال له «فارع» وجعل معهم حسان بن ثابت، فرقي يهودي حتى أشرف على نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى عمته، فقالت صفية: يا حسان قم إليه حتى تقتله، قال: لا، والله ما ذاك فيّ، ولو كان في لخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت صفية: فاربط السيف على ذراعي، ثم تقدمت إليه حتى قتلته، وقطعت رأسه، فقالت له: خذ الرأس فارم به على اليهود، قال: ما ذاك فيّ، فأخذت هي الرأس فرمت به على اليهود، فقالت اليهود: قد علمنا أن لم يك يترك أهله خلوفا ليس معهم أحد، فتفرقوا وذهبوا.
وروى أحمد بإسناد قوي عن عبد الله بن الزبير قال: كانت صفية في حصن حسان بن ثابت يوم الخندق، أي: وهو المسمى بفارع، فذكر الحديث في قتلها اليهودي وقولها لحسان: انزل فاسلبه «2» ، فقال: ما لي بسلبه حاجة.
__________
(1) ابتدر الحصن قوم: أسرع إليه جماعة.
(2) سلب القتيل: ما يؤخذ من القتيل من ثياب وسلاح ودابة.(1/233)
وروى الطبراني هذه القصة عن صفية رضي الله عنها في غزوة أحد، وفي إسناده اثنان، قال الهيثمي: لم أعرفهما، وبقية إسناده ثقات، والمذكور في كتب السير أن هذه القصة في الخندق، وأن بعضهم كان بحصن بني حارثة وبعضهم بفارع، وأن صفية رضي الله عنها لما فرغت من قتل اليهودي ورجعت إلى الحصن قالت لحسان: انزل فاسلبه، فإني لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
قال السهيلي: محمل هذا الحديث عند الناس أن حسان كان جبانا شديد الجبن، وقد دفع بعض العلماء هذا وأنكره، وقال: لو صح هذا لهجي حسان به، فإنه كان يهاجي الشعراء، وكانوا يردون عليه فما عيّره أحد بجبن، وإن صح فلعل حسان كان معتلا في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال، انتهى.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن عروة مرسلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أدخل نساءه يوم الأحزاب أطما من آطام المدينة، وكان حسان بن ثابت رجلا جبانا، فأدخله مع النساء، فأغلق الباب، وذكر القصة.
وممن ذكر القصة في الخندق ابن إسحاق، ويؤيده أن اليهود إنما غدروا في الخندق، وذلك أن حيي بن أخطب توجه إلى بني قريظة، فلم يزل بهم حتى غدروا، وبلغ المسلمين غدرهم، فاشتد بهم البلاء والحصار حتى تكلم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف وأوس بن قيظي أخو بني حارثة وغيرهما من المنافقين بالنفاق، وأنزل الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] الآيات. قال ابن عباس: وكان الذين جاؤوهم من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغطفان، وكان حيي بن أخطب أتى كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، فأغلق باب حصنه دونه، وقال: لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا، فقال له: إني جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش وغطفان على قادتهما وسادتهما قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، وبجهام قد هراق «1» ماءه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء، فلم يزل حتى نقض كعب عهده وبرئ مما كان بينه وبين محمد صلّى الله عليه وسلّم فاشتد الخوف بالمسلمين.
قال ابن إسحاق: ولم يقع بينهم حرب إلا مراماة بالنبل، ولكن كان عمرو بن عبد ود العامري اقتحم هو ونفر معهم خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، فبارزه علي فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، فبارزه الزبير فقتله، ويقال: قتله علي،
__________
(1) الجهام: السحاب لا ماء فيه. هراق: أفرغ.(1/234)
ورجعت بقية الخيول منهزمة، وقيل: اقتتلوا ثلاثة أيامة قتالا شديدا حتى يحجز الليل بينهم، سيما في اليوم الثالث، حتى شغلهم القتال عن صلاة العصر والمغرب- وقيل:
والظهر- وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: 239] قال مالك: ولم يستشهد يوم الخندق إلا أربعة أو خمسة، وذكر غيره ستة، وهم: سعد بن معاذ كما سيأتي، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهيل، وهم من بني عبد الأشهل، وثعلبة بن غنمة، والطفيل بن النعمان، وهما من بني سلمة، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار.
وكان من المناوشات بين الفريقين أن مات بعض بني عمرو بن عوف من أهل قباء، فاستأذن أقرباؤه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليدفنوه، فأذن لهم، فلما خرجوا إلى الصحراء لدفن ميتهم وافقوا ضرار بن الخطاب وجماعة من المشركين بعثهم أبو سفيان ليمتاروا له من قريظة على إبل له، فحملوا على بعضها قمحا، وعلى بعضها شعيرا، وعلى بعضها تمرا وتبنا للعلف، فلما رجعوا وبلغوا ساحة قباء وافقوا الذين كانوا يدفنون ميتهم، فناهضهم المسلمون وغلبوهم، فجرح ضرار جراحات، فهرب هو وأصحابه، وساق المسلمون الإبل بما عليها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان للمسلمين في ذلك سعة من النفقة.
إسلام نعيم بن مسعود الأشجعي
ثم أتى نعيم بن مسعود الأشجعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلما، ولم يعلم به قومه، فقال له:
خذل عنا «1» ، فمضى إلى بني قريظة، وكان نديما لهم، فقال: قد عرفتم محبتي، قالوا:
نعم، فقال: إن قريشا وغطفان ليست هذه بلادهم، وإنهم إن رأوا فرصة انتهزوها، وإلا رجعوا إلى بلادهم وتركوكم في البلاد مع محمد، ولا طاقة لكم به، قالوا: فما ترى؟
قال: لا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا، فقبلوا رأيه، فتوجه إلى قريش فقال لهم: إن اليهود ندموا على الغدر بمحمد، فراسلوه في الرجوع إليه، فراسلهم بأنا لا نرضى حتى تبعثوا إلى قريش فتأخذوا منهم رهنا فأقتلهم، ثم جاء غطفان بنحو ذلك، فلما أصبح أبو سفيان بعث عكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة بأنا قد ضاق بنا المنزل، ولم نجد مرعى، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، فأجابوهم إن اليوم يوم السبت، ولا نعمل فيه شيئا، ولا بد لنا من الرهن منكم لئلا تغدروا بنا، فقالت قريش: هذا ما حذركم نعيم، فراسلوهم ثانيا: إنا لا نعطيكم رهنا، فإن شئتم أن تخرجوا فافعلوا، فقالت قريظة: هذا ما أخبرنا نعيم، ثم بعث الله عليهم الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفته، لا تقر
__________
(1) خذّلهم: احملهم على الفشل وترك القتال.(1/235)
لهم قرارا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، والله ما أصبحتم بدار مقام «1» ، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، فتحملت قريش وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا «2» راجعين إلى بلادهم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا» .
وفي الذيل على أخبار المدينة لابن النجار لصاحبه العراقي عن الكلبي أنه قال: إن الملائكة اتبعوا الأحزاب حتى بلغوا الروحاء يكرون في أدبارهم، فهربوا لا يلوون على شيء «3» ، والله أعلم.
ثم كانت غزوة بني قريظة.
غزوة بني قريظة
قلت: قال أبو الربيع الكلاعي في الاكتفاء: ولما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة ومعه المسلمون، فلما كانت الظهر أتاه جبريل- ويقولون فيما ذكر ابن عقبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في المغتسل عندما جاءه جبريل، وهو يرجّل رأسه «4» ، قد رجّل أحد شقيه، فجاءه جبريل على فرس عليه اللأمة وأثر الغبار، حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له جبريل: غفر الله لك! قد وضعتم السلاح؟ قال: نعم، قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، اه.
وفي رواية أخرى أنه قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم، فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار، وأصله في البخاري في باب مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب من رواية أنس، قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في سكة بني غنم من موكب جبريل.
ورواه ابن سعد من طريق حميد بن هلال مطولا، لكن ليس فيه أنس، وأوله: كان بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين بني قريظة عهد، فلما جاءت الأحزاب نقضوه وظاهروهم، فلما هزم الله الأحزاب تحصنوا، فجاء جبريل فقال: يا رسول الله، انهض إلى بني قريظة، فقال: إن
__________
(1) دار المقام: مكان الإقامة.
(2) انشمروا راجعين: انكفأوا عائدين أدراجهم.
(3) لا يلوون على شيء: لا يهتمون لشيء.
(4) رجّل رأسه: سوّى شعره وزيّنه.(1/236)
في أصحابي جهدا، قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم، قال: فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار.
قلت: زقاقهم هو عند موضع الجنائز في شرقي المسجد، كما علم من ذكر منازلهم.
وفي رواية: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق والمسلمون، ووضعوا السلاح، أتى جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتجرا بعمامة «1» من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا وعشرين ليلة في رواية، وفي أخرى خمس عشرة، وعند ابن سعد عشرة، حتى أجهدهم الحصار، وقذف في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد وقال لهم: إما أن تؤمنوا بمحمد فو الله إنه نبي أو تقتلوا نساءكم وأبناءكم وتخرجوا مستقتلين ليس وراءكم ثقل «2» وتبيتوا المسلمين ليلة السبت، فقالوا: لا نؤمن ولا نستحل السبت، وأي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ وأرسلوا إلى أبي لبابة بن عبد المنذر أخي بني عمرو بن عوف من الأوس، وكانوا حلفاءهم، فاستشاروه في النزول على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إلى حلقه، يعني الذيح، ثم ندم، فتوجه إلى المسجد النبوي، وارتبط بسارية تعرف به اليوم حتى تاب الله عليه، واستشهد من المسلمين خلاد بن سويد من بني الحارث بن الخزرج، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بقتلها بعد ذلك، ومات في الحصار أبو سنان بن محصن الأسدي أخو عكاشة بن محصن، فدفنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مقبرة بني قريظة التي تدافن فيها المسلمون لما سكنوها، ولم يصب غير هذين، فلما اشتد بهم الحصار أذعنوا «3» أن ينزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الأوس: قد فعلت في موالي الخزرج- أي: بني قينقاع- ما علمت، فال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد قد أصابه سهم في أكحله «4» يوم الخندق، فأتاه قومه، فحملوه على حمار، ثم أقبلوا معه يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا
__________
(1) اعتجر بالعمامة: لفّها على رأسه وردّ طرفها على وجهه.
(2) الثقل: الحمل الثقيل. ومتاع المسافر.
(3) أذعنوا: انقادوا وأقروا.
(4) الأكحل: وريد في وسط الذراع يفصد أو يحقن.(1/237)
قال: لقد آن لسعد ألاتأخذه في الله لومة لائم، فجاء سعد فرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحكم إليه، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة:
سموات، ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، ثم خرج صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وفيهم عدو الله حيي بن أخطب؛ فإنه كان قد عاهد كعب بن أسد لئن رجعت قريش وغطفان لأدخلن معك في حصنك حتى يصيا بني ما أصابك، فلما رجعت الأحزاب دخل معه في حصنه، فكان ذلك، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل من أنبت منهم، ومن لم ينبت استحياه، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد كما سبق.
وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال: أن سعد بن معاذ حكم أيضا أن يكون دارهم للمهاجرين دون الأنصار، فلامه الأنصار، فقال: أحببت أن يستغنوا عن دوركم.
واختلف في عدتهم؛ فعند ابن إسحاق كانوا ستمائة، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة كانوا سبعمائة، وقال السهيلي: المكثر يقول: إنهم ما بين الثمانمائة إلى السبعمائة، وفي النسائي وابن ماجه بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، وكان الزبير بن باطا القرظي قد مر على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث، فجاءه ثابت لما قتل بنو قريظة وهو شيخ كبير، وذكّره بذلك، ثم ذهب فاستوهبه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوهبه إياه، فأتاه فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فاستوهب له امرأته وولده، فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم؟ فاستوهب له ماله، فأتاه فأعلمه، فقال: أي ثابت ما فعل فلان وفلان، وصار يذكر قومه ويصفهم، فقال له: قتلوا، قال:
فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فقدمه ثابت فضرب عنقه.
ثم قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأسهم للخيل، فكان أول فيء وقعت فيه السهمان «1» ، وأخرج منه الخمس، واصطفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عنده حتى توفي، وكان يحرص عليها أن يتزوجها، فقالت: تتركني في ملكك فهو أحق علي وعليك، فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة، فكان كذلك، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعتقها وتزوجها، وإنها ماتت
__________
(1) السّهمان: القرعة. والنصيب.(1/238)
في حياته مرجعه من حجة الوداع، وهذا الأثبت عند الواقدي، وبعضهم يقول: هي من بني النضير.
ولما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فمات شهيدا.
وفي البخاري ما يقتضي أن قريظة كانوا قد حاربوا قبل ذلك مع بني النضير، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم منّ عليهم، ولم أر التصريح بذلك، ولم يتعرض له الحافظ ابن حجر في شرحه، وقد قدمنا في بني النضير من رواية ابن مروديه ما يشهد له، ولفظ البخاري: عن ابن عمر قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومنّ عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأموالهم وأولادهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فأمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم: بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهودي بالمدينة، اه.
ورواه أبو داود بنحوه، إلا أنه قال: حتى حاربت قريظة بعد ذلك، يعني بعد محاربتهم الأولى وتقريرهم، ويؤخذ من ذلك أن إجلاء من بقي من طوائف اليهود بالمدينة كان بعد قتل قريظة.
وفي البخاري أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا حتى إذا جئنا بيت المدراس «1» قال:
أسلموا تسلموا، واعلموا أن الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن يجد منكم بما له شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وهو مقتض لأن ذلك كان بعد خيبر؛ لأن إسلام أبي هريرة بها في السنة السابعة، والله أعلم.
ثم كانت سرية عبيد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلي ثم اللحياني بعرنة «2» ، وفيها سقط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن فرسه «3» فجحش، وفيها دفت دافة العرب»
، فنهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث.
قلت: وتزوج زينب بنت جحش، وهي بنت عمته أميمة، وقيل: في الثالثة، وبسبها نزلت آية الحجاب، وأسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، والله أعلم.
السنة السادسة من الهجرة
السنة السادسة: في أولها أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثمامة بن أثال أسيرا، ثم كسفت الشمس ثانية بعد الكسوف الذي كان يوم مات ابنه إبراهيم.
__________
(1) المدراس: موضع يدرس فيه كتاب الله، ومنه مدارس اليهود.
(2) العرنة: موقف بعرفات.
(3) جحش شقه: انخدش جلده.
(4) دفت الدافة: جماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلد.(1/239)
قلت: لعل في النسخة خللا لما سنذكره من ولادة إبراهيم في الثامنة ووفاته في العاشرة، فالكسوف في السادسة هو الكسوف الأول، وفيها نزل حكم الظهار، والله أعلم.
وفيها قتل المشركون سرية محمد بن مسلمة ولم يفلت منهم غيره، وكانوا عشرة، ثم كانت سرية علي بن أبي طالب إلى فدك في مائة رجل، ثم كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، فظهر عليهم، فزوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تماضر بنت الإصبغ بن عمرو الكلبي وهو ملكهم، ثم أجدب الناس فاستسقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان في موضع المصلى فسقوا، ثم أرسل زيد بن حارثة في سرية، فسبى سلمة بن الأكوع في تلك السرية بنت مالك بن حذيفة، ثم كانت الحديبية، ثم أغار عيينة بن حصن الفزاري على لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستنقذها.
قلت: قد قدمنا في حدود الحرم أن لقاحه صلّى الله عليه وسلّم كانت ترعى بالغابة وما حولها، فأغار عليها عيينة يوم ذي قرد، وهو الموضع الذي كان فيه القتال، سميت الغزوة به، وتسمى أيضا غزوة الغابة.
قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بني لحيان وكان في شعبان سنة ست، لم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة في خيل من غطفان على لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأته، فقتلوا الرجل، واحتملوا المرأة في اللقاح، وكان أول من نذر بهم سلمة بن الأكوع، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم، فأشرف في ناحية سلع، ثم صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم حتى لحقهم، فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضّع، فإذا وجهت الخيل نحوه هرب، ثم عارضهم، وهكذا، وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صياحه، فصرخ بالمدينة: الفزع، الفزع، فترامت الخيل إليه، فلما اجتمعوا أمّر عليهم سعد بن زيد الأشهلي، وقال: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس، فقتل أبو قتادة رضي الله عنه حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه برده، وأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسلمين، فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة ولكنه قتيل، فظنوه هو، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل له، وأدرك عكاشة بن محصن رضي الله عنه أوبارا وابنه عمر بن أوبار، وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح، فقتلهما جميعا، واستنقذوا بعض اللقاح، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل بالخيل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، وأقام عليه يوما وليلة، وقال له سلمة: يا رسول الله لو سرّحتني في مائة رجل لاستنقذت(1/240)
بقية السرح وأخذت بأعناق القوم، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: إنهم ليقرون في غطفان، فقسم صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه في كل مائة جزورا، وأقاموا عليها، ثم رجع، وأفلتت امرأة الغفاري على ناقة من اللقاح حتى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته الخبر، وقالت: إني نذرت لله أن أنحرها إن أنجاني الله عليها، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: بئس ما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، هذه رواية ابن إسحاق، وقد ذكر فيها قتل اثنين من المسلمين.
وخرّج مسلم القصة عن سلمة مطولة ومختصرة، وخالف ما ذكره ابن إسحاق في مواضع: منها أنها كانت بعد انصرافه صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، وجعلها ابن إسحاق قبلها، ومنها:
أن فيه أن اللقاح كانت ترعى بذي قرد، وكذا هو في البخاري، وقال ابن إسحاق: بالغابة، وكذا هو في حديث سلمة الطويل، ولهذا قال عياض: إن الأول غلط، ويمكن الجمع بأنها كانت ترعى تارة هنا وتارة هناك، ومنها: أنه قال فيه: خرجت قبل أن يؤذن بالأولى فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أخذت لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه، فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم وقد أخذوا بذي قرد يسقون من الماء، وفي رواية لمسلم ما يقتضي أن سلمة كان مع السرح «1» لما أغير عليه، وأنه قام على أكمة «2» وصاح: يا صباحاه، ثلاثا، وهذا يرجح أن السرح كان بالغابة، ويبعد كونه بذي قرد، ولو كان بذي قرد لما أمكنه لحوقهم، ومنها: أن فيه أنه استنقذ سرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجملته، ومنها: أنه قال فيه: فرجعنا إلى المدينة، فو الله ما لبثنا بها إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال القرطبي: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، انتهى.
وما في الصحيح من التاريخ لها أصح مما في السير، ويمكن الجمع بتكرر الواقعة، ويؤيده أن الحاكم ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر؛ ففي الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفي الثانية خرج إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم في ربيع الآخر سنة خمس، والتالية هي المختلف فيها، انتهى. والله أعلم.
ثم كانت قصة العرنيين.
قصة العرنيين
قلت: وذلك أن ثمانية منهم، وفي رواية من عكل، قدموا فأسلموا واجتووا «3»
__________
(1) السّرح: ما يغدى به ويراح. والماشية.
(2) الأكمة: التل المرتفع.
(3) اجتووا المدينة: لم يوافقهم هواءها واستوبؤه.(1/241)
المدينة، وقالوا: إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، فبعثهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى لقاحه، وفي رواية «إبل الصدقة» وكأنهما كانا معا، فصح الإخبار بالبعث لكل منهما، ليشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلبهم كرز بن خالد الفهري في عشرين، فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وطرحهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، حتى ماتوا، هذا محصل ما في الصحيح، وذكر أهل السير أن اللقاح كانت ترعى ناحية الجماوات، وفي رواية بذي الجدر غربي جبل عير على ستة أميال من المدينة، وذكر ابن سعد عن ابن عقبة أن أمير الخيل يومئذ سعيد بن زيد أحد العشرة، فأدركوهم فربطوهم وأردفوهم على خيلهم، وردوا الإبل، ولم يفقدوا منها إلا لقحة واحدة من لقاحه صلّى الله عليه وسلّم تدعى الحنا، فسأل عنها، فقيل: نحروها، فلما دخلوا بهم المدينة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة.
غزوة بني المصطلق (المريسيع)
قال بعضهم: وذلك مرجعه من غزوة ذي قرد، فخرجوا بهم، نحوه، فلقوه بالزغابة، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم وصلبوا هناك، والله أعلم.
ثم غزا بني المصطلق، ومر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في انصرافه على المريسيع. وفيها كانت قصة الإفك.
قلت: قد قدم غزوة المريسيع في السنة الخامسة، وذكر أن فيها أنزلت آية التيمم، وقد اقتضى كلامه أن المريسيع وقعت مرتين: في الأولى التيمم، وفي الثانية الإفك، وفيه جمع بين ما ذكره كثير من أهل السير من أن المريسيع سنة خمس وبين ما نقله البخاري عن ابن إسحاق أنها سنة ست، لكن قد ثبت في الصحيح أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك؛ فلو كانت المريسيع التي هي غزاة بني المصطلق سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا؛ لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس، وقيل: أربع؛ فالأشبه أن بني المصطلق والمريسيع واحد، كلاهما في سنة خمس.
وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد أن التيمم كان في غزاة بني المصطلق، وجزم به في الاستذكار، وسبقه إليه ابن سعد وابن حبان.
وفي البخاري «غزوة بني المصطلق» ، وهي غزوة المريسيع» وفي الطبراني حديث: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق، وبنو المصطلق بطن من خزاعة، وكان رئيسهم الحارث بن أبي ضرار، وكان معه عليه الصلاة والسلام بشر كثير، خرج بهم إليهم لما بلغه أنهم يجمعون له، وكان معه ثلاثون فرسا وأم سلمة وعائشة، فهزمهم وأسر(1/242)
من الكفار جمعا عظيما، وتزوج جويرية بنت الحارث رئيسهم، فأعتق الناس ما بأيديهم من الأسرى لمكانها، وفي هذه الغزاة قال ابن أبي: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقين: 8] وقال: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقين: 7] وذلك أن ابن أبي خرج في عصابة من المنافقين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما رأوا أن الله قد نصر رسوله وأصحابه أظهروا قولا سيئا، واقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فظهر عليه المهاجري، فقال ذلك ابن أبي لقومه، فأخبر زيد بن أرقم بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فأجهد ابن أبي يمينه ما فعل، فحزن زيد بن أرقم لذلك، فأنزل الله تصديقه، واستأذن عبد الله بن عبد الله بن أبي النبي صلّى الله عليه وسلّم في قتل أبيه فيما رواه عروة بن الزبير، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقتل أباك، ولما كان بينهم وبين المدينة يوم تعجل عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة حتى جاء أبوه فلقال له ابنه: لا والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعلم اليوم من الأعز ومن الأذل، فقال له: أنت من بين الناس؟ فقال: نعم، أنا من بين الناس، فانصرف عبد الله حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاشتكى إليه ما صنع ابنه، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ابنه «أن خلّ عنه» فدخل المدينة، رواه ابن شبة.
وفي هذه السنة فرض الحج على الصحيح، كما سيأتي، والله أعلم.
السنة السابعة من الهجرة
السنة السابعة: فيها قصة أبي سفيان مع هرقل في الشام، وفي أولها كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك وبعث إليهم رسله، ثم كانت خيبر.
قلت: واستصفى صفية بنت حيي بن أخطب من المغنم، فأعتقها وتزوجها، وجاءته مارية القبطية هدية وبغلته دلدل، وأسلم أبو هريرة، وسمته صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت الحارث زوجة سلام بن مشكم، ثم صار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى وادي القرى، فحاصر أهله ليالي وأصاب غلامه مدعم سهم غرب «1» فقتله، وفي رجوعه إلى المدينة كان النوم عن صلاة الصبح، وروى بعضهم أنه كان في الرجوع من غزوة تبوك، وقال الواقدي: وفي المحرم منها جاء رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم- وكان حليفا في بني زريق، وكان ساحرا- فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير، وذكر قصة سحره، وفي رواية عن
__________
(1) سهم غرب: لا يدرى راميه، فضاع غريمه.(1/243)
الزهري بإسناد صحيح أن المدة التي مكث النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها في السحر سنة، وفي رواية أربعين ليلة، والله أعلم.
وفيها جاءته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وتزوج بها، ثم كانت عمرة القضية وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية.
السنة الثامنة من الهجرة
السنة الثامنة: فيها كانت مؤتة، ثم كان الفتح، ثم غزوة هوازن، ثم غزوة الطائف، وأمر على مكة عتاب بن أسيد، وأسلم مالك بن عوف النضري، وتألف المؤلفة من غنائم هوازن، ثم انصرف إلى المدينة في آخر ذي القعدة.
قلت: وفي هذه السنة ولد ابنه إبراهيم من مارية القبطية، وحلق رأسه يوم سابعه، وتصدق بزنة شعره فضة، وعقّ عنه بكبشين «1» ، ومات في عاشر ربيع الأول من السنة العاشرة وسنه عام ونصف، وقيل: عام وثلث، وفي الثامنة أيضا توفيت ابنته زينب، وهي أكبر أولاده، وكانت زوج أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس الذي أثنى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم في صهارته، تزوجها قبل البعثة، ولما قدم عليها مسلما ردها النبي صلّى الله عليه وسلم بالنكاح الأول على الصحيح لقدومه عقب تحريم المسلمات على المشركين، وذلك بعد صلح الحديبية، والله أعلم.
السنة التاسعة من الهجرة
السنة التاسعة: فيها هجر نساءه شهرا، ثم تتابعت الوفود، ثم فرض الحج.
قلت: قد اختلف في وقته، فقيل: قبل الهجرة، وهو غريب، والمشهور بعدها، فقيل: سنة خمس، وجزم به الرافعي في موضع، وقيل: ست، وصححه الرافعي في موضع آخر، وكذا النووي، وقيل: سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع، وصححه عياض، والله أعلم.
وأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحج أبا بكر رضي الله عنه، ثم نزلت براءة، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لينبذ إلى الناس عهدهم.
قلت: وفيها في شهر رجب كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزواته صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم.
السنة العاشرة من الهجرة
السنة العاشرة: في أولها قدم عدي بن حاتم بوفد طيء، ثم قدم وفد بني حنيفة، ثم
__________
(1) العقيقة: الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سبوعه عند حلق شعره.(1/244)
وفد غسان، ثم وفد نجران الذين كانت فيهم قصة المباهلة، ثم جاء جبريل يعلم الناس دينهم، ثم غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبوكا.
قلت: وهو مخالف لما قدمناه عن ابن إسحاق من كونها في التاسعة، والله أعلم.
ثم أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس بالحج في حجة الوداع ورجع، ثم مرض في صفر لعشر بقين منه، وتوفي صلّى الله عليه وسلّم لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الإثنين، انتهى ما ذكره رزين عن أبي حاتم.
قلت: وشهر ربيع هذا من الحادية عشرة، وكان ابتداء مرضه في بيت ميمونة، وقيل:
زينب بنت جحش، وقيل: ريحانة، وذكر الخطابي أن ابتداءه يوم الإثنين، وقيل: السبت، وقيل: الأربعاء، وحكى في الروضة قولين في مدته، فقيل: أربعة عشر، وهو الذي صدّر به، وقيل: ثلاثة عشر، وعليه الأكثر، وقيل: عشرة، وبه جزم سليمان التيمي، ومقتضى ما تقدم أن المدة تزيد على عشرين يوما، ولم أر من صرح به، ولا خلاف في أن الوفاة كانت يوم الإثنين، وكونه من ربيع الأول، كاد يكون إجماعا، لكن في حديث ابن مسعود عند البزار: في حادي عشر رمضان، وكونها في ثاني عشر ربيع الأول هو ما عليه الجمهور، وذهب جماعة إلى أنها في أوله، ورواه يحيى عن ابن شهاب، وقال: حين زاغت الشمس، وعن أسماء بنت أبي بكر أنه توفي للنصف من ربيع الأول، وقيل: ثانيه، ورجحه السهيلي، واستشكل قول الجمهور بأنهم اتفقوا على أن الوقفة في حجة الوداع كانت الجمعة، فأول ذي الحجة الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة توامّ أو نواقص أو بعضها، لم يصح كون الوفاة يوم الإثنين مع كونه ثاني عشر ربيع الأول، وأجاب البارزي باحتمال وقوع الثلاثة كوامل، واختلاف أهل مكة والمدينة في هلال ذي الحجة: فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها، فكان أول ذي الحجة الجمعة، وهو وما بعده كوامل، فأول ربيع الأول الخميس، وثاني عشرة الإثنين، ولا يخفى بعد هذا الجواب، وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات بأن بدء مرضه صلّى الله عليه وسلّم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر، ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، ومنه يعلم أن صفر كان ناقصا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والحرم ناقصين؛ فيلزم عليه نقص ثلاثة أشهر متوالية، وأما على قول من قال: «أول ربيع الأول» ؛ فيكون اثنان ناقصين وواحد كاملا، وكذا على قول من قال: «للنصف منه» .
وقال البدر ابن جماعة: يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت: أي بأيامها، فيكون موته في اليوم الثالث عشر، وتفرض الشهور كوامل؛ فيصح قول الجمهور، ويعكر(1/245)
عليه ما فيه من مخالفة أهل اللسان في قولهم «لاثنتي عشرة» فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي، وأن ما أرخ بذلك يكون واقعا في الثاني عشر.
قال الحافظ ابن حجر: فالمعتمد قول أبي مخنف أنه في ثاني ربيع الأول، وكأن سبب غلط غيره تغيير ذلك إلى الثاني عشر، وتبع بعضهم بعضا في الوهم.
وغسله صلّى الله عليه وسلّم علي بوصيته، والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران يصبون الماء، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة- وسحول: بلدة باليمن- وعن جعفر بن محمد عن أبيه: كفن في ثوبين صحاريين مما يصنع بعمان من كرسف «1» وبرد حبرة، وفي الإكليل ورواه يحيى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
كفن في سبعة أثواب، وصلّي عليه في حجرته بغير إمام؛ ونقل الأقشهري عن الحسين بن محمد الصدفي أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليه في وسط الروضة من مسجده، ثم حمل إلى بيته ودفن فيه.
قلت: هذا إنما هو معروف في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي مستدرك الحاكم ومسند البزار بسند ضعيف أنه صلّى الله عليه وسلّم أوصى أن يصلوا عليه أرسالا بغير إمام، ودفن صلّى الله عليه وسلّم ليلة الأربعاء، وقيل: يومها، وقيل: يوم الثلاثاء بعد أن عرف الموت في أظفاره، وقال قائلون: ندفنه بمسجده، وآخرون بالبقيع، ثم اتفقوا على دفنه ببيته، فحمل بالفراش، وحفر له في موضع الفراش، وروى يحيى عن ابن أبي مليكة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما هلك نبي إلا دفن حيث تقبض روحه، وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه بإخراج المشركين من جزيرة العرب كما في الصحيح من حديث ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك، ولفظه: وأمرهم بثلاث، فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيرهم» والثالثة إما سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا- أي قوله والثالثة إلى آخره- من قول سليمان: أي شيخ سفيان، قال الداودي: الثالثة هي الوصية بالقرآن، وقال المهلب: بل هي تجهيز جيش أسامة، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبي بكر في تنفيذ جيش أسامة، قال لهم أبو بكر: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد بذلك عند موته.
وقال عياض: يحتمل أن يكون قوله: «لا تتخذوا قبري وثنا» فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود، ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله:
«الصلاة وما ملكت أيمانكم» .
__________
(1) الكرسف: القطن.(1/246)
والذي أجلى المشركين من جزيرة العرب هو عمر رضي الله عنه؛ ففي الصحيح من حديث ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها، وكانت الأرض لما ظهر عليها لله وللرسول وللمؤمنين، فسأل اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نقركم على ذلك ما شئنا» فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء.
وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر: لما فدع «1» أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيبا، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال: نقركم على ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك، فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم، فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين، أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ وعاملنا على الأموال، وشرط ذلك لنا، فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة» فقال:
كانت هذه هزيلة من أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم فقال: كذبت يا عدو الله، فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك.
وظاهر هذا أن عمر رضي الله عنه إنما استند في إجلائهم لهذه القصة.
وروى ابن زبالة عن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» .
قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه الثلج «2» واليقين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» فأجلى يهود خيبر، قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك.
وروى البيهقي من حديث عمر مرفوعا: «لئن عشت إلى قابل لآخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» وخرجه مسلم بدون «لئن عشت» وفي مسند أحمد والبيهقي عن أبي عبيدة قال: كان آخر ما تكلم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» الحديث.
وروى أحمد بسند جيد عن عائشة قالت: آخر ما عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» .
__________
(1) الفدع: عوج في المفاصل كأنها قد فارقت مواضعها؛ وأكثر ما يكون في رسغ اليد أو القدم.
(2) أتاه الثلج: الرضى والاطمئنان واليقين.(1/247)
قال الجويني والقاضي حسين من أصحابنا: الجزيرة هي الحجاز، والمشهور أن الحجاز بعض الجزيرة.
ولما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتفرغ أبو بكر رضي الله عنه لإخراجهم، فأجلاهم عمر رضي الله عنه وهم زهاء أربعين ألفا، ولم ينقل أن أحدا من الخلفاء أجلاهم من اليمن مع أنها من الجزيرة؛ فدل على أن المراد الحجاز فقط.
وحكى أن بعض اليهود أظهر كتابا، وادعى أنه كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصحابة؛ فعرض على أبي بكر الخطيب البغدادي فقال: هذا مزور؛ لأن فيه شهادة معاوية، وهو أسلم عام الفتح، فلم يحضر ما جرى، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات في بني قريظة بسهم أصابه في الخندق، وذلك قبل خيبر بسنتين، وذلك من فوائد علم التاريخ، والله أعلم.(1/248)
الباب الرابع فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم النبوي
، والحجرات المنيفات، وما كان مطيفا به من الدور والبلاط، وسوق المدينة، ومنازل المهاجرين، واتخاذ السور، وفيه سبعة وثلاثون فصلا.
الفصل الأول في أخذه صلّى الله عليه وسلّم لموضع مسجده الشريف، وكيفية بنائه
تقدم أن ناقته صلّى الله عليه وسلّم لما بركت عند باب المسجد قال صلّى الله عليه وسلّم: «هذا المنزل إن شاء الله» وفي كتاب يحيى عن الزهري أنها بركت عند مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا «1» لغلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، وقال: اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، قاله أربع مرات.
وروى رزين نحوه عن أنس، ولفظه: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا المنزل إن شاء الله» ثم أخذ في النزول فقال: «ربّ أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين» ولم يقل قاله أربعا.
وفي كتاب يحيى عن الزهري أيضا أن المربد كان لسهل وسهيل، وأنهما كانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال حين بركت به راحلته: «هذا المنزل إن شاء الله» ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا.
قال يحيى تبعا لابن زبالة: وقال بعضهم: كان لغلامين يتيمين لأبي أيوب هما سهل وسهيل ابنا عمرو، فطلب المربد من أبي أيوب، فقال أبو أيوب: يا رسول الله المربد ليتيمين، وأنا أرضيهما، فأرضاهما، فأعطاه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاتخذه مسجدا. وعند ابن إسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لمن هذا؟ يعني المربد، فقال له معاذ بن عفراء: هو لسهل وسهيل ابني عمرو يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا، فأمر به أن يا بني. ويؤيده أنه وقع في مرسل ابن سيرين عند أبي عبيد في الغريب أنهما كانا في حجر معاذ بن عفراء.
والذي في صحيح البخاري أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة، كذا هو في رواية الجميع إلا أبا ذر، ففي روايته سعد بإسقاط الألف، ورواية الجماعة هي الوجه؛ إذ كان أسعد من السابقين إلى الإسلام، وهو المكنى بأبي أمامة، وأما أخوه سعد فتأخر إسلامه.
__________
(1) المربد: موقف الإبل ومحبسها. والمحبس.(1/249)
وقد يجمع باشتراك من ذكر في كونهما كانا في حجورهم، أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكر واحدا بعد واحد، سيما وقد روى ابن زبالة عن ابن أبي فديك قال: سمعت بعض أهل العلم يقولون: إن أسعدا توفي قبل أن يا بني المسجد، فابتاعه النبي صلّى الله عليه وسلّم من ولي سهل وسهيل.
وروى ابن زبالة في خبر: كان مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم لسهل وسهيل ابني أبي عمرو من بني غنم، فأعطياه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبناه مسجدا.
وفي الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى ملأ بني النجار بسبب موضع المسجد، فقال:
يا بني النجار، ثامنوني «1» بحائطكم هذا، فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
وعند الإسماعيلي «إلا من الله» وهو ظاهر في أنهم لم يأخذوا له ثمنا.
وفي رواية في باب الهجرة من الصحيح بعد ذكر تأسيس مسجد قباء: ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا.
ووقع في رواية ابن عيينة: فكلم عمهما- أي الذي كانا في حجره- أن يبتاعه منهما، فطلبه منهما فقالا: ما تصنع به؟ فلم يجد بدا من أن يصدقهما، فأخبرهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراده، فقالا: نحن نعطيه إياه، فأعطياه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبناه، أخرجه الجندي. وطريق الجمع بين ذلك- كما أشار إليه الحافظ ابن حجر- أنهم لما قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عن من يختص بملكه منهم، فعينوا له الغلامين، فابتاعه منهما أو من وليهما أن كانا غير بالغين. وحينئذ فيحتمل أن الذين قالوا: «لا نطلب ثمنه إلا إلى الله» تحملوا عنه للغلامين بالثمن، فقد نقل ابن عقبة أن أسعد عوّض الغلامين عنه نخلا له في بني بياضة.
وتقدم أن أبا أيوب قال: هو ليتيمين لي، وأنا أرضيهما، فأرضاهما، وكذلك معاذ بن عفراء، فيكون ذلك بعد الشراء. ويحتمل أن كلا من أسعد وأبي أيوب وابن عفراء أرضى اليتيمين بشيء، فنسب ذلك لكل منهم. وقد روي أن اليتيمين امتنعا من قبول عوض، فيحمل ذلك على بدء الأمر، لكن يشكل على هذا ما نقل عن التاريخ الكبير لابن سعد أن الواقدي قال: إنه صلّى الله عليه وسلّم اشتراه من ابني عفراء بعشرة دنانير ذهبا، دفعها أبو بكر الصديق، وقد يقال: إن الشراء وقع من ابني عفراء لأنهما كانا وليين لليتيمين، ورغب أبو بكر في
__________
(1) ثامنوني بحائطكم: ساوموني بحديقتكم.(1/250)
الخير كما رغب فيه أسعد، وأبو أمامة ومعاذ بن عفراء، فدفع لهم أبو بكر العشرة، ودفع كل من أولئك ما تقدم، ولم يقبله صلّى الله عليه وسلّم بلا ثمن أولا لكونه لليتيمين، لكن ابن سيد الناس نقل عن البلاذري أنه قال عقب كلامه الآتي: فعرض- يعني أسعد- على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذها ويغرم لليتيمين ثمنها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، وابتاعها منه بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر، انتهى؛ فيحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ أولا بعض المربد، ثم أخذ بعضا آخر؛ لما سيأتي من أنه زاد فيه مرة أخرى؛ فليست القصة متحدة. ورأيت بخط الأقشهري في كلام نقله عن أبي جعفر الداودي عن عبد الله بن نافع صاحب مالك أن المسجد كان مربدا لابني عفراء.
قلت: يحتمل نسبته إليهما لولايتهما على اليتيمين، أو أن لليتيمين أما تسمى عفراء، وأما ابنا عفراء المشهوران فهما معاذ ومعوذ ابنا الحارث، والذي في الصحيح من تسمية الغلامين سهل وسهيل أصح، والله أعلم.
وفي كتاب يحيى ما يقتضي أن أسعد بن زرارة كان قد بنى بهذا المربد مسجدا قبل مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه قال: حدثنا بكر ثنا محمد بن عمر ثنا معاذ بن محمد عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال: سمعت أم سعد بنت سعد بن الربيع تقول:
أخبرتني النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس الصلوات الخمس، ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل ابني رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، قالت: فأنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قدم صلّى بهم في ذلك المسجد وبناه، فهو مسجده اليوم.
ونقل ابن سيد الناس عن ابن إسحاق أن الناقة بركت على باب مسجده صلّى الله عليه وسلّم وهو يومئذ ليتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء سهل وسهيل ابني عمرو، ثم قال: وذكر أحمد بن يحيى البلاذري، قال: فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أبي أيوب، ووهبت له الأنصار كل فضل كان في خططها، وقالوا: يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا، فقال لهم خيرا، قالوا: وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يجمّع بمن يليه في مسجد له، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فيه، ثم إنه سأل أسعد أن يبيعه أرضا متصلة بذلك المسجد كانت في يديه ليتيمين في حجره يقال لهما سهل وسهيل ابنا رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم، كذا نسبهما البلاذري، وهو يخالف ما سبق عن ابن إسحاق وغيره، والأول أشهر، انتهى، وتشهيره للأول- وهو كون الغلامين ابني عمرو- تقدم ما يقتضيه، لكن تقدم أيضا ما يقتضي الثاني، وهو الأرجح فقدم صرح ابن حزم في الجمهرة، ورواه ابن زبالة عن ابن شهاب، وكذا ذكره ابن عبد البر. وذكر السهيلي فيما نقله عنه الذهبي ما يحصل به الجمع(1/251)
ويرفع الخلاف إلا أن فيه بعض مخالفة لما تقدم، فقال: سهل بن عمرو الأنصاري النجاري أخو سهيل صاحب المربد، وكانا في حجر أسعد بن زرارة، ينسبان إلى جدهما، وهما ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن النجار، انتهى. فعلى هذا يكون سقط من الرواية المتقدمة ابن عمرو بين رافع وأبي عمرو، وتصحف عبيد بعائذ، والله أعلم.
وقال المجد: ذكر البيهقي المسجد فقال: كان جدارا مجدرا ليس عليه سقف، وقبلته إلى القدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، وكان يصلي بأصحابه فيه، ويجمّع بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنخل التي في الحديقة وبالغرقد أن يقطع، وكان فيه قبور جاهلية، فامر بها فبنشت، وأمر بالعظام أن تغيّب، وكان في المربد ماء مسحل فسيره حتى ذهب- والمسحل: ممشى ماء المطر، انتهى. ولم أره في المعرفة للبيهقي، ولا في السنن الكبير، ولا في الدلائل، والمعروف أنه كان مربدا للتمر: أي يجفّف فيه التمر، وكأنه سماه حديقة لاشتماله على نخل؛ ففي الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «لما أخذه كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، فصفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضادتيه حجارة» وقد قدمنا الكلام على قطع هذا النخل في أحكام الحرم، وكأن معنى صف النخل قبلة له جعلها سواري في جهة القبلة ليسقف عليها كما في الصحيح «كان المسجد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل» وسيأتي فيما أسند يحيى أنه كان في جوف الأرض- أي أرض المربد- قبور جاهلية، فامر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقبور فنبشت، فرمى بعظامها، فأمر بها فغيبت، وكان في المربد ماء مستنجل «1» فسيره حتى ذهب» ووقع في رواية عطاف بن خالد عند ابن عائذ أنه صلّى الله عليه وسلّم «صلى فيه وهو عريش اثني عشر يوما، ثم بناه وسقفه» وسيأتي ما يشهد له.
وأسند ابن زبالة عن أنس قال: بناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- يعني المسجد- أول ما بناه بالجريد، قال: وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين.
قلت: وهو واه أو مؤول، والمعروف خلافه.
وأسند أيضا عن شهر بن حوشب قال: لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحجر بناء المسجد قيل له: عريش كعريش أخيك موسى سبع أذرع، وأسنده يحيى من غير طريقه عن شهر أيضا بلفظ: لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يا بني المسجد، وأورده رزين بلفظ: لما أراد
__________
(1) استنجل الماء: صفّى ماء النّزّ من أرضه.(1/252)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناء المسجد قال: قيل لي: عريش كعريش أخيك موسى سبعة أذرع، ثم الأمر أعجل من ذلك. وأسند يحيى عن الحسن قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال:
ابنوا لي مسجدا عريشا كعريش موسى، ابنوه لنا من لبن. وأورده رزين بلفظ: لما أخذ في بناء المسجد قال: ابنوا لي عريشا كعريش موسى، ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: كان إذا قام فيه أصاب رأسه السقف، وعمل فيه بنفسه صلّى الله عليه وسلّم ترغيبا لهم؛ ففي الرواية المتقدمة في الصحيح عقب قوله: «حتى ابتاعه منهما» وطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل معهم اللبن في ثيابه، ويقول وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربّنا وأطهر
ويقول:
اللهم إنّ الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
قال ابن شهاب: فتمثل صلّى الله عليه وسلّم بشعر رجل من المسلمين، ولم يبلغنا في الأحاديث أنه تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات، زاد ابن عائذ في آخره: التي كان يرتجزهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد.
والحمال مخفّف بمهملة مكسورة: أي هذا المحمول من اللبن أبر عند الله من حمال خيبر، أي ذات التمر والزبيب. وقوله «ربّنا» أي يا ربنا. وأسند يحيى عن الزهري في معنى قوله «هذا الحمال لا حمال خيبر» قال: كانت يهود إذا صرمت نخلها جاءتهم الأعراب بركائبهم فيحملون لهم عروة بعروة إلى القرى، فيبيعون، يكون لهذا نصف الثمن ولهؤلاء نصفه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك. وفي الرواية المتقدمة في الصحيح عقب قوله: «وجعلوا عضادتيه حجارة» فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم، يقولون:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فانصر الأنصار والمهاجره
ويذكر أن هذا البيت لعبد الله بن رواحة.
وعن الزهري: بلغني أن الصحابة كانوا يرتجزون به، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل معهم ويقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فارحم المهاجرين والأنصار
وكان لا يقيم الشعر، قال الله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69](1/253)
وفعل ذلك احتسابا وترغيبا في الخير؛ ليعمل الناس كلهم، ولا يرغب أحد بنفسه عن نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا أسند ابن زبالة عن مجمع بن يزيد أنه قال عقب ذلك: وعملوا فيه ودأبوا، فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنّبيّ يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلّل
وأسند أيضا أن علي بن أبي طالب كان يرتجز وهو يعمل فيه يقول:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
وأسند هو أيضا ويحيى من طريقه والمجد، ولم يخرجه، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده، فقرب اللبن وما يحتاجون إليه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضع رداءه، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم، وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون:
لئن قعدنا والنبيّ يعمل
البيت.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا نظيفا متنظفا، وكان يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه، ونظر إلى ثوبه، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب فأنشأ يقول:
لا يستوي من يعمر المساجدا
الأبيات المتقدمة.
فسمعها عمار بن ياسر، فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها، فمر بعثمان فقال: يا ابن سمية، ما أعرفني بمن تعرض، ومعه جريدة فقال: لتكفن أو لأعترضن بها وجهك، فسمعه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في ظل بيتي، يعني أم سلمة، وفي كتاب يحيى «في ظل بيته» - فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي، فإذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ، ووضع يده بين عينيه، فكف الناس عن ذلك، ثم قالوا لعمار: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا القرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب، فقال: يا رسول الله مالي ولأصحابك؟ قال: مالك وما لهم؟ قال: يريدون قتلي، يحملون لبنة لبنة ويحملون علي اللبنتين والثلاث، فأخذ بيده فطاف به في المسجد، وجعل يمسح وفرته «1» بيده من التراب ويقول: يا ابن سمية لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية.
__________
(1) الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، أو ما جاوز شحمة الأذن.(1/254)
وقد ذكر ابن إسحاق القصة بنحوه كما في تهذيب ابن هشام، قال: وسألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز فقالوا: بلغنا أن علي بن أبي طالب ارتجز به، فلا ندري أهو قائله أم غيره، وإنما قال ذلك علي رضي الله عنه مطايبة ومباسطة كما هو عادة الجماعة إذا اجتمعوا على عمل، وليس ذلك طعنا.
وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل أبي جعفر الخطمي قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا بني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول:
أفلح من يعالج المساجدا
فيقولها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول ابن رواحة:
يتلو القرآن قائما وقاعدا
فيقولها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفي الصحيح في ذكر بناء المسجد: وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» وقال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
وأسند ابن زبالة ويحيى عن مجاهد قال: رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يحملون الحجارة على عمار، وهو يا بني المسجد، فقال: «ما لهم ولعمار؟ يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وذلك فعل الأشقياء الأشرار» .
وأسند الثاني أيضا عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يبنون المسجد، فجعل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة وعمار بن ياسر لبنيتن لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمسح ظهره وقال: «يا ابن سمية لك أجران وللناس أجر، وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن، وتقتلك الفئة الباغية» .
وفي الروض للسهيلي: أن معمر بن راشد روى ذلك في جامعه بزيادة في آخره، وهي: فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية رضي الله عنهما فزعا فقال: قتل عمار، فقال معاوية: فماذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تقتله الفئة الباغية» فقال معاوية: دحضت «1» في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله من أخرجه.
وروى البيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه ما قال، قال:
أي رجل؟ قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد؛ فكنا نحمل
__________
(1) دحضت: زلقت.(1/255)
لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «تحمل لبنتين لبنتين وأنت ترحض «1» ، أما إنك ستقتلك الفئة الباغية، وأنت من أهل الجنة» فدخل عمرو على معاوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال: اسكت، فوالله ما تزال تدحض في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بيننا.
قلت: وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد؛ لأن إسلام عمرو كان في الخامسة كما سبق.
وأسند ابن زبالة عن حسن بن محمد الثقفي قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا بني في أساس مسجد المدينة ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فمر به رجل فقال: يا رسول الله ما معك إلا هؤلاء الرهط؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هؤلاء ولاة الأمر من بعدي.
وروى أبو يعلى برجال الصحيح إلا أن التابعي لم يسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه، وجاء عمر بحجر فوضعه، وجاء عثمان بحجر فوضعه، قالت: فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: هذا أمر الخلافة من بعدي.
وتقدم في تأسيس مسجد قباء نحو ذلك من غير ذكر أمر الخلافة.
وقال الأقشهري في روضته: روى صاحب السيرة ولم يسمه أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تبني له بيتا، وأن ترفع بنيانه بالرهص والحجارة- والرهص: الطين الذي يتخذ منه الجدار- فقال: كم أرفعه يا جبريل؟ قال:
سبعة أذرع، وقيل: خمسة أذرع، ولما ابتدأ في بنائه أمر بالحجارة وأخذ حجرا فوضعه بيده أولا، ثم أمر أبا بكر فجاء بحجر فوضعه إلى جنب حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم عمر كذلك، ثم عثمان كذلك، ثم عليا، انتهى ما ذكره الأقشهري ومن خطه نقلته.
وروى البيهقي في الدلائل عن سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لما بنى النبي صلّى الله عليه وسلّم المسجد وضع حجرا، ثم قال: ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هؤلاء الخلفاء من بعدي» .
وأسند يحيى عن أسامة بن زيد عن أبيه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه حجر، فلقيه أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أعطنيه، فقال: اذهب فاحتمل غيره، فلست بأفقر إليه مني.
__________
(1) رحض المحموم: عرق حتى كأنه غسل جسده.(1/256)
وعن مكحول قال: لما كثر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: اجعل لنا مسجدا، فقال:
خشبات وثمامات، عريش كعريش أخي موسى صلوات الله عليه، الأمر أعجل من ذلك.
ورواه رزين وزاد فيه: فطفقوا ينقلون اللبن وما يحتاجون إليه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل معهم، فلقيه رجل ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبنة فقال: أعطنيها يا رسول الله، فقال: اذهب فخذ غيرها، فلست بأفقر إلى الله مني.
ونقل المجد عن رواية محمد بن سعد نحوه، قال: وجاء رجل يحسن عجن الطين، وكان من حضرموت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رحم الله امرأ أحسن صنعته، وقال له: الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه.
وفي كتاب يحيى من طريق ابن زبالة عن الزهري: كان رجل من أهل اليمامة يقال له طلق من بني حنيفة يقول: قدمت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يا بني مسجده، والمسلمون يعملون فيه معه، وكنت صاحب علاج وخلط طين، فأخذت المسحاة أخلط الطين والنبي صلّى الله عليه وسلّم ينظر إلي ويقول: إن هذا الحنفي لصاحب طين.
وروى أحمد عن طلق بن علي قال: بنيت المسجد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسكا وأشدكم منكبا.
وعنه أيضا قال: جئت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يبنون المسجد، قال: فكأنه لم يعجبه عملهم، قال: فأخذت المسحاة فخلطت بها الطين، فكأنه أعجبه أخذي المسحاة وعملي فقال: دعوا الحنفي والطين فإنه من أصنعكم للطين.
وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه في أثناء كلام عن ابن شهاب في قصة أخذ المربد، قال: فبناه مسجدا، وضرب لبنه من بقيع الخبخبة ناحية بئر أبي أيوب بالمناصع والخبخبة:
شجرة كانت تنبت هناك.
وأسند يحيى من طريق عبد العزيز بن عمر عن يزيد بن السائب عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده سبعين في ستين ذراعا أو يزيد، ولبّن لبنه من بقيع الخبخبة، وجعله جدارا، وجعل سواريه خشبا شقة شقة، وجعل وسطه رحبة، وبنى بيتين لزوجتيه.
قال عبد العزيز: فسألت زيدا: أين بقيع الخبخبة؟ قال: بين بئر أبي أيوب وتلك الناحية، وهذا بقيع الغرقد لبقيع المقبرة، وقال: سألت عبد العزيز عن بقيع الخبخبة فقال:
هي- أي الخبخبة- يسار بقيع الغرقد حين تقطع الطريق وتلقاها عند مسجد يحيى، فقلت: ومن يحيى صاحب المسجد الذي ذكرت؟ فقال: يحيى بن طلحة بن عبيد الله.
قلت: بقيع الخبخبة لا يعرف اليوم كما ذكره شيخ مشايخنا الزين المراغي، لكن(1/257)
الخارج من درب البقيع إذا مشى في البقيع لجهة مشهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وصار مشهد سيدنا إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على يمينه يكون على يساره طريق تمر بطرف الكومة، فإذا سلكها انتهى بعد رأس العطفة التي على يمينه إلى حديقة تعرف قديما بأولاد الصيفي بها بئر ينزل إليها بدرج تعرف ببئر أيوب قديما وحديثا، وعن يسار الخارج من درب البقيع أيضا إذا سلك طريق سيدنا حمزة في شامي الحديقة المعروفة بالرومية حديقة تعرف بالرباطية وقف رباط اليمنة بها بئر. قال المراغي: تعرف ببئر أيوب أيضا، يتبرك بها الناس، وهي بالقرب من الحديقة المعروفة بدار فحل، وهي عن يسار بقيع الغرقد أيضا، قال الزين المراغي: ولعلها أقرب إلى المراد.
قلت: والذي يظهر أن الأولى هي المراد، لما سنبينه في الآبار.
وفي كتاب رزين ما لفظه: عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان بناء مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسميط لبنة على لبنة، ثم بالسعيدة لبنة ونصف أخرى، ثم كثروا فقالوا:
يا رسول الله لو زيد فيه، فبنى بالذكر والأنثى، وهي لبنتان مختلفتان، وكانوا رفعوا أساسه قريبا من ثلاثة أذرع بالحجارة، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع، وكذا في العرض، وكان مربعا، وفي رواية جعفر: ولم يسطح، فشكوا الحر فجعلوا خشبه وسواريه جذوعا، وظللوا بالجريد ثم بالخصف، فلما وكف «1» عليهم طينوه بالطين، وجعلوا وسطه رحبة، وكان جداره قبل أن يظلل قامة وشيئا، انتهى. والظاهر أنه ليس جميعه من كلام جعفر؛ بدليل قوله في الأثناء «وفي رواية جعفر» .
وقد ذكر ابن زبالة ويحيى من غير طريقه كلام جعفر متمحضا فأسندا عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بناء مسجده بالسميط لبنة لبنة، ثم إن المسلمين كثروا فبناه بالسعيدة، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت من يزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه، وبنى جداره بالأنثى والذكر، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، قال: نعم، فأمر به فأقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثم طرحت عليها العوارض «2» والخصف والإذخر «3» ، فعاشوا فيه، وأصابتهم الأمطار، فجعل المسجد يكف عليهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطيّن، فقال: لا، عريش كعريش موسى، فلم يزل كذلك
__________
(1) وكف سطح البيت: قطر بالماء.
(2) العوارض: قطع الخشب. الخصف: جلة تعمل من الخوص ليحفظ فيها التمر.
(3) الإذخر: حشيشة تسقف بها البيوت فوق الخشب ولها رائحة طيبة.(1/258)
حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان جداره قبل أن يظلل قامة، فكان إذا فاء الفيء ذراعا وهو قدمان يصلي الظهر، فإذا كان ضعف ذلك صلّى العصر، ثم نقلا عنه تفسير السميط والسعيدة والأنثى والذكر بما تقدم، ولم يذكرا ذرعا.
وفي الإحياء عن الحسن مرسلا: لما أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يا بني مسجد المدينة أتاه جبريل فقال: ابنه سبعة أذرع طولا في السماء، ولا تزخرفه، ولا تنقشه، انتهى.
وتقدم فيما نقله الأقشهري عن صاحب السيرة عن جبريل عليه السلام في ارتفاعه سبعة أذرع، وقيل: خمسة.
وأسند يحيى عن أسامة بن زيد عن أبيه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه حجر، فلقيه أسيد بن حضير، وذكر ما قدمناه، ثم قال: قال- يعني زيدا- ورفعوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، وكان في جوف الأرض قبور جاهلية، فأمر بالقبور فنبشت فرمى بعظامها، وأمر بها فغيبت، وكان في المربد ماء مستنجل فسربه حتى ذهب، وكان الذين أسسوا المسجد جعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي الجانبين الآخرين مثل ذلك فهو مربع، ويقال: إنه كان أقل من مائة ذراع، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، أي وهو في جهة القبلة اليوم، وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو باب آل عثمان اليوم، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة، ولما صرفت القبلة سد النبي صلّى الله عليه وسلّم الباب الذي كان خلفه وفتح هذا الباب، وحذاء هذ الباب- أي ومحاذيه- هذا الباب الذي سد. وعبر ابن النجار عن ذلك بقوله: ولما صرفت القبلة سد الباب الذي كان خلفه وفتح بابا حذاءه. قال المجد: أي تجاهه، انتهى.
وذكر الأقشهري في خبر عن ابن عمر ما يخالف هذا، فإنه قال: وعن عبد الله بن عمر قال: كان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زمانه من اللبن، وسقفه من غصن النخل، وله ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب عاتكة وهو باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه وهو باب عثمان، وهو الذي يسمى اليوم باب جبريل، ولما صرفت القبلة سد الباب الذي خلفه وفتح الباب الآخر، وهو الذي يسمى باب النساء، انتهى. وهو غريب، ولعل قوله: «وهو الذي يسمى باب النساء» من تصرفه وفهمه في معنى الخبر، ولذلك أورد عقبه حديث أبي داود مرفوعا «لو تركنا هذا الباب للنساء» لكن أبو داود بيّن أن الأصح أنه من قول عمر كما سيأتي، وعلى ما ذكره فلم يجعل للمسجد بعد التحويل بابا خلفه، وباب عن يمين المصلى، وباب عن يسار المصلى، ثم انتهوا إلى البناء باللبن، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحمل معهم اللبن في ثيابه ويقول:(1/259)
هذا الحمال لا حمال خيبر
الرجز المتقدم.
وروى أحمد عن أبي هريرة أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم، قال: قاستقبلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عارض لبنة على بطنه، فظننت أنها شقت عليه، فقلت: ناولنيها يا رسول الله، قال: خذ غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة.
زيادة النبي في مسجده
قلت: وهذا في البناء الثاني، أي لأن أبا هريرة لم يحضر البناء الأول؛ لأن قدومه عام فتح خيبر.
وأسند ابن زبالة من طريق ابن جريج عن جعفر بن عمرو قال: كان المربد لسهل وسهيل ابني عمرو فأعطياه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبناه، وأعان أصحابه أو بعضهم بنفسه في عمله، وكان علي بن أبي طالب يرتجز وهو يعمل فيه، قال: وبناه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين: بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد عليه مثله في الدور.
وروى الطبراني بإسناد فيه ضعيف عن أبي المليح عن أبيه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لصاحب البقعة التي زيدت في مسجد المدينة- وكان صاحبها من الأنصار- فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لك بها بيت في الجنة» قال: لا، فجاء عثمان فقال له: «لك بها عشرة آلاف درهم» فاشتراها منه، ثم جاء عثمان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله اشتر مني البقعة التي اشتريتها من الأنصاري، فاشتراها منه ببيت في الجنة، فقال عثمان: إني اشتريتها بعشرة آلاف درهم، فوضع النبي صلّى الله عليه وسلّم لبنة، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة، ثم دعا عمر فوضع لبنة، ثم جاء عثمان فوضع لبنة، ثم قال للناس: «ضعوا» فوضعوا.
وروى الترمذي وحسّنه في حديث قصة إشراف عثمان على الناس يوم الدار عن ثمامة بن حزن القشيري أن عثمان رضي الله عنه قال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعونني أن أصلي فيها ركعتين، قالوا: اللهم نعم، الحديث، وأخرجه الدارقطني أيضا، وكذا أحمد بنحوه.
وأخرجا أيضا حديثا طويلا عن الأحنف بن قيس فيه: أن عثمان رضي الله عنه قال:
أهاهنا علي؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله(1/260)
إلا هو أتعلمون أن رسلو الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أمن يبتاع مربد بني فلان غفر الله له، فابتعته بعشرين ألفا أو خمسة وعشرين ألفا، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: قد ابتعته، فقال: اجعله في مسجدنا وأجره لك، قالوا: اللهم نعم.
وأخرج خيثمة بن سليمان في فضائل عثمان عن قتادة قال: كانت بقعة إلى جنب المسجد فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشتريها ويوسعها في المسجد له مثلها في الجنة، فاشتراها عثمان، فوسعها في المسجد.
وأسند ابن زبالة عن خالد بن معدان قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن رواحة وأبي الدرداء ومعهما قصبة يذرعان بها المسجد، فقال: ما تصنعان؟ فقالا: أردنا أن نبني مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بنيان الشام، فيقسم ذلك على الأنصار، فقال: هاتياها، فأخذ القصبة منهما، ثم مشى بها حتى أتى الباب، فدحا بها «1» ، وقال: كلا، ثمام وخشيبات وظلة كظلة موسى، والأمر أقرب من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: إذا قام أصاب رأسه السقف.
وروى البيهقي في الدلائل من طريق يعلى بن شداد عن عبادة أن الأنصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله ابن بهذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد؟ فقال: ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى.
وروى البيهقي أيضا عن الحسن في بيان عريش موسى قال: إذا رفع يده بلغ العريش، يعني السقف.
وعن ابن شهاب: كانت سواري المسجد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جذوعا من جذوع النخل، وكان سقفه جريدا وخوصا ليس على السقف كثير طين، إذا كان المطر امتلأ المسجد طينا، إنما هو كهيئة العريش.
وفي الصحيح في ليلة القدر: وإني أريت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فليرجع، فرجعنا وما نرى في السماء قزعة «2» فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته.
الفصل الثاني في ذرعه وحدوده التي يتميز بها عن سائر المسجد اليوم
اعلم أن الذراع حيث أطلق فالمراد به ذراع الآدمي، وقد قدمنا في تحديد الحرم
__________
(1) دحا بها: دفعها ورماها.
(2) القزع: قطع السحاب المتفرقة في السماء.(1/261)
أنه ذراع غير ثمن من ذراع الحديد المستعمل بمصر وبمكة، وهو شبران تقريبا، وقد تحصلنا كما تقدم في ذرع المسجد على أربع روايات: الأولى: سبعون ذراعا في ستين أو يزيد، والثانية: مائة ذراع في مائة، وأنه مربع، والثالثة: أنه أقل من مائة ذراع، وهذا صادق بالأولى فليحمل عليها، الرابعة: أنه بناه أولا أقل من مائة في مائة، ثم بناه وزاد عليه مثله في الدور، ولا يصح أن يراد بذلك الأذرع قطعا؛ لأنها تقتضي أنه بعد البناء الثاني صار أحد امتداديه إما الطول أو العرض نحو مائتي ذراع، والامتداد الآخر نحوها، ولا شك أن حد مسجده صلّى الله عليه وسلّم من جهة المشرق غايته الحجرة الشريفة، فعرضه من جدارها إلى جدار المسجد الغربي، وذرع هذا القدر اليوم بعد الزيادات المجمع عليها لا تبلغ مائة وخمسين ذراعا كما اختبرته، بل تنقص أزيد من ستة أذرع، وقد أجمع المؤرخون على أن عمر وعثمان رضي الله عنهما زادا في المسجد من هذه الجهة، ثم غيرهما من الخلفاء؛ فالظاهر أن المراد من هذه الرواية الأشبار لا الأذرع، فيقتضي أن المسجد النبوي بعد البناء الثاني صار أحد امتداديه مائتي شبر، والامتداد الآخر نحوها؛ فيوافق رواية مائة ذراع في مثلها، على أن ما ذكره المتأخرون من التحديد بالأمور الآتية يقتضي أنه لم يكن مائة ذراع؛ فهو مقتض لترجيحهم الرواية الأولى، وهي سبعون ذراعا في ستين، وتكون السبعون للطول والستون للعرض.
وقد نقل النووي ذلك في منسكه عن خارجة بن زيد أحد فقهاء المدينة السبعة، ولفظه: بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده سبعين ذراعا في ستين أو يزيد، وهو الذي جزم به ابن النجار فقال: بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده مربعا، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وطوله سبعين ذراعا في ستين ذراعا أو يزيد، انتهى.
هذا، وقد قال يحيى قبيل ما جاء في حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: حدثني هارون قال:
حدثنا محمد بن يحيى- يعني صاحب مالك- قال: فيما كان انتهى إلينا من ذرع مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم من القبلة إلى حده الشامي أربعة وخمسون ذراعا وثلثا ذراع، وحده من المشرق إلى المغرب ثلاث وستون ذراعا، يكون ذلك مكسرا ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين ذراعا، انتهى.
وقال ابن النجار: اعلم أن حدود مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أي: الذي كان في زمنه- من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين التي في قبلة الروضة، ومن الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد، وأما من المشرق إلى المغرب فهو من حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الأسطوان الذي بعد المنبر، وهو آخر البلاط، انتهى.(1/262)
وفيما ذكره ابن النجار مناقشة: أما ما ذكره من التحديد بالدرابزينات من جهة القبلة وبالخشبتين من جهة الشام، فالخشبتان اليوم غير معروفتين، وقد نبه على فقدهما الزين المراغي، وكلام المطري يفهمه، ولم أر لهما ذكرا في كلام المتقدمين، نعم ذكر ابن زبالة كلاما فيه غموض يقتضي تحديد بعض جهات المسجد بعودين علا الكبس على أحدهما، وأن الآخر كان موجودا في زمانه، فلعل ذلك مأخذ ابن النجار، وعبارة ابن زبالة تنبو «1» عن ذلك؛ إذ لم يذكرهما في حد جهة الشام، والحد من هذه الجهة اليوم- على ما يعرف في زماننا- الحجران الآتي ذكرهما في صحن المسجد، وسيأتي ما يقتضي رد ذلك.
وذكر ذلك ابن جماعة في منسكه فقال: قد عرّف المتأخرون مقدار المسجد الذي كان عليه أولا فقالوا: كان على التربيع من الحجرة المقدسة إلى مكان السارية السابعة من جهة المغرب، ومن موضع الدرابزين الذي هو بين الأساطين المتصل بالصندوق أمام المصلى الشريف إلى موضع الحجرين المغروزين في صحن المسجد الشريف، انتهى.
ومستنده في ذلك قول المطري في الحجرين المذكورين يذكر أنهما حد المسجد من جهة الشام والمغرب، قال: لكنهما ليسا على سمت المنبر الشريف، بل هما داخلان إلى جهة المشرق بمقدار أربعة أذرع أو أقل، وكذا متقدمان إلى القبلة بمثل ذلك، قال: لأني اعتبرت ذلك بالذرع فوجدتهما ليسا على ذرع المسجد الأول.
قلت: كونهما داخلين عن سمت المنبر إلى جهة المشرق بما ذكر لا يقدح في كونهما الحد المذكور؛ لأن المراد أن جهة المغرب هناك في سمتهما، كما أن المراد أن جهة الشام في سمتهما، لا أنها ما يحاذي الحجرين فقط، ووقع الاستغناء عن تحرير ابتداء جهة المغرب بما تقدم له نقلا عن ابن النجار من الأسطوانة التي تلي المنبر من تلك الجهة، كما استغنى بكون الحجرة الشريفة حده من جهة المشرق؛ إذ لم يذكر حد لجهة المشرق مما يلي الحجرين في جهة الشام، وفي الحقيقة لم يقصد بهما سوى بيان جهة الشام، على أنه يحتمل أن مقدم المسجد كان أعرض من مؤخره كما هو موجود اليوم، فيكون الحجران حده من جهة المغرب حقيقة، وأما قوله إنهما متقدمان إلى القبلة بأربعة أذرع وإنهما ليسا على ذرع المسجد الأول يعني السبعين التي ذكرها ابن النجار فقد بناه على ما قاله أيضا من أن الدرابزينات التي ذكرها ابن النجار من جهة القبلة متقدمة على موضع الحائط القبلي؛ لأن الحائط القبلي كان محاذيا لمصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما جعل هذا الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف أي بين المصلى والدرابزينات سترة بين المقام الشريف وبين الأسطوانات، قال: وورد أيضا أنه كان بين الحائط القبلي وبين المنبر ممر الشاة، وبين
__________
(1) تنبو: تختلف.(1/263)
المنبر والدرابزين اليوم مقدار أربعة أذرع وربع ذراع، والمنبر لم يغير من جهة القبلة، وكذا المصلى الشريف، انتهى. فلم يعتبر الذرع من الدرابزينات.
وقد اختبرت أنا ذلك بنفسي من الدرابزينات المذكورة إلى الحجرين المذكورين فكان سبعين ذراعا بذراع اليد المتقدم ذكره، وقد قال ابن جماعة: إنه اختبر ذلك بذراع العمل فكان ستة وأربعين ذراعا وثلثي ذراع؛ فهو موافق لذرعنا، بل يرجح قليلا؛ لأن ذراع العمل ذراع ونصف راجح من ذراع اليد.
وأما ما ذكره المراغي في كتابه من الذرع فغير موافق لذرعنا؛ لأنه اعتمد في ذلك كما صرح به على ذراع المدينة الشريفة اليوم، وقد اختبرته فوجدته يزيد على ذراع اليد الذي حررناه بأكثر من قيراط، وقول المطري: «إن بين المنبر والدرابزين اليوم مقدار أربعة أذرع وربع» مخالف لما اختبرناه؛ فإن بينهما ثلاثة أذرع ونصف بالذراع الذي حررناه، لكن سيأتي أن المنبر اليوم ليس هو ذلك، وأنه قد اتضح لنا عند الحفر لتأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره صحة ما قاله المطري، وأن المنبر الذي أدركناه قدّم عن محل المنبر الأصلي لجهة القبلة أزيد من نصف ذراع، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر ابن زبالة ويحيى من طريقه نقلا عن غير واحد من أهل العلم تحديد المسجد الشريف من هذه الجهة فقالا: وعلامته في القبلة حروف المرمر الذي المنبر وسطه، وعلامته من الشام أربعة طيقان من ناحية المشرق والمغرب، وعلامة الطيفان الأربع أنهن مخضرات الأجواف بالفسيفساء كلهن.
قلت: والمرمر اليوم لا يظهر منه شيء. لكن يؤخذ من كلام ابن زبالة في وصف هذا المرمر أنه كان دكة مرتفعة حول المنبر قدر الذراع، وأنه ممتد من المغرب قدر ثلاثة أذرع، ومن المشرق ثلاثة، ومن القبلة ثلاثة، فإنه قال: حدثني محمد بن إسماعيل قال:
رأيت طنفسة «1» كانت لعبد الله بن حسن بن حسن تطرح قبالة المنبر على مرمر كان هناك، قال: فحبس عبد الله بن حسن سنة أربعين ومائة، وبقيت الطنفسة بعده أياما، ثم رفعت، قال: ثم إن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي رضي الله عنهم لما ولي المدينة سنة خمسين ومائة في خلافة أبي جعفر نقض المرمر ووسعه من جوانبه كلها حتى ألحقه بالسواري، فكلمه أبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان أن يدع له مصلاه فتركه ولم يلحق المرمر بالأساطين المقدمة؛ فالمرمر اليوم هو الذي عمل الحسن بن زيد، والمرمر الذي حول المنبر المرتفع عن المرمر الذي عمل الحسن بن زيد بين ستة أساطين ثلاثة أذرع من قبل القبلة وثلاثة أذرع من قبل المشرق وثلاثة أذرع من قبل المغرب، وهو مرتفع عن الأرض نحوا من ذراع، انتهى.
__________
(1) الطنفسة: النمرقة فوق الرّحل. والبساط.(1/264)
وقال في موضع آخر: عرض المرمر الذي حول المنبر ثمانية أذرع، وطوله ثماني عشرة ذراعا، وسماه في موضع آخر رخاما، وهو يطلق عليه لغة، وسيأتي ذكر هذه الدكة التي المنبر في وسطها عن ابن النجار حيث قال: وارتفاع الدكة التي المنبر عليها شبر وعقد، فكأن الكبس علا؛ فإنها كانت ذراعا في زمن ابن زبالة، وفي زمن ابن النجار شبرا وعقدا، ثم علا الكبس فلم يوجد اليوم، وقد ظهر أثرها وأثر الرخام المذكور عند حفر ما حول المنبر الشريف، وشاهدت الرخام الذي في قبلته كما سيأتي، وتلخص من هذا أن المرمر كان في جهة القبلة ثلاثة أذرع بعد المنبر، والظاهر أن عرض جدار المسجد الشريف أدخل في ذلك من جهة القبلة؛ فقد روى يحيى في ترجمة ما جاء في زيادة الوليد أن عمر بن عبد العزيز أحضر رجالا من قريش فأروه مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي زاد فيه عمر، والذي زاد فيه عثمان، فعلم عمر بن عبد العزيز المسجد الأول الذي كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان جدار القبلة من وراء المنبر ذراعا وأكثر من ذراع. وروى ابن زبالة أخبارا تتضمن أن جدار القبلة كان بينه وبين المنبر قدر ممر العنز، وفي العتبية ممر الرجل منحرفا، وفي الصحيح عن سهل: كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين الجدار ممر الشاة.
وفيه أيضا عن سلمة: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزه؛ فتعين ما أشرنا إليه من إدخال جدار المسجد في ذلك الممر الذي جعل علامة في جهة القبلة، وأما الطاقات الأربع التي ذكرها علامة لنهاية المسجد من جهة الشام فغير معروفة اليوم، إلا أنه سيأتي فيما نقله المرجاني عن الحارث المحاسبي ما يبين محلها.
وأما الجواب على ما ذكر المطري من كون الدرابزينات متقدمة فالظاهر أن ابن النجار فهم أن المراد إدخال عرض الجدار الذي كان موجودا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم لما تقرر عندنا من أن جدار المسجد من جملة المسجد، ويؤيده ما تقدم من التحديد بالمرمر من تلك الجهة، وما سيأتي في الفصل الثاني عشر من رواية أحمد عن نافع أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد من الأسطوانة- أي التي عند المصلى الشريف- إلى المقصورة؛ لأن ذلك هو الرواق الذي بين الأساطين التي في قبلة الروضة وبين الأساطين التي تليها في القبلة. وقد قال المراغي: إن الذي ظهر له أن الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف جعل في مكان الجدار القديم، ويشهد له ما سيأتي عن يحيى في ذرع ما بين المصلى الشريف وجدار القبلة اليوم، لكن عرض هذا الصندوق ذراعان، وبينه وبين الدرابزين أرجح من نصف ذراع، وذلك فيما يظهر أزيد من عرض الجدار القديم بنحو الذراع؛ لأني شاهدت لبنا أخرج من جدران الحجرة الشريفة في العمارة التي أدركناها أولا يزيد في الطول على الذراع، وعرضه نصف ذراع، وسمكه ربع ذراع، وفيه شيء مرتفع طوله وعرضه وسمكه واحد، وكل ثنتين منه طول لبنة مما قدمناه، والذي يظهر أنه كان من بقايا لبن الحجرة(1/265)
الشريفة التي كانت مبنية به أولا جعل للتبرك لأنه أتى غير مستو، والجدار مبني بالحجارة الوجوه المحكمة وبالقصة؛ فلا يناسبه وضع ذلك فيه، ولهذا جعل بين الحجارة الوجوه في أعالي الجدار، وقد تقدم أن الذي استقر عليه عرض الجدار في زمنه صلّى الله عليه وسلّم الأنثى والذكر، وهما لبنتان مختلفتان، واللبنتان المختلفتان من هذا اللبن الذي رأيناه أو اللبنة ونصف الآخرى وهو السعيدة يزيد على ذراع ونصف يسيرا، فيكون ذلك هو عرض الجدار في زمنه صلّى الله عليه وسلّم ويشهد له ما شاهدناه أيضا في عرض جدار الحجرة الشريفة على ما سنذكره، ثم اتضح الحال بظهور المرمر الذي في قبلة المنبر؛ فإنا وجدنا بينه وبين الدرابزين المذكور أرجح من ذراع، وبينه وبين طرف محل المنبر الأصلي من جهة القبلة ثلاثة أذرع سواء، كما ذكر ابن زبالة، فذلك هو عرض الجدار مع ما كان بين المنبر وبينه.
وأما ما ذكره ابن النجار من التحديد بالأسطوانة التي تلي المنبر من جهة المغرب وأنها آخر البلاط وبالحجرة الشريفة من جهة المشرق؛ فالبلاط الذي ذكره لا يوجد اليوم، وكأنه يريد به الرخام الذي كان المنبر وسطه، وقد عبر عن ذلك ابن جماعة كما تقدم بقوله: من الحجرة إلى مكان السارية السابعة من جهة المغرب، فإن السابعة من صف الأساطين المذكورة هي التي تلي المنبر من المغرب إن عددنا الأسطوان الملاصق للحجرة، ولم أر لما ذكره ابن جماعة مستندا في كلام المؤرخين سوى ما ذكره ابن النجار؛ فيتعين الحمل على الأسطوانة المذكورة، وقد ذرعت ما بين الأسطوانة التي تلي المنبر عند ظهره من المغرب إلى حائز عمر بن عبد العزيز الذي داخله الحجرة الشريفة بمقط؛ فكانت مساحته سبعة وخمسين ذراعا ونصف ذراع راجح، وعرض الحائز المذكور ذراع وربع راجح، كما تحرر لي عند عمارة ما نقض منه، وليس بينه وبين جدار الحجرة من هذه الجهة فضاء أصلا، بل هو لاصق به ليس بينهما مغرز إبرة خلاف ما ذكره المؤرخون؛ فيكون ما بين الأسطوانة المذكورة والحجرة الشريفة تسعة وخمسون ذراعا ينقص يسيرا، وكأن ابن النجار جرى على قول من تقدمه من المؤرخين في أن بين الحائز وجدار الحجرة فضاء من هذه الجهة، وظن أن عرض الحائز أكثر مما ذكرناه؛ فجعل نهاية قولهم في عرض المسجد ستين ذراعا أو يزيد إلى الأسطوانة التي تلي المنبر أو أن ذلك القدر الناقص لتفاوت الأذرعة، على أن الظاهر أن ابن جماعة لم يعتبر الأسطوانة اللاصقة بالحجرة، وأنه جعل السارية السابعة هي التي تلي السارية التي تلي المنبر في جهة المغرب، وهي الثانية من المنبر في تلك الجهة، فإنه قال: إنه ذرع ما بين الأسطوانة السابعة إلى حائز الحجرة الشريفة فكان ذلك اثنين وأربعين ذراعا وثلثي ذراع بذراع العمل.
قلت: وقد اعتبرت ما ذكره من الذرع بذراع العمل فرأيته ينتهي إلى الأسطوانة الثانية(1/266)
من المنبر في جهة المغرب، وذرعته بذراع اليد الذي حررناه فكان خمسا وستين ذراعا، وهو مطابق لما قاله ابن جماعة ولما اختبرناه بذراع العمل؛ لأن ذراع العمل ذراع وثلث من ذراع الحديد المستعمل بمصر، وذلك اثنان وثلاثون قيراطا، والذراع الذي حررناه أحد وعشرون قيراطا، فذراع العمل ذراع ونصف قيراط بالذراع الذي حررناه، وقد مال المراغي إلى اعتبار التحديد بهذه الأسطوانة- أعني الثانية من المنبر- فإنه ذكر عدم وجود البلاط اليوم، ثم قال: لكني اعتبرت ذرعه من المشرق إلى المغرب على رواية يحيى ثلاثة وستين، وهي من أقل الروايات؛ فكان من جدار الحجرة الشريفة يعني الحائز الظاهر إلى الأسطوانة الثانية من المنبر لا التي بعده ستون ذراعا تقريبا، قال: وعلى هذا يكون عرض جدار عمر بن عبد العزيز وما بينه وبين جدار الحجرة الشريفة الأصلي ثلاث أذرع تقريبا، انتهى. ولا يخفى ما فهم؛ لأنه جعل المسافة المذكورة ستين ذراعا تقريبا وهي خمسة وستون تحريرا، وتبع من تقدمه من المؤرخين في ثبات فضاء بين حائز عمر بن عبد العزيز وجدار الحجرة، فخمن أن ذلك مع عرض الحائز ثلاثة أذرع، وقد علمت أن عرض الحائز ذراع وربع يرجح يسيرا، وليس بينه وبين جدار الحجرة شيء.
وقد روى ابن زبالة ويحيى من طريقه أشياء في تحديد المسجد وذرعه يقتضي أن جدار المسجد الشريف في زمنه صلّى الله عليه وسلّم من جهة المشرق لم ينته إلى حائز عمر بن عبد العزيز، بل الحائز وبعض ما يليه من المغرب في موضع حجرة عائشة رضي الله عنها، وأن جدار حجرة عائشة كان فيما بين الأساطين اللاصقة بجدار القبر وبين الأساطين التي بينها المقصورة الدائرة على الحجرة الشريفة، وأنه صلّى الله عليه وسلّم كان قد بنى المسجد أولا وجعله ثلاث أساطين عن يمين المنبر في المغرب وثلاث أساطين عن يساره في المشرق، وأن نهايته من جهة المشرق كانت أولا أسطوان التوبة؛ لأنها تكون في موضع الجدار بعد الأساطين الثلاث، وأن مساحة ذلك من المشرق إلى المغرب ثلاث وستون ذراعا، وقيل:
خمس وخمسون، وأنه زاد فيه بعد ذلك من المشرق والمغرب، ومع ذلك لم ينته زيادته في المشرق إلى موضع حائز عمر بن عبد العزيز، وأنه لم يزد فيه من جهة القبلة ولا من جهة الشام.
قلت: وهو موافق لما روى أنه كان مائة ذراع كما سنبينه، ويرجحه عندي أن المنبر الشريف يكون حينئذ متوسطا للمسجد؛ إذ يبعد أنه صلّى الله عليه وسلّم لا يتوسط أصحابه ويقف على منبر في طرفهم، وكون المسجد النبوي لا ينتهي إلى موضع حائز عمر بن عبد العزيز كما قدمناه خلاف ما عليه متأخرو المؤرخين، لكنه حسن؛ إذ يبعد أن يا بني عمر بن عبد العزيز حائزه في شيء من المسجد، وينتقص الروضة الشريفة به، حاشاه من ذلك، والذي صح(1/267)
أن محل القبور الشريفة في صفة بيت عائشة، ولا بد للصفة من مرافق، فيظهر أن الحائط الذي في جوف الحائز هو حائط الصفة، والحائز فيما خرج عنها من بقية البيت.
ثم ظفرت في كلام المرجاني نقلا عن الحارث المحاسبي بما يصرح بذلك، لما سيأتي من أنه ذكر في تحديد المسجد ستة أساطين من جهة شرقي المنبر، ثم قال:
والروضة ما بين القبر والمنبر، فما كان منها في الأسطوانة السادسة التي حددت لك عن يمين المنبر فليس من المسجد الأول، وإنما كان من حجرة عائشة رضي الله عنها فوسع به المسجد، وهو من الروضة، انتهى.
ولنورد عبارة ابن زبالة فإن يحيى روى ذلك عنه من غير زيادة ولا مخالفة مع ما فيها من أشياء لا تعرف اليوم، ولكن إفادة هذه الأمور الغريبة التي لم يذكرها متأخرو المؤرخين اقتضت إيرادنا لذلك فنقول: أسند ابن زبالة عن عبيد بن عمر بن حفص بن عاصم أن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ثلاث أساطين مما يلي المشرق، وثلاث أساطين مما يلي المغرب، سوى ما خرج في الرحبة أي الأساطين المصفوفة من الرحبة إلى القبلة، ولولا ما سيأتي من التصريح بأن هذه الست كانت ثلاثة منها على يمين المنبر وثلاثة عن يساره- يعني في البناء الأول- لحملنا ذلك على أن ابتداء هذه الست من الأسطوانة التي تلي المنبر؛ فيكون نهايتها الأسطوان التي يلي أسطوان التوبة، ويكون جدار الحجرة بعدها، فيوافق التحديد المتقدم، لكنه قال عقبه: وقال جمهور الناس من أهل العلم وغيرهم: هو إلى الفرضتين اللتين في الأسطوانتين اللتين دون المربعيتن الغربية والتي في القبر.
قلت: لا تعرف اليوم في المسجد القديم مربعة غربية، غير أن الذي ظهر لي- من مقابلتها بمربعة القبر ومما سيأتي في بيان الحائز الذي عمل لمنع ماء المطر أن يغشى المسقف القبلي- أنها الأسطوانة العظيمة المثمنة اليوم في المسقف القبلي، فإنها كانت ركن رحبة المسجد في هذا المسقف من جهة المغرب، كما أن مربعة القبر كانت ركن الرحبة في جهة المشرق، قبل زيادة الرواقين اللذين ذكرهما في المسقف القبلي كما يؤخذ من مواضع في كلام ابن زبالة ويحيى، والذي يظهر أن تثمين الأسطوانة المذكورة حادث، وإنما كانت مربعة، كما ثمنوا ما ظهر من مربعة القبر وما يلي الحجرة منها باق على تربيعه، ومربعة القبر هي التي في نهاية الصفحة الغربية من الحائز الدائر على الحجرة من جهة الشام، وتعرف بأسطوان مقام جبريل عليه السلام كما سيأتي إيضاحه، والأسطوان التي دونها هي الملاصقة بالشباك الدائر على الحجرة اليوم، وهي بين المربعة وبين أسطوان الوفود؛ فيكون جدار الحجرة على هذا كان فيما بين مربعة القبر والتي يليها.
قال ابن زبالة عقب ما قدمناه عنه: واحتجوا بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف في(1/268)
المسجد في موضع مجلس بني عبد الرحمن بن الحارث، وأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأسه وهو معتكف في المسجد وهي في بيتها، وكان مالك بن أنس يقول: الجدار من المشرق في حد القناديل التي بين الأساطين التي في صفها أسطوان التوبة وبين الأساطين التي تلي القبر، وأرفه عمر بن عبد العزيز من ورائها في الأسطوانة التي تلي القبر.
قلت: ما نقله عن مالك صريح فيما قدمناه من أن جدار المسجد الشرقي كان فيما بين الأساطين اللاصقة بالقبر وبين الأساطين المقابلة لها؛ فيكون في محاذاة القناديل الآخرة من القبلة إلى الشام فيما بين هذه الأساطين، ويكون عمر بن عبد العزيز أخره إلى الأسطوان اللاصق بجدار القبر، وسيأتي ما يصرح بذلك من كلام المحاسبي أيضا وأما قوله: «واحتجوا إلى آخره» فوجه الاحتجاج أن معتكفه صلّى الله عليه وسلّم كان لاصقا بحجرته، بحيث إن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأسه وهو في معتكفه وهي في بيتها، ولهذا أورد ابن زبالة عقبه حديث «كان يدنو مني وأنا حائض فأرجله وهو في المسجد» ومجلس بني عبد الرحمن بن الحارث الذي ذكره ابن زبالة لا يعرف اليوم، وروى ابن زبالة ويحيى في بيان معتكفه صلّى الله عليه وسلّم أشياء سنذكرها إن شاء الله تعالى، والمناسب لما نحن فيه منها: أنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم سرير من جريد فيه سعفه يوضع بين الأسطوان التي وجاه القبر وبين القناديل، كان يضطجع عليه صلّى الله عليه وسلّم وقوله: «التي وجاه القبر» يريد به المواجهة له، وهي اللاصقة بشباك الدائر على الحجرة اليوم في صف أسطوان التوبة، بل قيل: إنها أسطوان التوبة كما سيأتي، وهذا مطابق لما ذكره مالك من أن الجدار كان في حد القناديل المذكورة.
وأسند ابن زبالة أيضا عن غير واحد من أهل العلم أن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ثلاث أساطين عن يمين المنبر وأنت مستقبل القبلة في موضع معتكف حسن بن زيد الذي كان يعتكف فيه، ومن الشق الآخر إلى أسطوان التوبة، وكان ذرعه من المشرق إلى المغرب ثلاثة وستين ذراعا، وقال عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه: كان خمسين في خمسين.
قلت: فيكون الحجر التي في شرقي المسجد أدخلت بعد أو بعضها في الزيادة الآتية أو أنها لم تستقر في شرقيه إلا بعد ذلك.
ثم قال ابن زبالة: قالوا: وعلامة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أي الذي بني عند مقدمه من مكة- وذكر علامات كانت في السقف المحترق والفسيفساء التي زالت فلا تعرف اليوم، ثم قال: وعلامة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي بني عند مقدمه من خيبر قالوا: ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد من القبلة في تلك البنية في حده الأول، وزاد فيه من ناحية(1/269)
المشرق إلى الأسطوان التي دون المربعة التي عند القبر، وعلامة تلك الأسطوان أن لها نجافا «1» طالعا في الرحبة من بين الأساطين، ومن المغرب إلى الأسطوان التي تلي المربعة التي لها نجاف أيضا من بين الأساطين، وظهر ذلك أي حد المسجد بحجارة، وعبارة يحيى: وقد صمد بحجارة تحت الحصباء، منها أرفة عند الأسطوان التي بين أسطوان التوبة وبين القبر في صف الأسطوان التي لها نجاف، ومن المغرب مثل ذلك بأرفة حجارة في الأرض مبنية، وترك مما يلي الشام لم يزد فيه، انتهى كلام ابن زبالة بحروفه.
وقوله: «ومن المغرب مثل ذلك» أي ظهر الحد بأرفة حجارة في الأرض، ولا أدري معنى قوله بأرفة «2» .
وذكر ابن زبالة أيضا في موضع آخر ذرع مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان في زمنه، يعني ما استقر عليه في آخر الأمر، ثم قال: وحده من شرقي المنبر أربع أساطين، ومن غربيه أربع أساطين، انتهى.
والعجب من ابن النجار فمن بعده من المؤرخين حيث لم يتعرضوا لهذا، لكن ابن النجار اعتذر في أول كتابه بأنه كان مجاورا بالمدينة، ولم تكن كتبه حاضرة عنده، وذكر ما يقتضي أنه كتب ذلك مما علق بفكره، والمطري جرى على منواله، وابن زبالة ويحيى عمدة في ذلك؛ فإنهما أقدم من أرخ للمدينة لأن ابن زبالة هو محمد بن الحسن أحد أصحاب الإمام مالك بن أنس، ويؤخذ من كلامه أنه وضع كتابه في صفر سنة تسع وتسعين ومائة، وأما يحيى فهو من أصحاب أصحابه، وكانت وفاته سنة سبع وسبعين ومائتين عن ثلاث وستين سنة، وأما ابن شبة فكان معاصرا ليحيى وقبله بيسير، ولم أظفر من كتابه بهذا المحل المشتمل على ذكر المسجد، ولو ظفرت به لكان الشفاء؛ فإنه يوضح الأمور إيضاحا تاما، وهو إمام ثقة، وابن زبالة وإن كان ضعيفا لكن اعتضد بموافقة يحيى له وروايته لكلامه من غير تعقيب.
ثم ظفرت في كلام المرجاني نقلا عن المحاسبي بما يوافق كلامه؛ فهو العمدة عندي.
قال المرجاني: قال الحارث بن أسد المحاسبي: حد المسجد الأول ستة أساطين في عرضه عن يمين المنبر إلى القناديل التي حذاء الخوجة، وثلاث سوار عن يساره من ناحية المنحرف منه، ومنتهى طوله من قبلته إلى مؤخره حذاء تمام الرابع من طيقان المسجد
__________
(1) النجاف: الناتئ المشرف على الشيء.
(2) الأرفة: علامة تنصب، تبين الحدّ بين الأرضين.(1/270)
اليوم: أي في زمنه، وما زاد على ذلك فهو خارج عن المسجد الأول، قال- يعني المحاسبي- وقد روى عن مالك أنه قال: مؤخر المسجد بحذاء عضادة الباب الثاني من الباب الذي يقال له باب عثمان، أعني العضادة الآخرة السفلى، وهو أربع طيقان من المسجد، ثم قال: والروضة ما بين القبر والمنبر، إلى آخر ما قدمناه عنه.
وقوله «عن يمين المنبر» أي في جهة المشرق، لما سبق عنه خلاف ما تقدم في كلام ابن زبالة، فإنه عنى يمين مستقبل المنبر، والطيقان التي ذكرها لها ذكر في كلام ابن زبالة ويحيى كما تقدم، وهي غير موجودة اليوم، والباب الثاني من باب عثمان هو المعروف اليوم بباب النساء؛ فهو صريح في رد ما تقدم من تحديد جهة الشام بالحجرين الموجودين اليوم في صحن المسجد، ومؤيد للرواية المتقدمة في الذرع، وهي رواية مائة ذراع في مائة ذراع؛ لأنه يقرب من ذلك.
وقد تحصلنا من هذا مع ما تقدم عن المتأخرين على خلاف في نهاية المسجد النبوي من جهة المغرب.
فأحد الأقوال:
أنه إلى الأسطوانة التي تلي المنبر من تلك الجهة، وهو الذي عوّل عليه ابن النجار ومن اتبعه.
والثاني:
أنه إلى التي تليها، وهي الثانية من المنبر من تلك الجهة أيضا، وهما بعيدان.
والثالث:
أنه إلى الأسطوانة الثالثة من المنبر في تلك الجهة، وقد اقتضى كلام ابن زبالة أن ذلك حد المسجد قبل زيادة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه، خلاف ما يظهر من كلام المحاسبي.
والرابع:
أنه إلى الأسطوانة الرابعة من المنبر؛ لما تقدم من أنه كان على ثلاثة أساطين عن يمين المنبر؛ فيكون جداره الغربي في موضع الأسطوانة الرابعة في صفها من جهة القبلة أسطوان مربع من أسفله عن الأرض بقدر الجلسة، وفي صفه من جهة الشام أسطوان محراب الحنفية المحدث.
والخامس:
أنه إلى الأسطوانة الخامسة من المنبر؛ لما تقدم من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زاد فيه بعد فتح خيبر من جهة المغرب بقدر أسطوان آخر، كما يؤخذ مما تقدم، ولما صرح به ابن زبالة كما قدمناه أيضا حيث قال في حده: وعن غربيه أربع أساطين؛ فينتهي حده إلى الأسطوانة الخامسة من المنبر، وهي التي تلي الأسطوانة المذكورة في جهة المغرب في صفها، وهي مربعة من أسفلها بقدر الجلسة أيضا، وفي صفها من جهة الشام الأسطوان التي تلي محراب الحنفية من جهة المغرب، فهاتان المربعتان هما اللتان يتردد فيما يكون منهما في موازاة حد المسجد النبوي من جهة المغرب، وقد ذهب تربيعهما في العمارة(1/271)
المتجددة في زماننا بعد الحريق؛ والمربعة الثانية- أعني الخامسة من المنبر- هي التي يترجح عندي أيضا؛ لأن تجاهها في حائط القبلة طراز آخذ من السقف نازل إلى العصابة السفلى الظاهرية، لكنه انقشر بعضه عند إصلاح العصابة العليا وتبييض الجدار في العمارة التي أدركناها أولا، وذهب منه ما كان بين العصابتين، وبعض ما فوق العليا، وبقي منه ما بين العصابة العليا والسقف، ثم ذهب بقيته في الحريق الحادث في زماننا، وبقي موضعه أصباغ ملونة في الجدار من صناعة الأقدمين، وقد ذهب ذلك عند هدم الجدار القبلي؛ فالظاهر أنه علامة نهاية المسجد النبوي من هذه الجهة، خلاف ما سيأتي عن المطري في جعله علامة لنهاية زيادة عثمان رضي الله عنه؛ لوجوه:
الأول: أني ذرعت من الأسطوان التي المنبر إلى الأسطوان المحاذية لهذا الطراز؛ فكان ذلك سبعا وثلاثين ذراعا، فإذا أضفنا ذلك إلى الذرع المتقدم فيما بين الأسطوان التي تلي المنبر وبين الحجرة الشريفة، وهو نحو الستين ذراعا كما تقدم، قارب ذلك المائة التي تقدمت الرواية بها.
الثاني: أنه يبعد أن يجعل هذا الطراز لزيادة عثمان رضي الله عنه كما زعمه المطري، ويترك التعليم للمسجد الأصلي والاعتناء به أشد. وقد قال ابن زبالة: إن له علامات في الفسيفساء، والظاهر أن الفسيفساء لما زالت جعل هذا بدلها.
الثالث: أنه سيأت أن عمر لما زاد في المسجد جعل عرضه مائة وعشرين ذراعا، وأنه لم يزد فيه من جهة المشرق شيئا؛ فيكون نهاية المسجد في زمنه من جهة المشرق الحجرة الشريفة، وقد علمت أن من الحجرة الشريفة إلى ما يحاذي الطراز المذكور ينقص عن المائة، فكيف يكون نهاية زيادة عثمان؟ وعثمان قد زاد أسطوانا من جهة المغرب على زيادة عمر، فلو كان ذلك الطراز نهاية زيادة عثمان لزم أن يكون عرض المسجد في زمن عمر نحو التسعين، ولا قائل به.
الرابع: أنه سيأتي أن عثمان رضي الله عنه لم يزد في جهة المغرب غير أسطوانة واحدة، وأن زيادة الوليد من المغرب أسطوانتان، ولا شك أن من الأسطوانة التي تحاذي الطراز المذكور إلى جدار المسجد الغربي خمس أساطين، فإذا سقط منها ثلاث أساطين لعثمان رضي الله عنه وللوليد بقي أسطوانتان لزيادة عمر رضي الله عنه، وهما يقربان من عشرين ذراعا التي زادها عمر رضي الله عنه على المائة كما سيأتي.
الخامس: أن موضع المنبر لم يغير كما سيأتي، ويبعد كل البعد أن يجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم موضع منبره في طرف مسجده ولا يتوسط أصحابه في حال قيامه.
السادس: أنه سيأتي أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد شيئا من دار العباس وأن(1/272)
ما بقي منها زاد عثمان رضي الله عنه بعضه، وما بقي دخل في دار مروان بن الحكم.
وروى يحيى في قصة زيادتها ما يصرح بأنها كانت ملاصقة بجدار المسجد النبوي، بل روي أنه كان لها ميزاب يصب فيه، وقد نقل يحيى أنها كانت فيما بين الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم، أي والباب الذي يلي دار مروان بن الحكم؛ لما تقدم من دخول بعضها في دار مروان؛ فوجب أن تكون المربعة المذكورة أول دار العباس وآخر المسجد النبوي.
السابع: ما قدمناه من أن المربعة الغربية إذا أطلقت، فالمراد بها الأسطوانة التي كانت ركن صحن المسجد في المغرب عند نهاية المسقف القبلي قبل زيادة الرواقين الآتيين فيه، وهي المثمنة اليوم؛ فهي المرادة بما تقدم عن الجمهور من أن المسجد النبوي كان إلى الفرضتين اللتين في الأسطوانتين اللتين دون المربعتين الغربية والتي في القبر كما نقله ابن زبالة، ولا شك أن الأسطوانة الخامسة من المنبر في جهة المغرب دون المربعة المذكورة؛ لأن المربعة المذكورة هي السادسة من المنبر، فوضح أنها المراد بذلك، فيكون الجمهور على رواية أن المسجد كان مائة في مائة، ومما يرجح هذه الرواية أيضا ما تقدم عن المحاسبي من تحديد مؤخر المسجد الأول نقلا عن مالك بعضادة الباب الثاني من باب جبريل- وهو باب النساء- وما سيأتي من أن باب الرحمة- ويعرف بباب عاتكة- لم يغيره عمر رضي الله عنه، يعني أنه نقله فأخره فقط وجعله في تجاه الباب الأول، لأنه زاد في المسجد من جهة المغرب، وبين باب الرحمة وبين الحجرين اللذين ذكر أنهما حد المسجد من جهة الشام تفاوت ظاهر؛ لتأخره عن موازاتهما كثيرا، وكأنهما إنما جعلا هناك تميزا لفوهتي بالوعة عندهما الحجران المذكوران هناك؛ فالذي يترجح في النقد رواية المائة وما ذكرناه من التحديد، ويحتمل أن ابن النجار لما رأى اختلاف الروايات أراد الأخذ بالأقل لأنه المحقق فذكر التحديد المتقدم، وتبعه من بعده، على أنه اعتذر في أول كتابه بغيبة كتبه، وأن الحفظ قد يزيد وينقص، ولما اتضح ذلك للمقر الشجاعي شاهين الجمالي ناظر الحرم الشريف النبوي وشاد عمائره وشيخ خدامه اتخذ لأعالي الأسطوانة الخامسة من المنبر من صف الأساطين التي في قبلة المنبر طرازا متصلا بالسقف منقوشا فيه أن ذلك هو الذي استقر عليه الأمر في نهاية المسجد النبوي وحده، فالله تعالى يوفقه للمداومة على حفظ الحدود، ويلحقه بالمقر بين الشهود.
ويتفرع على ذلك مسألة ذكرها النووي فقال في شرح مسلم والمناسك وغيرهما: إن الصلاة إنما تتضاعف في المسجد الذي كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم دون بقية الزيادات، ولم يحك غيره، لكن الخطيب بن حملة نقل عن المحب الطبري أن المسجد المشار إليه في حديث(1/273)
المضاعفة هو ما كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم مع ما زيد فيه، لأخبار وآثار وردت في ذلك، واستحسنه ابن حملة على ما ذهب إليه النووي في كتبه من التخصيص، مع أن البرهان ابن فرحون نقل في شرحه لابن الحاجب الفرعي أنه لم يخالف في هذه المسألة غير النووي، وأن الشيخ محب الدين الطبري نقل في كتابه الإحكام أن النووي رجع عن ذلك، قال: ونقل أبو عبد الله بن فرحون في شرح مختصر الموطأ أنه وقف على كتاب من كتب المالكية فيه أن مالكا سئل عن ذلك فقال: ما أراه عليه السلام أشار بقوله: «في مسجدي هذا» إلا لما سيكون من مسجده بعده، وأن الله أطلعه على ذلك، انتهى.
قلت: أما قوله «إنه لم يخالف في ذلك إلا النووي» فممنوع؛ فقد نقل ذلك ابن الجوزي في الوفاء عن ابن عقيل الحنبلي، وأما ما نقله عن الإحكام للطبري فقد راجعتها فرأيته ترجم لبيان أن مسجده صلّى الله عليه وسلّم المشار إليه بالتفضيل هو الموجود في زمنه مع ما زيد فيه، وأورد بعض الأخبار الآتي ذكرها في آخر الفصل الثاني عشر، ثم قال: وقد يتوهم بعض من لم يبلغه ذلك قصر الفضيلة على الموجود في زمنه صلّى الله عليه وسلّم لمكان الإشارة، وقد وقع ذلك لبعض أئمة العصر، فلما رويت له ما سبق جنح إليه وتلقاه بالقبول، انتهى.
فكأن ابن فرحون فهم أن المراد من قولهم «بعض أئمة العصر» النووي.
وأما ما حكاه عن مالك فقد نقله الأقشهري في روضته عن عبد الله بن نافع صاحب مالك عن مالك، ولفظه في أثناء كلام: قيل له- أي لمالك- فحد المسجد الذي جاء فيه الخبر هو على ما كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم أو على ما هو الآن؟ قال: بل هو على ما هو الآن، قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بما يكون بعده، وزويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها، وتحدث بما يكون بعده، فحفظ ذلك من حفظه في ذلك الوقت، ونسي ذلك من نسيه، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون المهديون أن يزيدوا فيه بحضرة الصحابة ولم ينكر عليهم ذلك منكر، انتهى.
قلت: ومتمسك من ذهب إلى التخصيص الإشارة في قوله «مسجدي هذا» ولعله صلّى الله عليه وسلّم إنما جاء بها ليدفع توهم دخول سائر المساجد المنسوبة إليه بالمدينة غير هذا المسجد، لا لإخراج ما سيزاد فيه، وقد سلّم النووي أن المضاعفة في المسجد الحرام تعم ما زيد فيه، فليكن مسجد المدينة كذلك، كما أشار إليه ابن تيمية، قال: وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم، وكان الأمر عليه في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، فإن كلّا منهما زاد في قبلة المسجد، وكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه، ويمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، قال:(1/274)
وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، إلا أن بعض المتأخرين ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت له سلفا في ذلك.
وسيأتي في زيادة عمر بن الخطاب ما ورد من الأخبار والآثار المقوية لذلك وليست مسألة الحلف على ألايدخل هذا المسجد فزيد فيه من هذا القبيل، لأن الأيمان مبناها على العرف.
الفصل الثالث في مقامه الذي كان يقوم به صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة قبل تحويل القبلة، وبعدما جاء في تحويلها
روينا في البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] فتوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 142] فصلى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.
وأسند يحيى عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا وقف يصلي انتظر أمر الله في القبلة، وكان يفعل أشياء مما لم يؤمر بها ولم ينه عنها من فعل أهل الكتاب، قال:
فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي، فأشار له جبريل: يا محمد صلّ إلى البيت، وصلّى جبريل عليه السلام إلى البيت، قال: فدار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى البيت، قال: فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إلى وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:
144] قال: فقال المنافقون: حن محمد إلى أرضه وقومه، وقال المشركون: أراد محمد أن يجعلنا له قبلة، وأن يجعلنا له وسيلة، وعرف أن ديننا أهدى من دينه، وقالت اليهود للمؤمنين: ما صرفكم إلى مكة وتركتم قبلة موسى ويعقوب والأنبياء؟ والله ما أنتم إلا تعبثون، وقال المؤمنون: لقد ذهب منا قوم ماتوا ما ندري أكنا نحن وهم على قبلة أم لا؟
فأنزل الله تعالى في ذلك: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 142- 143] .
وروى ابن زبالة عن عثمان بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا وقف يصلي انتظر أمر الله في القبلة، وكان يفعل أشياء مما لم يؤمر بها ولم ينه عنها من فعل أهل(1/275)
الكتاب، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الظهر في مسجده قد صلّى ركعتين إذ نزل عليه جبريل فأشار إليه أن صلّ إلى البيت، وصلّى جبريل إلى البيت، وذكر نحو ما تقدم.
وأسند يحيى عن رافع بن خديج قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، وأمر أن يوجّه إلى المسجد الحرام، فاستدار، قال رافع: فأتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر أن يوجه إلى الكعبة، قال: فأدارنا إمامنا إلى الكعبة ودرنا معه.
وعن ابن عمر قال: بينما نحن في صلاة الصبح بقباء جاءهم رجل فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها، وكانت قبلة الناس إلى الشام، فاستداروا وتوجّهوا إلى الكعبة، وهو في الصحيحين بلفظ:
كانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة، وفي لفظ: كانوا ركوعا في صلاة الصبح.
وعن عثمان بن محمد بن الأخنس أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى بأصحابه فيه- يعني في مسجد القبلتين- الظهر، فلما صلّى ركعتين أمر أن يوجه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة، واستقبل الميزاب.
وعنه أيضا نحوه، وأن الفريضة كانت الظهر، وأنها يومئذ كانت أربع ركعات.
وعن سعيد بن المسيب قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا، وصرفت القبلة قبل بدر بشهرين، والثبت عندنا أنها صرفت في الظهر في مسجد القبلتين.
وفي رواية أخرى عنه: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قدم المدينة نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين.
وعن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده قال: صرفت القبلة يوم الإثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا.
وفي مسلم عن البراء بن عازب: صلّيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا حتى نزلت الآية التي في البقرة: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] فنزلت بعدما صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهم يصلون، فحدثهم بالحديث، فولّوا وجوههم قبل البيت.
تاريخ تحويل القبلة
وفي رواية له عنه أيضا: ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، على الشك.
وعند الزمخشري: صرفت القبلة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجد بني سلمة- يعني مسجد(1/276)
القبلتين- وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزاب، وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال.
وروى ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق تويلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر والعصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلت مسجد إيلياء، فصلينا سجدتين: أي ركعتين، ثم جاءنا من يخبرنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه القصة المرادة بقوله في الحديث المتقدم «فمر على قوم من الأنصار يصلون في صلاة العصر نحو بيت المقدس» فهؤلاء القوم هم بنو حارثة، والمار عباد بن بشر، ووصل الخبر وقت الصبح إلى أهل قباء، فلا منافاة بين الحديثين.
وسيأتي في مسجد القبلتين أن ابن زبالة نقل أن القبلة صرفت ونفر من بني سلمة يصلون الظهر في مسجد القبلتين، فأتاهم آت فأخبرهم وقد صلوا ركعتين فاستداروا حتى جعلوا وجوههم إلى الكعبة، فبذلك سمي مسجد القبلتين.
قال المجد: فعلى هذا كان مسجد قباء أولى بهذه التسمية.
مدة الصلاة إلى بيت المقدس
وعند أبي القاسم القشيري في لطائف التفسير: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس بعد قدومه المدينة مهاجرا ستة عشر شهرا عن قتادة، وقيل: سبعة عشر شهرا عن ابن عباس، وقال أنس: كان تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وقال معاذ بن جبل: ثلاثة عشر شهرا استمالة لقلوب اليهود أن يصلي إلى قبلتهم ربما يرغبون في دينه، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم كره موافقتهم في أمر القبلة لما قالوا: لولا أن ديننا حق لما صلّى إلى قبلتنا، ولما استن بسنتنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم لجبريل: وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال جبريل: إنما أنا ملك عبد، لا أملك شيئا، فسل ربك، فصعد جبريل السماء، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الصحراء نحو أحد يصلي هاهنا ركعتين وهاهنا ركعتين، ويدعو الله أن يجيز له في ذلك، فلم يزل كذلك يديم النظر إلى السماء، حتى دخل ناحية أحد، فأنزل الله تعالى في رجب بعد زوال الشمس قبل الظهر: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] الآية، وصرفت القبلة، وذلك قبل بدر بشهرين، وفي السير لابن حبان: حولت بعد سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام، وحديث البراء المتقدم رواه ابن خزيمة في صحيحه «ستة عشر شهرا» على الجزم كرواية مسلم الأولى، وقال الشيخ شرف الدين الدمياطي: حوّلت القبلة نصف رجب بعد خمسة عشر شهرا ونصف، ونقل النووي في سير الروضة عن محمد بن حبيب الهاشمي أن التحويل يوم الثلاثاء النصف من شعبان من السنة الثانية. ونقل المجد عن ابن(1/277)
حبيب أنها حوّلت في النصف من شعبان في الركعة الثالثة، وقيل: في صلاة العصر. وعند النحاس بعد بضعة عشر شهرا. وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: صرفت في جمادى، قال: وهو أولى الأقوال بالصواب. وقال ابن جرير عن معاذ: بعد ثلاثة عشر شهرا من مقدمه المدينة، قال: وعن أنس عشرة أو تسعة أشهر، انتهى ما نقله المجد.
وقال ابن سعد: يقال: إنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار ودار معه المسلمون، ويقال: زار النبي صلّى الله عليه وسلّم أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة وصنعت له طعاما، وحانت الظهر فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب، فسمي مسجد القبلتين. قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا أثبت عندنا.
أول صلاة إلى الكعبة
وفي الصحيح أن أول صلاة صلاها- أي متوجها إلى الكعبة- صلاة العصر.
قال الحافظ ابن حجر: التحقيق أن أول صلاة صلاها في بني الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر. قال: وأسانيد الروايات المتقدمة- أعني رواية ثلاثة عشر شهرا وتسعة عشر شهرا ونحوها- شاذة. قال: وأما رواية الصحيح فطريق الجمع بين رواية سبعة عشر شهرا وستة عشر، ورواية الشك في ذلك: أن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا، وألغى الأيام الزائدة، ومن جزم بسبعة عشر شهرا عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقول ابن حبان: «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول.
وقال الربيع: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابتداء الهجرة مخيرا في التوجه إلى بيت المقدس أو الكعبة، إلا أنه أمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، فكان التوجه إليه فرضا، وإن كان مخيرا فيه كالمخير في كفارة اليمين أي واحد اختار فهو فرض عليه، وقال ابن عباس: بل كان الفرض التوجه إلى بيت المقدس ثم نسخ.
وقال ابن العربي وغيره: نسخت القبلة مرتين.
إلى أيّ جهة كانت الصلاة بمكة قبل الهجرة؟
وقال ابن رشد في البيان: ولم يختلف في أن صلاته صلّى الله عليه وسلّم كانت بالمدينة إلى بيت المقدس حتى حولت القبلة، وإنما اختلف في صلاته بمكة قبل قدومه المدينة، فروى أنها كانت إلى الكعبة، وروى أنها كانت إلى بيت المقدس، وروى أنه كان يصلي إلى بيت(1/278)
المقدس والكعبة بين يديه- أي بين الركنين اليمانيين- وجكى ابن عبد البر الاختلاف في صلاته صلّى الله عليه وسلّم بمكة: هل كانت إلى الكعبة، أو بيت المقدس؟ ثم قال: وأحسن من ذلك قول من قال: كان يصلي بمكة مستقبل القبلتين يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس.
وروى الطبري وغيره عن ابن عباس قال: لما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت، وهو ظاهر في أن استقبال بيت المقدس كان بوحي، لا باجتهاد من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه إنما وقع بعد الهجرة، لكن أخرج أحمد عن ابن عباس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه» فيجمع بأنه لما هاجر أمر بأن يستمر على الصلاة لبيت المقدس.
وروى الطبري أيضا من طريق ابن جريح قال: صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أول ما صلّى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، وصلّى ثلاث حجج، وهاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجّهه الله إلى الكعبة.
كيف حرّرت قبلة مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم؟
وقال ابن النجار: وصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه- أي: في مسجده- إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم أمر بالتحول إلى الكعبة، فأقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده هكذا، فأماط كل جبل بينه وبينها، فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل عليه السلام هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها، وصارت قبلته إلى الميزاب.
وأسند يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن الخليل بن عبد الله الأزدي عن رجل من الأنصار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله، ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده هكذا، فأماط كل جبل بينه وبين القبلة، فوضع تربيع المسجد وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل عليه السلام بيده هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها، وصارت قبلته إلى الميزاب.
وعن نافع بن جبير من طرق مرفوعا: ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت إليّ الكعبة فوضعتها أؤمها.
وعن ابن عجلان قال: وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبلة مسجده وجبريل قائم ينظر إلى الكعبة، ثم كشف له ما بينه وبينها.(1/279)
وعن ابن شهاب مرفوعا: ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى فرج لي ما بيني وبين الكعبة فوضعتها أؤمها.
وأسند العراقي في ذيله من طريق أبي علي بن شاذان بسنده عن إبراهيم بن دينار عن مالك بن أنس عن زيد بن أنس عن زيد بن أسلم قال: قال ابن عمر: وضع جبريل عليه السلام القبلة لرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، تفرد به عن مالك ومحمد بن إبراهيم- قلت: وهو ثقة.
وفي العتبية: قال مالك: سمعت أن جبريل عليه السلام هو الذي أقام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبلة المسجد مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد المدينة، انتهى.
وأسند ابن زبالة عن أبي هريرة قال: كانت قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام في مسجده أن تضع موضع الأسطوان المخلّق اليوم خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام، حتى إذا كنت بيمنى باب آل عثمان كانت قبلته ذلك الموضع.
قال الذهبي: هذه القبلة كانت في شمالي المسجد، فلما حولت القبلة بقي حائط القبلة الأولى مكان أهل الصفة، انتهى. والأسطوانة المخلقة هي التي تدعى أسطوان عائشة رضي الله عنها فيما قاله المطري، وسيأتي ما نقله ابن زبالة فيها من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى إليها المكتوبة بضعة عشر يوما بعد أن حولت القبلة، ثم تقدم إلى مصلّاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط، هذا لفظه بحروفه.
وقوله: «وجاه المحراب» يريد المحراب العثماني الكائن في جدار القبلة.
وقال المطري: إن الحائط القبلي- أي الأول- كان محاذيا لمصلى النبي (؛ لما ورد أن الواقف في مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكون رمانة المنبر الشريف حذو منكبه الأيمن، قال:
فمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يغير باتفاق، وكذلك المنبر لم يؤخر عن منصبه الأول: أي من جهة القبلة؛ لما سيأتي أنه زيد فيه من جهة الشام، قال: وإنما جعل هذا الصندوق الذي قبالة مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سترة بين المقام وبين الأسطوانات، انتهى.
وسيأتي في ذكر الجذع الذي كان يخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه اختلاف في محله: هل هو عن يمين المصلى الشريف أو عن يساره لجهة القبر الشريف؟
وسيأتي ما عبر به ابن النجار في حكاية الرواية الأولى حيث قال: كان في موضع الأسطوانة المخلّقة التي عن يمين محراب النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الصندوق والرواية الثانية هي المرادة بما أسنده يحيى عن ابن أبي الزناد وغيره من علماء المدينة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب إلى جذع في المسجد كان موضعه عند الأسطوانة المخلقة التي تلي القبر: أي في جهة القبر التي عن يسار الأسطوانة المخلقة التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي عندها التي هي عند الصندوق، هذا لفظه، والغرض من إيراده هنا قوله: «التي عن يسار الأسطوانة المخلقة..(1/280)
إلى آخره» فهذه الأسطوانة المشار إليها- أعني التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي إليها- هي التي عن يمين الواقف في المصلى الشريف من جهة القبلة، وعلم أن وضع الصندوق هناك كان من الزمن القديم، لكنه كان صندوق مصحف كما سيأتي، ووصفها بالمخلقة لا يشكل عليك بما اشتهر من وصف أسطوانة المهاجرين- وهي أسطوانة عائشة- بالمخلقة، فالوصف بالمخلقة يطلق على أساطين متعددة كما سنوضحه، ولهذا اشتمل هذا الكلام على وصف كل من هاتين الأسطوانتين بهذا الوصف.
ونقل المرجاني أن في العتبية ما لفظه: أحب مواضع التنفل في مسجد رسول الله مصلاه حيث العمود المخلق، انتهى.
وقال ابن القاسم: أحب مواضع الصلاة في مسجده صلّى الله عليه وسلّم في النفل العمود المخلق، وفي الفرض في الصف الأول، قال ابن رشد: في كون العمود المخلق كان قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أقرب إلى قبلته صلّى الله عليه وسلّم قول ابن القاسم وسماعه.
قلت: وهو دال على أن العمود المخلق هو الذي عند المصلى الشريف، ولهذا روى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل له: أي المواضع أحب إليك الصلاة فيه؟ قال: أما النافلة فموضع مصلاه، وأما المكتوبة فأول الصفوف، انتهى. فعبر هنا عن العمود المخلق بمصلاه. ورأيت في جامع العتبية من البيان لابن رشد ما لفظه:
قال مالك: ليس العمود المخلق قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم هو حذو قبلة الإمام، وإنما قدمت القبلة حذو قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء.
قال ابن رشد عقبه: وقد مر في كتاب الصلاة عن ابن القاسم أن مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هو العمود المخلق، خلاف قول مالك هنا، انتهى. وقول مالك: «وإنما قدمت القبلة» يشير به إلى المحراب الذي في جدار القبلة بزيادة عثمان رضي الله عنه، وهذا الذي ذكره يكاد أن يكون قطعيا، وليس مراد ابن القاسم إلا أن العمود المخلق أقرب شيء إلى قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيعرف به، ولهذا نقل ابن النجار عن مالك ما يقتضى أن الأسطوانة المذكورة علم لمصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه قال: قال مالك بن أنس: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير، وكان في صندوق عن يمين الأسطوانة التي عملت علما لمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ابن زبالة فيما سيأتي عنه: إن الخيزران لما أمرت بأن تخلق المسجد أشار عليهم إبراهيم بن الفضل فزادوا في خلوق أسطوانة التوبة والأسطوان التي هي علم عند مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فخلقوهما حتى بلغوا بهما أسفلهما، وزادوا في الخلوق في أعلاهما، انتهى. وقد توهم جماعة أن المراد من كلام ابن القاسم، وما نقل عن مالك، الأسطوانة(1/281)
المعروفة اليوم بالمخلقة، وهي التي بأوسط الروضة، وهو مردود؛ لأن الأسطوانة المذكورة ليست علما على مصلى الرسول عليه السلام اتفاقا، ومنشأ الوهم ظنهم اختصاصها بوصف المخلقة، وممن اعتقد ذلك الحافظ ابن حجر فقال في الكلام على قول يزيد بن عبيد: «كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف» ما لفظه: هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ:
يصلي وراء الصندوق، وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه، قال: والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، وأسرت بها عائشة لابن الزبير، ثم وجدت ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار، وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة، هذا كلام الحافظ ابن حجر، ومراده بمحمد بن الحسن ابن زبالة، وليس في كلامه ولا في كلام ابن النجار ما يقتضي أن الأسطوانة التي عند الصندوق هي أسطوانة المهاجرين، إلا من حيث وصف كل منهما بالمخلقة، فتوهم اتحادهما، وليس كذلك، والله أعلم.
محراب المسجد النبوي، ومتى صنع؟
وسيأتي أن المسجد الشريف لم يكن له محراب في عهده صلّى الله عليه وسلّم ولا في عهد الخلفاء بعده، وأن أول من أحدثه عمر بن عبد العزيز في عمارة الوليد، وزعم الأقشهري في روضته أن مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في موضع الصندوق، وفي موضعه اليوم المحراب المرخم المرتفع عن المصلى الشريف وبنائه، فإنه قال ومن خطه نقلت: إنه قيل: إن منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتغير تقديما ولا تأخيرا؛ فالزيادة وقعت في المنبر شماليا لا غير، وحد المنبر الأصلي اليوم مساوية مع مصلى الإمام، ومصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمامه في موضع الصندوق اليوم فهو خارج عن حد المنبر، انتهى. واستنتج من ذلك أن يكون ما حاذى الصندوق يمنة ويسرة، قال: وهو مما زاده عمر روضة من رياض الجنة، قال: لأن المصلى الشريف روضة بلا شك، أي فما حاذاه كذلك، وهو عجيب لم أر من سبقه إليه، وما زعمه من أن حد المنبر- يعني من القبلة- مساو لمصلى الإمام اليوم، يريد به أن نهاية مصلى الإمام اليوم مساوية لنهاية المنبر من جهة القبلة، فإنه صور ذلك بخطه كما ذكرناه، وكأنه توهم أن مصلاه صلّى الله عليه وسلّم كان في محراب بارز عن سمت المسجد؛ لأنه جعل ما عن يمينه ويساره من زيادة عمر رضي الله عنه، ولم يقل به أحد، مع أن ما زعمه من الاستواء لا يشهد له عقل ولا نقل؛ لأن المنبر الذي كان في زمنه هو المنبر الذي كان في زمن المطري، فإنهما متعاصران، وقد سبق عن المطري في الفصل قبله أن بين المنبر والدرابزين الذي في القبلة مقدار أربع أذرع وربع، وأنه اتضح لنا صحة ما قاله، وذلك هو محل المنبر النبوي كما(1/282)
سنوضحه، وعرض الصندوق المذكور وما بعده إلى الدرابزين المذكور ذراعان ونصف راجح، والمنبر الذي أدركناه أولا لم يكن بينه وبين الدرابزين القبلي سوى ثلاثة أذرع ونصف راجحة، ومع ذلك فحد المنبر متأخر عن حد مصلى الإمام من جهة القبلة بنحو الذراع، وعلى ما ذكره المطري- وهو الصواب- يكون متأخرا بأزيد من ذلك، وذلك فيما يظهر هو القدر الوارد فيما كان بين المنبر والجدار القبلي، وأوضح من ذلك في الرد عليه أن يحيى نقل في كتابه عن محمد بن يحيى صاحب مالك قال: وجدنا ذرع ما بين مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان بعهده إلى جدار القبلة اليوم الذي فيه المحراب عشرين ذراعا وربعا، وهذه هي الزيادة التي زيدت بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم انتهى.
قال المراغي: وقد اعتبرته من وجه سترة مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جدار القبلة فكان كذلك، وبه يظهر أن المصلى الشريف لم يغير عن مكانه، وأن الصندوق إنما جعل في مكان الجدار الأول، انتهى.
وقد اعتبرت ما ذكره من جدار المسجد القبلي إلى طرف المصلى الشريف المحاذي لطرف صندوق السترة، فكان ذلك إحدى وعشرين ذراعا ونصف وربع يرجح قيراطا، فإذا أسقط من ذلك عرض الجدار- وهو ذراع ونصف راجح- كان الباقي عشرين ذراعا وربعا كما ذكره يحيى، وقد علمت أن الصندوق المذكور له أصل قديم هناك، فكيف يكون في موضع المصلى الشريف ولا ينبه عليه أحد؟ بل يذكرون ما يدل على خلافه، بل كيف يمكنون من ذلك، ويحرمون المسلمين التيمن بمكانه؟ هذا مما يكاد العقل يحيله.
وقال النووي في مناسكه ما لفظه: وفي إحياء علوم الدين أنه- أي: المصلى- يجعل عود المنبر حذاء منكبه الأيمن، ويستقبل السارية التي إلى جانبها الصندوق، وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه، فذلك موقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى.
قلت: وكأن المراد من استقبال السارية المذكورة جعلها عن جهة اليمين كما عليه وضع المصلى اليوم. وقد ذكر ابن زبالة هذه الأسطوانة ثم قال: حدثني إبراهيم بن محمد عن غير واحد منهم خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك قال: إذا عدلت عنها- أي عن الأسطوانة المذكورة- قليلا وجعلت الجزعة التي في المقام بين عينيك والرمانة التي في المنبر إلى شحمة أذنك قمت في مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأن الرمانة المذكورة كانت في أعلى عمود المنبر النبوي، ولذا عبر به في الإحياء.
وسيأتي أنه لما حفر بعد الحريق الثاني لتأسيس المنبر الرخام وجدوا محل المنبر الأصلي شبه حوض من حجر، وفي جانبيه من المشرق والمغرب فرضتان منقورتان في الحجر بهما شيء من الرصاص بحيث لا يخفى على من أحاط علما بصفة المنبر النبوي(1/283)
أنهما محل عموديه كانا محكمين بالرصاص فيهما، وقد وقعت في المصلى الشريف مما يلي مؤخره، وتأملت الفرضة التي مما تلي الروضة فوجدتها في محاذاة يميني، فظهر أنها المرادة.
وأما الجزعة فذكر المطري أن هذه الجزعة كانت في المحراب القبلي المقابل للمصلى الشريف، وأنها أزيلت منه، قال: وما حققه الغزالي عند ذكر المصلى الشريف بقوله: «إذا وقف المصلى في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم تكون رمانة المنبر حذو منكبه الأيمن ويجعل الجزعة التي في القبلة بين عينيه فيكون واقفا في مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما كان قبل حريق المسجد، وقبل أن يجعل هذا اللوح القائم في قبلة مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: أي فإنه صار يحجب عن مشاهدة ما في المحراب القبلي، قال: وإنما جعل بعد حريق المسجد، قال: وكان يحصل بتلك الجزعة فتنة كبيرة وتشويش على من يكون بالروضة الشريفة من المجاورين وغيرهم.
وذلك أنه كان يجتمع إليها الرجال والنساء، ويقال: هذه خرزة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت عالية لا تنال بالأيدي، فتقف المرأة لصاحبتها حتى ترقى على ظهرها وكتفيها حتى تصل إليها، فربما وقعت المرأة وانكشفت عورتها، وربما وقعتا معا.
فلما كان سنة إحدى وسبعمائة جاور الصاحب زين الدين أحمد بن محمد المعروف بابن حنا المصري، فرأى ذلك، فاستعظمه وأمر بقلع الجزعة، فقلعت، قال: وهي الآن في حاصل الحرم، ثم توجه إلى مكة في أثناء السنة فرأى أيضا ما يقع من الفتنة عند دخول البيت الحرام، وتعلق الناس بعضهم ببعض، وحمل النساء على أعناق الرجال للاستمساك بالعروة الوثقى في زعمهم، فأمر بقلع ذلك المثال، وزالت تلك البدعة أيضا، ولله الحمد.
قلت: والظاهر أن هذه الجزعة هي التي ذكرها ابن جبير في رحلته في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة لما قدم المدينة، قال: رأيت على المحراب مسمارا مثبتا في جداره فيه شبه حق صغير لا يعرف من أي شيء هو يزعمون أنه كأس كسرى، وشاهدت على رأس المحراب حجرا مربعا أصفر قدر شبر في شبر ظاهر البريق والبصيص، يقال: إنه مرآة كسرى، والله أعلم بحقيقة ذلك كله، انتهى.
ثم رأيت في العقد لابن عبد ربه- وهو أقدم من ابن جبير- أن على ترس يعني المحراب العثماني فضة ثابتة غليظة في وسطها مرآة مربعة ذكر أنها كانت لعائشة رضي الله عنها، ثم فوقه إزار رخام فيه نقوش صفائح ذهب مثمنة فيها جزعة مثل جمجممة الصبي الصغير مسمرة، ثم تحتها إلى الأرض إزار رخام مخلق بالخلوق فيه الوتد الذي كان صلّى الله عليه وسلّم يتوكأ عليه في المحراب الأول، انتهى.(1/284)
قلت: وقد سألت عن هذه الجزعة المتولى لأمر حاصل الحرم الشريف وخازن داره- وكان قديم الهجرة- وغيرهما فقالوا: إنه ليس عندهم بالحاصل شيء من ذلك، ولعل ذلك ذهب فيما أخذه الأمير جماز عند كسر حاصل الحرم الشريف، وقد وسع المحراب القبلي عما كان عليه وزيد في طوله بعد هدم الجدار القبلي بعد الحريق الثاني.
وقال ابن زبالة: إن ذرع ما بين المنبر ومقام النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يصلي فيه حتى توفي صلّى الله عليه وسلّم أربعة عشر ذراعا وشبرا.
قلت: وقد ذرعت ما بين المنبر الموجود قبل الحريق الثاني وأعلى الحفرة الذي ينزل منه إلى درجتها من ناحية مؤخر المصلى الشريف، فكان أربعة عشر ذراعا، وعرض الدرجة شبر راجح؛ فصح ذلك، وأما حده من جهة المشرق فسيأتي أن جعله على هذه الهيئة الموجودة اليوم أمر حادث.
وقد قال ابن زبالة: إن ذرع ما بين مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من مسجده الأول وبين أسطوان التوبة سبع عشرة ذراعا، وأسطوان التوبة في جهة المشرق، وقد ذرعت ما بينها وبين درجة الحفرة الشرقية فكانت ست عشرة ذراعا، فعلمنا بذلك أن المصلى الشريف في جانب الحفرة الغربي، وأن ما يلي المشرق منها ليس منه، ويشهد له ما سبق من كلام مالك والإحياء لذكرهما السارية التي عندها الصندوق، بل في خط الأقشهري في مصنفه في الزيادة ضبط قول ابن زبالة فيما بين المصلى الشريف وأسطوان التوبة تسع عشرة ذراعا- بتقديم التاء على السين- وقد ذرعت ما بين طرف أسطوان التوبة الشرقي وبين طرف الحفرة الغربي فكان كذلك.
ونقل الأقشهري أيضا عن أبي غسان أحد أصحاب مالك أن ما بين الحجرة الشريفة ومقام النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يقوم فيه ثمانية وثلاثون ذراعا، وأنا ما بينه وبين المنبر الشريف مثل ما سبق عن ابن زبالة، وقد اختبرت ما بين طرف الحفرة الغربي ورخام جدار الحجرة الشريفة فكان ثمانية وثلاثين ذراعا، فعلمنا أن المحاف عليه في حد المصلى الشريف هو طرف الحفرة الغربي، ولم تكن هذه الحفرة في الزمن القديم، ولهذا قال المجد: حكى ابن النجار الإجماع على أن المصلى الشريف لم يغير بتقديم وتأخير، وإنما غيرت هيئته في هذا العصر الأخير بجعل المصلى شبه حفير أو حوض صغير منخفض عن موقف المأمومين نحو ذراع بسبب ترخيمه وتكاثر الرمل المفروش به الروضة.
قلت: وهو الآن شبه حوض مربع ينزل إليه بدرجة طوله ذراعان ونصف وثمن، وعرضه ذراعان ونصف ونصف ثمن، لكن زادوا في طوله في العمارة الحادثة بعد الحريق أرجح من نصف ثمن ذراع ونحوه في العرض.(1/285)
قال البدر بن فرحون وغيره: وما زال العلماء الأئمة يتحرجون من ذلك، وفي أيام القاضي السراج- وهو أول قاض ولي لأهل السنة- فمن بعده كانت ترفع تلك الحفيرة بالرمل حتى تزول الكراهة، إلى أيام الشرف الأسيوطي، فأراد طمس الحفرة أو رفعها وإزالة الخشب المنقوش أمامها الآتي ذكره، فقام عليه بعض الناس من الخدام، واستعانوا عليه بالأشراف، فكف وانتقل عن المحراب، وصار يصلي إلى الأسطوانة التي تقابل أسطوانة الوفود- أي من مقدم الروضة- ولزمها إلى أن مات، وصار من الفقهاء من يرفع الكراهة بما يحصل من القرب إلى مقامه صلّى الله عليه وسلّم وموضع قدمه، وهذه نزغة؛ فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في الموقف سواء، فمن خالف سنته بالهوى فقد غوى.
قلت: وهذه الحفرة بعيدة من موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلو الأرض؛ لما سيأتي عن البدر بن فرحون أنهم وجدوا عند تجديد المنارة التي بباب السلام باب مروان وتحصيب المسجد الشريف القديم بعد حفر قامة، ولما اتضح لنا في العمارة الآتي ذكرها؛ فقد اعتبرت أرض الحجرة الشريفة وأرض المسجد، فكان بينهما من التفاوت ذراعان ونصف وأزيد، لكن مقتضى ما ظهر من الرخام الذي وصفه ابن زبالة حول المنبر ومشاهدتنا لما انكشف منه فيما بين المنبر والأساطين التي خلفه عدم بعض أرض هذه الحفرة من محل الموقف الشريف في ذلك العصر؛ لأن نسبة ما بين هذه الحفرة والرخام المذكور أقل من نصف ذراع، وقد حققت مسألة انخفاض المصلى الشريف في كتابي الموسوم «بكشف الجلباب والحجاب عن القدوة في الشباك والرحاب» ولم يتحرر لي ابتداء ترخيم المصلى الشريف وجعله على هذه الهيئة، وسماه ابن جبير في رحلته بالروضة الصغيرة، وقال: إن الإمام يصلي بالروضة الصغيرة المذكورة إلى جانبها الصندوق، وقال قبل ذلك في وصفها:
وبإزائها لجهة القبلة عمود مطبق يقال: إنه على بقية الجذع الذي حنّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق، انتهى.
ولم يذكر فيها ترخيما ولا انخفاضا، مع ذكره لذلك في المحل الذي عليه المنبر كما سيأتي، والظاهر أن حدوث انخفاض المصلى الشريف بما حوله تجدد بعد الحريق الأول، وقد اقتضى رأي متولي العمارة الحادثة بعد الحريق الثاني أن يخفض أرض المسجد حتى تكون مساوية للمصلى الشريف، فقطع من الأرض نحو ذراع؛ فكانوا يجدون طبقة من التراب، وتليها طبقة من الرمل، حتى وصلوا إلى الأرض المساوية للمصلى الشريف، وظهر لهم الرخام الذي كان عليه المنبر الشريف بعد حفر نحو نصف ذراع، وحصل بذلك إزالة هذه البدعة، ولله الحمد والمنة.
وكان في قبلة المصلى الشريف صندوق خشب بديع الصنعة يعلوه محراب قد أمتج(1/286)
الصناع فيه نتائج مبدعة من صنعة النجارة، والمحراب المذكور شبه باب نقنطر لموضع لطيف على ظهر الصندوق المذكور مكتوب في داخله أمام مستقبله بعد البسملة آية الكرسي، وعلى ظاهر الباب المقنطر بعد البسملة قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [البقرة: 144] الآية، وفيه صنعة عجيبة وصبغ باللازورد وتذهيب عجيب يشغل الخاطر، ويفرق القلب الحاضر؛ إذ لا قلب أجمع وأعلى وأرفع من قلب سيد الأنام. عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد قال في شأن الخميصة من أجل تلك الأعلام «اذهبوا بخميصتي «1» هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي» وسيأتي أنه لما قال عمر بن عبد العزيز بعد زخرفة المسجد لعمرو بن عثمان رضي الله عنه: بناؤنا أحسن أم بناؤكم؟ فقال له: بنيناه بناء المساجد، وبنيتموه بناء الكنائس.
وقال مالك فيما نقله عنه صاحب التبصرة: كره الناس ما فعل في قبلة المسجد بالمدينة من التزاويق؛ لأنه يشغل الناس في صلاتهم، وأرى أن يزال كل ما يشغل الناس عن الصلاة، وإن عظم ما كان أنفق فيه فالله تعالى يبعث لهذا المصلى الشريف من يزيل عنه هذه الزخارف ويسويه كما كان في زمن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وقد أدعم هذا المحراب الخشبي من ورائه بدعامة شبه التاج العظيم حتى اتصل بالدرابزين الذي بين الأساطين في قبلة الروضة، وبرز عنها، وجعل في أعلاه وعن يمينه وشماله مع امتداد الروضة مغارز لفرخات القناديل المسماة بالبزاقات تسرج في ليالي الزيارات، وفي داخله كسوة جليلة من الحرير من جنس كسوة الحجرة الشريفة ذات طراز منسوج، وقد احترق ذلك كله في الحريق الثاني الآتي ذكره، وذلك بعد تمام هذا التأليف، فاقتضى رأي متولي العمارة الحادثة بعد ذلك إبداله بمحراب مرخّم في دعامة تبني في محل الصندوق المذكور، فحفروا هناك لأساسها نحو القامة، فوجدوا هناك قبرا بدا لحده مسدودا باللبن أخرجوا منه بعض العظام، ووجدوا الأقدمين لما أسسوا الأسطوانة التي عنده حرفوا أساسها عنه قليلا، فتركوه على حاله، وأسسوا للمحراب المذكور، ورخموه بالرخام الملون ترخيما بديعا فيه صبغ ذهبي وغيره، وهو أبهى منظرا من الأول، وجعلوا أرض المحراب المذكور مرفعة قليلا على المصلى الشريف؛ لأنه إنما جعل في محل الصندوق الذي كان أمام المصلى الشريف، فليتنبه لذلك، والله أعلم.
تنبيهات- الأول: قال البخاري في صحيحه «باب قدركم ينبغي أن يكون بين المصلى والسترة» ثم روى عن سهل بن سعد قال: كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين الجدار ممر
__________
(1) الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام.(1/287)
المشاة، ثم روى عن سلمة- يعني: ابن الأكوع- قال: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة، تجوزها: أي المسافة، وهي ما بين المنبر والجدار، وقوله في الحديث الأول «كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أي: مقامه في صلاته، وكذا هو في رواية أبي داود، وقوله: «وبين الجدار» أي: جدار المسجد مما يلي القبلة كما صرح به من طريق ابن غسان في الاعتصام، ومنه يعلم ما في قول النووي في شرح مسلم: يعني بالمصلى موضع السجود، والحديث الثاني رواه الإسماعيلي بلفظ: كان المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز. قال الكرماني في بيان مطابقته للتبويب: إن ذلك من حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم بجنب المنبر: أي ولم يكن لمسجده محراب، فيكون مسافة ما بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار، فكأنه قال: الذي ينبغي أن يكون بين المصلى وسترته قدر ما كان بين منبره صلّى الله عليه وسلّم وجدار القبلة.
قلت: وكأن الكرماني بنى ذلك على ما عهده في غالب المساجد من أن مصلى الإمام يكون إلى جانب المنبر، وقد تقدم بيان ما بينهما من المسافة وحكاية الإجماع على أنه لم يغير، وأيضا فلا يلزم من كونه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى جانب المنبر أن يكون بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار كما لا يخفى، وأوضح مما ذكره- كما قال الحافظ ابن حجر- ما ذكره ابن رشد من أن البخاري أشار إلى حديث سعد بن سهل الذي في باب الصلاة على المنبر فإن فيه أنه صلّى الله عليه وسلّم «قام على المنبر حين عمل، وصلّى عليه» فاقتضى ذلك أن ما بين المنبر والجدار يؤخذ منه موضع قيام المصلى.
قلت: لكن يلزم من ذلك التأخر عند السجود؛ لأن ذلك المقدار لا يتأتى فيه السجود، وقد ثبت رجوعه صلّى الله عليه وسلّم القهقرى «1» من أجل السجود لما صلّى على المنبر لعدم تأتّيه عليه.
وقال ابن بطال: هذا أقل ما يكون بين المصلى وسترته، يعني قدر ممر الشاة، وقيل:
أقل ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع» كما في الصحيح، وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة، وأكثره ثلاثة أذرع، وجمع بعضهم بأن الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع والسجود، قاله الحافظ ابن حجر.
قلت: ويلزمه التأخر عن موقفه الأول عندهما كما قدمناه، وهو متعين؛ إذ لا يتأتى
__________
(1) رجع القهقرى: رجع على عقبيه.(1/288)
السجود في أقل من ثلاثة أذرع، ولهذا كان حريم المصلّي الذي يكون بينه وبين سترته ثلاثة أذرع عندنا.
وقال ابن الصلاح: قدروا ممر الشاة بثلاث أذرع.
قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه.
قلت: الظاهر أن البخاري إنما أورد حديث سلمة المشتمل على بيان ما بين المنبر والجدار ليستدل به على مقدار ممر الشاة، فإن ما بينهما كان معلوما عندهم، وقد تقدم عن العتبية أنه كان بينهما قدر ما يمر الرجل منحرفا، والذي اقتضى حمل ابن الصلاح ممر الشاة على ما ذكره أن ذلك هو القدر الذي يتأتى فيه السجود مع الاستمرار في الموقف.
وقد قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف، وقد ورد الأمر بالدنو من السترة مع بيان حكمة ذلك، وهو ما رواه أبو داود وغيره مرفوعا: «إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته» ، قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث حسن، والله أعلم.
التنبيه الثاني: في العود الذي كان في المصلى الشريف.
روينا في كتاب يحيى عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي كان في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم نقدر على أحد يذكر لنا فيه شيئا، قال مصعب: حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة قال: جلس إلى أنس بن مالك، فقال: تدري لم صنع هذا العود؟ وما أسأله عنه، فقلت: لا والله ما أدري لم صنع، فقال أنس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع عليه يمينه ثم يلتفت إلينا فيقول: استووا، واعدلوا صفوفكم.
وعن أنس بن مالك قال: لما سرق العود الذي كان في المحراب فلم يجده أبو بكر حتى وجده عمر رضي الله عنهما عند رجل من الأنصار بقباء قد دفن في الأرض أكلته الأرضة، فأخذ له عودا، فشقه فأدخله فيه، ثم شعبه «1» ، فرده في الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في القبلة، وهو الذي في المحراب اليوم باق فيه.
وعند أبي داود عن محمد بن أسلم صاحب المقصورة قال: صلّيت إلى جنب أنس بن مالك يوما فقال: هل تدري لم صنع هذا العود؟ فقلت: لا والله، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع يده عليه فيقول: «استووا واعدلوا صفوفكم» .
قلت: سيأتي في الكلام على الجذع أن الأسطوانة المتقدم ذكرها التي هي علم
__________
(1) شعبه: أصلح صدعه.(1/289)
المصلّى الشريف كان بها خشبة ظاهرة محكمة بالرصاص، يقول الناس: إنها من الجذع الذي حن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأن المطري قال: إن الأمر ليس كذلك، وإن العز ابن جماعة أمر بإزالتها، فأزيلت عام خمس وخمسين وسبعمائة.
قال المجد: ورأى بعض العلماء أن إزالتها كانت وهما منهما، وذلك أن إتقان هذه الخشبة، وترصيصها بين حجارة الأسطوان وإبرازها لم يكن سدى، وإنما شاهد الحال يشهد بأنه كان من عمل عمر بن عبد العزيز؛ فالظاهر أنه كان من الجذع.
قلت: بل الظاهر أنها ليست منه؛ إذ لم ينقل بقاء شيء منه، بل الظاهر أنها من هذا العود المذكور؛ لما قدمناه فيه، ولما سيأتي عن ابن النجار.
وقول الزيني المراغي: «إن احتمال ذلك كان يمكن تسليمه قبل حريق المسجد، أما بعده فمردود؛ لأنه بقي من حريق المسجد بقايا خشب كثيرة كما سنحققه» .
وقول المؤرخين: «إنه لم يبق ولا خشبة واحدة» مردود؛ فقد شاهدت عند إزالة هدم الحريق من الحجرة الشريفة ما لا يحصى من أطراف الخشب المحترق، حتى ميزاب الحجرة الشريفة رأيته من عرعر «1» فيما أظن احترق بعضه وبقي منه قدر الذراع، وأخذ الناس كثيرا من تلك الأخشاب، واتخذ متولي العمارة وغيره منها سبحا كثيرة، وعبارة ابن النجار صريحة فيما ذكرناه من كون العود المذكور كان بالأسطوانة المذكورة، فإنه ترجم عليه بقوله: «ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة» ، ثم روى عن أهل السير خبر مصعب بن ثابت المتقدم.
وشيوع أن تلك الخشبة من الجذع قديم، فقد قال ابن جبير في رحلته: إن بإزاء الروضة- يعني المصلى الشريف منها- لجهة القبلة عمودا مطبقا يقال: أنه على بقية الجذع الذي حنّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقطعة منه وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح خدودهم فيها، وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق، انتهى.
واستفيد منه أيضا أن وضع الصندوق هناك كان قبل حريق المسجد في زمنه، وسبب الشيوع المذكور في تلك الخشبة ما سيأتي من أن الجذع كان قريبا من محل الأسطوانة المذكورة؛ فالظاهر أن الخشبة المذكورة كانت قريبا منه في الجدار، فجعلت في تلك الأسطوانة لقربها من المحل الأول؛ فقد روى يحيى أيضا عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يستمسك بعود كان في القبلة، ثم يلتفت عن يمينه وعن شماله، فإذا استوت الصفوف كبر» .
__________
(1) العرعر: جنس أشجار وجنبات من الصنوبريات، فيه أنواع تصلح للأحراج وللتزيين.(1/290)
وروى ابن زبالة عن عمرو بن مسلم قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أسن قد جعل له العود الذي في المقام، إذا قام في الصلاة توكأ عليه، قال: ثم ألصق إليه عود معه، وروى أيضا هو ويحيى من طريقه عن مسلم بن خباب قال: لما قدم عمر رضي الله عنه القبلة فقد العود الذي كان مغروسا في الجدار، فطلبوه، فذكر لهم أنه في مسجد بني عمرو بن عوف أخذوه فجعلوه في مسجدهم، فأخذه عمر فرده إلى المحراب، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة أمسكه بكفه يعتمد عليه، ثم يلتفت في شقه الأيمن فيقول: عدّلوا صفوفكم، ثم يلتفت إلى الأيسر فيقول مثل ذلك، ثم يكبر للصلاة، وذلك العود من طرفاء الغابة «1» .
هل مصلاه صلّى الله عليه وسلّم على عين القبلة أو جهتها؟
التنبيه الثالث: أسند يحيى عقب ما تقدم عن ابن عباس قال: كنت أرى صفحة خد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليمنى في مسجده يتيامن.
وعن عروة: كان الزبير بن العوام وأناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتيامنون ويقولون: إن البيت تهامي، قال يحيى: وسمعت غير واحد من مشايخنا ممن يقتدى به يقول: المنبر على القبلة.
قلت: لعل ما ذكره من التيامن في غير المصلى الشريف، والذي ذكره أصحابنا أنه لا يجتهد في محراب النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه صواب قطعا؛ إذ لا يقر على خطأ؛ فلا مجال للاجتهاد فيه حتى لا يجتهد في اليمنة واليسرة، بخلاف محاريب المسلمين، سيما وقد تقدم أنه وضعه وجبريل يؤم به البيت، والمراد بمحرابه صلّى الله عليه وسلّم مكان مصلاه، فإنه لم يكن في زمنه صلّى الله عليه وسلّم محراب، نعم إن ثبت تيامنه صلّى الله عليه وسلّم في مكان مصلاه فما نقله متجه، ويؤيده أن الدكة التي ظهرت في محل المنبر ووجد فيها آثار قوائم المنبر النبوي كما سيأتي متيامنة، ولذا حرّضت على بقائها على ما وجدت عليه فبقيت على حالها، إلا أنهم وضعوا المنبر عليها غير متيامن فصار محرفا عنها، وعبارة النووي في التحقيق: وكل موضع صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضبط موقفه تعين، ولا يجتهد فيه بتيامن ولا تياسر، انتهى.
وقال الشيخ محب الدين الطبري في شرح التنبيه، ومن خطه نقلت: إن قيل محرابه صلّى الله عليه وسلّم على عين الكعبة؛ إذ لا يجوز فيه الخطأ، فيلزم مما قلتم أنه لا يصح صلاة من بينه وبينه من أحد جانبيه أكثر من سمت الكعبة إلا مع الانحراف.
قلنا: من أين لكم أنه على يمين الكعبة؟ فيجوز أن يكون ذلك ولا خطأ بناء على أن
__________
(1) الطرفاء: جنس من النبات منه أشجار وجنبات من الفصيلة الطرفاوية، ومنه الأثل.(1/291)
الفرض الجهة، نعم إن روي في الصحيح أنه نصب على العين فنقول: مقتضى الدليل ما ذكرتموه على القولين، أما على العين فظاهر، وأما على الجهة فإنما ذلك عند عدم المشاهدة، وهذا المحراب منزل منزلة الكعبة فمشاهده كمشاهدها، إلا أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم على بناء مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم واسعا وصلاتهم في أقطاره من غير أن ينقل الانحراف عنهم دليل على طرد حكم البعد في كل مكان، سواء تحقق صوب عين الكعبة أم لا، توسعة وتعميما للحكم، وتحقيقا للقول بأن فرض البعيد هو الجهة مطلقا، ولا أعلم أحدا تكلم في هذه المسألة، والظاهر فيها ما ذكرته، انتهى.
وفيه نظر، بل صلاة من بينه وبين المصلى الشريف أكثر من سمت الكعبة صحيح، واعتبار العين من غير انحراف لما تقرر من أن المسامتة تصدق مع البعد، ألا ترى أن الدائرة إذا عظمت اتسعت الخطوط فيسامت الخط الخارج من جبين المصلى الكعبة ظنا، وهو المكلف به في البعد، نعم هذا يقتضي جواز الاجتهاد بالتيامن والتياسر لمن بينه وبين المصلى الشريف أكثر من سمت الكعبة إلا أن ينقل عدمه عن الصحابة في زمنه صلّى الله عليه وسلّم مع إقراره صلّى الله عليه وسلّم لهم على ذلك، والله أعلم.
قد تم- بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه- الجزء الأول من كتاب «وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» تأليف العلامة المحقق، والمؤرخ المدقق، نور الدين علي السمهوري، أحد علماء القرن العاشر الهجري، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني منه، وأوله «الفصل الرابع، في خبر الجذع الذي كان يخطب إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم- إلخ» نسأل الله الذي بيده تتم الصالحات أن يعين على إكماله، بمنه وفضله؛ إنه لا معين سواه، ولا يوفق للخير غيره.(1/292)
فهرس الجزء الأول
ترجمة مؤلف الكتاب/ 5
خطبة المؤلف/ 7
أبواب الكتاب/ 8
الباب الأول: في أسماء هذه البلدة الشريفة/ 13
أثرب/ 13
أرض الله/ 14
ذات الحجر/ 19
الباب الثاني/ 31
الفصل الأول: في تفضيلها على غيرها من البلاد مكة أفضل أم المدينة/ 31
الفصل الثاني: وعد من صبر على شدها/ 39
الفصل الثالث: في الحث على حفظ أهلها وإكرامهم/ 45
الفصل الرابع: في بعض دعائه صلّى الله عليه وسلّم لها ولأهلها، وما كان بها من الوباء، ونقله/ 48
الفصل الخامس: في عصمتها من الدجال والطاعون/ 55
الفصل السادس: في الاستشفاء بترابها، وبتمرها/ 59
الفصل السابع: في سرد خصائصها/ 64
الفصل الثامن: في الأحاديث الواردة في تحريمها، وهي كثيرة/ 75
الفصل التاسع: في بيان عير وثور/ 77
الفصل العاشر: في أحاديث تقتضي زيادة الحرم على ذلك التحديد، وأنه مقدر ببريد/ 80
الفصل الحادي عشر: في بيان الألفاظ المتعلقة بالتحديد/ 82
الفصل الثاني عشر: في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم/ 86
الفصل الثالث عشر: في أحكام هذا الحرم الشريف، وفيه مسائل/ 87
الفصل الرابع عشر: في ذكر بدء شأنها، وما يؤول إليه أمرها/ 96
الفصل الخامس عشر: فيما ذكر من وقوع ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم من خروج أهلها وتركها، وذكر كائنة الحرة المقتضية لذلك/ 99
الفصل السادس عشر: في ظهور نار الحجاز التي أنذر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم/ 113
الباب الثالث: في أخبار سكانها في سالف الزمان، ومقدمه صلّى الله عليه وسلّم إليها، وما كان من أمره بها في سنين الهجرة، وفيه اثنا عشر فصلا/ 125
الفصل الأول: في سكانها بعد الطوفان، وما ذكر في سبب نزول اليهود بها، وبيان منازلهم/ 125
الفصل الثاني: في سبب سكنى الأنصار بها/ 132
الفصل الثالث: في نسبهم/ 138(1/293)
الفصل الرابع: في تمكنهم بالمدينة، وظهورهم على يهود، وما اتفق لهم مع تبع/ 142
الفصل الخامس: في منازل قبائل الأنصار بعد إذلال اليهود/ 151
الفصل السادس: فيما كان بينهم من حرب بعاث/ 170
الفصل السابع: في مبدأ إكرام الله لهم بهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر العقبة الصغرى/ 173
الفصل الثامن: في العقبة الكبرى/ 179
الفصل التاسع: في هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها/ 184
الفصل العاشر: في دخوله صلّى الله عليه وسلّم أرض المدينة، وتأسيس مسجد قباء/ 191
الفصل الحادي عشر: في قدومه صلّى الله عليه وسلّم باطن المدينة/ 198
الفصل الثاني عشر: فيما كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم بها في سني الهجرة إلى أن توفاه الله عز وجل مختصرا/ 209
الباب الرابع: فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم النبوي/ 249
الفصل الأول: في أخذه صلّى الله عليه وسلّم لموضع مسجده الشريف، وكيفية بنائه/ 249
الفصل الثاني: في ذرعه وحدوده التي يتميز بها عن سائر المسجد اليوم/ 261
الفصل الثالث: في مقامه الذي كان يقوم به صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة قبل تحويل القبلة/ 275(1/294)
الجزء الثاني
تأليف الشّيخ العلّامة نور الدّين علي بن أحمد السّمهودي المتوفى 911 هـ اعتنى به ووضع حواشيه خالد عبد الغني محفوظ الجزء الثّاني(2/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي اختار رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم من أطيب الأرومات، والصلاة والسلام الأتّمان الأكملان على أشرف الكائنات، وعلى آله وصحبه الذين فدوه بالأنفس والأموال وبالآباء والأمهات. وعلى من اتبعه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[تتمة الباب الرابع: فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم النبوي]
الفصل الرابع: الروايات في حنين الجذع
في خبر الجذع الذي كان يخطب إليه صلّى الله عليه وسلّم واتخاذه المنبر، وما اتفق فيه، وما جعل بدله بعد الحريق، واتخاذ الكسوة له.
روينا في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه. وفيه عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضمّه إليه وهو يئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.
وفيه أيضا عنه: كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر فكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت «1» العشار، الحديث.
وعند النسائي في الكبرى عن جابر: اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج: أي التي انتزع ولدها منها. وعند ابن خزيمة عن أنس: فحنّت الخشبة حنين الواله «2» . وفي روايته الآخرى عند الدارمي: خار ذلك الجذع كخوار الثور.
وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والدارمي وابن ماجه: فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق. وفي حديثه: فأخذ أبيّ بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد فلم يزل عنده حتى بلى وعاد رفاتا. وفي حديث أبي سعيد عند الدارمي: فأمر به أن يحفر له ويدفن، وسيأتي أحاديث بذلك، ولا تنافي بين ذلك؛ لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف، فأخذه أبيّ بن كعب.
__________
(1) العشار: مفردها: العشراء، من النّوق ونحوها: ما مضى على حملها عشرة أشهر. وفي التنزيل العزيز: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ [التكوير: 4] .
(2) الواله: الذي اشتد حزنه حتى ذهب عقله.(2/3)
وقال أبو اليمن بن عساكر في تحفته: وفي رواية فلما جلس عليه أي المنبر حنت الخشبة حنين الناقة على ولدها، حتى نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليها، فلما كان من الغد رأيتها قد حوّلت، فقلنا: ما هذا؟ قال: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر فحولوها، انتهى.
وفي مسند الدارمي من حديث بريدة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب قام فأطال القيام، فكان يشق عليه قيامه، فأتى بجذع نخلة، فحفر له وأقيم إلى جنبه قائما للنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب فطال القيام عليه استند فاتكى عليه، فبصر به رجل كان ورد المدينة فرآه قائما إلى جنب ذلك الجذع، فقال لمن يليه من الناس: لو أعلم أن محمدا يحمدني في شيء يرفق به لصنعت له مجلسا يقوم عليه، فإن شاء جلس ما شاء، وإن شاء قام، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ائتوني به، فأتوه به، فأمر أن يصنع له هذه المراقي الثلاث أو الأربع، هي الآن في مسجد المدينة؛ فوجد النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك راحة، فلما فارق النبي صلّى الله عليه وسلّم الجذع وعمد إلى هذه التي صنع له جزع الجذع فحنّ كما تحن الناقة، حين فارقه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فزعم ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمع حنين الجذع رجع إليه فوضع يده عليه، وقال: اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت أن أغرسك في الجنة، فتشرب من أنهارها وعيونها فتحسن زينتك، وتثمر، فتأكل كل أولياء الله من ثمرتك وتخلد؛ فعلت؛ فزعم أنه سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول له: نعم قد فعلت، مرتين، فسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: اختار أن أغرسه في الجنة.
ولفظه عند عياض: إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك، ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فتأكل أولياء الله من ثمرك، ثم أصغى له النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله وأكون في مكان لا أبلي فيه فسمعه من يليه، قال صلّى الله عليه وسلّم: قد فعلت، ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء، فكان الحسن إذا حدث بهذا بكى وقال: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شوقا إليه لمكانه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه، وهو في كتاب يحيى بنحوه، وفي حديث سهل بن سعد عند أبي نعيم: فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة، فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم.
وفي لفظ عند ابن عبد البر: فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق، فرجع إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، قال: فكان إذا صلّى صلى إليه، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة وعاد رفاتا.
وهذا يبعد ما قدمناه من التأويل؛ إذا ظاهره أنه لم يدفن.
ويحتمل: أن ذلك كان بعد دفنه، ومشى يصلي إليه قريبا منه؛ لأنه كان عند مصلّاه كما سنحققه.(2/4)
وفي كتاب يحيى عن أبي سعيد: كان صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع نخلة، فأتاه رجل رومي، فقال: أصنع لك منبرا تخطب عليه، فصنع له منبره الذي ترون، فلما قام عليه فخطب حنّ الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فضمّه فسكن، وأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدفن ويحفر له.
وعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع يتساند إليه، فمر رومي فقال: لو دعاني محمد لعملت له ما هو أرفق له من هذا، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليه، فدعاه، فجعل له المنبر، ثم ذكر حنين الجذع وتخيير النبي صلّى الله عليه وسلّم له، قال:
فقالت: فسمعنا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: فنعم، فغار الجذع فذهب.
وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب إلى الجذع، فلما اتخذ المنبر وعدل إليه حن الجذع حتى أتاه فاحتضنه فسكن، وقال: لو لم أفعل هذا لحنّ إلى يوم القيامة.
وذكر الإسفراييني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعاه إلى نفسه، فجاء يخرق الأرض فالتزمه، ثم أمره فعاد إلى مكانه.
صانع المنبر
وفي كتاب ابن زبالة عن خالد بن سعيد مرسلا أن تميما الداري كان يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشتد عليه وجع كان يجده في فخذيه يقال له الزجر، فقال له تميم: يا رسول الله ألا أصنع لك منبرا تقوم عليه، فإنه أهون عليك إذا قمت وإذا قعدت؟ قال: وكيف المنبر؟
قال: أنا يا رسول الله أصنعه لك، قال: فخرج إلى الغابة فقطع منها خشبات من أثل، فعمل له درجتين: أي غير المقعد، فتحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخشبة التي كان يستند إليها إذا خطب، ثم ذكر حنينها، وقال: بلغنا أنها دفنت تحت المنبر.
وعن المطلب بن حنطب أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بالجذع فحفر له تحت المنبر فدفن هنالك، قال:
والذي عمل المنبر غلام نصيبة المخزومي، وكان المنبر من أثلة كانت قريبا من المسجد.
وعن سهل بن سعد الساعدي نحو ما في الصحيح أن رجالا أتوا سهلا وقد امتروا في المنبر مم عوده، فسألوه عن ذلك، فقال: والله إني لأعرف ممّ هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى فلانة امرأة من الأنصار قد سماها سهل: مري غلامك النجار، أن يعمل لي أعوادا أجلس عليها إذا كلمات الناس، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر بها فوضعت هاهنا، ثم رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليها وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر، هذا لفظ الصحيح، وزاد فيه ابن زبالة: وقطعت خشب المنبر بيدي مع الذي بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحملت إحدى الدرجات.(2/5)
ورواه يحيى بلفظ: عمل من أثل، يعني المنبر، وكنت ممن حمل درجته هذه، ثم ذكر حنين الجذع، وفي رواية للبخاري في كتاب الهبة «فجاؤا به- يعني المنبر- فاحتمله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فوضعه حيث ترون» .
وقال الحافظ ابن حجر: صحف بعض الرواة قوله إلى فلانة امرأة من الأنصار فقال إلى علاثة (بالعين المهملة والمثلاثة) وهو خطأ، والمرأة لا يعرف اسمها، ونقل ابن التين عن مالك أن النجار كان مولى لسعد بن عبادة؛ فيحتمل أنه كان في الأصل مولى امرأته، ونسب إليه مجازا، واسم امرأته فكيهة بنت عبيد بن دليم، وهي ابنة عمه؛ فيحتمل أن تكون هي المرأة، لكن رواه ابن راهواه عن ابن عيينة وقال: مولى لبني بياضة، ووقع عند الكرماني قيل:
اسمها عائشة، وأظنه صحّف المصحف، ثم وجدت في الأوسط للطبراني من حديث جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى سارية في المسجد، ويخطب إليها، ويعتمد عليها، فأمرت عائشة، فصنعت له منبره هذا، فذكر الحديث، وإسناده ضعيف، ولو صح لما دل على أن عائشة هي المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف، والله أعلم.
وأسند ابن سعد في الطبقات من حديث أبي هريرة، ورجاله ثقات إلا الواقدي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق علي، فقال تميم الداري: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمل» الحديث.
موضع الجذع
وأسند يحيى منقطعا عن ابن أبي الزناد وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد كان موضعه عند الأسطوانة المخلّقة التي تلي القبر التي عن يسار الأسطوانة المخلّقة التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي عندها التي هي عند الصندوق، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
إن القيام قد شق علي، وشكا صلّى الله عليه وسلّم ضعفا في رجليه، قالوا: فقال تميم الداري- وكان رجلا من لخم من أهل فلسطين- يا رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام، قالوا: فلما أجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذو الرأي من أصحابه على اتخاذه قال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: مره يعمل، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا، ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضعه اليوم، ثم راح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حن الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة، حتى ارتاع الناس، وقام بعضهم على رجليه، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مسه بيده، فسكن، فما سمع له صوت بعد ذلك، ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المنبر فقام عليه،(2/6)
فلم يزل كذلك في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فلما هدم عثمان المسجد اختلف في الجذع، فمنهم من قال: أخذه أبي بن كعب، فكان عنده حتى أكلته الأرضة، ومنهم من قال: دفن في موضعه.
شهرة حديث حنين الجذع
وقال عياض: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر.
وقال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف، وفيه دليل على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكا كأشرف الحيوان.
وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته؛ فهذا أكبر من ذلك.
الموضع الذي دفن فيه الجذع
ونقل ابن زبالة اختلافا في دفن خشبته؛ فعن عثمان بن محمد: دفنت دوين المنبر عن يساره، وقال بعضهم: دفنت شرقي المنبر إلى جنبه، وقال بعضهم: دفنت تحت المنبر، وتقدم في رواية أنه دفن في موضعه الذي كان فيه، ومحصل الرواية المتقدمة في كلام يحيى أنه كان في جهة المشرق يسار المصلّى الشريف.
ونقل ابن زبالة عن عبد العزيز بن محمد أن الأسطوان الملطّخ بالخلوق ثلثاها أو نحو ذلك محرابها موضع الجذع الذي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب إليه، بينها وبين القبلة أسطوان، وبينها وبين المنبر أسطوان.
بدعة اصطنعها الناس بسبب الجذع
قلت: وهذه الأسطوانة هي التي تقدم أنها علم المصلّى الشريف عن يمينه، ولهذا روى عقبة ما قدمناه من القيام بمقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة لمن عدل عنها قليلا، وهذا مستند المطري في قوله: وكان هذا الجذع عن يمين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاصقا بجدار المسجد القبلي في موضع كرسي الشمعة اليمنى التي توضع عن يمين الإمام المصلّي في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأسطوانة التي قبلي الكرسي متقدمة عن موضع الجذع؛ فلا يعتمد على قول من جعلها في موضع الجذع، قال: وفيها خشبة ظاهرة مثبتة بالرصاص سدادة لموضع كان في حجر من حجارة الأسطوانة مفتوح قد حوط عليه بالبياض والخشبة ظاهرة، تقول العامة:
هذا الجذع الذي حن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس كذلك بل هو من جملة البدع التي يجب إزالتها(2/7)
لئلا يفتن بها الناس، كما أزيلت الجزعة التي كانت في المحراب القبلي، وذكر قصة الجزعة التي قدمناها.
وقال المجد: إن الخشبة المذكورة كان يزدحم على زيارتها والتمسح بها، ويعتقد الناس عامة أنها الجذع، فظن بعض الفقهاء أن هذا من المنكر الذي يتعين إزالته، وصرح بهذا في كتبه، إلى أن وافق على ذلك شيخنا العز بن جماعة فأمر بإزالتها، إلى آخر ما قدمناه عنه.
قال: وكان موضع الخشبة من الأسطوان المذكور على مقدار ذراعين من الأرض ارتفاعا، وقد طلي عليه بالقصة، ولا عين منه ولا أثر.
قلت: الذي يظهر- كما قدمته- أن هذه الخشبة كانت من العود الذي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يضع يده عليه ويقول: عدلوا صفوفكم، كما تقدم، والله أعلم.
عود إلى الاختلاف في صانع المنبر
ونقل ابن زبالة الاختلاف في الذي عمل المنبر، فقيل: غلام نصيبة المخزومي، وقيل:
غلام للعباس، وقيل: غلام لسعيد بن العاص يقال له باقول (بموحدة وقاف مضمومة) وقيل: غلام لامرأة من الأنصار من بني ساعدة، أو لامرأة لرجل منهم يقال له مينا، وقوله «يقال له مينا» يحتمل المولى وزوج المرأة، لكن عند يحيى قال إسماعيل بن عبد الله: الذي عمل المنبر غلام الأنصارية واسمه مينا، وعند ابن بشكوال عن أبي بن أويس: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة أو بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم يقال له مينا، وهذا محتمل كالأول، وقيل: عمله تميم الداري، هذا حاصل ما ذكره ابن زبالة، وفي رواية ليحيى: عمل المنبر صباح غلام العباس (بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة) وتقدم تسميته كلابا، ونقل المراغي عن بعض شيوخه أن الذي عمله باقوم (بالميم) باني الكعبة لقريش، وفي الاستيعاب عن باقوم الرومي قال: صنعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم منبرا من طرفاء له ثلاث درجات: المقعدة، ودرجتيه، قال ابن عبد البر: وإسناده ليس بالقائم.
وفي طبقات ابن سعد أن الصحابة قالوا: يا رسول الله إن الناس قد كثروا، فلو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت، قال صلّى الله عليه وسلّم: ما شئتم، قال سهل رضي الله عنه: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذاك النجار إلى الغابة فقطعنا هذا المنبر من أثلة، وفي لفظ: فحمل سهل منهن خشبة، قال المجد: إسنادهما صحيح، وعند قاسم بن أصبغ: وكان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون، فذكر الحديث، وعند الطبراني عن سهل: كنت جالسا مع خال لي من الأنصار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اخرج إلى الغابة وأتني من خشبها فاعمل لي(2/8)
منبرا، الحديث. وأخرج الطبراني بإسناد فيه مترول أن اسم صانع المنبر إبراهيم، وفي أسماء الصحابة لابن شبة مرسلا: اسمه قبيصة أو قصيبة بتقديم الصاد، المخزومي، مولاهم، وعند أبي داود بإسناد جيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بدّن قال تميم الداري: يا رسول الله ألا تتخذ لك منبرا يحمل- أو يجمع- عظامك، قال صلّى الله عليه وسلّم: بلى، فاتخذ له منبرا مرقاتين: أي غير المقعدة.
قال الحافظ ابن حجر: وليس في الروايات التي سمي فيها النجار قوي السند إلا هذا، وليس فيه تصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم، بل قد تبين من رواية ابن سعد المتقدمة أن تميما لم يعمله، وأشبه الأقوال بالصواب أنه ميمون؛ لكون الإسناد من طريق سهل، ولا اعتداد بالأقوال الآخرى لكونها واهية.
قلت: ولا ينافيه قوله في مقدمة الشرح «باقوم أشهر الأقوال» فقد يشتهر الواهي.
وفي التحفة لابن عساكر: روينا من حديث أبي كبشة السلولي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أتّخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم، صلى الله عليهما وسلم.
وأسند ابن النجار من حديث أنس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة مسندا ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبرا، فبنوا له منبرا له عتبتان، وهو يقتضي أن المنبر كان بناء، ويحتمل أنه أطلق على تأليفه من الأخشاب اسم البناء، لكن قال الحافظ ابن حجر: حكى بعض أهل السير أنه صلّى الله عليه وسلّم «كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب» ويعكر عليه ما تقدم في الأحاديث الصحيحة من أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب.
قلت: يحتمل أن ذلك المنبر المتخذ من الطين كان إلى جانب الجذع، وكأنه كان بناء مرتفعا فقط، وليس له درج ومقعدة بحيث يكمل الارتفاق به؛ فلا ينافي ما تقدم في سبب اتخاذ المنبر من خشب، ويؤيد ذلك ما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، الحديث، وهذه القصة متقدمة على اتخاذ المنبر من الخشب؛ فقد جزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان، وجزم ابن سعد بأنه كان في السنة السابعة، على أن ذكر تميم والعباس في عمله كما تقدم يقتضي تأخره عن ذلك أيضا؛ فقد كان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع، وفي بعض طرق الحديث: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه، الحديث. وفي بعض طرقه أنه جاء والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب أي: على ذلك الدكان، والله أعلم.(2/9)
وروى يحيى عن ابن أبي الزناد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجلس على المجلس، ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولي عمر قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان فعل ذلك ست سنين من خلافته؛ ثم علا إلى موضع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم قال: قالوا فلما استخلف معاوية زاد في المنبر، فجعل له ست درجات، وكان عثمان أول من كسا المنبر قبطية.
أراد معاوية أن ينقل المنبر إلى الشام
قالوا: فلما قدم معاوية عام حج حرك المنبر، وأراد أن يخرجه إلى الشام، فكسفت الشمس يومئذ، حتى بدت النجوم، فاعتذر معاوية إلى الناس، وقال: أردت أنظر إلى ما تحته، وخشيت عليه من الأرضة. قال بعضهم: وكساه يومئذ قبطية أو لينة. ثم أسند عن سعيد ابن عمرو قصة تحريك معاوية للمنبر، وأن الشمس كسفت، واعتذاره بأن خشي عليه الأرضة، وأنه كساه يومئذ قبطية يكون عليه أو لينة، فكان يقال: هو أول من كساه، قال يحيى: وأثبتهما عندنا أن عثمان هو أول من كساه، وقد نقل ذلك ابن النجار عن الواقدي عن ابن أبي الزناد، قال: فسرقت الكسوة امرأة، فأتى بها عثمان، فقال لها: هل سرقت؟
قولي لا، فاعترفت، فقطعها، واتفق لامرأة مع ابن الزبير مثل ذلك.
وفي تاريخ الواقدي: أراد معاوية رضي الله عنه سنة خمسين تحويل منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دمشق، فكسفت الشمس يومئذ، وكلمه أبو هريرة رضي الله عنه فيه، فتركه، فلما كان عبد الملك أراد ذلك فكلمه قبيصة فتركه؛ فلما كان الوليد أراد ذلك فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز فكلمه فيه فتركه، فلما كان سليمان قيل له في تحويله قال: لا؛ ها الله، أخذنا الدنيا ونعمد إلى علم من أعلام الإسلام نريد تحويله؟ ذاك شيء لا أفعله؛ وما كنت أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد! ما لنا ولهذا؟
رفع المنبر ست درجات
وأسند ابن زبالة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: بعث معاوية رضي الله عنه إلى مروان يأمره أن يحمل إليه منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمر به أن يقلع، فأظلمت المدينة، وأصابتهم ريح شديدة، قال: فخرج عليهم مروان فخطبهم، وقال: يا أهل المدينة إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إلى منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمير المؤمنين أعلم بالله من أن يغير منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ما وضعه عليه، إنما أمرني أن أكرمه وأرفعه، قال: فدعا نجارا فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم، ووضعه موضعه اليوم.
وفي رواية له عن ابن قطن: قلع مروان بن الحكم منبر رسول الله، وكان درجتين(2/10)
والمجلس، وأراد أن يبعث به إلى معاوية، قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم، قال:
فزاد فيه ست درجات، وخطب الناس فقال: إني إنما رفعته حين كثر الناس.
وعند يحيى في رواية أخرى: كتب معاوية رضي الله عنه إلى مروان وهو على المدينة أن أرسل لي بمنبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج مروان فقلعه، فأصابتنا ريح مظلمة بدت فيها النجوم نهارا، ويلقى الرجل الرجل يصكه فلا يعرفه، وذكر اعتذار مروان المتقدم، وقال: إنما كتب إلي يأمرني أن أرفعه من الأرض، فدعا له النجاجرة، فعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها، وهي- أي الدرجات التي زادها- ست درجات، قال: ثم لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده.
وقال ابن زبالة عقب حديث رواه من طريق سفيان عن كثير بن زيد عن المطلب ما لفظه: والذي زاد في درج المنبر معاوية بن أبي سفيان.
قال سفيان: قال كثير: فأخبرني الوليد بن رباح قال: كسفت الشمس يوم زاد معاوية في المنبر حتى رؤيت النجوم.
وروى ابن النجار زيادة مروان فيه، وأنه صار تسع درجات بالمجلس، عن ابن أبي الزناد، ثم قال: ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة، فقال لمالك بن أنس: إني أريد أن أعيد منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على حاله، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء، وقد سمّر إلى هذه العيدان وشد، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك، فلا أرى أن تغيره، فانصرف المهدي عن تغييره.
وروى ابن شبة قصة المهدي عن محمد بن يحيى عن محمد بن أبي فديك.
عدد درجات المنبر
قلت: وجميع ما قدمناه من كلام المؤرخين مقتض لاتفاقهم على أن منبره صلّى الله عليه وسلّم كان درجتين غير المجلس ونقله ابن النجار عن الواقدي، لكن سبق في رواية الدارمي «هذه المراقي «1» الثلاث أو الأربع» على الشك، وفي صحيح مسلم «هذه الثلاث درجات» من غير شك، وقال الكمال الدميري في شرح المنهاج: وكان صلّى الله عليه وسلّم منبره ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح، ولعل مأخذه ظاهر ذلك مع حديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رقي المنبر فلما رقي الدرجة الأولى قال: آمين، ثم رقي الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم رقي الدرجة الثالثة فقال:
آمين، فقالوا: يا رسول الله سمعناك قلت آمين ثلاث مرات، قال: لما رقيت الدرجة الأولى جاء جبريل عليه السلام فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ عنه فلم يغفر له، قلت:
__________
(1) المراقي: وسائل الرقي أو آلاته، مفردها: مرقاة.(2/11)
آمين، ثم قال: شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، قلت: آمين، ثم قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين، رواه يحيى بن الحسن عن جابر، ورواه الحاكم عن كعب بن عجرة»
وقال: صحيح الإسناد، ولفظه: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: احضروا المنبر، فحضرنا، فلما رقي درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال:
آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا: يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه، قال: إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين؛ فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت:
آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين، ويمكن حمله على أنه صلّى الله عليه وسلّم ارتقى حينئذ على المجلس وهي الدرجة الثالثة.
مساحة المنبر
قال ابن زبالة: وطول منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة ذراعان في السماء، وعرضه ذراع في ذراع، وتربيعه سواء، وفيه مما كان يلي ظهره إذا قعد ثلاثة أعواد تدور، ذهب إحداهن، وانقلعت إحداهن سنة ثمان وتسعين ومائة، وأمر به داود بن عيسى فأعيد، وفيما عمل مروان في حائط المنبر الخشب عشرة أعواد لا يتحركن، وطول منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتفع في السماء مع الخشب الذي عمله مروان- أي الأعواد المتقدمة- ثلاث أذرع ونصف.
وقال عقب كلامه الآتي في ذرع ما عليه المنبر اليوم، يعني زمنه، ما لفظه: وطول المجلس- أي مجلسه صلّى الله عليه وسلّم- شبران وأربع أصابع في مثل ذلك. مربع؛ فقوله أولا: «وعرضه ذراع في ذراع» إنما أراد به مقعد المنبر؛ لما قاله هنا في وصف المقعد بدون درجتيه؛ ولأنه قال هنا عقب ما تقدم: وما بين أسفل قوائم منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم الأول إلى رمانته خمسة أشبار وشيء؛ وعرض درجه شبران، وطولها شبر، وطوله من ورائه- يعني محل الاستناد- شبران وشيء؛ فيؤخذ من ذلك أن امتداد المنبر النبوي من أوله- وهو ما يلي القبلة- إلى ما يلي آخره في الشام أربعة أشبار وشيء؛ لقوله: إن عرض درجه شبران، وإن المجلس شبران وأربع أصابع، وقوله: «وما بين أسفل قوائم منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم- إلى آخره» معناه أن من طرف المنبر النبوي الذي يلي الأرض إلى طرف رمانته التي يضع عليها يده الكريمة خمسة أشبار وشيء؛ وذلك نحو ذراعين ونصف، وقد تقدم أن ارتفاع المنبر النبوي خاصة ذراعان؛ فيكون ارتفاع الرمانة نحو نصف ذراع.
وقال ابن النجار: طول منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع
__________
(1) أبو محمد، القضاعي، البلوي، المدني، حليف القوافل، مات سنة إحدى وخمسين روى عنه البخاري ومسلم.(2/12)
راجح، وطول صدره- وهو مستند النبي صلّى الله عليه وسلّم- ذراع، وطول رمانتي المنبر اللتين كان يمسكهما بيده الكريمتين إذا جلس شبر وأصبعان، وعرضه ذراع في ذراع، يريد وتربيعه سواء، ولا يخفى ما فيه من المخالفة لكلام ابن زبالة.
وقال ابن زبالة في الكلام على فضل ما بين القبر والمنبر، بعد ذكر المرمر الذي حول المنبر، ما لفظه: وفي المنبر من أسفله إلى أعلاه سبع كوى «1» مستطيرة من جوانبه الثلاث، وفي جنبه الذي عمل مروان من قبل المشرق ثماني عشرة كوة «1» مستديرة شبه المربعة، ومن قبل المغرب ثماني عشرة كوة مثل ذلك، وكان فيه خمسة أعواد تدور، فذهب بعضها وبقي اثنان منها، فسقط أحدهما في سلطان داود بن عيسى على المدينة في سنة ثمان وتسعين ومائة، فأمر به فأعيد.
وقال في موضع آخر: وفيما عمل مروان في حائط المنبر الخشب عشرة أعواد لا يتحركن، ثم قال: وفي منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة خمسة أعواد من جوانبه الثلاث، فذهب بعضها.
وقال بعد ما تقدم عنه في ذرع منبره صلّى الله عليه وسلّم ما لفظه: وذرع طول المنبر اليوم أربع أذرع، وعرضه ذراع وشيء يسير، وما بين الرمانة المؤخرة والرمانة التي كانت في منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القديم ذراع وشيء، وما بين رمانة منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الرمانة المحدثة في مقدم المنبر ذراعان وعظم الذراع، وما بين الرمانة والأرض ثلاث أذرع وشيء، وطول المنبر اليوم من أسفل عتبته إلى مؤخره سبع أذرع- أي بتقديم السين- وشبر، وطوله في الأرض إلى مؤخره ست أذرع، هذه عبارته بحروفها، ويتعين حمل كلامه على أن امتداد المنبر في الأرض من أسفل عتبته الرخام التي أمامه إلى مؤخر المنبر سبعة أذرع وشبر، وطول امتداده وهو في الأرض إلى مؤخره مع إسقاط العتبة ست أذرع، حتى يلتئم كلامه، وقد ذكر فيما قدمناه عنه أن حول المنبر مرمر مرتفع قدر الذراع، وفيه شيء محدث غير مرتفع زاده الحسن بن زيد.
وقال في موضع آخر: والمنبر مبني فوق رخام، وهو في وسط الرخام، فسمي المرمر رخاما، وقال: إن هذا الرخام حده من الأسطوانتين اللتين في قبلة المنبر- أي خلفه- إلى الأسطوانتين اللتين تليانهما مما يلي الشام- أي أمام المنبر- وقد سمى ابن النجار هذا الرخام الذي عليه المنبر دكة، وقال: إن طولها شبر وعقد، يعني في الارتفاع، وسمى ذلك أبو الحسين بن جبير في رحلته حوضا، وكأنه أخذ هذه التسمية مما ورد في أن المنبر على الحوض، وذكر في طول هذا الرخام وعرضه ما يقرب مما قدمناه في حدود المسجد النبوي، قال: وارتفاعه شبر ونصف.
__________
(1) الكوى جمع كوّة: الخرق في الحائط.(2/13)
قلت: ولما حفر متولي العمارة في زماننا أرض المسجد الشريف وسواها بأرض المصلى الشريف وجد هذا الرخام المذكور، وارتفاعه عن أرض المصلى الشريف نحو ما ذكره ابن النجار وابن جبير؛ ثم لما أرادوا تأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره حفروا حول الدكة المذكورة فظهر أنها منخفضة عن أرض المصلّى الشريف التي استقر عليها الحال اليوم يسيرا، وخلفها من جهة القبلة إفريز نحو ثلث ذراع، وطولها سبع أذرع، بتقديم السين، وشبر، وهي مجوفة شبيهة بالحوض، فصح ما ذكره ابن جبير في تسميتها حوضا، وصح أيضا ما سيأتي عنه من أن سعة المنبر خمسة أشبار؛ لأن جوف هذا الحوض الذي وجدناه بما دخل من عمودي المنبر في أحجاره خمسة أشبار، وقول ابن زبالة أولا «وذرع طول المنبر اليوم أربع أذرع» مراده ارتفاعه في الهواء مع الدرج الست التي زادها مروان؛ فيكون طول الدرج الست ذراعين؛ فتكون كل درجة ثلث ذراع، فيقرب مما قدمه ابن زبالة في طول درج منبر النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي تقتضيه المناسبة.
ونقل الزين المراغي عن ابن زبالة أنه قال: طول منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما زيد فيه أربعة أذرع، ومن أسفل عتبته إلى أعلاه تسعة أذرع وشبر.
قلت: كذا رأيته بخط الزين، وضبط قوله: «تسعة أذرع» بتقديم التاء الفوقية، وهو غلط في النسخة التي وقعت له؛ لأن الذي قدمناه عن ابن زبالة إنما هو من أسفل عتبته إلى مؤخره، وقررناه بما تقدم، وإنما قضينا على ذلك بالغلط لأنه حينئذ لا يلتئم أطراف كلامه، ولأنه يقتضي أن يكون ارتفاع المنبر في الهواء تسعة أذرع، بتقديم التاء، وشبرا، فإذا قام عليه القائم يقرب من سقف المسجد، ويبعد كل البعد كون منبر في ذلك الزمان ارتفاعه هذا القدر، وأيضا فابن زبالة قد صرح بأن الذي زاده مروان ست درج، فيلزم أن يكون كل درجة ذراعا وشيئا، وهو في غاية البعد، وما نقلناه عن ابن زبالة يقرب مما ذكره ابن النجار؛ فإنه قال عقب ما قدمناه عنه في وصف منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لفظه: وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاث أصابع، والدكة التي عليها من رخام طولها شبر وعقد، ومن رأسه- أي المنبر- دون دكته إلى عتبته خمسة أذرع وشبر وأربع أصابع، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل عليه باب يفتح يوم الجمعة، انتهى؛ فهو قريب مما ذكره ابن زبالة من أن طول المنبر- يعني في الهواء- أربعة أذرع، وامتداده هو خاصة في الأرض من عتبته إلى مؤخره ستة أذرع، ويوافق أيضا ما ذكره الفقيه أبو الحسين محمد بن جبير من حديث القدر، فإنه قال: رأيت منبر المدينة الشريف في عام ثمان وسبعين وخمسمائة، وارتفاعه من الأرض نحو القامة أو أزيد، وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خطوات، وأدراجه ثمانية، وله باب على هيئة الشباك مقفل يفتح يوم الجمعة، وطوله- أي الباب- أربعة أشبار ونصف شبر، وهذا(2/14)
المنبر هو الذي وصفه ابن النجار فيما يظهر؛ لأنه وضع تاريخه سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وتوفي قبل حريق المسجد سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكان احتراق المسجد كما سيأتي سنة أربع وخمسين وستمائة، وفيه احترق هذا المنبر، وفقد الناس بركته.
وقد زاد ابن جبير على ابن النجار في وصف هذا المنبر فقال: وهو مغشّى بعود الآبنوس، ومقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أعلاه ظاهر قد طبق عليه لوح من الآبنوس غير متصل به يصونه من القعود عليه؛ فيدخل الناس أيديهم إليه ويمسحونه بها تبركا بلمس ذلك المقعد الكريم، وعلى رأس رجل المنبر الأيمن حيث يضع الخطيب يده إذا خطب حلقة فضة مجوفة مستطيلة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في أصبعه إلا أنها أكبر منها، وهي لاعبة تستدير في موضعها، انتهى.
والظاهر: أن هذا المنبر غير الذي وصفه ابن زبالة لأنه لم يصفه بذلك، ويوضح ذلك ما ذكره في الطراز لسند من المالكية حيث قال: إن منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل عليه منبر كالغلاف، وجعل في المنبر الأعلى طاق مما يلي الروضة، فيدخل الناس منها أيديهم يمسحون منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ويتبركون بذلك، انتهى؛ فهذا شيء حدث بعد ابن زبالة.
وقد قال المطري: حدثني يعقوب بن أبي بكر من أولاد المجاورين، وكان أبوه أبو بكر فراشا من قوام المسجد، وهو الذي كان حريق المسجد على يده، أن المنبر الذي زاده معاوية ورفع منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم تهافت على طول الزمان، وأن بعض خلفاء بني العباس جدده، واتخذ من بقايا أعواد منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمشاطا للتبرك، وعمل المنبر الذي ذكره ابن النجار فيما تقدم.
قال يعقوب: سمعت ذلك من جماعة بالمدينة ممن يوثق بهم، وأن المنبر المحترق هو الذي جدده الخليفة المذكور، وهو الذي أدركه ابن النجار؛ لأن وفاته قبل الحريق.
قلت: وظاهر كلام ابن عساكر في تحفته أنه كان قد بقي من المنبر الشريف بقايا فقط إلى احتراق المسجد، وهو من أدرك حريقه، وأورد في كتابه ما ذكره شيخه ابن النجار، ولفظه: وقد احترقت بقايا منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم القديمة، وفات الزائرين لمس رمانة المنبر التي كان صلّى الله عليه وسلّم يضع يده المقدسة المكرمة عليها عند جلوسه عليه، ولمس موضع جلوسه منه بين الخطبتين وقبلهما، ولمس موضع قدميه الشريفتين بركة عامة ونفع عائد، وفيه صلّى الله عليه وسلّم عوض من كل ذاهب ودرك من كل فائت، انتهى. وهو صريح في بقاء ما ذكره إلى حين الحريق، ويؤيده ما تقدم عن رحلة ابن جبير وصاحب الطراز، بل ظفرنا بما يشهد لصحة ذلك؛ فإنه لما أراد متولي العمارة تأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره حفروا على الدكة التي تقدم أن المنبر(2/15)
كان عليها فوجدت مجوفة كالحوض، وبه عبر ابن جبير عنها، فوجدوا فيما يلي القبلة منها قطعا كثيرة من أخشاب المنبر المحترق- أعني الذي كان فيه بقايا منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم- فوضعها الأقدمون في جوف ذلك المحل حرصا على البركة، وبنوا فوقها بالآجر بحيث سدوا جوف ذلك الحوض كله، فصار دكة مستوية، ووضعوا المنبر الآتي ذكره عليها، وشاهدت آثار قائمتي المنبر الشريف اللتين كان بأعلاهما رمانتاه قد نحت لهما في الحجر المحيط بالحوض المذكور على نحو ذراع وثلث من طرف باطن الحوض المذكور مما يلي القبلة، وسعة الحوض المذكور خمسة أشبار كما ذكره ابن جبير في سعة المنبر، وعرض جدار الحوض المذكور خلف المنبر نحو نصف ذراع، وقد حرصت على وضع ما وجد من تلك الأخشاب في محلها، فوضع ما بقي منها في محله من الحوض المذكور، وبنوا عليه كما سيأتي، والله أعلم.
ولما احترق المنبر المذكور في جملة الحريق أرسل الملك المظفر صاحب اليمن في سنة ست وخمسين منبرا له رمانتان من الصندل، فنصب في موضع منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم كما ذكره المطري فمن بعده، قال: ولم يزل يخطب عليه عشر سنين، فلما كان في سنة ست وستين وستمائة أرسل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري هذا المنبر الموجود اليوم أي: زمن المطري، فقلع منبر صاحب اليمن، وحمل إلى حاصل الحرم، ونصب هذا المنبر مكانه، وطوله أربع أذرع في السماء، ومن رأسه إلى عتبته سبع أذرع يزيد قليلا، وعدد درجاته تسع بالمقعد.
قال المجد: وله باب بمصراعين، في كل مصراع رمانة من فضة، ومكتوب على جانبه الأيسر اسم صانعه «أبو بكر بن يوسف النجار» وكان من أكابر الصالحين الأخيار، وهو الذي قدم بالمنبر إلى المدينة، فوضعه في موضعه، فأحسن وضعه، وأتقن نجارته وصنعته، ثم انقطع في المدينة.
قال الزين المراغي: وبقي منبر الظاهر بيبرس يخطب عليه من سنة ست وستين وستمائة إلى سنة سبع وتسعين وسبعمائة، فكانت مدة الخطبة عليه مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة، فبدأ فيه أكل الأرضة؛ فأرسل الظاهر برقوق صاحب مصر هذا المنبر الموجود اليوم: أي زمن المراغي، أرسله في آخر سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وقلع منبر الظاهر بيبرس، انتهى.
قلت: ولم يزل هذا المنبر موجودا إلى ما بعد العشرين وثمان مائة، كما أخبرني به جماعة من مشايخ الحرم منهم الشيخ صالح المعمر الجمال عبد الله بن قاضي القضاة عبد الرحمن بن صالح، قال: فأرسل سلطان مصر الملك «المؤيد شيخ» هذا المنبر الموجود اليوم عام اثنين وعشرين وثمان مائة.
ثم رأيت في كلام الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر أن المنبر الموجود اليوم أرسله المؤيد(2/16)
سنة عشرين وثمان مائة؛ فهذا هو المعتمد، لكن لم يطلع ابن حجر على ما ذكره المراغي من منبر الظاهر برقوق، وجعل إتيان منبر المؤيد هذا بدلا عن منبر الظاهر بيبرس، وكلام المراغي أولى بالاعتماد في ذلك؛ فإنه كان بالمدينة حينئذ، وعلى هذا فمدة الخطبة على منبر الظاهر برقوق ثلاث أو أربع وعشرون سنة، ثم وضع منبر المؤيد.
وأخبرني السراج النفطي أنه صنعه أهل الشام، وجاؤوا به المؤيد ليجعله بمدرسته المؤيدية، فوجدوا أهل مصر قد صنعوا لها منبرا، فجهز المؤيد منبر أهل الشام إلى المدينة الشريفة، وقال لي الجمال عبد الله بن صالح: شاهدت وضعه موضع المنبر الذي كان قبله.
قلت: ويدل على صحة ذلك ما قدمناه من اختبار ذرع ما بينه وبين المصلى الشريف؛ إذ المنقول أن بينهما أربعة عشر ذراعا وشبرا، وقد اختبرته من ناحية المصلى الشريف إلى ما حاذاه من المنبر في المغرب فكان كذلك؛ فوضعه من هذه الجهة صحيح لا شك فيه، وأما من جهة القبلة فقد قال المطري: إن المنبر الذي أدركه بينه وبين الدرابزين الذي في قبلة الروضة مقدار أربعة أذرع وربع ذراع، وقد ذكر الزين المراغي في كتابه ما ذكره المطري من الذرع، ولم يتعقبه؛ فاقتضى أن المنبر الذي تقدم وضعه في زمنه وضع موضع المنبر الذي كان في زمان المطري، وأقر أيضا قول المطري في حدود المسجد أن المنبر لم يغير عن منصبه الأول.
وقد ذكر ابن جماعة أيضا ذرع ما بين المنبر والدرابزين، وهو يعني المنبر الموجود زمن المطري، فقال: إن بينهما ثلاثة أذرع بذراع العمل، وهو أزيد مما ذكره المطري بربع ذراع راجح؛ لأن ذراع العمل كما تقدم ذراع ونصف، وكأن المطري يعني ذراع المدينة اليوم كما يؤخذ من كلام المراغي فيوافق كلام ابن جماعة، والذي بين هذا المنبر الموجود اليوم وبين الدرابزين المذكور ذراعان وثلث بذراع العمل، وذلك ثلاثة أذرع ونصف من الذراع الذي قدمنا أنه المراد عند الإطلاق؛ فيحتمل أن يكون هذا المنبر مقدم الوضع لجهة القبلة على المنبر الذي كان قبله، وهو مقتضى ما نقله الأثبات، لكني أستبعده للأخبار ممن لقيناه بوضعه موضع ذاك.
ثم تبين عند انكشاف الدكة التي تقدم ذكرها من آثار المنبر المحترق قديما ما علمنا به صواب ما ذكره المطري وغيره أن هذا المنبر مقدم الوضع على الذي قبله من جهة القبلة بما يقرب من ذراع، وكذا ظهر زيادته من جهة الشام أيضا على الدكة الأصلية المتقدم وصفها بقريب من ذراع، ووجد محرفا عنها من طرفه الشامي نحو المغرب قدر شبر لما فيها من التيامن الذي تقدمت الإشارة إليه في التنبيه الثالث من الفصل قبله، وكنت قد أيدت وضعه بكونه أقرب إلى ما ورد فيما كان بين المنبر والجدار القبلي كما سيأتي فانكشف الحق لذي(2/17)
عينين، والذي لقيناه وأخبر بوضعه موضع المنبر الذي كان قبله هو الجمال بن صالح في آخر عمره، وكان غير تام الضبط حينئذ، وكنت قد أيدت خبره بأنا قد قدمنا إلى الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف في عرض الجدار، وأن المصلى الشريف لم يغير باتفاق، وأن منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بينه وبين الجدار القبلي ممر الشاة أو ممر الرجل منحرفا، وأقصى ما قيل فيه ذراع وشيء كما قدمناه، فإذا أسقطت قدر ما بين طرف المصلى الشريف والدرابزين الذي أمامه مما بين المنبر اليوم والدرابزين المذكور وهو ثلاثة أذرع ونصف بقي ذراع، وهو نحو القدر المنقول فيما بين المنبر القديم وجدار المسجد الشريف، ثم تبين لنا مما سبق في حدود المسجد النبوي وبانكشاف المرمر الذي في قبلة المنبر تقدم الدرابزين المذكور عن ابتداء المسجد النبوي بأزيد من ذراع كما قدمناه في حدود المسجد النبوي؛ فالصواب ما ذكره المطري ومن تبعه.
وطول هذا المنبر في السماء سوى قبته وقوائمها، بل من الأرض إلى محل الجلوس، ستة أذرع وثلث، وارتفاع الخافقتين اللتين يمين المجلس وشماله ذراع وثلث، وامتداد المنبر في الأرض من جهة بابه إلى مؤخره ثمانية أذرع ونصف راجحة، وعدد درجه ثمانية، وبعدها مجلس ارتفاعه نحو ذراع ونصف، وقبته مرتفعة، ولها هلال قائم عليها مرتفع أيضا، وما أظن منبرا وضع قبله في موضعه أرفع منه، وله باب بصرعتين.
وقد احترق هذا المنبر في حريق المسجد الثاني الحادث في رمضان عام ستة وثمانين وثمان مائة، فكانت مدة الخطبة عليه نحو سبع وستين سنة.
ولما نظف أهل المدينة محله جعلوا في موضعه منبرا من آجر مطلي بالنورة، واستمر يخطب عليه إلى أثناء شهر رجب سنة ثمان وثمانين، فهدم رابع الشهر المذكور، وحفروا لتأسيس المنبر الرخام الموجود اليوم ظاهر الدكة المتقدم ذكرها، فوجدت على النحو المتقدم، ونقضوا من بعضها قريب القامة فلم يبلغوا نهايتها، ووجدوها محكمة التأسيس في الأرض، فأعادوها كما كانت، إلا ما كان فوقها من نحو أزيد من نصف ذراع من الآجر، وسوّوا ما وجد مجوفا منها كالحوض بالبناء بعد وضع ما تقدم ذكره مما وجد بمقدمها من بقايا المنبر القديم المحترق في الحريق الأول بمقدمها أيضا، وكانوا قد سألوني عن ابتداء حد المنبر القديم من جهة القبلة والروضة فأخبرتهم بذلك، وأن ذلك الحوض وما به من محل قوائم المنبر الأصلي إمام يقتدى به لموافقته ما ذكره المؤرخون قديما وحديثا، فشرعوا في وضع رخام المنبر عليها على سمت ما ظهر من الفرضة التي وجدوها في الحوض المذكور على الاستقامة من غير انحراف، وبينها وبين طرف الدكة الشرقي خمسة أصابع، لما ظهر من أن المنبر الأصلي كان بالحوض المذكور، ومشاهدة محل قوائمه نقرا في الحجر وبقايا الرصاص(2/18)
الذي كانت القوائم مثبتة به، وما وصفه المؤرخون في أمر المنبر الأصلي شاهد لذلك، ومعلوم أن الحوض الموجود في باطن تلك الدكة لا يمكن وضع المنبر فيه إلا على الاستقامة، سيما وقد طابقت سعته ما ذكره ابن جبير في سعة المنبر الأصلي، وإحكام تلك الدكة بحيث إنهم حفروا منها قرب القامة، ولم يدركوا آخرها، وإتقان فرضتي الحوض المذكور بالرصاص، وترخيم تلك الدكة قديما، كله قاض بجعل السلف لها من أجل وضع المنبر فيها، كما صرح به المؤرخون، ولم يكن السلف مع عظيم إتقانهم يجعلونها لوضع المنبر ويحرفونها عن وضعه؛ لأن وضعها تابع لوضعه إذ جعلت من أجله، وقد كان وضعه مشاهدا لهم؛ لوجود المنبر النبوي بين أظهرهم وإتقانها وما سبق من المتقدمين في ذكر ترخيمها شاهد بعملها في عمارة عمر بن عبد العزيز للمسجد إن لم يكن من زمن معاوية رضي الله عنه عند تحريكه المنبر كما سبق، ولم أرتب عند مشاهدتها في وضع المنبر بها كذلك، وتيامن حوضها الذي كان المنبر به يسير جدا لا يخرج صدر المستقبل عن القبلة، وقد أشار يحيى فيما قدمناه عنه في التنبيه الثالث إلى تصويب وضعه، وأيضا فقد يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم وضعه متيامنا لما أوضحناه في الرسالة الموسومة بالنصيحة، والمنبر جماد ليس بمصل حتى يحرر أمره في الاستقبال ويترك ما وجد من حدوده الأصلية المجمع عليها في الأعصر الماضية المترتب عليها حدود الروضة الشريفة، فشرعوا في وضع رخام المنبر المذكور على النحو الذي ذكرته، غير أنهم جعلوا جداره من جهة القبلة على الأحجار التي خلف الحوض من جهة القبلة؛ لاقتضاء نظرهم ذلك، ولو كان لي من الأمر شيء ما وافقت عليه.
ثم وقع من بعض ذوي النفوس ما أوضحناه في الرسالة الموسومة (بالنصيحة الواجبة القبول، في بيان وضع منبر الرسول) صلّى الله عليه وسلّم.
والحاصل: أنهم نقضوا ما سبق، وزادوا خلف أحجار الحوض المذكور نحو ربع ذراع العمل حتى ساوى ذلك محل المنبر المحترق من جهة القبلة، وحرفوه على تلك الدكة لجهة المغرب أزيد من تحريف المنبر المحترق، وجعلوا هذا المنبر في محل المحترق من جهة القبلة ومساو لطرفها الشرقي مما يلي القبلة أيضا، وزعموا أنه لا يعول على كلام من قدمناه من الأئمة، ويتحرر مما سبق أنه مقدم على محل المنبر الأصلي لجهة القبلة بعشرين قيراطا من ذراع الحديد، وهو نحو ذراع اليد، وأن المنبر النبوي لم يقع في محله نغير إلا من تاريخ وضع المنبر المحترق في زماننا لأنه خفي على واضعه ما في جوف الدكة المذكورة، ولم يدركه أحد من مؤرخي المدينة، وكان مفرط الطول بحيث كان قاطعا للصف الباقي من الروضة، وقد اقتدى به واضع هذا المنبر لكونه من آبائه، ولم يبال ولي الأمر بتفويته المنقبة العظيمة في إعادة وضع منبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما كان عليه، وهذا المنبر- أعني الرخام- أقصر من امتداد المنبر المحترق في الأرض بنحو ثلاثة أرباع ذراع، وعدد درجه مع مجلسه كالمحترق، ومحل عود(2/19)
المنبر الأصلي منه مما يلي الروضة وهو الذي كان بأعلاه رمانة المنبر النبوي قبل عمود هذا المنبر بأزيد من قيراط، وذلك على نحو ذراعين وشيء من طرف المنبر المذكور من القبلة.
وقد اشتهر محله من أحجار الدكة المذكورة بسبب تحريف المنبر المذكور بحيث تغيرت حدود الروضة الشريفة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كسوة المنبر
وفي يوم الجمعة يجعل على باب المنبر ستر من حرير أسود مرقوم بحرير أبيض وقد قدمنا أول من كسا المنبر.
وأسند ابن زبالة عن هشام بن عروة أن ابن الزبير كان يلبس منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم القباطي فسرقت امرأة قبطية فقطعها، وقال ابن النجار: ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوبا من الحرير الأسود له علم ذهب يكسى به المنبر، قال: ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستورا على أبواب الحرم.
ستور الأبواب كسوة الحجارة
قلت: قد استقر الأمر بعد قتل الخليفة المستعصم على حمل الكسوة من مصر كما قاله الزين المراغي قال: والأبواب مستقلة اليوم بستور، قال: وإنما يظهرونها في أوقات المهمات كقدوم أمير المدينة، وذكر ما سيأتي في كسوة الحجرة من وقف قرية بمصر على ذلك وعلى كسوة الكعبة الشريفة؛ فالكعبة تكسي كل عام مرة، والحجرة والمنبر في كل ست سنين مرة.
وقال المجد: والمنبر يحمل له في كل سبعة أعوام أو نحوها من الديار المصرية كسوة معظمة ملوكية يكساها من الجمعة إلى الجمعة، ورايتان سوداوان ينسجان أبدع نسج يرفعان أمام وجه الخطيب في جانبي المنبر قريبا من الباب.
قلت: في زماننا تمضي السبع سنين والعشر وأكثر من ذلك ولا تصل كسوة، والذي يجعل اليوم على المنبر إنما هو الستر المتقدم ذكره مع الرايتين اللتين ذكرهما المجد، والله أعلم.
الفصل الخامس في فضائل المسجد الشريف
قال الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] .
المسجد الذي أسس على التقوى
روينا في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت لبعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال:
فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، لمسجد المدينة.(2/20)
ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسألاه عن ذلك، فقال: هو هذا، وفي ذلك- يعني مسجد قباء- خير كثير، وأخرجه أحمد من وجه آخر مرفوعا، وفي العتبية عن مالك ما لفظه: وقال: المسجد الذي ذكر الله عز وجل أنه أسس على التقوى من أول يوم الآية هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا، أي مسجد المدينة، ثم قال: أين كان يقوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك من هنالك.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً [الجمعة: 11] فإنما هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقد قال عمر بن الخطاب: لولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو سمعته يريد أن يقدم القبلة، وقال عمر بيده هكذا، ما قدمتها، ثم قدمها عمر موضع المقصورة الآن، انتهى.
قال ابن رشد في بيانه: ما ذهب إليه مالك مروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء، فاستدلوا بما روي أن الآية لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم خيرا، الحديث، قال: ولا دليل فيه؛ لأن أولئك كانوا في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم، قال: واستدلال مالك بقول عمر المتقدم ظاهر؛ لأن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض بنائه وتبديل قبلته، إلا بما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك ورآه قد أراد أن يفعله.
قلت: ما ذكره مالك من كون مسجد المدينة هو المراد هو ظاهر ما قدمناه، لكن قوله تعالى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يقضي أنه مسجد قباء؛ لأنه ليس المراد أول أيام الدنيا، بل أول أيام حلوله صلّى الله عليه وسلّم بدار الهجرة، وذلك هو مسجد قباء إلا أن يدعى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم شرع في تأسيس مسجد المدينة أيضا من أول يوم قدومه لها، أو يقال: المراد من أول يوم تأسيسه، وسيأتي في مسجد قباء أشياء صريحة في أنه المراد؛ فتعين الجمع بأن كلا منهما يصدق عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه كما هو معلوم، وأنهما المراد من الآية، لكن يشكل عليه كون النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاب عند السؤال عن ذلك بتعيين مسجد المدينة، وجوابه أن السر في ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد به رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء كما هو ظاهر ما فهمه السائل، وتنويها بمزية مسجده الشريف لمزيد فضله، والله أعلم.
فضل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وفي الصحيحين حديث أبي هريرة «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» .
وعند مسلم: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء» .(2/21)
وعند أبي داود بلفظ: «ومسجدي هذا» .
وفي الكبير والأوسط للطبراني برجال ثقات عن ابن عمر، وبرجال الصحيح عن أبي الجعد الضّمري «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ، وذكر نحو رواية الصحيحين.
وفي صحيح ابن حبان ومسند أحمد والأوسط للطبراني وإسناده حسن من حديث جابر: «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق» .
وهو عند البزار بلفظ: «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلّى الله عليه وسلّم» ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الرحمن بن أبي الزناد وقد وثقه غير واحد.
فضل الصلاة في مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» هذا لفظ البخاري، زاد مسلم: «فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد» .
قلت: يريد آخر مساجد الأنبياء كما نقله المحب الطبري عن أبي حاتم، وإلا فهو من أول مساجد هذه الأمة، وإذا كانت الألف واللام هنا لمعهود- وهو مساجد الأنبياء- فالألف واللام أيضا في قوله «فيما سواه من المساجد» للعهد، والمراد مساجد الأنبياء؛ فيتحصل من معناه أن الصلاة في مسجده أفضل من الصلاة في سائر مساجد الأنبياء بألف صلاة إلا المسجد الحرام؛ فيقتضي ذلك أن تكون الصلاة بمسجده أفضل من ألف صلاة في بيت المقدس؛ لأنه من جملة مساجد الأنبياء، ولم يستثن، ويدل على ذلك ما رواه البزار عن أبي سعيد قال: ودّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال له: أين تريد؟ قال: أريد بيت المقدس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، وأسنده يحيى بزيادة تسمية الرجل فقال: عن الأرقم أنه تجهز يريد بيت المقدس، فلما فرغ من جهازه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يودعه، وقال فيه: فجلس الأرقم ولم يخرج، وأسنده ابن النجار عن الأرقم بلفظه: إنني أريد الخروج إلى بيت المقدس، قال صلّى الله عليه وسلّم: ولم؟ قلت: للصلاة فيه، قال: هاهنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة، ورواه الطبراني برجال ثقات عن الأرقم بلفظ: صلاة هاهنا خير من ألف صلاة ثم.
وقد روى أبو يعلى برجال ثقات عن ميمونة قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر، وأرض المنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة- أي في غيره من مساجد الأنبياء قبله، ومساجد غير الأنبياء ما عدا المسجدين- لقيام الدليل على ذلك؛ فتكون الصلاة بمسجد المدينة خيرا من ألف ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فأما المسجد الأقصى فإنها أفضل من ألف صلاة فيه(2/22)
فقط، ولا يعلم قدر زيادتها في الفضل على ذلك إلا الله تعالى، ولمثل هذا تضرب آباط الإبل، وتستحق الرحلة، ولا يعكر على ذلك ما رواه أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وعائشة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى» لأن المحفوظ إنما هو استثناء المسجد الحرام، وحديث أبي هريرة في الصحيح خلا قوله: «إلا المسجد الأقصى» وهو معارض بما تقدم، ولأن الهيثمي أورده في مجمع الزوائد ثم قال: رواه أحمد، وأعاده بعد هذا بسنده فقال: إلا المسجد الحرام، فاتضح بذلك ما قلناه.
وأما المسجد الحرام فاختلف الناس في معنى استثنائه، فذهب مالك في رواية أشهب عنه- وقاله ابن نافع صاحبه وجماعة من أصحابه- إلى أن معنى الاستثناء أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة، إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة، وحمل على ذلك الاستثناء في الحديث المتقدم، واحتجوا برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في ما سواه» فيأتي فضيلة مسجد الرسول عليه بتسعمائة، وعلى غيره بألف، وتعقّب بأن المحفوظ بالإسناد المتقدم «صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا مسجد الرسول فإنما فضله عليه بمائة صلاة» .
قلت: وروى الطبراني في الأوسط عن عائشة مرفوعا: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في غيره» لكن فيه سويد بن عبد العزيز، قال البخاري: في حديثه نظر لا يحتمل، وقد صح ما يقتضي رد ما ذهب إليه هؤلاء؛ فقد روى أحمد والبزار وابن خزيمة برجال الصحيح من طريق حبيب المعلم عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا» زاد ابن خزيمة: «يعني في مسجد المدينة» لكن لفظ البزار: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عيه بمائة» وهي محتملة لأن يكون الضمير في «فإنه يزيد» لمسجده أو للمسجد الحرام، وقد صحح ابن عبد البر حديث أحمد، وقال: هو الحجة عند التنازع، نص في موضع الخلاف، قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به العصبية، قال: ولا مطعن فيه إلا لمتعسف لا يعرج على قوله في حبيب، وقد كان الإمام أحمد يمدحه، ويوثقه، ويثنى عليه، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه، ولم يرو عنه القطان، وروى عنه أئمة ثقات يقتدى بهم، ومنهم من أعله باختلاف على عطاء؛ لأن قوما يروونه عنه عن ابن(2/23)
الزبير، وآخرين يروونه عنه عن ابن عمر، وآخرين عنه عن جابر، ومن العلماء من يجعل مثل هذا علة في الحديث، وليس كذلك؛ لأنه يمكن أن يكون عن عطاء عنهم، والواجب ألايدفع خبر نقله العدول إلا بحجة.
قال البزار: هذا الحديث قد روى عن عطاء، واختلف على عطاء فيه، ولا نعلم أحدا قال بأنه يزيد على مسجد المدينة مائة إلا ابن الزبير، وقد تابع حبيبا المعلم الربيع بن صبيح؛ فرواه عن عطاء عن ابن الزبير، ورواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر، ورواه ابن جريح عن عطاء بن أبي سلمة عن أبي هريرة أو عائشة، ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة، انتهى.
وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي: إسناده صالح، ولم يخرجه أصحاب السنن.
قلت: هذا أمر آخر، وهو أن الحديث المذكور لما اختلف لفظه على وجهين أحدهما ليس نصا في الدلالة كما قدمناه احتمل أن تكون الرواية في الواقع به، ومن رواه بالوجه الآخر رواه بالمعنى بحسب فهمه، إلا أن وروده من الطرق الآخرى بذلك اللفظ توهن هذا الاحتمال، وعلى تقدير ثبوته فهو من ابن الزبير، وهو أعرف بفهم مرويه؛ لأن عبد الرزاق روى عن ابن جريج قال: أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول: «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه» ويشير إلى مسجد المدينة، وقد قال ابن عبد البر: إن رجال إسناد حديث ابن عمر علماء أجلاء، ورواه ابن وضاح عن ابن الزبير من كلام عمر بن الخطاب بنفسه، قال ابن حزم: وسنده كالشمس في الصحة، وروى ابن أبي خيثمة عن أبيه حدثنا مسلم عن الحجاج عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال:
الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بمائة ضعف، قال: فنظرنا فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف صلاة، قال ابن عبد البر وابن حزم: فهذان صحابيان جليلان يقولان بفضل المسجد الحرام على مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا مخالف لهما من الصحابة؛ فصار كالإجماع منهم على ذلك.
وفي ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» وفي بعض النسخ: «من مائة صلاة فيما سواه» فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة لما تقدم عن جابر.
قلت: وقد روى يحيى حديث الصحيحين المتقدم عن جبير بن مطعم بلفظ: «إن صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد غير الكعبة» وفي رواية النسائي وغيره «إلا مسجد الكعبة» ولهذا ذهب بعضهم إلى أن المراد من المسجد الحرام(2/24)
الكعبة، وبه قال العمراني من أصحابنا وغيره، وروى البزار عن عائشة حديث: «أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء، أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل المسجد الحرام ومسجدي، وصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» .
وروى ابن ماجه مرفوعا برجال ثقات إلا أبا الخطاب الدمشقي فهو مجهول: «صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي تجمع فيه بخمس مائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» وهو يقتضي أن الصلاة بمسجد المدينة مساوية لمسجد بيت المقدس، وأنهما معا على النصف من الصلاة بالمسجد الحرام، وهو مخالف لما في الصحيح، مع أن مفهوم العدد ليس بحجة؛ فلا ينفي ما ثبت من الزيادة لمسجد المدينة على مسجد بيت المقدس سيما بالطريقة التي قدمناها.
وفي الطبراني- وهو حسن، وفي بعض رجاله كلام- عن أبي الدرداء مرفوعا: «الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» ورواه ابن خزيمة في صحيحه بنحوه، والبزار وحسنه، وقال المجد: أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، قال: ولا نعلم حديثا يشتمل على فضيلة الصلاة بالمساجد الثلاثة خصوصا «1» سواه مما يصح عند الاعتبار معناه.
قلت: لم أره في الترمذي، وقد ساقه ابن عبد البر محتجا به، وهو غير مانع مما قدمناه من كون الصلاة بمسجد المدينة أفضل من ألف صلاة بمسجد بيت المقدس؛ لأن العدد لا ينفي الزائد، وكذا حديث الأوسط للطبراني برجال الصحيح عن أبي ذر: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيما أفضل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو» وقد يقال في ذلك كما قيل في نظائره من احتمال أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر أولا ببعض ذلك بحسب ما أوحى إليه، ثم أعلم بالزيادة، ويكون حديث الأقل قبل حديث الأكثر، ثم تفضل الله بالأكثر شيئا بعد شيء، ومحصله ما قررناه من الأخذ بالزائد، ويحتمل أن ينزل تلك الأعداد على اختلاف الأحوال؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى غير نهاية.
__________
(1) المساجد الثلاثة: هي الأقصى، ومسجد المدينة، والمسجد الحرام.(2/25)
هل فضل الصلاة في المساجد الثلاثة يختص بالفرض؟
ونقل الزركشي في أعلام المساجد عن الكبير للطبراني بسند فيه مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا بعشرة آلاف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام بعشرة أمثالها مائة ألف صلاة، وصلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة، وصلاة الرجل في بيته حيث لا يراه أحد أفضل من ذلك كله» .
قلت: وهو ضعيف، ولم يورده الهيثمي في مجمعه في فضل الصلاة في المساجد الثلاث.
وهذه المضاعفة المذكورة في هذه المساجد لا تختص بالفريضة، بل تعم الفرض والنفل، كما قال النووي في شرح مسلم إنه المذهب.
قال الزركشي: وهو لازم تعليل الأصحاب استثناء النفل بمكة في الأوقات المكروهة بمزيد الفضيلة.
وقال الطحاوي من الحنفية: هو مختص بالفرض، وفعل النوافل بالبيت أفضل، وإليه ذهب ابن أبي زيد من المالكية، وهو المرجح عندهم، وفرق بعضهم بين أن يكون المسجد خاليا أم لا.
فإن قيل: كيف تقولون إن المضاعفة تعم الفرض والنفل وقد تطابقت الأصحاب ونص الحديث الصحيح على أن فعل النافلة في بيت الإنسان أفضل؟
قلنا: لا يلزم من المضاعفة في المسجد أن يكون أفضل من البيت كما قاله الزركشي وغيره، وغاية الأمر أن يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل، ولا يلزم من ذلك جعله أفضل؛ فإن للأفضل مزايا إن كان للمفضول مزية، ولهذا بحث التاج السبكي مع أبيه في صلاة الظهر بمنى يوم النحر إذا جعلنا منى خارجة عن محل المضاعفة: هل يكون أفضل من صلاتها في المسجد لأنه صلّى الله عليه وسلّم فعلها بمعنى يومئذ أو في المسجد للمضاعفة؟ فقال والده: بل في منى وإن لم يحصل بها المضاعفة؛ فإن في الاقتداء بأفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يربو على المضاعفة، على أن الحافظ ابن حجر ذكر ما يقتضي إثبات المضاعفة للتنفل في البيوت بالمدينة ومكة، عملا بعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» فقال: وقد تقدم النقل عن الطحاوي وغيره أن ذلك- يعني التضعيف- مختص بالفرائض؛ لحديث: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه؛ فتكون النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا.(2/26)
مرجع مضاعفة فضل الصلاة
ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب بتلك الأعداد، لا إلى الإجزاء، باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره؛ فلو كانت صلوات فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة، وقد أوهم كلام أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك؛ فإنه قال: حسبت الصلاة في المسجد الحرام فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمسة وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، اه. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة والسواك ونحوه، لكن هل تجمع التضعيفات أولا؟ محل بحث.
هل يختص التضعيف بالصلاة؟
قلت: وينبغي ألايختص هذا التضعيف بالصلاة، بل سائر أنواع الطاعات كذلك قياسا على ما ثبت في الصلاة، كما صرحوا به في مسجد مكة المشرفة، وصرح به فيما يتعلق بالمدينة صاحب الانتصار أبو سليمان داود من المالكية، ثم رأيته في كلام الغزالي في الإحياء كما قدمناه في فضل الخصائص، ويشهد له ما في الكبير للطبراني عن بلال بن الحارث قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان» ونقل المجد عن أبي الفرج الأموي أنه أخرجه بسنده عن ابن عمر.
قلت: ورواه ابن الجوزي في شرف المصطفى عن ابن عمر أيضا بلفظ: «صيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها، وصلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها» .
وروى البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان فيما سواه إلا المسجد الحرام» ورواه أيضا عن ابن عمر بنحوه.
وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فإذا ضمت إلى ما قدمناه من القياس على الصلاة ثم الاستدلال، وقد قدمنا في حدود مسجده صلّى الله عليه وسلّم الخلاف المذكور في المراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا» ، وترجيح أن ذلك يتناول ما زيد فيه.
وروى أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات عن أنس بن مالك حديث: «من صلى(2/27)
في مسجدي أربعين صلاة» زاد الطبراني: «لا تفوته صلاة كتب له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبرئ من النفاق» . تقدم هذا الحديث بدون زيادة الطبراني، وهو عند الترمذي بغير هذا اللفظ.
وروى ابن المنذر وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي فرجل تكتب حسنة ورجل تحط عنه خطيئة» .
وقال البيهقي بعد ذكر حديث فضل مسجد قباء ما لفظه: ورواه يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وزاد: «ومن خرج على طهر لا يريد إلا مسجدي هذا- يريد مسجد المدينة- ليصلي فيه كانت بمنزلة حجة» وقد أسند ذلك ابن زبالة ومن طريقه ابن النجار عن سهل أيضا، وفي إسناده طهمان أيضا، وهو ضعيف عند البخاري وابن عدي، وذكره ابن حبان في الثقات، ولفظ ابن زبالة: «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» وأسند هو ويحيى عن سهل بن سعد حديث: «من دخل مسجدي هذا يتعلم فيه خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره» وفي رواية لهما عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: «من دخل مسجدي هذا لا يدخله إلا ليعمل خيرا أو يتعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان بمنزلة من يرى ما يعجبه وهو في يدي غيره» .
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» ورواه الطبراني من حديث سعد مرفوعا بمعناه، إلا أنه قال: «من دخل مسجدي ليتعلم خيرا أو ليعلمه» ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ الطبراني لكن من حديث أبي هريرة.
وأسند ابن زبالة عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من دخل مسجدى هذا لصلاة أو لذكر الله أو يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله» ولم يجعل ذلك لمسجد غيره، وعند يحيى أيضا عن كعب أنه قال: «ما من مؤمن يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو أو لا يروح إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه أو يذكر الله أو يذكّر به إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الجهاد في سبيل الله، وما من رجل يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو ولا يروح إلا لأخبار الناس وأحاديثهم إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الرجل يرى الشيء يعجبه ويرى المصلين وليس منهم، ويرى الذاكرين وليس منهم» ، وعنده أيضا عن أبي سعيد المقبري عن الثقة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا إخال إلا أن لكل رجل منكم(2/28)
مسجدا في بيته» قالوا: نعم يا رسول الله، قال: «فو الله لو صليتم في بيوتكم لتركتم مسجد نبيكم، ولو تركتم مسجد نبيكم لتركتم سننه، ولو تركتم سننه إذا لضللتم» .
وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في غزوة خيبر: «من أكل من هذه الشجرة- يعني: الثوم- فلا يقربن مسجدنا» .
قال الكرماني: قال التيمي: قال بعضهم: النهي إنما هو عن مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم خاصة، من أجل ملائكة الوحي، والأكثر على أنه عام، انتهى. وقد حكى ابن بطال القول بالاختصاص عن بعض أهل العلم ووهّاه، والله أعلم.
الفصل السادس في فضل المنبر المنيف، والروضة الشريفة
روينا في الصحيحين حديث عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» زاد البخاري من حديث أبي هريرة: «ومنبري على حوضي» .
وروى أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه علي بن زيد وقد وثق عن جابر بن عبد الله مرفوعا:
«ما بين بيتي إلى منبري روضة من رياض الجنة، وإن منبري على ترعة من ترع الجنة» .
وروى أحمد برجال الصحيح عن سهل بن سعد مرفوعا: «منبري على ترعة من ترع الجنة» وفيه تفسير الترعة بالباب، وقيل: الترعة الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة، وقيل: الدرجة.
ورواه يحيى عن أبي هريرة وغيره بلفظ: «على رتعة من رتع الجنة» وكذا هو في رواية لرزين، وظنه بعضهم تصحيفا فكتب في هامشه «صوابه ترعة» وليس كذلك، بل معناه صحيح؛ إذ الرتع الاتساع في الخصب، والرّتعة- بسكون التاء وفتحها- الاتساع في الخصب، وكل مخصب مرتع.
وفي الحديث: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» ، وروى البزار عن معاذ بن الحارث نحوه.
وفي الكبير للطبراني من طريق يحيى الحماني وهو ضعيف عن أبي واقد الليثي مرفوعا:
«قوائم منبري رواتب في الجنة» ورواه ابن عساكر وابن النجار ويحيى عن أم سلمة، وقال المجد: أخرجه عنها النسائي، وفي رواية لابن عساكر: «وضعت منبري هذا على ترعة من ترع الجنة» .
وأسند يحيى عن أبي المعلى الأنصاري وكانت له صحبة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال وهو على المنبر: «إن قدمي على ترعة من ترع الجنة» .(2/29)
وعن أبي سعيد الخدري: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو قائم على منبره: «أنا قائم الساعة على عقر حوضي» وفي رواية له: «إني على الحوض الآن» .
وأسند ابن زبالة عن نافع بن جبير عن أبيه حديث: «أحد شقي المنبر على عقر الحوض، فمن حلف عنده على يمين فاجرة يقتطع بها حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار» قال: وعقر الحوض من حيث يصب الماء في الحوض.
وفي سنن أبي داود من حديث جابر مرفوعا: «لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار، أو وجبت له النار» ، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه.
وروى النسائي برجال ثقات عن أبي أمامة بن ثعلبة مرفوعا: «من حلف عند منبري هذا يمينا كاذبة استحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» .
وفي الأوسط للطبراني وفيه ابن لهيعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «منبري على ترعة من ترع الجنة، وما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة» .
وفي الصحيحين حديث ابن عمر: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» .
وروى أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد حديث: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي» .
وروى البزار برجال ثقات عن سعد بن أبي وقاص حديث: «ما بين بيتي ومنبري، أو قبري ومنبري، روضة من رياض الجنة» وفي الأوسط للطبراني وفيه متروك عن أنس بن مالك حديث: «ما بين حجرتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» وفي رواية لابن زبالة من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها «ما بين منبري والمصلى» وفي رواية «ما بين مسجدي إلى المصلى روضة من رياض الجنة» ورواه أبو طاهر بن المخلص في انتقائه ويحيى في أخبار المدينة بلفظ: «ما بين بيتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» قال جماعة: المراد به مصلى العيد، وقال آخرون: مصلاه الذي يصلي فيه في المسجد، كذا قاله الخطابي.
قلت: ويؤيد الأول أن في النسخة التي رواها طاهر بن يحيى عن أبيه يحيى عقب الحديث المذكور ما لفظه: قال أبي: سمعت غير واحد يقولون: إن سعدا لما سمع هذا الحديث من النبي صلّى الله عليه وسلّم بنى داره فيما بين المسجد والمصلى، وكذا ما سيأتي في مصلى العيد من رواية ابن شبة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص.
قلت: وهو شاهد لما سيأتي من عموم الروضة لجميع مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولما زيد فيه من جهة المغرب.(2/30)
وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند برجال الصحيح إلا أن فيهم فليحا- وقد روى له الجماعة، وقال الحاكم: اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره، وقال الساجي: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: فليح يختلفون فيه، وقال بعضهم: إنه كثير الخطأ- عن عبد الله بن زيد المازني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بين هذه البيوت- يعني بيوته- إلى منبري روضة من رياض الجنة، والمنبر على ترعة من ترع الجنة» .
معنى كون المنبر على الحوض
وقد اختلف في معنى ذلك؛ فقال الخطابي: معنى قوله: «ومنبري على حوضي» أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد الحوض ويوجب الشرب منه، وهذا قول الباقي، والثاني: أن منبره الذي كان يقوم عليه صلّى الله عليه وسلّم يعيده الله كما يعيد سائر الخلائق، ويكون على حوضه في ذلك اليوم، واعتمد ذلك ابن النجار، وحكى ابن عساكر القول بأن المراد منبره بعينه الذي كان في الدنيا، ثم قال: وهو أظهر، وعليه أكثر الناس، فتبع شيخه ابن النجار في ذلك، والثالث أن المراد منبر يخلقه الله تعالى له في ذلك اليوم، ويجعله على حوضه.
قلت: ويظهر لي معنى رابع، وهو أن البقعة التي عليها المنبر تعاد بعينها في الجنة، ويعاد منبره ذلك على هيئة تناسب ما في الجنة؛ فيجعل المنبر عليها عند عقر الحوض، وهو مؤخره، وعن ذلك عبر بترعة من ترع الجنة، وذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لأمته للترغيب في العمل في هذا المحل الشريف ليفضي بصاحبه إلى ذلك، وهذا في الحقيقة جمع بين القولين الأولين، وسيأتي في الزيارة ما ذكره ابن عساكر من أن الزائر يأتي المنبر الشريف، ويقف عنده، ويدعو.
معنى أن الروضة من رياض الجنة
واختلفوا أيضا في معنى ما جاء في الروضة الشريفة، قال الحافظ ابن حجر: محصل ما أول به العلماء ذلك أن تلك البقعة كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل فيها من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده صلّى الله عليه وسلّم؛ فيكون مجازا، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، فيكون مجازا أيضا، أو هو على ظاهره، وأن المراد أنها روضة حقيقة بأن ينقل ذلك الموضع إلى الجنة؛ ثم قال: وهذه الأقوال على ترتيبها هذا في القوة، وهو محتمل لتقوية الأول أو الأخير، والأخير أقواها عندي، وهو الذي ذهب إليه ابن النجار، ونقله البرهان ابن فرحون في منسكه عن ابن الجوزي وغيره عن مالك، فقال:
وقوله: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» حمله مالك رحمه الله على ظاهره، فنقل عنه ابن الجوزي وغيره أنها روضة من رياض الجنة تنقل إلى الجنة، وأنها ليست كسائر(2/31)
الأرض تذهب وتفنى، ووافقه على ذلك جماعة من العلماء، انتهى ونقله الحطيب ابن حملة عن الداروردي، وصححه ابن الحاج في مدخله؛ لأن العلماء فهموا من ذلك مزية عظيمة لهذا المحل.
ثم رأيت في كلام الحافظ ابن حجر ترجيحه في موضع آخر، فقال في الكلام على الحوض: والمراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها، أو أنها على المجاز لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة، ثم قال:
وهذا فيه نظر؛ إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة، والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها، انتهى.
قلت: وأحسن من ذلك ما ذهب إليه ابن أبي جمرة من الجمع بين هذا وما قبله، ومنه استنبطنا ما قدمناه في أمر المنبر، فإنه لم يعول على ذكر المعنى الأول وقال بعد ذكر المعنيين الأخيرين: الأظهر- والله أعلم- الجمع بين الوجهين؛ لأن لكل منهما دليلا يعضده، أما الدليل على أن العمل فيها يوجب الجنة فلما جاء في فضل مسجدها من المضاعفة، ولهذه البقعة زيادة على باقي بقعه، وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة فلإخباره صلّى الله عليه وسلّم بأن المنبر على الحوض، لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره؛ وأنه حق محسوس موجود على حوضه.
قلت: وفيه نظر؛ لما قدمناه.
قال: وقد تقرر في قواعد الشرع أن الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا والإخبار بذلك إلا تعميرها بالطاعات؛ قال: ويحتمل وجها ثالثا؛ وهو أن تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما أن الحجر الأسود من الجنة؛ فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن؛ ويعود روضة في الجنة كما كان؛ ويكون للعامل بالعمل فيه روضة في الجنة؛ قال:
وهو الأظهر؛ لعلو مكانته عليه السلام؛ وليكون بينه وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه، وهو أنه لما خص الخليل بالحجر من الجنة خص الحبيب بالروضة منها.
قلت: وهو من النّفاسة بمكان، وفيه حمل اللفظ على ظاهره، إذ لا مقتضى لصرفه عنه، ولا يقدح في ذلك كونها تشاهد على نسبة رياض الدنيا فإنه ما دام الإنسان في هذا العالم لا ينكشف له حقائق ذلك العالم لوجود الحجب الكثيفة والله أعلم.
وتخصيص ما أحاطت به البينية المذكورة بذلك إما تعبد وإما لكثرة تردده صلّى الله عليه وسلّم بين بيته ومنبره وقرب ذلك من قبره الشريف الذي هو الروضة العظمى كما أشار إليه ابن أبي جمرة أيضا.
وقال الجمال محمد الراساني الريمي: اتفقوا على أن هذا اللفظ معقول المعنى، مفهوم(2/32)
الحكمة، وإنما اختلفوا في ذلك المعنى ما هو، فقيل: اللفظ على حقيقته، وإن ذلك روضة من رياض الجنة بمعنى أنه بعينه نقل من الجنة، أو أنه سينقل إليها، وقيل: مجاز معناه أن العبادة فيه تؤدّي إلى الجنة، أو لما ينزل فيه من الرحمة وحصول المغفرة، كما سمي مجالس الذكر رياض الجنة في حديث: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» «1» وفي رواية لأبي هريرة:
«قلت: ما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قلت: وما الرتع؟ قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر» .
وقال ابن عبد البر: لما كان صلّى الله عليه وسلّم يجلس في ذلك الموضع ويجلس الناس إليه للتعلم شبّهه بالروضة؛ لكريم ما يجتنى فيه، وأضافها إلى الجنة لأنها تؤول إلى الجنة، كقوله: «الجنة تحت ظلال السيوف» أي أنه عمل يدخل الجنة.
وقال الخطابي: روضة من رياض الجنة بالطاعة فيه، كقوله: «عائد المريض في مخرفة الجنة» «2» أي يرجى له بذلك مخرفة الجنة؛ فأطلق اسم المسبب على سببه كقوله: «الجنة تحت أقدام الأمهات» .
هذا ما نقله الخطيب ابن حملة من المعاني، ثم تعقب الأخير بأنه لا يبقى حينئذ لهذه الروضة مزية، وقد فهم الناس من ذلك المزية العظيمة التي بسببها فضلها مالك على سائر البقاع.
وقد تعقب الجمال الريمي الخطيب في ذلك، وقال: أظهر المعاني تضعيف أجر الطاعات، وتعليم الناس وجوه الخير؛ لاتفاق الخطابي وابن عبد البر عليه، وهما عمدة الأمة في فقه الحديث، ولأن النظائر تؤيده، وأما المعنيان الآخران فلم يعزهما الخطيب إلى أحد، فدل على ضعفهما، ولم يذكر عياض القول بأن هذا الموضع بعينه نقل من الجنة، وذكر ما عداه، فدل على شذوذه؛ لأن مثل هذا طريقه التوقيف كما جاء في الركن والمقام، على أن القول به يؤدي إلى إنكار المحسوسات أو الضروريات، وجواب ما ذكره الخطيب أن المزية ظاهرة، وهو أن العمل في النظائر المتقدمة يؤدي إلى رياض الجنة، والعمل في هذا المحل يؤدي إلى روضة أعلى من تلك الرياض.
قلت: إنما حمله على هذا ذهابه إلى أن اسم الروضة يعم جميع مسجده صلّى الله عليه وسلّم، وأنه إذا
__________
(1) ارتعوا أي انعموا في خصب وسعة.
(2) المخرفة: البستان، والسّكة بين صفين من نخيل، والطريق الواضح، جمع مخاريف.(2/33)
ثبت لما زيد فيه حكم المضاعفة تعدى ذلك إليه، فاختار كون التسمية بذلك مجازية، ووضع في ذلك كتابا سماه «دلالات المسترشد، على أن الروضة هي المسجد» وقد صنف الشيخ صفي الدين الكازروني المدني مصنفا في الرد عليه، وقد لخصتهما مع سلوك طريق الإنصاف بينهما في كتابي الموسوم: «بدفع التعرض والإنكار، لبسط روضة المختار» وسنذكر الصواب في ذلك، واستدلاله على ضعف القول بأن ذلك الموضع بعينه نقل من الجنة بأن عياضا لم يذكره عجيب لاحتمال أنه لم يطلع عليه، وقوله: «إن ذلك طريقه التوقيف كما جاء في الركن» فنقول: أي توقيف أعظم من إخبار الصادق المصدوق بذلك؟ وهو المخبر بأمر الركن والمقام، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فكيف سلمه في الركن والمقام ولم يسلمه هنا؟ والذي فهمه العلماء من الحديث أن هذا الموضع روضة، سواء كان به ذاكرون ومصلون أم لم يكن، بخلاف حلق الذكر مثلا، فإن ذلك يزول عنها بقيامهم، فالروضة ما هم فيه بخلاف هذه، ولهذا فسر الرتع هناك بالذكر، والمراد في حديث: «الجنة تحت أقدام الأمهات» أن لزوم خدمتهن تؤدي إليها، وقوله: «إن القول بذلك يؤدي إلى ما ذكره» عجيب، وقد قدمنا السبب المانع من شهود ذلك على حقيقته، وأي حسن أحسن من القول بأن ذلك روضة من الجنة أكرم الله به نبيه؟ ويؤيده أحاديث المنبر المتقدمة وما سيأتي في أحد وعير؛ إذ لم يقل أحد إن المراد أن المتعبد عند أحد يفضي به ذلك إلى الجنة، والمتعبد عند عير يفضي به ذلك إلى النار، وأما قوله في بيان المزية: «إن العمل في ذلك المحل يؤدي إلى روضة أعلى» فليس في الحديث وصفه بأنه أعلى الرياض، بل أطلق ذلك، فإذا ثبت ذلك لغيره فلا خصوصية، بل قد يقول الذاهب إلى تفضيل مكة: إن العمل فيها يؤدي إلى روضة أعلى وأفضل، ولظهور مزية تلك البقعة على غيرها بذلك استدل به بعض الأئمة على تفضيل المدينة على مكة بإضافة حديث «لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» وتعقبه ابن حزم بأن جعلها من الجنة إنما هو على سبيل المجاز، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى [طه: 118] قال: وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة كما يقال في اليوم الطيب: هذا يوم من أيام الجنة.
قلت: لا يلزم من ثبوت عدم الجوع والعري لمن حل في الجنة ثبوته لمن حل في شيء أخرج منها؛ إذ يلزمه أن ينفي بذلك عن حجر المقام كونه من الجنة حقيقة، ولا قائل به، ومسألة عموم الروضة لجميع مسجده صلّى الله عليه وسلّم ذات خلاف؛ فقد قال الأقشهري: سئل أبو جعفر بن نصر الداودي المالكي عن قوله: «ما بين بيتي ومنبري روضة» فقال: هو روضة كله، ونقل الريمي عن الخطيب ابن حملة أنه قال: قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف قد يفيد العموم في بيوته، ثم ذكر بيان مكان بيوته، ثم قال: ولهذا قال السمعاني في أماليه: لما فضّل الله مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرفه وبارك في العمل فيه وضعفه سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(2/34)
روضة من رياض الجنة، فتراه جعل المسجد كله روضة، والمشهور أن المراد بيت خاص، وهو بيت عائشة رضي الله عنها؛ للرواية الآخرى «ما بين قبري ومنبري» قال ابن خزيمة:
أراد بقوله ما بين بيتي الذي أقبر فيه؛ إذ النبي صلّى الله عليه وسلّم قبر في بيته الذي كانت تسكنه عائشة، قال الخطيب: فعلى هذا تسامت- يعني الروضة- حائط الحجرة من القبلة والشمال من جهة الحجرة، ولا تزال تقصر إلى جهة المنبر، أو توجد المسامتة مستوية فلينظر، هذا كله كلام الخطيب.
قلت: فتلخص من ذلك ثلاثة آراء: الأول: أنها المسجد الموجود في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، الثاني:
أنها ما سامت المنبر والحجرة فقط، فتتسع من جهة الحجرة وتضيق من جهة المنبر لما تقدم في مقداره، وتكون منحرفة الأضلاع لتقدم المنبر في جهة القبلة وتأخر الحجرة في جهة الشام، فتكون كشكل مثلث ينطبق ضلعاه على قدر المنبر، الثالث: أنها ما سامت كلا من طرفي الحدين، فتشمل ما سامت المنبر من مقدم المسجد في جهة القبلة وإن لم يسامت الحجرة، ويشمل ما سامت الحجرة من جهة الشمال، وإن لم يسامت المنبر، فتكون مربعة، وهي الأروقة الثلاثة: رواق المصلى الشريف، والرواقان بعده، وذلك هو مسقف مقدم المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، لأنه قد تحرر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أن صف أسطوان الوفود- وهي التي كانت إلى رحبة المسجد كما سيأتي- واقع خلف الحجرة سواء، حتى إن الأسطوانة التي تلي مربعة القبر في صفها الداخلة في الزور بعضها داخل في جدار الحجرة الشامي كما سيأتي بيانه.
وأما أدلة هذه الأقوال فقد استدل الريمي للأول بأشياء غالبها ضعيف مبناه على أن إطلاق الروضة من قبيل المجاز لما في ذلك من المضاعفة ونحوه، وأحسنها ما أشار إليه الخطيب ابن حملة وأيده الريمي بأشياء، فقال: قوله «بيتي» من قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف، فيفيد العموم في سائر بيوته صلّى الله عليه وسلّم، وقد كانت بيوته مطيفة بالمسجد من القبلة والمشرق- وفيه بيت عائشة- والشام كما سيأتي عن ابن النجار وغيره، ولم يكن منها في جهة المغرب شيء، فعرف الحد من تلك الجهة بالمنبر الشريف، فإنه كان في آخر جهة المغرب بينه وبين الجدار يسير؛ لأن آخره من تلك الجهة الأسطوانة التي تلي المنبر، والمنبر على ترعة من ترع الجنة، فقد حدد الروضة بحدود المسجد كلها.
قلت: وهو مفرع على ما ذكره ابن النجار في تحديد المسجد من جهة المغرب، وقد مشيت عليه في تواليفي قبل أن أقف على ما قدمته في حد المسجد، وقد مشى على ذلك الزين المراغي فقال: ينبغي اعتقاد كون الروضة لا تختص بما هو معروف الآن، بل تتسع إلى حد بيوته صلّى الله عليه وسلّم من ناحية الشام، وهو آخر المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم؛ فيكون كله روضة، وهذا(2/35)
إذا فرعنا على المفرد المضاف للعموم، وقد رجحه في كتب الأصول جماعة، ثم ذكر ما تقدم.
قلت: وفاتهم الجميع الاستدلال بحديث زوائد مسند أحمد المتقدم بلفظ «ما بين هذه البيوت» يعني بيوته «إلى منبري روضة من رياض الجنة» والعجب أن المعتنين بأمر الروضة لم يذكروه، مع أن فيه غنية عن التمسك بكون المفرد المضاف يفيد العموم، فقد ناقش الصفي الكازروني في ذلك بأشياء: منها أن رواية «ما بين قبري ومنبري» بينت المراد من البيت المضاف. قلت: ليته قال رواية: «ما بين المنبر وبيت عائشة» لأنه يلزم عليه أن يكون الروضة بعرض القبر فقط، والتخصيص بذلك بعيد، ومن قال: «إن المراد من البيت القبر» ليس مراده والله أعلم إلا أن رواية القبر لعدم إبهامها تعين البيت، ولعله مراد الصفي، ولهذا قال الطبري: وإذا كان قبره صلّى الله عليه وسلّم في بيته اتفقت معاني الروايات، ولم يكن بينها خلاف، انتهى، ولك أن تقول: رواية «قبري» ورواية «حجرة عائشة» من قبيل إفراد فرد من العام، وذكره بحكم العام، وهو لا يقتضي التخصيص على الأصح، بل يقتضي الاهتمام بشأن ذلك الفرد، على أن القرطبي قال: الرواية الصحيحة «بيتي» ويروى «قبري» وكأنه بالمعنى، والله أعلم.
ومنها: أن القرافي حمل إطلاق عموم اسم الجنس على ما يقع منه على القليل والكثير كالماء والمال، بخلاف ما لا يصدق إلا على الواحد كالعبد والبيت والزوجة فلا يعم، ولهذا لو قال عبدي حر أو امرأتي طالق لا يعم سائر عبيده ونسائه، قال: ولم أره منقولا. قلت:
قال التاج السبكي: خالف بعض الأئمة في تعميم اسم الجنس المعرف «1» والمضاف، والصحيح خلافه، وفصل قوم بين أن يصدق على القليل والكثير فيعم، أو [لا] «2» فلا، واختاره ابن دقيق العيد، انتهى.
فقد جعل ما بحثه القرافي وجها ثالثا مفصلا، وذلك يأبى حمل إطلاق المطلقين عليه، فما بحثه منقول، لكن الصحيح خلافه، وما استدل به من عدم عموم عبدي حر وامرأتي طالق جوابه من أوجه ذكرناها في دفع التعرض، وأحسنها ما أشار إليه الأسنوي من أن عدم العموم في ذلك لكونه من باب الأيمان، والأيمان يسلك فيها مسلك العرف، انتهى. ونقل
__________
(1) في جميع المطبوعات «المعروف» .
(2) ما بين [] زيادة يقتضيها السياق.(2/36)
الأزرقي في نفائسه عن ابن عبد السلام أنه قال: الذي تبين لي طلاق الجميع وعتق الجميع، وفي كتب الحنابلة نص أحمد على أنه لو قال من له زوجتان أو عبيد «زوجتي طالق، أو عبدي حر» ولم ينو معيّنا، وقع الطلاق والعتق على الجميع، تمسكا بالقاعدة المذكورة، فقد جرى ابن عبد السلام والحنابلة على مقتضى ذلك؛ فهذه الطرق من أحسن الأدلة، ولكن على شمول الروضة لما بين المنبر والبيوت الشريفة فهو رأي آخر، وقد قدمنا من الحديث ما يصرح به، ويؤيده ما أشار إليه الريمي من أن المقتضى لكون ذلك روضة كثرة تردده صلّى الله عليه وسلّم فيه، وكان يصلي قبل تحويل القبلة في طرفه الذي يلي الشام، ومتهجّده كما سيأتي في جهة المشرق إلى الشام أيضا، ومنبره الشريف في نهاية هذا الموضع المحدود من جهة المغرب، ومصلاه الشريف بمقدمه وبه الأساطين الآتية ذوات الفضل.
وأما الرأي الثاني فدليله التمسك بظاهر لفظ البينية الحقيقية، وحمل البيت على حجرة عائشة رضي الله عنها، ويضعفه أن مقدم المصلى الشريف يلزم خروجه عن اسم الروضة حينئذ؛ لخروجه عن موازاة طرفي المنبر والحجرة، مع أن الظاهر أن معظم السبب في كون ذلك روضة تشرفه بجبهته الشريفة، على أني لم أر هذا القول لأحد، وإنما أخذته من تردد الخطيب ابن حملة المتقدم.
وأما الرأي الثالث فهو ظاهر ما عليه غالب العلماء وعامة الناس، ووجهه حمل البيت على ما في الرواية الآخرى من ذكر حجرة عائشة، وجعل ما تقدم في أمر خروج مقدم المصلى الشريف دليلا على أن المراد من البينية ما حاذى واحدا من الطرفين، وأن المراد مقدم المسجد المنتهي من جهة مؤخر الحجرة الشريفة لصف أسطوان الوفود كما قدمناه، وفي كلام الأقشهري إشارة له، وهذا إنما علمناه في العمارة التي سنذكرها، ولم يكن معلوما قبل ذلك، ولهذا قال المجد في الباب الأول في فصل الزيارة من كتابه ما لفظه: ثم يأتي- يعني الزائر- إلى الروضة المقدسة، وهي ما بين القبر والمنبر طولا، ولم أر من تعرض له عرضا، والذي عليه غلبة الظنون أنه من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه، وأنا لا أوافق على ذلك، وقد بينته في موضعه من هذا الكتاب، وذكرت أن الظاهر من لفظ الحديث يقتضي أن يكون أكثر من ذلك؛ لأن بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بجميع مرافق الدار كان أكثر من هذا المقدار، انتهى.
ولم يذكر في الموضع الذي أحال عليه شيئا، وقوله «من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه» كأنه يريد به الأسطوان المخلق وما حاذاها؛ فتكون الروضة على ذلك التقدير الرواق الأول منها فقط، وهو غلط؛ لأن الحجرة الشريفة متأخرة عن ذلك لجهة الشام؛ وصف(2/37)
الأسطوان المذكور محاذ لطرف جدارها القبلي. وقال ابن جماعة: قد تحرر لي طول الروضة، ولم يتحرر لي عرضها، يريد أن طولها من المنبر إلى الحجرة، وهو كما قال ابن زبالة ثلاثة وخمسون ذراعا وشبرا، وقال في موضع آخر: أربعة وخمسون ذراعا وسدس.
قلت: وما ذكره أولا أقرب إلى الصواب كما اختبرناه، فإني ذرعت بحبل من صفحة المنبر القبلية إلى طرف الحجرة القبلية فكان ثلاثة وخمسين ذراعا.
وذكر ابن جماعة ذراعا أقل من هذا، وكأنه ذرع على الاستقامة، ولم يعتبر الذرع من الطرفين المذكورين، فقال: وذرعت ما بين الجدار الذي حول الحجرة الشريفة وبين المنبر فكان أربعا وثلاثين ذراعا وقيراطا بذراع العمل. قلت: وذلك نحو اثنين وخمسين ذراعا بذراع اليد الذي قدمنا تحريره، وأما قول من قال: «إن طول الروضة اليوم ينقص عن خمسين ذراعا بثلثي ذراع» فلا وجه له إلا أن يكون اعتبر بذراع اليد المفرط الطول، والله أعلم.
وأما نهاية الحجرة فلم تكن معلومة لابن جماعة وغيره، وعليها يتوقف بيان العرض، ولهذا قال الريمي: لا ندري الحجرة في وسط البناء المحيط بها أم لا؟ ولا ندري إلى أين ينتهي امتدادها؟ وغالب الناس يعتقدون أن نهايتها في محاذاة أسطوان علي رضي الله عنه، ولهذا جعلوا الدرابزين الذي بين الأساطين ينتهي إلى صفها، واتخذوا الفرش لذلك فقط، والصواب ما قدمناه؛ فقد انجلى الأمر ولله الحمد.
الفصل السابع في الأساطين المنيفة الأسطوان المخلق
منها الأسطوان الذي هو علم على المصلى الشريف، ويعرف بالمخلق، وقد قدمنا قول ابن زبالة «المخلق نحو من ثلثيها» وقول ابن القاسم «إن المصلى الشريف حيث الأسطوان المخلق» وبينا أن المراد أنها أقرب أسطوان إليه، وأن الجذع الذي كان يخطب إليه صلّى الله عليه وسلّم ويتكئ عليه كان هناك، وأن الأسطوان الموجود اليوم متقدم على المحل الأول، وأن المحل الأصلي هو موضع كرسي الشمعة التي عن يمين الإمام الواقف في المصلى الشريف، فمن أراد التبرك بذلك فليصل هناك.
وروى ابن زبالة عن يزيد بن عبيد أنه كان يأتي مع سلمة بن الأكوع إلى سبحة الضحى، فيعمد إلى الأسطوان دون المصحف فيصلي قريبا منهما، فأقول: ألا تصلي هاهنا؟
وأشير له إلى بعض نواحي المسجد، فيقول: إني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتحرى هذا المقام، وهذا الحديث في الصحيحين، ولفظ البخاري «كنت آتي مع سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوان التي عند المصحف، فقلت: يا أبا سلمة أراك تتحرى الصلاة عند هذه(2/38)
الأسطوانة، قال: فإني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتحرى الصلاة عندها» ولفظ مسلم عن سلمة أنه كان يتحرى موضع المصحف يسبح «1» فيه، وذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتحرى ذلك، وقد قدمنا في الكلام على المصلى الشريف ما يبين أن المراد هذه الأسطوانة.
أسطوان القرعة
ومنها أسطوان القرعة، وتعرف بأسطوان عائشة رضي الله عنها، وبالأسطوان المخلق أيضا، وبأسطوان المهاجرين.
روينا في كتاب ابن زبالة عن إسماعيل بن عبد الله عن أبيه أن عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وثالثا كان معهما دخلوا على عائشة رضي الله عنها فتذاكروا المسجد، فقالت عائشة: إني لأعلم سارية من سواري المسجد لو يعلم الناس ما في الصلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان «2» ، فخرج الرجلان وبقي ابن الزبير عند عائشة، فقال الرجلان: ما تخلف إلا ليسألها عن السارية، ولئن سألها لتخبرنه، ولئن أخبرته لا يعلمنا، وإن أخبرته عمد لها إذا خرج فصلى إليها، فاجلس بنا مكانا نراه ولا يرانا، ففعلا، فلم ينشب أن خرج مسرعا فقام إلى هذه السارية فصلى إليها متيامنا إلى الشق الأيمن منها، فعلم أنها هي، وسميت أسطوانة عائشة بذلك، وبلغنا أن الدعاء عندها مستجاب، هذا لفظ ابن زبالة.
وفي الأوسط للطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن في مسجدي لبقعة قبل هذه الأسطوانة لو يعلم الناس ما صلوا فيها إلا أن تطير لهم قرعة، وعند عائشة جماعة من أبناء الصحابة فقالوا: يا أم المؤمنين وأين هي؟ فاستعجمت عليهم، فمكثوا عندها ساعة ثم خرجوا وثبت عبد الله بن الزبير فقالوا: إنها ستخبره بذلك المكان، فارقبوه في المسجد حتى تنظروا حيث يصلي، فخرج بعد ساعة فصلى عند الأسطوانة التي صلى إليها عامر بن عبد الله بن الزبير، فقيل لها: أسطوانة القرعة.
قال عتيق: وهي الأسطوانة التي هي واسطة بين القبر والمنبر: عن يمينها إلى المنبر أسطوانتان، وبينها وبين القبر أسطوانتان، وبينها وبين الرحبة أسطوانتان، وهي واسطة بين ذلك، وهي تسمى أسطوانة القرعة، هذا لفظ الأوسط.
__________
(1) السّبحة: صلاة التطوع وهي مواضع السجود.
(2) السهم: القدح يقارع به أو يلعب به في الميسر، أي الحظ والنصيب، وما يفوز به الظافر بالقرعة.(2/39)
وقال ابن زبالة: حدثني غير واحد من أهل العلم منهم الزبير بن حبيب أن الأسطوان التي تدعى أسطوان عائشة هي الثالثة من المنبر، والثالثة من القبر، والثالثة من القبلة، والثالثة من الرحبة، أي قبل زيادة الرواقين الآتي ذكرهما المتوسطة للروضة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى إليها بضع عشرة المكتوبة ثم تقدم إلى مصلاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط، أي الرواق الأوسط، وأن أبا بكر وعمر والزبير بن العوام وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، وكان يقال لذلك المجلس مجلس المهاجرين، انتهى.
وقد ذكر ابن النجار هذه الرواية عن الزبير بن حبيب، وزاد: وقالت عائشة فيها: لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان، فسألوها عنها فأبت أن تسميها، فأصغى إليها ابن الزبير فسارّته بشيء، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوان عائشة، قال:
فظن من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة، فسميت أسطوان عائشة، قال: وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر، ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر، ويقال: الدعاء عندها مستجاب، هذا لفظ رواية ابن النجار عقب ما قدمناه من رواية ابن زبالة. وزاد فيما ذكره ابن زبالة عقب قوله: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى إليها المكتوبة بضع عشرة، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم» ما لفظه: وكان يجعلها خلف ظهره، قلت: ولم أره في كلام غيره، والظاهر أن مراده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستند إليها إذا جلس هناك، لا أنه يجعلها خلف ظهره إذا صلى؛ لما ذكره عن زيد بن أسلم من أنه رأى موضع جبهة النبي صلّى الله عليه وسلّم عندها، ووصف هذه الأسطوانة بالمخلقة يؤخذ مما تقدم عن ابن زبالة من قول أبي هريرة «وكان مصلاه صلّى الله عليه وسلّم الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده أن تضع موضع الأسطوان المخلقة خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام» إلى آخر ما تقدم قلت: وهذه الأسطوان بصف الأساطين التي خلف الإمام الواقف بالمصلى الشريف، وهي الثالثة من القبلة وكانت الثالثة أيضا من رحبة المسجد كما تقدم، وذلك قبل أن يزاد في مسقف مقدم المسجد الرواقان الآتي بيانهما في رحبته، وبهما صارت خامسة من الرحبة.
أسطوان التوبة
ومنها أسطوان التوبة، وتعرف بأسطوان أبي لبابة بن عبد المنذر أخي بني عمرو بن عوف الأوسي أحد النقباء، واسمه رفاعة، وقيل غير ذلك، سميت به لأنه ارتبط إليها حتى أنزل الله توبته كما قدمناه في غزوة بني قريظة.
وقال الأقشهري: اختلف أهل السير والتفسير في ذنب أبي لبابة، فقال قوم: كان من(2/40)
الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، وقال ابن هشام تبعا لابن إسحاق: سببه قضية بني قريظة واستشارتهم إياه، وأسند يحيى عن عبد الرحمن بن يزيد قصته معهم، وأنهم قالوا له: أننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، وهو الذبح. وفي رواية أخرى أنه لما جاءهم قام إليه الرجال، وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، فكان منه ما تقدم، قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله. قال يحيى في الرواية المتقدمة: فلم يرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، ومضى إلى المسجد، وارتبط إلى جذع في موضع أسطوانة التوبة، وأنزل الله عز وجل فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] وفي رواية: فربط نفسه في السارية، وحلف لا يحل نفسه حتى يحله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تنزل توبته، قال: فجاءت فاطمة رضي الله عنها تحله، فقال: لا، حتى يحلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنما فاطمة بضعة مني، وفي رواية لابن النجار أن أبا لبابة عاهد الله تعالى ألايطأ بني قريظة أبدا، وقال:
لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لما بلغه خبره- وكان قد استبطأه- «أما لو جاءني لاستغفرت الله له، فاما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» فأنزلت توبته ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت أم سلمة، قالت:
فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السحر يضحك، فقلت: مم تضحك أضحك الله سنك؟ قال:
تيب على أبي لبابة، قلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس إليه ليطلقوه، قال: لا والله حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وروى البيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب قصة أبي لبابة في بني قريظة، وأنه تخلف في غزوة تبوك، فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه يسلم عليه، فأعرض عنه، ففزع أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة التي عند باب أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم سبعا بين يوم وليلة في حر شديد لا يأكل فيهن ولا يشرب قطرة.
وروى مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن أبا لبابة ارتبط إليها بسلسلة ربوض، والربوض: الثقيلة «1» ، بضع عشرة ليلة، حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع، وكاد بصره يذهب، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة وإذا أراد أن يذهب لحاجته حتى يفرغ ثم تأتي به فيرده في الرباط كما كان.
__________
(1) سلسلة ربوض: سلسلة ضخمة ثقيلة، وفي الحديث: «أنه ارتبط بسلسلة ربوض إلى أن تاب اللهّ عليه» .(2/41)
وأورد الزمخشري قصة أبي لبابة في تفسيره قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [الأنفال: 27] الآية، وقال فيها: قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت أي: الآية المتقدمة، فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، وذكر في القصة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءه فحله فقال:
إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أخلع من مالي، فقال عليه السلام: «يجزئك الثلث أن تتصدق به» .
ونقل ابن النجار عن إبراهيم بن جعفر أن السارية التي ربط إليها ثمامة بن أثال الحنفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة، ونقل ذلك أيضا عن ابن شبة.
وروى البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [التوبة:
102] الآية، قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع النبي صلّى الله عليه وسلّم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من هؤلاء؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك، الحديث، وفيه توبة الله عليهم وأنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إليهم وأطلقهم.
وروى ابن زبالة عن عمر بن عبد الله بن المهاجر عن محمد بن كعب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي نوافله إلى أسطوانة التوبة.
وفي رواية له عن عمر بن عبد الله، لم يذكر ابن كعب، أنه قال في أسطوان التوبة:
كان أكثر نافلة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها، وكان إذا صلّى الصبح انصرف إليها، وقد سبق إليها الضعفاء والمساكين وأهل الضر وضيفان النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤلفة قلوبهم ومن لا مبيت له إلا في المسجد، قال: وقد تحلقوا حولها حلقا بعضها دون بعض، فينصرف إليهم من مصلاه من الصبح، فيتلو عليهم ما أنزل الله عليه من ليلته، ويحدثهم ويحدثونه، حتى إذا طلعت الشمس جاء أهل الطّول والشرف والغنى فلم يجدوا إليه مجلسا، فتاقت أنفسهم إليه وتاقت نفسه إليهم، فأنزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: 28] إلى منتهى الآيتين، فلما نزل ذلك فيهم قالوا: يا رسول الله اطردهم عنا، ونكون نحن جلساءك وإخوانك ولا نفارقك، فأنزل الله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] إلى منتهى الآيتين.
وفي العتبية عن مالك وصف أسطوان التوبة بالمخلقة، وقد قدمنا في الكلام على المصلى الشريف ما ذكره ابن زبالة من خلوقها وخلوق غيرها من الأساطين.
وروى ابن زبالة خبر مالك بن أنس المتقدم عن عبد الله بن أبي بكر بنحو ما تقدم،(2/42)
وقال فيه: وهي الأسطوان المخلق نحو من ثلثيها، تدعى أسطوان التوبة، منها حل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا لبابة حين نزلت توبته، وبينها وبين القبر أسطوان.
وأسند أيضا عن ابن عمر أنه كان يقول في الأسطوان التي ارتبط إليها أبو لبابة: هي الثانية من القبر، وهي الثالثة من الرحبة.
قلت: كانت الثلاثة من الرحبة قبل تجدد الأسطوانتين المشار إليهما في أسطوانة القرعة بسبب تجدد الرواقين الآتي ذكرهما، وهذه الأسطوانة إلى جانب الأسطوانة المتقدم ذكرها من جهة المشرق؛ فهي الرابعة من المنبر، والثانية من القبر، والثالثة من القبلة، والخامسة في زماننا من رحبة المسجد، وفيها اليوم هيئة محراب من الجص تتميز به عن سائر الأساطين، لكنه أزيل في الحريق الثاني.
وفهم البدر بن فرحون من رواية ابن عمر المتقدمة أنها التي تلي هذه الأسطوانة في جهة المشرق، وهي اللاصقة بالشباك اليوم كما سيأتي، فقال: إن أسطوان التوبة هي اللاصقة بالشباك على ما قاله عبد الله بن عمر، وتبعه مالك بن أنس، وما قيل إنها غيرها فغلط أوجبه أشياء يطول ذكرها، انتهى كلامه.
قلت: بل الصواب ما قدمناه في بيانها، ومنشأ ما فهمه عدّه للأسطوانة اللاصقة بجدار القبر، فحمل قول ابن عمر أنها الثانية من القبر، وقول مالك بينها وبين القبر أسطوان على الأسطوانة اللاصقة بالشباك اليوم، وقد علم من كلامهم في أسطوان القرعة أنهم لا يعدون اللاصقة بجدار القبر لما تقدم من قولهم فيها: إنها الثالثة من المنبر والثالثة من القبر، ولو عدوا اللاصقة بجدار القبر لكانت الرابعة من القبر، وأيضا فاللاصقة بجدار القبر أحدثها عمر بن عبد العزيز، ولم يدرك ذلك ابن عمر، وأوضح من ذلك أن ابن زبالة قال: إن بين أسطوان التوبة وبين جدار القبر الشريف عشرين ذراعا، وقد اعتبرت ذلك من الأسطوانة التي ذكرناها فكان كذلك.
وقال أيضا فيما قدمناه عنه: «إن ذرع ما بين مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينها سبع عشرة ذراعا» وقد قدمنا في المصلى الشريف ما يقتضي صحة ذلك عند اختبارنا لما بينهما مع بيان أن المصلى الشريف في طرف الحفر الذي يلي المغرب، وإن جعل المصلى الشريف على تلك الهيئة حادث، وفي نسخة من ابن زبالة «تسع عشرة ذراعا» بتقديم التاء، فإن صحت فقد علمت أنه لم يكن المصلى الشريف في عهد ابن زبالة على هذه الهيئات، بل كانت الأرض مستوية، فكأنه اعتبر الذراع من ابتداء طرف المصلى الشريف الغربي، ومنه إلى الأسطوان(2/43)
المذكور تسع عشرة ذراعا بتقديم التاء، وأما ذرع ما بين المصلى الشريف والأسطوانة التي يعنيها البدر فخمس وعشرون ذراعا، فلا يصح إرادتها بوجه.
وأسند ابن زبالة ويحيى في بيان معتكف النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير وراء أسطوانة التوبة» .
وروى ابن ماجه عن نافع أن ابن عمر أراه المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم روى عن نافع عن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير وراء أسطوانة التوبة» . قال البدر بن فرحون: ونقل الطبراني في معجمه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن ذلك مما يلي القبلة «يستند إليها» .
قلت: ورواه البيهقي بسند حسن، ولفظه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا اعتكف يطرح له فراشه أو سريره إلى أسطوانة التوبة مما يلي القبلة يستند إليها» ونقل عياض عن ابن المنذر أن مالك بن أنس كان له موضع في المسجد، قال: وهو مكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو المكان الذي كان يوضع فيه فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف، كذا قال الأويسي.
أسطوان السرير
ومنها: أسطوان السرير، أسند ابن زبالة ويحيى في بيان معتكف النبي صلّى الله عليه وسلّم عقب ذكر ما تقدم من وضع فراشه وسريره وراء أسطوان التوبة عن محمد بن أيوب أنه «كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم سرير من جريد فيه سعفه «1» يوضع بين الأسطوان التي تجاه القبر وبين القناديل، كان يضطجع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
قلت: وهذه الأسطوانة هي اللاصقة بالشباك اليوم في شرقي أسطوان التوبة وابن فرحون يجعلها إليها كما تقدم، ويؤيده ما تقدم في أسطوان التوبة من أن سريره صلّى الله عليه وسلّم كان يوضع إليها، إلا أن يجاب بأنه كان يوضع مرة عند هذه ومرة عند تلك، بدليل أنه تقدم في أسطوان التوبة أن وضع ذلك كان مما يلي القبلة يستند إليها، وذكر في هذه أنه «كان يوضع بينها وبين القناديل» وذلك في جهة شرقيها.
وقال البدر بن فرحون: روينا بالسند الصحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا اعتكف يطرح له وسادة، ويوضع له سرير من جريد فيه سعفه، يوضع له فيما بين الأسطوان التي وجاه القبر الشريف وبين القناديل، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضطجع عليه»
__________
(1) الجريدة: سعفة طويلة تقشّر من خوصها، والسعفة: جريد النخل وورقه، وورق النخل اليابس.(2/44)
قال أبو وحرة- بحاء مهملة- السعدي وهو يذكر السرير ويمدح آل الزبير لقرب مجلسهم منه:
وإذا غدا آل الزبير غدا النّدى ... وإذا انتدى فإليهم ما ينتدي
وإذا هم راحوا فإنهم هم ... أهل السرير وأهل صدر المسجد
أسطوان المحرس
ومنها: أسطوان المحرس «1» ، ويسمى أسطوان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال يحيى: حدثنا موسى بن سلمة قال: سألت جعفر بن عبد الله بن الحسين عن أسطوان علي بن أبي طالب، فقال: إن هذه المحرس، كان علي بن أبي طالب يجلس في صفحتها التي تلي القبر مما يلي باب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يحرس النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال الجمال المطري وتبعه من بعده: وهو مقابل الخوخة التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج منها إذا كان في بيت عائشة إلى الروضة للصلاة، وهي خلف أسطوان التوبة من جهة الشمال.
قلت: هي الأسطوان الذي يصلي عندها أمير المدينة يجعلها خلف ظهره، ولذا قال الأقشهري: إن أسطوان مصلى علي كرم الله وجهه اليوم أشهر من أن تخفى على أهل الحرم، ويقصد الأمراء الجلوس والصلاة عندها إلى اليوم، وذكر أنه كان يقال لها مجلس القلادة لشرف من كان يجلس فيه، وذلك إنما هو في أسطوان الوفود لما سيأتي.
أسطوان الوفود
ومنها: أسطوان الوفود، قال المطري: هي خلف أسطوان المحرس من جهة الشمال، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته، وكانت مما يلي رحبة المسجد قبل أن يزاد في السقف القبلي الرواقان، وكانت تعرف أيضا بمجلس القلادة، يجلس إليها سروات الصحابة وأفاضلهم رضوان الله عليهم.
وقال الأقشهري، ومن خطه نقلت: وأما الأسطوان الذي كان يجلس إليها صلّى الله عليه وسلّم لوفود العرب إذا جاءته، فقال: إذا عددت الأسطوان التي فيها مقام جبريل عليه السلام كانت هي الثالثة، انتهى، وكأنه سقط من خطه فاعدد فقال: وقد أخذه من تحفة ابن عساكر، وقد رأيت في نسخة معتمدة منها موضع بياض بعد «فقال» .
وهذا مطابق لما تقدم عن المطري؛ لأن الأسطوان التي فيها مقام جبريل هي مربعة القبر كما سيأتي، وبينها وبين أسطوان الوفود المذكور أسطوان.
__________
(1) المحرس: مكان أقام به حرسا.(2/45)
وقال ابن زبالة: حدثنا غير واحد من أهل العلم منهم عبد العزيز بن محمد أن الأسطوان التي إلى الرحبة التي في صف أسطوان التوبة بينها وبين أسطوان التوبة مصلى علي بن أبي طالب، وأنه المجلس الذي يقال له مجلس القلادة، كان يجلس فيه سراة الناس قديما.
وأورده المجد، وزاد في آخره: وإنما سمي القلادة لشرف من كان يجلس إليها من بني هاشم وغيرهم.
أسطوان مربعة القبر
ومنها أسطوان مربعة القبر، وسيأتي أنه يقال له أيضا أسطوان مقام جبريل عليه السلام، وقد تقدم فيما نقله الأقشهري في أسطوان الوفود ما يشهد له.
وأسند ابن زبالة ويحيى عن سليمان بن سالم عن مسلم بن أبي مريم وغيره: كان باب بيت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المربعة التي في القبر، قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظك من الصلاة إليها؛ فإنها باب فاطمة رضي الله عنها الذي كان علي يدخل عليها منه.
قلت: وهي في حائز عمر بن عبد العزيز عند منحرف الصفة الغربية منه إلى جهة الشمال، في صف أسطوان الوفود، بينهما الأسطوانة اللاصقة بالشباك التي شرقي أسطوان الوفود، وسيأتي لها مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
ومن فضلها ما أسنده يحيى عن أبي الحمراء قال: شهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين صباحا يجيء إلى باب علي وفاطمة وحسن وحسين حتى يأخذ بعضادتي الباب ويقول: السلام عليكم أهل البيت: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:
33] وفي رواية له: رابطت بالمدينة سبعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي باب علي كل يوم فيقول: الصلاة، الصلاة، ثلاث مرات إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وقد حرم الناس الصلاة إلى هذه الأسطوان لإدارة الشباك الدائر على الحجرة الشريفة وغلق أبوابه.
أسطوان التهجد
ومنها: أسطوان التهجد، أسند يحيى عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج حصيرا كل ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء بيت علي، ثم يصلي صلاة الليل، فرآه رجل فصلى بصلاته، ثم آخر فصلى بصلاته، حتى كثروا، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا بهم، تأمر بالحصير فطوي ثم دخل، فلما أصبح جاؤه فقالوا: يا رسول الله، كنت فصلى الليل فنصلي بصلاتك، فقال: إني خشيت أن ينزل عليكم صلاة(2/46)
الليل ثم لا تقوون عليها، قال عيسى بن عبد الله: وذلك موضع الأسطوان التي على طريق باب النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يلي الزوراء.
قلت: صحّف بعضهم هذه اللفظة فقال: مما يلي الدور، ورأيت بخط الأقشهري: لعله مما يلي دوره، انتهى. والظاهر أن الرواية مما يلي الزور- بالزاي- يعني الموضع المزور في بناء عمر بن عبد العزيز خلف الحجرة كما سيأتي والله أعلم.
قال عيسى: وحدثني سعيد بن عبد الله بن فضيل قال: مر بي محمد بن الحنفية وأنا أصلي إليها، فقال لي: أراك تلزم هذه الأسطوانة، هل جاءك فيها أثر؟ قلت: لا، قال:
فالزمها فإنها كانت مصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الليل.
قلت: تقدم في حدود المسجد النبوي ما يقتضي أن الموضع المذكور كان خارج المسجد تجاه باب جبريل قبل تحويله إلى محله اليوم، وهو موافق لما سيأتي عن المؤرخين في بيان موضع هذه الأسطوانة، والمعروف من حاله صلّى الله عليه وسلّم أن قيامه في غير رمضان إنما كان في بيته، وهذا الموضع ليس منه، وفيما سبق مع أحاديث قيام رمضان ما يوهم أن القصة المذكورة كانت فيه، ففي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اتخذ حجرة، قال:
حسبت أنه قال: من حصير، في رمضان فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس- الحديث» ورواه مسلم عنه بلفظ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها ليلا، حتى اجتمع إليه ناس، فذكره نحوه» وفي رواية لأبي عوانة عن زيد «اتخذ حجرة من حصير في المسجد في رمضان- الحديث» . ولعلها القبة التي كان يعتكف صلّى الله عليه وسلّم فيها في رمضان، فقد روى الطبراني في الكبير عن أبي ليلى قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتكف في قبة من خوص، وفي الكبير والأوسط عن معيقيب قال: «اعتكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبة من خوص بابها من حصير والناس في المسجد» وأسند يحيى عن أبي حازم مولى الأنصار قال: «اعتكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد في رمضان في قبة على بابها حصير» ، وعن ابن عمر قال: بنى النبي صلّى الله عليه وسلّم بيتا من سعف في المسجد في آخر شهر رمضان يصلي فيه.
وقال المطري في بيان موضع هذه الأسطوانة: هي خلف بيت فاطمة رضي الله عنها، والواقف إليها يكون باب جبريل المعروف قديما بباب عثمان على يساره، وحولها الدرابزين: أي لاصقا بها يمينا ويسارا، وهو الشباك الدائر على الحجرة الشريفة وعلى بيت فاطمة رضي الله عنها، وقد كتب فيها بالرخام: هذا متهجّد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ابن النجار: هذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة من جهة الشمال، وفيها محراب إذا توجه المصلى إليه كانت يساره إلى باب عثمان المعروف اليوم بباب جبريل.
قلت: وقد جدد محرابها في هذه العمارة التي أدركناها أولا، وزيد في رخامه فوق(2/47)
المحراب الأول، وكتبوا في ذلك بالرخام بروز الأمر بتجديد عمارة الحجرة الشريفة من السلطان الأشرف قايتباي- أعز الله أنصاره! - وأن ذلك على يد الخواجا الجناب الشمسي ابن الزمن، وتاريخ العمارة المذكورة، كل ذلك مكتوب بالرخام في أعلى محراب الأسطوانة المذكورة، ثم لما جاء الحريق الحادث بعد تمام هذا التأليف أزال ذلك كله، ثم اقتضى رأيهم عند بناء الدعائم التي اتخذوها للقبة المحاذية لأعلى الحجرة والعقود التي خلفها إبدال هذه الأسطوانة بدعامة اتخذوا فيها محرابا.
وهذه الأسطوانة آخر الأساطين التي ذكر لها أهل التاريخ فضلا خاصا، وإلا فجميع سواري المسجد الشريف لها فضل؛ ففي البخاري من حديث أنس قال: لقد أدركت كبار أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يبتدرون السواري عند المغرب، قال ابن النجار: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم يستحب الصلاة عندها؛ لأنه لا يخلو أن كبار الصحابة صلوا إليها، والله أعلم.
الفصل الثامن في الصّفة وأهلها، وتعليق الأقناء لهم بالمسجد
وصف الصفة وموضعها
قال عياض: الصفة- بضم الصاد وتشديد الفاء- ظلة في مؤخر مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، يأوي إليها المساكين، وإليها ينسب أهل الصّفة على أشهر الأقاويل.
وقال الحافظ الذهبي: إن القبلة قبل أن تحوّل كانت في شمالي المسجد، فلما حوّلت القبلة بقي حائط القبلة الأعلى مكان أهل الصفة.
وقال الحافظ ابن حجر: الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر.
وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في الحلية فزادوا على المائة، وقد أخرج أبو نعيم في الحلية من مرسل الحسن قال: بنيت صفّة في المسجد لضعفاء المسلمين.
وقال المجد نقلا عن الدارقطني: الصفة هي ظلة كان المسجد في مؤخرها، ثم قال المجد: وذكر ابن جبير في رحلته عند ذكر قباء قال: وفي آخر القرية تلّ مشرف يعرف بعرفات يدخل إليه على دار الصفة حيث كان عمار وسلمان وأصحابهما المعروفون بأهل الصفة، وكأن هذا وهم، والله أعلم.
قلت: يظهر من قول عياض فيما قدمناه عنه «على أشهر الأقوال» أن في ذلك خلافا؛ فيكون ما ذكره ابن جبير أحد الأقوال، لكنه مرجوح أو مؤول بأن من ذكر من أهل الصفة اتخذوا تلك الدار بعد، فاشتهرت بذلك.(2/48)
أهل الصفة
وقد روى ابن سعد في مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط: كان أهل الصفة ناسا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره.
وروى البيهقي عن عثمان بن اليمان قال: لما كثرت المهاجرون بالمدينة ولم يكن لهم دار ولا مأوى أنزلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، وسماهم أصحاب الصفة، فكان يجالسهم ويأنس بهم.
وأسند يحيى عن فضالة بن عبيد قال: كنا نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيخر قوم من قامتهم من الخصاصة «1» ، حتى يقول الأعرابي: مجانين، وهم أهل الصفة، فإذا صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم فوقف عليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فقرا وحاجة.
وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس- الحديث.
وفيه من حديث أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوه، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وفيه من حديث أبي هريرة أيضا أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما في طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا يستتبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: أباهر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، فمضى فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخلت فوجدنا لبنا في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟
فقالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أباهر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوّى بها، فلما جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما
__________
(1) الخصاصة: سوء الحال والفقر والحاجة.(2/49)
عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فاخذه فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، وقال: يا أباهر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة.
وقد وقع لأبي هريرة رضي الله عنه قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل الصفة.
وأخرج ابن حبان من طريق مسلم بن حيان عن أبيه عنه قال: أتت عليّ ثلاثة أيام لم أطعم، فجئت أريد الصفة، فجعلت أسقط، فجعل الصبيان يقولون: خر أبو هريرة، حتى انتهيت إلى الصفة، فوافيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى بقصعة من ثريد، فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها، فجعلت أتطاول كي يدعوني، حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها، فجمعه صلّى الله عليه وسلّم فصارت لقمة، فوضعها على أصابعه فقال لي: كل باسم الله، فو الذي نفسي بيده ما زلت آكل منه حتى شبعت.
وروى أبو نعيم في الحلية من حديث معاوية بن الحكم فقال: بينا أنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصفة، فجعل يوجه الرجل مع الرجل من الأنصار، والرجلين والثلاثة، حتى بقيت في أربعة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خامسنا، فقال: انطلقوا بنا، فقال: يا عائشة عشّينا- الحديث.
وروى أيضا من طريق نعيم المجمر عن أبي هريرة: كنت من أهل الصفة، وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر، فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر، فيؤتي النبي صلّى الله عليه وسلّم بعشائه فيتعشى معهم، فإذا فرغنا قال: ناموا في المسجد.
وروى ابن شبة عن طلحة البصري قال: كان من قدم المدينة فكان له بها عريف نزل على عريفه، ومن لم يكن له بها عريف نزل الصفة، فكنت فيمن نزل الصفة، فوافقت رجلين كان يجرى علينا في كل يوم مدّين من تمر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فناداه رجل من أهل الصفة: يا رسول الله أحرق التمر بطوننا وتحرفت علينا الحرف، فمال النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى منبره فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ما لقي من قومه حتى إن كان ليأتي علي وعلى صاحبي بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا البرير، فقدمنا على إخواننا من الأنصار وجل(2/50)
طعامهم التمر، فواسونا، ولو أجد لكم الخبز واللحم لأطعمتكم، ولكن لعلكم ستدركون زمانا أو من أدركه منكم يلبسون فيه مثل أستار الكعبة ويغدى ويراح عليكم بالجفان.
مبدأ تعليق الأقناء
وقال ابن النجار: روى أهل السير أن محمد بن مسلمة رأى أضيافا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فقال: ألا نفرق هذه الأضياف في دور الأنصار، ونجعل لك في كل حائط قنوا ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بلى، فلما جدّ ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون ذلك، وكان معاذ بن جبل يقوم عليه، وكان يجعل حبلا بين الساريتين ثم تعلّق الأقناء على الحبل، وتجمع العشرين وأكثر فيهش عليهم بعصا من الأقناء فيأكلون حتى يشبعون، ثم ينصرفون ويأتي غيرهم فيفعل بهم مثل ذلك، فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك.
قلت: بوّب البخاري للقسمة وتعليق القنو في المسجد، ولم يذكر في الباب تصريحا بتعليق القنو، فأشار بذلك إلى ما رواه النسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيده عصا، وقد علق رجل قنو حشف، فجعل يطعن في ذلك القنو، ويقول: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا، إن رب هذه الصدقة يأكل حشفا يوم القيامة، وليس على شرط البخاري، وإن كان إسناده قويا، فأشار إليه بالتبويب ولم يذكره كعادته.
وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن ناسا كانوا يقدمون على النبي صلّى الله عليه وسلّم لا شيء لهم، فقالت الأنصار: يا رسول الله، لو عجلناك قنوا من كل حائط لهؤلاء، قال: أجل فافعلوا، ففعلوا، فجرى ذلك إلى اليوم، فهي الأقناء التي تعلق في المسجد عند جدار النخل فيعطاها المساكين، وكان عليها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ بن جبل.
وقال يحيى: حدثني هرون بن موسى عن غير واحد من أهل المدينة أن الناس أصابتهم في ثمارهم عاهة من العاهات في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما على أحدكم لو بعث بقنو من نخله للمساكين، فبعث ذلك الناس، واستعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأقناء معاذ بن جبل، فكان يمد حبلا بين جذعين ويعلق عليه الأقناء، فرفع الله تلك العاهة، فصارت سنة، ولم تزل الأئمة عليها إلى اليوم.
وروى يحيى أيضا عن عاصم بن سويد قال: سمعت أبي يقول: عويم بن ساعدة أتى بقنو إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتسى الناس به أهل العالية وأهل السافلة.
وأخرج ثابت في الدلائل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أمر من كل حائط بقنو يعلق في المسجد» يعني للمساكين.(2/51)
وفي رواية له: وكان عليها معاذ بن جبل: أي على حفظها، أو على قسمتها، والله أعلم.
الفصل التاسع في الحجرة الشريفة، وبيان إحاطتها بالمسجد الشريف إلا من جهة المغرب
قد تقدم أنه صلّى الله عليه وسلّم لما بنى مسجده الشريف بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل.
قال ابن النجار: وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر أو ساج «1» ، قال: ولما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه بنى لهن حجرا، وهي تسعة أبيات، وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلّى الله عليه وسلّم، انتهى. ومراده بالباب الذي يلي باب النبي صلّى الله عليه وسلّم الباب الذي في الجهة المقابلة له من المغرب، وهو المعروف الآن بباب الرحمة، وإنما حملنا كلامه على ذلك لأنه وقع في كلامه استعمال الباب الذي يليه بمعنى الباب الذي يقابله، ولأنه قال عقبه: قال أهل السير: ضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد، انتهى.
وكأن الخطيب ابن حملة فهم من هذا اختلافا في مواضع الحجر، فقال: قيل كانت كلها في جهة المشرق، وقيل: في جهات المسجد ما عدا المغرب.
قلت: ويرجح ما قررناه ما رواه ابن الجوزي في شرف المصطفى بسنده إلى محمد بن عمر قال: سألت مالك بن أبي الرجال: أين كانت منازل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ فأخبرني عن أبيه عن أمه أنها كانت كلها في الشق الأيسر إذا قمت إلى الصلاة إلى وجه الإمام في وجه المنبر هذا أبعدها، ولما توفيت زينب أدخل- أي النبي صلّى الله عليه وسلّم- أم سلمة بيتها، انتهى، ووجه المنبر ووجه الإمام يعني إذا قام على المنبر بجهة الشام في جهة الباب المعروف الآن بباب الرحمة قبل أن ينقل إلى محله اليوم، وهو يقتضي أنه لم يكن من الحجر شيء في جهة القبلة، إلا أن تكون الرواية إلى وجه الإمام وفي وجه المنبر فيوافق ما تقدم عن أهل السير.
وأسند ابن زبالة عن محمد بن هلال قال: أدركت بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر «2» مستطيرة في القبلة وفي المشرق والشام، ليس في غربي
__________
(1) العرعر: جنس أشجار وجنبات من الصنوبريات، فيه أنواع تصلح للأحراج وللتزيين، والساج: ضرب من الشجر يعظم جدا، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق كبير.
(2) المسوح أو الأمساح مفردها: المسح: كساء من الشعر، والجادّة من الأرض.(2/52)
المسجد شيء منها، وكان باب عائشة مواجه الشام، وكان بمصراع واحد من عرعر أوساج.
وأسند يحيى من طريق الواقدي عن عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت من لبن «1» ، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين، عددت تسعة أبيات بحجرها، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى منزل أسماء بنت حسن اليوم.
قلت: وقوله «إلى الباب الذي يلي باب النبي صلّى الله عليه وسلّم» قد تقدم ما يؤخذ منه أن المراد به باب الرحمة، وقوله «إلى منزل أسماء إلى آخره» يقتضي أن البيوت المذكورة كان بعضها خارجا عن سمت «2» المسجد؛ لأن بيت أسماء المذكور كان في مقابلة الباب الذي كان يلي باب النساء من شاميه، ويبعد أن يكون المسجد النبوي ممتدا إلى تلك الجهة في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، لكن سيأتي في بيت فاطمة رضي الله عنها ما يصرح بأن بيتها كان ينتهي إلى الباب المذكور؛ فيحتمل أن المسجد كان ممتدا إليه، ويحتمل أن بعض البيت المذكور لم يكن في محاذاة المسجد، على أن البخاري روى في صحيحه حديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد وعنده أزواجه فرجعن، فقال لصفية بنت حيي: لا تعجلي حتى أنصرف معك، وكان بيتها في دار أسامة، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم معها- الحديث» .
وفي رواية له عن صفية قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت، فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار- الحديث.
وفي رواية له أنها جاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، ثم قامت تنقلب، فقام معها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا بلغ قريبا من باب المسجد عند باب أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم مر بهما رجلان من الأنصار- الحديث، وهو يقتضي أن صفية لم يكن مسكنها في الحجر المحيطة بالمسجد.
ولم يتعرض ابن شبة لاتخاذ أسامة لدار، وذكر أن أباه اتخذ دارين إحداهما دخلت في المسجد لما زيد فيه، ولعلها المرادة والله أعلم.
ولنرجع إلى بقية ما أسنده يحيى عن عبد الله بن زيد، قال: ورأيت بيت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم وحجرتها من اللبن، فسألت ابن ابنها، فقال: لما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دومة الجندل بنت حجرتها بلبن، فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى اللبن ودخل عليها أول نسائه، فقال: ما هذا البناء؟ فقالت: أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس، فقال: يا أم سلمة إن من شر ما
__________
(1) اللّبن: ضرب من الطين يا بنى به دون أن يطبخ.
(2) السمت: الطريق الواضح، والمقصود هنا طريق المسجد.(2/53)
ذهب فيه مال المسلم البنيان، قال الواقدي: فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري، فقال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حجرات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمرنا بهدم حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم. قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من المدينة ويقدم قادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، ويكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها، قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها على أبوابها مسوح الشعر، ذرعت الساتر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع وعظم الذراع، فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني في السمجد وفيه نفر من أبناء أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو أمامة بن سهل وخارجة بن زيد وإنهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تركت حتى ينقص الناس من البنيان ويروا ما رضي الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ومفاتيح خزائن الدنيا بيده.
وروى رزين عن عبد الله بن يزيد الهلالي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين هدمها عمر بن عبد العزيز يدخلها في المسجد مبنية باللبن حولها حجر من جريد ممدودة إلا حجرة أم سلمة، وذكر نحو ما تقدم باختصار.
وقال ابن الجوزي في الوفاء: قال محمد بن عمر: كانت لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، وكلما أحدث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهلا «1» نزل له حارثة عن منزله حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأزواجه.
قلت: وظاهره يخالف ما تقدم من أنه صلّى الله عليه وسلّم بنى أولا بيتين لزوجتيه، وأنه لما تزوج نساءه بنى لهن حجرا، وظاهره أنه كان كلما أحدث زوجة أحدث لها بناء حجرة، فيحمل ما هنا على أن حارثة كان ينزل له عن مواضع المساكن، وكان صلّى الله عليه وسلّم يبنيها.
ونقل الزركشي عن الشمس الذهبي أنه قال: لم يبلغنا أنه صلّى الله عليه وسلّم بنى له تسعة أبيات حين بنى المسجد، ولا أحسبه فعل ذلك، إنما كان يريد بيتا واحدا حينئذ لسودة أم المؤمنين، ثم لم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى لعائشة رضي الله عنها، في شوال سنة اثنين، فكأنه صلّى الله عليه وسلّم بناها في أوقات مختلفة، انتهى.
وهو مقتضى ما قدمناه، غير أنه مخالف لما قدمناه في بيت عائشة رضي الله عنها، لما
__________
(1) أي كلما تزوج رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) .(2/54)
تقدم أنه بناه مع بناء المسجد، وهو الظاهر؛ لأنها كانت حينئذ زوجته، غير أنه لم يبن لها فتأهب لذلك بأن بنى لها حجرتها.
وذكر الأقشهري أن ابن عبد البر روى من طريق الزبير بن بكار عن عائشة رضي الله عنها خبرا طويلا في قدومها المدينة قالت فيه: ثم إنا قدمنا المدينة، فنزلت مع آل أبي بكر، ونزل آل النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا بني مسجده وأبياتا حول المسجد، فأنزل فيها أهله، فمكثنا أياما، ثم قال أبو بكر: يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال:
الصداق، فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية ونشا «1» فبعث بها إلينا، وبنى لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي هذا الذي أنا فيه، وهو الذي توفي فيه ودفن فيه.
المشربة
قلت: ولم أر في كلام المؤرخين من تعرض للمشربة التي اعتزل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما آلى من نسائه شهرا، ومقتضى ذلك أنه لم يكن بابها من بيت واحدة منهن ليتأتى عدم الدخول عليهن، والذي في الصحيح قول حفصة: هو ذاقي المشربة، وفي رواية تسميتها علّبة، وفي رواية غرفة، وقد بوب عليه البخاري باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه في غير بيوتهن، وفي رواية «هو في خزانته في المشربة» وفي رواية «فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مشربة يرقى عليها بعجلة» وفي رواية «فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعد على أسكفة المشربة «2» مدل رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينحدر» .
وقال السهيلي: قال الحسن البصري: كنت أدخل بيوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام مراهق وأنال السقف بيدي، وكان لكل بيت حجرة، وكانت حجرة من أكسية من خشب عرعر.
وورد أن بابه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرع بالأظافير: أي: لا حلق له.
وقال مالك: كان المسجد يضيق عن أهله، وحجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد.
وقال ابن سعد: أوصت سودة ببيتها لعائشة رضي الله عنها، وباع أولياء صفية بنت حيي بيتها من معاوية بمائة ألف وثمانين ألف درهم، واشترى معاوية من عائشة منزلها
__________
(1) النش: نصف كل شيء. يقال: نشّ أوقية. ووزن مقداره عشرون درهما.
(2) أسكفة المشربة: عتبة المشربة.(2/55)
بمائة ألف وثمانين ألف درهم، وقيل: بمائتي ألف، وشرط لها سكناها حياتها، وحمل إليها المال، فما قامت من مجلسها حتى قسمته، وقيل: بل اشتراه ابن الزبير من عائشة، وبعث إليها خمسة أجمال تحمل المال، وشرط لها سكناها حياتها، ففرقت المال.
وأسند ابن زبالة عن هشام بن عروة قال: إن ابن الزبير ليعتد بمكرمتين ما يعتد أحد بمثلهما: أن عائشة أوصته ببيتها وحجرتها، وأنه اشترى حجرة سودة.
قلت: وهذا يقتضي أن الحجر الشريفة كانت على ملك نسائه صلّى الله عليه وسلّم، ويؤيده ما تقدم من تصرف أم سلمة وبنائها لحجرتها في غيبته صلّى الله عليه وسلّم، ويعارضه ما تقدم من أن زينب بنت خزيمة لما توفيت أدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة بيتها، وقد أضيفت البيوت في القرآن العظيم مرة إليه صلّى الله عليه وسلّم ومرة إليهن، والظاهر أن الإضافة الأولى هي الحقيقية؛ لما تقدم من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بناها، ولأنه كان يجب عليه إسكانهن، غير أن لهن فيها بعده حق السكنى لحبسهن لحقه صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الزبير بن المنير: إن غرض البخاري حيث ترجم بقوله «باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم» وما نسب من البيوت إليهن وقول الله عز وجل وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] أن يبين أن بهذه النسبة تحقيق دوام استحقاقهن البيوت ما بقين؛ لأن نفقتهن وسكناهن من خصائص النبي صلّى الله عليه وسلّم، والسر فيه حبسهن عليه، انتهى. ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم كان قد ملّك بعضهن بيتها، أو ملكهن كلهن كما ذهب إليه بعضهم.
قال الطبري: قيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ملّك كلا من أزواجه البيت التي هي فيه فسكّن بعده فيهن بذلك التمليك، وقيل: إنما لم ينازعن في مساكنهن لأن ذلك من جملة مؤنتهن التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته حيث قال: ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة، قال الطبري: وهذا أرجح، ويؤيده أن ورثتهن لم يرثوا عنهن منازلهن، ولو كانت البيوت ملكا لهن لانتقلت إلى ورثتهن، وفي ترك ورثتهن حقوقهم منها دلالة على ذلك، ولهذا زيدت بعدهن في المسجد لعموم نفعه للمسلمين، انتهى.
وقد يناقش فيما ذكره من عدم إرث ورثتهن لمنازلهن؛ إذ لا يلزم من عدم نقله انتفاءه مع أن في قصة إدخال بيت حفصة في المسجد وما وقع من آل عمر في أمر طريق بيت حفصة ما يشهد لأن ورثتهن ورثوا ذلك، ويحتمل أن إدخال الحجر في المسجد كان بعد شرائها من الورثة، وقد تقدم عن ابن سعد ما يشهد لذلك، وقد قال في طبقاته أيضا:
أخبرنا إسرائيل عن جابر عن عامر قال: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يوص إلا بمسكن أزواجه وأرض، انتهى. وهذا يحتمل الوصية للأزواج بذلك، ويحتمل غيره، والله أعلم.
وادعى المهلب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد حبس عليهن بيوتهن، ثم استدل به على أن من(2/56)
حبس دارا جاز له أن يسكن منها في موضع، وتعقّبه ابن المنير بمنع أصل الدعوى، وقد ترجم ابن شبة لعلم دور أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وذكر عن جماعة منهن اتخاذ دور في أماكن متفرقة من المدينة، فتلك غير الحجر المذكورة، والظاهر أن اتخاذهن لذلك كان بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم.
الفصل العاشر في حجرة فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنها
أسند يحيى عن عيسى بن عبد الله عن أبيه أن بيت فاطمة رضي الله عنها في الزور الذي في القبر، بينه وبين بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم خوخة.
وأسند عن عمر بن علي بن عمر بن علي بن الحسين قال: كان بيت فاطمة في موضع الزور مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت فيه كوة إلى بيت عائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى المخرج اطلع من الكوة إلى فاطمة فعلم خبرهم، وأن فاطمة رضي الله عنها قالت لعلي: إن ابني أمسيا عليلين فلو نظرت لنا أدما «1» نستصبح به «2» ، فخرج علي إلى السوق فاشترى لهم أدما، وجاء به إلى فاطمة فاستصبحت، فدخلت عائشة المخرج في جوف الليل فأبصرت المصباح عندهم، وذكر كلاما وقع بينهما، فلما أصبحوا سألت فاطمة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسد الكوة، فسدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأسند يحيى عقب ذلك حديث عائشة «قلت: يا رسول الله ندخل كنيفك فلا نرى شيئا من الأذى، فقال: الأرض تبلع ما يخرج من الأنبياء من الأذى فلا يرى منه شيء» فأشعر صنيع يحيى أن المراد من المخرج موضع الكنيف، وأفهم ذلك أن المخرج المذكور كان خلف حجرة عائشة رضي الله عنها، بينها وبين بيت فاطمة رضي الله عنها، وذلك يقتضي أن يكون محله في الزور، أعني الموضع المزور شبه المثلث في بناء عمر بن عبد العزيز في جهة الشام.
ويشهد لذلك ما أسنده يحيى عن مسلم عن ابن أبي مريم أن عرض بيت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأسطوانة التي خلف الأسطوان المواجهة الزور، قال: وكان بابه في المربعة التي في القبر.
وقد أسند أبو غسان كما قاله ابن شبة عن مسلم بن سالم بن مسلم بن أبي مريم قال:
عرّس علي رضي الله عنه بفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأسطوان التي خلف الأسطوان
__________
(1) الأدم: ما يستمرأ به الخبز. والمراد هنا الزيت.
(2) نستصبح به: نوقد به المصباح.(2/57)
المواجهة الزور، وكانت داره في المربعة التي في القبر، قال سليمان: وقال مسلم: لا تنس حظك من الصلاة إليها؛ فإنه باب فاطمة التي كان علي يدخل إليها منه، وقد رأيت حسن بن زيد يصلي إليها.
وقد ذكرنا في فضل أسطوان مربعة القبر ما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلّم «كان يأتي باب علي كل يوم» وفي رواية «عند صلاة الصبح» وفي رواية يحيى «إلى باب علي وفاطمة وحسن وحسين حتى يأخذ بعضادتي الباب ويقول: السلام عليكم أهل البيت» وفي رواية فيقول «الصلاة الصلاة الصلاة، ثلاث مرات، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» وذكرنا أيضا أن أسطوان التهجد خلف بيت فاطمة رضي الله عنها.
وروى الطبراني من حديث أبي ثعلبة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يثني بفاطمة، ثم يأتي أزواجه، وفي لفظ: ثم بدأ ببيت فاطمة، ثم يأتي بيوت نسائه.
وأسند يحيى عن محمد بن قيس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر أتى فاطمة فدخل عليها وأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفر وصنعت فاطمة مسكتين «1» من ورق وقلادة وقرطين، وسترت باب البيت لقدوم أبيها وزوجها، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل عليها، ووقف أصحابه على الباب لا يدرون أيقيمون أم ينصرفون لطول مكثه عندها، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد عرف الغضب في وجهه، حتى جلس على المنبر، ففطنت فاطمة أنه فعل ذلك لما رأى من المسكتين والقلادة والستر، فنزعت قرطيها وقلادتها ومسكتيها ونزعت الستر وبعثت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالت للرسول: قل له تقرأ عليك ابنتك السلام، وتقول لك:
اجعل هذا في سبيل الله، فلما أتاه قال: قد فعلت فداها أبوها، ثلاث مرات، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء، ثم قام فدخل عليها.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوم عراة كانوا غزاة بالروم، فدخل على فاطمة وقد سترت سترا قال: أيسرك أن يسترك الله يوم القيامة؟
فأعطنيه، فأعطته، فخرج به فشقه لكل إنسان ذراعين في ذراع.
وعن علي رضي الله عنه قال: زارنا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبات عندنا والحسن والحسين نائمان، واستسقى الحسن، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قربة لنا فجعل يعصرها في القدح ثم جعل يصبه، فتناول الحسين فمنعه، وبدأ بالحسن، فقالت فاطمة: يا رسول الله كأنه أحب إليك، قال:
__________
(1) المسك: الأساور والخلاخيل من القرون أو العاج ونحوها.(2/58)
إنما استسقى أول، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني وإياك وهذا وهذا الرقد يعني عليا يوم القيامة في مكان واحد، وعن أبي سعيد الخدري أيضا مثله.
وعن علي قال: زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعملنا له خزيرة «1» ، وأهدت لنا أم أيمن قعبا من لبن وصحفة من تمر، فأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأكلنا معه، ثم وضّأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمسح رأسه وجبهته بيده، ثم استقبل القبلة فدعا بما شاء، ثم أكبّ إلى الأرض بدموع غزيرة، يفعل ذلك ثلاث مرات، فتهيبنا رسول الله أن نسأله، فوثب الحسين على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبكى، فقال له: بأبي وأمي ما يبكيك؟ قال: يا أبت رأيتك تصنع شيئا ما رأيتك تصنع مثله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا بني سررت بكم اليوم سرورا لم أسرّ بكم مثله قط، وإن حبيبي جبريل عليه السلام أتاني وأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى، فأحزنني ذلك، ودعوت الله تعالى لكم بالخيرة.
وقال ابن النجار: وبيت فاطمة اليوم حوله مقصورة وفيه محراب، وهو خلف حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: المقصورة اليوم دائرة عليه وعلى حجرة عائشة رضي الله عنها كما سيأتي بيانه، والمحراب الذي ذكره خلف حجرة عائشة من جهة الزور بينه وبينه موضع تحترمه الناس ولا يدوسونه بأرجلهم، يذكر أنه موضع قبر فاطمة رضي الله عنها كما هو أحد الأقوال الآتية فيه، وقد اقتضى ما قدمناه أن بيت فاطمة رضي الله عنها كان فيما بين مربعة القبر وأسطوان التهجد، وأنه عرّس بها إلى الأسطوان الذي إليه المحراب الموجود اليوم في بيتها؛ لأن الأسطوان المواجه للزور هو الأسطوان الذي في صف المربعة اللاصق بالجدار الداخل من الحجرة الشريفة، كان بعضه في حائطها الشامي، وأدخل كله فيه في العمارة التي أدركناها، وخلفه الأسطوانة التي التقى عندها زاويتا الزور، وخلفها الأسطوانة التي إليها المحراب المذكور؛ فيصدق عليها ما تقدم في كلام ابن شبة نقلا عن رواية أبي غسان من أن عليا رضي الله عنه عرّس بفاطمة إلى الأسطوان التي خلف الأسطوان المواجه الزور، لكن قال ابن شبة قبل ذلك ما لفظه: واتخذ علي بن أبي طالب بالمدينة دارين إحداهما دخلت في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي منزل فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي كان يسكن، وموضعها من المسجد بين دار عثمان بن عفان التي في شرقي المسجد وبين الباب المواجه دار أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس في شرقي المسجد، والآخرى دار علي التي بالبقيع، وهي بأيدي ولد علي على حوز الصدقة، اه.
وقوله «بين دار عثمان» أي ما يحاذيها، وقوله «وبين الباب المواجه دار أسماء» أي ما
__________
(1) الخزير: لحم يقطع قطعا صغارا ثم يطبخ بماء كثير وملح، فإذا اكتمل نضجه ذرّ عليه الدقيق وعصد به.(2/59)
يحاذيه أيضا، وسيأتي أن هذا الباب كان بعد باب النساء مقابلا لرباط النساء المعروف اليوم برباط السبيل، وهو بعيد من وجوه:
أحدها: ما تقدم في أسطوان التهجد من أنه كان خلف بيت فاطمة.
الثاني: أنهم متفقون على أن باب جبريل المقابل لدار عثمان كان موجودا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، فكيف يصح كون دار علي في ذلك الموضع.
الثالث: أن عمر بن الخطاب أول من زاد في المسجد وأحدث باب النساء، وهو فيما بين باب جبريل والباب الذي ذكره ابن شبة، وبيت فاطمة إنما أدخله في المسجد الوليد، وسنذكر ما اتفق عند إدخاله في زيادة الوليد.
وقد يقال: إن الشارع كان بين المسجد النبوي وبين بيت فاطمة من جهة مؤخره، فيتأتى مع ذلك اتخاذ عمر لباب النساء من غير تعرض لبيت فاطمة، وكذا يقال في باب جبريل: إنه كان في محاذاة موضعه اليوم، لكن كان الشارع بينه وبين بيت فاطمة من تلك الجهة. ويؤيد ذلك أنهم لما حفروا للدعامة الغربية التي إليها باب الحجرة الشامي عند بناء القبة والعقود التي حولها بالحجرة الشريفة بعد الحريق الذي أدركناه وجدوا في محاذاة باب جبريل أمام باب الحجرة المذكور درجا تحت الأرض آخذة لجهة الشام، وقد سبق في حدود المسجد النبوي ما يقتضي أن جداره في المشرق كان هناك، فترجح عندي أن تلك الدرج كانت لباب جبريل عليه السلام، وأنه كان هناك قبل تحويله، والله أعلم.
الفصل الحادي عشر في الأمر بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد الشريف
وبيان ما استثنى من ذلك.
قال البخاري: باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر، قاله ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد وصله البخاري في الصلاة بلفظ سدوا عني كل خوخة، فكأنه ذكره هنا بالمعنى، ثم أسند البخاري في الباب حديث أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وقال: إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله، قال: فبكى أبو بكر، فتعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عبد خيّر، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أمنّ الناس علي في صحبته وما له أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر.(2/60)
ورواه مسلم من طريق مالك بن أنس بنحوه، وقال: لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر.
والخوخة: طاقة في الجدار تفتح لأجل الضوء، ولا يشترط علوها، وحيث تكون سفلى يمكن الاستطراق منها لاستقراب الوصول إلى مكان مطلوب، وهو المقصود هنا، لهذا أطلق عليها باب، وقيل: لا يطلق عليها باب إلا إذا كانت تغلق.
وفي حديث ابن عباس المشار إليه في الصلاة أن ذلك في مرضه صلّى الله عليه وسلّم الذي مات فيه، ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول قبل أن يموت بخمس ليال، وذكر الحديث.
وروى عبد الله بن أحمد برجال ثقات عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر.
وروى الطبراني بإسناد حسن عن معاوية رضي الله عنه نحوه، وفيه أن ذلك بعد أن صب عليه صلّى الله عليه وسلّم من سبع قرب من آبار شتى، ولفظه: انظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا ما كان من باب أبي بكر.
وروى أبو يعلى- ورجاله ثقات- عن عائشة نحوه أيضا.
وفي طبقات ابن سعد: أخبرنا قتيبة بن سعيد البلخي ثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن أعظم الناس علي منّا في صحبته وذات يده أبو بكر، فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها في المسجد إلا باب أبي بكر.
وقال قتيبة بن سعيد: قال الليث بن سعد: قال معاوية بن صالح: فقال ناس: أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر، وإني أرى على باب أبي بكر نورا، وأرى على ابوابكم ظلمة.
وفيها أيضا: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأبواب تسد إلا باب أبي بكر قال عمر: يا رسول الله دعني افتح كوة أنظر إليك حين تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا.
قال الخطابي وابن بطال: في هذا الحديث إشارة قوية إلى استحقاق أبي بكر رضي الله عنه للخلافة، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الوقت الذي أمرهم فيه ألايؤمهم إلا أبو بكر.
قال الحافظ ابن حجر: وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة، والأمر بالسد كناية عن طلبها، كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها،(2/61)
وإلى هذا جنح ابن حبان، وقوى بعضهم ذلك بأن منزل أب بكر كان بالسّنح «1» من عوالي المدينة فلا يكون له خوخة إلى المسجد.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الإستناد ضعيف؛ لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسّنح ألايكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى، وهي أسماء بنت عميس، بالاتفاق، وأم رومان على القول بأنها كانت باقية يومئذ، وقد ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم.
قلت: وسيأتي بقية ما ذكره في إدخالها في المسجد في زيادة عمر رضي الله عنه.
وقال ابن شبة أيضا في ذكر دور بني تيم: اتخذ أبو بكر رضي الله عنه دارا في زقاق البقيع قبالة دار عثمان الصغرى، واتخذ منزلا آخر أيضا عند المسجد، وهو المنزل الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سدوا عني هذه الأبواب إلا ما كان من باب أبي بكر.
قال أبو غسان: أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أن عمه أخبره أن الخوخة الشارعة في دار القضاء في غربي المسجد خوخة أبي بكر الصديق التي قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سدوا عني هذه الأبواب إلا ما كان من خوخة أبي بكر الصديق، واتخذ أبو بكر أيضا بيتا بالسنح، اه كلام ابن شبة.
وقال الجمال المطري: وأما خوخة أبي بكر رضي الله عنه فإن ابن النجار قال: قال أهل السير: إن باب أبي بكر كان عربي المسجد، ونقل أيضا أنه كان قريب المنبر، ولما زادوا في المسجد إلى حده في الغرب نقلوا الخوخة «2» وجعلوها في مثل مكانها أولا، كما نقل باب عثمان إلى موضعه اليوم.
قال المطري: وباب خوخة أبي بكر اليوم هو باب خزانة لبعض حواصل الحرم، إذا دخلت من باب السلام كانت على يسارك قريبا من الباب.
قلت: وهذه الخزانة جعل في جهتها عند عمارة المدرسة الأشرفية ثلاثة أبواب، ومحل الخوخة من ذلك الباب الثالث من على يسارك إذا دخلت من باب السلام، وتعرف قديما بخزانة النورة لوضعها فيها للعمارة.
__________
(1) السّنح: موضع بعوالي المدينة فيه منازل بني الحارث بن الخزرج.
(2) الخوخة: باب صغير وسط باب كبير نصب حاجزا بين دارين- وهو الكوّة في البيت تؤدّي إليه الضوء.(2/62)
وكلامه في ذلك يوافق ما ذكره ابن زبالة فإنه قال: وحدثني محمد بن إسماعيل عن إسحاق بن مسلم أن الخوخة التي إلى جنب باب زياد في غربي المسجد الشارعة في رحبة القضاء هي يمنى خوخة أبي بكر، لما زيد في المسجد نحّيت فجعلت يمناها: أي: في موازاتها من جهة اليمين، ورحبة القضاء خلف الخوخة المتقدم وصفها من جهة الحصن العتيق المتخذ مدرسة للسلطان الأشرف بعد الحريق الذي أدركناه.
قال الحافظ ابن حجر: وقد جاء في سد الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها ما تقدم: منها حديث سعد بن أبي وقاص قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب علي، أخرجه أحمد والنسائي وإسناده قوي، وفي رواية للطبراني في الأوسط رجالها ثقاة: فقالوا يا رسول الله سددت أبوابنا، فقال: ما أنا سددتها ولكن الله سدها، وعن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلم ناس في ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات.
قلت: لفظ رواية أحمد: عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبواب شارعة في المسجد، قال: فقال يوما: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلم أناس في ذلك، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فإني قد أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، الحديث.
وعن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي، وفي رواية: وأمر بسد أبواب المسجد غير باب علي؛ فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره، أخرجهما أحمد والنسائي، ورجالهما ثقات.
وعن جابر بن سمرة قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مر فيه وهو جنب، أخرجه الطبراني.
وعن ابن عمر: كنا نقول في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رسول الله «خير الناس، ثم أبو بكر، ثم عمر، ولقد أعطى علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطى له الراية يوم «1» خيبر، أخرجه أحمد، وإسناده حسن.
وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار- بمهملات- قال: قلت لابن عمر: أخبرني عن علي وعثمان، فذكر الحديث، وفيه: وأما علي فلا تسأل عنه أحدا، وانظر إلى منزله من
__________
(1) يوم خيبر: يوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» .(2/63)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه، ورجاله رجال الصحيح، إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه الأحاديث تقوي بعضها بعضا، وكل طريق منها صالحة للاحتجاج، فضلا عن مجموعها، وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، وأخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا على بعض طرقه عنهم، وأعلّه ببعض من تكلم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعله أيضا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر، وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر.
قال الحافظ ابن حجر: وقد أخطأ في ذلك خطأ شنيعا؛ فإنه سلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة، مع أن الجمع بين القصتين ممكن.
وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري- يعني الذي أخرجه الترمذي- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري وغيرك، والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره؛ فلذلك لم يؤمر بسده.
ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد، ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين، ففي الأولى استثنى عليا لما ذكره من كون بابه كان إلى المسجد ولم يكن له غيره، وفي الآخرى استثنى أبا بكر، ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي، والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها وأحدثوا خوخا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأمروا بعد ذلك بسدها.
فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين المذكورين؛ وبها جمع بينهما الطحاوي في مشكل الآثار، والكلاباذي في معاني الأخبار، وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد، انتهى ما أورده الحافظ بن حجر في ذلك.
قلت: والعبارة تحتاج إلى تنقيح؛ لأن ما ذكره بقوله «ومحصل الجمع» طريقة أخرى في الجمع غير الطريقة المتقدمة؛ إذ محصل الطريقة المتقدمة أن البابين بقيا، وأن المأمورين بالسد(2/64)
هم الذين كان لهم أبواب إلى غير المسجد مع أبواب من المسجد، وأما علي فلم يكن بابه إلا من المسجد، وأن الشارع صلّى الله عليه وسلّم خصّه بذلك، وجعل طريقه إلى بيته المسجد لما سبق، فباب أبي بكر هو المحتاج إلى الاستثناء، ولذلك اقتصر الأكثر عليه، ومن ذكر باب علي فإنما أراد بيان أنه لم يسد، وأنه وقع التصريح بإبقائه أيضا، والطريقة الثانية تعدد الواقعة، وأن قصة علي كانت متقدمة على قصة أبي بكر رضي الله عنهما.
ويؤيد ذلك ما أسنده يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبد الله بن مسلم الهلالي عن أبيه عن أخيه قال: لما أمر بسد أبوابهم التي في المسجد خرج حمزة بن عبد المطلب يجر قطيفة له حمراء، وعيناه تذرفان يبكي يقول: يا رسول الله أخرجت عمك وأسكنت ابن عمك، فقال: ما أنا أخرجتك ولا أسكنته، ولكن الله أسكنه، فذكر حمزة رضي الله عنه في القصة يدل على تقدمها.
وروى البزار وفيه ضعفاء قد وثقوا عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
انطلق فمرهم فليسدوا أبوابهم، فانطلقت فقلت لهم، ففعلوا إلا حمزة، فقلت: يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قل لحمزة فليحول بابه، فقلت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تحول بابك، فحوله، فرجعت إليه وهو قائم يصلي، فقال: ارجع إلى بيتك.
وروى البزار بإسناد قال الهيثمي: فيه من لم أعرفه، عن علي رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فقال: إن موسى سأل ربه أن يطهر مسجده بهارون، وإني سألت ربي أن يطهر مسجدي بك وبذريتك، ثم أرسل إلى أبي بكر أن سد بابك، فاسترجع ثم قال:
سمع وطاعة، فسد بابه، ثم أرسل إلى عمر، ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي، ولكن الله فتح باب علي وسد أبوابكم» .
قلت: ذكر العباس بدل حمزة هنا وفيما سيأتي فيه نظر؛ لأنه يقتضي تأخر ذلك؛ لأنه إنما قدم المدينة عام الفتح.
وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: بينما الناس جلوس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ خرج مناد فنادى: أيها الناس سدوا أبوابكم، فتحسحس «1» الناس لذلك ولم يقم أحد، ثم خرج الثانية فقال: أيها الناس سدوا أبوابكم، فلم يقم أحد، فقال الناس: ما أراد بهذا؟ فخرج فقال: أيها الناس سدوا أبوابكم قبل أن ينزل العذاب، فخرج الناس مبادرين، وخرج حمزة بن عبد المطلب يجر كساءه حين نادى
__________
(1) تحسحس الناس: تحركوا ببطء. حسحس للشيء: توجّع وأظهر إحساسه بالألم منه.(2/65)
سدوا أبوابكم، قال: ولكل رجل منهم باب إلى المسجد أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم، قال: وجاء علي حتى قام على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما يقيمك؟ ارجع إلى رحلك، ولم يأمره بالسد، فقالوا: سدّ أبوابنا وترك باب علي وهو أحدثنا، فقال بعضهم: تركه لقرابته، فقالوا: حمزة أقرب فيه، وأخوه من الرضاعة وعمه، وقال بعضهم تركه من أجل ابنته، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إليهم بعد ثالثة فحمد الله وأثنى عليه محمرا وجهه- وكان إذا غضب احمر عرق في وجهه- ثم قال: أما بعد ذلكم فإن الله أوحى إلى موسى أن اتخذ مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا هو وهارون وأبناء هارون شبرا وشبيرا، وإن الله أوحى إلي أن أتخذ مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا أنا وعلي وأبناء علي حسن وحسين، وقد قدمت المدينة، واتخذت بها مسجدا، وما أردت التحول إليه حتى أمرت، وما أعلم إلا ما علّمت، وما أصنع إلا ما أمرت، فخرجت على ناقتي، فلقيني الأنصار يقولون: يا رسول الله انزل علينا، فقلت: خلوا الناقة فإنها مأمورة حتى نزلت حيث بركت، والله ما أنا سددت الأبواب وما أنا فتحتها، وما أنا أسكنت عليا، ولكن الله أسكنه.
وروى أحمد بإسناد حسن عن سعد بن مالك قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب علي رضي الله عنه، ورواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط، وزاد: قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي، قال: ما أنا سددت أبوابكم، ولكن الله سدها.
وأسنده يحيى عنه بلفظ: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بالأبواب فسدت إلا باب علي، فقال العباس: يا رسول الله سددت أبوابنا إلا باب علي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها.
وعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سدوا أبواب المسجد إلا باب علي، فقال رجل: اترك لي قدر ما أخرج وأدخل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، قال:
اترك بقدر ما أخرج صدري يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، وانصرف، قال رجل: فبقدر رأسي يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، وانصرف واجدا «1» باكيا حزينا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، سدوا الأبواب إلا باب علي.
ورواه الطبراني عن جابر مختصرا، وفي ناصح بن عبد الله، وهو متروك، ولفظ الطبراني: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب كلها غير باب علي رضي الله عنه، فقال
__________
(1) واجدا: حزينا غاضبا.(2/66)
العباس: يا رسول الله اترك لي قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج، فقال: ما أمرت بشيء من ذلك، فسدها كلها غير باب علي، قال: وربما مر وهو جنب.
وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه عن عمرو بن سهل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بسد الأبواب الشوارع في المسجد، قال له رجل من أصحابه: يا رسول الله دع لي كوة أنظر إليك منها حين تغدو وحين تروح، فقال: لا والله ولا مثل ثقب الإبرة.
قلت: وقد اقتضى ذلك المنع من الخوخة أيضا، بل ومما دونها، عند الأمر بسد الأبواب أولا، فإن صح ذلك فيحمل الإذن بعده في اتخاذ الخوخ، ثم كانت قصة أبي بكر بعد ذلك.
وفي طبقات ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني عبد الرحمن بن الواقفي عن صالح ابن حسان عن أبي البداح بن عاصم بن عدي قال: قال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد، وما بالك سددت أبواب رجال في المسجد؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمري، والله أعلم.
الفصل الثاني عشر في زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد
سيأتي في الفصل الرابع عشر من رواية البخاري وأبي داود عن ابن عمر أن أبا بكر رضي الله عنه لم يزد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا، وزاد فيه عمر، وسيأتي في رواية لأبي داود أن سواري المسجد نخرت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع النخل، وهو لا ينافي رواية أنه لم يزد فيه، وقال أهل السير: لم يزد أبو بكر في المسجد شيئا لأنه اشتغل بالفتح، فلما ولي عمر قال: إني أريد أن أزيد في المسجد، ولولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«ينبغي أن يزاد المسجد» ما زدت فيه شيئا.
وفي تاريخ اليافعي أن زيادته فيه كانت في سنة سبع عشرة، وذكر غيره أنه زاد في هذه السنة في المسجد الحرام، ولم يتعرض لتاريخ زيادته في مسجد المدينة.
وأسند ابن زبالة عن أنس قال: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وولي أبو بكر لم يحول المسجد، فلما ولي عمر جعل أساطينه من لبن، ونزع الخشب، ومده في القبلة، وكان حد جدار عمر من القبلة، على أول أساطين القبلة التي إليها المقصورة: أي التي كانت بين صف الأساطين التي تلي القبلة على الرواق القبلي.
والذي في صحيح البخاري وسنن أبي داود كما سيأتي أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللّبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، وهذا(2/67)
مخالف لما في رواية ابن زبالة من أن عمر جعل أساطينه من لبن، والمعوّل عليه رواية الصحيح.
وروى أحمد عن نافع أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد من الأسطوانة إلى المقصورة، وقال عمر: لولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ينبغي أن نزيد في مسجدنا» ما زدت.
وأسند يحيى عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما قال: لولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ينبغي أن نزيد في المسجد» ما زدت في المسجد شيئا.
وفي رواية له أن ابن عمر قال: إن الناس كثروا في عهد عمر، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين لو وسّعت في المسجد، فقال عمر: لولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا» ما زدت فيه.
وأسند ابن زبالة عن مسلم بن حباب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يوما وهو في مصلاه في المسجد: «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة، فأدخلوا رجلا وأجلسوه في موضع مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم رفع يده، ثم مدوا مقاطا «1» فوضعوا طرفه بيد الرجل، ثم مدوه، فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك فيه بما أشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الزيادة، فقدم عمر القبلة، فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة.
بين عمر والعباس
وقال ابن سعد: أنا يزيد بن هارون، أنا أبو أمية بن يعلى عن سالم أبي النضر قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه وضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين، فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل، إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين، فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسّع بها في مسجدهم، فقال العباس: ما كنت لأفعل، قال: فقال له عمر: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت المال، وإما أن أخطك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تصدّق بها على المسلمين فتوسع في مسجدهم، فقال: لا، ولا واحدة
__________
(1) المقاط: الحبل. وومقود الفرس. ورشاء الدّلو. (ج) مقط.(2/68)
منها، فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت، فقال: أبي بن كعب، فانطلقا إلى أبي فقصّا عليه القصة، فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالا:
حدّثنا، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر فيه، فخط له هذه الخطة خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها بزاوية بيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها، فأبى، فحدث داود نفسه أن يأخذه منه، فأوحى الله إليه: أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيتي الغصب، وليس من شأني الغصب، وإن عقوبتك ألاتبنيه، قال: يا رب فمن ولدي، قال: فمن ولدك، فأخذ عمر بمجامع أبي بن كعب فقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه، لتخرجن مما قلت، فجاء يقوده حتى دخل المسجد، فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم أبو ذر، فقال أبي: نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره، فقال أبو ذر:
أنا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال آخر: أنا سمعته، يعني من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال:
فأرسل أبيا، قال: فأقبل أبي على عمر فقال: يا عمر أتتهمني على حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال عمر: والله يا أبا المنذر ما اتهمتك عليه، ولكن أردت أن يكون الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظاهرا، قال: وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك، فقال العباس: أما إذا قلت ذلك فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا، قال: فخط له عمر داره التي هي اليوم، وبناها من بيت مال المسلمين.
في سنن البيهقي قبل كتاب الرجعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أراد عمر رضي الله عنه أن يزيد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقعت زيادته على دار العباس رضي الله عنه، فأراد عمر أن يدخلها في المسجد ويعوضه منها، فأبى، وقال: قطيعة «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاختلفا، فجعل بينهما أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فأتياه في منزله، وكان يسمى سيد المسلمين، فأمر لهما بوسادة، فألقيت لهما فجلسا عليها بين يديه، فذكر عمر ما أراد، وذكر العباس قطيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبيّ رضي الله عنه: إن الله عز وجل أمر عبده ونبيه داود أن يا بني له بيتا، قال: أي رب، وأين هذا البيت؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا
__________
(1) القطيعة: الجزء من الأرض يملّكه الحاكم لمن يريد من أتباعه منحة. (ج) قطائع.(2/69)
سيفه، فرآه على الصخرة، وإذا ما هناك يومئذ أندر لغلام من بني إسرائيل، فأتاه داود عليه السلام. فقال: إني قد أمرت أن أبني هذا المكان بيتا لله تعالى، فقال له الفتى: الله أمرك أن تأخذ مني بغير رضاي؟ قال: لا، فأوحى الله إلى داود إني قد جعلت في يدك خزائن الأرض فأرضه، فأتاه داود عليه السلام فقال: إني قد أمرت برضاك، فلك بها قنطار من ذهب، فقال: قد قبلت، فيا داود هي خير أم القنطار؟ فقال: بل هي، قال: فأرضني، قال: فلك بها ثلاث قناطير، فلم يزل يشدد على داود حتى رضي منه بتسع قناطير، قال العباس رضي الله عنه: اللهم لا آخذ لها ثوابا، وقد تصدقت بها على جماعة المسلمين، فقبلها عمر، فأدخلها في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: وهذا يفهم أن داود صلوات الله وسلامه عليه بنى بين المقدس، وأنه أول من بناه، والرواية المتقدمة تقتضي أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه هو الذي بناه، ويؤيده ما روى الطبراني من حديث رافع بن عميرة مرفوعا قال: قال الله عز وجل لداود: ابن لي بيتا في الأرض، وإن داود- عليه السلام- بنى المسجد، فلما تم السور سقط ثلثاه، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه إنه لا يصلح أن يا بني لي بيتا، وذكر قصة غير ما تقدم، فشق ذلك على داود، فأوحى الله تعالى إليه: إني سأقضي بناءه على يد ابنك سليمان.
وروى النسائي من حديث عمرو بن العاص مرفوعا بإسناد صحيح أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثا- الحديث.
وسواء كان الباني له داود أو سليمان عليهما السلام يشكل عليه ما في الصحيحين عن أبي ذر: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول مسجد وضع على الأرض، فقال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: وكم بينهما؟ قال: أربعون عاما، ووجه الإشكال كما ذكره ابن الجوزي أن إبراهيم عليه السلام بنى الكعبة وبينه وبين سليمان أكثر من ألف سنة، وقد مشى ابن حبان على ظاهر الحديث المذكور، فقال: فيه رد على من زعم أن بين داود وإبراهيم ألف سنة، ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة، وهذا عين المحال؛ للاتفاق على طول الزمان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام، ثم إن نص القرآن أن قصة داود في قتل طالوت كانت بعد موسى بمدة.
وأجاب ابن الجوزي بأن الإشارة في حديث الصحيحين إلى أول البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة، ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس؛ فقد روى أن أول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس بعد ذلك بأربعين سنة، ثم بنى إبراهيم الكعبة بنص القرآن.(2/70)
وذكر ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم عليه السلام لما بنى البيت أمره جبريل عليه السلام بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه، فبناه ونسك فيه «1» .
وأجاب بعضهم بأن داود وسليمان عليهما السلام إنما كان لهما من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا القدر.
ويشكل على ذلك ذكر القصة المتقدمة؛ لأنه حينئذ لا يحتاج إلى شراء أرضه، نعم قال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى وضع قبل داود وسليمان، ثم زادا فيه ووسعاه فأضيف إليهما بناؤه، فيحتمل حينئذ أن القصة المتقدمة وقعت فيما وقع الأمر بزيادته فيه، ويؤيد ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي يحيى الضرير زيد بن الحسن البصري حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب أنه قال للعباس رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: نزيد في المسجد، ودارك قريبة من المسجد، فأعطناها نزيدها فيه، وأقطع لك أوسع منها، قال: لا أفعل، قال: إذا أغلبك عليها، قال: ليس لك ذلك، قال: فأجعل بيني وبينك من يقضي بالحق، قال: ومن هو؟
قال: حذيفة بن اليمان، قال: فجاؤوا إلى حذيفة رضي الله عنه، فقصوا عليه، فقال حذيفة: عندي في هذا خبر، قالوا: وما ذاك؟ قال: إن داود النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يزيد في بيت المقدس، وقد كان بيت قريب من المسجد ليتيم، فطلب إليه فأبى، فأراد أن يأخذه منه، فأوحى الله عز وجل إليه إن أنزه البيوت عن الظلم لبيتي، قال: فتركه، فقال له العباس:
فبقي شيء؟ قال: لا، قال: فدخل عمر المسجد فإذا ميزاب للعباس شارع في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسيل ماء المطر منه، فقال عمر بيده فقلع الميزاب، فقال: هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له العباس: والذي بعث محمدا بالحق إنه هو الذي وضع هذا الميزاب في هذا المكان ونزعته أنت يا عمر، فقال عمر رضي الله عنه: ضع رجليك على عنقي لترده إلى ما كان، ففعل ذلك العباس، ثم قال العباس رضي الله عنه [قد أعطيتك الدار تزيدها] في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزادها عمر في المسجد، ثم قطع للعباس دارا أوسع منها بالزوراء، وقال الحاكم: هذا الحديث كتبناه [عن أبي جعفر وأبي علي الحافظ] »
ولم يكتبه إلا بهذا الإسناد، والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم،
__________
(1) نسك فيه: تزهد وتعبّد فيه. - وأصل مأخذه النسيكة: سبيكة الفضة الخالصة.
(2) ما بين [] بياض بالأصل، وهذه الزيادة من كتاب المستدرك لأبي عبد الله الحاكم.(2/71)
قال: وقد وجدت له شاهدا من حديث أهل الشام، ثم ساقه من طريق شعيب الخراساني عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يزيد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقعت منازعة على دار العباس، فذكر نحوه.
وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن عبد الله بن أبي بكر قال: كان للعباس بيت في قبلة المسجد، وكثر الناس، وضاق المسجد، فقال عمر للعباس: إنك في سعة فأعطني بيتك هذا أوسع به في المسجد، فأبى العباس ذلك عليه، فقال عمر: إني أثمنك وأرضيك، قال:
لا أفعل، لقد ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عاتقي وأصلح ميزابه بيده فلا أفعل، قال عمر:
لآخذنه منك، فقال أحدهما لصاحبه: فاجعل بيني وبينك حكما، فجعلا بينهما أبي بن كعب، فأتياه فاستأذنا على الباب، فحبسهما ساعة ثم أذن لهما وقال: إنما حبستكما أني كنت كما كانت الجارية تغسل رأسي، فقص عليه عمر قصته، ثم قص عباس قصته، فقال:
إن عندي علما مما اختلفتما فيه، ولأقضين بينكما بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سمعته يقول: إن داود لما أراد أن يا بني بيت المقدس وكان بيت ليتيمين من بني إسرائيل في قبلة المسجد فأراد منهما البيع فأبيا عليه، فقال: لآخذنه، فأوحى الله عز وجل إلى داود: إن أغنى البيوت عن المظلمة بيتي، وقد حرمت عليك بنيان بيت المقدس، قال: فسليمان، فأعطاه سليمان، فقال عمر لأبي: ومن لي بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال هذا؟ فقال أبي لعمر:
أتظن أني أكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ لتخرجن من بيتي، فخرج إلى الأنصار فقال: أيكم سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول كذا وكذا؟ فقال هذا: أنا، وقال هذا: أنا، حتى قال ذلك رجال، فلما علم ذلك عمر قال: أما والله لو لم يكن غيرك لأجزت قولك، ولكني أردت أن أستثبت.
وفي رواية ليحيى عن أبي الزناد أن عمر بن الخطاب لما زاد في المسجد دعا من كان له إلى جانبه منزل فقال: اختاروا مني بين ثلاث خصال: إما البيع فأثمن، وإما الهبة فأشكر، وإما الصدقة على مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجابه الناس، وكان للعباس دار عن يمين المسجد، فدعاه عمر، فقال: يا أبا الفضل اختر مني بين ثلاث خصال، وذكر نحو ما تقدم، فقال العباس: ما أجيبك إلى شيء مما دعوتني إليه، فقال عمر: إذا أهدمها، فقال العباس: مالك ذلك، وذكر التحاكم إلى أبي، وقصة بيت المقدس مع مخالفة في ذكر قصته لبعض ما تقدم.
وفي رواية له عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه كلّم العباس في داره، وكانت في ما بين موضع الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم، قطيعة كان قطع له النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكلمه عمر رضي الله عنه يدخلها في المسجد، وأعطاه بها ثمنا حسنا، وقال: يا أبا الفضل إن الناس قد شكوا ضيق مسجدهم، وأحبوا الاتساع، فأبى العباس أن يبيعه، فقال عمر:(2/72)
أنا أعطيك خيرا منها في أي نواحي المدينة شئت، فأبى العباس ذلك، فقال عمر: فتصدق على الناس، فأبى فقال عمر: لآخذنه، فقال العباس: ليس ذلك لك، قال عمر: اجعل بيني وبينك رجلا، فجعلا أبي بن كعب، فأتياه فحبسهما ساعة ثم أذن لهما ثم قال: إن جاريتي كانت تغسل رأسي، فأيكما يستعدي على صاحبه؟ فقال عمر: أنا، جعلناك حكما بيننا، وما رأيت من أمر لزمنا، فقال أبي: ما تقول يا أبا الفضل؟ قال: أقول ذلك، فذهب عمر يتكلم، فقال أبي: تكلم يا أبا الفضل، دعه يابن الخطاب يتكلم لمكانه من نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، فتكلم العباس فقال: هذه خطة خطها لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وابتنيتها وبناها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معي، وهو والله شد هذا الميزاب الذي يصب في المسجد، وذكر القصة أيضا، وأن العباس قال: أما إذ قضيت به لي فهو صدقة على المسلمين أما والله يا عمر لقد هدمت الميزاب وما شددته إلا ورجلاي على عاتقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال عمر: فو الله لا تشده إلا ورجلاك على عاتقي، قال: ثم هدم الدار ووسع في المسجد وغيّر جذوعا كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أسفلها قد أكلته الأرضة.
وقد أورد رزين في كتابه خبر ابن عمر المتقدم، ولفظه: عن نافع عن ابن عمر قال:
إن الناس كثروا في عهد عمر رضي الله عنه، فقالوا له: يا أمير المؤمنين لو وسّعت لنا في المسجد، فزاد فيه عمر، فكلم عمر العباس في داره، وكانت لاصقة بالمسجد، وقال له:
أعطيك خيرا منها وتصدق بها على الناس، فأبى العباس، وقال: خطها لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووضع ميزابها بيده، فقال عمر: فإني آخذها، قال العباس: ليس لك ذلك، فجعلا بينهما أبيا، فحجبهما ساعة ثم أذن لهما فقصا عليه خبرهما، فقال: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لما أراد داود عليه السلام أن يا بني بيت المقدس كان ليتيمين من بني إسرائيل بيت في الموضع الذي خط أن يا بني المسجد عليه، فقال لهما: بيعاه مني ورغبهما في الثمن، فباعاه ثم قالا له: الذي أخذت منا خير أم الذي أعطيتنا؟ قال الذي أخذت، قالا: فإنا لا نجيز البيع، فزادهما حتى كان ذلك منهما ومنه سبع مرات، فقال: أزيدكما كذا وكذا على أن لا تسألاني، فقالا له: نبيعك بحكمنا ولا نسألك، قال: افعلا، فطلبا منه مالا كثيرا، فتعاظم ذلك داود، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى داود: إن كنت إنما تعطيهما من مالك فأنت أعلم، وإن كنت إنما تعطيهما من رزقنا فأعطهما حتى يرضيا فإن أغنى البيوت عن مظلمة بيتي، وقد حرمت عليك بناءه، فقال داود: يا رب فأعطه سليمان، فقضى به أبي للعباس.
فقال العباس: أما إذ قضيت لي به فهو صدقة على المسلمين، فذهب عمر فهدم الميزاب(2/73)
فأسف العباس لما وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، وقال: والله لقد وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن رجليه لعلى عاتقي، فقال عمر للعباس: والله لتردنه ورجلاك على عاتقي، فرده، ثم قال عمر للعباس: اهدم الآن بيدك.
وقد روى أن نزع الميزاب كان قبل ذلك لأجل أنه كان يسكب الماء داخل المسجد للزوقه به «1» ، انتهى لفظ رواية رزين.
وروى يحيى بسند جيد عن سفيان ابن عيينة عن موسى بن أبي عيسى قال: كان في دار العباس ميزاب يصب في المسجد، فجاء عمر فقلعه، فقال العباس: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي وضعه بيده، فقال عمر للعباس: لا يكن لك سلّم إلا ظهري حتى ترده مكانه.
وروى ابن إسحاق عن أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان، فلما وافى الميزاب صب فيه ماء من دم الفرخين، فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع فطرح ثيابه، ثم لبس غيرها، ثم جاء فصلى بالناس، فأتاه العباس فقال:
والله إنه الموضع الذي وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر للعباس: فأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه، ففعل ذلك العباس.
ورواه الإمام أحمد في مسنده من حديث هشام بن سعد عن عبيد الله بن عباس أخي عبد الله فذكره، وكذا رواه ابن سعد، وقال ابن أبي حاتم: إنه سأل أباه عنه، وقال: هو خطأ، وأخرجه ابن سعد من طريق موسى بن عبيدة عن يعقوب أن عمر خرج في يوم جمعة، فذكره بنحوه.
وروى يحيى عن أبي مصعب الزهري الفقيه قال: حدثنا يوسف بن الماجشون عن الثقة أنه كان في دار مروان ميزاب يصب على الناس إذا خرجوا من المسجد في المطر، وكانت دار مروان للعباس بن عبد المطلب، فأمر عمر بن الخطاب بذلك الميزاب فنزع، فجاءه العباس ابن عبد المطلب فقال: أما والله لوضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، قال: فأعاده عمر حيث كان، وقال: والله لا تعيده إلا وأنت على رقبتي، فأعاده العباس يومئذ على رقبة عمر.
قلت: وهذه الدار بقية من التي وقع النزاع المتقدم فيها، ونسبتها إلى مروان لما سيأتي أنها دخلت في داره، وروى أنها مربدها، فكأن هذا الميزاب كان في تلك البقية، فيجمع بين الروايات بأنه كان للدار المذكورة ميزابان: ميزاب يصب في المسجد، وميزاب يصب في الطريق، واتفق في كل منهما قصة، ويؤيد ذلك ما رواه يحيى في زيادة عثمان رضي الله
__________
(1) لزق به: اتصل به، لا يكون بينهما فجوة.(2/74)
عنه عن الأعمش قال: بنى عباس بن عبد المطلب داره التي إلى جنب المسجد، فجعل يرتجز يقول:
بنيتها باللبن والحجاره ... والخشبات فوقها مطاره
يا ربنا بارك لأهل الداره
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم بارك في هذه الداره، قال: وجعل العباس ميزابها لاصقا بباب المسجد يصب عليه، فطرحه عمر بن الخطاب، فقال عباس: أما والله ما شده إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنه لعلى منكبي، فقال له عمر: لا جرم والله لا تشده إلا وأنت على منكبي، فشده عمر، وابتاع عثمان بن عفان تلك الدار فزادها في المسجد إلا ثلاثة عشر ذراعا أو أربعة عشر ذراعا، فقال: لا أدري كان ابتاع البقية أم لا؟
قلت: فالذي يظهر أن العباس أبقى لنفسه بقية الدار بعد أخذ ما احتيج إلى زيادته منها، وأنه كان في تلك البقية ميزاب، فلما أحدث عمر الباب الذي عند دار مروان كما سيأتي صار الميزاب يصب على الباب في طريق المسجد، ثم اشترى عثمان من تلك البقية ما احتاج إلى إدخاله في زيادته.
وروى ابن أبي الدنيا قصة دار العباس هذه مطولة، وقال: إن العباس قال لعمر: أما والله ما شده إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه، حملني والله على عاتقه حين شده، قال: وبعض الناس يقول: بل العباس حمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال محمد بن عقبة- يعني روايه-: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليضع قدميه على رقبة أبيه أو عمه، ولكنه حمل العباس على عاتقه، وقول يحيى في رواية ابن عمر المتقدمة «وكانت- يعني دار العباس- فيما بين الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم» أي والباب الذي يلي دار مروان لدخول بعضها في دار مروان. قال الزين المراغي: وسيأتي بيان المربعة، أي في زيادة عثمان رضي الله عنه، وقد ذكر هناك تبعا للمطري أنها الأسطوانة التي في وصف الأساطين التي تلي القبلة، وقد رفع أسفلها مربعا قدر الجلسة.
قلت: والتي تليها مربعة أيضا، وهي التي تلي دار مروان؛ فهي المراد هنا كما قدمنا الإشارة إليه في تحديد المسجد النبوي، وهي الخامسة من المنبر في جهة المغرب، فيكون ابتداء زيادة عمر رضي الله عنه من جهة المغرب من الأسطوانة المذكورة، خلاف قول المطري والمراغي إن المربعة التي ذكراها قبل هذه منتهى زيادة عمر رضي الله عنه، وكيف يكون منتهى زيادته مع كونها مبتدأ دار العباس التي هي أول الزيادة؟ وأيضا فذرع ما بين الأسطوان التي ذكراها والحجرة الشريفة نحو تسعين ذراعا، وقد قال يحيى في رواية ابن عمر أيضا «إن المسجد كان طوله أي من القبلة إلى الشام على عهد عمر رضي الله عنه أربعين(2/75)
ومائة ذراع وعرضه عشرون ومائة، وطول السقف أي ما بينه وبين الأرض أحد عشر ذراعا» انتهى. وكيف يصح أن يكون الأسطوان المذكور نهاية زيادته؟ بل ابتداء زيادته من الأسطوان التي تليها، فيكون زيادته بعد الأسطوان المذكورة في جهة المغرب عشرين ذراعا، لما قدمناه من رواية أن المسجد كان عرضه مائة ذراع فزيادته عشرون، وذلك نحو أسطوانين، فيكون نهاية المسجد في زمنه من تلك الجهة الأسطوانة السابعة من غربي المنبر، ومن المشرق الحجرة الشريفة، لأنه لم يزد في تلك الجهة شيئا، ومن القبلة صف الأساطين التي تلي القبلة، وكانت إليها المقصورة الآتي ذكرها، وقد احترقت، ومن بقاياها خشبة في سفل الأسطوان التي في هذا الصف عن يسار مستقبل المحراب العثماني، مثبتة تلك الخشبة في الأسطوان المذكور مما يلي الأرض، وقد زالت في الحريق الثاني؛ فزيادة عمر رضي الله عنه من جهة القبلة الرواق المتوسط بين الروضة ورواق القبلة، وذلك نحو عشرة أذرع، وأما الشام فيستفاد من كون المسجد كان طوله في زمنه أربعين ومائة ذراع، وأن منها في جهة القبلة نحو عشرة أذرع أنه يمتد في زمنه بعد الحجرين المتقدم ذكرهما في حدود المسجد الأصلي اللذين في صحنه نحو ستين ذراعا؛ لأنا قدمنا أن من مقدم المسجد الأصلي إليها نحو السبعين فقط.
وبقي أمر آخر لم أر من نبه عليه، وهو أن حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بعضها في جهة الشام كما تقدم، ومقتضى ما قدمناه من رواية ابن سعد- وهو ظاهر ما سيأتي في زيادة الوليد- أن عمر رضي الله عنه لم يدخل منها شيئا في المسجد، وإنما أدخلها الوليد، فكأن عمر ترك ما كان منها في جهة الشام قائما على حاله، وصار المسجد حواليها.
وقال السيد القرافي في ذيله: واشترى عمر أيضا نصف موضع كان خطه النبي صلّى الله عليه وسلّم لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة دارا بمائة ألف فزاده في المسجد.
قلت: سيأتي من رواية يحيى أن الذي شرى ذلك عثمان رضي الله عنه، كذا في النسخة التي رواها ابن ابنه الحسن بن محمد عنه، ثم رأيت في النسخة التي رواها ابنه طاهر عنه ما ذكره القرافي، ولم يذكر ابن زبالة ويحيى وغيرهما إدخال عمر دار أبي بكر رضي الله عنه في المسجد، ويتعين أن يكون عمر هو الذي أدخلها؛ لما سبق في الفصل قبله من أن باب خوختها كان غربي المسجد، وأن الخوخة المجعولة في محاذاتها عند إدخال الدار هي الخوخة الموجودة اليوم غربي المسجد، وهذا لا خلاف فيه عند المؤرخين، ولهذا قال ابن النجار نقلا عن أهل السير: كانت خوخة أبي بكر في غربي المسجد، فعلمنا بذلك أن دار أبي بكر كانت في غربي المسجد، وأن عمر رضي الله عنه أدخلها، لكن قال الحافظ ابن حجر:
إن ابن شبة ذكر في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى(2/76)
المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها، فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، فلم تزل بيدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان، فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد، فامتنعت وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها: نعطيك دارا أوسع منها ونجعل لك طريقا مثلها، فسلّمت ورضيت.
قلت: هذه القصة إنما ذكرها ابن شبة في دار حفصة التي في قبلة المسجد، وذكر معها شراءها لدار أبي بكر المذكورة بصيغة تقتضي التضعيف، واقتضى ذلك أن دار أبي بكر كانت في قبلة المسجد على تلك الرواية الضعيفة، وأن طريق آل عمر اليوم منها، فنسب إليه الحافظ ابن حجر الجزم به، وليس الأمر كذلك كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع عشر.
وقال يحيى في روايته المتقدمة: وجعل أساطينه من جذوع نخل وسقفه بالجريد ذراعين فوق المسجد سترة حائطه ثلاثة أذرع، وعبر ابن النجار عن ذلك بقوله: وسقفه جريد ذراعان، وبنى فوق ظهره سترة ثلاثة أذرع، انتهى. والذي يظهر أن في عبارة يحيى خللا، وتبعه عليه ابن النجار، وأن المراد ما ذكره رزين في هذه الرواية بعينها، فإنه قال فيها:
وجعل عمر سترة المسجد فوقه ذراعين أو ثلاثة، فكأن لفظ «أو» سقط قبل قوله ثلاثة أذرع.
وقال يحيى ورزين عقب ذلك: وكان بنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة، زاد يحيى:
وكان لبنه ضربه بالبقيع، وجعل له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة، وبابين عن يسارها، وبابين خلف القبلة، ولم يغير باب عاتكة- أي المعروف بباب الرحمة- ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو فتح الباب الذي عند القبر، فهذان البابان من الشق الأيسر: أي المشرق، وفتح الباب الذي عند دار مروان بن الحكم، وفتح بابين من مؤخر المسجد، انتهى.
وقوله: «إنه لم يغير باب عاتكة، ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم» مسلم في الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال المراغي تبعا للمطري: وهو باب جبريل؛ لأنه لم يزد في جهة المشرق شيئا، وأما باب عاتكة ففيه نظر؛ لأنه زاد من جهة المغرب كما تقدم، فالمراد بكونه لم يغير أنه أخره في محاذاة الباب الأول، وهذه الرواية تقتضي أن الباب المعروف اليوم بباب النساء لم يكن موجودا في زمن عمر رضي الله عنه؛ لأن المستفاد مما ذكره أن الباب الذي زاده في جهة المشرق جعله عند القبر، ولعله تصحيف؛ لأنه إذا لم يزد من جهة المشرق شيئا كيف يحدث بابا عند القبر ويترك الجهة التي زادها من جهة الشام بغير باب؟ والمنقول كما سيأتي أن إحداث الباب الذي عند القبر إنما هو في زيادة الوليد، وسيأتي(2/77)
في سبب تسميته باب النساء أن عمر رضي الله عنه قال حين بنى المسجد: هذا باب النساء، كما رواه يحيى؛ فتبين أن باب النساء هو الباب الباقي في جهة المشرق على عهد عمر رضي الله عنه، وأنه الذي أحدثه، وسيأتي في زيادة عثمان عند ذكر اقتصاره على الأبواب التي جعلها عمر ما هو كالصريح في ذلك، والله أعلم.
وفي البخاري تعليقا عن أبي سعيد قال: أمر عمر ببناء المسجد، وقال: أكنّ الناس «1» من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
وروى ابن شبة ويحيى من طريق عبد العزيز بن عمران عن مليح بن سليمان عن ابن أبي عمرة قال: زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، زاد يحيى: وجاء الله بعامر، وعبد العزيز هو ابن أبي ثابت، تركوه، كانت كتبه قد احترقت فحدّث من حفظه فاشتد غلطه.
وروى يحيى من طريق ابن زبالة وهو ضعيف: حدثني محمد بن إسماعيل عن ابن أبي ذئب قال: قال عمر بن الخطاب: لو مد مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذي الحليفة لكان منه، ورواه ابن شبة من طريق أبي غسان المدني بدل ابن زبالة، وعلى كل حال هو معضل.
وروى ابن شبة ويحيى والديلمي في مسند الفردوس بسند فيه متروك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لو بنى هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي، وكان أبو هريرة يقول: لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه، ثم قال يحيى:
وحدثنا هارون بن موسى نبأ عمر بن أبي بكر الموصلي عن ثقات من علمائه قالوا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا مسجدي، وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ بمسجدي صنعاء كان مسجدي.
قلت: وهو منقطع، لكن اجتماع هذه الروايات تقوي ما قدمناه في آخر الفصل الثاني عن مالك رحمه الله من أن المضاعفة الواردة في المسجد النبوي تعم ما زيد فيه، والله أعلم.
الفصل الثالث عشر في البطيحاء التي بناها عمر رضي الله عنه بناحية المسجد، ومنعه من إنشاد الشعر ورفع الصوت فيه، وما جاء في ذلك
روى ابن شبة ويحيى بسند جيد عن سالم بن عبد الله أن عمر- يعني ابن الخطاب- اتخذ
__________
(1) أكنّ الناس من المطر: أحميهم وأسترهم منه.(2/78)
مكانا إلى جانب المسجد يقال له «البطيحاء» وقال: من أراد أن يلغط أو يرفع صوتا أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إليه، ولفظ يحيى: أن عمر بن الخطاب بنى في ناحية المسجد رحبة تدعى البطيحاء، ثم قال: من أراد أن يلغظ أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة، زاد ابن شبة عقيب روايته من طريق محمد بن يحيى: قال محمد: وقد دخلت تلك البطيحاء في المسجد فيما زيد فيه بعد عمر رضي الله عنه.
وذكر ابن شبة في موضع آخر ما يبين أن البطيحاء كانت في جهة شرقي المسجد مما يلي مؤخره زمن عمر رضي الله عنه، فإنه قال: اتخذ خالد بن الوليد داره التي كانت بالبطيحاء، إلى آخر ما سيأتي عنه، مع بيان أنها الرباط المعروف اليوم برباط السبيل في شرقي المسجد.
وروى ابن شبة أيضا بسند جيد عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه كان إذا خرج من الصلاة نادى في المسجد: إياكم واللغط، ويقول: ارتفعوا في أعلى المسجد.
ورواه يحيى بلفظ: كان إذا خرج إلى الصلاة.
وروى ابن شبة بسند جيد إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عمر رضي الله عنه سمع ناسا من التجار يذكرون تجارتهم والدنيا في المسجد، فقال: إنما بنيت هذه المساجد لذكر الله، فإذا ذكرتم تجاراتكم ودنياكم فاخرجوا إلى البقيع.
وروى أيضا عن شيخه سليمان بن داود قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت رجل في المسجد، فقال: أتدري أين أنت؟
كأنه كره الصوت.
وعن عبد الرحمن بن حاطب قال: كان بين عثمان وطلحة تلاح في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغ عمر رضي الله عنه، فأتاهم وقد ذهب عثمان وبقي طلحة، فقال: أفي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقولان الهجر وما لا يصلح من القول؟ قال: فجثا طلحة على ركبتيه وقال:
إني والله لأنا المظلوم المشتوم، فقال: أفي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقولان الهجر وما لا يصلح من القول؟ ما أنت مني بناج، فقال: الله الله يا أمير المؤمنين، فو الله إني أنا المظلوم المشتوم، فقالت أم سلمة من حجرتها: والله إن طلحة لهو المظلوم المشتوم، قال: فكف عمر رضي الله عنه.
وعن السائب بن يزيد قال: كنت مضطجعا في المسجد، فحصبني رجل «1» ، فرفعت رأسي، فإذا عمر رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين الرجلين، فجئت بهما، فقال:
من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد ما فارقتماني حتى أوجعكما جلدا، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟!
__________
(1) حصبني: رماني بحجارة صغيرة.(2/79)
وعن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه أتى برجل في المسجد وقد أخذ في شيء، فقال: أخرجاه من المسجد فاضرباه، أو اضربوه.
وروى يحيى عن نافع أن عمر بينما هو في المسجد عشاء إذ سمع ضحك رجل، فأرسل إليه فقال: من أنت؟ فقال: أنا رجل من ثقيف، فقال: أمن أهل البلد أنت؟ فقال:
بل من أهل الطائف، فتوعده فقال: لو كنت من أهل البلد لنكّلت بك، إن مسجدنا هذا لا ترفع فيه الأصوات.
وعن ابن سيرين أن ابن مسعود سمع رجلا يرفع صوته في المسجد، فسبه، فقيل له:
ما كنت فحّاشا، فقال: أمرنا بهذا.
وروى ابن زبالة ويحيى عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحسان بن ثابت وهو ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال حسان: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس» قال: اللهم نعم، وقد رواه البخاري في الصحيح بنحوه، وفي رواية ليحيى عقب قوله: «قد كنت أنشد فيه من هو خير منك» فانصرف عمر وقد عرف أنه يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي رواية ذكرها الحافظ ابن حجر فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، وفي الترمذي من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينصب لحسان منبرا في المسجد، فيقوم عليه يهجو الكفار.
وأما ما رواه ابن خزيمة في صحيحه والترمذي وحسنه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تناشد الأشعار في المساجد، قال الحافظ ابن حجر: صحيح إلى عمرو، فمن يصحح نسخته يصححه، وفي هذا المعنى عدة أحاديث، لكن في أسانيدها مقال، والجمع بينها وبين ما تقدم أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، وهو مراد عمر بقوله: من أراد أن ينشد شعرا فليخرج إلى هذه، يعني البطيحاء، والمأذون فيه ما سلّم من ذلك، وقيل: المنهي عنه ما إذا كان غالبا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه، وأبعد بعضهم فأعمل أحاديث النهي، وادعى نسخ الإذن، ولم يوافق على ذلك. وروى ابن زبالة عن علي بن زيد بن جدعان قال: أنشد كعب بن زهير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد أبياتا:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول «1»
والله أعلم.
__________
(1) وعجزه:
متيم إثرها لم يفد مكبول(2/80)
الفصل الرابع عشر في زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه
روينا في صحيح البخاري وسنن أبي داود عن نافع أن عبد الله- يعني ابن عمر- أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة «1» ، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج.
وروى أبو داود أيضا- وسكت عليه- عن عطية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
إن مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت سواريه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فبناها بجذوع النخل وبجريد النخل، ثم إنها نخرّت في خلافة عثمان رضي الله عنه فبناها بالآجر، فلم تزل ثابتة حتى الآن، هكذا رأيته في أصول متعددة معتمدة من السنن، وأورده المجد بلفظ: ثم إنها نخرت في خلافة عمر- بدل أبي بكر- ولم أره في شيء من النسخ.
وفي هذا الخبر ما يقتضي أن السبب في بناء عثمان للمسجد كون الجذوع التي هي السواري نخرت، وأن عثمان بناها بالآجر لا الحجر، فلعل البعض كان في زمنه مبنيا بالآجر وهو بعيد، وما تقدم من رواية الصحيح أصح.
وفي صحيح مسلم عن محمود بن لبيد أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك، وأحبوا أن يدعه على هيئته، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى «مسجدا لله» بنى الله له في الجنة مثله.
وفيه وفي البخاري عن عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول: إنكم قد أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى مسجدا لله عز وجل، الحديث.
وقوله في الرواية الأولى إن عثمان أراد بناء المسجد يبين أن المراد من قوله حين بناء المسجد حين أراد بناءه، إلا أن يكون ذلك قد تكرر من عثمان لتكرر كلامهم قبل البناء وبعده، وهو الأقرب، وقوله «وأحبوا أن يدعه على هيئته» أي بجذوع النخل واللبن كما فعل عمر رضي الله عنه لموافقته لفعله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا قال البغوي في شرح السنة: لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة، لا مجرد توسيعه، اه. ويؤيده ما سيأتي من
__________
(1) القصّ: الجصّ. وسمي موضع قرب المدينة بذي القصّة لأن به الجصّ.(2/81)
أن الناس شكوا إليه ضيق المسجد؛ فقوله: «لما أراد عثمان بناء المسجد» أي: على الهيئة التي بناه عليها، ويؤخذ من هذا إطلاق البناء المرغّب فيه في حق من جدد ووسع؛ لأن عثمان لم يبن المسجد كله إنشاء، وقوله «إنكم أكثرتم» أي: الكلام بالإنكار ونحوه.
وروى يحيى عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لما ولي عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين كلمه الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأزيد فيه، وأشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، وقد كان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه، فحسّن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلا يصوم الدهر ويصلي الليل، وكان لا يخرج من المسجد، وأمر بالقصّة المنخولة تعمل ببطن نخل، وكان أول عمله في شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين، فكان عمله عشرة أشهر.
قلت: قوله أولا «لما ولي عثمان سنة أربع وعشرين» إلى قوله «فأصبح ودعا العمال» يفهم أنه في تلك السنة، وقوله أخيرا «وكان أول عمله إلى آخره» يأباه، وما ذكره أخيرا هو الصواب المذكور في كلام غيره؛ فيحمل ما ذكره أولا على أنه لم يشرع في المشاورة والعمارة عقب كلام الناس له، بل استمر تلك السنين، وربما تكرر الكلام فخطبهم في السنة التي وقعت فيها العمارة.
وقد روى رزين الخبر المذكور عن المطلب المذكور بلفظ: لما ولي عثمان وكان سنة أربع من خلافته كلمه الناس أن يزيد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكوا إليه ضيقه، فشاور عثمان أهل الرأي، فأشاروا عليه بذلك، وذكر نحو ما تقدم، وينبغي حمله أيضا على أن الكلام وقع من الناس سنة أربع من خلافته وتأخرت العمارة إلى سنة تسع وعشرين- بتقديم المثناة الفوقية على السين- وإلا فهو مخالف لما تقدم؛ لأن عثمان رضي الله عنه ولي غرة المحرم افتتاح سنة أربع وعشرين، فسنة أربع من خلافته هي سنة سبع وعشرين- بتقديم السين على الموحدة- والأول هو الأصح؛ فقد روى يحيى وابن زبالة أن عثمان زاد في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين، وعثمان قتل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
وقال الحافظ ابن حجر: كان بناء عثمان للمسجد سنة ثلاثين على المشهور، وقيل: في(2/82)
آخر سنة من خلافته؛ ففي كتاب السير عن الحارث بن مسلم عن ابن وهب: أخبرني مالك أن كعب الأحبار كان يقول عند بنيان عثمان المسجد: لوددت أن هذا المسجد لا ينجز «1» ؛ فإنه إذا فرغ من بنيانه قتل عثمان، قال مالك: فكان كذلك.
قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأن الأول كان تاريخ ابتدائه، والثاني تاريخ انتهائه.
قلت: قد تقدم ما يردّ هذا الجمع، وأن الفراغ منه كان في سنة ثلاثين، لكن يمكن أن عثمان رضي الله عنه أحدث فيه عمارة أخرى آخر سنة من خلافته وقد وصل ابن شبة ما نقله مالك عن كعب؛ فروى بسنده من طريق الأعمش عن أبي صالح قال: قال كعب ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم يا بنى: والله لوددت أنه لا يفرغ من برج إلا سقط برج، فقيل له: يا أبا إسحاق أما كنت تحدثنا أن صلاة فيه أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، قال: بلى، وأنا أقول ذلك الآن، ولكن فتنة نزلت من السماء ليس بينها وبين أن تقع إلا شبر، ولو فرغ من بناء هذا المسجد وقعت، وذلك عند قتل هذا الشيخ عثمان بن عفان، فقال رجل: وهل قاتله إلا كقاتل عمر، قال: بل مائة ألف أو يزيدون، ثم يحل القتل ما بين عدن أبين إلى دروب الروم «2» .
وروى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان أن يكلم الناس على المنبر ويشاورهم قال له مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال: ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور، قال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال: اسكت، إن عمر اشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنت لهم حتى أصبحت أخشاهم، قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك.
وعن عبد الرحمن بن سفينة قال: رأيت القصّة تحمل إلى عثمان وهو يا بني مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بطن نخل، رأيته يقوم على رجليه والعمال يعملون فيه حتى تأتي الصلاة فيصلي بهم، وربما نام ثم رجع، وربما نام في المسجد.
وعن خارجة بن زيد قال: هدم عثمان بن عفان المسجد وزاد في قبلته، ولم يزد في شرقيه، وزاد في غربيه قدر أسطوان، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وعسب النخل
__________
(1) أنجز الشيء: أتمه وقضاه.
(2) الدروب مفردها الدرب: المضيق بين الجبال. وكل مدخل إلى بلاد الروم.(2/83)
والجريد، وبيضه بالقصة، وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل، وجعل فيه طيقان مما يلي المشرق والمغرب، وذلك قبل أن يقتل بأربع سنين، وزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا.
وعن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: زاد عثمان في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين فزاد من القبلة، فوضع جداره على حد المقصورة اليوم، وزاد فيه من المغرب أسطوانا بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا، ولم يزد من المشرق شيئا، وزعم المطري وتبعه المراغي أن المراد بهذه المربعة المربعة المتقدم وصفها في تحديد المسجد النبوي في زيادة عمر رضي الله عنه، وهي الأولى من المربعتين اللتين يليان القبلة في صف الأسطوان الرابع من المنبر في جهة المغرب، وجعلا نهاية زيادة عثمان إلى الأسطوانة التي تليها في المغرب المقابلة للطراز المتقدم وصفه، فقالا: أراد بالمربعة الأسطوانة التي تليها في المغرب التي في القبلة التي رفع أسفلها مربعا قدر الجلسة، وهي منتهى زيادة عثمان من المغرب، وقبالة الأسطوانة التي زادها عثمان في الحائط القبلي طرازا آخر من العصابة السفلى إلى سقف المسجد، وهو حد زيادة عثمان، انتهى.
ومحصله أن زيادة عثمان هي الرواق الكائن بين الأسطوانتين المذكورتين، ولم أر من سبقهما لذلك، وقد قدمنا في تحديد المسجد النبوي ما يقتضي أن الطراز المذكور في موازاة حد المسجد النبوي على الراجح، وأن زيادة عمر وعثمان رضي الله عنهما من بعد ذلك في جهة المغرب، وأن عمر رضي الله عنه جعل المشرق إلى المغرب مائة وعشرين ذراعا، وأن من المربعة التي ذكرا أنها نهاية زيادته إلى الحجرة الشريفة ينقص عن تسعين ذراعا، وإلى محاذاة الطراز نحو المائة؛ فيبقى لعمر في جهة المغرب بعد الطراز رواقان آخران؛ فيكون نهاية المسجد في زمنه الأسطوانة السابعة من المنبر، وفي صف السابعة من المنبر أسطوان أسفله مربع لكنه ليس مرتفعا عن الأرض بقدر الجلسة، بل تربيعه على وجه الأرض، وقد زال تربيعه في العمارة الحادثة بعد الحريق الثاني، وليس هو في صف الأساطين التي تلي القبلة، بل في صف الأساطين التي خلف محراب الحنفية؛ فالظاهر أن هذه المربعة هي المرادة هنا؛ فيكون لعثمان رضي الله عنه في جهة المغرب الرواق الذي بعدها؛ فيكون نهاية المسجد في زمننه الأسطوانة الثامنة من المنبر في جهة المغرب، ويدل على صحة ذلك ما سيأتي أن الوليد زاد بعد عثمان رضي الله عنه في جهة المغرب أسطوانين، ولم يزد أحد بعد الوليد في جهة المغرب شيئا، والباقي من الأسطوانة الثامنة من المنبر أسطوانتان فقط في جهة المغرب، فهما زيادة الوليد، وهناك أسطوان مربعة مرتفعة قدر الجلسة أيضا أمام الأسطوانة بوجاه الداخل من باب السلام، الظاهر أنها جعلت علامة لنهاية زيادة عثمان رضي الله عنه، وابتداء زيادة(2/84)
الوليد، وإن قلنا بأن نهاية المسجد النبوي المربعة الأولى التي تلي القبلة كما سبقت الإشارة إليه فحينئذ يكون لعمر رضي الله عنه منها إلى جهة المغرب أسطوانتان فيكون نهاية زيادة الأسطوانة السادسة من المنبر، وفي صفها أسطوان مربع قدر الجلسة أيضا أمام الأسطوانة المثمنة اليوم، وتكون زيادة عثمان رضي الله عنه إلى الأسطوانة التي بعدها في جهة المغرب وهي السابعة، وتبقى للوليد منها إلى جدار المسجد ثلاثة أساطين، وسيأتي في عمارته رواية تقتضي ذلك، على أن الذي أفهمه من كلام متقدمي المؤرخين كما قدمناه في حدود المسجد أن المربعة حيث أطلقت في جهة المغرب فالمراد بها الأسطوانة المقابلة لمربعة القبر في جهة المغرب عند ركن صحن المسجد قبل زيادة الرواقين الآتي بيانهما، وهي المثمنة اليوم، وفي ركني الصحن الشاميين أسطوانتان على هيأتها أيضا، وتثمينها حادث كما تقدم بيانه، ويعبرون عنها بالمربعة الغربية، وهي السادسة من المنبر؛ فيترجح بذلك أنها نهاية زيادة عمر وابتداء زيادة عثمان رضي الله عنه، ولو كان كما زعم المطري ومن تبعه لكان بعد نهاية زيادة عثمان رضي الله عنه في المغرب خمس أساطين، فيكون كلها للوليد، ولا قائل بذلك، وفيما قدمناه في تحديد المسجد النبوي كفاية في رد ما قالاه.
وروى يحيى عن عبد الله بن عطية بن عبد الله بن أنيس قال: بنى عثمان المسجد بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده حجارة منقوشة، وبها عمد الحديد فيها الرصاص، وسقفه ساجا، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه ست أبواب على ما كان على عهد عمر رضي الله عنه: باب عاتكة، أي المعروف بباب الرحمة، والباب الذي يليه أي يقرب من محاذاته في المشرق، وهو باب النساء، وباب مروان: أي المعروف بباب السلام، والباب الذي يقال له باب النبي صلّى الله عليه وسلّم: أي المعروف بباب جبريل، وبابين في مؤخر المسجد.
قلت: قوله: «وجعل طوله ستين ومائة ذراع» مخالف لما تقدم من كونه زاد فيه من جهة الشام خمسين ذراعا؛ لأنه قد تقدم أن عمر رضي الله عنه جعل طول المسجد أربعين ومائة ذراع، فلو زاد فيه عثمان خمسين ذراعا لكان طوله في زمنه تسعين ومائة ذراع، على أن الأقرب أن طوله في زمن عثمان كان ستين ومائة ذراع، لما سيأتي في الزيادة بعده. وقوله «وعرضه خمسين ومائة ذراع» مخالف لما تقدم من كونه لم يزد من جهة المغرب سوى أسطوانة واحدة، ولم يزد في جهة المشرق شيئا، بل هذه الرواية خطأ؛ للاتفاق على أن عثمان رضي الله عنه لم يزد من جهة المشرق شيئا؛ فيكون نهايته في زمنه الحجرة الشريفة، وذرع المسجد اليوم من جداره الغربي إلى جدار الحجرة الشريفة لا يبلغ خمسين ومائة ذراع، بل ينقص عن ذلك أكثر من سبعة أذرع، ثم تبقى زيادة الوليد من جهة المغرب، وهي متفق(2/85)
عليها أيضا؛ فالصواب أنه لم يزد من المغرب سوى أسطوانة، وأن عرض المسجد في زمنه نحو مائة وثلاثين ذراعا، والله أعلم.
وروى يحيى كما في النسخة التي رواها ابنه عن أبي الحسن المدائني أنه قال في حديث ساقه: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خط لجعفر بن أبي طالب دارا وهو بأرض الحبشة، فاشترى عثمان نصفها بمائة ألف، فزادها في المسجد.
قلت: تقدم في زيادة عمر رضي الله عنه نقل مثل ذلك عن فعل عمر رضي الله عنه؛ فيحتمل أن كلا منهما شرى نصف ذلك وأدخله مرتبا، والله أعلم.
وروى ابن زبالة عن عبد الله بن عمر بن حفص قال: مدّ عمر بن الخطاب جدار القبلة إلى الأساطين التي إليها المقصورة اليوم، ثم زاد عثمان بن عفان حتى بلغ جداره اليوم، قال: فسمعت أبي يقول: لما احتيج إلى بيت حفصة قالت: فكيف بطريقي إلى المسجد؟ فقال لها: نعطيك أوسع من بيتك، ونجعل لك طريقا مثل طريقك، فأعطاها دار عبيد الله بن عمر، وكانت مربدا «1» .
قلت: وهذه العبارة محتملة لأن القائل «نعطيك إلى آخره» عمر أو عثمان رضي الله عنهما، ويرجح الثاني أنه أورده في سياق زيادة عثمان رضي الله عنه، وأنه روى عقبة عن عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه أن عمر قدم جدار القبلة إلى المقصورة، ثم قدمه عثمان إلى موضعه اليوم، وأخل بقية دار العباس بن عبد المطلب مما يلي القبلة والشام والمغرب، وأدخل بعض بيوت حفصة بنت عمر مما يلي القبلة، فقام المسجد على تلك الحال حتى زاد فيه الوليد.
قلت: تقدم في زيادة عمر رضي الله عنه أن الحافظ ابن حجر نقل عن ابن شبة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد اشترتها حفصة أم المؤمنين، فلم تزل في يدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان، فطلبوها منها ليوسع بها في المسجد، فامتنعت وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها: نعطيك دارا أوسع منها ونجعل لك طريقا مثلها، فسلمت وضيت، والذي ذكره ابن شبة في علم دور أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما سنذكره عنه في الدور التي كانت حول المسجد من أن حفصة اتخذت دارها التي في قبلة المسجد لها خوخة في المسجد، فورثها عبد الله بن عمرن وذكر ما سيأتي في أصل هذه الدار من كونها كانت مربدا كما سيأتي، ثم ذكر لحفصة دارا أخرى، ثم قال:
وأخبرني مخبر قال: كان بيت أبي بكر الذي أذن له النبي صلّى الله عليه وسلّم في إبقاء خوخته بيد عبد الله بن
__________
(1) المربد: موقف الإبل ومحبسها، وبه سمي مربد البصرة. وربد بالمكان: أقام به. وحبس به. والتمر خزنه في المربد. (ج) مرابد.(2/86)
عمر، وهو البيت الذي على يمينك إذا دخلت دار عبد الله من الخوخة التي في المسجد، فتلقاك هناك خوخة في جوف الخوخة التي هي الطريق المبوب، فتلك الخوخة خوخة أبي بكر، قال: وكانت حفصة ابتاعت ذلك المسكن من أبي بكر، والدار الذي ذكرت فوق هذه الشارعة على باب دار عبد الله إلى جنب دار هشام، فباع أبو بكر رضي الله عنه ذلك المسكن وتلك الدار من حفصة بأربعة آلاف درهم، ونقدها عنها عثمان بن عفان، وإنما باع ذلك أبو بكر لناس قدموا عليه من بني تميم فسألوه.
ثم قال ابن شبة: حدثنا محمد بن يحيى عن عبد الله بن عمر بن حفص قال: سمعت أبي يقول: لما احتيج إلى بيت حفصة قالت: وكيف طريقي في المسجد؟ فقيل لها: نعطيك أوسع من بيتك ونجعل لك طريقا مثل طريقك، فأعطاها دار عبد الله بن عمر، وكانت مربدا، انتهى. والذي يقتضيه قوله «وأخبرني مخبر» تضعيف هذه الرواية.
وقد روى في ذكر دور بني تيم كما قدمناه أن دار أبي بكر المذكورة كانت شارعة في دار القضاء في غربي المسجد، وقد صدّر كلامه بأن أصل دار حفصة إنما هو المربد، وختم كلامه بذلك. وقوله «لما احتيج إلى بيت حفصة» المراد به سكنها، هو الذي كان شارعا في المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي بيانه، والله أعلم.
وتقدم في زيادة عمر رضي الله عنه ما رواه يحيى من أن عثمان رضي الله عنه شرى دار العباس فزادها في المسجد إلا ثلاثة عشر ذراعا أو أربعة عشر ذراعا، فقال الراوي: لا أدري أكان ابتاع البقية أم لا، وحملناه على أن المراد بدار العباس ما بقي منها بعد ما زاده عثمان رضي الله عنه، والظاهر أن تلك البقية هي التي دخلت في دار مروان. وقد ذكر ابن زبالة ويحيى وابن النجار اتخاذ مروان لداره عقب ذكر زيادة عثمان رضي الله عنه؛ فيحتمل أنه اتخذها في حال زيادة عثمان رضي الله عنه أو بعده، وهو الظاهر؛ لأنهم ذكروا أنه اتخذ لها خوخة في المسجد من جهة القبلة، ثم قال: أخشى أن أمنعها، فجعل لها بابا عن يمينك حين تدخل، ثم جعل الباب الثالث الذي على باب المسجد، كما سيأتي، والله أعلم.
الفصل الخامس عشر في المقصورة التي اتخذها عثمان رضي الله عنه في المسجد وما كان من أمرها بعده
روى ابن زبالة وابن شبة عن عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه أن أول من عمل المقصورة بلبن عثمان بن عفان، وأنه كانت فيه كوى ينظر الناس منها إلى الإمام، وأن عمر بن عبد العزيز هو الذي جعلها من ساج حين بنى المسجد.
وروى الأول أيضا عن عيسى بن محمد بن السائب ومحمد بن عمرو بن مسلم بن(2/87)
السائب ابن خباب وعمر بن عثمان بن عبد الرحمن أن عثمان بن عفان أول من وضع المقصورة من لبن، واستعمل عليها السائب بن خباب، وكان رزقه دينارين في كل شهر، فتوفي عن ثلاثة رجال: مسلم، وبكير، وعبد الرحمن، فتواسوا في الدينارين، فجريا في الديوان على ثلاثة منهم إلى اليوم، قال ابن زبالة: وقال مالك بن أنس: لما استخلف عثمان بعد مقتل عمر بن الخطاب عمل عثمان مقصورة من لبن، فقام يصلي فيها للناس خوفا من الذي أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت صغيرة.
وروى يحيى هذا كله في زيادة عثمان رضي الله عنه، ثم روى في زيادة الوليد عن عبد الحكم بن عبد الله بن حنطب قال: أول من أحدث المقصورة في المسجد مروان بن الحكم، بناها بالحجارة المنقوشة، وجعل لها كوى، وكان بعث ساعيا «1» إلى تهامة، فظلم رجلا يقال له دب، فجاء دب إلى مروان، فقام حيث يريد أن يقوم مروان، حتى إذا أراد أن يكبر ضربه بسكين فلم يصنع شيئا، فأخذه مروان فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال:
بعثت عاملا فأخذ ذودي بمرة «2» ، وتركني وعيالي لا يجد شيئا، فقلت: أذهب إلى الذي بعثك فاقتله؛ فهو أصل هذا، فجاء ما ترى، فحبسه مروان حينا في السجن، ثم أمر به فاغتيل سرا، فكانت المقصورة.
ورواه ابن شبة بنحوه، إلا أنه سمى الرجل في موضع دبا، وفي آخر ذبابا، وقال:
بعثت عاملك، فأخذ مني بقرة، فتركني وعيالي لا نجد شيئا، وأنا امرؤ خبيث النفس، فقلت: أذهب إلى الذي بعثه فأقتله فهو أصل هذا، فجاء ما ترى، فحبسه مروان في الحبس حينا، ثم أمر به فاغتيل سرا، وعمل المقصورة.
قلت: وجزم بذلك في العتبية فيما حكاه ابن رشد في بيانه، فقال في كتاب الصلاة:
مسألة قال مالك: أول من جعل المقصورة مروان بن الحكم حين طعنه اليماني، قال: فجعل مقصورة من طين، وجعل فيها تشبيكا، انتهى. قال ابن رشد في شرح ذلك: وجه قوله هذا الإعلام بأن المقصورة محدثة لم تكن على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا على عهد الخلفاء بعده، وإنما أحدثها الأمراء للخوف على أنفسهم، فاتخاذها في الجوامع مكروه انتهى.
وفي شرح مسلم للنووي أن أول من اتخذ المقصورة في المسجد معاوية رضي الله عنه حين ضربه الخارجي، انتهى.
__________
(1) الساعي: عامل الصدقات. (ج) سعاة.
(2) الذود: القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر. وفي الحديث: «ليست فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة» . وفي المثل: «الذود إلى الذود إبل» : يضرب في اجتماع القليل إلى القليل حتى يؤدّي إلى الكثير. (خ) أذواد.(2/88)
وأفهم كلام ابن زبالة أنها كانت في زمن عمر بن عبد العزيز مرتفعة عن أرض المسجد؛ لأنه ذكر في زيادة المهدي أنه أمر بالمقصورة فهدمت وخفضت إلى مستوى المسجد، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد، فأوطأها مع المسجد، وكأن المراغي فهم أن المراد بذلك سقف المقصورة لا أرضها، فإنه قال في زيادة المهدي: وخفض سقف المقصورة، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد فأوطأوها المسجد، انتهى.
ورأيت لفظة «سقف» ملحقة بخطه، والظاهر أن ذلك هو المراد، وذكر المطري ما يقتضي أن المهدي جعلها من خشب على الرواق القبلي بأجمعه، وهو مراد ابن جبير بقوله في رحلته- بعد أن ذكر أن في الجهة القبلية من المسجد خمس بلاطات- يعني أروقة، قال:
والبلاط المتصل بالقبلة من الخمس المذكورة تحويه مقصورة تكنفه طولا من غرب إلى شرق، والمحراب فيها، انتهى.
وقد احترقت هذه المقصورة في حريق المسجد الأول، والله أعلم.
الفصل السادس عشر في زيادة الوليد بن عبد الملك على يد عمر بن عبد العزيز
نقل رزين أن المسجد بعد أن زاد فيه عثمان رضي الله عنه لم يزد فيه علي ولا معاوية رضي الله عنهما، ولا يزيد ولا مروان، ولا ابنه عبد الملك شيئا، حتى كان الوليد بن عبد الملك- وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة ومكة- بعث الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بمال وقال له: من باعك فأعطه ثمنه، ومن أبي فاهدم عليه وأعطه المال، فإن أبى أن يأخذه فاصرفه إلى الفقراء، انتهى.
وقال ابن زبالة: حدثني عبد العزيز بن محمد عن بعض أهل العلم قال: قدم الوليد بن عبد الملك حاجا، فبينا هو يخطب الناس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ حانت منه التفاتة فإذا بحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب في بيت فاطمة في يده مرآة ينظر فيها، فلما نزل أرسل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: لا أرى هذا قد بقي بعد، اشتر هذه المواضع، وأدخل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، واسدده.
وروى يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبد العزيز بن محمد بنحوه.
وروى أيضا عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: بينما الوليد يخطب على المنبر إذ انكشفت الكلة «1» عن بيت فاطمة عليها السلام، وإذا حسن بن حسن يسرّح لحيته، وهو يخطب على المنبر، فلما نزل أمر بهدم بيت فاطمة رضي الله عنها.
__________
(1) الكلّة: ستر رقيق مثقّب يتوقّى به من البعوض وغيره. (ج) كلل.(2/89)
قال يحيى: وحدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي رضي الله عنهما مثله، وزاد فيه أن حسن بن حسن وفاطمة بنت الحسين أبوا أن يخرجوا منه، فأرسل إليهم الوليد بن عبد الملك: إن لم تخرجوا منه هدمته عليكم، فأبوا أن يخرجوا، فأمر بهدمه عليهم وهما فيه وولدهما، فنزع أساس البيت وهم فيه، فلما نزع أساس البيت قالوا لهم: إن لم تخرجوا قوّضناه «1» عليكم، فخرجوا منه حتى أتوا دار علي نهارا.
وروى ابن زبالة عن منصور مولى الحسن بن علي قال: كان الوليد بن عبد الملك يبعث كل عام رجلا إلى المدينة يأتيه بأخبار الناس وما يحدث بها، قال: فأتاه في عام من ذلك، فسأله، فقال: لقد رأيت أمرا لا والله ما لك معه سلطان ولا رأيت مثله قط، قال: وما هو؟ قال: كنت في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا منزل عليه كلة؛ فلما أقيمت الصلاة رفعت الكلة وصلى صاحبه فيه بصلاة الإمام هو ومن معه، ثم أرخيت الكلة، وأتى بالغداء فتغدى هو وأصحابه، فلما أقيمت الصلاة فعل مل ذلك، وإذا هو يأخذ المرآة والكحل وأنا أنظر، فسألت، فقيل: إن هذا حسن بن حسن، قال: ويحك! فما أصنع هو بيته وبيت أمه، فما الحيلة في ذلك؟ قال: تزيد في المسجد وتدخل هذا البيت فيه، قال: فكتب إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بالزيادة في المسجد ويشتري هذا المنزل، قال: فعرض عليهم أن يبتاع منهم فأبوا، وقال حسن: والله لا نأكل له ثمنا أبدا، قال: وأعطاهم به سبعة آلاف دينار أو ثمانية، فأبوا، فكتب إلى الوليد بن عبد الملك في ذلك، فأمره بهدمه وإدخاله، وطرح الثمن في بيت المال، ففعل، وانتقلت منه فاطمة بنت حسين بن علي إلى موضع دارها بالحرة فابتنتها.
قلت: وسيأتي بقية هذا الخبر في ذكر بئرها، إن شاء الله تعالى.
قال ابن زبالة: وحدثني غير واحد من أهل العلم منهم: إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن حميد، ومحمد بن إسماعيل عن محمد بن عمار عن جده، ومحمد بن عبد الله عن عبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر بن حفص وعبد العزيز بن محمد عن عبيد الله ابن عمر بن حفص، وسليمان بن محمد بن أبي سبرة ومحمد بن طلحة عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان، وبعضهم يزيد على بعض، أن عمر بن عبد العزيز لما جاءه كتاب الوليد بهدم المسجد والزيادة فيه بعث إلى رجال من آل عمر، فقال: إن أمير المؤمنين كتب إلى أن أبتاع بيت حفصة، وكان عن يمين الخوخة: أي خوخة آل عمر، وكان بينه وبين منزل عائشة الذي فيه قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طريق، وكانتا يتهاديان الكلام وهما في منزليهما من قرب ما بينهما، فلما دعاهم قال: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أبتاع هذا المنزل وأدخله في
__________
(1) قوّضناه عليكم: هدمناه عليكم. وانقاض الجدار أو الكثيب: تهدم وانهال.(2/90)
المسجد، قالوا: ما نبيعه بشيء، قال: إذا أدخله في المسجد، قالوا: أنت وذاك، أنت وذاك، فأما طريقنا فإنا لا نقطعها، فهدم البيت وأعطاهم الطريق ووسعها لهم حتى انتهى بها إلى الأسطوان، وكانت قبل ذلك ضيقة قدر ما يمر الرجل منحرفا.
قال عبد العزيز بن محمد: فكنت أسمع عبيد الله بن عمر يقول: لا أخرجني الله من الدنيا حتى أراها قد سدت، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يلقى الصور الصور.
قلت: وسنورد بقية هذا الخبر.
وروى يحيى في قصة هذه الدار عن مالك بن أنس في جملة خبر أن الحجاج قال لعبيد الله ابن عبد الله بن عمر: بعني منزل حفصة، قال: لا والله ما كنت لآخذ لبيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمنا أبدا، قال: إذا والله أهدمه، قال: والله لا تهدمه إلا على ظهري، فأمر الحجاج صائحا صاح الناس بالعتل «1» والمساحي والفوس، فقام عبد الله فدخل بيت حفصة، وجاء الغوغاء بالعتل والفوس، فأمرهم الحجاج بهدمه، فصعدوا ليهدموه وعبيد الله فيه، فجاءت بنو عدي إلى عبيد الله فقالوا له: ما أضعفك! هو يتأسف على قتل أبيك ويزع عن قتلك، فأخرجوه، فهدمه الحجاج، وكتب إلى الوليد يعلمه ما صنع، وامتناع عبيد الله من الثمن، فكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره يعرض على عبيد الله الثمن، فإن أبى جعل له مكرمة بدله في المسجد، فجعل له عمر الخوخة التي في قبلة المسجد التي إلى دار حفصة اليوم، وهو يقتضي أن الذي هدم دار حفصة هو الحجاج.
وعن جعفر بن وردان عن أبيه قال: لما استعمل الوليد عمر بن عبد العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه واشتراء ما حوله من المشرق والمغرب والشام، فلما خلص إلى القبلة قال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر: لست أبيع هذا، هو من حق حفصة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسكنها، فقال له عمر: ما أنا بتارككم أو أدخلها المسجد، فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الدقيق مكان هذا الطريق، وما بقي من الدار فهو لكم، ففعلوا، وأخرج بابهم في المسجد وهو الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة بنت عمر، وأعطاهم دار الدقيق، وقدّم الجدار في موضعه اليوم، وزاد في المشرق ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد اليوم، ومعه عشرة أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام، ومده في المغرب أسطوانين، وأدخل فيه حجرات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي كان يقال لها القرائن اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
__________
(1) العتلة: عمود قصير من الحديد له رأس عريض يهدم به الحائط. ويقلع به الشجر والحجر. (ج) عتل.(2/91)
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... بقيع المصلّى أو كعهدي القرائن
وقد سمعنا من يقول: القرائن كانت جنابذ ثلاثا لعبد الرحمن بن عوف، انتهى.
قلت: وأخبار المؤرخين متطابقة على أن حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أدخلت في المسجد بأمر الوليد، وقد قدمنا في الفصل التاسع قول عطاء الخراساني: أدركت حجرات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم، قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها، لكن نقل الزين المراغي عن السهيلي أنه نقل أن الحجر والبيوت خلطت بالمسجد في زمن عبد الملك بن مروان، قال: ويرده تصريح رزين وغيره بضد ذلك.
قلت: ولعل مراد من نسب ذلك إلى عبد الملك أنه جعلها للمسلمين يصلون فيها لضيق المسجد من غير هدم لها، وقد كان الناس يصلون فيها قبل إدخالها في المسجد في يوم الجمعة، فقد نقل مالك رحمه الله عن الثقة عنده أن الناس كانوا يدخلون حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلون فيها يوم الجمعة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المسجد يضيق عن أهله، قال:
وحجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد، انتهى.
وأما بقية خبر ابن زبالة المتقدم فقد قال عقب ذلك: ثم سام «1» عمر بن عبد العزيز بني عبد الرحمن بن عوف بدارهم، فأبوا، فهدمها عليهم وأدخلها في المسجد، قال عبد الرحمن بن حميد: قذهب لنا متاع في هدمهم، وأدخل حجرات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يلى المشرق ومن الشام، وأخل القرائن دور عبد الرحمن بن عوف وأدخل دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء، وأبيات هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وأدخل فيه من المغرب دارا كانت لطلحة بن عبيد الله، ودارا كانت لأبي سبرة بن أبي رهم كانت في موضع المربعة التي في غربي المسجد، ودارا لعمار بن ياسر كانت إلى جنب دار أبي سبرة، وبعض دار العباس بن عبد المطلب، فأعلم ما دخل منها في المسجد، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف أعظم من غيرها من سواري المسجد، وأدخل دارا كانت لمخارق مولى العباس بن عبد المطلب.
قلت: قوله «وأدخل إلى آخره» وإن كان مبنيا لما لم يسم فاعله، لكن إيراده هنا يقتضي أن ذلك كله في زيادة الوليد المذكورة، وفيه نظر؛ لما تقدم من أن عثمان رضي الله عنه زاد
__________
(1) سام: ساوم، مساومة وسواما: فاوضه في البيع والابتياع. والبائع بالسلعة: غالى بها.(2/92)
في المسجد أسطوانا بعد المربعة، فيكون زيادة الوليد بعد ذلك في جهة المغرب، فلا يصح إدخاله لدار أبي سبرة؛ لقوله إنها كانت في موضع المربعة، إلا أن يريد بالمربعة هنا الأسطوانة التي عن يمينك إذا دخلت من الباب الذي يلي دار مروان، وهو باب السلام، وهي الثانية من الباب المذكور، فإنها أول زيادة الوليد؛ لقوله في رواية يحيى المتقدمة «ومده في المغرب أسطوانين» لكن قال ابن شبة نقلا عن ابن أبي يحيى: إنه كانت لأبي سبرة بن أبي رهم دار موضعها عند الأسطوان المربعة التي في المسجد اليمانية الغربية، وكانت جديدة، وكانت هناك دار لعمار بن ياسر، فأدخلتا في المسجد، انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالمربعة الأسطوان المثمنة اليوم التي قدمنا وصفها في زيادة عثمان رضي الله عنه، وقوله «وبعض دار العباس بن عبد المطلب» ظاهر أيضا في أن الوليد أدخل من دار العباس شيئا، ولعله مما كان بقي منها وأدخله مروان في داره، فيستفاد منه أن الوليد أدخل بعض دار مروان وهو ظاهر؛ لما قدمناه من أن دار مروان كانت ملاصقة للمسجد في جهة المغرب ولها خوخة فيه، ولا شك أنه اتخذها قبل زيادة الوليد، فإن وفاة مروان كانت في سنة خمس وستين بعد أن أقام في الخلافة عشرة أشهر.
ولنرجع إلى تكميل خبر ابن زبالة المتقدم، قال: قالوا: وكتب الوليد بن عبد الملك إلى ملك الروم «إنا نريد أن نعمر مسجد نبينا الأعظم، فأعنّا فيه بعمال وفسيفساء» ، قالوا:
فبعث إليه بأحمال من فسيفساء وبضعة وعشرين عاملا، وقال بعضهم: بعشرة عمال، وقال:
قد بعثت إليك بعشرة يعدلون مائة، وبثمانين ألف دينار عونا له.
قلت: روى ذلك يحيى أيضا، وذكر في رواية أخرى عن قدامة بن موسى أن ملك الروم، بعث إليه بأربعين. يعني عاملا سمن الروم، وبأربعين من القبط، وبأربعين ألف مثقال ذهب. وفي رواية لرزين: فبعث إليه ثلاثين عاملا، وأربعين من الروم، ومثلهم من القبط، وبثمانين ألف مثقال، وبأحمال من الفسيفساء، وبأحمال من سلاسل القناديل، انتهى.
ولنرجع إلى تكميل خبر ابن زبالة له أيضا، قال عقب ما تقدم: وبعث بهذه السلاسل التي فيها القناديل، قالوا: وهدمه عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وتسعين- أي بتقديم التاء الفوقية على السين- وبناه بالحجارة المنقوشة المطابقة وقصّة بطن نخل، وعمله بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فأدخلها في المسجد، ونقل لبن المسجد ولبن الحجرات فبنى به داره التي بالحرة فهو فيها اليوم له بياض على اللبن، قال: فبينما أولئك العمال يعملون في المسجد إذ خلا لهم المسجد فقال بعض أولئك العمال من الروم: ألا أبول على قبر نبيهم، فتهيأ لذلك فنهاه أصحابه، فلما همّ أن(2/93)
يفعل اقتلع فألقى على رأسه، فانتثر دماغه، فأسلم بعض أولئك النصارى، وعمل أحد أولئك الروم على رأس خمس طاقات في جدار القبلة في صحن المسجد صورة خنزير، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز فامر به فضربت عنقه، وقال بعض أولئك العمال الذين عملوا الفسيفساء: إنا عملناه على ما وجدنا من صور شجر الجنة وقصورها، انتهى خبر ابن زبالة.
وفي خبر يحيى المتقدم عن قدامة بن موسى أن عمر بن عبد العزيز أخمر النورة التي تعمل بها الفسيفساء سنة، وحملوا القصة من بطن نخل منخولة، وعمل الأساس بالحجارة والجدار بالحجارة المطابقة والقصة، وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، وكان طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمته مائتين وفي مؤخره ثمانين ومائة، وهو من قبل كان مقدمه أعرض، انتهى.
وما ذكره في ذرع عرض المسجد غير صحيح؛ لما سيأتي عن ابن زبالة في الفصل الحادي والثلاثين أنه ذكر في موضع آخر أن عرض المسجد من مقدمه في زمنه مائة وخمسة وستون ذراعا، وعرضه من مؤخره مائة وثلاثون ذراعا، وسيأتي أيضا أن الذي حررناه أن عرضه اليوم من مقدمه في جهة القبلة مائة ذراع وسبعة وستون ذراعا ونصف، وأن عرضه من مؤخره في جهة الشام مائة وخمسة وثلاثون ذراعا، ولا شك أن المسجد لم ينقص من عرضه شيء، فهذا الذرع المذكور في هذه الرواية غير صحيح، وقد نقله ابن النجار عن أهل السير، وتعقبه المطري بنحو ما ذكرناه.
وروى ابن زبالة عن محمد بن عمار عن جده قال: لما صار عمر بن عبد العزيز إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي فقال لهم:
تعالوا أحضروا بنيان قبلتكم، لا تقولوا غير عمر قبلتنا، فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا، فكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر أربع عشر أسطوانا منها عشر في الرحبة وأربع في السقايف الأولى التي كانت قبل، وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين في السقايف، فدخل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وبقي ثلاث أساطين في السقايف.
قلت: فاستفدنا من ذلك أن الستة أساطين التي زادها في المشرق والمغرب ليس منها في جهة المغرب سوى اثنتين، وأن أربعة منها في جهة المشرق؛ فيكون ابتداء زيادته في(2/94)
المشرق من الأسطوان الاصق اليوم بالشباك الدائر حول الحجرة الشريفة على ما قدمناه في تحديد المسجد النبوي، وذلك هو المراد بقوله «من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق» وقوله «وبقي ثلاث أساطين» أي من الأربعة المذكورة «في السقايف» أي المسقف الشرقي كما هو اليوم، لكن في رواية يحيى المتقدمة أنه زاد في المشرق ما بين الأسطوان المربعة أي مربعة القبر إلى جدار المسجد يعني الشرقي؛ فعلى هذا يكون له في المشرق ثلاثة أساطين فقط؛ فيحتمل أن يكون له في المغرب ثلاث أيضا، وقوله «وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر- إلى آخره» معناه أنه لما أحدث المسقف الشرقي جعل ابتداءه مما يلي رحبة المسجد مربعة القبر، وجعل في صفها إلى جهة الشام أربع عشر أسطوانا منها عشر في الرحبة وأربع في السقايف التي كانت قبل: أي في المسقف الشامي، فيكون قد صيّر المسقف الشامي رحبة، وجعل المسقف الشامي بعد أربع عشر أسطوانا، فهذا معنى زيادته لهذا العدد.
ويستفاد منه: أن جدار المسجد من جهة الشام في زمنه كان بعد ثمان عشرة أسطوانة، من مربعة القبر؛ لأنك إذا ضممت أربع أساطين للسقايف التي أحدثها بدل الأولى إلى الأربع عشرة المذكورة بلغ ذلك، فيكون محل الجدار المذكور قريبا مما يوازي الأسطوان التي قبل المسقف الشامي بأسطوان فيما يليه من الرحبة، وذلك موافق لما تقدم من أنه جعل طوله- يعني من القبلة إلى الشام- مائتي ذراع، فيتحرر من ذلك أن زيادته من جهة الشام على ما ذكر من الذرع في زمن عثمان رضي الله عنه أربعون ذراعا، ويحتمل أن يكون معنى قوله «وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر أربع عشرة أسطوانة» أن المسجد ينتهي في جهة الشام في زمنه بعد أربع عشرة أسطوانا من المربعة إلى جهة الشام؛ فيكون الجدار الشامي في موازاة الأسطوانة الخامسة من طرف الدكاك التي هي المسقف الشامي، وهناك أسطوان في الصف الأوسط من المسقف الشرقي مربع أسفله قدر الجلسة؛ فعلى هذا يكون علامة لذلك، لكنه مخالف لما تقدم من أنه جعل طوله مائتي ذراع، بل يكون طوله على هذا التقدير نحو مائة وستين ذراعا، وذلك هو ما تقدم في طوله زمن عثمان رضي الله عنه، فيكون هذا الاحتمال مردودا، ولكن سيأتي في زيادة المهدي ما يقتضيه، والله أعلم.
وروى يحيى عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عمن يثق به من مشايخ البلد أن عمر بن عبد العزيز أمر حين بنى المسجد بأسفل الأساطين فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها وقدر مجلس اثنين يتساندان إليها.
وعن صالح بن كيسان قال: لما جاء كتاب الوليد من دمشق لهدم المسجد سار خمس عشرة، فجرد في ذلك عمر بن عبد العزيز، قال صالح: واستعملني على هدمه وبنائه،(2/95)
فهدمناه بعمال المدينة فبدأنا بهدم بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد، وقال ابن زبالة فيما رواه عن محمد بن عمار عن جده: وكان في موضع الجنائز- أي شرقي المسجد في زمان الوليد بن عبد الملك- نخلتان إذا أتى بالموتى وضعوا عندهما فيصلي عليهم، فأراد عمر بن عبد العزيز قطعهما حين ولي عمل المسجد للوليد بن عبد الملك، وذلك في سنة ثمان وثمانين، فاقتتلت فيهما بنو النجار من الأنصار، فابتاعهما عمر بن عبد العزيز فقطعهما.
قلت: ولا ينافي ذلك ما تقدم من أن عمر هدم المسجد في سنة إحدى وتسعين، لجواز أن يكون ولايته لذلك سنة ثمان وثمانين، واستمر في تحصيل الأهبة وشراء الأماكن وتخمير النورة «1» إلى سنة إحدى وتسعين.
وفيما رواه يحيى عن حفص بن مروان عن أبيه أن عمر مكث في بنائه ثلاث سنين.
قلت: فعلى هذا يكون قد فرغ منه في آخر سنة ثلاث وتسعين، وهي السنة التي عزل فيها عمر عن المدينة، وفيه ردل لقول من زعم أن هدمه كان في سنة ثلاث وتسعين، لكن في رواية لابن زبالة ما يقتضي أن البداءة في هدم المسجد وعمارته كانت في سنة ثمان وثمانين؛ فإنه قال فيها: وابتدأ عمر بن عبد العزيز بناء المسجد سنة ثمان وثمانين، وفرغ سنة إحدى وتسعين، وفيها حج الوليد.
قال: ولما فرغ عمر بن عبد العزيز من بنيان المسجد أرسل إلى أبان بن عثمان، فحمل في كساء خز حتى انتهى به إليه، فقال: أين هذا البناء من بنيانكم؟ فقال: بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس، قال: وقال الوليد حين رأى خوخة آل عمر: صانعتهم لمكان الخوخة، هكذا في النسخة التي وقعت لنا، ولعلها لمكان الخؤلة؛ لأن المطري قال: إن الوليد قال له: صانعت أخوالك، وقد كانت أم عمر بن عبد العزيز منهم.
وروى يحيى عن جعفر بن وردان عن أبيه ما يقتضي أن المخاطب لأبان بن عثمان هو الوليد؛ فإنه قال: فلما قدم الويد حاجا جعل يطوف في المسجد وينظر إليه ويصيح بعمر:
هاهنا، ومعه أبان بن عثمان، فلم استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان وقال: أين بناؤنا من بنائكم؟ قال أبان: إنا بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس.
قلت: وكان قد اعتنى عمر بتحسينه؛ فقد روى يحيى عن النضر بن أنس قال: كان عمر ابن عبد العزيز إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء فأحسن عملها نفّله «2»
__________
(1) النورة: حجر الكلس.
(2) نفّله: أعطاه زيادة على نصيبه الواجب له.(2/96)
عمر ثلاثين درهما، وذكر هو وابن زبالة ما كان فيه من الكتابات داخله وخارجه وعلى أبوابه فتركناه لزواله.
وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه قال: ولما قدم الوليد بن عبد الملك المدينة حاجا بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد جعل يطوف في المسجد وينظر إلى بنيانه، فقال لعمر بن عبد العزيز حين رأى سقف المقصورة: ألا عملت السقف كله مثل هذا، قال: إذا يا أمير المؤمنين تعظم النفقة جدا، قال: وإن، قال: وكان نفقته في ذلك أربعين ألف دينار.
وروى ابن النجار هذا الخبر عن أهل السير بهذا اللفظ، إلا أنه قال: فقال: يا أمير المؤمنين إذا تعظم النفقة جدا، قال: وإن، قال: أتدري كم أنفقت على عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال: وكم، قال: خمسة وأربعون ألف دينار، وقال بعضهم: أربعون ألف دينار، قال: والله لكأنك أنفقتها من مالك، وقيل: كانت النفقة في ذلك أربعين ألف مثقال، انتهى.
وذكر يحيى رواية ابن زبالة المتقدمة من غير طريقه، وقال عقب قوله: «وكانت النفقة في ذلك أربعين ألف دينار» قال: ثم انتهى إلى القبر فقال ابن الوليد لعمر بن عبد العزيز:
من هذا في القبر؟ قال: رسول الله وأبو بكر وعمر، قال: فأين أمير المؤمنين عثمان؟ قال:
فأعرض عنه، فألح عليه، فقال: دفن في حال تشاغل من الناس وقد أسيء أدبك.
وروى ذلك ابن زبالة أيضا، وزاد فقال: وسمعت بعض أهل العلم يقول: السائل بكار بن عبد الملك، وكان ضعيفا.
وقال ابن شبة: حدثنا أيوب بن عمر بن أبي عمرو، قال: أخبرني موسى بن عبد العزيز قال: قال عمر بن عبد العزيز لي: اتكأ الوليد على يدي حين قدم المدينة، فجعل يطوف المسجد ينظر إلى بنائه، ثم أتى بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فوقف عليه، ثم أقبل علي فقال: أمعه أبو بكر وعمر؟ قلت: نعم، قال: فأين أمير المؤمنين عثمان؟ قال: فالله أعلم إني لظننت أنه لا يبرح حتى يخرجهما، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الناس كانوا حين قتل عثمان في فتنة وشغل فذاك الذي منعهم من أن يدفنوه معهم، فسكت.
وروى يحيى أنه جعل المقصورة من ساج، قال: وكانت قبل من حجارة، وأن الواقدي قال: حدثني عبد الله بن يزيد قال: كان عمل القبط مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من السقف جوانبه ومؤخره، فسمعت سعيد بن المسيب يقول: عمل هؤلاء أحكم، يعني القبط.(2/97)
الفصل السابع عشر فيما اتخذه عمر في المسجد في زيادة الوليد من المحراب والشّرفات والمنائر، واتخاذ الحرس، ومنعهم من الصلاة على الجنائز فيه
أول من أحدث المحراب والشرفات
أسند يحيى عن عبد المهيمن بن عباس عن أبيه قال: مات عثمان وليس في المسجد شرفات ولا محراب، فأول من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز، وعن القاسم وسالم أنهما نظرا إلى شرفات المسجد فقالا: إنها من زينة المسجد، وأسند أيضا من طريق ابن زبالة ورأيته فيه أن عمر بن عبد العزيز هو الذي عمل الرصاص على طنف «1» المسجد والميازيب التي من الرصاص، فلم يبق من الميازيب التي عمل عمر بن عبد العزيز غير ميزابين: أحدهما في موضع الجنائز، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق الذي يقال له باب عاتكة، ولم يكن للمسجد شرفات حتى عملها عبد الواحد بن عبد الله النصري، وهو وال على المدينة، سنة أربع ومائة، انتهى.
فهذا يقتضي أن عمر بن عبد العزيز لم يحدث الشرفات في زيادة الوليد، بل ولا في زمن خلافته بعده، لأن وفاته كانت في رجب سنة إحدى ومائة.
وفي سنن البيهقي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ابنوا المساجد واتخذوها جماء» وعن ابن عمر: نهانا- أو نهينا- أن نصلي في مسجد مشرف.
قال أبو عبيد: الجم التي لا شرف لها، حكاه في شرح المهذب.
قال الزين المراغي: وليس للمسجد شرفات منذ حريقه، وقد جددت له شرفات سنة سبع وستين وسبعمائة في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد صاحب مصر، انتهى.
والمراد بالشرفات المذكورة ما على ما أحاط بجدرات صحن المسجد من جوانبه الأربعة، وبينها فرج شبه طاقات الشباك، وهي المرادة فيما حكاه البدر بن فرحون عن القاضي فخر الدين بن مسكين الفقيه الشافعي أنه كان يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس فيصلي الضحى، وأنه رأى الناس يرتقبون بصلاتهم الشيخ أبا عبد الله بن فرحون ولد البدر، قال:
وكان يقوم إذا وصلت الشمس في الحائط الغربي إلى تحت الشبابيك الصغار، قال:
فاجتمعت به، وكنت به جاهلا، فقلت له: رأيتك تقوم للضحى قبل وقتها، وقد نهى النبي
__________
(1) الطنف: ما برز من الجبل ونحوه، وكأنه جناح. والسقيفة تشرع وتبنى فوق باب الدار ونحوها للوقاية من المطر. وإفريز الحائط. وما أشرف خارجا عن البناء.(2/98)
صلّى الله عليه وسلّم عنها حتى ترتفع الشمس وتبيض، فالتفت إليّ وقال: بعد اليوم نؤخر كما قلت، وسكت عني.
قلت: وإنما ذكرت ذلك لأن كثيرا من الناس اليوم يشرعون في الصلاة عند وقوع الشمس على رؤوس الشراريف، وذلك قبل ارتفاع الشمس كرمح، والله أعلم.
المنارات التي عملها عمر بن عبد العزيز
وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن محمد بن عمار عن جده، قال: جعل عمر بن عبد العزيز لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بناه أربع منارات في كل زاوية منه منارة.
قال كثير بن حفص: وكانت المنارة الرابعة مطلة على دار مروان، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن، فأطل عليه، فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد، وبابها على باب المسجد، وفي نسخة يحيى «وبابها على المسجد مما يلي دار مروان من قبل المسجد» .
قلت: فكان المسجد بعد ذلك له ثلاث منارات فقط، وهو المراد من قول ابن زبالة في موضع آخر: ولمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث منارات طول كل منارة ستون ذراعا، وقال في موضع آخر: وطول المنارة الشرقية اليمانية في السماء خمس وخمسون ذراعا، والمنارة الشرقية الشامية خمس وخمسون، والمنارة الغربية الشامية ثلاث وخمسون، وعرض المنارات ثمان أذرع في ثمان أذرع، اه.
وذكر ابن جبير في رحلته ما يقتضي أن المنارتين الشاميتين كانتا صغيرتين، بخلاف الشرقية اليمانية، فإنه قال: وللمسجد المبارك ثلاث صوامع إحداها في الركن الشرقي المتصل بالقبلة، والاثنتان في ركني الجهة الجوفية صغيرتان كأنهما على هيئة برجين، والصومعة الأولى المذكورة على هيئة الصوامع.
قلت: فكأن الشاميتين غيرتا بعد ابن جبير؛ فإنهما اليوم على هيئة الشرقية اليمانية المعروفة اليوم بالرئيسية؛ لاختصاص الرئيس بها، وكان طول المنارة الرئيسية في زماننا أولا من رأس هلالها إلى أسفلها خارج المسجد بالبلاط سبعة وسبعين ذراعا، بتقديم السين، ثم سقط منها نحو ثلثها بسبب الصاعقة التي نشأ عنها حريق المسجد الثاني كما سيأتي، فاقتضى الحال هدم جميعها، ثم أعيدت فكان طولها اليوم أزيد من مائة ذراع، فصارت أطول المنارات، ثم ظهر منها خلل بعد، فبعث السلطان الأشرف الشجاعي شاهين الجمالي وأمره بهدمها، فهدمها غير محكم، فحفر أساسها إلى الملك، وأعادها متقنة جدا في عرض جدارها الشرقي من موضع الجنائز شرقي المسجد، وزاد في ارتفاعها أيضا حتى بلغ زيادة عن مائة وعشرين ذراعا، وطول المنارة الشرقية الشامية وهي المعروفة بالسنجارية تسعة- بتقديم التاء(2/99)
على السين- وسبعون ذراعا، وطول الشامية الغربية المعروفة بالخشبية اثنان وسبعون ذراعا- بتقديم السين فيهما- كل ذلك من أعلى الهلال إلى الأرض الخارجة عن المسجد، وبه يعلم أن المنارات التي كانت في زمن ابن زبالة ليست هي الموجودة اليوم.
قال المطري: ولم يزل المسجد على ثلاث منارات إلى أن جددت المنارة الرابعة، وذكر في موضع آخر تجديدها، فقال بعد ذكر خوخة مروان المتقدم ذكرها في ركن المسجد الغربي: إنه شاهد الخوخة المذكورة عند بناء المنارة الكبيرة المتجددة في سنة ست وسبعمائة، أمر بإنشائها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون.
قال المطري: وكان باب الخوخة عليها، وهو من ساج، فلم يبل إلى هذا التاريخ، كان مروان يدخل من داره إلى المسجد منها، وقد انسدت- يعني الخوخة- بحائط المنارة الغربي اه.
قلت: وقد ذكر البدر بن فرحون بناء هذه المنارة فإنه أدرك ذلك، وذكر أنه لم يوجد عند الحفر أثر لما ذكر من وجود منارة قبلها، فقال ما ملخصه؛ إنه لما حج سلار وبيبرس كلمهما شيخ الخدام شبل الدولة كافور المظفري المعروف بالحريري في بناء المنارة التي بباب السلام اليوم، فأنعما «1» ، ثم خشي أنهما يشتغلان عن ذلك ويستثقلان النفقة، فقال: أنا لا أطلب منكم مالا، عندي من قناديل الذهب والفضة ما يقوم بها وزيادة، فأنعما له بإرسال الصناع، وأمر بالحفر لها في مكانها اليوم، فلم ينزلوا إلا قليلا إذ وجدوا باب مروان ابن الحكم أسفل من أرض المسجد بقدر قامة، ثم وجدوا تحصيب المسجد في أيام مروان بالرمل الأسود يشبه أن يكون من جبل سلع، ثم نزلوا في الأساس حتى بلغوا الماء، ثم أمر الحريري من كان بالمدينة يتعانى البناية كالشيخ إبراهيم البنا والشيخ علي الفراش الحجار وغيرهما ممن ليس له في البناية كبير قدم، فدكوا الأساس، فلما حضر الصناع في الموسم قال مقدمهم للشيخ: لا تبنى حتى تنقض ذلك، فإنّا لا نأمن عاقبته، فامتنع الشيخ، فرجع إلى مصر من حينه، فقال الشيخ لمن كان معه من المعلمين: اعملوا أنتم، فعملوها على ما هي عليه اليوم، وعمّ نفعها؛ لأنها متوسطة المدينة حتى إن رئيس المؤذنين محمد بن إبراهيم قال لي: لو تركت لي هذه المأذنة لكفيت المدينة، وهو حق؛ فإن امتداد المدينة وقوة عمارتها من جهة المغرب، يعني في محاذاة المنارة المذكورة.
قال: وكان بعض المؤرخين يذكر أنه كان هناك مأذنة مشرفة على دار مروان، فهدمها
__________
(1) أنعم فلان: أحسن وزاد. وصار في النعيم.(2/100)
غيرة على أهله من مؤذنيها، فلم يوجد لذلك صحة ولا أثر البتة، انتهى ما ذكره ابن فرحون.
قلت: وجواب ما ذكره أخيرا أن تلك المنارة تحتمل أن تكون على باب المسجد وسطحه مما يلي دار مروان، وليس لها في الأرض أساس، ويدل على ذلك قوله في الرواية المتقدمة:
وبابها على المسجد، أو على باب المسجد؛ فلا يلزم من عدم وجود أثرها عند الحفر عدم وجودها أصلا ورأسا في تلك الجهة، ولم يتعرضوا لذرع هذه المنارة، وكانت أطول منارات المسجد. وقد ذرعتا من أعلى هلالها إلى الأرض، فكان ذلك خمسة وتسعين ذراعا- بتقديم التاء على السين- لكن صارت المنارة الرئيسية المجددة بعد الحريق أطول منها كما سبق، والله أعلم.
ويظهر من سياق ما تقدم أن أول جعل المنارات في المسجد كان في زيادة الوليد، ويشهد لذلك ما رواه ابن إسحاق وأبو داود والبيهقي أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتي بسحر، فيجلس على البيت لينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن.
وروى خالد بن عمرو عن أبي برزة الأسلمي قال: من السنة الأذان في المنارة والإقامة في المسجد.
وروى غيره أن الأذان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم كان على أسطوانة في دار عبد الله بن عمر التي في قبلة المسجد.
قال ابن زبالة: حدثني محمد بن إسماعيل وغيره قال: كان في دار عبد الله بن عمر أسطوان في قبلة المسجد يؤذن عليها بلال يرقى إليها بأقتاب «1» ، والأسطوان مربعة قائمة إلى اليوم يقال لها المطمار، وهي في منزل عبيد الله بن عبد الله بن عمر.
قلت: والظاهر أنها المرادة بقوله في الرواية المتقدمة في قصة الخوخة التي جعلت بدل طريق بيت حفصة: ووسعها لهم حتى انتهى بها إلى الأسطوان.
وقال الأقشهري، ومن خطه نقلت: عن عبد العزيز بن عمران قال: كان في دار عبد الله ابن عمر أسطوان في قبلة المسجد يؤذن عليها، وهي مربعة قائمة إلى اليوم. قال الأقشهري: وهي باقية إلى يومنا هذا، قال، يعني عبد العزيز: وكان يقال لها المطمار.
وأسند يحيى من طريق عبد العزيز بن عمران عن قدامة العمري عن نافع عن ابن عمر، قال: كان بلال يؤذن على منارة في دارة حفصة ابنة عمر التي تلي المسجد، قال: وكان يرقى
__________
(1) الأقتاب: مفردها (القتب) : الرّحل الصغير على قدر سنام البعير.(2/101)
على أقتاب فيها، والأسطوان في البيت الذي كان بيد عبيد الله بن عمر الذي يقال له بيت عبد الله بن عمر، وقد كانت خارجة من مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تكن فيه، وليست فيه اليوم، والظاهر أنه تجوّز في تسمية الأسطوان منارة، وعبد العزيز بن عمران كان كثير الغلط؛ لأن كتبه احترقت؛ فكان يروي من حفظه، فتركوه، ثم الظاهر أن عمر وعثمان رضي الله عنهما لم يتخذا في المسجد منارة، وإلا لنقل.
عثمان أول من خلق المسجد ورزق المؤذنين
وروى يحيى عن جابر بن عبد الله قال: كان أول من خلّق المسجد، ورزق المؤذنين، وجلس على الدرجة الثالثة من المنبر بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم عثمان رضي الله عنه.
اتخاذ حرس للمسجد
وروى ابن زبالة عن موسى بن عبيدة أن عمر بن عبد العزيز استأجر حرسا للمسجد لا يحترف فيه أحد.
وعن كثير بن زيد قال: نظرت إلى حرس عمر بن عبد العزيز يطردون الناس من المسجد أن يصلّى على الجنائز فيه.
وعن عثمان بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير أنه قال له: تضربون الناس في الصلاة في المسجد على الجنائز؟ قال: قلت: نعم، قال: أما إن أبا بكر قد صلي عليه في المسجد.
قلت: وذكر يحيى ما يقتضي أن الحرس كانوا قبل زمن عمر بن عبد العزيز يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز في المسجد؛ فإنه روى عن ابن أبي ذئب عن المقبري أنه رأى حرس مروان بن الحكم يخرجون الناس من المسجد يمنعونهم أن يصلوا فيه على الجنائز.
قلت: وأما ما كان من ذلك في زمنه صلّى الله عليه وسلّم فقد روى ابن شبة عن صحابي سقط اسمه من النسخة التي وقفت عليها حديثا محصله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كان إذا احتضر الميت آذنوه فحضره واستغفر له، حتى إذا قبض انصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، وربما قعد ومن معه فربما طال حبس ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض: لو كنا لا نؤذن النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحد حتى يقبض، فإذا قبض آذناه، فلم يكن عليه في ذلك مشقة ولا حبس، ففعلنا ذلك، وكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت فيأتيه فيصلي عليه، فربما انصرف، وربما مكث حتى يدفن، فكنا على ذلك حينا، فقلنا: لو لم نشخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحملنا جنائزنا إليه حتى يصلي عليها عند بيته كان ذلك أرفق به، ففعلنا، فكان ذلك الأمر إلى اليوم.
الصلاة على الجنائز في المساجد
وعن ابن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا هلك الهالك شهده يصلي عليه حيث(2/102)
يدفن، فلما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبدّن نقل إليه المؤمنون موتاهم فصلى عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجنائز عند بيته في موضع الجنائز اليوم، ولم يزل ذلك جاريا.
قال ابن شبة: وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني من أثق به أنه كان في موضع الجنائز نخلتان إذا أتى بالموتى وضعوا عندهما فصلى عليهم، فأراد عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد قطعهما، فاقتتلت فيهما بنو النجار، فابتاعهما عمر فقطعهما.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر في قصة اليهوديين «فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد» فدل ذلك على أن الموضع المذكور كان معروفا بذلك.
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة أنها أمرت أن يمر بجنازة ابن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد، وفي رواية لها: والله لقد صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه.
قلت: ويفهم منه أن ذلك نادر، وأن الكثير من فعله صلّى الله عليه وسلّم ما تقدمت الإشارة إليه.
وروى يحيى بسند جيد عن عبد الله بن عمر أنه صلّى على عمر بن الخطاب في المسجد، وفي رواية أخرى له عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلّى على عمر بن الخطاب في المسجد، وبين في رواية أخرى أن ذلك كان عند المنبر، وقد روى ذلك ابن أبي شيبة، وقال في رواية: وضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك، وقد تقررت المذاهب في ذلك.
وقال ابن النجار عقب ذكر ما تقدم عن عمر بن عبد العزيز في ذلك: والسنة في الجنائز باقية إلى يومنا هذا، إلا في حق العلويين ومن أراد الأمراء من الأعيان وغيرهم، والباقون يصلّى عليهم خلف الحائط الشرقي من المسجد، إذا وقف الإمام على الجنائز هناك كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه. انتهى.
الشيعة غير الأشراف
قلت: وقد انتسخ ما ذكره ابن النجار، وصار يصلي على الجنائز كلها في المسجد، ويخص الأعيان بالصلاة عليهم بالروضة الشريفة بين القبر والمنبر، وغيرهم يصلي عليه أمام الروضة بعد أن يوقف بالجنازة بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أمام الوجه الشريف إلى عام اثنين وأربعين وثمانمائة في دولة السلطان الظاهر جقمق، فوردت مراسيمه على شيخ الحرم فارس بالأمر بمنع جنائز الشيعة من المسجد، فمنع المنسوبون للشيعة من إدخال جنائزهم إلى المسجد إلا(2/103)
الأشراف العلويين، وجرى الأمر على ذلك إلى يومنا هذا، لا يدخل المسجد إلا جنائز الأشراف وأهل السنة، وحاول بعض أهل المدينة إدخال بعض الشيعة غير الأشراف فقام في ذلك بعض أمراء الترك ومنع منه، وكان صاحبنا العلامة أحد شيوخ المالكية الشيخ شهاب الدين أحمد بن يونس القسنطيني ينكر الصلاة على الموتى بالروضة الشريفة ومقدم المسجد؛ لكون رجلي الميت تصيران إلى جهة الرأس الشريف، حتى إنه أوصى أن يصلّى عليه خارج المسجد في موضع الجنائز، وأكثر قبل وفاته من الاستفتاء في ذلك، وأراني خطوط جماعة من علماء الشام وغيرها من الشافعية وغيرهم يتضمن موافقته على ذلك، وفي كلام بعض الشافعية: ينبغي أن تكون الصلاة بالمسجد خلف الحجرة الشريفة أو شرقيها، والتمس مني الكتابة في ذلك، فكتبت بما حاصله أن الله تعالى قد أوجب على هذه الأمة تعظيم نبيها صلّى الله عليه وسلّم وتوقيره وسلوك الأدب التام معه، ولا شك أن الميت إذا وضع في مقدم الروضة أو المسجد كما يوضع اليوم وإن لم تكن رجلاه في محاذاة الرأس الشريف حقيقة؛ لأن الرأس الشريف في محاذاة صف أسطوان التوبة والمخلقة: أي حذاء الأسطوانات التي تكون خلف المصلى على الميت، لكن تكون رجلاه في محاذاة الجهة المذكورة، وقد تصدق المحاذاة مع البعد، ولو رأينا شخصا اضطجع بذلك المحل من الروضة وجعل رجليه لتلك الجهة الشريفة لأنكرنا ذلك عليه، وما ننكره على الأحياء لا ينبغي أن نفعله بالأموات، وقد تأملت كتب المذاهب الأربعة فلم أر فيها تعرضا لذكر السنة في جهة رجلي الميت، بل ذكر الشافعية فيما إذا حضرت جنائز وصلّى عليها الإمام دفعة وجهين: أصحهما وضع الجميع صفا بين يدي الإمام في جهة القبلة، زاد أبو زرعة العراقي في شرح البهجة: والأولى جعلها عن يمينه، والثاني يوضع الجميع صفا واحدا رأس كل إنسان عند رجل الآخر، ويجعل الإمام جميعهم عن يمينه، ويقف في محاذاة الأخير، هذا إذا اتحد النوع، فإن اختلف النوع تعين الوجه الأول، ذكره في أصل الروضة، ويؤخذ منه استحباب جعل رجلي كل ميت عن يمين الإمام على الوجه الثاني، وإلا فلا يكون الجميع صفا عن يمينه، وأما على الوجه الأول فيؤخذ ذلك أيضا مما تقدم عن أبي زرعة، ولعل مأخذه فيه ما ذكر في الثاني، وإذا ثبت ذلك في الجماعة فالواحد كذلك؛ فيكون الأولى جعل رجليه عن يمين الإمام، ولكن الذي عليه الناس جعلهما على يساره.
ورأيت في كتب المالكية ما يقتضي أن ذلك هو الأولى، وأن الناس مضوا على ذلك.
وقد ظهر لي أن السر في ذلك أن السلف- كما يؤخذ مما قدمناه- إنما كانوا يصلون على الجنائز خارج المسجد في شرقيه في الموضع المعروف بذلك، والواقف هناك يكون القبر الشريف عن يمينه، فرأوا- والله أعلم- أن الأدب جعل الرجلين عن يسار الإمام صرفا(2/104)
لهما عن تلك الجهة الشريفة، ثم توارثوا ذلك، واستمر العمل عليه، فلما ترك ذلك وصلوا على الجنائز في المسجد مشوا على ما اعتادوه من جعل رجلي الميت عن يسار الإمام مع الغافلة عن ذلك، وإذا لم تثبت سنة في جعل رجلي الميت عن يسار الإمام فينبغي جعلهما عن يمينه في هذا المحل الشريف، استعمالا لكمال الأدب.
وقد قال لي الشيخ فتح الدين بن تقي الدين الكازروني- وكان يعد من فضلاء الشافعية- وقد ذاكرته بذلك: إذا أنا مت فليجعل رجلاي عن يمين الإمام، ففعل به ذلك رحمة الله، على أن الموضع الذي يلي الأرجل الشريفة من المسجد هو من موضع الجنائز في زمنه صلّى الله عليه وسلّم فيما يظهر، ويدل عليه ما اتفق لبني النجار لما أراد عمر بن عبد العزيز قطع النخلتين عند عمارته للمسجد؛ فلو صلّى فيه اليوم على من يدخل به المسجد من الجنائز لكان أولى؛ فإنه يتأتى فيه كون الرجلين عن يسار الإمام والرأس في جهة الأرجل الشريفة، ويكون أفضل لما جرت به العادة من الخروج بالميت من باب جبريل، وأوفق لفعل السلف في الصلاة على موتاهم هناك، ولم يوافق على شيء من ذلك المتمسكون بالعادات، وقد ذكرت نص ما أجبت به في ذلك مبسوطا استطرادا في كتابي «دفع التعرض والإنكار، لبسط روضة المختار» والله أعلم.
الفصل الثامن عشر في زيادة المهدي
نقل ابن زبالة ويحيى أن المسجد لم يزل على حالة ما زاد فيه الوليد إلى أن هم أبو جعفر المنصور بالزيادة فيه، ثم توفي ولم يزد فيه، حتى زاد فيه المهدي، لكن ذكر يحيى في حكاية ما كان مكتوبا في جدار القبلة ما لفظه: ثم إلى جنب هذا الكتاب- أي ما كتب في زمن المهدي- كتاب كتب في ولاية أبي العباس، يعني السفاح، وصل هذا الكتاب أي كتاب المهدي إليه، وهو: أمر عبد الله عبد الله أمير المؤمنين بزينة هذا المسجد وتزيينه وتوسعته مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ابتغاء رضوان الله وثواب الله، وإن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة، وكان الله سميعا بصيرا، انتهى.
وهو يقتضي أن أبا العباس السفاح- وهو أول خلفاء بني العباس- زاد في المسجد أول ولايته، وولايته سنة اثنتين وثلاثين، ووفاته سنة ست وثلاثين ومائة، وسنشير إلى محمل ذلك آخر الفصل.
ولفظ ما نقله ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم- منهم عبد العزيز بن محمد ومحمد ابن إسماعيل- قالوا: لم يزل المسجد على حال ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولي أبو جعفر عبد الله- يعني المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس- فهمّ بالزيادة،(2/105)
وأراده، وشاور فيه، وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز، ويقول: إن زيد في المسجد من ناحيته الشرقية توسط قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسجد، فكتب إليه أبو جعفر: إني قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا، ثم حج المهدي- يعني ابن أبي جعفر- سنة ستين ومائة، فقدم المدينة منصرفه عن الحج، فاستعمل عليها جعفر بن سليمان سنة إحدى وستين ومائة، وأمر بالزيادة فيه، وولّى بناءه عبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز وعبد الملك ابن شبيب الغساني، فمات ابن عاصم، فولي مكانه عبد الله بن موسى الحمصي، وزاد فيه مائة ذراع من ناحية الشام، ولم يزد في القبلة ولا في المشرق والمغرب شيئا، وذلك عشر أساطين في صحن المسجد إلى سقائف النساء، وخمسا سقائف النساء الشامية.
وروى يحيى ذلك من طريق ابن زبالة وغيره، وقال في رواية له عقب قوله واستعمل عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس: وأمره بالزيادة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام، فزيد في المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم، وكانت زيادته مائة ذراع، ولم يزد فيه من المشرق ولا المغرب ولا القبلة شيئا.
قلت: ما روياه من أنه زاد في مؤخر المسجد مائة ذراع يخالفه ما تقدم في زيادة الوليد أنه جعل طوله مائتي ذراع؛ لأنه يقتضي أن يكون طول المسجد بعد زيادة المهدي ثلاثمائة ذراع، وطول المسجد اليوم على ما صرح به ابن زبالة مائتا ذراع وأربعون ذراعا، وقد اختبرته فزاد على ذلك ثلاثة عشر ذراعا كما سيأتي، ومع ذلك فهو مؤيد لما قدمناه من الاحتمال المتبادر إلى الفهم في الرواية المتقدمة في زيادة الوليد المقتضي لأن نهاية المسجد من جهة الشام في زمنه كانت بعد أربع عشر أسطوانة من مربعة القبر، ومنها إلى آخر المسجد أربع وعشرون أسطوانة فإذا أسقطنا من ذلك أربع عشرة للوليد بقي عشرة أساطين وقدرها نحو مائة ذراع، وهذا معنى قوله في الرواية المتقدمة «وذلك عشر أساطين في صحن المسجد إلى سقائف النساء» أي إلى آخر سقائف النساء، وهي المسقف الشامي، وقوله «وخمس في السقائف» أي من العشرة المذكورة، مع أنه يقتضي أن المهدي جعل المسقف المذكور خمس أساطين، وهذا كان في ذلك الزمان كما سنوضحه، وهو اليوم أربع فقط، وقد قدمنا ترجيح أن المراد مما ذكر في زيادة الوليد أنه جعل أربع فقط، وقد قدمنا ترجيح طأن المراد مما ذكر في زيادة الولدي أنه جعل أربع عشرة أسطوانة في الرحبة بما فيها من أربع أساطين في السقائف التي كانت أولا، وأنه جعل السقائف الشامية في زمنه بعد الأربع عشرة المذكورة؛ لموافقة ما ذكره في ذرع المسجد في زمنه ولما ذكر في زيادة عثمان رضي الله عنه من أنه(2/106)
جعل المسجد مائة وستين ذراعا، فإن ذلك يقتضي أن يكون نهايته في جهة الشام يقرب من أربعة عشر أسطوانة من المربعة المذكورة، فيتحصل من ذلك أن زيادة الوليد على ما ذكر في زيادة عثمان رضي الله عنه أربعون ذراعا، وأن زيادة المهدي نحو خمسة وخمسين ذراعا فقط؛ فيكون للمهدي نحو ستة أساطين في مؤخر المسجد، لكن سيأتي في ذكر أبواب المسجد ما يقتضي أن الباب الذي كان يواجه دار خالد بن الوليد كان مكتوبا عليه: زيادة المهدي، وكذا الباب الذي بعده في الشام عليه ما يقتضي ذلك، وكذا البابان المقابلان لهما في جهة المغرب، دون ما قبل ذلك من الأبواب، وذلك يقتضي ترجيح رواية أنه زاد في المسجد مائة ذراع، وقد رأيت في المسقف الشرقي أسطوانة هي التاسعة من جدار المسجد الشامي مربع أسفلها مرتفع عن الأرض بقدر الجلسة، وهي محاذية لما وصفوه من الباب المقابل لدار خالد بن الوليد، فإن صحت هذه الرواية فهي علامة على ابتداء زيادة المهدي، والله أعلم.
وقال ابن زبالة ويحيى في روايتهما المتقدمة أيضا: وكان- يعني المهدي- قبل بنيانه قد أمر به، فقدّروا ما حوله، فابتيع، وكان مما أدخل في المسجد من الور دار مليكة.
قال ابن زبالة: وأخبرني إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه قال: كانت دار مليكة لعبد الرحمن بن عوف، وإنما سميت دار مليكة لأن عبد الرحمن أنزلها مليكة ابنة خارجة بن سنان، فغلب عليها اسمها، ثم باعها بنو عبد الرحمن بن عوف من عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فباعها عبد الله حين بناء المسجد، فأدخل بعضها في المسجد، وبعضها في رحبة المسارب، وبعضها في الطريق، قالوا: وأدخل دار شرحبيل بن حسنة وكانت صدقة، فابتاعوا دورا ومنازل فأوقفوها صدقة وبقيت منها بقية، فابتاعها منهم يحيى بن خالد بن برمك فدخلت في الحش حش طلحة.
قلت: وقد ذكر ابن شبة دار مليكة وقال: فباعها عبد الله من معاوية رضي الله عنه، فصارت في الصوافي؛ فأدخلها المهدي في المسجد، وذكر دار شرحبيل هذه في ترجمة علم دور أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة: أي غير الحجر، فقال: قال أبو غسان: اتخذت أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها الدار التي يقال لها دار آل شرحبيل، فوهبتها لشرحبيل بن حسنة، فلم تزل لبنيه حتى باعوا صدرها من المهدي فزادها في مؤخر مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة إحدى وستين ومائة، ثم ذكر ما سنورده في ذكر الدور المطيفة بالمسجد.
وقال ابن زبالة عقب ما تقدم: وأدخل بقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء، ودار المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة.
قلت: ذكر ابن شبة هذه الدار في دور بني زهرة، فقال: واتخذ مخرمة بن أهيب بن نوفل دارا، وهي في زاوية المسجد عند المنارة الشرقية اليمانية، فاشترى المهدي بعضها(2/107)
فأدخله في رحبة المسجد القصيا وفي الطريق، وبيعت بقيتها فصارت لرجل من آل مطرف ثم صارت لبعض بني برمك ثم صارت صافية اليوم، انتهى.
وقوله «المنارة الشرقية اليمانية» تحريف والصواب الشامية.
قال ابن زبالة ويحيى عقب ما تقدم: وفرغ من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة، وقد كان هم بسد خوخة آل عمر، وأمر بالمقصورة فهدمت وخفضت إلى مستوى المسجد، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد، فأوطأها مع المسجد، فكلمه آل عمر في خوختهم حتيكثر الكلام بينهم، فأذن لهم ففتحوها وخفضوها في الأرض شبه السرب؛ فصارت في المسجد أي: خارج المقصورة عليها شباك حديد، وزاد في المسجد لتلك الخوخة ثلاث درجات؛ فهي على ذلك إلى اليوم.
ويؤخذ مما ذكره ابن زبالة من الكتابة على أبواب المسجد في زمن المهدي أنه زخرفه بالفسيفساء كما فعل الوليد، ويشهد لذلك بقية من الفسيفساء كانت فيما زاده في مؤخر المسجد عند المنارة الغربية الشامية، وفيما يقرب منها من الحائط الغربي، ولم أر في كلام أحد من مؤرخي المدينة أن المسجد الشريف زيد فيه بعد المهدي، لكن قال الزين المراغي ما لفظه:
وقيل: إن المأمون زاد فيه، وأتقن بنيانه أيضا في سنة اثنتين ومائتين.
قال السهيلي: وهو على حاله، ورزين ينكر ذلك، ويمكن الجمع بأنه جدده ولم يزد، انتهى.
قلت: ولم أر في كلام رزين تعرضا لحكاية ذلك حتى ينكره، وهذا بعيد جدّا؛ لأن من أدرك زمن المأمون من مؤرخي المدينة لم يتعرض لشيء من ذلك، نعم رأيت في المعارف لابن قتيبة بعد ذكر زيادة المهدي ما لفظه: وزاد فيه المأمون زيادة كثيرة ووسعه، وقرأت على موضع زيادة المأمون: أمر عبد الله بعمارة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة اثنتين ومائتين، وذكر أشياء من الأمر بالعدل وتقوى الله، وهذا لا دلالة فيه على زيادة المأمون في المسجد لاحتمال أنه وقع في زمنه عمارة من غير أن يزيد فيه، على أن في كلام يحيى وغيره في حكاية ما كان مكتوبا في المسجد ما يدل على كتابة مثل ذلك لمن تجددت ولايته من الخلفاء فقط، والله أعلم.
الفصل التاسع عشر فيما كانت عليه الحجرة الشريفة الحاوية للقبور المنيفة في مبدأ الأمر
قد قدمنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بنى المسجد بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل، قال ابن النجار: وكان لبيت عائشة رضي الله عنها مصراع واحد من عرعر أو ساج، وتقدم أيضا في الفصل التاسع عن جماعة ممن أدرك(2/108)
بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أدخلت في المسجد أنها كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر، وأن عمران بن أبي أنس قال: كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، الخبر المتقدم.
أول من بنى جدارا على بيت عائشة
قلت: وكان بيت عائشة رضي الله عنها أحد الأربعة المذكورة. لكن سيأتي من رواية ابن سعد أنه لم يكن عليه حائط زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب، وليحمل على أن حجرة الجريد التي كانت مضافة له، أبدلها عمر بجدار، جمعا بين الروايات، وتقدم أيضا قول عبد الله بن يزيد الهذلي: ورأيت حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين هدمها عمر بن عبد العزيز مبنية باللبن حولها حجر من جريد ممدودة، إلا حجرة أم سلمة، وقول الحسن البصري: كنت أدخل بيوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام مراهق، وأنال السقف بيدي، وكان لكل بيت حجرة، وكانت حجره من أكسية من شعر مربوطة في خشب عرعر.
قلت: والظاهر أن ما يستر به الحجر المذكورة هو المراد في حديث كشفه صلّى الله عليه وسلّم لسجف حجرته، كما في الصحيح، والسجف لغة: الستر.
وفي التحفة لابن عساكر عن داود بن قيس أنه قال: أظن عرض البيت من الحجرة إلى باب البيت نحو من ست أو سبع أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والتسع نحو ذلك، ووقفت عند باب عائشة فإذا هو مستقبل المغرب، وهو صريح في أن الباب كان في جهة المغرب، وسيأتي ما يؤيده.
وكذا ما روى في الصحيح من كشفه صلّى الله عليه وسلّم سجف الباب في مرضه وأبو بكر رضي الله عنه يؤم الناس، وترجيل عائشة رضي الله عنها شعره وهو في معتكفه وهي في بيتها كما تقدم في حديث: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وفي رواية النسائي: يأتيني وهو معتكف في المسجد، فيتكئ على عتبة باب حجرتي، فأغسل رأسه وأنا في حجرتي وسائره في المسجد، لكن سبق أيضا ما يقتضي أن الباب كان مستقبل الشام، وهو ضعيف أو مؤول، أما ضعفه فلما تقدم من أن بيت فاطمة رضي الله عنها كان ملاصقا له من جهة الشام وأن مربعة القبر كانت باب علي، ويحتمل أن بعضه من جهة الشام كان ملاصقا بيت فاطمة دون بعضه، فيتأتى ذلك، ويدل له ما قدمناه في بيت فاطمة رضي الله عنها من أن الموضع المزور في بناء عمر بن عبد العزيز كان مخرجا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأما تأويله فبأحد أمرين كما أشار إليه الزين المراغي: أحدهما حمله على أنه باب شرعته عائشة رضي الله عنها لما ضربت حائطا بينها وبين القبور المقدسة بعد دفن عمر رضي الله عنه، لا أنه الباب(2/109)
الذي كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وفيه بعد؛ لأنه سيأتي ما يؤخذ منه أن الحائط الذي ضربته كان في جهة المشرق، ثانيهما لأنه كان له بابان؛ إذ لا مانع من ذلك، وهذا محمل ما رواه ابن عساكر عن محمد بن أبي فديك عن محمد بن هلال أنه رأى حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من جريد مستورة بمسوح الشعر، فسألته عن بيت عائشة، فقال: كان بابه من جهة الشام، قلت:
مصراعا كان أو مصراعين؟ قال: كان باب واحد، قلت: من أي شيء كان؟ قال: من عرعر أو ساج، وهذا مستند ابن عساكر في قوله: وباب البيت شامي، ولم يكن على الباب غلق مدة حياة عائشة، اه.
ثم ظفرت في طبقات ابن سعد بما يصرح بأن الحجرة الشريفة كان لها بابان؛ فإنه روي من طرق أنهم صلوا على النبي «بحجرته، وروى في أثناء ذلك عن أبي عسيم قال: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: كيف نصلي عليه؟ قالوا: ادخلوا من ذا الباب أرسالا أرسالا فصلوا عليه، واخرجوا من الباب الآخر، والله أعلم.
وكان بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها ملاصقا لبيت عائشة رضي الله عنها من جهة القبلة.
ونقل ابن زبالة فيما رواه عن عبد الرحمن بن حميد وعبيد الله بن عمر بن حفص وأبي سبرة وغيرهم أنه كان بين بيت حفصة وبين منزل عائشة الذي فيه قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم طريق، وكانتا يتهاديان الكلام وهما في منزليهما، من قرب ما بينهما، وكان بيت حفصة عن يمين الخوخة.
قلت: فهو موقف الزائرين اليوم داخل المقصورة وخارجها، كما ذكره المطري، وتقدم في حدود المسجد النبوي أن جدار الحجرة مما يلي المسجد كان في حد القناديل التي بين الأساطين اللاصقة بجدار القبر، وبين الأساطين المقابلة لها، وهي التي إليها المقصورة الدائرة على الحجرة من جهة المغرب، وأن المسجد زيد فيه من تلك الجهة شيء من الحجرة، وأن الظاهر أن ما ترك في المسجد من الحجرة كان من مرافقها كالدهليز للباب، وأن ما بني عليه من ذلك هو صفة بيت عائشة رضي الله عنها التي وقع الدفن بها.
هذا ما تحصل لي من كلام متقدمي المؤرخين، خلاف ما اقتضاه كلام متأخريهم، من أن جدار الحجرة الذي [في] جوف الحائز الدائر عليها اليوم هو جدارها الأول، وإليه ينتهي حد المسجد، وأن جدار الحائز الذي جعله عمر بن عبد العزيز إنما جعله فيما يلي الحجرة من المسجد، وقد قدمنا من كلام ابن زبالة والمحاسبي نقلا عن مالك ما يرد ذلك، والله أعلم.(2/110)
الفصل العشرون فيما حدث من عمارة الحجرة بعد ذلك، والحائز الذي أدير عليها
روى ابن زبالة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي «1» حتى دفن عمر؛ فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا.
وعن المطلب قال: كانوا يأخذون من تراب القبر، فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وكانت في الجدار كوة فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوت فسدت.
وقال ابن سعد في طبقاته: أخبرني موسى بن داود قال: سمعت مالك بن أنس يقول:
قسم بيت عائشة باثنين: قسم كان فيه القبر، وقسم كان تكون فيه عائشة وبينهما حائط؛ فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فضلا، فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها.
وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا يحيى بن عباد قال: حدثنا حماد بن زيد قال: سمعت عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي يزيد قالا: لم يكن على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم على بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم حائط، وكان أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال عبيد الله بن أبي يزيد: كان جداره قصيرا، ثم بناه عبد الله بن الزبير.
وقال الأقشهري: قال أبو زيد بن شبة: قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم-: لم يزل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ظاهرا حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الحظار «2» المزور الذي هو عليه اليوم حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، وإنما جعله مزورا كراهة أن يشبه تربيعه تربيع الكعبة، وأن يتخذ قبلة فيصلي إليه.
قال أبو زيد: قال أبو غسان: وقد سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم أن عمر بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه، وسمعت من يقول: بنى علي بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أجدر، فدور القبر ثلاثة أجدر: جدار بناء بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه يعني عمر بن عبد العزيز، وجدار الحظار الظاهر، انتهى ما نقله الأقشهري.
قلت: ولم يوجد على الحجرة الشريفة عند انكشافها في العمارة التي أدركناها غير جدار واحد جوف الحظار الظاهر.
وقال ابن سعد: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي المكي قال: حدثنا مسلم بن
__________
(1) الفضل: المرأة إذا لبست ثياب مهنتها وكانت في ثوب واحد. ويقال: امرأة فضل: مختالة تفضل في ذيل ثيابها.
(2) الحظار: كل شيء حجز بين شيئين كحائط البستان. والأرض المحوطة.(2/111)
خالد قال: حدثني إبراهيم بن نوفل بن سعيد بن المغيرة الهاشمي عن أبيه قال: انهدم الجدار الذي على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في زمان عمر بن عبد العزيز، فأمر بعمارته، قال: فإنه لجالس وهو يا بني إذ قال لعلي بن حسين: قم يا علي فقمّ البيت «1» ، يعني بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقام إليه القاسم ابن محمد قال: وأنا أصلحك الله، قال: نعم وأنت فقم؛ ثم قال له سالم بن عبد الله: وأنا أصلحك الله، قال: اجلسوا جميعا، وقم يا مزاحم، فقمّه، فقام مزاحم فقمه، قال مسلم: وقد أثبت لي بالمدينة أن البيت الذي فيه قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بيت عائشة، وأن بابه وباب حجرته تجاه الشام. وأن البيت كما هو سقفه على حاله، وأن في البيت جرة وخلق رخالة، انتهى.
وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن غير واحد منهم إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن أبيه قال: جاف «2» بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم من شرقيه، فجاء عمر بن عبد العزيز ومعه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، فأمر ابن وردان أن يكشف عن الأساس، فبينا هو يكشفه إلى أن رفع يده وتنحّى واجما، فقام عمر بن عبد العزيز فزعا، فقال عبد الله ابن عبيد الله: أيها الأمير لا يروعنّك فتانك قدما جدك عمر بن الخطاب ضاق البيت عنه فحفر له في الأساس، فقال: يابن وردان غطّ ما رأيت، ففعل.
وروى أيضا عن المطلب أنه لما سقط الجدار من شق الجنائز أمر عمر بقباطيّ فخيطت «3» ، ثم ستر بها، وأمر أبا حفصة مولى عائشة وناسا معه فبنوا الجدار، فجعلوا فيه كوة، فلما فرغوا منه ورفعوه دخل مزاحم مولى عمر فقمّ ما سقط على القبر من التراب والطين، ونزع القباطي، وكان عمر يقول: لأن أكون وليت ما ولي مزاحم من قمّ القبور أحب إلي من أن يكون لي من الدنيا كذا وكذا، وذكر مرغوبا من الدنيا.
وروى يحيى من طريقه أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: كنت أخرج كل ليلة من آخر الليل حتى آتي المسجد، فأبدأ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم عليه، ثم آتي مصلاي فأجلس به حتى أصلي الصبح، فخرجت في ليلة مطيرة حتى إذا كنت عند دار المغيرة بن شعبة لقيتني رائحة لا والله ما وجدت مثلها قط، فجئت المسجد فبدأت بقبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا جداره قد انهدم، فدخلت فسلمت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومكثت فيه مليا، وذكر صفة القبور كما سيأتي عنه، قال: فلم ألبث أن سمعت الحس، فإذا عمر بن عبد العزيز قد أخبر فجاء، فأمر به فستر بالقباطي، فلما أصبح دعا وردان البناء فقال له: ادخل فدخل فكشف فقال: لا بد لي
__________
(1) قمّ البيت: كنسه. والشاة ونحوها: تناولت بشفتيها ما وجدت على وجه الأرض لتأكله.
(2) جاف: نتن، ظهرت له رائحة كريهة.
(3) القباطي: (ج) القبطية: ثياب من كتان بيض رقاق، كانت تنسج في مصر.(2/112)
من رجل يناولني، فكشف عمر بن عبد العزيز ساقيه يريد يدخل، فكشف القاسم بن محمد، فكشف سالم بن عبد الله، فقال عمر: مالكم؟ فقالوا: ندخل والله معك، قال:
فلبث عمر هنيهة ثم قال: والله لا نؤذيهم بكثرتنا اليوم، ادخل يا مزاحم فناوله، فقال عمر: يا مزاحم كيف ترى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: متطاطيا، قال: فكيف ترى قبر الرجلين؟
قال: مرتفعين. قال: أشهد أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورواه رزين عن عبد الله المذكور باختصار، وخالف سياق يحيى في وصف القبور كما سيأتي التنبيه عليه، وقال فيه: فأخبرت بذلك عمر، فجاء فأمر به فستر بالقباطي، وذكره بنحوه.
وفي العتبية: قال مالك: انهدم حائط بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي فيه قبره، فخرج عمر بن عبد العزيز واجتمعت رجالات قريش، فأمر عمر بن عبد العزيز فستر بثوب، فلما رأى ذلك عمر بن عبد العزيز من اجتماعهم أمر مزاحما أن يدخل ليخرج ما كان فيه، فدخل فقمّ ما كان فيه من لبن أو طين، وأصلح في القبر شيئا كان أصابه حين انهدم الحائط، ثم خرج وستر القبر ثم بنى، انتهى.
وروى البخاري في الصحيح من حديث هشام بن عروة عن أبيه، قال: لما سقط عنهم الحائط زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدم، ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما هي إلا قدم عمر.
ويستفاد مما تقدم أن السبب في هذا البناء سقوط الجدار المذكور بنفسه، ولعله بسبب المطر المشار إليه في الرواية المتقدمة.
ويخالفه ما رواه أبو بكر الآجرى من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال:
أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر، فأمر به عمر ابن عبد العزيز فرفع حتى لا يصل إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: ساق عمر وركبته! فسرّي «1» عن عمر بن عبد العزيز.
ومن طريق مالك بن مغول عن رجاء بن حيوة قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز، وكان قد اشترى حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن اهدمها ووسع بها المسجد، فقعد عمر في ناحية، ثم أمر بهدمها، فما رأيت باكيا أكثر من يومه، ثم بناها كما أراد، فلما أن بنى البيت على القبر وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة، وكان الرمل الذي عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز، وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له:
__________
(1) سرّي عنه: زال ما به من هم وفزع.(2/113)
أصلحك الله! إنك إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلا أن يصلحها، ورجوت أن يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم- يعني مولاه- قم فأصلحها.
ونقل الأقشهري عن الرشيد أبي المظفر الكازروني شارح المصابيح أنه قال: سألت جمعا من العلماء عن سبب ستر القبور عن أعين الناس: أي باتخاذ جدار لا باب له، فذكر بعضهم أنه لما مات الحسن بن علي أوصى أن تحمل جنازته ويحضر بها قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم يرفع ويقبر في البقيع، فلما أراد الحسين أن يجيز وصيته ظن طائفة أنه يدفن في الحضرة، فمنعوه وقاتلوه، فلما كان عبد الملك أو غيره سدوا وستروا.
وقال أبو غسان فيما حكام الأقشهري: أخبرني الثقة عن عبد الرحمن بن مهدي عن منصور بن ربيعة عن عثمان بن عروة قال: قال عروة: نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ألايجعل في المسجد أشد المنازلة، فأبى، وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه، قال: فقلت: فإن كان لا بد فاجعل له حوجوا (أي: وهو الموضع المزور خلف الحجرة) .
وروى ابن زبالة عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل العلم أن بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي فيه قبره صلّى الله عليه وسلّم الذي فيه قبره، وهو بيت عائشة الذي كانت تسكن، وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة الذي يلي القبلة منه أطوله، والشرقي والغربي سواء، والشامي أنقصها، وباب البيت مما يلي الشام، وهو مسدود بحجارة سود وقصة، ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك البيت هذا البناء الظاهر، وعمر بن عبد العزيز زوّاه لأن يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد- الحديث» قالوا: والبناء الذي حول البيت بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين البناء الظاهر اليوم مما يلي المشرق ذراعان، ومما يلي المغرب ذراع، ومما يلي القبلة شبر، ومما يلي الشام فضاء كله، وفي الفضاء الذي يلي الشام مركن مكسور «1» ومكيل خشب، قال عبد العزيز بن محمد: يقال إن البنائين نسوه هناك، انتهى.
وروى يحيى عن أبي غسان محمد بن يحيى قال: سمعت من يقول في الحظار الذي على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مركن وخشبة وحديدة مسندة، قال محمد بن يحيى: وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد: هو مركن تركه العمال هناك، وقال محمد بن يحيى- يعني أبا غسان- فأما أنا فإني أطلعت في الحظار فلم أر شيئا، فزعم لي زاعم أنه قد رأى ثم المركن وشيئا موضوعا مع
__________
(1) المركن: وعاء تغسل فيه الثياب (ج) مراكن.(2/114)
المركن، وأما أنا فلم أره، ولم أعلم أحدا يدري من أخذه، ولم أر للبيت الذي في الحظار بابا ولا موضع بابه، وقد أخبرني ابن أبي فديك أنه رأى باب بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يلي الشام، انتهى. وقد حكى الأقشهري عن أبي غسان أيضا نحو ذلك.
قلت: ولم نر للبيت عند انكشافه في العمارة التي أدركناها بابا ولا موضع باب، ولم يوجد في الفضاء الذي يلي الشام من الحظار المذكور مركن ولا غيره مما ذكر، وسيأتي في الفصل الثالث والعشرين أن ابن عاث ذكر أنهم وجدوا عند عمارة حائط سقط بالحجرة قعبا انكسر عند سقوط الحائط، وأنه حمل إلى بغداد، فإن صح فلعله المراد، وفيما قدمناه إشعار بأن موضع القبور الشريفة كان مسقفا تحت سقف المسجد كما سيأتي التصريح به، ولهذا لما انكشف سقف المسجد رأوا ما بين الحظار الظاهر والحجرة، ولم يروا جوف الحجرة، ويدل له ما سيأتي عن أبي الجزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة، فقالت:
فانظروا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا، الخبر الآتي، لكن سيأتي في الفصل الرابع والعشرين عن ابن رشد أنه قال في بيانه: إن الثقة أخبرني أنه لا سقف له في زمنه تحت سقف المسجد، وكنت أظن أن ذلك بعد حريق المسجد، فإن كلام المؤرخين الآتي متطابق على أنه لا سقف للحجرة بعد الحريق إلا سقف المسجد، ثم تبين أن زمن ابن رشد كان قبل الحريق بمدة مديدة؛ لأن وفاته سنة عشرين وخمسمائة، ثم اطلعنا في العمارة التي أدركناها على وجود سقف جعل بعد الحريق وعلى آثار السقف الذي كان قبله كما سيأتي بيانه، والله أعلم.
الفصل الحادي والعشرون فيما روي من الاختلاف في صفة القبور الشريفة، بالحجرة المنيفة
وما جاء من أنه بقي بها موضع قبر، وأن عيسى بن مريم عليه السلام يدفن بها، وما جاء في تنزل الملائكة حافين بالقبر الشريف، وتعظيمه والاستسقاء به.
اعلم أن ابن عساكر ذكر في تحفته الاختلاف في صفة القبور الشريفة، فذكر في ذلك سبع روايات، وسبقه إلى ذلك شيخه ابن النجار، لكنه ذكر ستا فقط.
رواية نافع في وضع القبور
الأولى: ما رواه عن نافع بن أبي نعيم أن صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبر أبي بكر وقبر عمر، قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامها إلى القبلة مقدما، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر، وهذه صفته:
__________
(1) المنكب: مجتمع رأس العضد والكتف.(2/115)
النبي صلّى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه قلت: وهذه الرواية هي التي عليها الأكثر ونقل الزين المراغي أن رزينا ويحيى جزما بها، وهو كذلك في كلام رزين، ورواها عن عبد الله بن محمد بن عقيل فقال عقب خبره المتقدم في قصة سقوط جدار الحجرة: ورأيت القبور، فإذا قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أمام، وقبر أبي بكر خلفه، وقبر عمر خلف قبر أبي بكر، ورأس أبي بكر عند منكبي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورأس عمر عند منكبي أبي بكر، وأما يحيى فلم أر في كلامه الجزم بذلك، بل رأيته حكى اختلاف الروايات كغيره، ولفظه في حكاية هذه الرواية: حدثنا هارون بن موسى قال: سمعت أبي يذكر عن نافع بن أبي نعيم وغيره من المشايخ ممن له سنّ وثقة أن صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر ما تقدم، ورأيت في نسخة من كتاب يحيى تصوير القبور الشريفة على هذه الصفة، وقال: إنها صفة القبور الشريفة فيما وصف بعض أهل الحديث عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، ثم ذكر ما سيأتي في الصفة السادسة.
وروى ابن سعد في طبقاته في ذكر أبي بكر رضي الله عنه من طريق الواقدي عن أبي بكر ابن عبد الله بن أبي سبرة عن عمر بن عبد الله بن عروة أنه سمع عروة والقاسم بن محمد يقولان: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما توفي حفر له، وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وألصق اللحد بقبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقبر هناك.
ثم روى من طريق الواقدي أيضا عن ربيعة بن عثمان عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: رأس أبي بكر عند كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر.
قلت: وفي هذه مخالفة يسيرة لما تقدم بالنسبة إلى عمر رضي الله عنه.
رواية القاسم بن محمد
الثانية: روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال:
دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها: يا أمة اكشفي لي عن قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. زاد الحاكم: فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدما، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عساكر: وهذه صفته.(2/116)
النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه قلت: وقد صحح الحاكم إسناد هذه الرواية، والله أعلم.
رواية عثمان بن نسطاس
الثالثة: ما رواه الزبير بن بكار عن ابن زبالة قال: حدثني إسحاق بن عيسى عن عثمان بن نسطاس قال: رأيت قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعا نحوا من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة ما هي، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأيت قبر عمر أسفل منه، وصوّره لنا كما صوره له عثمان.
قلت: ولم يكن في النسخة التي وقفت عليها من ابن زبالة تصوير، وصوّر ذلك ابن عساكر هذا:
النبي صلّى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه قلت: وابن زبالة ضعيف، وإسحاق بن عيسى هو ابن بنت داود بن أبي هند، صدوق يخطئ، وعثمان بن نسطاس عن عثيم مصغر بن نسطاس بكسر النون المدني أخو عبيد مولى آل كثير بن الصلت، مقبول حيث يتابع، وإلا فليّن الحديث. وقد ذكر الحافظ بن حجر أن أبا بكر الآجري روى هذا الخبر في كتاب صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم من طريق إسحاق بن عيسى المذكور عن ابن نسطاس، وليس فيه ذكر تصوير، ولم يذكر الحافظ ابن حجر الواسطة بين الآجري وإسحاق بن عيسى، وهذه الرواية مع ما فيها من الضعف قابلة للتأويل بردها إلى الرواية التي قبلها، وإن كان التصوير يأباه؛ لجواز حمله على التقريب، والله أعلم.
رواية المنكدر بن محمد
الرابعة: روى ابن زبالة عن المنكدر بن محمد عن أبيه قال: قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم هكذا، وقبر أبي بكر خلفه، وقبر عمر خلفه عند رجلي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصوره ابن عساكر هكذا:(2/117)
النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه قلت: ويمكن رد هذه الرواية مع ضعفها إلى الثانية؛ لأن قوله «وأبو بكر خلفه» صادق بأن يكون رأسه عند منكبي النبي صلّى الله عليه وسلّم.
رواية عمرة عن عائشة
الخامسة: روى يحيى بإسناد فيه إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس عن أبيه- وإسماعيل صدوق، لكن أخطأ في أحاديث من قبل حفظه، وأبوه صدوق يهم، وبقية رجاله ثقات- عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها وصفت لنا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبر أبي بكر وقبر عمر، وهذه القبور في سهوة في بيت عائشة، رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يلي المغرب، وقبر أبي بكر رأسه عند رجلي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقبر عمر خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبقي موضع قبر، وهذه صفة قبورهم على ما وصف ابن أبي أويس عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة، ولم يصور يحيى لذلك شيئا.
وروى ابن زبالة نحو ذلك وقد ذكره من طريق ابن عساكر، ثم قال: وهذه صفته:
النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه قلت: ويردها ما روى من أن رجلي عمر رضي الله عنه ضاق عنها الحائط فحفر لهما في الأساس.
وفي الصحيح كما سبق قول عروة «ما هي إلا قدم عمر» .
رواية أخرى عن القاسم بن محمد
السادسة: روى ابن زبالة عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه أريني قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، فكشفت لي عن قبورهم، فإذا هي لا مرتفعة ولا لاطية، مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة، فإذا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامهما، ورجلا أبي بكر عند رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأس عمر عند رجليه.(2/118)
قال ابن عساكر: وهذه صفتها:
النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه قلت: وهذه الرواية مع ضعفها معارضة بما تقدم في الرواية الثانية عن القاسم بن محمد المذكور، وتلك أصح، وما سيأتي في صفة الحجرة الشريفة يأبى ذلك أيضا، وقد رأيتها في نسخة من كتاب يحيى رواه ابنه طاهر عنه على هذه الصورة:
النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه وقال: إنها عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها، ثم قال ابن فراس أحد رواة النسخة المذكورة عن طاهر بن يحيى: سألت طاهر بن يحيى أن يصور لي بخطه صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فصور لي بيده هذه الصورة، انتهى.
رواية عبد الله بن محمد بن عقيل
السابعة: ما روى يحيى من طريق ابن زبالة في الخبر المتقدم في الفصل قبله في قصة سقوط جدار الحجرة الشريفة في تلك الليلة المطيرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال عقب قوله فيما تقدم: «فدخلت فسلمت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ومكثت فيه مليا، ورأيت القبور فإذا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقبر أبي بكر عند رجليه، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر، وعليهما حصىّ من حصباء العرصة» قال ابن عساكر: وهذه صفته:
النبي صلّى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه(2/119)
قلت: وهذه الرواية نقلها رزين عن عبد الله بن عقيل، وساقها باللفظ السابق، إلا أنه قال: ورأيت القبور، فإذا قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أمام، وذكر ما قدمنا عنه في الرواية الأولى، وهو مخالف لما في هذه الرواية، وهو أولى بالاعتماد؛ لأن هذه الرواية ضعيفة مع بعدها مما سيأتي في وصف الحجرة الشريفة، سيما على ما سبق من قسم عائشة رضي الله عنها الحجرة باثنين، ولها شاهد لكنه ضعيف أيضا، وهو ما في طبقات ابن سعد عن مالك بن إسماعيل- أظنه مولى لآل الزبير- قال: دخلت مع مصعب بن الزبير البيت الذي فيه يعني قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فرأيت قبورهم مستطيلة، انتهى.
وفي رواية للآجري ما يوهم صفة ثامنة؛ فإنه ذكر عقب الخبر المتقدم عن رجاء بن حيوة في إدخال الحجرة في المسجد ما لفظه: قال رجاء: فكان قبر أبي بكر وسطه، ولم يذكر فيه عمر رضي الله عنه، فإن الضمير في قوله «وسطه» إن كان للبيت فواضح، وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهذه صفة أخرى، لكن ينبغي تأويلها أيضا على التجوز في لفظ الوسط ليوافق رواية غيره.
وأما ما أخرجه أبو يعلى عن عائشة: أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره؛ فسنده ضعيف أيضا، ويمكن تأويله كما قاله الحافظ ابن حجر.
وحينئذ فلم يبق إلا الروايتان الأوليان فهما اللتان يتردد بينهما في الترجيح، والأولى هي المشهورة، ومقتضى تصحيح الحاكم لإسناد الثانية ترجيحها، وهي أصح الروايات، وقد اشتملت على أن القبور لم تكن مسنّمة «1» وقد قال يحيى: حدثني هارون بن موسى- قلت:
ولا بأس به- قال: حدثني غير واحد من مشايخ أهل المدينة أن صفات القبور الشريفة مسطوحة عليها بطحاء من بطحاء العرصة حمراء.
وروى ابن زبالة من طريق عمرة عن عائشة قالت: ربّع قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل رأسه مما يلي المغرب.
وأما ما في صحيح البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مسنما، زاد أبو نعيم في المستخرج: وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كذلك، ورواه ابن سعد عنه بلفظ: رأيت قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر مسنّمة، فلا يعارض ما قدمناه؛ لأن سفيان ولد في زمان معاوية فلم ير القبر الشريف إلا في آخر الأمر، فيحتمل- كما قال البيهقي- أن القبر لم يكن في الأول مسنما، ثم سنم لما سقط عن الجدار؛ فقد روى يحيى عن عبد الله ابن الحسين قال: رأيت قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مسنما في زمن الوليد بن هشام. وفي رواية أخرى
__________
(1) سنّم القبر: رفعه وعلّاه عن وجه الأرض كالسنام ولم يسطحه.(2/120)
عنه أن القبر جثوة «1» مرتفعة مسنّمة غير شديدة الارتفاع، عليها قزع من حصىّ وتربة طيبها الله عز وجل. وروى ابن سعد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان نبيث «2» قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم شبرا.
ويؤيد التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي ثم قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بتسويتها.
بقي بعدها موضع قبر
وقد تقدم في الرواية الرابعة أنه بقي بعد القبور الشريفة موضع قبر، ويؤيده ما روي أن عائشة رضي الله عنها أرسلت إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت: أن هلم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى أخويك، فقال: ما كنت مضيقا عليك بيتك، الخبر الآتي في ذكر قبره، وكذلك ما سيأتي في إذنها للحسن أن يدفن عندها، ومنع بني أمية له. وكذلك ما في صحيح البخاري عن هشام بن عروة أن عائشة أوصت عبد الله بن الزبير: لا تدفنني معهم:
أي النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، وادفني مع صواحبي بالبقيع لا أزكى به أبدا. وقد أخرجه الإسماعيلي وزاد فيه: وكان في بيتها موضع قبر، ولكن في الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أرسل إلى عائشة فسألها أن يدفن مع صاحبيه قالت: كنت أريده لنفسي فلأوثرنه اليوم على نفسي.
قال الحافظ ابن حجر: فكأن اجتهادها في ذلك تغيّر، أو لما قالت ذلك لعمر كان قبل أن يقع لها قصة الجمل، فاستحيت بعد ذلك وإن كانت زوجته صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة كما قاله عمار أحد من حاربها، انتهى.
وقال ابن التين: كلامها في قصة عمر يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد، فهو يغاير قولها «لا تدفنّني عندهم» فإنه يشعر بموضع للدفن، والجمع بينهما أنها كانت تظن أولا أنه لا يسع إلا قبرا واحدا، فلما دفن [عمر] ظهر لها أن هناك وسعا لقبر آخر، أو أن الذي آثرته به المكان الذي دفن فيه من وراء قبر أبيها بقرب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لا ينفي وجود مكان آخر في الحجرة.
وروى يحيى بسنده إلى عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال: يدفن عيسى بن مريم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، ويكون قبره الرابع.
وفي سنن الترمذي من طريق أبي مودود عن عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم
__________
(1) الجثوة: الكومة من تراب وحصى.
(2) النبيثة: تراب البئر والنهر. (ج) نبائث. والمراد أن الماء الذي حول القبر مقدار الشبر.(2/121)
يدفن معه، قال: فقال أبو مودود: وقد بقي في البيت موضع قبر، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي بعض النسخ: حسن غريب، هكذا قال عثمان بن الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان المدني، انتهى كلام الترمذي.
وفي رواية للطبراني عن عبد الله بن سلام قال: يدفن عيسى بن مريم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر؛ فيكون قبرا رابعا، وهو من رواية عثمان بن الضحاك، وقد وثقه ابن حبان وضعفه أبو داود.
وذكر الزين المراغي أن ابن الجوزي روى في المنتظم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض، فيتزوج ويولد له، فيمكث خمسا وأربعين سنة، ثم يموت فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى بن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر.
وقال ابن النجار: قال أهل السير: وفي البيت موضع قبر في السهوة الشرقية، قال سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى بن مريم.
والسهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلا شبيه بالمخدع والخزانة، وقيل: هو كالصفة يكون بين يدي البيت، وقيل: هو شبيه بالرف والطاق يوضع فيه الشيء، ولعل المراد بذلك الموضع الذي ضربت عليه عائشة جدارا وسكنت به كما سبق.
الملائكة يحفون بالقبر
وسنذكر فيما استقر عليه بناء الحجرة أنه عقد على نحو ثلثها الشرقي عقد، فصار ذلك المحل مميزا عن بقية البيت، وكان قبله في البناء ما يشهد لجدار آخر من الشام إلى القبلة في تلك الجهة، فلعله الموضع المذكور.
وروى يحيى وابن النجار عن كعب الأحبار قال: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر، يضربون بأجنحتهم، ويصلون على النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا أمسوا عرجوا، وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة، صلّى الله عليه وسلّم.
وفي صحيح الدارمي نحوه من رواية عائشة رضي الله عنها، وقال فيه: سبعون ألفا بالليل وسبعون ألفا بالنهار، ذكره في باب ما أكرم الله به نبيه صلّى الله عليه وسلّم بعد موته، رواه البيهقي في شعبه.
لا ينبغي رفع الصوت في المسجد
وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه «إن مسجدنا هذا لا ترتفع فيه الأصوات» وقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيا ولا ميتا.(2/122)
وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن غير واحد منهم عبد العزيز بن أبي حازم ونوفل بن عمارة قالوا: إن كانت عائشة تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فترسل إليهم لا يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: وما عمل على مصراعي داره إلا بالمناصع، توقيا لذلك.
وفي الوفاء لابن الجوزي من طريق أبي محمد الدارمي بسنده عن أبي الجوزاء.
سنة أهل المدينة في أعوام الجدب
قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت:
فانظروا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق.
قال الزين المراغي: واعلم أن فتح الكوة عند الجدب سنة أهل المدينة حتى الآن، يفتحون كوة في سفل قبة الحجرة: أي القبة الزرقاء المقدسة من جهة القبلة، وإن كان السقف حائلا بين القبر الشريف وبين السماء.
قلت: وسنتهم اليوم فتح الباب المواجه للوجه الشريف من المقصورة المحيطة بالحجرة، والاجتماع هناك، والله أعلم.
الفصل الثاني والعشرون فيما ذكروه من صفة الحجرة الشريفة، والحائز المخمس الدائر عليها، وبيان ما شاهدناه مما يخالف ذلك
قال الأقشهري، فيما رواه من طريق ابن شبة: قال أبو غسان- يعني محمد بن يحيى-:
وأما الحظار الظاهر والبيت الذي فيه فإني اطلعت فيه من بين سقفي المسجد حتى عاينت ذلك الحظار الذي على البيت وما فيه، وصورته وما فيه، وذرعته على ما فيه من الذرع، وذلك حين انكسر خشب سقف المسجد فكشف السقف من تلك الناحية لعمارته، وأبو البحتري بن وهب بن رشد يومئذ على المدينة، وذلك في جمادى الأولى من سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقال أبو زيد- يعني ابن شبة- فهذه صورته، ثم صورها الأقشهري في كتابه المسمى «بمنسك القاصد الزائر» بهذه الصورة:(2/123)
وفي هذا التصوير وما ذكر فيه من الذّرع مخالفة لما تقدم عن نقل ابن زبالة حيث قال.
والبناء الذي حول البيت بينه وبين البناء الظاهر اليوم مما يلي المشرق ذراعان، والتصوير المذكور قد اشتمل على أن الفرجة المذكورة ثلاثة أذرع، ويستفاد من التصوير أيضا أن الفرجة بينهما في جهة القبلة مختلفة، فبعضها دون الذراع وهو الشبر المشار إليه في كلام ابن زبالة، وبعضها ذراع.
وسنذكر أن ما شاهدناه في صورة الحجرة الشريفة عند انكشافها أقرب إلى التصوير المذكور مما ذكره ابن زبالة، وأن الحال شاهد بأنه وقع في بنائها الداخل تغيير؛ فلم يبق على الصورة المذكورة.
وقد أدرك ابن زبالة عمارة أبي البحتري التي كشف فيها سقف المسجد مما يلي الحجرة الشريفة، وذكرها في كتابه فقال: وكان أبو البحتري- إذ كان واليا على المدينة لهارون أمير المؤمنين- كشف سقف المسجد في سنة ثلاث وتسعين ومائة، فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة، فأدخل مكانها خشبا صحاحا اه.
وكأنه لم يشاهد ذلك كما شاهده أبو غسان، وعبارة يحيى في ذكر هذه العمارة: وقد كان خشب من خشب المسجد فوق القبر مما يليه انكسر في ولاية أبي البحتري، فأمر بكشف السقف، وذكر ما تقدم عن ابن زبالة، على أن ابن زبالة ويحيى أشارا في كتابيهما إلى تصوير الحجرة والحائز الدائر عليها، لكن الصورة ساقطة من النسخة التي وقعت لنا.
وقد صور ذلك ابن النجار في كتابه، وأظنه أخذه من نسخة وقعت له من ابن زبالة(2/124)
مشتملة على تلك الصورة، وتبعه عليها ابن عساكر في «تحفة الزائر» والمرافي في تاريخه، وهي بعيدة مما وجدنا عليه صورة الحجرة الشريفة؛ فلنبدأ بتصويره، ثم تصوير الصورة التي شاهدناها، ثم الصورة التي استقر بناء الحجرة الشريفة عليها، وقد تبعت في حكاية تصوير ابن النجار ما صنعه المراغي؛ فإني نقلته من خطه، فقال: وجعل عمر بنيان الحجرة الشريفة على خمس زوايا لئلا يستقيم لأحد استقبالها بالصلاة؛ لتحذيره صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، وهذه صورتها وصورة الحائز حولها كما ضبطه ابن النجار، والله أعلم.
وهذا التصوير ينافي ما تقدم من رواية ابن زبالة وغيره أن البيت مربع مبني بحجارة سود وقصّة.
ثم بنى عليه عمر بن عبد العزيز هذا البناء الظاهر المخمس؛ لأنه صوّر فيه البيت مخمسا أيضا كما ترى، وهو خلاف الذي شاهدناه عند انكشافه في العمارة التي أدركناها، فرأيناه مربعا مبنيا بالأحجار السود المنحوتة لونها يقرب من لون أحجار الكعبة الشريفة، ولها من الهيبة والأنس ما لا يدرك إلا بالذوق، ولم نجد بين الجدار الخارج والداخل من جهة(2/125)
المغرب فضاء أصلا، ولا مغرز إبرة، ولم نجد للبيت الداخل بابا أصلا، ولا موضع باب، لا في الجهة الشامية ولا في غيرها، ووجدنا الفضاء الذي خلف البيت الشريف من جهة الشام، بينه وبين البناء الظاهر، شكله مثلث، ومساحته نحو ثمانية أذرع بذراع اليد المتقدم تحريره، وذلك من جدار البيت الشامي إلى زاوية البناء الظاهر المقابلة له، وهي الزاوية الشمالية التي ينحرف عنها صفحتا الشكل المثلث المذكور، وهناك أسطوانة ملاصقة لجدار البيت الشامي في صف أسطوانة مربعة القبر وأسطوانة الوفود، وبعض الأسطوانة المذكورة داخل في الجدار المذكور، وقد طوق على أعاليها بأطواق من الحديد، وأدعمت بجذع من جذوع النخل رأسه في أعاليها ورأسه الآخر في زاوية البناء الظاهر الشمالية المتقدم ذكرها، والظاهر أن ذلك جعل بعد الحريق لتشقق الأسطوانة المذكورة وتأثير النار فيها، وهي الأسطوانة التي تقدم ذكرها في التصوير الأول المأخوذ من كلام ابن شبة عند نهاية جدار البيت الشامي، مما يلي المشرق، لكنا لم نجدها كذلك، بل قريبة من وسط الجدار الشامي، غير أن متولي العمارة ومن كان معه أخبروني أنهم وجدوا عند نقض جدار البيت الشامي من داخله رأس جدار في محاذاة الأسطوانة المذكورة يشهد الحال أنه كان آخذا من الشام إلى ما يحاذيه من القبلي، فكأنه كان نهاية الحجرة الشريفة من جهة المشرق، وكأنه لما انهدم زيد فيها ذلك القدر، قالوا: ولا يخفى على الناظر أن بقية الجدار الشامي مما يلي المشرق لم يبن مع الجانب الآخر منه، بل هي ملصقة إلى رأس الجدار المذكور بحيث لم يدخل أحجار أحدهما في الآخر، ولا هي مرتبطة كما هو عادة البناء الواحد، ورأيت أنا ما يقابل هذا الجانب من الجدار القبلي مما يلي المشرق؛ فرأيت ما يشهد بإحداث بنائه بحيث إنه مبني بالحجارة غير الوجوه كنسبة الجدار الشرقي، بخلاف بقية جدارات الحجرة الشريفة فإنها كلها من داخلها وخارجها مبنية بالحجارة الوجوه المنحوتة، وإنما لم أشاهد ما قدمته مما حكى لي في أمر الجدار الشامي لأني اجتنبت حضور الهدم احتياطا لنفسي، وظهر بذلك أن البيت الشريف كان من جهة المشرق على ما صوره ابن شبة، ثم حدث ذلك بعده، ولم ينبه عليه أحد من المؤرخين، ويحتمل أن ذلك الجدار هو الذي أحدثته عائشة رضي الله عنها بينها وبين القبور الشريفة؛ فقد تقدم عن ابن سعد روايته عن مالك بن أنس قال: قسم بيت عائشة باثنين، قسم كان فيه القبر، وقسم كان تكون فيه عائشة وبينهما حائط.
قلت: فهذا الاحتمال هو الذي يترجح عندي، والله أعلم.
ووجد بين جدار البيت الشرقي وبين الجدار الظاهر الشرقي فضاء مختلف كالزقاق الرقيق، فعند ابتدائه من جهة الشام نحو ذراع اليد يمر فيه الرجل منحرفا، فإذا قرب من جهة القبلة تضاعف بحيث لا يمر فيه إلا الصغير منحرفا، وسعته هناك نحو ثلث الذراع.(2/126)
وقد نقل ابن شبة أنه كان ثلاثة أذرع؛ فهذا مؤيد لما قدمناه من حدوث التغيير في الجدار الشرقي الداخل، ورؤيته تقضي بذلك دون بقية الجدران.
ووجدنا بين جدار البيت القبلي والجدار الظاهر القبلي فضاء مختلفا أيضا كالزقاق الرقيق؛ فأوله من جهة الشرق نحو ذراع اليد، فإذا قرب من الوجه الشريف تضايق بحيث يصير نحو شبر ثم أقل من ذلك إلى ملتقى الحائطين في جهة المغرب، وهذا الفضاء لا يمكن المرور فيه؛ لأن الأسطوانة التي في البناء الظاهر عند مواجهة مواقف الزائر لسيدنا عمر رضي الله عنه بعضها بارز في الفضاء المذكور، وفي محاذاتها بناء بنحو عرضها قد سدّ ما بين الجدارين من الفضاء، وكأنه جعل لإدعام الجدار من أجل الانشقاق الآتي ذكره، أو لمنع المرور هناك، جزى الله فاعله خيرا!(2/127)
وأما طول جدران الحائز الظاهر من كل زاوية إلى الآخرى من خارجه فطول الجدار القبلي من زاويته التي تلي القبلة من المغرب إلى زاويته التي تلي المشرق سبعة عشر ذراعا، بتقديم السين، ينقص يسيرا، وذلك موافق لما تقدم في تصوير ابن النجار. وطول الجدار الغربي من القبلة إلى طرف مقام جبريل ستة عشر ذراعا ونحو نصف ذراع، ومنعطف مقام جبريل هناك الشام، وذرع منعطفه ذراعان ونصف ذراع، وجملة ذلك تسعة عشر ذراعا؛ فهو المراد مما تقدم في تصوير ابن النجار، لكنه يوهم أن وجه مقام جبريل غير داخل في التسعة عشر ذراعا التي ذكرها للجدار الغربي، وليس كذلك. وطول الجدار المنعطف من مقام جبريل إلى الزاوية الشمالية اثنا عشر ذراعا ونصف ذراع راجح. وطول الجدار الشرقي من القبلة إلى الزاوية التي ينحرف منه إلى جهة الشمال اثنا عشر ذراعا ونصف ذراع راجح.
وطول الجدار المنعطف من الجدار المذكور عند الزاوية المذكورة إلى الزاوية الشمالية نحو أربعة عشر ذراعا، وفيما ذكرناه من الذرع في الثلاثة الجدر الأخيرة مخالفة لما تقدم في تصوير ابن النجار ومن تبعه.
وأما طول الحائز الظاهر في السماء فثلاثة عشر ذراعا وثلث ذراع، ويرجح من بعض الجوانب يسيرا، وعرض منقبته ذراع وربع ثمن.
ونقل الأقشهري أن ابن شبة نقل عن أبي غسان أن طول الحظار الذي على البيت- يعني الحائز المذكور- من جهة ارتفاعه ثلاثة عشر ذراعا غير سدس.
قلت: وقد رأيت بأعلاه سترة من آجر قدر نصف ذراع يشهد الحال أنها محدثة لإحداث السقف الآتي ذكره للحجرة الشريفة بعد حريق المسجد الأول؛ فلا مخالفة بين ما وجدناه وبين ما ذكره أبو غسان.
وأما ارتفاع الجدار الداخل في السماء فقسته من خارجه من جهة الشام فكان خمسة عشر ذراعا، وارتفاع تلك الأرض التي في شامي الحجرة بين الجدارين على أرض الحجرة ذراع ونحو ربع ذراع، ومع ذلك فالحائز الخارج أرجح من الداخل بيسير أو مساوله، وسبب ذلك علو الأرض الخارجة عن هذا الحائز على الأرض الداخلة بين الحائزين بأرجح من ذراع ونصف، مع أن الأرض الداخلة بين الحائزين من جهة الشام التي هي كهيئة المثلث وجدت مجدولة بالحجارة والقصة بحيث لم يتأت لهم حفر أساس فيها، ولله الحمد على ذلك.
وأما ما تقدم فيما نقلناه من خط المراغي- وهو موجود في كلام ابن النجار وابن عساكر- من أن طول حيطان الحائز الخارج في السماء ثلاثة وعشرون ذراعا، فهذا مخالف لما شاهدناه ولما قدمناه عن أبي غسان، وكأنهم أرادوا بهذا ذرع ما بين الأرض المحيطة بالحجرة(2/128)
وبين سقف المسجد، وهذا البناء لم يبلغ به عمر بن عبد العزيز سقف المسجد اتفاقا، بل فوقه شباك من خشب متصل ذلك الشباك بسقف المسجد كما يظهر عند رفع الكسوة، وكأن ابن النجار توهم أن الحائط المذكور متصل بالسقف؛ لأنه قال: وبنى عمر ابن عبد العزيز على حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم حائزا من سقف المسجد إلى الأرض، وصارت الحجرة في وسطه وهو على دورانها.
وينبغي حمل كلامه على أن المراد أنه بناه من سقف المسجد إلى الأرض بما جعل عليه من الشباك، وكذلك يحمل ما ذكره في ذرع؛ لأن الشباك المذكور له ذكر في كلامه، فإنه ذكر ما سيأتي من أن الجمال الأصفهاني جدد تأزير الحجرة بالرخام، ثم قال: وعمل لها مشبكا من خشب الصندل والآبنوس، وأداره حولها مما يلي السقف: أي على رأس الجدار المذكور.
قلت: ولعله أول من أحدث هذا الشباك؛ لأنه ذكر له في كلام متقدمي المؤرخين، والله أعلم.
وقال ابن النجار: واعلم أن على حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم أي على سقفها ثوبا مشمعا مثل الخيمة، وفوقه سقف المسجد، وفيه- أي فيما تحت المشمع المذكور- خوخة عليها ممرق أي طابق مقفول، وفوق الخوخة في سقف السطح خوخة أخرى فوق تلك الخوخة، وعليها ممرق مقفول أيضا، وبين سقف المسجد وبين سقف السطح أي السقف الثاني لسطح المسجد فراغ نحو الذراعين.
قلت: أما الممرق الذي ذكره في سقف المسجد الذي يلي الحجرة الشريفة فقد أدركناه موجودا عليه قفل من حديد ومشمع جدده متولي العمارة التي أدركناها إلى أن احترق المسجد في زماننا، وعملت القبة التي جعلت بدلا عن القبة الزرقاء.
وأما الممرق الذي ذكره في سقف الحجرة تحت المشمع الذي أشار إليه فهذا كان قبل حريق المسجد الأول، ولم يوجد في السقف الذي عمل بدله بعد الحريق ممرق، نعم وجد عليه ستارة من المحابس اليمنية مبطنة، وسنذكر وصفه إن شاء الله تعالى عند ذكر العمارة المتجددة في زماننا، على أن الذي يقتضيه كلام المطري ومن بعده أنه ليس ثم غير طابق واحد في سقف المسجد، فإنه قال: وعلى سقف الحجرة بين السقفين- أي سقفي المسجد- ألواح، وقد سمّر بعضها على بعض، وسمر عليها ثوب مشمع، وفيها طابق مقفل، إذا فتح كان النزول منه إلى ما بين حائط بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز.
قلت: وليس ما ذكره في وصف هذا الطابق بصحيح؛ لأن النزول منه يكون على وسط الحجرة سواء كما شاهدناه، مع أن المطري ومن تبعه اتفق كلامهم كما سيأتي على أن(2/129)
سقف الحجرة بعد الحريق إنما هو سقف المسجد، وهو خلاف ما وجدنا الأمر عليه أيضا، والله أعلم.
الفصل الثالث والعشرون في عمارة اتفقت بالحجرة الشريفة على ما نقله الأقشهري عن ابن عاث، وما وقع من الدخول إليها عند الحاجة له وتأزيرها بالرخام
قال الأقشهري، ومن خطة نقلت ما لفظه: أخبرنا الشيخ الراوية أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الشاطبي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله القضاعي الحافظ قال: حدثنا صاحبنا الرحال أبو عمر أحمد بن أبي محمد هارون بن عاث النفري قال: حدثت بالمدينة الشريفة، أو قال بمدينة السلام، بأنهم سمعوا منذ سنين قريبا من الأربعين هدة في الروضة الشريفة أي الحجرة فإنه يعبر عنها بذلك، فكتب في ذلك إلى الخليفة، فاستشار الفقهاء، فأفتوا أن يدخلها رجل فاضل من القومة على المسجد، فاختاروا لذلك بدرا الضعيف، وهو شيخ فاضل يقوم بالليل ويصوم النهار، وهو من فتيان بني العباس، فدلى حتى دخل الروضة أي الحجرة، فوجد الحائط الغربي قد سقط، وهو حائط دون الحائط الظاهر، فصنع له لبن من تراب المسجد، فبناه وأعاده على هيئته كما كان، ووجد هناك قعبا من خشب قد أصابه وقوع الحائط فكسره، فحمل إلى بغداد مع شيء من تراب الحائط، وكان يوم وصول ذلك بغداد يوما مشهودا تجمع لاستقباله الناس، وازدحموا على رؤيته، وعطلت الصناعات والبيع، وكانت رحلة ابن عاث سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقد قال «قريبا من أربعين سنة» فيكون ذلك سنة سبعين وخمسمائة أو ما دون ذلك، وهكذا ذكره في رحلته ومنها نقلته، ويكون ذلك في دولة المستضيء بالله بن المستنجد بالله، انتهى كلام الأقشهري.
ولعل هذا الحائط المنهدم في هذه العمارة إنما هو الشرقي من الجدار الداخل، وأطلق عليه اسم الغربي بالنظر إلى الجدار الخارج الذي يليه، فتكون هذه الواقعة هي التي اتفق فيها بناء الجدار المتقدم وصفه، ووقع فيها تقديمه عن محله الأول، وأبقوا رأسه كما تقدمت الإشارة إليه، وهو إنما بنى بالحجر، ولا يتأتى هناك بناء باللبن إلا في السترة التي جعلت على رأس الجدار، فلعله أراد باللبن المتخذ من تراب المسجد هذا، لكن في كلام ابن النجار ونقله من بعده وأقره، ما يقتضي أنه لم يقع دخول إلى الحجرة الشريفة من سنة أربع وخمسين وخمسمائة إلى زمانه، وقد توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة، فإنه قال في كتابه «الدرة الثمينة» ما لفظه: واعلم أن في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سمعوا صوت هدة في الحجرة، وكان الأمير قاسم بن مهني الحسيني، فأخبروه بالحال، فقال: ينبغي أن ينزل شخص إلى هناك ليبصر ما هذه الهدة، فافتكروا في شخص يصلح لذلك، فلم يجدوا لذلك إلا عمر(2/130)
النسائي شيخ شيوخ الصوفي بالموصل، وكان مجاورا بالمدينة، فذكروا ذلك له، فذكر أن به فتقا والريح والبول يحوجه إلى دخول الغائط مرارا، فالزموه، فقال: أمهلوني حتى أروض نفسي، وقيل: إنه امتنع من الأكل والشرب وسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم إمساك المرض عنه بقدر ما يبصر ويخرج، ثم إنهم أنزلوه في الحبال من الخوخة إلى الحظير الذي بناه عمر، ودخل منه إلى الحجرة ومعه شمعة يستضيء بها فرأى شيئا من طين السقف قد وقع على القبور، فأزاله وكنس التراب بلحيته، وقيل: إنه كان مليح الشيبة، وأمسك الله تعالى ذلك الداء قدر ما خرج من الموضع وعاد إليه، وهذا ما سمعته من أفواه جماعة، والله أعلم بحقيقة الحال في ذلك.
وعبارة المراغي تبعا للمطري في النقل عن ابن النجار: فأنزلوه بالحبال من بين السقفين من الطابق المذكور، ونزل بين حائط النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الحائز ومعه شمعة يستضيء بها، ومشى إلى باب البيت، ودخل من الباب إلى القبور المقدسة، فرأى شيئا من الردم، إما من السقف أو من الحيطان إلى آخره.
قلت: وهذا لا يطابق ما ذكره ابن النجار وعليه رتب المراغي إشكاله الآتي بيانه.
ثم قال ابن النجار: وفي شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في أيام قاسم أيضا وجدوا من الحجرة رائحة منكرة، وكثر ذلك حتى ذكروه للأمير، فأمرهم بالنزول إلى هناك، فنزل بيان الأسود الخصي أحد خدام الحجرة، ومعه الصفي الموصلي متولي عمارة المسجد، ونزل معهما هارون الشادي الصوفي بعد أن سأل الأمير في ذلك، وبذل له جملة من المال، فلما نزلوا وجدوا هرا قد هبط ومات وجيّف، فأخرجوه، وكان في الحائز بين الحجرة والمسجد.
وقال المراغي وغيره في النقل عن ابن النجار: فوجدوا هرا قد سقط من الشباك الذي في أعلى الحائز، ووقع بين الحائز وبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ابن النجار: وكان نزولهم يوم السبت الحادي عشر من ربيع الآخر، ومن ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم ينزل أحد إلى هناك، فاعلم ذلك، انتهى.
فهذا يخالف ما نقله الأقشهري عن ابن عاث؛ لاقتضائه أن تلك الواقعة في سنة سبعين وخمسمائة أو ما قاربها، والظاهر أن القضية واحدة، ولم نجد من دونها فنقل كل منهما بحسب ما بلغه.
وقال الزين المراغي عقب ذكره للواقعة الأولى التي حكاها ابن النجار المتضمنة للدخول إلى القبور الشريفة ما لفظه: وينبغي تأمل هذا النقل؛ لأن الوصول إلى القبور الشريفة متعذر، إن كان الجدار الذي أحدثته عائشة المتقدم ذكره باقيا، فإن جاء نقل بإزالته وبإمكان الاستطراق معه من باب أو نحوه فهو واضح، وإلا ففيه نظر.(2/131)
قلت: نظره إنما يتوجه على ما قدمه من أن النزول كان إلى ما بين الحائطين وأنه مشى إلى باب البيت، وليس في كلام ابن النجار تعرض لشيء من ذلك، بل مقتضى ما قدمناه عنه- من أن الحجرة الشريفة بها ممرق، وبسقف المسجد مثله- أن النزول إنما هو من العلو إلى سقف الحجرة، ثم منه إليها؛ فلا نظر، على أن الجدار الذي أشار إليه وأن عائشة بنته ولم نجد له أثرا إلا ما تقدمت الإشارة إليه من رأس جدار الحائط الشامي مقتض لأنه كان هناك جدار من الشام إلى القبلة، وكذلك الباب لم نجد له أثرا كما قدمناه.
وأما تأزير الحجرة بالرخام فليس له ذكر في كلام ابن زبالة، وله ذكر في كلام يحيى؛ فإنه روى ما حاصله أن بيت فاطمة الزهراء لما أخرجوا منه فاطمة بنت حسين وزوجها حسن بن حسن وهدموا البيت بعث حسن بن حسن ابنه جعفرا، وكان أسنّ ولده، فقال له: اذهب ولا تبرحن حتى يبنوا فتنظر الحجر الذي من صفته كذا وكذا هل يدخلونه في بنيانهم، فلم يزل يرصدهم حتى رفعوا الأساس وأخرجوا الحجر، فجاء جعفر إلى أبيه فأخبره، فخر ساجدا وقال: ذلك حجر كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي إليه إذا دخل إلى فاطمة، أو كانت فاطمة تصلي إليه، الشك من يحيى.
وقال علي بن موسى الرضي: ولدت فاطمة عليها السلام الحسن والحسين على ذلك الحجر.
قال يحيى: ورأيت الحسين بن عبد الله بن عبد الله بن الحسين ولم أر فينا رجلا أفضل منه إذا اشتكى شيئا من جسده كشف الحصى عن الحجر فيمسح به ذلك الموضع، ولم يزل ذلك الحجر نراه حتى عمّر الصانع المسجد ففقدناه عندما أزر القبر بالرخام، وكان الحجر لاصقا بجدار القبر قريبا من المربعة.
قال بعض رواة كتاب يحيى: الصانع هذا هو إسحاق بن سلمة، كان المتوكل وجه به على عمارة المدينة ومكة.
قلت: وكانت خلافة المتوكل سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وتوفي في شوال سنة سبع وأربعين، وكان هذا مأخذ بن النجار في قوله إن المتوكل في خلافته أمر إسحاق بن سلمة وكأن على عمارة الحرمين من قبله أن يؤزّر الحجرة بالرخام ففعل.
ثم في خلافة المقتفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة جده جمال الدين وزير بني زنكي، وجعل الرخام حولها قامة وبسطة.
قلت: ولم يذكر أحد من المؤرخين تجديدا لهذا الرخام بعد ذلك، وقد جدده في زماننا متولي العمارة الآتي ذكرها الجناب الشمس المحسني الخواجكي بن الزمن بأمر المقام الشريف السلطاني قايتباي عز نصره، ووجد في الصفحة القبلية عند ابتدائها من جهة المغرب في(2/132)
اللوح السماقي اللون الثاني في تلك الجهة من الألواح الملونة التي يحيط بها الرخام الأبيض البارز قطعة أوسع من الدينار ملصقة في ظاهر اللوح المذكور بالجص، فأشيع أنها جوهرة نفيسة ذات لمعان، ثم إن متولي العمارة أرانيها فإذا هي حجر عسلي اللون يميل حمرته إلى الصفرة، قال: وأظنه حجر اليرقان، وقد خشي عليه متولي العمارة إن أعيد لصقا كهيئته الأولى، فأمر بنقر الرخامة المذكورة وتنزيله فيها، ففعلوا ذلك، وأعادوا تلك الرخامة إلى محلها.
ولم أر من نبه على ابتداء حدوث الرخام الذي حول الحجرة الشريفة بالأرض والظاهر أنه حدث عند حدوث تأزيرها بالرخام؛ لما تقدم من كلام يحيى في أمر الحجر الذي كان يتبرك به من أن الحسين بن عبد الله كان يكشف عنه الحصى، وأنه لم يدخل في البناء، وأنه فقده عند تأزير الحجرة بالرخام، فدل ذلك على أنه رخم الأرض أيضا، وإلا لما استتر الحجر المذكور.
وأما ترخيم المصلّى الشريف فلا أدري متى زمن حدوثه، وله ذكر في رحلة ابن جبير.
وأما الرخام الذي بالمحراب العثماني وما حوله فالقديم منه- أعني بعد الحريق الأول- ترخيم المحراب وشيء يسير عن جنبتيه، وفي دولة السلطان الملك الظاهر جقمق في أول عشر الستين وثمانمائة أمر بعمل الوزرة التي في الجدار القبلي، فاتصل ذلك بترخيم المحراب المذكور، وقد جدد غالب ذلك في العمارة التي أدركناها أيضا، وأبدل الطراز الأول الذي كان بأعلى الوزرة وكان محمرا بماء الذهب الطراز الموجود اليوم، ثم زال ذلك كله في حريق المسجد الثاني، ثم أعيد مع زيادة فيه مما يلي المنارة الرئيسية، ومع ترخم ما حول الحجرة الشريفة وتأزيرها بالرخام، ومع ما سبق من عمل محراب المصلى الشريف وترخيمه، ورخموا أيضا الدعائم المواجهة للوجه الشريف التي أحدثوها عند عمارة القبة الثانية من داخل المقصورة وخارجها، وجميع ما يوجد من الرخام بالمسجد اليوم من عمل سلطان زماننا الأشرف قايتباي، أعز الله أنصاره، وضاعف اقتداره! والله أعلم.
الفصل الرابع والعشرون في الصندوق الذي في جهة الرأس الشريف، والمسماة الفضة المواجه للوجه الشريف، ومقام جبريل من الحجرة الشريفة، وكسوتها، وتخليقها
أما الصندوق فلم أعلم ابتداء حدوثه، وكذلك القائم المحلّى فوقه، إلا أنه قد ظهر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أنه كان موجودا قبل حريق المسجد الأول؛ لأن متولي العمارة كان قد قلعه لاقتضاء رأيه قلع حلية الفضة التي كانت على القائم الخشب الذي فوق الصندوق ليحكم صوغها، وزاد ذلك فضة وتمويها بالذهب، وأصلح حلية الصندوق أيضا،(2/133)
وكان ذلك سببا لإصلاح أصل الأسطوانة التي كان بها، فلما قلعوا الصندوق المذكور ظهر فيه قوائم صندوق عتيق، وفي تلك القوائم أثر الحريق، وكأنهم جددوا عليه صندوقا، وجعلوا ذلك المحترق في جوفه، وقد أعيد كذلك.
وقد ذكر المجد الشيرازي هذا الصندوق والقائم فقال: وفي الصفحة الغربية من الحجرة الشريفة صندوق آبنوس مختم بالصندل مصفح بالفضة مكوكب بها، هو قبالة رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه أسطوان، وفوق الصندوق قائم من خشب مجدد، وأما الصندوق فطوله خمسة أشبار وعرضه ثلاثة أشبار وارتفاعه في الهواء أربعة أشبار.
قلت: وقد ظفرت بذلك كله في كلام ابن جبير في رحلته، غير ما يتعلق بالقائم المذكور، ومن ذلك أخذ المجد وصف القائم بكونه مجددا، وكانت رحلة ابن جبير عام ثمانين وخمسمائة، فاستفدنا بذلك وجود ذلك الصندوق قبل الحريق في ذلك الزمان، وما ذكره من أن الصندوق المذكور قبالة الرأس الشريف فيه تجوّز؛ لأنه قد ظهر لنا في هذه العمارة أنه في محاذاة الجدار الداخل القبلي، وسيأتي أن الوجه الشريف إلى الجدار؛ فالرأس الشريف متأخر عن الصندوق المذكور يسيرا.
ومستند المجد وغيره في هذا الإطلاق ما روى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه عن أبيه عن جده أنه كان إذا جاء يسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وقف عند الأسطوانة التي تلي الروضة، ثم يسلم، ثم يقول: ها هنا رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به ما قدمناه، والله أعلم.
وذرع الصندوق المذكور في الارتفاع ذراع ونصف وربع بذراع اليد، وأعلى القائم فوقه محاذ لرأس الوزرة الرخام، وطول القائم المذكور ثلاثة أذرع، وهو خمس صفحات ألصق بعضها على بعض وجعلت محيطة بما ظهر من الأسطوانة التي الصندوق بأصلها فوقه؛ فإن بعض الأسطوانة في البناء الملاصق لها من الحائز المذكور ولو أحاطت الصفحات بجميع الأسطوانة لكانت أكثر من خمس، ولكانت شكلها مثمنا، وهو مختم بالخشب الأسود الهندي، معصب بصفائح الفضة المموهة طولا وعرضا بأحسن صناعة، وصفائحه الطولية من الفضة أربع، والمقاطعة لها من جهة العرض خمس، وفي رأسه من أعلاه حلية رقيقة كالزيق، وزنة ما عليه من الفضة زيادة على ألفي قفلة، وأخذوا لأجل تمويهه من حاصل المسجد أربعين مثقالا من الذهب كما أخبرني به متولي العمارة.
وأما الصندوق فلم يغير، كله مغشى بالفضة، وقد احترق في حريق المسجد الثاني، ووجدوا حليته من الفضة، فجددوا صندوقا في محله وجعلوا موضع القائم الذي كان فوقه رخاما كتوبا فيه البسملة والصلاة والتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلّم والترضي عن أصحابه وغير ذلك.(2/134)
وأما المسمار المواجه للوجه الشريف فقد تقدم أن بينه وبين أول الصفحة الغربية من المغرب خمسة أذرع، وقد اعتبرت ذلك فنقص يسيرا نحو سدس ذراع، وكأنه لاختلاف الأذرعة، ولم أعلم ابتداء حدوث التعليم بهذا المسمار أيضا، والمذكور في كلام المتقدمين إنما هو التعريف بأن يجعل القنديل على رأسه، لكن قال المطري: إن ما ذكر من القيام تحت القنديل تجاه الحجرة الشريفة للسلام كان قبل احتراق المسجد الشريف؛ فإنه لم يكن يقابل وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا قنديل واحد؛ ولما جدد جعل هناك عدة قناديل، وإنما علامة الوقوف تجاه الوجه الكريم اليوم مسمار فضة في رخامة حمراء، انتهى. وهو يوم حدوث التعليم به بعد الحريق، ولأن ابن جبير ذكره في رحلته وهو أقدم من ابن النجار فقال عند وصف الحجرة الشريفة: وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم مسمار فضة هو أمام الوجه الكريم، فتقف الناس أمامه للسلام، انتهى. وأيضا فقد روى ابن الجوزي في «مثير الغرام الساكن» أن ابن أبي مليكة كان يقول: من أحب أن يقوم وجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه، ثم قال ابن الجوزي: وثم ما هو أوضح علما من القنديل، وهو مسمار من صفر في حائط الحجرة، إذا حاذاه القائم كان القنديل فوق رأسه، انتهى.
وقال يحيى في كتابه: كان بن أبي مليكة يقول: إذا جعلت القنديل على رأسك والمرمرة المدخولة في جدار القبر قبالة وجهك استقبلت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: وكأن هذا المسمار في موضع تلك المرمرة، ولهذا قال ابن النجار: إن اليوم هناك علامة واضحة، وهي مسمار من فضة في حائط حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذا قابله الإنسان كان القنديل على رأسه، فيقابل وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم، انتهى.
ولم أر لهذا المسمار ذكرا في كلام من صنّف في المناسك قبل ابن جماعة، والذي في مناسك ابن الصلاح أخذا من الإحياء ذكر القنديل، وجعله حذار رأس الزائر، ونقله عن ابن أبي مليكة، واقتضى كلامه أن الواقف هناك يكون بينه وبين السارية التي عند رأس القبر عند زاويته الغربية وهي أسطوان الصندوق نحو أربعة أذرع؛ فهو قريب مما تقدم في التعليم بالمسمار المذكور، وإن لم يصرح به، لكن قال الأقشهري ومن خطه نقلت: أخبرنا الإمام العالم رضي الدين أبو أحمد إبراهيم بن محمد بن أبي بكر إمام مقام إبراهيم الخليل بمكة توفي في تاسع شهر ربيع الأول من عام اثنين وعشرين وسبعمائة والشيخ الوزير أبو عبد الله محمد بن أبي بكر محمد بن عيسى المومناني قالا: أخبرنا الإمام أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح السهروردي قال: ثم يأتي الزائر الصريح المقدس فيستدبر القبلة ويستقبل جداره نحو ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع من الجدار وجاه المسمار الذي في الجدار القبلي من(2/135)
الحجرة المشرفة، هذا ما نقلته من خط الأقشهري بحروفه، ولم أره في كلام ابن الصلاح، والذي نقله ابن عساكر في تحفته عن ابن الصلاح وهو من تلامذته إنما هو ما قدمناه، وروايته عن إبراهيم الطبري عن ابن الصلاح تخليط؛ فإن وفاة ابن الصلاح في سنة ثلاث وأربعين وستمائة، والذي أدركه إنما هو والد إبراهيم المذكور، وهو المعروف بالرضي الطبري، فإن مولد الوالد المذكور سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فإنما أدرك من زمن ابن الصلاح عشر سنين، فكيف يكون ولده راويا عن ابن الصلاح بلا واسطة؟
وقال الأقشهري عقب ما تقدم عنه: وقد سقط هذا المسمار سنة عشرين وسبعمائة، ولم يردّ إلى موضعه إلا في رجب عام أربع وعشرين وسبعمائة.
قلت: وقد أخرج في هذه العمارة من موضعه عند ترخيم جدار الحجرة الشريفة، ثم أعيد في محله الأول بعينه في الرخامة الحمراء التي كان بها، ثم سقط من محله في الحريق الثاني، وجدد مسمار آخر في محله، ولا يختلف أحد ممن أدركناه بالمدينة الشريفة في أن ذلك الموضع تجاه الوجه الشريف، وهو الذي يقتضيه الحال عند مشاهدة الحجرة الشريفة من داخلها، غير أني رأيت في كلام يحيى ما يوهم خلاف ذلك، فإنه ذكر أن الموضع الذي يواجه الوجه الشريف هو ما بين الأسطوانة المتوسطة في قبلة جدار قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، بين هذا الموضع وبين الأسطوان شبران وثلاث أصابع متفرجة من الحفيرة إلى الوسطى، وإن كل من أدركه من أهل بيته كانوا إذا وقفوا للسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم وقفوا قريبا من هذا الموضع، وكانت ثم علامة قد تعلموا بها حفيرة ولم تزل ثمّ منذ علمت إلى أن عمر الصانع المسجد في ولاية أمير المؤمنين المتوكل فإنه أزر القبر بالرخام فذهبت العلامة منذ ذلك. وقال: إن موسى بن جعفر قال: من وقف في هذا الموضع منحرفا واضعا شق وجهه الأيمن استقبل وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان علي بن الحسين يقف ثم، انتهى.
قلت: الأسطوانة الوسطى التي يشير إليها هي البارزة في الصفحة القبلية من جدار القبر، يقف قربها المسلم على عمر رضي الله عنه، وبينها وبين المسمار المذكور نحو ثلاث أذرع أو أزيد، وقد قال: إن الموضع الذي ذكره بينه وبين الأسطوانة المذكورة شبران وثلاثة أصابع، فيكون بعيدا من المسمار المذكور بنحو الذراعين وقد شاهدنا الأسطوانة المذكورة من داخل الحجرة فرأيناها قريبة من نهايتها، بحيث إن من دفن هناك ووجهه في محاذاة الموضع الذي ذكره يحيى كانت رجلاه في جدار الحجرة الشرقي كما نقل ذلك في دفن عمر رضي الله عنه، فيبعد كل البعد كون الوجه الشريف في محاذاة ذلك الموضع، على أن ما نقله عن موسى بن جعفر يقتضي أن استقبال الوجه الشريف للواقف في الموضع الذي ذكره إنما يكون مع الانحراف ووضع شق الوجه الأيمن يعني على جدار القبر، وعلى هذا فيستقبل(2/136)
الزائر جهة المغرب حتى يحصل ذلك، وذلك لأن الحائط القبلي منحرف كما أشرنا إليه في التصوير المتقدم، فلا يقتضي ذلك أن المستقبل للمحل الذي عينه من غير وضع وجهه يكون مقابلا للوجه الشريف، وإنما يسامت الواقف الوجه الشريف إذا حاذى المسمار المتقدم وصفه، وكأن يحيى يرى أن الزائر يلصق خده بجدار القبر على الهيئة السابقة، فيصير محل المسمار المذكور أمامه، ولذلك أورد عقب ما تقدم عنه قصة أبي أيوب الأنصاري الآتي ذكرها في التزامه القبر.
واعلم أن تشبيك باب المقصورة التي حدثت إدارتها على ما حول الحجرة الشريفة قد يمنع من مشاهدة المسمار المذكور إلا لمن يتأمل ذلك من تشبيكه، وذلك يشغل قلب الزائر، وقد تحرر لنا أن ما يقابله من ذلك هو الصرعة الثانية من باب المقصورة القبلي الذي على يمين مستقبل القبر الشريف، فمن حاذى هذه الصرعة كان محاذيا لذلك، وهذا المسمار مموّه بالذهب رأسه مستدير، وقد أحدث متولي العمارة مسمارا آخر رأسه فضة، لكنه في أول هذه الصفحة القبلية مما يلي المغرب قريبا من جهة الصندوق المتقدم وصفه، ورأس هذا المسمار مكوكب كالقبة، فلا يشتبه بالمسمار المتقدم، وأحدث أيضا مسمارين آخرين في ابتداء الصفحة الغربية مما يلي القبلة قريبا من مسماره المتقدم، وما علمت السبب في إحداث ذلك، وقد زالت هذه المسامير الثلاثة المحدثة بالحريق الثاني.
وأما الموضع المعروف بمقام جبريل عند مربعة القبر فقد تقدم أنه كان هناك مسمار في منحرف المربعة إلى الزاوية الشمالية من الحجرة علامة عليه، فلم نجده هناك، وسألت عنه الخدام والمرخمين فقالوا: إنهم لم يجدوا هناك شيئا، وتسمية ذلك الموضع بمقام جبريل تقدم مستنده في الكلام على أسطول مربعة القبر، ولم أدر لم سمي بذلك، إلا أن ابن جبير ذكر هذا المحل من الحجرة الشريفة، وقال: وعليه ستر مسبل يقال: إنه كان مهبط جبريل عليه السلام، انتهى. لكن ترجم ابن شبة في كتابه لمقام جبريل ثم قال: قال أبو غسان: علامة مقام جبريل عليه السلام التي يعرف بها اليوم أنك تخرج من الباب الذي يقال له باب آل عثمان، فترى على يمينك إذا خرجت من ذلك الباب على ثلاثة أذرع وشبر وهو من الأرض على نحو من ذراع وشبر حجرا أكبر من الحجارة التي بها جدار المسجد، قال: فكان مالك بن أنس يقول، وسقط ما بعد ذلك من كتاب ابن شبة فلم أدر ما هو، لكن يستفاد من ذلك حكاية خلاف في مقام جبريل: هل هو داخل المسجد عند المربعة المذكورة أو خارجه عند باب آل عثمان وهو المعروف اليوم بباب جبريل؟ ولعل ذلك سبب تسمية الباب المذكور بذلك، كما ستأتي الإشارة إليه.
وقال ابن زبالة: أخاف المسجد من شرقيه في سلطان محمد بن عبد الله بن سليمان(2/137)
الربعي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب من ناحية موضع الجنائز، فأمر به فبنى، وتعلم مقام جبريل عليه السلام بحجر ونقش فيه خاتم سليمان ومشق لأن يعرف به مقام جبريل، ومقام جبريل يمناه داخل في المسجد، فبلغ ذلك مالك بن أنس، فتكلم فيه وأنكره وعابه، فغير وجعل مكانه حجر طويل مصمت لا علم فيه مخالف لحجارة المسجد، انتهى؛ فيحتمل أن يريد بقوله «ومقام جبريل يمناه داخل المسجد» الموضع المتقدم ذكره من الحجرة الشريفة، ويحتمل أن يريد أن الباب قد قدم عن محله الأول في محاذاته، فصار مقام جبريل داخل المسجد في محاذاة ذلك، ويرجح هذا أن الظاهر أن الأصل في مقام جبريل ما قدمناه في غزة بني قريظة من رواية صاحب الاكتفاء أن جبريل عليه السلام أتى في ذلك اليوم على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، وإن على وجه جبريل لأثر الغبار، اه؛ فلذلك سمي الباب المذكور بباب جبريل؛ إذ لم يكن حينئذ للمسجد باب في ناحية الجنائز غيره.
وفي رواية البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عندنا، فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فزعا، فقمت في أثره، فإذا بدحية الكلبي، فقال: هذا جبريل عليه السلام يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة، والله أعلم.
كسوة الحجرة النبوية
وأما كسوة الحجرة الشريفة فقد ذكر ابن النجار ما قدمناه في تأزير الحجرة الشريفة بالرخام وعمل الجواد الأصبهاني في الشباك المتخذ من خشب الصندل المتقدم وصفه على جدارها، ثم قال: ولم تزل الحجرة الشريفة على ذلك حتى عمل لها الحسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة من الديبقي الأبيض، وعليها الطروز والجامات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر، ونيطها وأدار عليها زنارا من الحرير الأحمر، والزنار مكتوب عليه سورة (يس) بأسرها، وقيل: إنه غرم على هذه الستارة مبلغا عظيما من المال، وأراد تعليقها على الحجرة، فمنعه قاسم بن مهنى أمير المدينة وقال: حتى تتأذن الإمام المستضيء بأمر الله.
فبعث إلى العراق يستأذن في تعليقها، فجاءه الإذن في ذلك، فعلقها نحو العامين، ثم جاءت من الخليفة ستارة من الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة وعلى دوران جاماتها مكتوب بالرقم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعلى طرازها اسم الإمام المستضيء بأمر الله، فشيلت تلك ونفذت إلى مشهد علي بن أبي طالب بالكوفة، وعلقت هذه عوضها، فلما ولي الإمام الناصر لدين الله نفذ ستارة أخرى من الإبريسم الأسود، وطرزها وجاماتها من الإبريسم الأبيض، فعلقت فوق تلك، فلما حجت الجهة أم الخليفة(2/138)
وعادت إلى العراق عملت ستارة من الإبريسم الأسود أيضا على شكل المذكورة ونفذتها فعلقت على هذه، ففي يومنا هذا على الحجرة ثلاث ستائر بعضهن على بعض، انتهى.
وهو يقتضي أن ابن أبي الهيجاء أول من كسا الحجرة في خلافة المستضيء بأمر الله، وكانت خلافته في سنة ست وستين وخمسمائة، ومات سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وفي كلام رزين ما يقتضي مخالفته؛ فإنه قال في ضمن كلام نقله عن محمد بن إسماعيل ما لفظه:
فلما كانت ولاية هارون أمير المؤمنين وقدمت معه الخيزران أمرت بتخليق مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتخليق القبر وكسته الزنانير وشبائك الحرير، انتهى.
وقد رأيت في العتبية ما يصلح أن يكون مستندا في أصل الكسوة، فإنه قال في أوائلها: قيل لمالك: قلت إنه ينبغي أن ينظر في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف يكسون سقفه، فقيل:
يجعل عليه خيش، فقال: وما يعجبني الخيش، وإنه ينبغي أن ينظر فيه، انتهى.
قال ابن رشد في بيانه: كره مالك كشف سقف قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورأى من صونه أن يكون مغطّى، ولم ير أن يكتفي من ذلك بالخيش، وكأنه ذهب إلى أن يغطي بتغطية البيوت المسكونة، ولقد أخبرني من أثق به أنه لا سقف له اليوم تحت سقف المسجد، انتهى.
وقد يضم إلى ذلك أنه إنما جاز كسوة الكعبة لما فيه من التعظيم، ونحن مأمورون بتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتعظيم قبره من تعظيمه، وهذا أولى بالجواز مما سيأتي عن السبكي في مسألة القناديل من الذهب حيث سلك بها هذا المسلك، وليس في كلام ابن زبالة ويحيى تعرض لأمر كسوة الحجرة، ولعله لأنها إنما حدثت بعدهما، مع أن ابن زبالة ذكر ما قدمناه في كسوة المنبر الشريف وجعل الستور على الأبواب، ونقل أن كسوة الكعبة كان يؤتى بها المدينة قبل أن تصل إلى مكة، فتنشر في مؤخر المسجد، ثم يخرج بها إلى مكة، ولم يذكر للحجرة كسوة.
ثم ذكر تخليق الحجرة والمسجد فقال: وقدمت الخيزران أم موسى أمير المؤمنين المدينة في سنة سبعين ومائة، فأمرت بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم فخلّق، وولي ذلك من تخليقه مؤنسة جاريتها، فقام إليها إبراهيم بن الفضل بن عبيد الله بن سليمان مولى هشام بن إسماعيل فقال: هل لكم أن تسبقوا من بعدكم وأن تفعلوا ما لم يفعل من كان قبلكم؟ قالت له مؤنسة: وما ذلك؟ قال: تخلّقون القبر كله، ففعلوا، وإنما كان يخلق منه ثلثاه أو أقل، وأشار عليهم فزادوا في خلوق أسطوان التوبة والأسطوان التي هي علم عند مصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم فخلقوهما حتى بلغوا بهما أسفلهما، وزادوا في الخلوق في أعلاهما، انتهى ولو كان لكسوة الحجرة وجود في زمانه لتعرض له.
واعلم أن في عشر الستين وسبعمائة في دولة السلطان الصالح إسماعيل بن الملك(2/139)
الناصر محمد بن قلاون اشترى قرية من بيت مال المسلمين بمصر، ووقفها على كسوة الكعبة المشرفة في كل سنة، وعلى كسوة الحجرة المقدسة والمنبر الشريف في كل خمس سنين مرة، هكذا ذكره التقي الفاسي في شفاء الغرام.
وذكره الزين المراغي إلا أنه قال في الوقف على كسوة الحجرة: في كل ست سنين مرة، تعمل من الديباج الأسود المرقوم بالحرير الأبيض، ولها طراز منسوج بالفضة المذهبة دائر عليها، إلا كسوة المنبر فإنها بتقصيص أبيض.
قلت: وما ذكراه من المدة المذكورة بالنسبة إلى الحجرة كأنه كان معمولا به في زمانهما، وأما في زماننا فيمضي عشر سنين ونحوها ولا تعمل، نعم كلما ولي ملك بمصر فإنه يعتني بإرسال كسوة.
وذكر الحافظ ابن حجر في الكلام على كسوة الكعبة أن الصالح هذا اشترى حصة من بلد يقال لهل سندبيس، اشترى الثلثين منها من وكيل بيت المال، ووقفها على هذه الجهة، ولم يتعرض لكسوة الحجرة، فلعل الثلث الثالث الذي لم يذكره يتعلق بكسوة الحجرة لما قدمناه، ويحتمل أن ما يرد من الكسوة من جهة الملوك، لا من وقف، وعادتهم إذا وردت كسوة جديدة قسم شيخ الخدام الكسوة العتيقة على الخدام ومن يراه من غيرهم، ويحمل إلى السلطان بمصر منها جانبا، وحكم بيع كسوة الحجرة كحكم بيع كسوة الكعبة، وقد اختلف العلماء في ذلك قديما، وفي المسألة عندنا وجهان.
وقال الحافظ صلاح الدين خليل العلائي: إنه لا يتردد في جواز ذلك الآن؛ لأن وقف الإمام للضيعة المتقدمة على الكسوة كان بعد استقرار هذه العادة والعلم بها، فينزل لفظ الواقف عليها، انتهى، والله أعلم.
الفصل الخامس والعشرون في قناديل الذهب والفضة التي تعلق حول الحجرة الشريفة، وغيرها من معاليقها
القناديل
اعلم أني لم أر في كلام أحد ذكر ابتداء حدوث ذلك، إلا أن ابن النجار قال ما لفظه:
وفي سقف المسجد الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا معلّق نيف وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة والساذجة، وفيه اثنان بللور، وواحد ذهب، وفيها قمر من فضة مغموس في الذهب، وهذه تنفذ من البلدان من الملوك وأرباب الحشمة والأموال، انتهى.(2/140)
قلت: واستمر عمل الملوك وأرباب الحشمة إلى زماننا هذا على الإهداء إلى الحجرة الشريفة قناديل الذهب والفضة.
ورأيت بحط شيخنا العلامة ناصر الدين العثماني أشياء نقلها من خط قاضي طيبة الزين عبد الرحمن بن صالح يتضمن ما كان يرد في كل سنة من ذلك؛ فذكر في سنة خمسة عشر قنديلا، وفي أخرى ثلاثة عشر، وفي أخرى عشرة، وفي أخرى إحدى وعشرين.
قلت: وفي زماننا هذا يرد في غالب السنين ما يزيد على العشرين، ولا ضابط لذلك؛ فإنه يرد من نذور من ناس مختلفين، وكأن هذه القناديل كانت إذا كثرت رفعوا بعضها ووضعوه بالحاصل الذي في وسط المسجد، فاجتمع فيه شيء كثير فاتفق على ما ذكره الحافظ ابن حجر في سنة إحدى عشرة وثمانمائة أن فوض السلطان الناصر فرج لحسن بن عجلان سلطنة الحجاز، فاتفق موت ثابت بن نغير، وقرر حسن مكانه أخاه عجلان ابن نغير المنصوري، فثار عليهم جماز بن هبة بن جماز الجمازي الذي كان أمير المدينة، وأرسل إلى الخدام بالمدينة يستدعيهم، فامتنعوا من الحضور إليه، فدخل المسجد الشريف، وأخذ ستارتي باب الحجرة، وطلب من الخدام تسعة آلاف درهم على ألايتعرض لحاصل الحرم، فامتنعوا، فضرب شيخهم، وكسر قفل الحاصل، هكذا رأيته في «أنباء الغمر» للحافظ ابن حجر.
والذي رأيته في محضر عليه خطوط غالب أعيان المدينة الشريفة ما حاصله: أن جماز بن هبة المذكور كان أمير المدينة، فبرزت المراسيم الشريفة بتولية ثابت بن نغير إمرة المدينة وأن يكون النظر في جميع الحجاز لحسن بن عجلان، ولم يصل الخبر بذلك إلا بعد وفاة ثابت بن نغير، فأظهر جماز بن هبة الخلاف والعصيان وجمع جموعا من المفسدين وأباح نهب بعض بيوت المدينة، ثم حضر مع جماعة إلى المسجد الشريف، وأهان من حضر معه من القضاة والمشايخ وشيخ الخدام باليد واللسان، وشهر سيفه عليهم، وكسر باب القبة حاصل الحرم الشريف، وأخذ جميع ما فيها من قناديل الذهب والفضة التي تحمل على تعاقب السنين من سائر الآفاق تقربا إلى الله ورسوله وأشياء نفيسة وختمات شريفة وزيت المصابيح وشموع التراويح وأكفان ودراهم يواري بها البطحاء، وقطع مكاتيب الأوقاف وغسلها، وقصد الحجرة الشريفة، وأحضر السلم لإنزال كسوة الضريح الشريف والقناديل المعلقة حوله، فلم يقدّر له ذلك ومنعه الله منه، وأخذ ستر أبواب الحجرة الشريفة من خزانة الخدام، وتعطل في ذلك اليوم وليلته والذي يليها المسجد الشريف من الأذان والإقامة والجماعة، وأخذ جماعته وأقاربه في نهب بيوت الناس ومصادرتهم، وأخذ جمال السواني، وارتحل هاربا عقب ذلك، ولما اتصل بحسن بن عجلان ما فوض إليه من أمر الحجاز استدعى بعجلان بن نغير وأقامه في إمرة المدينة، وعرفه ما برزت به المراسيم أولا في ولاية أخيه، انتهى.(2/141)
وذكر الحافظ ابن حجر أنه أخذ من الحاصل المذكور إحدى عشر خوشخانا وصندوقين كبيرين وصندوقا صغيرا بما في ذلك من المال وخمسة آلاف شقة من البطاين، وصادر بعض الخدام، ونزح عنها؛ فدخل عجلان بن نغير ومعه آل منصور فنودي بالأمان، ثم قدم عقبه أحمد بن حسن بن عجلان ومعه عسكر، يعني من مكة.
قلت: ورأيت بخط شيخنا العلامة ناصر الدين المراغي قائمة ذكر أنه نقلها من خط قاضي طيبة الزين عبد الرحمن بن صالح صورتها: الذي كان في القبة، وأخذه جماز بن هبة، هو من القناديل الفضة ثلاثة وعشرون قنطارا وثلث قنطار، غير الذي في الرفوف، والصندوقين الذهب، ثم ذكر تفصيل ذلك في ثمان عشرة وزنة، ثم كتب ما صورته:
خوشخانة مختومة لم تفتح، والظاهر أنها ذهب، وزنة القناديل التي في الرفوف أربع قناطير إلا ثلث، وتسع قناديل ذهب بالعدد في صندوق، وصندوق صغير مقفول، انتهى.
وبلغنا أنه دفن غالب ذلك، ثم أخذه الله أخذا وبيلا فقتل هو ومن اطلع معه على دفن ذلك، فلم يعلم مكانه إلى اليوم.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر قتله في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة فقال: وفيها قتل جماز بن هبة ابن جماز بن منصور الحسيني أمير المدينة، وقد كان أخذ حاصل المدينة ونزح عنها، فلم يمهل وقتل في حرب جرت بينه وبين أعدائه، انتهى.
قلت: إنما بيتته بعض عرب مطير فاغتاله وهو نائم.
ورأيت في القائمة المتقدم ذكرها التي نقلها شيخنا المتقدم ذكره ما صورته: وزن ما في الحجرة من قناديل الذهب تسع قناطير، وورد بعد ذلك من أم السلطان قنديل زنته ألف مثقال، وورد من أخت السلطان قنديل زنته ألف وخمسمائة، وأربع قناديل كبار في الواحد منهم أربعة صغار، وفي الثاني اثنان صغار، وفي الثالث عدة قناديل معفوسة، وفي الرابع قنديل، زنة الجميع ثلاثة آلاف وسبعمائة وعشرون مثقالا، وعلى يد الطواشي صندل قنديلين صغار، ومعلق بعد ذلك عدة قناديل لم تكتب، انتهى.
والظاهر أنه سقط بعد قوله «من قناديل الذهب» لفظ «والفضة» وفي هذه القائمة أيضا أن بالقبة- يعني قصة جماز المتقدمة- من قناديل الفضة مائة رطل وسبعة عشر رطلا وضعها بيسق بيده، انتهى.
ثم إن الأمير غرير بن هيازع بن هبة الحسيني الجمازي أخذ جانبا من الحاصل المذكور في سنة أربع وعشرين وثمانمائة، زاعما أنه على سبيل القرض، وامتحن بعض قضاة المدينة لسبب ذلك، ثم حمل غرير المذكور إلى القاهرة محتفظا به، ومات بها مسجونا.
ولم تزل هذه القناديل في زيادة حتى عدا عليها في ليلة السابع والعشرين من ذي الحجة(2/142)
سنة ستين وثمانمائة برغوث بن بتير بن جريس الحسيني؛ فدخل الدار المعروفة بدار الشباك بجانب باب الرحمة ليلا، ولم يكن بها ساكن، وتسوّر جدار المسجد، ودخل بين سقفي المسجد الشريف من شباك هناك، ومشى حتى بلغ ما يحاذي سقف الحجرة الشريفة، فأخذ من تلك القناديل شيئا كثيرا، وكأنه تردد لذلك المرة بعد الآخرى، ولم يشعر أهل المسجد ونظاره بشيء من ذلك، غير أن أمة لبعض جيران الدار المذكورة رأت من سطح دارهم شخصين في أعلى دار الشباك يتعاطيان شيئا له حجم كبير وصوت صليل، فلما أصبحت أخبرت بواب المسجد فلم يعبأ بذلك لخلو تلك الدار، وبعد ذلك الأمر عن الأفكار، ولكن الله أراد هتك المذكور وحلول النقمة به، فأنهى بعض الناس إلى أمير المدينة أن المذكور معه شيء كثير من المال غير معهود، فأمسكه الأمير وضيّق عليه بالسجن، فانخلس ليلا، ثم شاع بالمدينة بيع شبابيك من الفضة والذهب، فكثر القال والقيل، ثم في شهر ربيع الأول من سنة إحدى وستين استفاض أن برغوثا بالينبع ومعه قطع من ذهب القناديل، فافتقد النظار الحجرة الشريفة، فرأوا أكثر القناديل مأخوذا، فعلموا الحال، لكن لم يعلموا الكيفية، واتهمت ابنة السراج النفطي بممالأة برغوث على ذلك وأنه إنما تسور من بيت أبيها لكونه متصلا بالمسجد في قبلته، وأظهر الله براءتها بعد ذلك، وكان بالمدينة إذ ذاك زين الدين استدار الصحبة فعقد مجلسا لذلك، واجتمع أعيان أهل المدينة، وكتبوا إلى أمير الينبع بالقبض على برغوث وإرساله، فقبض عليه، فاعترف أنه فعل ذلك هو ودبوس بن سعد الحسيني الطفيلي، وجعل أن دخوله من بيت المرأة المتقدم ذكرها، وأن بعض الخدام واطأه على ذلك، ثم أظهر الله الحق، وأن دخوله إنما كان من دار الشباك، وأن شريكه المعين له على ذلك دبوس المذكور، ولم ير أمير ينبع إرساله إلى المدينة، بل تركه عنده منتظرا الأوامر السلطانية، ثم إن أمير المدينة أمسك دبوسا وبعض أقاربه، فأنكر هو، وأقر عليه بعض جماعته وأحضروا جانبا من الذهب والفضة، ثم هرب برغوث من الحبس بالينبع، ثم ساقه الله إلى المدينة، فلما وصل دلّ عليه أميرها، فأمسكه وحبسه مع دبوس وذويه، فهربوا، ثم أظفر الله بهم، ولم يغب منهم إلا دبوس، وبرزت المراسيم بقتل من تجرأ على هذه العظيمة، فقتل أمير المدينة برغوثا وآخر معه من أقاربه يسمى ركابا، وصلبهما، ثم ظفر بدبوس وقتله أيضا.
وأخبرت عن برغوث أنه قال: كنت كلما توجهت في حال هربي لغير جهة المدينة كأني أجد من يصدني عن ذلك، وإذا قصدت جهة المدينة تيسرت لي وكأن شخصا يقودني إليها حتى دخلتها.
وأما عدة القناديل الموجودة في زماننا هذا بالحجرة الشريفة فقد ضبطت في أول سنة(2/143)
إحدى وثمانين وثمانمائة بأمر السلطان الأشرف لشيخ الحرم الأمير انيال والقضاي الزكوي؛ فكان عدة معاليق الذهب ثمانية عشر قنديلا وبعض قنديل، وأربع مشنات، ومغرافان، وسواران، وزنة ذلك سبعة آلاف قفلة وستمائة وخمسة وثلاثون، من ذلك قنديل كبير في جهة الوجه الشريف زنته أربعة آلاف وستمائة قفلة، أهداه سلطان الكلرجه شهاب الدين أحمد، وعدة معاليق الفظة ثلاثمائة قنديل وأربعة وأربعون قنديلا، وثرية كبيرة، زنة ذلك ستة وأربعون ألف وأربعمائة وخمسة وثلاثون قفلة، وكانت ضبطت قبل ذلك في سنة اثنتين وستين وثمانمائة على يد الأمير بردبك التاجي فتحرر من النظر بين المقدارين أن الزائد على ما ضبط في التاريخ المتقدم من الذهب ألف قفلة ومائة وخمسة وخمسون، ومن الفضة ثلاثة عشر ألف قفلة وسبعمائة وخمسة وثمانون قفلة، فذلك القدر هو الوارد من عام ثلاث وستين إلى آخر عام تسع وسبعين، وهناك من المعاليق أيضا غير ما تقدم قنديل من بلور بتابوت من فضة، وقناديل نحاس أربعة، وفولاذ واحد مكفّت بالذهب مشبك مكتوب عليه أن الناصر محمد بن قلاوون علقه من يده إلى عام حجه، ثم ورد في سنة ثمانين في مشيخة الشيخ انيال ولم يدخل في الجملة المتقدمة قنديلان من الذهب زنتهما مائة وخمسة وعشرون قفلة، ومن الفضة اثنان وثلاثون قنديلا زنتها ألف ومائتان وخمسة وسبعون قفلة، وفي سنة إحدى وثمانين قنديل ذهب زنته مائة واثنان وأربعون قفلة، وأربعة وعشرون قنديلا من الفضة زنتها تسعمائة وخمسون قفلة، وفي سنة اثنين وثمانين من الفضة أحد وثلاثون قنديلا زنتها ألف وخمسمائة وخمسون قفلة، ولم يرد شيء من الذهب، وفي سنة ثلاث وثمانين من الذهب قنديل واحد زنته عشرون قفلة، ومن الفضة خمسة وعشرون قنديلا زنتها ألف ومائة وخمسة وثلاثون قفلة، وفي سنة أربع وثمانين من الفضة تسعة عشر قنديلا زنتها سبعمائة وخمسة وأربعون قفلة، ولم يرد شيء من الذهب؛ فجملة ما ورد في ولاية الأمير انيال في المدة المذكورة من الذهب أربعة قناديل جملة زنتها مائتان وسبعة وثمانون قفلة، ومن الفضة مائة قنديل وتسعة وعشرون قنديلا جملة زنتها خمسة آلاف وستمائة وخمسة وخمسون قفلة، ولما شرعوا في عمارة الحجرة الشريفة الآتي ذكرها في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة رفعوا جمع المعاليق التي كانت حولها، ووضعت بالقبة التي بصحن المسجد بأمر متولي العمارة الجناب الشمسي، ولم يزل بها إلى تاريخه، ولم يكن اليوم حول الحجرة الشريفة من المعاليق إلا ما تجدد في آخر سنة إحدى وثمانين إلى آخر سنة أربع وثمانين، ثم حسّن متولي العمارة للسلطان صرف ذلك في مصالح المسجد والمدينة الشريفة، فحمل بعضه من الحاصل المذكور إلى مصر قبيل الحريق الثاني، ثم وجدوا ما سقط لسبب الحريق من القناديل التي كانت معلقة بحالها، ثم صرف متولي العمارة بعض ذلك في تذهيب السقف المعادة بعد الحريق، ثم(2/144)
وضع بهذه القبة ما تجمد من مصاريف حب السماط المجدد، فاجتمع بها نحو ثلاثة عشر ألف دينار، فاتفق أن أمير المدينة حسن بن زبيري المنصوري حضر بجماعة مع الاستعداد بالأسلحة والسيوف المسلولة؛ فدخل المسجد الشريف على تلك الحالة وقت الظهر من سادس ربيع الأول عام أحد وتسعمائة، وأمر خازندار الحرم الشريف بإحضار مفاتيح الحاصل المذكور، فامتنع من ذلك، فضربه ضربا مبرحا، ثم عمد إلى باب الحاصل المذكور وأحضر فأسا وكسره وأخذ جميع ما فيه من النقد والقناديل والسبايك، فحمل منه ثلاثة أحمال على فرسين وبغل وغراير تسع على ظهور الحمالين، ثم ذهب إلى حصنه وأحضر الصياغ وسبك تلك القناديل، وذكر أنه صنع ذلك رغبة عن إمرة المدينة؛ لأن ولايته كانت بطريق النيابة عن السيد الشريف محمد بن بركات لتفويض السلطان الأشرف إليه أمر الحجاز وأن المشار إليه صار يأخذ حصته مما يحمل له من الإقطاع ومن الصدقات، وعطل عليه أهل مصر بعض إقطاعه، فحمله ذلك على ما سبق.
حكم معاليق المسجد النبوي
أما حكم هذه المعاليق ونحوها من تحلية الصندوق المتقدم ذكره والقائم الذي بأعلاه فحكم معاليق الكعبة الشريفة وتحليتها، وقد تكلم السبكي في حكم قناديل الكعبة وحليتها والقناديل التي حول الحجرة الشريفة، وألّف في ذلك كتابا سماه «تنزل السكينة، على قناديل المدينة» فأورد حديث البخاري وغيره في كنز الكعبة وما تضمنه من إقرار النبي صلّى الله عليه وسلّم له بمحله، ثم أبي بكر بعده، ورجوع عمر رضي الله عنه لذلك لما ذكره به ابن شبة، وقال:
هما المرآن يقتدي بهما، قال: فهذا الحديث عمدة في مال الكعبة، وهو ما يهدى إليها أو ما ينذر لها وما يوجد فيها من الأموال.
قال ابن بطال: أراد عمر إنفاقه في منافع المسلمين، ثم لما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتعرض له أمسك، وإنما ترك ذلك والله أعلم لأن ما جعل في الكعبة وسبّل لها يجري مجرى الأوقاف؛ فلا يجوز تغييره عن وجهه، وفي ذلك تعظيم للإسلام وترهيب للعدو.
قلت: قد تعقب ذلك الحافظ ابن حجر باحتمال أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما تركه رعاية لقلوب قريش، كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة رضي الله عنه ولفظه «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض» الحديث، فهذا التعليل هو المعتمد.
قلت: لكن قد يقال: حيث تركه النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه العلة ثم تركه أبو بكر ثم عمر بعد الهم به ورجوعه عن ذلك ثم من بعده فهو إجماع على تركه؛ فلا نتعرض له؛ لما يترتب عليه من الشناعة والله أعلم.(2/145)
قال السبكي: ولا يغلط في أن ذلك يصرف إلى فقراء الحرم، فإنما يكون ذلك إذا كان الإهداء إلى الحرم أو إلى مكة، أما إذا كان للكعبة نفسها فلا يصرف إلا إليها، كأن تعرض لها عمارة فحينئذ ينظر: فإن كانت تلك الأموال قد أرصدت لذلك صرفت فيه، وإلا فيختص بها الوجه الذي أرصد له، فالمرصد للبخور مثلا لا يصرف للسترة.
قال: وأما القناديل التي فيها والصفائح التي عليها فلا يصرف منها شيء، بل تبقى على حالها، وقول عمر «لقد هممت ألاأدع فيها صفرا ولا بيضا» محتمل للنوعين، ولم ينقل إلينا صفتها التي كانت ذلك الوقت، ومن قال أول من ذهّب البيت في الإسلام الوليد لا ينفي أن يكون البيت ذهّب في الجاهلية وبقي إلى عهد عمر.
قلت: قد نقل التقي الفاسي عن خط الحافظ رشيد الدين بن المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي ما لفظه: وفيها- أي سنة خمس وستين- استتم ابن الزبير بناء الكعبة، ويقال: إنه بناها بالرصاص المذوب المخلوط بالورس، وجعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب ومفاتحها ذهبا، اه. فإن صح فهو أولى ما يحتج به.
ثم نقل السبكي عن الرافعي أنه قال: لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة وتعليق قناديلها. ثم نقل أن في تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلها وجهين مرويين في الحاوي وغيره: أحدهما: الجواز، تعظيما كما في المصحف، وكما يجوز ستر الكعبة بالديباج، وأظهرهما المنع؛ إذ لم ينقل ذلك عن فعل السلف، ثم استشكل كلام الرافعي فقال: وأما التسوية بين الكعبة والمساجد فلا ينبغي؛ لأن للكعبة من التعظيم ما ليس للمساجد، بدليل جواز سترها بالحرير إجماعا، وفي ستر المساجد به خلاف، فحكاية الخلاف فيها مشكل، وترجيح المنع أشكل، وكيف وقد فعل ذلك في صدر هذه الأمة، وقد تولى عمر بن عبد العزيز عمارة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوليد وذهّب سقفه بأمره من غير مراجعة، بل لما ولي الخلافة بعد ذلك أراد أن يزيل ما في جامع بني أمية من الذهب فقيل له: إنه لا يتحصل منه شيء يقوم بأجرة حكّه، فتركه. والصفائح التي على الكعبة يتحصّل منها شيء كثير، فلو كان فعلها حراما لأزالها في خلافته، فلما تركها ومعه جميع من يحج كل عام وجب القطع بجوازها، وهذا في تحلية الكعبة بالصفائح، ولا منع من جريان الخلاف في التمويه لإزالة المالية، ولا من إجراء الخلاف في سائر المساجد تمويها وتحلية، على أن القاضي حسين جزم بحل تحلية المسجد بالقناديل من الذهب ونحوها، وأن حكمها حكم الحلي المباح، وهذا أرجح مما قال الرافعي؛ لأنه ليس على تحريمهما دليل، والحرام من الذهب إنما هو استعمال الذكور له، والأكل والشرب ونحوهما، وليس في تحلية المسجد بالقناديل ونحوها شيء من ذلك، لكن لا أقول إنه ينتهي إلى حد القربة في سائر المساجد،(2/146)
وتعليل الرافعي لما قاله بأن ذلك لم ينقل عن فعل السلف عجيب؛ إذ لا يقتضي ذلك التحريم، ومن حرّم اتخاذ الآنية وهو الأصح فإنما حرمه لأن النفس تدعو إلى الاستعمال المحرّم، وذلك إذا كانت له، وأما إذا جعلها للمسجد فلا تدعو النفس لذلك، فكيف يحرم وهي لا تسمى أواني؟
قال: ورأيت الحنابلة قالوا بتحريمها للمسجد، وجعلوها من الأواني أو مقيسة عليها، وليس بصحيح، ومن يقول بجواز التحلية والقناديل في سائر المساجد فلا شك أنه يقول بها في المساجد الثلاثة بطريق الأولى، ومن منع فلم يصرح في المساجد الثلاثة بشيء، لكن عموم كلامهم يشملها، وينبغي ترتيب الخلاف: ففي المساجد غير الثلاثة وجهان أصحهما الجواز، ومسجد بيت المقدس أولى بالجواز، والمسجدان مسجد مكة ومسجد المدينة أولى منه، ثم المسجدان على الخلاف في تفضيلهما، وقد يقال إن مسجد المدينة أولى لمجاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقصد تعظيمه بما في مسجده من ذلك، هذا كله بحث، والمنقول ما تقدم.
وهذا في الاتخاذ من غير وقف، فإن وقف المتخذ من ذلك فقد قطع القاضي حسين والرافعي بأنه لا زكاة فيه، وقد رجح الرافعي فيها التحريم، فكيف يرجح ذلك؟ إذ مقتضاه صحة وقفها، فلعل مراد الرافعي إذا وقفت على قصد صحيح وإذا فرعنا على صحة وقفها.
قال: وهذا حكم المساجد في ذلك، وأما الحجرة الشريفة فتعليق القناديل فيها أمر معتاد من زمان، ولا شك أنها أولى بذلك من غيرها، والذين ذكروا الخلاف في المساجد لم يذكروها، وكم من عالم وصالح قد أتى للزيارة ولم يحصل من أحد إنكار لذلك.
فهذا وحده كاف في جواز ذلك مع ما تقدم، واستقراء الأدلة فلم يوجد فيها ما يدل على المنع. قال: فنحن نقطع بالجواز، والحجرة الشريفة هي بيت عائشة وما حوله، وأشار إلى بيان أن ما حوله إما منه أو من بقية الحجر المدخلة في المسجد.
قال: والمدفن الشريف بالحجرة له شرف على جميع المساجد وعلى الكعبة؛ فلا يلزم من المنع في المساجد والكعبة المنع هنا.
قال: ولم نر أحدا قال بالمنع هنا، فما وقف من ذلك إكراما لذلك المكان صح وقفه، وإن اقتصر على إهدائه صح أيضا كالمهدى للكعبة، وكذلك المنذور له، وقد يزاد هنا فيقال:
إنه مستحق للنبي صلّى الله عليه وسلّم والنبي صلّى الله عليه وسلّم حي، وإنما يحكم بانقطاع ملكه بموته عما كان في ملكه وجعله صدقة بعده.
وأما هذا النوع فلا يمتنع ملكه له، وهو الذي في أذهان كثير من الناس حيث يقولون: هذا للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أورد ما رواه يحيى بن الحسين بسنده من الخبر الآتي في إجمار المسجد عن عبد الله بن(2/147)
محمد بن عمار عن أبيه عن جده قال: أتى عمر بن الخطاب بمجمرة من فضة فيها تماثيل، فدفعها إلى سعد أحد المؤذنين، وقال: أجمر بها في الجمعة وفي شهر رمضان، فكان سعد يجمر بها بين يدي عمر بن الخطاب، الخبر الآتي.
ثم قال: عبد الله بن محمد بن عمار بن سعد القرظ ضعفه ابن معين، وكذا الراوي عنه، ومحمد بن عمار حسن له الترمذي، فلو سلم ممن دونه كان جيدا، ومقتضى اشتراط الفقهاء الاحتواء في المجمرة عدم تحريم هذا الصنيع، لكن العرف دال على عد ذلك استعمالا، فإما أن يكون الحديث ضعيفا، وإما أن يكون احتمل ذلك لأجل المسجد تعظيما له، فتكون القناديل بطريق الأولى؛ إذ لا استعمال فيها.
قال: ولا يجوز صرف شيء من قناديل الحجرة في عمارتها، ولا في عمارة المسجد؛ لأنها إنما أعدت للبقاء، وليس قصد بها جهات إلا ذلك، سواء وقفها أو اقتصر على إهدائها.
قال: وقد سئلت عن جواز بيعها لعمارة المسجد النبوي، فأنكرته واستقبحته، وكيف يبلغ ملوك الأرض أنا بعنا قناديل نبينا لعمارة حرمه ونحن نفديه بأنفسنا فضلا عن أموالنا؟
وما برحت الملوك يفتخرون بعمارته.
قلت: وقد تعقبه جماعة، والمحل قابل للمناقشة، وليس ذلك من غرضنا، غير أنا نقول: ستر الكعبة بالديباج قام عليه الإجماع، وأما التحلية بما ذكر فلم يثبت عن من يحتج بفعله، وترك عمر بن عبد العزيز يحتمل أعذارا ليس هذا محل بيانها.
وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب، والقناديل من الأواني بلا شك، واستعمال كل شيء بحسبه؛ فاستعمال ما ذكر بتعليقه للزينة، وقد سلم تحريم اتخاذ الأبنية منها أيضا.
وقد ذكر الجمال الكازروني المدني أشياء أيّد بها كلام السبكي: منها أن الله تعالى قال:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور: 36] قال: وهي بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد، ومعنى ترفع تعظم ويرفع شأنها وتزين، وتزيينها تعليق قناديل الذهب فيها، وتطهر من الأنجاس والأقذار وتطيب.
قلت: قوله «ومن تعظيمها تعليق ذلك فيها» هو محل النزاع؛ لأن من حرم ذلك لا يسلمه، والله أعلم.
ومنها: أنه روي عن عثمان تعليق قناديل الذهب بالمسجد النبوي.
قلت: ولعله من اختلاف أعدائه عليه، ولم أره مسطورا في تأليف، ولو كان له أصل لذكره مؤرخو المدينة.(2/148)
ومنها: أن عمر بن عبد العزيز فعله في بنيانه للوليد ولم ينكر عليه.
قلت: ولم أره في تأليف أيضا.
ومنها: أنه روي أن سليمان بن داود عليه السلام بنى مسجد بيت المقدس، وبالغ في زينته وتعليق القناديل فيه، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ.
قلت: لم ينقل تعليق داود عليه السلام لقناديل الذهب به، ولو صح ذلك فالناسخ في شرعنا تحريم الآنية، وهذا آنية، وما تقدم عن السبكي في كونه ليس بانية ممنوع.
ومنها: ما رواه الثعلبي في حديث إتيان المساجد يوم القيامة، وفيه «وأئمتها يسوقونها، وعمارها ومزينوها ومحلوها متعلقون بها» الحديث.
قلت: أخذ ذلك من رواية القرطبي عن الثعلبي، كما رأيته في بعض النسخ، وقد راجعت القرطبي أيضا في ذلك فرأيته روى الحديث المذكور من طريق الثعلبي، وليس فيه «ومزينوها ومحلوها» بل لفظه «وعمارها متعلقون بها» .
ومنها: ما رواه سعيد بن ربان- بالموحدة المشددة- قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند قال: حمل تميم يعني الداري من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومقطا وقنديلا أو قنديلين من الذهب، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة، فأمر غلاما يقال له أبو البراد، فقام فبسط المقط وعلق القناديل، وصب فيها الماء والزيت، وجعل فيها الفتل، فلما غربت الشمس أمر البراد فأسرجها، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد، فإذا هو بها تزهر، فقال: من فعل هذا؟ قالوا: تميم الداري يا رسول الله، فقال: نورت الإسلام، وحليت مسجده، نور الله عليك في الدنيا والآخرة! - الحديث.
قلت: قد أخذ ذلك من تفسير القرطبي، كما رأيته في بعض النسخ، وفي بعضها إسقاط عروة للقرطبي، وقد راجعت تفسير القرطبي فرأيته أورد الحديث المذكور بحروفه، وليس فيه قوله «وقنديلا أو قنديلين من الذهب» ولا قوله «وحليت مسجده» .
ومنها: ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل الشام تلقاه معاوية بعساكر وجنود كثيرة وخيول مسومة وأسلحة مخوصة بالذهب والفضة ولبوس الحرير والديباج وزينة حسنة كزينة فارس والروم، فقال عمر: ما هذا يا معاوية؟ وما هذه الزينة والفخار؟ لقد أتيت أمرا إمرا وارتقيت مرتقى صعبا، فقال: يا أمير المؤمنين هذا غيظ كفارنا، ومقهرة لأعدائنا، وإن فرائصهم لترتعد، وإن قوائمهم لتخور من ذلك، وإنا لنجد بذلك المظهر عليهم والذلة والصغار فيهم، وأشربوا في قلوبهم الرعب حين يرون مساجدنا محلاة بالذهب وسقوفها منقطة بقناديل الذهب- الخبر، وفيه أن عمر سكت عنه.
قلت: الخبر ذكره المؤرخون، ومثله لا تقوم الحجة به، ولم أر فيه الزيادة المتعلقة بتحلية(2/149)
المساجد، وقد رأيت في بعض النسخ نسبة ذلك للذهبي في تاريخ الإسلام، وأسقط العزو في نسخة أخرى، فليراجع ذلك من تاريخ الإسلام، فإن لم يكن فيه هذه الزيادة فالذي يظهر لي أن بعض المتعصبين ألحق هذه الأشياء في الروايات المتقدمة ليتم بها الاستدلال، فإن المسألة وقع فيها تعصبات، وكأن الجمال الكازروني إنما أراد إفادة أصل وضع القناديل، وذكر ما يشعر بهذا الأمر، فلما رأى ذلك المتعصب أن الاستدلال لا يتم إلا بذلك ألحقه، ولم يشعر أنه لو كان ذلك موجودا لم يكن فيه حجة لعدم اتصال السند الصحيح في ذلك.
ومن تأمل سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحواله لم يخف عليه أن كل ذلك لم يكن يعجبه في حياته، هذا الذي أعتقده، والله أعلم.
الفصل السادس والعشرون في الحريق الأول القديم المستولي على تلك الزخارف المحدثة بالحجرة الشريفة والمسجد وسقفهما، وما أعيد من ذلك، وما تجدد من توسعة المسقف القبلي بزيادة الرواقين فيه، وغير ذلك
سبب الحريق وتاريخه
قال المؤرخون: احترق المسجد النبوي ليلة الجمعة أول شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وستمائة في أول الليل، ونقل أبو شامة أن ابتداء حرقه كان من زاويته الغربية من الشمال، وسبب ذلك- كما ذكره أكثرهم- أن أبا بكر بن أوحد الفراش أحد القوّام بالمسجد الشريف دخل إلى حاصل المسجد هناك ومعه نار، فغافل عنها إلى أن علقت في بعض الآلات التي كانت في الحاصل، وأعجزه طفيها، ثم احترق الفراش المذكور والحاصل وجميع ما فيه.
وقد صنف القطب القسطلاني في ذلك وفي النار المتقدم ذكرها في الفصل الثالث من الباب الثاني وهي نار الحجاز التي ظهرت بالمدينة الشريفة في ذلك العام كتابا سماه «عروة التوثيق، في النار والحريق» ذكر فيه بدائع من حكم الله تعالى في حدوث ذلك، وقد كان القطب بمكة حين وقع ذلك، وقد نبه فيه على ما يوافق ما قدمناه عن المؤرخين.
فقال: كتب إلى الصادق في الخبر، وشافهني من شاهد الأثر، أن السبب في حريق المسجد الشريف دخول أحد قومة المسجد في المخزن الذي في الجانب الغربي من آخر باب المسجد لاستخراج قناديل لمنائر المسجد، فاستخرج منها ما احتاج إليه، ثم ترك الضوء الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل وفيه مشاق، فاشتعل فيه، وبادر لأن يطفأه فغلبه وعلق بحصر وبسط وأقفاص وقصب كان في المخزن، ثم تزايد الالتهاب وتضاعف إلى أن علا إلى سقف المسجد، انتهى.(2/150)
وفي العبر للذهبي أن حرقه كان من مسرجة القوّام.
قال المؤرخون: ثم دبت النار في السقف بسرعة آخذة قبله، وأعجلت الناس عن إطفائها بعد أن نزل أمير المدينة فاجتمع معه غالب أهل المدينة فلم يقدروا على قطعها، وما كان إلا أقل من القليل حتى استولى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف واحترق جميعه حتى لم تبق خشبة واحدة.
قلت: لعل مرادهم لم تبق خشبة كاملة؛ لما قدمناه من مشاهدة بقايا خشب كثير عند إخراج الهدم الذي كان بالحجرة.
قال القطب القسطلاني: وتلف جميع ما احتوى عليه المسجد الشريف من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والشبابيك والمقصير والصناديق وما اشتملت عليه من كتب وكسوة الحجرة وكان عليها إحدى عشرة ستارة.
حكمة الله في الحريق
ثم ذكر القطب حكما لذلك وأسرارا، لكون تلك الزخارف لم ترضه صلّى الله عليه وسلّم، وككون القلوب لما لاحظت المساجد الثاثة بعين التعظيم ولا يجوز في ذلك أن تنزل فوق قدرها، بل لا بد أن يعتقد أن صفة قهره تعالى وعظمته مستولية على الجميع؛ فهو الواحد القهار، فوقع الحريق في الكعبة وبيت المقدس قديما، ثم وقع بهذا المسجد في هذا الزمان عقب ظهور المعجزة العظيمة في ظهور نار الحجاز التي أخبر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم وحماية جيرانه منها لما التجؤوا إليه وانطفائها عند الوصول إلى حرمه كما سبق، وربما خطر ببال العوام أن حبس النار عنهم ببركة الجوار موجب لحبسها عنهم في الآخرة، فاقتضى الحال التبيين بذلك.
ونظم الأقشهري أبياتا مضمونها أن تسليط النار كان على تلك الزخارف المنهي عنها، وأن ما كان حقا فيبقى، وما كان زورا فبالنار يحرق، قال: وأنشدني الحافظ الصالح الشيخ إبراهيم بن محمد الكناني رئيس المؤذنين هو وأبوه قال: وجد بعد الحريق في بعض جدران المسجد بيتان وهما:
لم يحترق حرم النبيّ لريبة ... يخشى عليه وما به من عار
لكنه أيدي الروافض لامست ... تلك الرسوم فطهّرت بالنار
قلت: وأوردهما المجد بلفظ:
لم يحترق حرم النبي لحادث ... يخشى عليه ولا دهاه العار
لكنما أيدي الروافض لامست ... ذاك الجناب فطهرته النار
وأورد بعدهما بيتين آخرين هما:
قل للروافض بالمدينة ما بكم ... لقيادكم للذم كل سفيه(2/151)
ما أصبح الحرم الشريف محرّقا ... إلا لسبكم الصحابة فيه
قلت: وهذا لأن الاستيلاء على المسجد والمدينة كان في ذلك الزمان للشيعة وكان القاضي والخطيب منهم، حتى ذكر ابن فرحون أن أهل السنة لم يكن أحد منهم يتظاهر بقراءة كتب أهل السنة.
قال المؤرخون: ولم يسلم سوى القبة التي أحدثها الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم مثل المصحف الكريم العثماني وعدة صناديق كبار متقدمة التاريخ صنعت- يعني تلك الصناديق- بعد الثلاثمائة، وهي باقية إلى اليوم، يعني في زمانهم، وذلك لكون القبة المذكورة بوسط صحن المسجد وببركة المصحف الشريف العثماني.
وكانت عمارة القبة المذكورة- على ما ذكره ابن فرحون- سنة ست وسبعين وخمسمائة.
قالوا: وبقيت سواري المسجد قائمة كأنها جذوع النخل إذا هبت الرياح تتمايل، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت، ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة على سقف بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وعلى القبور المقدسة. وعبارة الذهبي وتبعه التقي السبكي: فوقع بعض سقف الحجرة، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، وأصبحوا يوم الجمعة فعزلوا موضعا للصلاة، وكتب بذلك للخليفة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله بن المستنصر بالله في شهر رمضان، فوصلت الآلات صحبة الصناع مع ركب العراق في الموسم، وابتدئ بالعمارة أول سنة خمس وخمسين وستمائة.
الشروع في العمارة بعد الحريق
قال المطري: ولما شرعوا في العمارة قصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور الشريفة فلم يجسروا على ذلك، واتفق رأي صاحب المدينة يومئذ- وهو الأمير منيف بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهني الحسيني- ورأى أكابر أهل الحرم الشريف من المجاورين والخدام أن يطالع الإمام المستعصم بذلك ليفعل ما يصل به أمره، فأرسلوا بذلك، وانتظروا الجواب، فلم يصل إليهم جواب لاشتغال الخليفة وأهل دولته بإزعاج التتار لهم، واستيلائهم على أعمال بغداد في تلك السنة، فتركوا الردم على ما كان عليه، ولم ينزل أحد هناك، ولم يتعرضوا له ولا حركوه.
وعبارة المجد الشيرازي: فتركوا الردم على ما كان عليه، ولم يجسر أحد على التعرض لهذه العظيمة التي دون مرامها تزل الأقدام، ولا يتأتى من كل أحد بادئ بدئه الدخول فيه والإقدام.
قلت: وقد كنت في تعجب عظيم من أهل ذلك الزمان في تركهم لذلك، وألفت كتابا سميته «الوفا، بما يجب لحضرة المصطفى» بينت فيه أن الواجب في سلوك الأدب مع هذا(2/152)
النبي العظيم والقيام بما وجب على الأمة من تعظيمه وتعظيم قبره الشريف هو إزالة ذلك عنه وقمّه من حجرته الشريفة، حتى اتفقت العمارة الآتي بيانها، ولم يكن تأليفي السابق سببا في شيء من ذلك كما سيأتي بيانه، حتى إني لم أطلع عليه متولي العمارة إلا بعد هدمه لشيء من جدار الحجرة، فلما نقبوا الجدار الظاهر شاهدت بين الجدارين في الفضاء الذي خلف الحجرة أمرا مهولا من الهدم الذي خص ذلك الموضع، فإنه كما سيأتي كان فيه نحو القامة، فعلمت أن أهل ذلك الزمان لم يتركوه إلا لعلمهم بأن إزالته لا تتأتى إلا بانتهاك الحرمة، فتوقفوا في ذلك، فجزاهم الله تعالى خيرا، وما كنت أعتقد إلا أنه أمر خفيف يتأتى قمّه مع رعاية الأدب، فوجدته أمرا مهولا معظمه ردم سقف المسجد الأعلى وما بين السقفين من البناء الذي على رؤوس السواري وغير ذلك، ولذلك استخرت الله تعالى في عدم حضور ذلك عند إخراجه، ووقفت بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم وسألت منه المدد في أن يوفقني الله تعالى لما يرضيه في ذلك، فحفظني الله من حضور ذلك.
وقال المطري عقب قوله ولم يتعرضوا له ولا حركوه: إنهم أعادوا سقفا فوقه على رؤوس السواري التي حول الحجرة الشريفة؛ فإن الحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز حول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بين هذه السواري التي حول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبلغ به السقف.
قلت: تبع المطري على ذلك من جاء بعده، فتوافقوا على أنهم لم يجعلوا للحجرة بعد الحريق سقفا؛ لأن السقف الذي على رؤوس السواري هو سقف المسجد، فاقتضى ذلك أنهم جعلوا سقف المسجد سقف الحجرة، وذكروا أنهم أداروا الشباك على رأس جدار عمر بن عبد العزيز حتى بلغوا به سقف المسجد؛ وأول شيء ابتدأوا به من سقف المسجد ما حاذى الحجرة الشريفة منه، وفيه مخالفة لما شاهدناه في العمارة الآتي بيانها، فإنهم وجدوا عليها سقفا مربعا على جدارها الداخل، ويتصل بالخارج من المشرق والمغرب، وهو دوين رأس الجدار الخارج بنحو شبر، ثم تبين عند كشفه آثار السقف المنهدم وأن أخشابه كانت في الجدار الداخل، ولم يعيدوا هذا السقف المجدد موضع الأول؛ لأنه لا يتأتى إلا بهدم سترته وإصلاح أماكن لرؤوس الخشب، فتركوا ذلك تأدبا واحتراما، ووضعوا ذلك السقف على أعلى سترة الجدار، وبنوا فوقه سترة لطيفة، وجعلوا على ذلك السقف ستارة من المحابس اليمنية المبطنة بقماش أزرق مربوطة بمقط في الشباك الذي بأعلى الحائز الظاهر، وليس ذلك السقف مطينا، وهو سقف محكم من ألواح ثخينة جدا من الساج الهندي، وسمروا بعضها إلى بعض على قوائم من خشب، وجعلوه أربع قطع كل قطعة كالباب العظيم، وجعلوا عند ملتقى كل قطعتين من تلك القطع مقصاة من حديد، وكلّبوا بعضها إلى بعض تكليبا محكما، وجعلوا تحت ثلاث جزم من الساج الهندي تحمله، وأوصلوا أطراف تلك الألواح بالجدار(2/153)
الظاهر كما تقدم، ولم يجعلوا في تلك الألواح دهانا ولا نقوشا ولا كتابة، غير أن النجار الذي صنع السقف المذكور كتب اسمه على طرفه نقرا، وكذلك سقف المسجد المحاذي للحجرة الشريفة مما يلي هذا السقف جميعه من الساج النقي ليس عليه دهان ولا نقوش وفي وسطه طابق عليه قفل فوقه أنطاع ومشمع، ولم يزل موجودا إلى أن عملت القبة الثانية بعد الحريق الثاني، وجعلوا على جدار الحجرة الداخل من جهة الشام ألواحا من رأس الجدار إلى سقف المسجد.
والعجب أنهم عند رفع هذا السقف وجدوا جزمتين من الأخشاب التي تحته قد تاكلتا ولم يبق إلا جزمة واحدة، ومع ذلك كانت كافية في حمله، فجزى الله تعالى أهل ذلك الزمان خيرا، والظاهر أن ذلك فعل عند إعادة سقف المسجد الذي ذكره المطري.
ولنرجع إلى ما ذكره عقب ما تقدم عنه، قال: وسقفوا في هذه السنة- وهي سنة خمس وخمسين- الحجرة الشريفة وما حولها إلى الحائط القبلي وإلى الحائط الشرقي إلى باب جبريل عليه السلام المعروف قديما بباب عثمان، ومن جهة المغرب الروضة الشريفة جميعها إلى المنبر الشريف.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فكان في المحرم منها واقعة بغداد واستيلاء التتاء عليها وقتلهم الخليفة المذكور مع أهلها.
قلت: وهي من أعظم الوقائع، وقد ذكرتها في كتابي «الوفا» وأشرت إليها في الفصل الثالث من الباب الثاني عند ذكر نار الحجاز، وذكرت ما أفاده الذهبي من استيلاء الحريق على بغداد أيضا حتى تربة الخلفاء، وكانوا في العام قبله قد أشرفوا على الغرق، فسبحان الملك العظيم.
قال المطري عقب ما تقدم: فوصلت الآلات من مصر، وكان المتولي عليها حينئذ الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز عز الدين أيبك الصالحي، ووصل أيضا آلات وأخشاب من صاحب اليمن يومئذ وهو الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور عمر ابن علي بن رسول، فعملوا إلى باب السلام المعروف قديما بباب مروان، ثم عزل صاحب مصر المذكور- يعني في آخر سنة سبع وخمسين في ذي القعدة منها- وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، واسمه الحقيقي محمود بن ممدود، وأمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وأبوه ابن عمه أسر عند غلبة التتار، فبيع بدمشق، ثم انتقل بالبيع إلى مصر، وتملك في سنة ثمان وخمسين.
قلت: إنما ولي في يوم السبت ثامن عشر ذي القعدة من سنة سبع، وفي شهر رمضان من سنة ثمان كانت وقعت عين جالوت التي أعز الله فيها الإسلام وأهله على يديه، ولم(2/154)
يستكمل في ملكه السنة بكمالها، بل قتل بعد الوقعة بشهر وهو داخل إلى مصر، فكان العمل بالمسجد الشريف تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة المعروف قديما بباب عاتكة، ومن باب جبريل إلى باب النساء المعروف قديما بباب ريطة ابنة أبي العباس السفاح، وتولى مصر آخر تلك السنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي، ويعرف بالبند قداري، فعمل في أيامه باقي سقف المسجد الشريف من باب الرحمة إلى شمالي المسجد، ثم إلى باب النساء، وكمل سقف المسجد كما كان قبل الحريق سقفا فوق سقف.
قلت: وذكر المؤرخون أن الظاهر ركن الدين المذكور لما ولي حصل منه الاهتمام بذلك؛ فجهز الأخشاب والحديد والرصاص، ومن الصناع ثلاثة وخمسين صانعا وما يمونهم، وأنفق عليهم قبل سفرهم، وأرسل معهم الأمير جمال الدين محسن الصالحي وغيره، ثم صار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات، ثم لم يزل المسجد على ذلك حتى جددوا السقف الشرقي والسقف الغربي- أي الذي عن يمين صحن المسجد وشماله- في سنتي خمس وست وسبعمائة في أوائل دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي، فجعلا سقفا واحدا نسبة السقف الشمالي أي سقف الدكاك فإنه جعل في عمارة الملك الظاهر كذلك.
ثم في سنة تسع وعشرين وسبعمائة أمر السلطان الملك الناصر محمد المذكور بزيادة رواقين في المسقف القبلي متصلين بمؤخره، فاتسع مسقفه بهما وعم نفعهما.
قلت: ثم حصل فيهما خلل فجددهما الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة على يد مقبل القديدي من مال جوالي قبرص، على ما أخبرني به بعض مشايخ الحرم، ورأيته مكتوبا كذلك باللوح التي كانت بظاهر العقود من المسقف القبلي مما يلي رحبة المسجد، وهو سقف واحد في موازاة سقف المسجد الأسفل، ولذلك صار سقف مقدم المسجد القديم مرتفعا من أعلاه على هذين الرواقين وغيرهما من بقية المسجد، وله باب يدخل إليه من بين السقفين شارع في مبدأ الرواقين المذكورين مما يلي المشرق، وجدد الأشرف المذكور أيضا شيئا من السقف الشامي مما يلي المنارة السنجارية، ثم حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وغيرها من سقف المسجد في دولة الظاهر جقمق فجدد ذلك في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة وما قبلها على يد الأمير بردبك الناصر المعمار وغيره.
ثم في دولة مولانا السلطان الملك الأشرف قايتباي أدام الله تعالى تأييده ونصره أنهى إليه احتياج سقوف المسجد الشريف للعمارة فبرز أمره الشريف بذلك كما ستأتي الإشارة إليه للجناب الخواجكي الشمسي شمس الدين بن الزمن أعزه الله بعز طاعته، فحضر لذلك في أثناء سنة تسع وسبعين صحبة أمير جدة ورتب أمر العمارة وسافر صحبته أيضا، فهدموا(2/155)
عقود المسجد التي تلي رحبته من جهة المشرق وسقف الرواق الذي كان عليها؛ لاقتضاء نظرهم ذلك، ونقضوا بعض أساطينه فوجد بعضها لا رصاص فيه، وبعضها فيه رصاص، ثم أعادوا ذلك في سنتهم، وهدموا أيضا جانبا من سور المسجد الشريف مما يلي المشرق من جهة المنارة الشرقية المعروفة بالسنجارية من باب سلّمها، وهو الباب الثاني جوف بابها الظاهر، إلى ما يوازي حرف الدكاك من القبلة، وذلك آخر المسقف الشامي، ومقدار ذلك سبعة وعشرون ذراعا بذراع اليد المتقدم وصفه، هدموا ذلك من أعلاه إلى أسفله، وبلغوا به دك الأس القديم، وظهر في أصل جدار المنارة المذكورة انشقاق وكانت تضطرب عند الهدم بحيث خشي سقوطها، فسكبوا في ذلك الشق كثيرا من الجص المذاب حتى امتلأ، وكان ما هدموه من سور المسجد وعقوده مبنيا بالجص السكب، فذكر مهندس العمارة أن الجدار إنما اختل لأن السباخ له تأثير في إذابة الجص، واقتضى رأيه أن يؤسسه بالطين والنورة المخلوطة بناعم الحصباء، ففعلوا ذلك في الجدار المذكور كله وفي العقود المذكورة أيضا، وكحلوا أطراف وجوه الأحجار بالجص من داخل المسجد وخارجه، ورفعوا السقف الكائن أمام المنارة المذكورة إلى جنب ما هدموه من الجدار المذكور، وأعادوا ذلك من سنتهم أيضا. ثم اتفقت أمور اقتضت تأخير العمارة، فتعطلت في سنة ثمانين. ثم ورد الخواجا الشمسي ابن الزمن إلى المدينة الشريفة صحبة أمير جدة في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وأقام لمباشرة العمارة بنفسه، فرفعوا سقف الروضة الأعلى وما اتصل به مما حول القبة الزرقاء الآتي ذكر عملها بأعلى الحجرة الشريفة في سقف المسجد الأعلى، ورفعوا أيضا شيئا مما يلي ذلك من جهة ما يوازي غربي المنبر الشريف لتكسر كثير من أخشابه، وكان ذلك السقف مع بقية سقف مقدم المسجد على عبّارات من خشب موضوعة على أبنية فوق رؤوس السواري بعرض تلك السواري، كما أن السقف الأسفل المشاهد مما يلي المسجد موضوع على عبارات كذلك فوق رؤوس السواري، فاقتضى رأي متولى العمارة إبدال تلك الأخشاب بعقود من آجر كهيئة القناطر التي حول رحبة المسجد، ورأى أن ذلك أبقى وأحكم من الأخشاب، مع أن عبارات السقف الأسفل كما قدمناه على رؤوس السواري بأصل تلك العقود، ولكنه رأى الإحكام في ذلك، ففعله في القطعة التي رفعها من السقف المذكور فقط، ووضع أخشاب ذلك السقف على تلك القناطر، فارتفع بسببه ذلك المكان من السقف الأعلى على بقية ما حوله منه، وصار الماشي بين السقفين في تلك الجهة يمشي منتصبا أو منحنيا قليلا، وكان لا يتأتى قبل ذلك المشي هناك إلا مع انحناء كثير، وتلك القناطر موضوعة على ما يحاذي صف الأساطين التي هي قبلة الروضة والمصلى الشريف من أولها ومن جهة المشرق إلى الأسطوانة التي تلي المنبر من جهة المغرب وعلى ما يحاذي الصف الثاني وهو صف أسطوان عائشة(2/156)
رضي الله عنها في موازاة الصف المتقدم ذكره من المشرق إلى المغرب، وعلى ما يوازي الصف الثالث وهو صف أسطوان المحرس من المشرق إلى المغرب أيضا، وأما ما يوازي صف أسطوان الوفود فقد كان عليه بناء حائط حاجز لما بين السقف الأسفل والأعلى فيه باب يدخل منه إلى ما بين السقفين، فهدموا ذلك الحائط، وأحكموا بناءه، وجعلوا أطراف الخشب عليه أيضا، فهذه الثلاثة الأروقة هي التي ارتفع سقفها الأعلى على ما حوله من الأساطين اللاصقة بالمقصورة إلى الأساطين التي تلي المنبر وصار سقف الرواقين اللذين بين الروضة والجدار القبلي مع سقف ما يحاذي الحجرة الشريفة إلى الجدار الشرقي وسقف ما كان غربي المنبر من مقدم المسجد كله منخفض عن ذلك.
ووجدوا أخشابا كثيرة متفرقة نحو الأربعين من السقف الأعلى أيضا قد تكسرت، فزرقوا بدلها، ووضعوا إلى جانب بعضها أخشابا مزرقة، وسمروها من غير كشف للسقف، وقلعوا السقف الأسفل الذي بالرواق الشرقي مما يلي الأرجل الشريفة، وجانبا من سقف رواق باب جبريل إلى باب النساء، وسقف الرواق الأوسط الذي يلي الرواق الذي سبقت عمارتهم إياه في العام الماضي، وأعادوا ذلك، وقلعوا السقف الأسفل المحاذي لموقف الزائرين تجاه الوجه الشريف وكان من أقدم السقف، ومع ذلك تعبوا في قلعه أكثر من غيره لإتقانه وإحكامه فإنه من عمل الأقدمين، وأظنهم وجدوا اسم الظاهر بيبرس عليه، ثم أعادوه وأصلحوا شيئا في المسقف الشامي وغيره، وجددوا أيضا دهان بعض السقف التي حول الحجرة داخل المقصورة التي تعرف اليوم بالحجرة من غير قلع لتلك السقف. ثم احترق ذلك كله في جملة حريق المسجد الثاني الآتي ذكره في الفصل التاسع والعشرين، وجعلوا سقف المسجد عند إعادته سقفا واحدا جميعه كما سيأتي.
الفصل السابع والعشرون في اتخاذ القبة الزرقاء التي جعلت على ما يحاذي سقف الحجرة الشريفة بأعلى سقف المسجد، تمييزا لها، وإبدالها بالقبة الخضراء والمقصورة الدائرة بالحجرة الشريفة
القبة الزرقاء
أما القبة المذكورة فاعلم أنه لم يكن قبل حريق المسجد الشريف الأول وما بعده على الحجرة الشريفة قبة، بل كان حول ما يوازي حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم في سطح المسجد حظير مقدار نصف قامة مبنيا بالآجر تمييزا للحجرة الشريفة عن بقية سطح المسجد، كما ذكره ابن النجار وغيره، واتمر ذلك إلى سنة ثمان وسبعين وستمائة في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحى، فعملت تلك القبة، وهي مربعة من أسفلها مثمنة من أعلاها بأخشاب أقيمت على رؤوس(2/157)
السواري، وسمر عليها ألواح من خشب، ومن فوقها ألواح الرصاص، وفيها طاقة إذا أبصر الشخص منها رأى سقف المسجد الأسفل الذي فيه الطابق، وعليه المشمع المتقدم ذكره، وحول هذه القبة على سقف المسجد ألواح رصاص مفروشة فيما قرب منها، ويحيط به وبالقبة درابزين من الخشب جعل مكان الحظير الآجر، وتحته أيضا بين السقفين شباك خشب يحكيه محيط بالسقف الذي فيه الطابق، وعليه المشمع المتقدم ذكره، ولم أر في كلام مؤرخي المدينة تعرض لمن تولى عمل هذه القبة.
ورأيت في «الطالع السعيد الجامع أسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد» في ترجمة الكمال أحمد بن البرهان عبد القوي الربعي ناظر قوص أنه بنى على الضريح النبوي هذه القبة المذكورة، قال: وقصد خيرا وتحصيل ثواب، وقال بعضهم: أساء الأدب بعلو النجارين ودق الحطب، قال: وفي تلك السنة وقع بينه وبين بعض الولاة كلام، فوصل مرسوم بضرب الكمال، فضرب، فكان من يقول إنه أساء الأدب [يقول:] إن هذا مجازاة له، وصادره الأمير علم الدين الشجاعي، وخرب داره، وأخذ رخامها وخزائنها، ويقال: إنهم بالمدرسة المنصورية اه.
ويؤيد ما نقله عن بعضهم ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خرج فرأى قبة مشرفة، فقال: ما هذه؟ قال له أصحابه: هذه لفلان، رجل من الأنصار، قال: فسكت وحملها في نفسه، حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلم عليه في الناس فأعرض عنه، صنع ذلك مرارا، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: خرج فرأى قبتك، قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سوّاها بالأرض، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، فلم يرها، قال: ما فعلت القبة؟ قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها، فقال: أما إنّ كلّ بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا» أي: إلا ما لا بد منه.
وجد جدّدت هذه القبة في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، فاختلت الألواح الرصاص عن وضعها، فخشوا من كثرة الأمطار، فجددت وأحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد في سنة خمس وستين وسبعمائة، قاله الزين المراغي.
وقد ظهر في بعض أخشابها خلل في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة فعضّدها متولي العمارة الشمس بن الزمن بأخشاب سمرت معها، وقلع ما حولها من ألواح الرصاص التي على أعلى السطح بينها وبين الدرابزين المتقدم ذكره، فوجدوا تحت ذلك أخشابا قد تأكلت من طول الزمان ونداوة مياه الأمطار فأصلحوا ذلك وأعادوه بعد أن أضافوا إليه كثيرا من الرصاص من حاصل المسجد ومما أحضر من مصر، وجددوا الدرابزين المحيط بها أيضا،(2/158)
وقد كانت مياه الأمطار تتسرّب من بين تلك الألواح وتصل إلى سقف الحجرة الشريفة، فإن آثار المياه قد وجدت هناك، وأثّرت في الشباك الذي بأعلى حائز عمر بن عبد العزيز بحيث تأكل بعضه، فأصلحه متولي العمارة أيضا، وأثّرت الأمطار أيضا في الستارة التي على سقف الحجرة الشريفة بحيث تأكل بعضها، ثم احترق ذلك كله في حريق المسجد الثاني، فاقتضى رأيهم تأسيس القبة البيضاء الموجودة اليوم على دعائم بأرض المسجد وعقود من الآجر، وجعلوا تلك الدعائم في موازاة الأساطين التي كان بينها درابزين المقصورة الآتي وصفها، وزادوا من جهة الشام دعائم بعضها عند المثلث الذي بالحجرة الشريفة من بناء عمر بن عبد العزيز، وزادوا هناك أسطوانا، وعند التأسيس لذلك وجدوا عند صفحة المثلث الشرقية قبرا بدا لحده وبعض عظامه، وإن صح القول بدفن فاطمة رضي الله عنها في بيتها كما ستأتي الإشارة إليه فهو قبرها، وأبدلوا بعض الأساطين بدعائم، وأضافوا إلى بعضها أسطوانة أخرى، وقرنوا بينهما ليتأتى لهم العقد عليها، وحصل فيما بين جدار المسجد الشرقي وبين تلك الدعائم ضيق لاتحاد بعض تلك الدعائم هناك، فخرجوا بجدار المسجد الشرقي في البلاط الذي يلي الجدار المذكور نحو ذراع ونصف، فإنهم هدموا ذلك الجدار، وأعادوه إلى باب جبريل عليه السلام، ولم ينقلوا باب جبريل عن محله.
ثم إن القبة المذكورة تشققت من أعاليها ولم ينفع الترميم فيها، ففوّض السلطان للشجاعي شاهين الجمالي النظر في أمرها وأمر المنارة الرئيسية أيضا عند توليته شيخ الحرم الشريف، فاقتضى رأيه بعد مراجعة أهل الخبرة هدم أعالي المنارة المذكورة واختصار قليل منها، فاتخذ أخشابا في طاقاتها وجعل عليها سقفا يمنع ما يسقط عند الهدم للحجرة الشريفة، ثم هدم أعاليها وأعاد بناءها أحكم من البناء الأول، بحيث حمل لها الجبس الأبيض من مصر وجعله في بنائها، فجاءت محسنة محكمة، وأزيل ذلك السقف عند تمامها، وذلك في عام اثنتين وتسعين وثمانمائة.
المقصورة الدائرة على الحجرة
وأما المقصورة الدائرة على الحجرة الشريفة بين الأساطين حول جدار الحجرة الظاهر وحول بيت فاطمة رضي الله عنها فقد أحدثها السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وذلك أنه لما حج سنة سبع وستين وستمائة أراد أن يجعل على الحجرة الشريفة درابزينا من خشب- وهو المقصورة المذكورة- فقاس ما حول الحجرة الشريفة بيده وقدره بحبال وحملها معه، وعمل الدرابزين، وأرسله في سنة ثمان وستين، وأداره عليها، وعمل له ثلاثة أبواب قبليا وشرقيا وغربيا، ونصبه بين الأساطين التي تلي الحجرة إلا من ناحية الشام فإنه زاد فيه إلى متهجّد النبي صلّى الله عليه وسلّم.(2/159)
ثم زيد لهذه المقصورة باب رابع أحدث عند زيادة الرواقين المتقدم ذكرهما في سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وهو من جهة الشمال في رحبة المسجد، وكان عليه قبل الحريق الأول سقف مرتفع يحيط به رفرف، ثم أحدث هذا الباب، وأمامه من جهة رحبة المسجد سقف لطيف أيضا نحو ستة أذرع دوين السقف المتقدم وجعل له رفرف أيضا يمنع الشمس، وبسط تحته الرخام الملون شبه الرخام الذي تقدم ذكره حول حائز عمر بن عبد العزيز بالأرض داخل هذه المقصورة، وذلك في دولة الظاهر جقمق سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة.
قال الزين المراغي: واعلم أن الذي عمله الملك الظاهر- أي ركن الدين- من الدرابزين نحو القامتين، فلما كان في سنة أربع وتسعين وستمائة زاد عليه الملك العادل زين الدين كتبغا شباكا دائرا عليه، ورفعه حتى وصله سقف المسجد، انتهى.
وقد جدد متولي العمارة المتقدم ذكره بعض هذه المقصورة أيضا مما يلي الروضة الشريفة في العمارة الأولى، ثم احترقت في الحريق الثاني، فجعلوا بدلها شبابيك من النحاس في جهة القبلة، وعلى أعلاها شبكة من شريط النحاس كالزرد، بين أخشاب متصلة بالعقود المحيطة بالحجرة الشريفة، وجعلوا لبقيتها من جهة الشام وما اتصل بها من المشرق والمغرب مشبكا من الحديد المشاجر، وبأعلاه شريط النحاس أيضا، وأحدثوا مشبكا من الحديد المشاجر أيضا لم يكن قبل ذلك، جعلوه فاصلا بين الرحبة التي خلف مثلث الحجرة الشريفة وبينها، وبها بعض المثلث المذكور، وبه بابان أحدهما عن يمين المثلث، والآخر عن يساره، وصار هذا المشبك متوسطا بين مشبك الحجرة الشامي وما يقابله. وقد صارت هذه المقصورة تعرف بالحجرة الشريفة، وأبوابها بأبواب الحجرة، وما يعلق بسقفها بقناديل الحجرة كما تقدم في عبارة السبكي.
وفي كلام البدر ابن فرحون ما يقتضي أنه كان ثمّ مقصورة متصلة بهذه المقصورة من جهة المغرب، ثم أزيلت، ولفظه: وقد تساهل من كان قبلنا فزادوا على الحجرة الشريفة مقصورة كبيرة عملت وقاية من الشمس إذا غربت، وكانت بدعة وضلالة تصلي فيها الشيعة؛ لأنها قطعت الصفوف، واتّسمت بمن ذكر من الصنوف، وندم على ذلك واضعها، ولقد كنت أسمع بعضهم يقف على بابها ويؤذن بأعلى صوته «حي على خير العمل» وكانت مواطن تدريسهم، وخلوة علمائهم حتى قيّض الله لها من سعى فيها فأصبحت ليلة منخلعة أبوابها، مقوسة أخشابها، متصلة صفوفها، وأدخل بعضها في الحجرة الشريفة- يعني ما اشتمل عليه الدرابزين المذكور- وجعل فيها الباب الشامي، وكان ذلك مع زيادة الرواقين اللذين زادهما الملك الناصر، انتهى.
وذكر لي بعض مشايخ المدينة نقلا عمن أدركه من المشايخ أن هذه المقصورة كانت في(2/160)
شامي أسطوان الوفود إلى جهة باب الحجرة الشامي، والشيعة اليوم يصلون في ذلك الموضع، ومقتضى ما قدمناه عن ابن النجار في بيت فاطمة رضي الله عنها- حيث قال:
وبيتها اليوم حوله مقصورة، وفيه محراب، وهو خلف حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم- وجود مقصورة هناك قبل حريق المسجد، فلعل ذلك مستند الظاهر ركن الدين في إحداث ذلك.
وقد ذكر المطري ما صنعه الظاهر من هذه المقصورة، ثم قال: وظن الملك الظاهر أن ما فعله تعظيما للحجرة الشريفة، فحجر طائفة من الروضة المقدسة مما يلي بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنع الصلاة فيها، مع ما ثبت من فضلها وفضل الصلاة فيها، فلو عكس ما حجره وجعله خلف بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم من الناحية الشرقية وألصق الدرابزين بالحجرة مما يلي الروضة لكان أخفّ؛ إذ الناحية الشرقية ليست من الروضة ولا من المسجد المشار إليه، بل مما زيد في المسجد أيام الوليد، قال: ولم يبلغني أن أحدا من أهل العلم والصلاح ممن حضر ولا ممن رآه بعد تحجيره أنكر ذلك، أو تفطن له وألقى له بالا، وهذا من أهم ما ينظر فيه.
قال الزين المراغي عقبه: ينبغي أن يعلم أن للظاهر سلفا في ذلك، وهو ما حجره عمر بن عبد العزيز على الحجرة الشريفة من جهة الروضة أيضا، لكنه قليل، انتهى.
قلت: وهذا بناء على ما تقرر عنده من أن جدار الحجرة الذي داخل الحائز هو نهاية المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وقد قدمنا في حدود المسجد ما يرد ذلك، ولو سلّم أن ذلك نهاية المسجد وأن عمر بن عبد العزيز اتخذ الجدار المذكور فيه فذلك لمصلحة حفظ القبر الشريف، ولجعل بنائه على هيئة لا يتأتى معها استقبال القبر الشريف كما قدمناه، وهذه المقصورة بضد ذلك، والله أعلم.
وقال البدر بن فرحون في ترجمة ولي الله سيدي الشيخ علي الواسطي ما لفظه: حكى لي جمال الدين- يعني المطري- أن الشيخ بعث إلى الملك الناصر يقول له: أنا أضمن لك على الله تعالى قضاء ثلاث حوائج إن قضيت لي حاجة واحدة، وهي إزالة هذا الشباك الذي على الحجرة الشريفة، يعني هذه المقصورة، فبلغه ذلك، فتوقف ولم يفعل.
قال البدر بن فرحون: وليته فعل؛ فإن الشباك الذي يدور على الحجرة قطع جانبا من المسجد، وحجر كثيرا من الروضة، وفي كل زمان يجدد ويعمر بما يتقوى به ويتأيد، وأدخل فيه قطعة كبيرة لما أزيلت المقصورة، يعني المتقدم ذكر إزالتها.
وقال المجد الشيرازي، عقب ذكره لما تقدم عن المطري: والذي ذكره موجّه، غير أن أحد الأبواب مفتوح دائما لمن قصد الدخول والزيارة، فيمكن من أراد الصلاة الدخول والوقوف مع الصف الأول في الروضة، ولا يخفى أن في تقريب الدرابزين من الحجرة إخراجا للبناء عن وضعه اللائق، وأيضا فيه تضييق عظيم على الزائرين، لا سيما عند زحام(2/161)
المواسم؛ فإنه مع هذا الاتساع ينخنق المكان بالخلق، فكيف لو ضيق بحيث يتصل الدرابزين بجدار الحجرة؟ لا يقال: إنه كان يتسع من جهة المشرق للزائرين؛ لأن الناس إنما يقصدون هذه الجهة لكون الرأس الشريف هناك، وليكون الابتداء بالتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلّم دون أن يتخطوا الشيخين رضي الله عنهما، فتأمل ذلك فإنه صحيح. قال: وهذه الكيفية لا مزيد عليها في الحسن، ولم يتعطل شيء من الروضة بسبب ذلك، بل بسبب كسل المصلين، وقد رأيت جماعة من الخدام يصلون داخل الدرابزين أيام الجمعة، انتهى.
قلت: وما ذكره صحيح بالنسبة إلى زمنه؛ فإن الباب المذكور كان مفتوحا في سائر الأوقات. وقد نبه على ذلك ابن جماعة في منسكه، محاولا غلقه في المواسم فقط، فقال: إن هذا الدرابزين حجر طائفة من الروضة الشريفة مما يلي بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصار ما بين الحجرة والدرابزين مأوى للنساء بأولادهن الصغار في أيام المواسم، وربما قذر الصغار فيه، وقد تحدثت مع الملك الناصر رحمه الله لما حج وزار سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة في غلق الدرابزين أيام الموسم، فسكت لما ذكرته، ولم يجبني بشيء، وهذا من أهم ما ينظر فيه، انتهى. فحدث بعد ذلك غلق الأبواب كلها دائما، ولا يفتح منها شيء إلا في وقت إسراج القناديل ونحوه، ولا يدخل لذلك إلا بعض الخدام والفراشين أو بعض من له وجاهة بإذن شيخ الخدام، فيدخل للزيارة ليلا، وتحقق بسبب ذلك تعطيل تلك البقعة، وحرم الناس التبرك بأسطوان السرير؛ فإن محله في شرقي أسطوانه كما تقدم، وكذلك الوقوف للزيارة في موقف السلف بينها وبين الحجرة الشريفة أو على نحو أربع أذرع من جدار القبر على ما يأتي بيانه، وكذلك التبرك بمربّعة القبر ومقام جبريل كما قدمناه، وبيت فاطمة رضي الله عنها، فإن ذلك كله في جوف المقصورة، بل كانت هذه المقصورة سببا لما هو أعظم من ذلك وأطم، وهو ابتناء دعائم القبة المتقدم ذكرها بأرضها، فإنها صارت عند العوام بل وعند من لا إحاطة له بأحوال المسجد أنها ليست من المسجد، بل من الحجرة، فعاملوها معاملة غير المسجد، ولما وقعت المفاوضة في عملها صرّحت بتحريم ذلك، فأشار بعضهم بعمل القبة المذكورة على رؤوس الأساطين من غير بناء، ثم رجعوا عن ذلك وأنا غائب بمصر.
وسبب غلق الأبواب المذكورة أن النجم بن حجي قاضي الشام لما حج في الموسم الشامي رأى ازدحام الناس بذلك المحل وما أشار إليه ابن جماعة فيما تقدم عنه، فأفتى بغلقها،
وخالفه الولي العراقي عند قدومه مع الحاج المصري فأفتى بفتحها. وأخبرني بعض مشايخ الحرم أن ذلك كان في سنة اثنين وعشرين وثمانمائة وأن الحال استمر على ما أفتى به الولي العراقي، فلما ولي النجم بن حجي ديوان الإنشاء تسبب في بروز المراسيم السلطانية(2/162)
بالأمر بالغلق سنة ثمان وعشرين، واستمر ذلك إلى اليوم، كذا أخبرني به بعض مشايخ الحرم. ورأيت حاشية على كلام المجد بخط الحافظ جمال الدين بن الخياط اليمني، ولفظها: ومما أحدث في دولة الملك الأشرف برسباي صاحب مصر والشام بعد الثلاثين وثمانمائة سمرت أبواب الدرابزين المذكور، وصار الناس يزورون من وراء الدرابزين من غير دخول أحد إلى الحجرة الشريفة، قصدوا بذلك زيادة الحرمة، وتنزيه المشهد الشريف عن كثرة اللامسين بالأيدي وغيره؛ فإن كثيرا من جهال العرب وغيرهم يلصقون ظهورهم بصندوق القبر الشريف وجداره، قاصدين بذلك التبرك، والخير كله في استعمال الأدب، انتهى.
قلت: والصواب المتعين وجوب فتح بعض تلك الأبواب، خصوصا في غير أيام الموسم، وليس الطريق في إزالة المفسدة المذكورة غلق تلك الأبواب وتعطيل تلك البقعة، بل وقوف الخدام عند ذلك المحل، ومنع من يتعاطى فيه ما لا يليق بالأدب، على أن ذلك لم يحسم المادة؛ لأن تلك الأمور- أعني لمس الجهال ووضعهم الظهور- يفعل اليوم بهذا الدرابزين، ولا شك أن الجدار الذي كان يفعل به ذلك ليس هو نفس القبر، بل ولا جدار الحجرة كما قدمناه، بل جدار آخر دائر به، كما أن هذه المقصورة دائرة به، فإن كان ذلك يقتضي تعطيل ذلك المحل، فليعطل من أجله المسجد بأجمعه، وتعطيل المسجد أو شيء منه حرام فلا يرتكب لدفع مكروه مع إمكان دفعه بغيره، وما يقال من أنه ربما وجد في بعض المواسم هناك قذر؛ فقد كان شيخنا شيخ الإسلام فقيه العصر شرف الدين المناوي يقول في جوابه: لا شك أن ذلك المحل من المسجد، فإن كان وجود القذر فيه مقتضيا لتعطيله وصيانته بالغلق فليغلق المسجد بأجمعه، فإن حكم الكل واحد من حيث وجوب صونه واختصاص ما تقرب من المحل الشريف بمزيد التعظيم حاصل بالجدار الكائن عليه، وطريق التعظيم المنع من ذلك كما قدمناه، على أن لمس جدار القبر وتقبيله ليس مما أجمع على كراهته كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في باب الزيارة.
ولما قدم مولانا السلطان الملك الأشرف قايتباي أعز الله أنصاره المدينة الشريفة للزيارة سنة أربع وثمانين وثمانمائة واجتمعت به بالروضة الشريفة أردت أن أتكلم معه في فتح بعض تلك الأبواب في غير أيام الموسم، فرأيته قد تعاظم دخول هذه المقصورة لما عرض عليه ذلك. وقال: لو أمكنني الوقوف للزيارة في أبعد من هذا الموضع فعلت، ورأى أن ذلك هو التعظيم، فعلمت أنه لا يوافق على ما أريده، والله أعلم.(2/163)
الفصل الثامن والعشرون فيما تجدد من عمارة الحجرة الشريفة في زماننا على وجه لم يخطر قط بأذهاننا، وما حصل بسببه من إزالة هدم الحريق الأول من ذلك المحل الشريف، ومشاهدة وضعه المنيف، وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة في هذه العمارة
اعلم أن بعض سقف المسجد التي تقدم تجديدها كان قد ظهر تكسّر بعض أخشابه في هذه الدولة الأشرفية- أعز الله أنصارها، وأعلى في سلوك العدل منارها- فورد المدينة المقر الأشرف السيفي شاهين الجمالي منصرفه من جدة المعمورة، فأروه ذلك، وأروه الحائز المخمس الدائر على الحجرة الشريفة لانشقاق فيه قديم يظهر إذا رفعت الكسوة عند منتهى الصفحة الشرقية وانعطافها إلى الزاوية الشمالية، فرفعوا عنه الكسوة، وأحضروا بعض أرباب الخبرة بسبب ذلك، فاختلف النقل عمن حضر ذلك في كونه ضروريا أو غير ضروري، فاجتمعت بالمشار إليه بسبب ذلك، فذكر لي أن الذي تحرر أنه ليس بضروري؛ لأنه شق في طول الحائط لا في عرضه، وهو قديم مملوء بالجص، والحائط ليس عليه سقف يثقله فنخشى عليه، فأعجبني كلامه.
ثم أنهى في سنة ثمان وسبعين لمولانا السلطان الأشرف احتياج المسجد الشريف للعمارة، وسقوط منارة مسجد قباء، وكان الجناب الخواجكي الشمسي بن الزمن مغرما بمثل ذلك، وسبق له بالمدينة الشريفة عمارة لمدرسته المعروفة بالزمنية على يد بعض جماعته، ففوض إليه السلطان أمر عمارة المسجد النبوي، فكان ما تقدم من مجيئه إلى المدينة الشريفة في أثناء سنة تسع وسبعين، وتقريره أمر العمارة، ثم توجه إلى مصر المحروسة، فكان من أمر العمارة ما قدمناه.
ثم رغب في أمر العمارة المقر الشرقي شرف الدين الأنصاري تغمده الله برحمته ففوض له ذلك، وحضر صحبة الحاج إلى مكة المشرفة، وأقام بها مدة حتى يتكامل حصول آلات العمارة، فتوفى بها ليلة سابع عشر صفر عام أحد وثمانين وثمانمائة بعد شكوى خفيفة.
ثم وردت المراسيم الشريفة بتفويض أمر العمارة للجناب الشمسي بن الزمن وكان بجدة المعمورة فورد المدينة الشريفة صحبة شاد جدة في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين، وأحضر معه جماعة من أرباب الصنائع، وأقام لينظر في أمر العمارة بنفسه، فكان ما تقدم من إصلاح السقف الأعلى وعمارة غيره من السّقف المتقدم ذكرها، وإحكام القبة الزرقاء المحاذية للحجرة الشريفة بسقف المسجد، وإصلاح حلية الصندوق الكائن بأصل الأسطوان التي في جهة الرأس الشريف والقائم المجدد فوقه.(2/164)
ولما نزعوا القائم العتيق وما تحته من الصندوق وجدوا ما تحت ذلك من أحجار الأسطوانة المذكورة متشطبا، وأحجارها قطع مجوفة كالخرز، وكذا كل أساطين المسجد العتيقة، وفي جوفها الرصاص وعمد الحديد، وأهل المدينة يسمون كل قطعة منها خرزة، ويسمونها أيضا فلكة، فاقتضى رأيهم تعميق ما على رأس الأسطوان المذكور من أخشاب السقف، فجعلوا مرمة من الأخشاب حول الأسطوان المذكور ليكسروا الخرز المشقق من ذلك الأسطوان، وهن ست، ثم يعلقون ما صح من الأسطوان إلى أن يدخلوا مكان ذلك بدله، ثم شرعوا في كسر تلك الخرز ونزعها، فتعسر ذلك عليهم، وحصل بسببه دق عنيف، حتى كانت جدران الحجرة تهتز له لاتصالها بالأسطوان المذكور، فحصل بسبب ذلك كلام من الناس، ولكن بعد كسر بعض الخرز وإخراجه، وكانوا يعالجون في إخراج الرصاص أيضا علاجا أعظم من العلاج في الحجر، فعقدوا مجلسا، وطلبني متولي العمارة للحضور فيه، فترددت لأنه بلغني أن بعض الناس أوغر صدره مني وقرر عنده أني حريص على ألاتكون هذه العمارة على يده، وكنت أرى منه محبة وميلا ثم تنكر بعض التنكر، وعلمت أن الرجوع عن إصلاح الأسطوانة المذكورة غير ممكن لكسر بعضها وإخراجه، فعلمت فوات وقت النظر، فأجبت الرسول بذلك، ولم أحضر معهم مع علمي بأن بعض أهل المجلس كان مغري بمخالفة ما أشير به، وإن كان في غاية الوضوح، سامحه الله، ثم افترقوا على إتمام ذلك، فمكثوا أياما يعالجونه حتى تم، وأعادوا مكان تلك الخرزات الست مثلها من خرز أسطوان نقضوه من أساطين مسجد قباء، فكان ذلك بقدر تلك الخرز سواء، وأحكموا إعادتها بالرصاص وعمد الحديد أحسن إحكام.
وقد كنت أستبعد قدرتهم على ذلك، وأتعجب من قيام بقية الأسطوان من أعلاه، مع رفع أسفله، وكونه كالجبل من الحجر والرصاص، ولكن ساعدهم المدد المحمدي في ذلك مع حسن معرفة المعلم المباشر لسبك الرصاص.
ثم كان ما تقدم من إعادة الصندوق المذكور والقائم فوقه إلى محلهما، ونقض الرخام المؤزّر به جدار الحجرة الظاهر وتجديده كما تقدم، وعند قلع رخام الصفحة الآخرة من الزاوية الشمالية إلى الصفحة الشرقية مع ما يليها من صفحة المشرق عند منعطفها ظهر الشق المتقدم ذكره وهو انشقاق قديم سدّ الأقدمون خلله بكسر الآجر وأفرغوا فيه الجص وبيضوه بالقصّة فانشق البياض من رأس وزرة الرخام إلى رأس الجدار المذكور، فأرادوا اختبار ما تحت البياض ليعلموا قدره، فقشروا البياض عنه، وأخرجوا ما في خلله من الجص والآجر، فظهر من خلله بناء الحجرة المربع الذي هو جوف البناء المخمس المذكور فظهر منه ملتقى حائطه الشامي وحائطه الشرقي، وظهر هناك شق أيضا في جدار الحجرة الداخل عند ملتقى(2/165)
الجدارين المذكورين تدخل اليد فيه، وهو قديم أيضا، وقد سدّه المتقدمون، ثم اتّسع قليلا على دوام الأيام.
فلما كان عشية السبت ثالث عشر شعبان عقدوا مجلسا في جوف المقصورة عند الجدار المذكور، حضره القضاة والمشايخ والخدام وشيخهم الأمير إينال، وطلبوني لذلك المجلس، فترددت في الحضور لما قدمته، ثم توضأت وصليت صلاة الاستخارة وسألت الله أن يلهمني السداد والصواب، وحضرت فوجدت الأمر قد اتفق عليه، وشاهدت ما قدمته من وصف ذلك، ورأيت على ذلك البناء الداخل من الهيبة والأنس ما لا يوصف ولا يدرك إلا بالذوق، وتحرر لي أن سبب انشقاق الجدار الظاهر انشقاق الجدار الداخل وميلانه نحو الجدار الظاهر وكأن الأقدمين لما رأوا انشقاق الجدار الداخل- ولعل رؤيتهم لذلك والله أعلم عقب الحريق عندما أحدثوا السقف المتقدم وصفه على الحجرة الشريفة- أدعموا الجدار الداخل بأخشاب جعلوها بين الجدار الداخل والخارج عند رأسهما في شرقي الحجرة، فمال الجدار الظاهر من أعلاه بحيث صار أعلاه لا يوازي أسفله، وخرج بسبب ذلك عن الاستقامة، فحدث فيه الشق المذكور، ورأيت الحاضرين بين ساكت ومشير، فترجح عندي سلوك رأي ابن عباس رضي الله عنهما في أمر الكعبة، حيث أشار بترميمها فقط، ورأيت أن ما يطلب هنا من الأدب أوجب مما يطلب هناك، فحاولت إدعام البناء الظاهر ببناء، فلم أوافق عليه، فسألت مهندس العمارة- وكان أعرف الحاضرين بهذا الأمر- هل تحققت الآن إشراف هذا الجدار على السقوط وأنه لا يتأتى تأخيره، أم يحتمل التأخير مدة إذا رمّ بالجص والآجر كما كان أوّلا فيؤخر إلى أن يصير غير محتمل للتأخير؛ فإنه لا يفعل هنا إلا ما تدعو إليه الضرورة في الحال؟ فقال: الترميم شيء وقطع الفرط شيء آخر، ثم سأل متولي العمارة عن كيفية ما يكتب ليطالع به المسامع الشريفة، فقال له القاضي الزكوي قاضي الشافعية وأحد الناظرين سامحه الله تعالى: سرّح العمال غدا للهدم وكتابة المحضر علينا، وخافت متولي العمارة بالإنكار عليه في إحضاري، وحثّه على الإعراض عن كلامي.
ثم إن متولي العمارة ذكر لي أنه رأى رؤيا فهم منها الهدم، فصمّم عليه، ورأيت عنده من شجاعة الجنان وثبات الجأش في هذا الأمر ما لا يوصف، وبلغني أن بعض الناس ذكر له أن ما سبق من كلامي دليل على ما كان قد ألقاه إليه من حرصي على ألاتكون هذه العمارة على يده، وألايفوز بهذه المنقبة العظيمة التي لم يسبق إليها، ومن يسمع يخل، ولكني أشهد الله ورسوله على أني لم أرد سوى محض الوفاء بما أوجبه الله علينا من الأدب مع حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ومن بدل النصيحة.
ثم في صبيحة الرابع عشر من شعبان المذكور شرعوا في هدم المحل الشريف المتقدم(2/166)
ذكره من الجدار الظاهر، فهدموا جانبا من الصفحة الشرقية وجانبها مما يليها من الصفحة المنحرفة منها إلى جهة الزاوية الشمالية، وسعة ذلك خمسة أذرع بذراع اليد، وذلك من بعد نحو أربعة أذرع من الأرض إلى رأس الجدار المذكور، فظهر حينئذ هدم الحريق الذي في الفضاء الكائن بين جداري الحجرة الشريفة، ورأينا فيه كثيرا من الأخشاب المحترقة قد سلم من بعضها قدر الذراع ونحوه.
ثم في خامس عشر الشهر المذكور حضروا لتنظيف ذلك، وتوجه متولي العمارة لشيخنا العارف بالله تعالى سيدي شهاب الدين الأبشيطي قدس الله روحه، وسأله في الحضور للتبرك به، فحضر من خارج الجدار، وامتنع من الدخول وقرأ الفاتحة، وقال: نظفوا على بركة الله، ثم انصرف وقال لي بعد ذلك: ذكروا لنا أن هدم ذلك ضروري، فقلنا لهم:
الضروري يعمل، فلما دخلوا لإزالة ذلك شاهدت أمرا مهولا من ردم الحريق بحيث لم يتأت إزالته إلا بالعتل والمساحي، وتحققت بسبب ذلك عذر من أدرك زمن الحريق في عدم إزالة ما بالحجرة الشريفة منه كما قدمناه، وكان ارتفاعه في ذلك المحل نحو القامة، وهو ردم من السقف الأعلى وجص وآجر من الجدار الذي كان بأعلى سقف المسجد لتمييز الحجرة الشريفة عن غيرها، كما تقدم بيانه، ومما كان على رؤوس الأساطين ومما احترق من أخشاب ذلك، فاشتغلوا بتنظيفه وتزاحم الناس عليه فاستمروا في ذلك حتى بلغوا في تنظيفه الأرض القديمة، بحيث ظهر تحصيب ذلك المحل بحصباء تشبه ما في المسجد، غير أنها قد اسودّت من نداوة الأرض، واعتبرت التفاوت بين الأرض المرخمة خارج الجدار الظاهر والأرض المذكورة بداخله، فكانت الأرض المذكورة- أعني الداخلة بين الجدارين- أخفض من الخارجة بذراع وثلث بذراع اليد، وظهر من وصف البناء الداخل ما قدمناه في الفصل الثاني والعشرين من كونه مربعا بأحجار منحوتة عليها أبهة عظيمة، وأن الصفحة الغربية منه ملاصقة للصفحة الغربية من البناء الظاهر، وليس بينهما ولا مغرز إبرة، وأنه لا باب فيه ولا موضع باب، وفي الصفحة الشمالية لا صق بها الأسطوان التي قدمنا وصفه، وأن بعضه داخل في الصفحة المذكورة، وقد أثر فيه الحريق كما قدمناه حتى تشطب بعضه سيما في أعاليه وهو في صف مربعة القبر يليها من جهة المشرق.
وتبين حينئذ ما في الجدار الداخل من الانشقاق المتقدم وصفه في شماليه مما يلي المشرق، فأدخلوا فيه شمعة، فشاهدوا فيما يقابله من الجدار القبلي مما يلي المشرق أيضا انشقاقا مثله، وتبين لي أن البناء المتقدم وصفه بين الجدارين القبليين في موازاة الأسطوانة الظاهرة في الجدار القبلي التي يقف عندها المسلّم على عمر رضي الله عنه إنما جعل إدعاما للجدار المذكور لما حدث به ذلك الانشقاق، وظهر ما أدعموا به من الأخشاب بين الجدار(2/167)
الداخل والخارج في جهة المشرق على ما قدمناه، فتردد متولي العمارة في نقب الجدار الشامي لإحكام ذلك الشق وترميم الشق المقابل له.
ثم عزم على هدم الجدار المذكور- أعني: جدار الحجرة الداخل من جهة الشام- بأجمعه، فبدأ برفع السقف الذي وجد على الحجرة نفسها كما قدمناه، وحينئذ ظهر لهم ساحة الحجرة الشريفة، وستر الله تعالى القبور الشريفة عن الأعين بالردم، ثم علمت أن هذا الموطن يطلب فيه من التثبت والأدب التام ما لا يطلب في غيره، فانصرفت عازما على أن لا أحضر معهم ما داموا في تعاطي الهدم وأن أحضر معهم في البناء. ثم أفاضوا في عقد قبة سفلية على جدار الحجرة الداخل رعاية الإتقان والإحكام فكرهت ذلك لعلمي أنه يجر إلى هدم معظم الحجرة مع ما فيه من تغيير الهيبة الأولى.
ثم في حادي عشر شعبان المذكور أجمعوا أمرهم على ذلك، فشرعوا في هدم الجدار الشامي والشرقي من البناء الداخل، فوجدوا في الجانب الذي يلي المغرب من الجدار الشامي، وكذا فيما يقابله من القبلي، وكذا في الغربي عندما هدموا أسفل السترة المبنية على السقف المحترق بين فصوص الأحجار وأعلاها مع رأس الجدر المذكورة لبنا غير مشوى طول اللبنة منه أرجح من ذراع وعرضه نصف ذراع، وسمكه ربع ذراع، وطول بعضه وعرضه وسمكه واحد وهو نصف ذراع، ولم يجدوا مثل ذلك في الجدار الشرقي، ولا فيما يليه من الشامي والقبلي، وقد عاب بعض الناس على الأقدمين في وضعهم ذلك في الجدار، ونسبهم به إلى التقصير، وربما قال: إن البنائين زمن الوليد لما أمر ببناء المسجد على يد عمر بن عبد العزيز كانوا كفارا، وإن ذلك من غشهم، وهذا جهل من قائله.
وقد قدمنا من شرح حال بناء الحجرة ما فيه كفاية، وتقدم أن عمر بن الخطاب أو ابن الزبير هو الباني للحجرة على ما رواه ابن سعد، ولو سلّم أن تلك البناية في ولاية عمر بن عبد العزيز للعمارة المتقدمة فهو أتقى لله من أن يهمل قبر نبيه بيد الكفار حتى يغشوا في بنائه بمثل ذلك. وقد ظهر لي في ذلك أن السلف لما بنوا الحجرة الشريفة بالأحجار لقصد الإحكام والبقاء، وكان ما عدا الأساس منها مبنيا باللبن في عهده صلّى الله عليه وسلّم كما يؤخذ مما قدمناه، فرأوا ألايخلو بناؤهم من بركة ذلك اللبن، فوضعوا منه ما رأوا فيه الصلابة بين الأحجار المبنية بالقصّة، ولولا إتقان ذلك البناء لما مكث هذه المدة المديدة، والعجب أن الخلل والانشقاق لم يحصل إلا في الناحية الخالية منه، وقد قدمنا أن الذي يظهر أن تلك الناحية سقطت وأعيدت، واختلاف البناءين شاهد بذلك، حتى إن الجدار الشرقي لم يكن مبنيا بالحجارة الموجّهة إلا من داخله دون خارجه، وعرض منقبته أقل من عرض بقية الجدر. ولما بلغوا في هدم الجدار الشامي أرض الحجرة الشريفة شرعوا في تنظيف الردم الساتر للقبور(2/168)
الشريفة، وذلك في صبيحة الثالث والعشرين من شعبان المذكور، ومكثوا في ذلك إلى غروب الشمس مع كثرتهم حتى بلغني أن الحجرة الشريفة امتلأت بهم، ولم يخصوا مكانا دون مكان، فظنوا أن القبر الشريف النبوي قريبا من وسط الحجرة، وليس كذلك كما سنبينه، ووضعوا ما أخرجوه من الردم عند طرف المسقف الغربي في زاويته المتصلة بمسقف الدكاك، وبنى عليه متولي العمارة تلك الدكة البارزة هناك. ثم وفّى القضاي الزكوي بما وعد به متولي العمارة من كتابة المحضر، وكتب فيه أهل المدينة، ولم أكتب فيه، واعتذرت بأنه لم يسبق لي عادة بمثل ذلك، وبعثوا به إلى مصر المحروسة، فلما كان في صبيحة الخامس والعشرين من الشهر المذكور بعث إليّ متولي العمارة لأتبرك بمشاهدة الحجرة الشريفة بعد تنظيفها، وصار قائل يقول: ظهر القبر الشريف، وقائل يقول: لم يجدوا لجميع القبور الشريفة أثرا، فحثّني داعي الشوق وغلبة الوجد، واستحضرت ما وقع لبعض السلف من سؤاله لعائشة رضي الله عنها أن تريه القبور الشريفة، وغير ذلك مما سبق ومما سيأتي في باب الزيارة، ووصف السلف للقبور الشريفة، وذكرهم ذرع الحجرة الشريفة وكيفيتهما كما تقدم، فعزمت على الإقدام، وتمثلت بقول بعضهم:
ولو قيل للمجنون أرض أصابها ... غبار ثرى ليلى لجدّ وأسرعا
لعلّ يرى شيئا له نسبة بها ... يعلّل قلبا كاد أن يتصدعا
فتطهرت وتوجهت لذلك مستحضرا عظيم ما توجهت إليه، وموقع المثول ببيت أوسع الخلق كرما وعفوا، وذلك هو المعول عليه، واستحضرت بقول بعضهم:
عصيت فقل لي كيف ألقى محمدا ... ووجهي بأثواب المعاصي مبرقع
ثم أنشدت الذي يليه:
عسى الله من أجل الحبيب وقربه ... يداركني بالعفو فالعفو أوسع
وسألت الله أن يمنحني حسن الأدب في ذلك المحل العظيم، ويلهمني ما يستحقه من الإجلال والتعظيم، وأن يرزقني منه القبول والرضى، والتجاوز عما سلف ومضى، فاستأذنت ودخلت من مؤخر الحجرة، ولم أتجاوز ذلك المحل، فشممت رائحة ما شممت في عمري رائحة أطيب منها، ثم سلمت بوجل وحياء، على أشرف الأنبياء، ثم على ضجيعيه خلاصة الأصفياء، ودعوت بما تيسر من الدعوات، وتشفعت بسيد أهل الأرض والسموات، واستنزلت به في بيته من الأزمات، واغتنمت هذه الفرصة في جميع الحالات، ولله در القائل:
تمتّع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصّل ما استطعت من ادّخار
فقد وسّعت أبواب التداني ... وقد قرّبت للزوار داري(2/169)
وقد هبّت نسيمات لنجد ... فطب واشرب بكاسات كبار
فما وقت يمرّ بمستعاد ... وما دار الأعزّة بالقرار
فودّع أرض نجد قبل بعد ... فما نجد لمرتحل بدار
أقول لمن يمرّ بأرض نجد ... ويظفر من رباها بالديار
تزود من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
وقل أيضا لمغتنم صفاء ... على معنى يلوح لذي اعتبار
إذا العشرون من شعبان ولّت ... فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار
فلما قضيت من ذلك الوطر، متعت عيني من تلك الساحة بالنظر، لأتحف بوصفها المشتاقين، وأنشر من طيب أخبارها في المحبين، فتأملت الحجرة الشريفة فإذا هي أرض مستوية، وتناولت من ترابها بيدي فإذا فيه نداوة وحصباء كالحصباء المتقدم وصفها بين الجدارين يظهر عند فحصه بالأصابع، ولم أجد للقبور الشريفة أثرا، غير أن بأوسط الحجرة موضعا فيه ارتفاع يسير جدا، توهموا أنه القبر الشريف النبوي، فأخذوا من ترابه للتبرك فيما زعموا، ومنشأ ذلك الوهم جهل من كان هناك بأخبار الحجرة الشريفة، وذلك المحل ليس هو القبر النبوي قطعا، ولعله قبر عمر رضي الله عنه؛ لأن الشافعي رضي الله عنه قد نص على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما لحد له في جدار القبلة.
قال الشافعي، فيما نقله عنه الأقشهري ردا على من قال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أدخل لقبره معترضا: هذا من فحش الكلام في الأخبار؛ لأن قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قريبا من الجدار، وكان اللحد تحت الجدار، فكيف توضع الجنازة على عرض القبر حتى سلّ معترضا؟ فدلّ على أن هذا النقل غير صحيح، انتهى.
وروى ابن عساكر عن جابر رضي الله عنه قال: رشّ قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان الذي رش الماء على قبره بلال بن رباح بقربة بدأ من قبل رأسه حتى انتهى إلى رجليه ثم ضرّجه بالماء إلى الجدار، لم يقدر على أن يدور من الجدار لأنهم جعلوا بين قبره وبين حائط القبلة نحوا من سوط.
وقال ابن سعد في طبقاته: أخبرنا شريح بن النعمان عن هشيم قال: أخبرني رجل من قريش من أهل المدينة يقال له محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سقط حائط قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في زمن عمر بن عبد العزيز- وهو يومئذ على المدينة في ولاية الوليد- فكنت في أول من نهض، فنظرت إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا ليس بينه وبين حائط عائشة رضي الله عنها إلا نحو من شبر، فعرفت أنهم لم يدخلوه من قبل القبلة، وعلى تقدير أن يكون ثمّ موضع بين(2/170)
القبر الشريف وبين جدار القبلة بحيث يتأتى إدخاله صلّى الله عليه وسلّم من ناحية القبلة فلا يكون ذلك الموضع محل القبر الشريف؛ لبعده من جدار القبلة جدا. وفيما رواه ابن زبالة ويحيى من خبر عبد الله بن محمد بن عقيل في قصة سقوط جدار الحجرة الشريفة المتقدم ذكره أن عمر بن عبد العزيز قال لمزاحم لما دخل: يا مزاحم كيف ترى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: متطاطيا، قال:
فكيف ترى قبر الرجلين؟ قال: مرتفعين، قال: أشهد أنه رسول الله.
وقد قدمنا من وصف داخل الحجرة وذكر ذرعها ما فيه كفاية.
وقد تأملت التفاوت بين أرض الحجرة الشريفة وبين أرض الفضاء الخارج بين الجدار الشامي الداخل وزاوية الجدار الخارج فوجدت أرض الحجرة أنزل منه بنحو ذراع ونصف، وتقدم أن أرض الفضاء المذكور أخفض مما حول الحجرة من المسجد بذراع وثلث، فيكون التفاوت بين داخل أرض الحجرة وأرض المسجد نحو ثلاثة أذرع.
وتأملت آثار ردم الحريق في الجدران فرأيته في بعضها نحو ثلاثة أذرع، وفي بعضها نحو ذراعين، وأخبرني المباشرون لإخراجه بذلك أيضا.
ثم هدموا من الجدار القبلي مما يلي المشرق جانبا نحو أربعة أذرع وشيء، حتى بلغوا به أرض الحجرة.
وهدموا أيضا جانبا من الجدار الغربي مما يلي الشام حتى بلغوا به الأرض أيضا، وذلك نحو خمسة أذرع منه، فعلوا ذلك ليتأتى لهم إحكام القبة التي أجمعوا أمرهم عليها، ولم يبق من أركان الحجرة الشريفة سوى مجمع جدار القبلة وجدار المغرب.
ثم إنهم هدموا من علو ما بقي من الجدارين المذكورين نحو خمسة أذرع، ولم يبق من بناء الحجرة الأصلي إلا ما فضل منهما.
ووجدوا عند هدم مبدأ الجدار القبلي من أعلاه ميزابا قد احترق بعضه من جهة ما كان في بناء الجدار، وبقي منه نحو الذراع، وهو من عرعر له رائحة ذكية، وسعة مجرى الماء فيه نحو أربعة أصابع أو خمسة، كأنه كان ميزابا للحجرة الشريفة قديما فحرص الأقدمون على ما بقي منه بعد الحريق ووضعوه بين السترة التي أحدثوها لأجل السقف وبين رأس الجدار، فجزاهم الله خيرا.
ولما أعيد بناء الحجرة حرصت على أن يعاد فيها، فوعدني متولي العمارة بذلك، فلما كان عند ختم البناء سألته عنه، فذكر لي أنه جعله في البناء الآتي ذكره في أعلى الجدار الشامي بين ما بقي من لبن الحجرة وليّس عليه بطين ذلك اللبن.
ثم عند الشروع في إعادة بناء الحجرة اقتضى رأيهم إدخال الأسطوان المتقدم وصفه خلف جدار الحجرة الشامي لتشققه فزادوا في عرض ذلك الجدار من الرحبة المثلاثة الشكل(2/171)
المتقدم وصفها بين الجدارين، وكان الشروع في إعادة بناء الحجرة في سابع عشر شعبان المذكور، فابتدؤوا بالجدار المذكور، وأوصلوه بالجدار الغربي، وأعادوا ذلك بأحجار الحجرة التي نقضوها منها، ثم رأوا أن إحكام القبة التي عزموا عليها يقتضي تربيع محلها، بحيث لا يزيد طوله على عرضه. وقد قدمنا في ذرع الحجرة ما يقتضي عدم ذلك، فعقدوا قبوا على نحو ثلث الحجرة الذي يلي المشرق والأرجل الشريفة، وجعلوا الجدار الخارج من جهة المشرق متصلا بجدار الحجرة الداخل، فأدخلوا ما كان بينهما في جدار القبو المذكور إلى نهاية ارتفاعه، وكذا فعلوا فيما كان بين الجدار القبلي الداخل والخارج، سدّوه أيضا بالبناء حتى لم يبق حول البناء الداخل فضاء إلا ما بقي من الرحبة المثلاثة الشكل في جهة الشام وصار علو القبة المذكور فضاء أيضا بين القبة وبين الجدار الظاهر في جهة المشرق وعقدوا القبة المذكورة على ما بقي من الحجرة، وهو ما يلي المغرب منها في جهة الرؤوس الشريفة، وحاول بعض الناس أن يكون عقد القبة بالآجر، فكرهت ذلك لما لا يخفى، فاجتنبه متولي العمارة جزاه الله تعالى خيرا، وعقدها بالأحجار المنحوتة من الحجر الأسود، وكملها بالأبيض، وأخبروني أن ارتفاع القبة المذكورة من داخل أرض الحجرة الشريفة إلى محدّب القبة المذكورة- وهو أعلاها المغروز فيه هلالها- اثنا عشر ذراعا بذراع العمل؛ فيكون بالذراع المتقدم وصفه ثمانية عشر ذراعا وربع ذراع.
ومن أرض الحجرة أيضا إلى نهاية القبو الذي بنى عليه أحد حوائط القبة المذكورة ثمانية أذرع وشيء بذراع العمل، وذلك نحو أحد عشر ذراعا بالذراع المتقدم وصفه، وارتفاع حائط القبة الشرقي- وهو الذي يلي القبو المتقدم وصفه- عن طرف القبور الذي بنى عليه الحائط المذكور ذراع وثلثان بذراع العمل، وذلك ذراعان ونصف راجح بالذراع المتقدم وصفه، وصار ما بين حائط القبة المذكور وبين حائط الحجرة الظاهر في جهة المشرق- أعني سطح القبو المذكور وما اتصل به- كما كان بين الجدارين، وأدخل في عرض الجدار رحبة واحدة تحيط بها من المغرب حائط القبة المتقدم وصفه، ومن المشرق حائط الحجرة الظاهر، ومن القبلة حائط الحجرة الظاهر أيضا، ومن الشام سترة بنيت له فيما بين جدار القبة الذي يليه وجدار الحجرة الظاهر في المشرق.
وذرع هذه الرحبة المذكورة بسطح القبو المذكور طولا من القبلة إلى الشام سبعة أذرع ونصف سدس ذراع بذراع العمل، وذلك أحد عشر ذراعا بالذراع المتقدم وصفه.
وذرعها عرضا مختلف: فمما يلي القبلة ذراعان ونصف بذراع العمل، ومما يلي الشام نحو الثلاثة.
وأما جدار القبة الشامي فقد تقدم أنهم زادوا في عرضه من الرحبة خلفه وجعلوه أيضا(2/172)
متفاوت العرض؛ فجعلوا ما يلي المشرق منه- وهو الموضع المحاذي للأسطوانة التي وقعت الزيادة في العرض لأجل إدخالها وإدعامها بذلك- أزيد من الجهة التي تلي المغرب منه بنحو نصف ذراع؛ فإنهم جعلوا عرض الجدار في هذه الجهة من أسفل عقد القبة نحو ثلاثة أذرع بذراع اليد، وعرضه في الجهة الآخرى دون ذلك بنحو نصف ذراع، بحيث صارت جهة الأسطوان المذكور بارزة عن بقية ذلك الجدار في الرحبة المذكورة كما سيأتي تصويره.
وقد جعلوا على رأس هذا الجدار بناء يسيرا مما بقي من اللبن الذي أخرج من بعض جدار الحجرة كما تقدم وصفه، بعد أن تفرق اللبن المذكور، وأخذ الكثير منه.
وتركوا في نحو وسط هذا الجدار خوخة، فلما لم يبق إلا هي أدخلوا منها شيئا كثيرا من الحصباء جاؤوا بها من عرصة العقيق من جنس حصباء المسجد بعد غسلها بالماء ليضعوها على القبور الشريفة، وكنت قد ذكرت لبعضهم أن موضع القبر الشريف النبوي مما يلي الجدار القبلي، وأنه يستنبط مما قدمناه في مسمار الفضة المحاذي للوجه الشريف أن أول القبر الشريف من جهة المغرب على نحو ذراعين بذراع اليد من الحائط الغربي؛ لأنا إذا أسقطنا عرض الجدارين الغربيين- وهما الجدار الداخل والخارج، وهو نحو ثلاثة أذرع مما بين المسمار وأول الجدار الظاهر الغربي وهو نحو خمسة أذرع كما تقدم- كان الباقي نحو الذراعين إلى الرأس الشريف، فاستحسن ذلك، فحضر معهم لما دخلوا من الخوخة المذكورة لوضع الحصباء على القبور الشريفة، فوضعوا ذلك على المحل الشريف المذكور كما وصفت، وأخذوا بالهيئة المشهورة في كيفية القبور الشريفة من أن رأس أبي بكر رضي الله عنه خلف منكب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأس عمر رضي الله عنه خلف منكب أبي بكر، فوضعوا الحصباء عليهما كذلك وكان بعض المباشرين لذلك حنفيا- وهو صهر متولي العمارة- فجعلها مسنّة، وذلك بعد أن أكثروا في الموضع المذكور من البخور بالعود والعنبر وغيرهما من أنواع الروائح، وعرف المحل الشريف على ذلك كله راجح فائح، ولله در القائل:
بطيب رسول الله طاب نسيمها ... فما المسك ما الكافور ما المندل الرّطب
وألقى جماعة من الناس من تلك الخوخة أوراقا كتبوا فيها التشفع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ومارب يسألونها بالحجرة الشريفة، ثم سدوا الخوخة المذكورة، وأحكموا بناءها كبقية الجدار، وبيضوا القبة المذكورة وجميع جدرانها من خارجها بالجص، وجاءت حسنة فاض عليها أنس المحل الشريف، ونصبوا بأعلاها هلالا من نحاس يظنه الرائي ذهبا، وهو قريب من سقف المسجد الأول؛ فإن القبة المذكورة تحته، ثم سدوا ما بقي من نقب الجدار الظاهر، وحضرت معهم في ذلك الوقت، وحضرت أيضا بعض بناء الحجرة الشريفة، وتبركت بالعمل فيه، ولم أحضر غير ذلك طلبا للسلامة، وأنشدت في ذلك المحل الشريف قصيدتي التي تطفلت بها على واسع كرم الجناب الرفيع الحبيب الشفيع الحالّ بذلك الحمى المنيع، التي أولها:(2/173)
قف بالديار لحي في ذرى الحرم ... وحيّ هذا المحيّا من ذوي إضم
وكان الفراغ من ذلك وختم بناء الجدار الظاهر في يوم الخميس المبارك سابع شوال من السنة المذكورة، وأصرفوا في ذلك وفي غيره من عمارات المسجد وإعادة منارة مسجد قباء وتجديد بعض سقفه وإحكام مصرف المياه التي كانت تجتمع حول المسجد عند كثرة الأمطار مالا جزيلا، ومن أعظم ذلك نفعا ما جعل لمصرف المياه المذكورة كما سيأتي وصفه فقد عم نفعه، وذلك كله في الصحائف الشريفة السلطانية الأشرفية، أعز الله أنصارها، وأعلى في سلوك العدل منارها، على يد متولي العمارة الجناب الشمسي المتقدم ذكره ضاعف الله تعالى حسناته.
وهذا تصوير ما استقر عليه الأمر من هذه العمارة في صورة الحجرة المشرفة والقبور الشريفة بها:
ثم حدث بعد الحريق الثاني عند إنشاء القبة الثانية التي جعلوها بدلا عن القبة الزرقاء المتقدم ذكرها تأسيس دعامة وعقد في جهة المغرب عند مقام جبريل عليه السلام متصل بجدار الحجرة الظاهر من أعلاه وأسطوان وعقد في مقابلة ذلك في المشرق متصل بالجدار الظاهر أيضا في جهة المغرب.(2/174)
الفصل التاسع والعشرون في الحريق الحادث في زماننا بعد العمارة السابقة وما ترتب عليه
ألحقته هنا مع إلحاق ما تقدمت الإشارة إليه في الفصول السابقة، لحدوثه بعد الفراغ من مسودة كتابنا هذا لأني توجّهت إلى مكة المشرفة للاعتمار أول شهر رمضان عام ست وثمانين وثمانمائة، فورد علي بها عدة كتب من الصادقين في الخبر، وشافهني من شاهد الأمر والأثر، بما حصل من الخطب العظيم، والرزء الجسيم، باحتراق المسجد النبوي أول الثلث الأخير من ليلة الثالث عشر من شهر رمضان، وذلك أن رئيس المؤذنين وصدر المدرسين الشمسي شمس الدين محمد بن الخطيب قام يهلّل حينئذ بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالرئيسية، وصعد المؤذنون بقية المنائر، وقد تراكم الغيم فحصل رعد قاصف أيقظ النائمين، فسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة المذكورة، فسقطت في المسجد وله لهب كالنار، وانشق رأس المنارة، وتوفي الريس المذكور لحينه صعقا ففقد من كان على بقية المنائر صوته، فنادوه فلم يجب، فصعد إليه بعضهم فوجده ميتا، وأصاب ما نزل من الصاعقة سقف المسجد الأعلى بين المنارة الرئيسية وقبة الحجرة النبوية فثقبه ثقبا كالترس، وعلقت النار فيه وفي السقف الأسفل، ففتح الخدام أبواب المسجد قبل الوقت المعتاد وقبل إسراجه، ونودي بالحريق في المسجد، فاجتمع أمير المدينة وأهلها بالمسجد الشريف، وصعد أهل النجدة منهم بالمياه لإطفاء النار، وقد التهبت سريعا في السقفين، وأخذت لجهة الشمال والمغرب، فعجزوا عن إطفائها، وكلما حاولوه لم تزدد إلا التهابا واشتعالا، فحاولوا قطعها بهدم بعض ما أمامها من السقف، فسبقتهم لسرعتها، وتطبق المسجد بدخان عظيم، فخرج غالب من كان به، ولم يستطيعوا المكث؛ فكان ذلك سبب سلامتهم، وهرب من كان بسطح المسجد إلى شماليه، ونزلوا بما كان معهم من حبال الدلاء التي استقوا بها الماء بخارج المسجد على الميضأة والبيوت التي هناك وما حول ذلك، وسقط بعضهم فهلك، ونزل طائفة منهم إلى المسجد من الدرج فاحترق بعضهم ولجأ بقيتهم إلى صحن المسجد مع من حالت النار بينه وبين أبواب المسجد ممكن كان أسفل، ومنهم صاحبنا الشيخ العالم صدر المدرسين الشمسي شمس الدين محمد بن المسكين المعروف بالعوفي، فمات بعد أيام لضيق نفسه بسبب الدخان مع توعك سابق، رحمه الله تعالى! واحترق من الخدام الزيني شند نائب خازن دار الحرم، تغمده الله برحمته! ومات جماعة تحت هدم الحريق من الفقراء وسودان المدينة، وجملة من مات بسبب ذلك بضع عشرة نفسا، وكانت سلامة من بقي بالمسجد على خلاف القياس؛ لأن النار عظمت جدّا حتى صارت كبحر لجي من نار، ولها زفير وشهيق وألسن تصعد في الجو، وصار لفحها يؤثر من البعد حتى أثرت في النخلات التي بصحن المسجد،(2/175)
وعلق منها شيء بالمنارة الرئيسية فاحترقت، ووصلت النار لثياب الريس شمس الدين محمد رحمه الله تعالى فاحترقت بعد موته، وصارت النار ترمي بشرر كالقصر فتسقط بالبيوت المجاورة للمسجد، ومع ذلك فلا تؤثر فيها، حتى سقط بعض الشرر على سعف فلم يحترق، وحمل بعض خزائن الكتب من تحت سقف المسجد إلى صحنه فأصابها الشرر فأحرقها.
ونقل عن جمع كثير أنهم شاهدوا حينئذ أشكال طيور بيض كالإوز يحومون حول النار كالذي يكفها عن بيوت الجيران.
وأخبر أمير المدينة الشريفة السيد الشريف زين الدين فيصل الجمازي أن شخصا من العرب صادق الكلام رأى في المنام ليلة ثاني عشر من شهر رمضان أن السماء فيها جراد منتشر، ثم عقبته نار عظيمة، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم النار وقال: أمسكها عن أمتي، فجزاه الله عن أمته- خصوصا عن جيرانه- أفضل ما جزى نبيّا عن أمته.
وحكى أيضا عن بواب رباط السبيل أنه ذكر مثل تلك الرؤيا عن غيره، كتب لي بذلك صاحبنا العلامة شيخ المحدثين بالحرم النبوي الشيخ شمس الدين بن شيخنا العلامة ناصر الدين العثماني أمتع الله به.
هذا ما حصل لأهل المدينة الشريفة من الدهشة العظيمة والحيرة لما شاهدوا من هول هذه النار ومنظرها الفظيع، حتى أيقن بعضهم بالهلاك، وانتقل بعض أهل الدور منها لما وصل إليهم الشرر، وخرج بعضهم من باب المدينة الذي يلي البقيع، وبعضهم من بابها الذي يلي المصلى، وظنوا أن النار محيطة بهم. قال الشمس العثماني: وصار لجميع المدينة من جميع جهاتها بالبكاء ضجيج، وبالدعاء عجيج، قال: وأمر هذه النار عجيب، وليس الخبر كالمعاينة، وصار المسجد كالتنور، ولم يمض إلا أقل من عشر درج وقد استولى الحريق على جميع سقف المسجد وحواصله وأبوابه وما فيه من خزائن الكتب والربعات والمصاحف، غير ما وقعت المبادرة لإخراجه أولا وهو يسير، وغير القبة التي بصحن المسجد، وسبق ذكر سلامتها في الحريق الأول، وكنت تركت كتبي بالخلوة التي كنت أقيم بها في مؤخر المسجد، فكتب إلّي باحتراقها، ومنها أصل هذا التأليف وغيره من التاليف والكتب النفيسة نحو ثلاث مائة مجلد، فمنّ الله تعالى عليّ ببرد الرضى والتسليم، وفراغ القلب عن ذلك، حتى ترجحت هذه النعمة عندي على نعمة تلك الكتب لما كنت أجده قبل من التعلق بها؛ فلله الحمد والشكر على ذلك. هذا، مع ما منّ الله به علي من غيبتي عن هذا الأمر المهول؛ فإن وقوعه كان في ليلة الوصول إلى الحرم المكي، ولم يتفق لي منذ سكنت المدينة الخروج منها في رمضان، بل كنت ألازم المسجد النبوي فيه من أوله إلى آخره ليلا ونهارا، فكان ذلك سبب النجاة من هذا الأمر.(2/176)
ولما اشتعلت النار في السقف المحاذي للحجرة الشريفة ذاب الرصاص من القبة التي بسقف المسجد الأعلى، واحترقت أخشابها وما يحاذيها من السقف الأسفل والشباك الدائر على حائز عمر بن عبد العزيز الذي تعلق الكسوة بأعلاه، وسقط ما سقط من ذلك على القبة السفلى التي تقدم تجديدها، فلما أصبحوا بدأوا بطفي ما سقط على القبة المذكورة، واستمروا في ذلك إلى آخر النهار، فسلمت القبة المذكورة مع أن بعضها من الحجر الأبيض الذي يسرع تأثره بالنار، وذلك من المعجزات النبوية؛ لأن كثيرا من أساطين المسجد الشريف سقطت لما ذاب بعض رصاصها وتهشمت وهي من الحجر الأسود، ومع ذلك تفتت كأنه أحجار النورة، وعدة ما سقط منها مائة وبضع وعشرون أسطوانا، وما بقي منها فقد أثرت فيه النار أثرا بينا، وسلمت الأساطين اللاصقة بجدار الحجرة أيضا؛ فالحمد لله على حماية الحجرة المنيفة، الحاوية للقبور الشريفة، واحترقت المقصورة التي كانت حول الحجرة الشريفة والمنبر الشريف وما كان أمام المصلى المنيف بالروضة الشريفة من الصندوق وما عليه من المحراب المتقدم وصفه، وسقطت أكثر عقود المسجد، وما بقي منها فهو آيل إلى السقوط، وسقط علو المنارة الرئيسية، ثم خشوا من سقوط بعض ما بقي منها فهدموا نحو ثلثها، وكتبوا إلى سلطان مصر مولانا الأشرف سلطان الحرمين الشريفين قايتباي أيد الله أنصاره بذلك سادس عشر رمضان، واقتضى رأي نائب الناظر سد أبواب حواصل المسجد حتى القبة التي بوسطه المرصد فيها زيت مصابيحه، وترك الردم على حاله حتى ترد الأوامر الشريفة فتضرر الناس بذلك، فاتفقت الآراء على تنظيف مقدم المسجد ما عدا ما جاور الحجرة الشريفة خوفا على ما سقط من حلية قناديلها، مع أنها يسيرة كما يؤخذ مما سبق، فجعلوا على ذلك حاجزا من الآجرّ، ونقلوا هدم مقدم المسجد إلى ما يلي باب الرحمة من مؤخره، وعمل في ذلك أمير البلد والقضاة والأشراف وعامة الناس حتى الكثير من النساء والأطفال تقربا إلى الله تعالى بغير أجرة، ولم يتأخر عن ذلك إلا المخدّرات من النساء.
وبنوا في محل المنبر منبرا من آجر، وصلّوا بالمصلى النبوي من حينئذ، وعملوا لأبواب المسجد غير باب جبرائيل خوخا يدخل منها، وسدوا ما زاد على ذلك، ونصب الخدام خياما بالمسجد إذ لم يبق به ظل، وصار بعض أهل الخير يسرج قناديل متعددة من عنده في المسجد مع توفر الزيت بحاصله، لكن تعذر ذلك بسبب سدّه، واستمرت النار فيما لم ينقل هدمه من المسجد حتى فيما حول الحجرة الشريفة وموقف الزائرين تجاه الوجه الشريف، وأخبر بعضهم بمشاهدة الدخان يتصاعد من ذلك المحل الشريف بعد مدة، وفي أثناء شوال أخبر قاضي المالكية شمس الدين السخاوي حفظه الله تعالى أنه رأى في النوم من يقول له:
أطفئوا النار من الحجرة الشريفة، يعني الموضع الذي تركوا تنظيفه حولها، فتفقدوا ذلك(2/177)
فوجدوا النار في ثمانية مواضع، فأطفؤوا ذلك، ثم رأوا أن مادة هذه النار لا تنقطع إلا بتنظيف الردم، فاجتمعت الآراء على ذلك بعد توقّف تام من نائب الناظر، وعيّنوا لتعاطيه من يثقون به من الخدام والفقهاء والفقراء، وكان الصواب المبادرة لذلك أولا، ولكن على كل خير مانع، ولا يدري أحد أسرار ما الله في عباده صانع، ولما نظفوا ذلك وجدوا حلية الصندوق المجعول في جهة الرأس الشريف وجانبا من الكسوة وبعض البسط سالما لسقوط الردم عليه، ووجدوا القناديل التي كان التخوّف في تنظيف ذلك المحل لأجلها، وأداروا على الحجرة الشريفة جدارا من الآجر في موضع المقصورة المحترقة، وجعلوا فيها شبابيك وطاقات وأبوابا، وقام بمصروف ذلك بعض النساء المباركات وغيرها، وسامح البناؤون بنصف أجرهم مع توفر المصروف بحاصل المسجد الشريف، وأحضرت تلك المرأة أيضا وغيرها كسوة للحجرة الشريفة من القماش الأبيض فجعلت عليها.
وفي ذلك كله عبرة تامة وموعظة عامة لأولي الأبصار، وهو منذر بأمر عظيم، ولهذا اختص به هذا المحل المنسوب إلى النذير صلّى الله عليه وسلّم، وقد ثبت أن أعمال الأمة تعرض عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلما ساءت منا الأعمال المعروضة ناسب ذلك الإنذار بإظهار عنوان النار المجازي بها في موضع عرضها، ولم أزل في وجل مما يعقب ذلك حيث لم يحصل الاتعاظ والانزجار، وقد قال تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: 59] ، وقال تعالى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16] وكأن لسان القدرة ينادي: ألا تتعظون بما ترون وتسمعون؟ ألا تنتهون وتنزجرون؟ ألا ترون إلى هذا المحل الشريف مع عظيم نسبته وعلو رتبته ومكانته لما تلوّث باثاركم معشر المذنبين، وتدنّس بأقذاركم كافة الغافلين، أرسلت عليه بحرا من النار السماوية تطهره من تلك الآثار، وتزجركم عن التمادي على الإصرار، وموالاة اتباع الأوزار، وتشهد بصائركم عموم القدرة، فترسلون من الأبصار سوابق العبرة، تأسفا على ما اجترحتموه قبل هذه العبرة، فمن لم ينته بهذا الزاجر الفعلي عن إصراره، ولم يقتبس من هذه النار العظيمة قبسا يهتدي بأنواره، فلينظر فيما حدث عقيب حريق المسجد القديم، ويتفكر في ضعفه عن احتمال العذاب الأليم، حمانا الله من ذلك، وسلك بنا أجمعين أحسن المسالك.
ومن العجائب أنه لم يتأتّ إخراج ردم هذا الحريق بعد نقله لمؤخر المسجد حتى حضر الحجّاج من سائر الآفاق للزيارة، وشاهدوا هذه العبرة العظيمة، ورأوا ما اجتمع من الردم كالآكام والتلول الجسيمة، ثم قبيل دخول الحاج مكة بالقعدة الحرام من العام الثاني أرسل الله سيلا عظيما بمكة المشرفة ملأ ما بين الجبلين وعلا جدار أبواب المعلى، ودخل جوف الكعبة الشريفة، وارتفع فيها أزيد من قامة وهدم دورا كثيرة يقال إنها تزيد على ألفي دار،(2/178)
وذهب بسبب ذلك من الأموال والأنفس ما لا يحصيه إلا الله تعالى، حتى أنهم ضبطوا من وجد تحت الردم بالمسجد الحرام فقط عند تنظيفه فكانت عدتهم نحو الثمانين، وقيل أزيد من مائة، ولم أقف فيما نقل من سيول الجاهلية والإسلام على مثل ذلك، ولما نظفوا ذلك الردم- وهو أتربة ونقض هدم حملها السيل- لم يتأتّ إخراجه قبل وصول الحجاج وصار ذلك كالآرام والتلول العظيمة في المسجد الحرام، فحضر الحجاج كلهم وشاهدوا ذلك، فسبحان من بيده الخلق والأمر لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ولما وصل خبر الحريق لرودس من بلاد النصارى أظهروا بذلك فرحا واستبشارا، وتظاهروا بالزينة وضرب النواقيس، فلم يمض ذلك اليوم إلا وقد أرسل الله عليهم زلازل عظيمة هدمت عليهم جانبا من سور البلد والكنيسة وكثيرا من دورهم، وهلك منهم بذلك خلائق لا يحصون، ودامت الزلازل عليهم، أياما، شاهدت ذلك في كتب وردت من ثغر إسكندرية بخط من يعتمد عليه، وذكروا أن المخبر لهم بذلك أهل المراكب الواردة من رودس المذكورة، وأنهم سافروا والزلازل مستمرة بها، وهم يخرجون الموتى من تحت الهدم بعد انتقال من بقي إلى خارج البلد، فتأمل هذه المعجزات النبوية، والآيات الربانية.
ولما وصل القاصد إلى مصر المحروسة، واتصل علم الحريق المذكور بسلطانها، عظم ذلك عليه، وبرزت أوامره الشريفة بالمبادرة إلى تنظيف المسجد الشريف، ورأى أن في تأهيل الله تعالى له لعمارة ذلك مزيد التشريف، وكمال التعريف، وأنه كرامة من الله تعالى أكرمه بها، وذخيرة يرجو الفوز بسببها، فاستقبل أمر العمارة بهمة تعلو الهمم العلية، ورسم بإبطال عمائره المكية، وبتوجه شادها السيفي الأمير سنقر الجمالي صحبة الحاج الأول بزيادة على مائة صانع من البنائين والنجارين والنشارين والدهانين والحجارين والنحاتين والحدادين والمرخّمين وغيرهم، وكثير من الحمير والجمال، وصحبته وصحبة أخيه المقر الأشرفي الشجاعي شاهين والأمير قاسم الفقيه شيخ الحرم الشريف مبلغ عشرين ألف دينار، وشرع السلطان في تجهيز الآلات والمؤن حتى كثرت في الطّور والينبع والمدينة الشريفة.
ثم جهّز متولي العمارة الأولى بالمدينة الشريفة- وهو الجناب العالي الخواجكي الشمسي شمس الدين بن الزمن- في أثناء ربيع الأول وصحبته أكثر من مائتي جمل ومن مائة حمار وأزيد من ثلثمائة من الصناع أهل الصنائع الأولى وغيرهم من الحمالين والمبيضين والسباكين والجباسين، وأصرفوا لهم شيئا من الأجرة قبل سفرهم، وقد صارت أحمال المؤن متواصلة قلّ أن تنقطع برا وبحرا، واستقبلوا أمر العمارة بجد واجتهاد، فهدموا المنارة الرئيسية التي أصابها الحريق إلى أساسها، وهدموا من سور المسجد من ركن المنارة التي بباب السلام إلى آخر جدار القبلة وما يليه من المشرق إلى باب جبريل، وما يلي المنارة من المغرب أيضا إلى(2/179)
باب الرحمة، وأعادوا المنارة الرئيسية وسور المسجد المذكور، وزادوا في عرضه يسيرا، ووسعوا المحراب العثماني، وسقفوا مقدم المسجد سقفا واحدا، بعد أن قصروا أساطينه وجعلوا عليها عقودا من الآجر فوقها أخشاب السقف، وكانت الأساطين المذكورة قبل ذلك واصلة إلى سقف المسجد كهيئة ما بقي من أساطينه في بقية المشرق والمغرب والشام، وجعلوا على المحراب العثماني قبة على رؤوس الأساطين، بعد أن قرنوا إلى كل أسطوانة ثانية، وجمعوا في بعضها بين خمس أساطين؛ ليتأتى لهم عقد القبة المذكورة، وأزالوا الأسطوانة التي كانت في محاذاة الأسطوانة التي إليها المصلّى النبوي بينها وبين المحراب العثماني، وجعلوا على ما يحاذي الحجرة الشريفة وما حوله قبة عظيمة على دعائم بأرض المسجد وعقودا من الآجر بدلا عن القبة الزرقاء التي كانت قبل الحريق، وكانت تلك على رؤوس السواري كما سبق في الفصل السابع والعشرين، وقدمنا هناك ما حصل من ضيق المسجد من جهة المشرق بسبب ابتناء بعض تلك الدعائم هناك، فخرجوا بجدار المسجد الشرقي- أعني ما حاذى ذلك منه- بنحو عرض الجدار في البلاط الشرقي، وأبقوا الباب المعروف بباب جبريل في محله.
ثم أحدثوا أسطوانا في جانب مثلث الحجرة ليشتدّ به العقد الذي عليه القبة في تلك الناحية، وحفروا لذلك أساسا عظيما ظهر بسببه القبر المنسوب في أحد الأقوال لفاطمة الزهراء رضي الله عنها، وزادوا دعامتين وعقدا إلى جانب الأسطوانتين اللتين في جهة الوجه الشريف، ولم يبالوا بما حدث بسبب ذلك من الضيق في الموضع المواجه للوجه الشريف داخل المقصورة وغيره لخشيتهم من سقوط القبة المذكورة، وكانوا قد وجدوا في جدار المنارة الرئيسية عند هدمها خزانة وضع الأقدمون بها أوراق المصاحف المحترقة في الحريق الأول وسدوا عليها، فأخرجوا تلك الأوراق ووضعوها في أعلى القبة المذكورة عند ختمها، فبدأ في القبة تشقّق، فقيل لهم: إن ذلك بسبب وضع الأوراق المذكورة بها؛ لأن الله تعالى يقول: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] فأخرجوا تلك الأوراق منها، فقضيت العجب من ذلك.
ومن الغريب أني كنت قد عزمت على التوجه إلى أرض مصر لزيارة والدتي وأهلي قبل الشروع في العمارة المذكورة، فلم أحضر شيئا من ذلك، ومن الله تعالى بالوصول إلى الوالدة والأهل، فتوفيت الوالدة بعد قدومي بعشر ليال، وكانت مدة غيبتي عن أهلي ستة عشر سنة، ثم منّ الله تعالى بالعود إلى المدينة الشريفة بعد تعويض ما تدعو الحاجة إليه من الكتب المحترقة، فوجدتهم قد عمروا القبة المذكورة ومقدم المسجد وعقدوا العقود المتصلة بهذه القبة من المشرق والشام، وجعلوها قبوا بدل السقف، واتخذوا فيما بين الحجرة الشريفة(2/180)
والجدار القبلي قبة لطيفة، وحولها ثلاثة أخر تسمى مجاريد، وجعلوا بين عقود هذه القباب وبين المنارة الرئيسية التي أعادوها بادهنجا للضوء والهواء، وكان باب المنارة المذكورة من جهة المغرب، فنقلوه إلى جهة الشام، وأحدثوا أمامه أربع درجات بأرض المسجد، وإلى جانبها خزانة، وجعلوا موضع بابها الأول خلوة للخطيب يجلس بها إلى أن يخرج للخطبة يوم الجمعة، وكان جلوسه في الأعصار الخالية هناك مع وجود باب المنارة به، واتخذوا أيضا قبتين أمام باب السلام من داخله، وبنوا الباب المذكور بالرخام الأبيض والأسود وزخرفوه زخرفة عظيمة، وكذلك القباب المذكورة، وخفضوا أرض مقدم المسجد حتى ساوت أرض المصلى الشريف، واتخذوا له محرابا في محل الصندوق الذي كان هناك وزخرفوه بالرخام وكذا المحراب العثماني زخرفة عظيمة، وأعادوا ترخيم الحجرة الشريفة وما حولها وترخيم الجدار القبلي، وأزالوا البناء الذي عمله أهل المدينة في موضع المقصورة المستديرة بالحجرة الشريفة، وأبدلوا ما يلي القبلة من ذلك بشبابيك من النحاس، وبأعلاها شبكة من شريط النحاس كهيئة الزّرد، وجعلوا لبقيتها مما يلي الشام مشبكا مشاجرا من الحديد وفاصلا عن يمين مثلث الحجرة ويساره فيه بابان كما سبق بسط كل ذلك في محله، وعملوا المنبر ودكة المؤذنين من رخام، وجعلوا فيما يلي باب الرحمة وباب النساء إلى مؤخر المسجد دكتين إحداهما بالمسقف الغربي والآخرى بالمسقف الشرقي، وجعلوهما أخفض من الدكاك الشامية يسيرا، وردموهما من أتربة المسجد، واتخذوا فيما أعادوه من الجدار الشرقي خزائن للكتب وطاقات كبارا كالأبواب المقنطرة في أعالي الجدار وطاقات متسعة مستديرة أيضا تكثيرا للضوء، ولم يكن بأعالي الجدار المذكور أولا غير شباك واحد، وجعلوا نظير تلك الطاقات في الجدار القبلي أيضا، وبنو الجدار من ابتداء تلك الطاقات بالآجر، وسبب الاحتياج إلى ذلك أن أساطين مقدم المسجد الشريف كانت واصلة إلى سقفه كما سبق، ولم يكن بذلك قناطر من العقود سوى ما يلي الرحبة من الرواقين اللذين جدّدهما الناصر كما سبق، وكان الساقط من الأساطين بمقدم المسجد هو الأكثر لسقوط العقود التي كانت بين السقفين عليها وقت الحريق واشتعال النار المذيبة للرصاص الذي بين خرز الأساطين، فاقتضى رأيهم إعادة تلك الأساطين قصيرة وتكميلها إلى السقف بعقود القناطر، فأخذت القناطر حصة من الضوء، فعوّضوا ذلك بتلك الطاقات، وأكد عندهم فتحها أخذ متولي العمارة للدور التي في قبلة المسجد المعروفة بدور العشرة ليجعلها مدرسة للسلطان، وعرض الجدار القبلي يسيرا منها، وجعل فيها فتحات لشبابيك متعددة أيضا، ثم صرف الله تعالى عزمه عن ذلك وسد فتحات الشبابيك المذكورة كلها بفصوص الأحجار كنسبة بناء الجدار، وسدّ أيضا الطاقات التي بالجدار القبلي إلا ما يحاذي القبة التي على المحراب العثماني، فجعل لها ولما بقي من الطاقات قمريات من الزجاج وشبكات من شريط النحاس.(2/181)
ثم استبدل متولي العمارة الرباط المعروف بالحصن العتيق وما في شاميه من المدرسة الجوبانية والدار التي كانت تعرف بدار الشباك- وذلك كله فيما بين باب الرحمة وباب السلام- عند هدم هذا الجانب من الجدار الغربي ليتخذ في ذلك مدرسة ورباطا لسلطان زماننا الأشرف أدام الله تعالى تأييده وتسديده، واتخذ في الجدار المذكور فتحات لشبابيك كثيرة في ثلاث طبقات عدتها ثلاثون فتحة، لأن الفتحة الثالثة من على يسار الداخل من باب السلام في موضع باب خوخة أبي بكر الصديق الآتي ذكرها في أبواب المسجد، جعلوه بابا ينفذ إلى المسجد، وكذا الفتحتان اللتان بينها وبين باب السلام جعلوا لهما بابين إلى المسجد فقط، وصارت هذه الأبواب الثلاثة في المسجد دون المدرسة من أصل حاصل المسجد الذي كان هناك، والفتحة الخامسة- وهي الثالثة من خوخة أبي بكر- جعلوها بابا ينفذ من المسجد إلى أسفل المدرسة، وجعلوا على الفتحات التي في الطبقة العليا شبكة من شريط النحاس شبه الزرد؛ لأنها جعلت لمجرد الضوء، وقد تكلم الناس مع متولي العمارة في أمر الشبابيك واتخاذها بجدار المسجد الشريف القبلي قبل انتقاله إلى هذه الجهة، وكثر الكلام في ذلك، فكاتب السلطان فاستفتى علماء مصر في ذلك فأفتاه جماعة منهم بذلك، فقلدهم فيه، وعوض ما فات من المصاحف والربعات، وبعث بعض ذلك على يدي بحيث اجتمع من ذلك أكثر مما فات، وكذلك الكتب بعث بجانب منها ووعد بإرسال ما يحتاج إليه، وكان من التوفيق بعثه للأمير الكبير الفخري قاسم الفقيه ناظرا على المسجد الشريف وشيخا لخدامه، وهو محب للعلم وأهله، مغرم بتلاوة القرآن الشريف، لم ير على طريقته مثله في هذا الباب؛ فصار يباشر أمر الرّبعات والمصاحف بنفسه ومماليكه، واتخذ لها كراسيّ صغارا يوضع عليها بالروضة الشريفة في أوقات الصلوات النهارية، فيقرأ هو والناس فيها؛ فعم نفعها.
ولما قارب المسجد التمام أخذوا في عمارة الرباط والمدرسة المذكورين، وأسسوا لهما منارة في ناحيتهما التي تلي باب الرحمة، وشرعوا أيضا في عمارة رباط آخر بدل رباط الحصن العتيق، وفي حمام قبالة الرباط المذكور استأجروا أرض الحمام من الناظر على الميضأة التي بباب السلام فإنها منها، وشرعوا أيضا في عمارة سبيل وفرن وطاحون ومطبخ للدشيشة ووكالة ذات حواصل في الدور التي اشتروها قبل ذلك للسلطان من دور العباس وما يلي ذلك في جهة القبلة، وذلك أن السلطان أعز الله تعالى أنصاره بعد رجوعه من الحج شرع في شراء أماكن وجعلها وقفا ليحمل ريعها إلى المدينة الشريفة ليفرّق منه على أهلها ويعمل منه سماط كسماط الخليل عليه السلام، وأبرز لذلك ستين ألف دينار كما ذكرناه في الفصل الثالث والثلاثين، فاتخذوا هذه الأماكن لذلك، وهو أمر لم يسبق إليه، فسح الله تعالى في أجله، وبلغه من الخير غاية سؤاله وأمله، ولم يكن بالمدينة الشريفة حمام قبل ذلك من مدة مديدة، وكذا الطاحون، وإنما يستعملون الأرحاء التي تدار بالأيدي.(2/182)
ثم كتب إلى بعض الثقات بتكامل تحصيل تلك الأماكن، وأن متحصلها سبعة آلاف إردب وخمسمائة إردب من الحبّ في كل سنة، وأن السلطان أدام الله نصره أنجز وقفها وشرع في عمارة أماكن بمصر تقوية للوقف، ورسم بإبطال المكوس بالمدينة وتعويض أميرها.
وقد كملت سقف المسجد النبوي كلها في أواخر شهر رمضان عام ثمان وثمانين وثمانمائة، وتمت عمارة المسجد الشريف عقب ذلك، ولم يبق سوى اليسير من العمائر السابق ذكرها وإكمال ترخيم المدرسة الأشرفية.
وفي عام تسع وثمانين حضر جماعة من الدهانين بعث بهم السلطان الأشرف أعز الله أنصاره من مصر لمحو ما بلغه أنه جعل في بعض سقف المسجد الشريف من الدهان بالنيلة وإبداله باللازورد، وجهّز معهم أساقيل لذلك، فعملوه على أحسن وجه، ثم جهز؟
الأشرف عين الأعيان ونخبة الزمان البهائي بهاء الدين أبا البقاء بن الجيعان عظم الله شأنه وأسبغ عليه نعمه وإحسانه في ركب مع جماعة من خواصه، فوصل إلى المدينة الشريفة سابع ذي القعدة الحرام من العام المذكور، ومعه أحمال من كتب العلوم الشرعية موقوفة بالمدرسة الأشرفية، وأحمال كثيرة من الحبّ والدقيق والقدور النحاس التي جعلت برسم السّماط المتقدم ذكره، وبقايا آلات العمارة مما جهز في المراكب الشريفة إلى الينبع، فقرر أمر السماط، فصرف لكل شخص من المقيمين من الحب ما يكفيه على حسب عدة عياله، لكل نفر سبع إردب مصري بتقديم السين على الموحدة، وسوّى في ذلك بين الصغير والكبير والحر والعبد، وجعل للآفاقيين ما يكفيهم من الخبز وطعام الجشيشة في كل يوم، وقرر أمر المدرسة، وصرف للمرخمين وغيرهم من أرباب الصنائع مصروف بقية عملهم، وأحسن النظر في ذلك حتى زاد جماعة منهم من ماله وتلطف بهم وأحسن، فانطلقت الألسن بالدعاء له، أحسن الله له الجزاء، وجعل نصيبه من خيري الدارين من أوفر الأجزاء.
وقد قارن هذه العمارة من السعد وتسهيل الأمور ما لا يوصف، ويسر الله تعالى لهم من آلات العمارة ما لم نكن نظن حصوله بنواحي المدينة الشريفة، خصوصا أخشاب الدّوم، فقطعوا من الموضع المعروف بالشقرة ومن الصويدرة ومن الفرع وغير ذلك ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وكذلك أخشاب السّمر.
وقد أخبرني بعض المباشرين لهذه العمارة الميمونة أن المصروف فيها وفيما شرعوا فيه من عمارة المدرسة وتوابعها نقدا وأثمان آلات وبهائم وغير ذلك مائة وعشرون ألف دينار، ومع ذلك فلم يتم بعد.
ثم بعد أن منّ الله تعالى بإتمامها بلغ السلطان الأشرف أن متولي العمارة تسمح في(2/183)
استعمال مؤن غير صالحة، وأن القبة التي سبق اتّخاذها على أعلى ما يحاذي الحجرة الشريفة قد تشققت ثم رمّت ثم تشققت، ولم يفد الترميم فيها، وأن المنارة الرئيسية قد مالت، مع أمور أخرى، فتغير خاطره على متولي العمارة، ثم انتخب لذلك المقر الشجاعي شاهين الجمالي لما اشتمل عليه من الفضل والنبل وإصابة الرأي، وفوض إليه أيضا مشيخة الحرم ونظره ونظر السماط، فورد المدينة الشريفة في موسع عام أحد وتسعين وثمانمائة، وجمع الناس للنظر في ذلك، وراجع فيه أهل الخبرة، فاقتضى الحال هدم المنارة الرئيسية وهدم أعالي القبة المذكورة، ولما هدم المنارة المذكورة ظهر أن الخلل من عدم المبالغة في حفر أساسها، فحفر أساسها حتى بلغ به الماء، واتخذ لها أحجارا من الحجر الأسود متقنة، وأحكم بناءها مع الحسن الفائق، بحيث لم ير قبلها بالمدينة الشريفة مثلها، وجعل بابها من المغرب في محله الأول، وأبطل تلك الدرج المحدثة بأرض المسجد على ما سبق، وأما القبة فاتخذ في الطاقات المحيطة بجوانبها سقفا يمنع من سقوط ما يهدم منها إلى أرض الحجرة الشريفة، ثم شرع في هدمها وإعادتها، بحيث لم يرفع كسوة الحجرة الشريفة ولم يتخذ المسجد طريقا للعمال في ذلك، بل اتخذ أساقيل يمشي عليها إلى سطح المسجد في ناحيته الشرقية، واتخذ حاجزا لمحل المنارة يحول بينها وبين المسجد بحيث يظن الظان أن المسجد لا عمارة به، وصانه أيضا من الامتهان بعمل أرباب الصنائع، فجزاه الله تعالى خير الجزاء، وجعل ثوابه على ذلك من أوفر الأجزاء.
وقد جاءت القبة حسنة مع الإتقان، حتى إنه استصحب في هذه العمارة الجبس من مصر المحروسة، واستعمله في البناء، وحرص على إتقان الآجر، وزاد العمال فيه على عادتهم، ولم يوفق متولي العمارة قبله لشيء من ذلك، سامحه الله، وكل ميسّر لما خلق له.
وقد ذكر ابن النجار ما كان عليه الخلفاء من الاهتمام بعمارة المسجد النبوي فقال: ولم يزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء على المدينة الشريفة، ويمدونهم بالأموال لتجديد ما ينهدم من المسجد النبوي، فلم يزل ذلك متصلا إلى أيام الناصر لدين الله، أي الخليفة في زمنه، قال: فإنه ينفذ في كل سنة من الذهب العين الإمامي ألف دينار لعمارة المسجد، وينفذ عدة من النجارين والبنائين والنقاشين وأرباب الحرف، وتكون مادتهم مما يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف، وينفذ من الحديد والصناع والرصاص والحبال والآلات شيئا كثيرا، ولا تزال العمارة متّصلة في المسجد حتى إنه ليس به موضع أصبع إلا وهو عامر، انتهى.
قلت: وعقب وفاة ابن النجار بيسير انتقل أمر المدينة الشريفة إلى ملوك مصر، ولم يزل ملوكها يهتمون بعمارة هذا المسجد الشريف، ومن أعظمهم همة في ذلك، وأحبهم في(2/184)
سلوك هذه المسالك، سلطان زماننا الملك المالك لصفوة الممالك الأشرف أبو النصر قايتباي، أعزّ الله أنصاره، وضاعف اقتداره؛ فلذلك أجرى الله على يديه هذه العمارة، وآثره بهذه الأثارة، ومن تأمل ما قدمناه في الفصل السادس والعشرين في الحريق الأول عن المؤرخين من عمل سقف المسجد على يد من سبق وطول مدته وصفته، وأحاط علما بما أسلفناه عن سلطان زماننا في عمارته، حكم يقينا بعلو همته، وفخار منقبته ومرتبته، واختصاصه بما لم يفز به من سبقه؛ فكان هو سابقا، وإن عد في الزمان لاحقا، وقد ذكرنا ما له بالحجاز الشريف من الآثار الجميلة، وبعض مناقبه الجليلة، في الفصل الثالث والثلاثين في خوخة آل عمر رضي الله عنه لما خصه الله به من حسم مادة المفاسد المترتبة عليها في زماننا، وأمره بسدّ طابقها، شكر الله صنيعه، وحصّنه من العداة بحصونه المنيعة.
خاتمة فيما نقل من عمل نور الدين الشهيد لخندق حول الحجرة الشريفة مملوء بالرصاص، وذكر السبب في ذلك، وما ناسبه
اعلم أني قد وقفت على رسالة قد صنّفها العلامة جمال الدين الأسنوي في المنع من استعمال الولاة للنصارى، وسماها بعضهم «بالانتصارات الإسلامية» ورأيت عليها بخط تلميذه شيخ مشايخنا زين الدين المراغي ما صورته «نصيحة أولي الألباب، في منع استخدام النصارى كتاب» لشيخنا العلامة جمال الدين الأسنوي، ولم يسمه، فسميته بحضرته، فأقرني عليه، انتهى. فرأيته ذكر فيها ما لفظه: وقد دعتهم أنفسهم- يعني النصارى- في سلطنة الملك العادل نور الدين الشهيد إلى أمر عظيم ظنوا أنه يتم لهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وذلك أن السلطان المذكور كان له تهجّد يأتي به بالليل، وأوراد يأتي بها، فنام عقب تهجده، فرأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في نومه وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: أنجدني أنقذني من هذين، فاستيقظ فزعا، ثم توضأ وصلى ونام فرأى المنام بعينه، فاستيقظ وصلى ونام فرآه أيضا مرة ثالثة، فاستيقظ وقال: لم يبق نوم، وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي، فأرسل خلفه ليلا، وحكى له جميع ما اتفق له، فقال له: وما قعودك؟
اخرج الآن إلى المدينة النبوية، واكتم ما رأيت، فتجهز في بقية ليلته، وخرج على رواحل خفيفة في عشرين نفرا، وصحبته الوزير المذكور، ومال كثير، فقدم المدينة في ستة عشر يوما، فاغتسل خارجها ودخل فصلى بالروضة، وزار، ثم جلس لا يدري ماذا يصنع، فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد: إن السلطان قصد زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأحضر معه أمولا للصدقة، فاكتبوا من عندكم، فكتبوا أهل المدينة كلهم، وأمر السلطان بحضورهم، وكل من حضر ليأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي صلّى الله عليه وسلّم له فلا يجد تلك الصفة،(2/185)
فيعطيه ويأمره بالانصراف، إلى أن انقضت الناس، فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة؟ قالوا: لا، فقال: تفكروا وتأملوا، فقالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئا، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج، فانشرح صدره وقال: علّي بهما، فأتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهما بقوله: أنجدني، أنقذني من هذين، فقال لهما: من أين أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجّين فاخترنا المجاورة في هذا العام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: اصدقاني، فصمّما على ذلك، فقال: أين منزلهما؟ فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة، فأمسكما وحضر إلى منزلهما، فرأى فيه مالا كثيرا وختمتين وكتبا في الرقائق، ولم ير فيه شيئا غير ذلك، فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير وقالوا: إنهما صائمان الدهر ملازمان الصلوات في الروضة الشريفة وزيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم وزيارة البقيع كل يوم بكرة وزيارة قباء كل سبت، ولا يردان سائلا قط بحيث سدّا خلة أهل المدينة في هذا العام المجدب، فقال السلطان: سبحان الله! ولم يظهر شيئا مما رآه، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيرا في البيت، فرأى سردابا محفورا ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك، وقال السلطان عند ذلك:
اصدقاني حالكما وضربهما ضربا شديدا، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زيّ حجاج المغاربة، وأمالوهما بأموال عظيمة، وأمروهما بالتحيل في شيء عظيم خيّلته لهم أنفسهم، وتوهموا أن يمكنهم الله منه، وهو الوصول إلى الجناب الشريف ويفعلوا به ما زيّنه لهم إبليس في النقل وما يترتب عليه، فنزلا في أقرب رباط إلى الحجرة الشريفة، وفعلا ما تقدم، وصارا يحفران ليلا، ولكل منهما محفظه جلد على زي المغاربة، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع، فيلقيانه بين القبور، وأقاما على ذلك مدة، فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت، وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة. واتفق إمساكهما واعترافهما، فلما اعترفا وظهر حالهما على يديه، ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره بكى بكاء شديدا، وأمر بضرب رقابهما، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة، وهو مما يلي البقيع، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقا عظيما إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها، وأذيب ذلك الرصاص، وملأ به الخندق، فصار حول الحجرة الشريفة سورا رصاصا إلى الماء، ثم عاد إلى ملكه، وأمر بإضعاف النصارى، وأمر ألايستعمل كافر في عمل من الأعمال، وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعا، انتهى.
وقد أشار إلى ذلك الجمال المطري باختصار، ولم يذكر عمل الخندق حول الحجرة وسبك الرصاص به، لكن بيّن السنة التي وقع فيها ذلك مع مخالفة لبعض ما تقدم، فقال في الكلام على سور المدينة المحيط بها اليوم: وصل السلطان نور الدين محمود بن زنكي بن(2/186)
اقسنقد في سنة سبع وخمسين وخمسمائة إلى المدينة الشريفة بسبب رؤيا رآها ذكرها بعض الناس وسمعتها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر المحترق أبوه ليلة حريق المسجد عمن حدثه من أكابر من أدرك أن السلطان محمودا المذكور رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات في ليلة واحدة وهو يقول في كل واحدة: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين الأشقرين تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر له ذلك، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس له غيرك، فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة من أهلها والوزير معه، وزار وجلس في المسجد لا يدري ما يصنع، فقال له الوزير: أتعرف الشخصين إذا رأيتهما؟ قال: نعم، فطلب الناس عامة للصدقة، وفرق عليهم ذهبا كثيرا وفضة، وقال: لا يبقيّن أحد بالمدينة إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التي تعرف اليوم بدار العشرة، فطلبهما للصدقة فامتنعا وقالا: نحن على كفاية ما نقبل شيئا، فجدّ في طلبهما، فجيء بهما، فلما رآهما قال للوزير: هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا: لمجاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
اصدقاني، وتكرر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما فأقرّا أنهما من النصارى، وأنهما وصلا لكي ينقلا من في هذه الحجرة الشريفة باتفاق من ملوكهم، ووجدهما قد حفرا نقبا تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي، وهما قاصدان إلى جهة الحجرة الشريفة، ويجعلان التراب في بئر عندهما في البيت الذي هما فيه، هكذا حدثني عمن حدثه، فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم خارج المسجد، ثم أحرقا بالنار آخر النهار وركب متوجها إلى الشام، انتهى.
وقد ساق المجد هذه الواقعة على الوجه الذي ذكره المطري فقال: ومن الحوادث في المسجد الشريف ما نقله جماعة من مشايخ المدينة وعلمائها، وذكر ما تقدم، وكذلك الزين المراغي ذكر ما تقدم عن المطري نقلا عنه، وزاد أن وزير السلطان نور الدين الذي استحضره وذكر له القصة هو الموفق خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر، قال: وكان موفقا، انتهى.
ومأخذه في ذلك- كما رأيته في حاشية بخطه على كتابه- أن الذهبي قال في ترجمة الموفق هذا: موفق الدين، أبو البقاء، صاحب الخط المنسوب، وكان صدرا، نبيلا، وافر الحشمة، وزر للسلطان نور الدين، توفي بحلب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، انتهى.
وقد خالف الزين في ذلك ما قدمناه عن شيخه الأسنوي من تسمية الوزير المذكور بجمال الدين الموصلي، ولا يلزم من كون الموفق وزر للسلطان نور الدين أن يكون هو(2/187)
الوزير عند وقوع الرؤيا المذكورة، لاحتمال أنه وزر له بعد ذلك أو قبله، وجمال الدين الموصلي هذا هو الجواد الأصفهاني، وقد تقدم ذكره في ترخيم الحجرة، ووصفه بأنه وزير بني زنكي؛ لأنه كان وزير والد نور الدين الشهيد الذي هو زنكي ثم وزر لولده غازي، وأدرك دولة نور الدين الشهيد وزمان هذه الواقعة؛ فالظاهر أنه وزر له، وأنه المراد في هذه الواقعة.
والعجب أني لم أقف على هذه القصة في كلام من ترجم نور الدين الشهيد مع عظمها، وهي شاهدة لما ذكره الإمام اليافعي في ترجمته من أن بعض العارفين من الشيوخ ذكر أنه كان في الأولياء معدودا من الأربعين وصلاح الدين نائبه من الثلاثمائة، انتهى.
وقال ابن الأثير: طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، انتهى.
وقد اتفق بعد الأربعمائة من الهجرة ما يقرب من قصة رؤيا نور الدين الشهيد المتقدمة على ما نقله الزين المراغي عن تاريخ بغداد لابن النجار، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن المبارك المقري، عن أبي المعالي صالح بن شافع الجلي، أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن محمد المعلم، ثنا أبو القاسم عبد الحليم بن محمد المغربي أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنقل النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وزيّن له ذلك، وقال:
متى تم لك ذلك شدّ الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر، وكانت منقبة لسكانها، فاجتهد الحاكم في مدة وبنى بمصر حائزا، وأنفق عليه مالا جزيلا. قال: وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة المدنيين وقد علموا ما جاء فيه، وحضر معهم قارئ يعرف بالزلباني، فقرأ في المجلس وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 12- 13] فماج الناس، وكادوا يقتلون أبا الفتوح ومن معه من الجند، وما منعهم من السرعة إلى ذلك إلا أن البلاد كانت لهم.
ولما رأى أبو الفتوح ذلك قال لهم: الله أحق أن يخشى، والله لو كان علي من الحاكم فوات الروح ما تعرضت للموضع، وحصل له من ضيق الصدر ما أزعجه كيف نهض في مثل هذه المخزية، فما انصرف النهار ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحا كادت الأرض تزلزل من قوتها حتى دحرجت الإبل بأقتابها والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض، وهلك أكثرها وخلق من الناس، فانشرح صدر أبي الفتوح وذهب روعه من الحاكم لقيام عذره من امتناع ما جاء فيه.(2/188)
قلت: ونقل ابن عذرة في كتاب «تأسي أهل الإيمان، فيما جرى على مدينة القيروان» لابن سعدون القيرواني ما لفظه: ثم أرسل الحاكم بأمر الله إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ينبش قبر النبي، فدخل الذي أراد نبشه دارا بقرب المسجد وحفر تحت الأرض ليصل إلى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فرأوا أثوارا، وسمع صائح: إن بنيكم ينبش، ففتش الناس فوجدوهم وقتلوهم، انتهى.
ومما يناسب ذلك ما ذكره المحب الطبري في الرياض النضرة في فضائل العشرة، قال:
أخبرني هارون بن الشيخ عمر بن الزعب- وهو ثقة صدوق مشهور بالخير والصلاة والعبادة- عن أبيه، وكان من الرجال الكبار- قال: كنت مجاورا بالمدينة وشيخ خدام النبي صلى الله عليه وسلّم إذ ذاك شمس الدين صواب اللمطي، وكان رجلا صالحا كثير البر بالفقراء والشفقة عليهم، وكان بيني وبينه أنس فقال لي يوما: أخبرك بعجيبة، كان لي صاحب يجلس عند الأمير ويأتيني من خبره بما تمس حاجتي إليه، فبينما أنا ذات يوم إذ جاءني فقال: أمر عظيم حدث اليوم، قلت: وما هو؟ قال: جاء قوم من أهل حلب وبذلوا للأمير بذلا كثيرا، وسألوه أن يمكنهم من فتح الحجرة وإخراج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما منها، فأجابهم إلى ذلك، قال صواب: فاهتمت لذلك هما عظيما، فلم أنشب أن جاء رسول الأمير يدعوني إليه، فأجبته، فقال لي: يا صواب يدقّ عليك الليلة أقوام المسجد، فافتح لهم، ومكنهم مما أرادوا ولا تعارضهم، ولا تعترض عليهم، قال: فقلت له: سمعا وطاعة، قال: وخرجت ولم أزل يومي أجمع خلف الحجرة أبكي لا ترقأ لي دمعة ولا يشعر أحد ما بي، حتى إذا كان الليل وصلينا العشاء الآخرة وخرج الناس من المسجد وغلقنا الأبواب فلم ننشب أن دقّ الباب الذي حذاء باب الأمير، أي باب السلام، فإن الأمير كان سكنه حينئذ بالحصن العتيق.
قال: ففتحت الباب، فدخل أربعون رجلا أعدهم واحدا بعد واحد، ومعهم المساحي والمكاتل والشموع وآلات الهدم والحفر. قال: وقصدوا الحجرة الشريفة، فو الله ما وصلوا المنبر حتى ابتلعتهم الأرض جميعهم بجميع ما كان معهم من الآلات، ولم يبق لهم أثر.
قال: فاستبطأ الأمير خبرهم، فدعاني، وقال: يا صواب ألم يأتك القوم؟ قلت: بلى، ولكن اتفق لهم ما هو كيت وكيت، قال: انظر ما تقول، قلت: هو ذلك، وقم فانظر هل ترى منهم باقية أو لهم أثرا، فقال: هذا موضع هذا الحديث، وإن ظهر منك كان يقطع رأسك، ثم خرجت عنه، قال المحب الطبري: فلما وعيت هذه الحكاية عن هارون حكيتها لجماعة من الأصحاب فيهم من أثق بحديثه فقال: وأنا كنت حاضرا في بعض الأيام عند الشيخ أبي عبد الله القرطبي بالمدينة والشيخ شمس الدين صواب يحكي له هذه الحكاية سمعتها بأذني من فيه، انتهى ما ذكره الطبري.(2/189)
قلت: وقد ذكر أبو محمد عبد الله بن أبي عبد الله بن أبي محمد المرجاني هذه الواقعة باختصار في تاريخ المدينة له، وقال: سمعتها من والدي، يعني الإمام الجليل أبا عبد الله المرجاني، قال: وقال لي: سمعتها من والدي أبي محمد المرجاني سمعها من خادم الحجرة، قال أبو عبد الله المرجاني: ثم سمعتها أنا من خادم الحجرة الشريفة، وذكر نحو ما تقدم، إلا أنه قال: فدخل خمسة عشر- أو قال عشرون- رجلا بالمساحي والفاف، فما مشوا غير خطوة أو خطوتين وابتلعتهم الأرض ولم يسم الخادم، والله أعلم.
الفصل الثلاثون في تحصيب المسجد الشريف وذكر البزاق فيه، وتخليقه، وإجماره، وذكر شيء من أحكامه
أول تحصيب المسجد النبوي
روى أبو داود في سننه عن أبي الوليد قال: سألت ابن عمر عن الحصباء الذي في المسجد، فقال: مطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصباء في ثوبه ويبسطه تحته، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلاة قال: ما أحسن هذا؟ وهو صريح في جعل الحصباء في المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم.
ويؤيده ما رواه أصحاب السنن من حديث أبي ذر: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصباء، وكذا ما رواه أحمد من حديث حذيفة قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كل شيء حتى عن مسح الحصى، فقال: واحدة أو دع، وكذا ما رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة، قال أبو بدر: أراه رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: إن الحصاة تناشد الذي يخرجها من المسجد، لكن قد سئل الدارقطني عن هذا الحديث فذكر أنه روي موقوفا على أبي هريرة، وقال: رفعه وهم من أبي بدر.
وروى يحيى عن بعض السلف أنه كان إذا خرج بالحصاة من المسجد في ثوبه أو نعله أمر بردّها إلى المسجد.
وروى ابن شبة عن سليمان بن يسار قال: الحصاة إذا أخرجت من المسجد تصيح حتى ترد إلى موضعها.
وذكر البرهان بن فرحون أن مالكا سئل عن الرجل يخرج من المسجد فيجد شيئا من حصى المسجد قد تعلّق بوجهه، أيلزمه ردّه إلى المسجد؟ فقال: لا يلزمه ذلك، وأرخص له في طرحه، فقال السائل: يا أبا عبد الله إنهم يقولون إذا أخرجت الحصاة من المسجد تصيح حتى ترد إلى المسجد، فقال له مالك: دعها تصيح حتى ينشق حلقها، فقال: أولها حلق؟
قال: فمن أين تصيح؟(2/190)
وروى ابن شبة عن ابن عباس أنه قال لنفيع في الحصاة: ردّها وإلا خاصمتك يوم القيامة.
وحكى الأقشهري عن شيخ الخدام ظهير الدين بن عبد الله الأشرفي قال: أتاني عام خمسة عشر وسبعمائة رجل من الشام في موسم الحاج وقال: كنت حججت عام أول وحملت شيئا من تراب المسجد وحصبائه، فلم أزل أراه في المنام يقول لي: ردّني إلى موضعي، عذّبتني عذبك الله، فها أنا أتيت به، قال: فأخرج صرة فيها ما ذكره، فصببناها في المسجد، انتهى.
والذي يقتضيه كلام المؤرخين أن تحصيب المسجد إنما حدث في زمان عمر بن الخطاب؛ فقد روى يحيى عن عبد الحميد بن عبد الرحمن الأزهري قال: قال عمر بن الخطاب حين بنى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ندري ما نفرش في مسجدنا، فقيل له: افرش الخصف والحصر، قال: هذا الوادي المبارك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «العقيق واد مبارك» قال: فحصبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وروى ابن زبالة عن عبيد الله بن عمر قال: قدم سفيان بن عبد الله الثقفي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم غير محصوب، فقال: أما لكم واد؟ فقال عمر:
بلى، قال: فاحصبوه منه، فقال عمر: احصبوه من هذا الوادي المبارك، يعني العقيق.
قال المطري: رمل المسجد الشريف- أي الذي يحصب به- يحمل من وادي العقيق، من العرصة التي تسيل من الجماء الشمالية إلى الوادي، وليس بالوادي رمل أحمر غير ما يسيل من الجماء، وهو رمل أحمر يغربل ثم يفرش في المسجد، انتهى.
وروى ابن زبالة من طريق الضحاك عن بشر بن سعيد أو سليمان بن يسار- شكّ الضحاك- أنه حدّث أن المسجد كان يرش في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم وزمان أبي بكر وعامة زمان عمر، وكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقا، حتى قدم ابن مسعود الثقفي، فقال لعمر: أليس قربكم واد؟ قال: بلى، قال: فمر بحصباء تطرح فيه فهو أكف للمخاط والنخامة، فأمر عمر بها، وهذه الرواية مع ضعفها قد اشتملت على أنهم كانوا يبصقون في المسجد.
حكم البزاق في المسجد
وفي الصحيحين عن أنس مرفوعا «البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها» . وقد رواه ابن زبالة، وروى أيضا عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى نخامة في المسجد فقال: «من فعل هذا جاء يوم القيامة وهي في وجهه» .
وعن عبد الله بن قسيط مرفوعا: «لا يبصق في مسجدي هذا» .(2/191)
وحديث ابن عمر رواه البزار وابن خزيمة في صحيحه، وروى أحمد عن أبي أمامة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «البصاق في المسجد سيئة، ودفنه حسنة» . ورواه ابن شبة بمعناه.
وروى أيضا عن أبي هريرة قال: «إن المسجد لينزوى من النخامة كما ينزوي الجلد من النار» ولهذا جزم النووي في التحقيق وشرح المهذب بتحريمه. ووقع في عبارة بعض أصحابنا التعبير بالكراهة، وحملها بعضهم على كراهة التحريم، وقال بعض العلماء: إنما يكون البزاق في المسجد خطيئة لمن لم يدفنه لأنه يقذر المسجد ويتأذى به.
قال القرطبي: ويدل على صحة هذا التأويل حديث أبي ذر الذي رواه مسلم وغيره:
«ووجدت في مساوي أعمالها- أي: الأمة- النخامة تكون في المسجد لا تدفن» فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل بذلك وببقائها غير مدفونة.
قلت: الرواية الأولى بينت أن الفعل خطيئة، وأن الدفن يكفرها كما يكفر الجلد معصية الزنى، فلتحمل الرواية الآخرى عليها؛ لأن الإخبار فيها عما استقر عليه الأمر، لكن روى ابن شبة من طريق الفرج بن فضالة عن أبي سعيد قال: رأيت واثلة بن الأسقع دخل مسجد دمشق فصلى فيه، فبزق تحت رجله اليسرى ثم عركها، فلما انصرفت قلت له: أنت صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبزق في المسجد؟ فقال: هكذا رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم صنع.
ورواه أبو داود من الطريق المذكورة بنحوه، وفرج بن فضالة ضعّفه الدارقطني وغيره، وقواه أحمد، واقتصر الحافظ ابن حجر في التقريب على تضعيفه.
وروى ابن شبة أيضا بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دخل مسجدي هذا فبزق أو تنخم فليحفر فليبعد وليدفنه، فإن لم يفعل فليبزق في ثوبه حتى يخرج به» وهذا لو صح كان حجة لهذا المذهب.
فإن قيل: يعضده حديث البخاري عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا؟
وكذا ما رواه ابن شبة بإسناد جيد عن أبي نضرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رأى نخامة في قبلة المسجد، فغضب غضبا شديدا حتى كاد يدعو على صاحبها، ثم قال: لا يبزق أحدكم في قبلته؛ فإن ربه مستقبلة، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، ولكن عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، فإن كان على يساره أحد فليبزق في ثوبه» وفي رواية: «فإن اكن عن يساره أحد يكره أن يبزق نحوه فليبزق في ثوبه، وبزق النبي صلّى الله عليه وسلّم في ثوبه وحكّ بعضه ببعض» فاقتضى ذلك جواز البصاق في المسجد فيما عدا القبلة واليمين حالة الصلاة، وهو مقيد بالدفن لما سبق.(2/192)
قلنا: مساق الحديث لبيان أدب المصلي في كيفية البصق، من غير تعرض لكونه في مسجد، والبصاق في المسجد قد بينه منطوق الحديث السابق؛ فلا يترك بهذا، وأفاد القفال في فتاويه- وقد ذكر حديث النخامة في المسجد- فائدة حسنة فقال: هذا الخبر محمول على ما إذا نزلت النخامة من الرأس، أما إذا كانت من الصدر فهي نجسة؛ فلا يجوز دفنها في المسجد» .
وروى أبو داود من حديث ابن عمر قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوما إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس، ثم حكّها، وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطّخه به، وقال: إن الله قبل وجه أحدكم فلا يبزقن بين يديه.
وروى ابن شبة عن شيخه خلاد بن يزيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة ذات يوم، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فلما قضى صلاته أخذ عودا فحكها، ثم دعا يخلوق فخلّق مكانها، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إذا صلى أحدكم فلا يتفل أمامه ولا عن يمينه؛ فإنه يستقبل الرب عز وجل بوجهه.
مبدأ تخليق المسجد
وروى ابن شبة أيضا بسند جيد إلى أبي الوليد قال: قلت لابن عمر: ما بدء الزعفران- يعني: في المسجد- فقال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخامة في المسجد، فقال: ما أقبح هذا! من فعل هذا؟ فجاء صاحبها فحكها وطلاها بزعفران، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا أحسن من ذلك.
ورواه يحيى بلفظ: قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن ألا تخبرني ما كان بدء هذه الصفرة التي في قبلة المسجد؟ قال: نعم، صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا انصرف رأى نخامة في القبلة، وذكره، وقال: فسارع الناس إليه، فكان هذا بدأه.
وروى النسائي وابن ماجه عن أنس قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكتها، فجعلت مكانها خلوقا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أحسن هذا!
وروى ابن شبة أيضا بسند جيد عن أبي نضرة أن ذلك الذي بزق في قبلته جاء بشيء من زعفران فطلى ذلك المكان، فأعجب ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وروي أيضا بسند لا بأس به قال: أبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حائط المسجد بزاقا، فحكه على خرقة، وأخرجه من المسجد، فجعل مكانه شيئا من طيب أو زعفران أو ورس.
وعن إبراهيم بن قدامة عن أبيه أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة، فأصبح مكتئبا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا؟ قال: لا شيء إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي، فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم عملت خلوقا فخلّقتها، فكانت أول من خلّق القبلة.(2/193)
وروي أيضا برجال ثقات عن جابر عن عبد قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب، فرأى في قبلة مسجدنا نخامة فحكها بالعرجون، ثم أقبل علينا فقال: أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟ قلنا: لا أينا يا رسول الله، قال: فإن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق قبل يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل هكذا بثوبه، ثم طوى بعضه على بعض، أروني عبيرا، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخلوق في راحته، فأخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة، قال جابر رضي الله عنه: فمن هنالك جعلتم الخلوق في مساجدكم.
وقد رواه أبو داود بنحوه وجابر هو من بني حرام بطن من بني سلمة، ومسجدهم كان بمنازلهم التي في غربي بطحان ومساجد الفتح، وليس هو مسجد القبلتين كما وقع للمطري وجماعة حتى جعلوا أمر الخلوق له لما سنبينه.
وسيأتي ما رواه ابن زبالة من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى في مسجد بني حرام بالقاع، وأنه رأى في قبلته نخامة، وكان لا يفارقه عرجون ابن طاب يتخصر به، وذكر الحديث الآتي، وفيه «فكان أول مسجد خلّق» .
وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي سهلة السائب بن خلاد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا أمّ قوما فبصق في القبلة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين فرغ: لا يصلى لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: نعم، وحسبت أنه قال: إنك آذيت الله ورسوله.
وفي رواية أوردها المجد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رأى النخامة في المحراب قال: من إمام هذا المسجد؟ قالوا: فلان، قال: قد عزلته، فقالت امرأته: لم عزلك النبي صلّى الله عليه وسلّم من الإمامة؟
فقال: رأى نخامة في المحراب، فعمدت إلى خلوق طيب فخلقت به المحراب، فاجتاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: من فعل هذا؟ فقالوا: امرأة الإمام، قال: وهبت ذنبه لامرأته ورددته إلى إمامته.
قلت: واختلاف هذه الروايات صريح في أنها وقائع متعددة؛ فلا تعارض فيها، نعم هي متضمنة للرد على ما رواه ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال: كان أول من خلق المسجد ورزق المؤذنين عثمان رضي الله عنه، وتقدم في الفصل الرابع من رواية يحيى عن جابر بنحوه، إلا أن يحمل على أن المراد أنه اتخذ له الخلوق من بيت المال.
ونقل ابن زبالة عن ابن عجلان أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله على المدينة أن لا يخلق إلا القبلة، وأن يغسل الأساطين، قال: فلم تكن الأساطين تخلّق في سلطانه.(2/194)
تخليق القبر
وقدمت الخيزران أم موسى في سنة سبعين ومائة، فأمرت بالمسجد فخلّق وولي ذلك من تخليقه مؤنسة جاريتها، فقام إليها إبراهيم بن الفضل بن عبد الله مولى هشام بن إسماعيل فقال: هل لكم أن تسبقوا من بعدكم وأن تفعلوا ما لم يفعل من كان قبلكم؟ قالت له مؤنسة: وما ذلك؟ قال: تخلقون القبر كله، ففعلوا، وإنما كان يخلق منه ثلثاه أو أقل، وأشار عليهم فزادوا في خلوق أسطوان التوبة والأسطوان التي هي علم عند مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخلقوهما حتى بلغوا بهما أسفلهما، وزادوا في الخلوق في أعلاهما.
وروى بعضهم عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ [البقرة: 125] الآية، قال: طهرا بيتي نظفاه وبخراه وخلقاه.
تجمير المساجد
وروى يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن علي بن حسن بن حسن بن حسن- وكان من خيار الناس- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بإجمار المسجد، قال: ولا أعلمه إلا قال: يوم الجمعة.
وروى ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمّروها في الجمع.
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب.
وروى يحيى من طريق محمد بن يحيى عن محمد بن إسماعيل عن أبيه أنه قدم على عمر بن الخطاب بسفط من عود، فلم يسع الناس، فقال عمر: أجمروا به المسجد لينتفع به المسلمون، فبقيت سنة في الخلفاء إلى اليوم، يؤتى كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة عند المنبر من خلفه إذا كان الإمام يخطب.
وعن سعد القرظ قال: قدم على عمر بعود، فقسمه بين المهاجرين، ثم قسم للمسجد حظا، فكان يجمره في الجمع، فجرى ذلك إلى اليوم، وولاه سعد القرظ؛ فكان الذي يجمر.
وقد تقدم من رواية يحيى أيضا في الكلام على حكم قناديل الحجرة أن عمر أتى بمجمرة من فضة، وأنه دفعها إلى سعد جد المؤذنين وقال: أجمر بها في الجمعة وشهر رمضان، وكان سعد يجمر بها في الجمعة، وكانت توضع بين يدي عمر بن الخطاب.
وروى ابن زبالة عن نعيم المجمر عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له:
تحسن تطوف على الناس بالمجمرة تجمرهم؟ فقال: نعم، فكان عمر يجمرهم يوم الجمعة.(2/195)
وفي مسند أبي يعلى الموصلي عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل جمعة.
فرش المساجد
قال أصحابنا: ويستحب فرش المسجد، وقد ترجم البخاري للصلاة على الخمرة، وروي عن ميمونة أنها كانت تصلي عليها، وقال ابن زيد: الخمرة هي السجادة، وقال الطبري: هي مصلى صغير ينسج من سعف النخل ويرسل بالخيوط، وقال البخاري في صحيحه: وصلّى أنس على فراشه، وقال: كنا نصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فيسجد أحدنا على ثوبه، وقال يحيى: حدثنا أبو مصعب قال: حدثنا مالك عن عمه أبي إسماعيل بن مالك عن أبيه أن طنفسة لعقيل بن أبي طالب كانت تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ثم يرجع بعد صلاة الجمعة فقيّل قائلة الضحى، ورواه ابن زبالة أيضا، وروى يحيى عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: تفقدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم. وعن موسى بن يعقوب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اتبع غبار المسجد بجريدة. ورواه ابن أبي شيبة عن يعقوب بن زيد، ولفظه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتبع غبار المسجد بجريدة.
وقد ذكرنا في آخر الكلام على فضل المسجد شيئا مما جاء في النهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم أو البصل، وذكرنا في زيادة عمر رضي الله عنه في الكلام على البطيحاء ما جاء في النهي عن رفع الصوت فيه، وما يتعلق بإنشاد الشعر فيه، وذكرنا في زيادة الوليد ما يتعلق بالصلاة على الجنائز فيه، وروى ابن شبة عن شيبة بن قصاح مرسلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأى أحدكم القملة في ثوبه وهو في المسجد فليحفر لها فليدفنها، وليبصق عليها، فإن ذلك كفارتها. ورواه ابن زبالة ثم روى عن محمد بن المنكدر قال: أخبرني من رأى أبا هريرة يدفن قملة في المسجد، وروى يحيى عن يوسف بن ماهك قال: رأيت عبيد بن عمير أخذ من ثوب ابن عمر قملة فدفنها في المسجد، وعن أبي بكر بن المنكدر قال: رأيت عمي محمد بن المنكدر يأخذ القملة وهو في المسجد فيقتلها في المسجد فيبزق عليها، وعن جعفر بن محمد قال: لا بأس بأن يدفن القملة في المسجد.
قلت: وهذه الأشياء لا تقوم الحجة بها. وقد روى أحمد في مسنده عن أيوب قال:
وجد رجل في ثوبه قملة فأخذها ليطرحها في المسجد، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تفعل ردّها في ثوبك حتى تخرج من المسجد» وروى ابن شبة بسند جيد عن يحيى بن أبي كثير اليماني عن الحضرمي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا أبصر أحدكم القملة وهو يصلي في المسجد فليصرها في ثوبه ولا يقتلها في المسجد. وروى يحيى عن ابن عمر قال: إذا وجد أحدكم(2/196)
القملة في ثوبه وهو في المسجد فليجعلها في ثوبه حتى يخرج بها. قال النووي: فإن قتلها لم يجز إلقاؤها في المسجد؛ لأنها ميتة، وكره مالك قتلها في المسجد، ونقل ابن العماد عن كتب المالكية أنه يحرم طرح القمل حيا، بخلاف البرغوث؛ لأن البرغوث يعيش بأكل التراب، بخلاف القمل ففي طرحه تعذيبه بالجوع، انتهى.
وقد جاءت أحاديث في النهي عن البيع والشراء وإنشاد الضالة في المسجد، وروى ابن أبي عدي الحافظ من حديث علي بن أبي طالب قال: صليت العصر مع عثمان أمير المؤمنين، فرأى خياطا في ناحية المسجد، فأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه يكنس المسجد، ويغلق الأبواب، ويرش أحيانا، فقال عثمان: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: جنبوا صناعكم من مساجدكم.
قلت: ومن المنكرات في زماننا ما يتساهل فيه المتكلمون في أمر العمارة من استعمال النشارين والنجارين والحجارين بالمسجد النبوي للعمل في آلاته واكتساب أولئك العمال بذلك، مع ما يتولد من ذلك من الدق العنيف وتشعيث المسجد بما ينشر من النشارة والنجارة وغير ذلك، مع إمكان عمل ذلك خارج المسجد الشريف والإتيان به مهيأ. وقد قدمنا أن عائشة رضي الله عنها كانت تسمع الوتد أو المسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن عليا ما صنع مصراعي داره إلا بالمناصع توقيا لذلك، وفي خبر رواه المقدسي في «مثير الغرام» عن كعب الأحبار أن سليمان عليه السلام قال للعفريت الذي أحضره لقطع الرخام لعمارة بيت المقدس: هل عندك من حيلة أقطع بها الصخر؟ فإني أكره صوت الحديد في مسجدنا هذا، والذي أمرنا الله به من ذلك هو الوقار والسكينة، فقال: ابتغ لي وكر عقاب فإني لا أعلم في السماء طيرا أشد منه ولا أكثر حيلة، فوجدوا وكر عقاب، فغطى عليه ترسا غليظا من حديد، فجاءه العقاب فلم يقدر عليه، فحلق في السماء متطلعا فلبث يومه وليلته ثم أقبل ومعه قطعة من السامور، فتفرقت له الشياطين حتى أخذوه منه، فأتوا به سليمان عليه السلام، فكان يقطع به الصخر، انتهى.
وكذلك إدخالهم البغال والحمير الحاملة لتلك الآلات مع إمكان حمل الرجال لها من باب المسجد، والله الموفق.
وإذا سمع شخص من ينشد ضالة في المسجد فليقل له: أيها الناشد غيرك الواجد، وما أشبهه مما ورد، إلا أن يسأل الإنسان جلساءه فليس بذلك بأس، ولا يبلغ بذلك الصوت كما نقله ابن زبالة عن مالك، ومن باع فيه قيل له: لا أربح الله تجارته، كما ورد مرفوعا.
قال الزين المراغي: والقياس أن يقال للسائل فيه: لا فتح الله عليه، كما قاله بعض(2/197)
شيوخنا. وفي العتبية أن مالكا كره المراوح في المسجد، ويجوز النوم فيه من غير كراهة عندنا، وكره بعضهم لغير الغريب الذي لا موضع له غيره، وروي في ذلك أحاديث.
وأسند أحمد بن يحيى البلاذري عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: كان عمر بن الخطاب يعس في المسجد بعد العشاء، فلا يرى أحدا إلا أخرجه إلا رجلا قائما يصلي، فمر بنفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم أبي بن كعب فقال: من هؤلاء؟ فقال أبي: نفر من أهلك يا أمير المؤمنين، قال: ما خلّفكم بعد الصلاة؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، فجلس معهم، ثم قال لأدناهم: خذ في الدعاء فدعا، فاستقرأهم رجلا رجلا حتى انتهى إلي وأنا بجنبه، فقال:
هات، فحصرت وأخذني الخجل، فقال: قل ولو أن تقول: اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، ثم أخذ عمر في الدعاء، فما كان أحد أكثر دمعة ولا أشد بكاء منه، ثم قال: تفرقوا الآن، انتهى.
الحدث في المسجد
ولا يحرم إخراج الريح من الدبر في المسجد، لكن الأولى اجتنابه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» قال الزركشي: وقال بعض المتكلمين على الحديث من القدماء: الحدث في المسجد خطيئة يحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعاءهم المرجو بركته.
وروى ابن عدي في الكامل من طريق حمزة بن أبي حمزة الضبي عن أبي الزبير عن جابر قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يمر باللحم في المسجد، قال ابن عدي: وهذا منكر بهذا الإسناد، لا يرويه عن أبي الزبير غير حمزة، وحمزة يضع الحديث.
قلت: وقد روى ابن شبة نحوه، غير أنه منقطع الإسناد، ويغني عنه ما ورد من النهي عن اتخاذ المسجد طريقا، والله أعلم.
القراءة في المصحف بالمسجد
وقال مالك: لم تكن القراءة في المصحف بالمسجد من أمر الناس القديم، وأول من أحدثه الحجاج بن يوسف. وقال أيضا: أكره أن يقرأ في المصحف في المسجد، وأرى أن يقاموا من المساجد إذا اجتمعوا للقراءة.
قلت: الذي عليه السلف والخلف استحباب ذلك، وفي الصحيح «إنما بنيت- يعني المساجد- لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن» وهو عام في المصاحف وغيرها، وقد روى ابن شبة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: إن أول من جمع القرآن في مصحف وكتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وضعه في المسجد، فأمر به يقرأ كل غداة. وعن محرز ابن ثابت مولى سلمة بن عبد الملك عن أبيه قال: كنت في حرس الحجاج بن يوسف، فكتب الحجاج المصاحف، ثم بعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك(2/198)
آل عثمان، فقيل لهم: أخرجوا مصحف عثمان يقرأ، فقالوا: أصيب المصحف يوم مقتل عثمان. قال محرز: وبلغني أن مصحف عثمان صار إلى خالد بن عمرو بن عثمان، قال:
فلما استخلف المهديّ بعث بمصحف إلى المدينة؛ فهو الذي يقرأ فيه اليوم، وعزل مصحف الحجاج فهو في الصندوق الذي دون المنبر، انتهى.
بعث المصاحف إلى المساجد
وقال ابن زبالة: حدثني مالك بن أنس قال: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير، وهو أول من أرسل بالمصاحف إلى القرى، وكان هذا المصحف في صندوق عن يمين الأسطوانة التي عملت علما لمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان يفتح في يوم الجمعة والخميس، ويقرأ فيه إذا صليت الصبح، فبعث المهدي بمصاحف لها أثمان فجعلت في صندوق ونحى عنها مصحف الحجاج، فوضعت عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت تقرأ عليها، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه فجعل عند الأسطوانة التي عن يمين المنبر، انتهى.
قلت: ولا ذكر لهذا المصحف الموجود اليوم بالقبة التي بوسط المسجد المنسوب لعثمان رضي الله تعالى عنه في كلام أحد من متقدمي المؤرخين، بل فيما قدمناه ما يقتضي أنه لم يكن بالمسجد حينئذ، بل ولا ذكر له في كلام ابن النجار، وهو أول من أرّخ من المتأخرين، وقد ترجم لذكر المصاحف التي كانت في المسجد، ثم ذكر ما قدمناه عن ابن زبالة ثم قال:
وأكثر ذلك دثر على طول الزمان، وتفرقت أوراقه، قال: وهو مجموع في يومنا هذا في جلال في المقصورة أي المحترقة إلى جانب باب مروان. ثم ذكر أن بالمسجد عدة مصاحف بخطوط ملاح موقوفة مخزونة في خزائن ساج بين يدي المقصورة خلف مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال: وهناك كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه نفذ به من مصر، وهو عند الأسطوانة التي في صف مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإلى جانبه مصحفان على كرسيين يقرأ الناس فيهما، وليس في المسجد ظاهر سواهما، انتهى. ولم أر نسبة المصحف الموجود اليوم لعثمان رضي الله عنه إلا في كلام المطري ومن بعده عند ذكر سلامة القبة التي بوسط المسجد من الحريق كما قدمناه.
نعم ذكر ابن جبير في رحلته ما حاصله أن أمام مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم- وقد عبر عنه بالروضة الصغيرة- صندوقا، وأن بين المقام وبين الحجرة- أي بجانب المقام من جهة المشرق- محمل كبير عليه مصحف كبير في غشاء مقفل عليه هو أحد المصاحف الأربعة التي وجّه بها عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى البلاد، انتهى.
وهذا المصحف الذي أشار إليه ينطبق في الوصف على المصحف الذي ذكر ابن النجار أنه نفذ به من مصر، ولم يصفه بما ذكره ابن جبير من نسبته لعثمان، مع أن ابن جبير(2/199)
مصرّح بأنه من المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الآفاق، لا أنه الذي قتل وهو في حجره، وقد قال ابن قتيبة: كان مصحف عثمان الذي قتل وهو في حجره عند ابنه خالد، ثم صار مع أولاده وقد درجوا. قال: وقال لي بعض مشايخ أهل الشام: إنه بأرض طوس، انتهى.
وقال الشاطبي ما حاصله: إن مالكا رحمه الله قال: إنما يكتب المصحف على الكتابة الأولى، لا على ما استحدثه الناس. قال: وقال: إن مصحف عثمان رضي الله عنه تغيب فلم يجد له خبرا بين الأشياخ. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه في القراآت: رأيت المصحف الذي يقال له الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، استخرج لي من بعض خزائن الأمراء، وهو المصحف الذي كان في حجره حين أصيب، ورأيت آثار دمه في مواضع منه. ورده أبو جعفر النحاس بما تقدم من كلام مالك. قال الشاطبي: وأباه المنصفون لأنه ليس في قول مالك «تغيّب» ما يدل على عدم المصحف بالكلية بحيث لا يوجد؛ لأن ما تغيب يرجى ظهوره.
قلت: فيحتمل أنه بعد ظهوره نقل إلى المدينة، وجعل بالمسجد النبوي. لكن يوهن هذا الاحتمال أن بالقاهرة مصحفا عليه أثر الدم عند قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة:
137] الآية كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة، ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان رضي الله عنه وهو بين يديه لم يكن إلا واحد، والذي يظهر أن بعضهم وضع خلوقا على تلك الآية تشبيها بالمصحف الإمام، ولعل هذه المصاحف التي قدمنا ذكرها مما بعث به عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق، كما هو مقتضى كلام ابن جبير في المصحف الموجود بالمدينة، وفي الصحيح من حديث أنس في قصة كتابة عثمان رضي الله عنه للقرآن من الصحف التي كانت عند حفصة «وأنه أمر بذلك زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وأنه أرسل إلى كل أفق بمصحف كما نسخوا» .
مصاحف عثمان التي أرسلها إلى الآفاق
واختلف في عدة المصاحف التي ارسل بها عثمان إلى الآفاق؛ فالمشهور كما قال الحافظ ابن حجر أنها خمسة. وأخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف من طريق حمزة الزيات قال:
أرسل عثمان أربعة مصاحف، وبعث منها إلى الكوفة بمصحف، فوقع عند رجل من مراد فبقي حتى كتبت مصحفي عليه. قال ابن أبي داود: وسمعت أبا حاتم السجستاني يقول:
كتب سبعة مصاحف، وأرسلها إلى مكة، وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا، انتهى.
وليس معنا في أمر المصحف الموجود اليوم سوى مجرد احتمال، والله أعلم.(2/200)
تعليق المصابيح في المسجد وصف عام
ويستحب تعليق المصابيح في المسجد وقد قدمنا ما يقتضي أن تميما الداري أول من فعل ذلك في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: أول من فعله عمر بن الخطاب، لما جمع الناس في التراويح على إمام واحد. وروى ابن زبالة عن يوسف بن مسلم قال: كان زيت قناديل المسجد يحمل من الشام، حتى انقطع ذلك في ولاية جعفر بن سليمان الأخيرة على المدينة، فجعله على سوق المدينة. قال: ثم لما طرح ما يؤخذ من العنب عن الناس في ولاية داود بن عيسى على المدينة سنة ثمان وتسعين ومائة أخرج من بيت المال.
قال: ولم يزل رزق صاحب زيت المسجد ثلاثة دنانير تجرى عليه في كل شهر من بيت المال، وعليه فيها ما تكسر من القناديل، انتهى.
وقال ابن النجار: وفي يومنا هذا يصل الزيت من مصر من وقوف هناك، ومقداره سبعة وعشرون قنطارا بالمصري، ويصل معه مائة وستون شمعة بين كبار وصغار، وعلبة فيها مائة مثقال ند لتجمير المسجد، انتهى.
قلت: وفي زماننا يحمل له من الزيت من مصر والشام زيادة على مائة قنطار بعضها من أوقاف تحت نظر قاضي الشافعية بمصر وبعضها تحت نظر الإمام بمصر، والله أعلم.
الفصل الحادي والثلاثون فيما احتوى عليه المسجد من الأروقة والأساطين والبالوعات والسقايات والدروع، وغير ذلك مما يتعلق به من الرسوم
وصف عام
قال ابن جبير: إن المسجد النبوي مستطيل يحفه من جهاته الأربع بلاطات مستديرة به، ووسطه كله صحن، فجهة القبلة منها- يعني المسقف القبلي- خمس بلاطات، يعني أروقة، وقد قدمنا أنه زيد فيه رواقان آخرون فصار سبعة أروقة آخذة من المشرق إلى المغرب، قال:
والجهة الشامية خمسة أروقة أيضا.
قلت: وهذا موافق لما قدمناه في زيادة المهدي عن ابن زبالة من أنه جعل خمس أساطين في السقائف الشامية، وقدمنا أن الموجود به اليوم أربع فقط، وذلك أربعة أروقة، فكأنه لما زيد بعد الحريق الأول الرواقان في مسقف القبلة اختصروا رواقا من المسقف الشامي فأدخلوه في صحن المسجد، ولم أر من نبه على ذلك من المؤرخين، وهذا المسقف هو المسمى اليوم بالدكاك؛ لارتفاعه على بقية أرض المسجد، ولم أعلم وقت حدوث ذلك، ولم يتعرض ابن جبير لذكر ارتفاعه مع ذكره لما دون ذلك، وقد كانت رحلته قبل حريق المسجد الأول فلعل ذلك مما حدث بعده، كما حدثت الدكتان اللتان بجنبتي المسجد في الحريق الثاني كما سبق.(2/201)
جدران المسجد
وحدث في زماننا قبيل ذلك عند طرف الدكاك القبلي مما يلي المغرب دكة بارزة هناك، وهي الدكة التي وضع بها ما أخرج من جوف الحجرة الشريفة من الهدم في العمارة التي أدركناها.
وفي كلام ابن زبالة ما يؤخذ منه تسمية المسقف الشامي بسقائف النساء.
قال ابن جبير: والجهة الشرقية ثلاثة أروقة آخذة من القبلة إلى الشام، والجهة الغربية أربعة كذلك، هذا ما ذكره ابن جبير إلا أنه عبر في الجميع بالبلاطات بدل الأروقة، وكذا صنع ابن عبد ربه في العقد، وهو مطابق لما عليه المسجد اليوم، إلا ما أشرنا إليه في المسقف القبلي والشامي.
قال ابن جبير: ونصف جدار القبلة الأسفل رخام موضوع إزارا على إزار، أي: وزرة فوق أخرى، مختلف الصنعة واللون، مجزع أبدع تجزيع، والنص الأعلى من الجدار منزل كله بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء قد أنتج الصناع فيه نتائج من الصنعة غريبة تضمنت تصاوير أشجار مختلفات الصفات مائلة الأغصان بثمرها، والمسجد كله على تلك الصنعة، لكن الصنعة في جدار القبلة أحفل، والجدار الناظر إلى الصحن من جهة القبلة كذلك، ومن جهة الشام أيضا، والغربي والشرقي الناظران إلى الصحن مجددان أيضا ومقرنصان قد زينا برسم يتضمن أنواعا من الأصبغة، إلى ما يطول وصفه، انتهى.
ووصف ابن عبد ربه في «العقد» ما في جدار القبلة من وزارت الرخام وطرر الذهب والفسيفساء، ثم قال: وحيطان المسجد كلها من داخله مزخرفة بالرخام والذهب والفسيفساء أولها وآخرها.
وذكر أيضا أن رؤوس الأساطين مذهّبة عليها أكف منقشة مذهّبة، وكذلك أعتاب الأبواب مذهبة أيضا.
قلت: وقد زال ذلك كله بسبب الحريق الأول، وبقي من آثاره شيء يسير في مؤخر المسقف الغربي بجدار المسجد مما يلي الدكاك، وشيء يسير بالمأذنة الغربية الشمالية مما يلي بابها فيه شيء من الفسيفساء. وأما جدار القبلة فليس به اليوم إلا لوح يتضمن صور أشجار عن يمين مستقبل المحراب الشريف، وهو من الآثار القديمة، وكان يقابله في جهة يسار المستقبل لوح مثله سقط قريبا، ثم زال ذلك كله في الحريق الثاني. وبالجدار المذكور اليوم وزرة رخام أول من أحدثها بعد الحريق الأول الظاهر جقمق كما قدمناه مع بيان أن المحراب العثماني وما حوله كان مرخما قبل ذلك، وبقية المسجد مبيض أحسن بياض.
وفي جدار القبلة عصابتان من طراز تقدم ذكرهما أيضا، وكان قد انقشر من العليا(2/202)
منهما شيء يسير، فقلع متولي العمارة التي أدركناها ذلك وما حوله، وجعله طرازا باسم سلطاننا الأشرف قايتباي أعز الله أنصاره، ووصله ببقية العصابة المذكورة. وتقدم أيضا ذكر الطراز الآخر من جهة السقف إلى قرب العصابة المذكورة، وبيان أن الذي ترجح عندي أنه جعل لتمييز المسجد النبوي عما زيد فيه، وقد زال ذلك كله بعد الحريق الثاني، وأعادوا منه ترخيم جدار القبلة كما سبق.
عدد أساطين المسجد
وأما عدد الأساطين فذكر ابن زبالة أنها مائتان وستة وتسعون أسطوانا، منها في جدار القبر الشريف ستة. وذكر ابن النجار أيضا ما يؤخذ منه ذلك.
وقال ابن جبير: عدتها مائتان وتسعون أسطوانا، ولا مخالفة بينهما؛ لأن ابن جبير لم يعتبر الأساطين الست التي في جدار القبر الشريف، وليس فيه خلل إلا بأسطوان واحد؛ لأن الذي اقتضاه تحريرنا أن جملة الأساطين التي كانت في ذلك الزمان بما في جدار القبر مائتان وخمسة وتسعون أسطوانا؛ لأن المسقف الغربي أربعة صفوف، فإذا اعتبرتها من الجدار القبلي إلى الجدار الشامي كان كل صف ثمانية وعشرين أسطوانا، فجملة هذا المسقف مائة أسطوان واثنا عشر أسطوانا، والمسقف الشرقي ثلاثة صفوف كل صف منها ثمانية وعشرون أيضا إلا الصف الأوسط فإنه ينقص أسطوانا كما ظهر لنا عند انكشاف الحجرة؛ لأن الأسطوانة الملصقة إلى جدار الحجرة الشامي الذي في جوف الجدار الظاهر التي تقدم أن متولي العمارة أدخلها في عرض ذلك الجدار في الصف المذكور إنما يقابلها فيه الأسطوان الداخل بعضها في الجدار الظاهر من جهة القبلة، وكان مقتضى وضع الأساطين في مقابلة بعضها بعضا من كل جانب أن تكون بينها أسطوانة أخرى في موازاة الأسطوانة التي بين مربعة القبر وأسطوان الصندوق الداخلة في الجدار الظاهر، لكن لم يتأتّ ذلك؛ لكونها تكون حينئذ في جوف الحجرة الشريفة، فسقط بسبب ذلك في هذا الصف أسطوان، وخفي ذلك على من لم يشاهد الحجرة الشريفة. وحينئذ فجملة أساطين المسقف الشرقي من جدار القبلة إلى الجدار الشامي ثلاثة وثمانون أسطوانا، والباقي بعد ذلك في المسقف القبلي ما يوازي صحن المسجد فقط، وهو خمسة صفوف كل صف عشرة أساطين فجملة ذلك خمسون أسطوانا، والباقي أيضا في المسقف الشامي خمسة صفوف تقابل ذلك وجملتها خمسون أسطوانا، فجملة أساطين المسجد بما دخل في جدار القبر مائتان وخمسة وتسعون أسطوانا- بتقديم التاء- وفي مؤخر المسقف الغربي أسطوانتان ملتصقتان إلى الجدار الغربي لم تدخلا في هذه العدة.
وأما عدد أساطين المسجد اليوم فقد تقدم أنه زيد في المسقف القبلي من ناحية صحن(2/203)