زارنى فى حياتى، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين» «1» . رواه البيهقى عن رجل من آل حاطب لم يسمه عن حاطب.
وعن عمر- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من زار قبرى» أو قال: «من زارنى كنت له شفيعا وشهيدا» «2» . رواه البيهقى وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زارنى محتسبا إلى المدينة كان فى جوارى يوم القيامة» «3» . رواه البيهقى أيضا.
قال العلامة زين الدين بن الحسين المراغى: وينبغى لكل مسلم اعتقاد كون زيارته- صلى الله عليه وسلم- قربة، للأحاديث الواردة فى ذلك ولقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ «4» الآية «5» ، لأن تعظيمه- صلى الله عليه وسلم- لا ينقطع بموته، ولا يقال إن استغفار الرسول لهم إنما هو فى حال حياته وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض أئمة المحققين: أن الآية دلت على تعليق وجدان الله توابا رحيما بثلاثة أمور: المجئ، واستغفارهم، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين والمؤمنات لأنه- صلى الله عليه وسلم- قد استغفر للجميع، قال الله تعالى:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ «6» فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته.
__________
(1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 278) بسند فيه هارون بن قزعة، وقيل ابن أبى قزعة، قال البخارى: لا يتابع عليه، وكذلك شيخه مجهول.
(2) انظر ما بعده.
(3) أخرجه البيهقى فى «شعب الإيمان» كما فى «كنز العمال» (42584) .
(4) سورة النساء: 64.
(5) قلت: سبحان الله لو أكمل الآية لا تضحت الصورة، وهى قول الله عز وجل لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً، أى من مكانة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن دعوته واستغفاره بمكانة عند الله أنها تستوجب مغفرته عز وجل.
(6) سورة محمد: 19.(3/589)
وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووى، وأوجبها الظاهرية، فزيارته- صلى الله عليه وسلم- مطلوبة بالعموم والخصوص. لما سبق، ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه- صلى الله عليه وسلم- واجب. ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق فى زيارته- صلى الله عليه وسلم- بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفى النساء خلاف، والأشهر فى مذهب الشافعى الكراهة.
قال ابن حبيب من المالكية: ولا تدع زيارة قبره- صلى الله عليه وسلم- والصلاة فى مسجده، فإن فيه من الرغبة ما لا غنى بك ولا بأحد عنه.
وينبغى لمن نوى الزيارة أن ينوى مع ذلك زيارة مسجده الشريف، والصلاة فيه، لأنه أحد المساجد الثلاثة التى لا تشد الرحال إلا إليها، وهو أفضلها عند مالك، وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل، لأن الشرع لم يجئ به، وهذا الأمر لا يدخله قياس، لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص فى هذه دون غيرها.
وقد صح أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبى- صلى الله عليه وسلم-. فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة. ومن نذر الزيارة وجبت عليه. كما جزم به ابن كج من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- لزمه الوفاء، وجها واحدا، انتهى: ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال المالكية والحنابلة، لكنه يخرج عنه بالصلاة فى المسجد الحرام. وصحح النووى أيضا أنه يخرج عنه بالصلاة فى مسجد المدينة. قال: ونص عليه الشافعى فى البويطى. وبه قال الحنفية والحنابلة.
وللشيخ تقى الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب «1» ، يتضمن منع
__________
(1) قلت: وهل قال ابن تيمية إلا بما قال به الأولون من القرون الثلاثة السابقة، من كراهة اتخاذ قبره- صلى الله عليه وسلم- عيدا أو مكانا يعبد الله فيه، لأحاديثه- صلى الله عليه وسلم- ذاته الناهية عن ذلك، أم نخالفه ونعصى أمره، ونقع فى المحذور الذى حذرنا منه بعبادته دون الله كما حدث من أتباع عيسى- عليه السّلام- ونغالى فيه كما غالت الأمم من قبلنا فى أنبيائهم وصالحيهم فعبدوهم من دون الله.(3/590)
شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك.
ورد عليه الشيخ تقى الدين السبكى فى «شفاء السقام» فشفى صدور المؤمنين.
وحكى الشيخ ولى الدين العراقى، أن والده كان معادلا للشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الدمشقى فى التوجه إلى بلد الخليل- عليه السّلام-، فلما دنا من البلد قال: نويت الصلاة فى مسجد الخليل، ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، فقلت: نويت زيارة قبر الخليل- عليه السّلام-. ثم قلت: أما أنت فقد خالفت النبى- صلى الله عليه وسلم-، لأنه قال:
«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأما أنا فاتبعت النبى- صلى الله عليه وسلم- لأنه قال: «زوروا القبور» أفقال: إلا قبور الأنبياء؟! قال: فبهت.
وينبغى لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه فى طريقه، فإذا وقع بصره على معالم المدينة الشريفة وما تعرف به، فليردد الصلاة والتسليم، وليسأل الله أن ينفعه بزيارته ويسعده بها فى الدارين. وليغتسل ويلبس النظيف من ثيابه، وليترجل ماشيا باكيا. ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألقوا أنفسهم عن رواحلهم ولم ينيخوها وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم- صلوات الله وسلامه عليه-.
وروينا مما ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» أن أبا الفضل الجوهرى لما ورد إلى المدينة زائرا، وقرب من بيوتها ترجل ومشى باكيا منشدا:
ولما رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا
نزلنا عن الأكوار نمشى كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وأنبئت بأن العلامة أبا عبد الله بن رشيد قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع وثمانين وستمائة، كان معى رفيقى الوزير أبو عبد الله بن أبى القاسم بن الحكيم، وكان أرمد، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار، وقوى الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشى على قدميه احتسابا لتلك الآثار،(3/591)
وإعظاما لمن حل تلك الديار، فأحس بالشفاء، فأنشد لنفسه فى وصف الحال لمن حل فى تلك الديار:
ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا
وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا
وحين تبدى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أذيلت لنا قربا
نزلنا عن الأكوار نمشى كرامة ... لمن حل فيها أن نلم به ركبا
نسح سجال الدمع فى عرصاته ... ونلثم من حب لواطئه التربا
وإن بقائى دونه لخسارة ... ولو أن كفى تملك الشرق والغربا
فيا عجبا ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكذبا
وزلات مثلى لا تعدد كثرة ... وبعدى عن المختار أعظمها ذنبا
ولما كنت سائرا لقصد الزيارة فى ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولاح لنا عند الصباح جبل مفرح الأرواح المبشر بقرب المزار من أشرف الديار، تسابق الزوار إليه، وتعالوا بالصعود عليه استعجالا لمشاهدة تلك الآثار واقتباسا لمشاهدة تلك الأنوار فبرقت لوامع الأنوار النبوية، وهبت عرف نسمات المعارف المحمدية، فطبنا وغبنا إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية فأنشدت:
ألا مع برق يغتدى ويروح ... أم النور من أرض الحجاز يلوح
وريح الصبا هبت بطيّب عرفهم ... أم الروض فى وجه الصباح يفوح
إذا ريح ذاك الحى هب فإنها ... حياة لمن يغدو لها ويروح
ترفق بنا يا حادى العيس والتفت ... فللنور بين الواديين وضوح
فما هذه إلا ديار محمد ... وذاك سناها يغتدى ويروح
وإلا فما للركب هاج اشتياقهم ... فكل من الشوق الشديد يصيح
وأنّت مطايا الركب حتى كأنها ... حمام على قضب الأراك تنوح
وقد مدت الأعناق شوقا وطرفها ... إلى النور من تلك الديار لموح
رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها ... ومدمعها فى الوجنتين سفوح
إذا العيس باحت بالغرام ولم تطق ... خفاء فما للضب ليس يبوح(3/592)
ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبدت لنواظرنا بوارق أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، فأنشدت متمثلا:
أتيتك زائرا وودت أنى ... جعلت سواد عينى أمتطيه
وما لى لا أسير على الماقى ... إلى قبر رسول الله فيه
ولما وقع بصرى على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح سوابق العبرات حتى أصابت بعض الثرى والجدرات وقلت:
أيها المغرم المشوق هنيئا ... ما أنالوك من لذيذ التلاق
قل لعينيك تهملان سرورا ... طالما أسعداك يوم الفراق
واجمع الوجد والسرور ابتهاجا ... وجميع الأشجان والأشواق
ومر العين أن تفيض انهمالا ... وتوالى بدمعها المهراق
هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الدموع فى الآماق
وقلت:
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
ويستحب صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة، وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف- صلى الله عليه وسلم-. فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية. قال فى «تحقيق النصرة» وهو استدراك حسن. قاله بعض شيوخنا.
وفى منسك ابن فرحون: فإن قلت: المسجد إنما تشرف بإضافته إليه- صلى الله عليه وسلم- فينبغى البداءة بالوقوف عنده- صلى الله عليه وسلم-. قلت: قال ابن حبيب فى أول كتاب الصلاة: حدثنى مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسلم عليه وهو بفناء المسجد، فقال: «أدخلت المسجد فصليت فيه؟» قلت: لا، قال:
«فاذهب فادخل المسجد وصل فيه، ثم ائت فسلم علىّ» .(3/593)
قال: ورخص بعضهم فى تقديم الزيارة على الصلاة. قال ابن الحاج:
وكل ذلك واسع ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، والله أعلم. انتهى.
وينبغى للزائر أن يستحضر الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدا فى سلامه بين الجهر والإسرار. وفى البخارى: أن عمر- رضى الله عنه- قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» .
وقد روى عن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- قال: لا ينبغى رفع الصوت على نبى حيّا ولا ميتا. وروى عن عائشة- رضى الله عنها- أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب فى بعض الدور المطيفة بمسجد النبى- صلى الله عليه وسلم- فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قالوا: وما عمل على بن أبى طالب- رضى الله عنه- مصراعى داره إلا بالمصانع توقيا لذلك. نقله ابن زبالة. فيجب الأدب معه كما فى حياته.
وينبغى للزائر أن يتقدم إلى القبر الشريف من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلى الصاحبين فهو أبلغ فى الأدب من الإتيان من جهة رأسه المكرم.
ويستدبر القبلة ويقف قبالة وجهه- صلى الله عليه وسلم- بأن يقابل المسمار الفضة المضروب فى الرخام الذى فى الجدار، ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم، لأن هناك عدة قناديل.
وقد روى أن مالكا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسى: يا أبا عبد الله أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأدعو، أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك:
ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السّلام- إلى الله عز وجل يوم القيامة.
لكن رأيت منسوبا للشيخ تقى الدين بن تيمية فى منسكه: أن هذه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (470) فى الصلاة، باب: رفع الصوت فى المسجد. من حديث السائب بن يزيد- رضى الله عنه-.(3/594)
الحكاية كذب على مالك. وأن الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون ويدعون فى مسجده- صلى الله عليه وسلم-. قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك.
وينبغى أن يقف عند محاذاة أربعة أذرع ويلازم الأدب والخشوع والتواضع، غاض البصر فى مقام الهيبة، كما كان يفعل بين يديه فى حياته، ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه وسماعه لسلامه، كما هو الحال فى حال حياته، إذ لا فرق بين موته وحياته فى مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جلى لا خفاء به.
فإن قلت: هذه الصفات مختصة بالله تعالى. فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين يعلم أحوال الأحياء غالبا، وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور فى مظنة ذلك من الكتب.
وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب: ليس من يوم إلا ويعرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- أعمال أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم.
ويمثل الزائر وجهه الكريم- صلى الله عليه وسلم- فى ذهنه، ويحضر قلبه جلال رتبته، وعلو منزلته، وعظيم حرمته، وإن أكابر الصحابة ما كانوا يخاطبونه إلا كأخى السرار، تعظيما لما عظم الله من شأنه.
وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة- رضى الله عنها-: أن اكشفى لى عن قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكشفته فبكت حتى ماتت.
وحكى عن أبى الفضائل الحموى، أحد خدام الحجرة المقدسة، أنه شاهد شخصا من الزوار الشيوخ، أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان ممن شهد جنازته.
ثم يقول الزائر بحضور قلب، وغض بصر وصوت، وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبى الله، السلام عليك(3/595)
يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة خلق الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر عباد الله الصالحين، جزاك الله عنا يا رسول الله أفضل ما جازى نبيّا ورسولا عن أمته، وصلى الله عليك كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت فى الله حق جهاده.
ومن ضاق وقته عن ذلك، أو عن حفظه فليقل ما تيسر منه، أو مما يحصل به الغرض.
وفى «التحفة» : أن ابن عمر وغيره من السلف كانوا يقتصرون ويوجزون فى هذا جدّا. فعن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن من رواية ابن وهب عنه، يقول: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته.
وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر المقدس فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.
وينبغى أن يدعو، ولا يتكلف السجع فإنه قد يؤدى إلى الإخلال بالخشوع.
وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ فى «الشامل» الحكاية المشهورة عن العتبى، واسمه: محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبى سفيان صخر بن حرب، وتوفى فى سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزى فى مثير الغرام الساكن. عن محمد بن حرب الهلالى قال: أتيت قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فزرته(3/596)
وجلست بحذائه، فجاء أعرابى فزاره ثم قال: يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتابا صادقا، قال فيه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً «1» وقد جئتك مستغفرا من ذنبى مستشفعا بك إلى ربى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ووقف أعرابى على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك، فأعتقنى من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا تسأل العتق لك وحدك، هلا سألت لجميع الخلق. اذهب فقد أعتقناك من النار.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... فى رقهم أعتقوهم عتق أبرار
وأنت يا سيدى أولى بذاكرما ... قد شبت فى الرق فاعتقنى من النار
وعن الحسن البصرى قال: وقف حاتم الأصم على قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رب، إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودى: يا هذا ما أذنا لك فى زيارة قبر حبيبنا إلا وقد قبلناك فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورا لكم.
وقال ابن أبى فديك: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فتلا هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة.
قال الشيخ زين الدين المراغى وغيره: الأولى أن ينادى يا رسول الله وإن كانت الرواية يا محمد، انتهى. وقد نبهت على ذلك مع مزيد بيان فى كتاب
__________
(1) سورة النساء: 64.
(2) سورة الأحزاب: 56.(3/597)
«لوامع الأنوار فى الأدعية والأذكار» . فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان.
ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلم على أبى بكر- رضى الله عنه-، لأن رأسه بحذاء منكب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر، فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيد الله به- يوم الردة- الدين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، اللهم ارض عنه، وارض عنا به.
ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلم على عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيد الله به الدين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، اللهم ارض عنه، وارض عنا به.
ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد السلام على سيدنا أبى بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده، ويصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ويكثر من الدعاء والتضرع، ويجدد التوبة فى حضرته الكريمة، ويسأل الله بجاهه أن يجعلها توبة نصوحا، ويكثر من الصلاة والسلام على النبى- صلى الله عليه وسلم- بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه.
وقد روى أبو داود من حديث أبى هريرة: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مسلم يسلم علىّ إلا رد الله علىّ روحى حتى أرد عليه السلام» «1» .
وعند ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة مرفوعا: «من صلى على عند قبرى سمعته، ومن صلى على نائيا بلغته» .
وعن سليمان بن سحيم، مما ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» قال:
رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم.
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (2041) فى المناسك، باب: زيارة القبور. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/598)
ولا شك أن حياة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغى أن تكون حياته- صلى الله عليه وسلم- أكمل وأتم من حياة سائرهم.
فإن قال سقيم الطبع ردئ الفهم، لو كانت حياته- صلى الله عليه وسلم- مستمرة ثابتة لما كان لرد روحه معنى كما قال: «إلا رد الله على روحى» . يجاب على ذلك من وجوه:
أحدها: أن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائما لثبوت رد السلام دائما، فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم، واللازم يجب وجوده عند ملزومه أو ملزوم ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائما لأن ملزوم ملزومه ثابت دائما، وهذا من نفاثات سحر البيان فى إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل فنون البراعة التى هى قطرة من بحار بلاغته العظمى.
ومنها: أن ذلك عبارة عن إقبال خاص، والتفات روحانى يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوالب الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية، حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وهذا الإقبال يكون عامّا شاملا، حتى لو كان المسلمون فى كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف لوسعهم ذلك الإقبال النبوى والالتفات الروحانى، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبر عنه، ولقد أحسن من سئل: كيف يرد النبى- صلى الله عليه وسلم- على من يسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها فى آن واحد فأنشد قول أبى الطيب:
كالشمس فى وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
ولا ريب أن حاله- صلى الله عليه وسلم- فى البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل- عليه السّلام- يقبض مائة ألف روح فى وقت واحد ولا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا- صلى الله عليه وسلم- حى يصلى ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال فى حضرة اقترابه، متلذذا بسماع خطابه، وقد تقدم الجواب عن قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» فى أواخر الخصائص من المقصد الرابع.
__________
(1) سورة الزمر: 30.(3/599)
وقد روى الدارمى عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة، لم يؤذن فى مسجد النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-، وذكر ابن النجار وابن زبالة بلفظ قال سعيد- يعنى ابن المسيب-. فلما حضرت الظهر سمعت الأذان فى القبر، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة فى القبر المقدس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، يعنى ليالى أيام الحرة.
وقد روى البيهقى وغيره: من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«الأنبياء أحياء فى قبورهم يصلون» «1» . وفى رواية: «أن الأنبياء لا يتركون فى قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدى الله حتى ينفخ فى الصور» .
وله شواهد فى صحيح مسلم منها: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «مررت بموسى وهو قائم يصلى فى قبره» «2» . وفى حديث أبى ذر فى قصة المعراج: أنه لقى الأنبياء فى السموات، وكلموه وكلمهم «3» . وقد ذكرت مزيد بيان لذلك فى حجة الوداع من مقصد عباداته، وفى ذكر الخصائص الكريمة فى مقصد معجزاته، وفى مقصد الإسراء والمعراج.
وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء ليس على سبيل التكليف، إنما هو على سبيل التلذذ، ويحتمل أن يكونوا فى البرزخ ينسحب عليهم حكم الدنيا فى استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف، وبا لله التوفيق.
وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو يعلى عن أنس، كما فى «صحيح الجامع» (2790) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2375) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(3) انظر المجلد الأول، باب: إسرائه- صلى الله عليه وسلم-.(3/600)
أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» حياة الشهيد، ثبت للنبى- صلى الله عليه وسلم- بطريق الأولى، والذى عليه جمهور العلماء: أن الشهداء أحياء حقيقة، وهل ذلك للروح فقط أو للجسد معها؟ بمعنى عدم البلى، قولان.
وقد صح عن جابر: أن أباه وعمرو بن الجموح وكانا ممن استشهد بأحد ودفنا فى قبر واحد، حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأمطيت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت. وكان بين ذلك وبين أحد ست وأربعون سنة.
وروى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال فى شهداء أحد: «والذى نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه» . رواه البيهقى عن أبى هريرة.
وقد قال ابن شهاب: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أكثروا من الصلاة علىّ فى الليلة الزهراء واليوم الأزهر، فإنهما يؤديان عنكم، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء» «2» . رواه أبو داود وابن ماجه.
ونقل ابن زبالة عن الحسن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من كلمه روح القدس لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه» .
وقد ثبت أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- مات شهيدا لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمّا قاتلا من ساعته حتى مات منه بشر بن البراء، وصار بقاؤه- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) سورة آل عمران: 169.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1047) فى الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، وابن ماجه (1636) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه من حديث أوس بن أوس- رضى الله عنه-، ولفظه «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علىّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علىّ» ، فقال رجل: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعنى بليت؟ قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» . والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/601)
معجزة، فكان ألم السم يتعاهده إلى أن مات به، ولذا قال فى مرض موته- كما مر-: «ما زالت أكلة خيبر تعادّنى حتى كان الآن قطعت أبهرى» «1» .
والأبهران: عرقان يخرجان من القلب تتشعب منهما الشرايين، كما ذكره فى الصحاح. قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوة والشهادة.
انتهى.
وقد اختلف فى محل الوقوف للدعاء. فعند الشافعية أنه قبالة وجهه كما ذكرته، وقال ابن فرحون من المالكية: اختلف أصحابنا فى محل الوقوف للدعاء، ففى الشفاء قال مالك- فى رواية ابن وهب-: إذا سلم على النبى- صلى الله عليه وسلم- يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، وقد سأل الخليفة المنصور مالكا فقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السّلام- إلى الله يوم القيامة. وقال مالك فى «المبسوط» ، لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، ولكن يسلم ويمضى. قال ابن فرحون: ولعل ذلك ليس اختلاف قول، وإنما أمر المنصور بذلك لأنه يعلم ما يدعو، ويعلم آداب الدعاء بين يديه- صلى الله عليه وسلم-، فأمن عليه من سوء الأدب فأفتاه بذلك، وأفتى العامة أن يسلموا وينصرفوا، لئلا يدعوا تلقاء وجهه الكريم ويتوسلوا به فى حضرته إلى الله العظيم فيما لا ينبغى الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم، فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم باداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى.
ورأيت مما نسب للشيخ تقى الدين بن تيمية فى منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، ولا يصلى إليها ولا يقبلها، فإن هذا كله منهى عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك، والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء، كذب على مالك، وكذا قال، والله أعلم، انتهى.
__________
(1) تقدم.(3/602)
وأما قول الأبوصيرى فى بردة المديح:
لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم
فقال شارحها العلامة ابن مرزوق وغيره: كأنه إشارة إلى النوعين المستعملين فى الطيب، لأنه إما أن يستعمل بالشم، وإليه أشار بقوله «لمنتشق» وإما بالتضمخ وإليها أشار ب «ملتثم» ، قال: وأقل ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود فى مسجده- صلى الله عليه وسلم-، فليس المراد به تقبيل القبر الشريف فإنه مكروه.
ونقل الزركشى عن السيرافى: أن «طوبى» الطيب، قال ابن مرزوق:
طوبى فعلى من أنواع الطيب.
وهذا مبنى على أن المراد أن تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إما لأنه كذلك فى نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإما باعتبار المؤمن فى ذلك فإن المؤمن لا يعدل بشم رائحة تربته- صلى الله عليه وسلم- شيئا من الطيب.
فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد.
فالجواب: لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشرائط وتنتفى الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك، مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف عنه.
ولما كانت أحوال القبر من الأمور الآخروية، لا جرم لا يدركها من الأحياء إلا من كشف له الغطاء من الأولياء المقربين، لأن متاع الآخرة باق، ومن فى الدنيا فان، والفانى لا يتمتع بالباقى للتضاد، ولا ريب عند من له أدنى تعلق بشريعة الإسلام أن قبره- صلى الله عليه وسلم- روضة من رياض الجنة، بل أفضلها، وإذا كان القبر كما ذكرناه وقد حوى جسمه الشريف- عليه الصلاة والسلام- هو أطيب الطيب، فلا مرية أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدس.
ويرحم الله أحمد بن محمد العريف حيث يقول فى قصيدته التى أولها:(3/603)
إذا ما حدا الحادى بأحمال يثرب ... فليت المطايا فوق خدى تعبّق
ثم قال بعد أبيات:
فما عبق الريحان إلا وتربها ... أجلّ من الريحان طيبا وأعبق
وله أيضا:
راحت ركائبهم تبدى روائحها ... طيبا فيا طيب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قبر النبى المصطفى لهم ... روض إذا نشروا من ذكره فاحا
ولله در القائل:
فاح الصعيد بجسمه فكأنه ... روض بنم يعرفه المتأرج
ما جسمه مما يغيره الثرى ... والروح منه كالصباح الأبلج
وقال ابن بطال فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «المدينة ينصع طيّبها» «1» هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها مع فراق الأهل والتزام المخافة من العدو فلما باع نفسه والتزم هذا الأمر بأن صدقه ونصع إيمانه وقوى لاغتباطه بسكن المدينة ولقربه من رسوله، كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقا على سائر البلاد، خصوصية خص الله بها بلدة رسوله- صلى الله عليه وسلم- الذى اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهر، وقد جاء فى الحديث «أن المؤمن يقبر فى التربة التى خلق منها» فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب، كما أنه هو- صلى الله عليه وسلم- أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان. انتهى.
وينبغى للزائر أن يكثر من الدعاد والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به- صلى الله عليه وسلم-، فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه.
واعلم أن الاستغاثة هى طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1883) فى الحج، باب: المدينة تنفى الخبث، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.(3/604)
به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ: الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التجوّه أو التوجه، لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناه: علو القدر والمنزلة.
وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبى- صلى الله عليه وسلم- كما ذكره فى «تحقيق النصرة» و «مصباح الظلام» - واقع فى كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، فى مدة حياته فى الدنيا وبعد موته فى مدة البرزخ، وبعد البعث فى عرصات القيامة.
فأما الحالة الأولى فحسبك ما قدمته فى المقصد الأول من استشفاع آدم- عليه السّلام- به لما أخرج من الجنة، وقول الله تعالى له: «يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد فى أهل السماوات والأرض لشفعناك» . وفى حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقى وغيرهما: «وإن سألتنى بحقه فقد غفرت لك» . ويرحم الله «1» ابن جابر حيث قال:
به قد أجاب الله آدم إذ دعا ... ونجّى فى بطن السفينة نوح
وما ضرت النار الخليل لنوره ... ومن أجله نال الفداء ذبيح
وصح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لى، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتنى بيدك ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت قوائم العرش مكتوبا عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لا تضيف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلى، وإذ سألتنى بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك «2» . ذكره الطبرى وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك.
__________
(1) قلت: بل يغفر الله لقائله تلك الكلمات التى ليس عليها دليل، إلا أهواء قائليها، وما ضرهم إذ وصفوه بما وصفه الله تعالى به أو وصف به نفسه دون إفراط أو تفريط.
(2) تقدم أنه موضوع.(3/605)
وأما التوسل بعد خلقه فى مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به- صلى الله عليه وسلم- عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك مما ذكرته فى مقصد المعجزات ومقصد العبادات فى الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوى العاهات به، وحسبك ما رواه النسائى والترمذى عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضرير أتاه- صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله يعافينى، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد إنى أتوجه بك إلى ربك فى حاجتى لتقضى، اللهم شفعه فىّ» «1» وصححه البيهقى، وزاد: فقام وقد أبصر.
وأما التوسل به- صلى الله عليه وسلم- بعد موته فى البرزخ فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء وفى كتاب «مصباح الظلام فى المستغيثين بخير الأنام» للشيخ أبى عبد الله بن النعمان طرف من ذلك.
ولقد كان حصل لى داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به- صلى الله عليه وسلم- ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة زادها الله شرفا، ومنّ علىّ بالعود فى عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلانى من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوى، ثم استيقظت فلم أجد بى- والله- شيئا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبى- صلى الله عليه وسلم-.
ووقع لى أيضا فى سنة خمس وثمانين وثمانمائة فى طريق مكة، بعد رجوعى من الزيارة الشريفة لقصد مصر، أن صرعت خادمتنا غزال الحبشية، واستمر بها أياما، فاستشفعت به- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك، فأتانى آت فى منامى، ومعه الجنى الصارع لها فقال: لقد أرسله لك النبى- صلى الله عليه وسلم-، فعاتبته وحلفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة كأنما نشطت من عقال، ولا
__________
(1) صحيح: وقد تقدم، إلا أن المقصود بالتوسل به هنا التوسل بدعائه، لا التوسل بذاته، وبينهما فرق.(3/606)
زالت فى عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين «1» .
وأما التوسل به- صلى الله عليه وسلم- فى عرصات القيامة، فمما قام عليه الإجماع وتواترت به الأخبار فى حديث الشفاعة.
فعليك أيها الطالب إدراك السعادة الموصل لحسن الحال فى حضرة الغيب والشهادة، بالتعلق بأذيال عطفه وكرمه، والتطفل على موائد نعمه، والتوسل بجاهه الشريف والتشفع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالى واقتناص المرام، والمفزع يوم الجزع والهلع لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك فيما نزل بك من النوازل، وإمامك فيما تحاول من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد بأقصاه، وتدرك رضى من أحاط بكل شئ علما وأحصاه، واجتهد ما دمت بطيبة الطيبة حسب طاقتك فى تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير الطلبات، وارق فى مدارج العبادات، ولج فى سرادق المرادات.
تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصل ما استطعت من ادخار
فها أنا قد أبحت لكم عطائى ... وها قد صرت عندى فى جوارى
فخذ ما شئت من كرم وجود ... ونل ما شئت من نعم غزار
فقد وسعت أبواب التدانى ... وقد قربت للزوار دارى
فمتع ناظريك فها جمالى ... تجلى للقلوب بلا استتار
ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة فى مسجده المكرم، خصوصا بالروضة التى ثبت أنها روضة من رياض الجنة «2» . كما رواه البخارى.
__________
(1) قلت: هذه حكايات أعيان لا حجة فيها، لأنه ليس عليه دليل شرعى، ولو فتح هذا الباب لقال من شاء ما شاء.
(2) قلت: الذى فى صحيح البخارى: «ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة» أخرجه برقم (1195) فى الجمعة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر، والمقصد أن هذه البقعة سببا فى دخول الجنة، إما لأنها مكان علم (المسجد النبوى) ينتفع به، أو تؤدى فيه عبادة مقبولة فتكون سببا فى دخول الجنة، وكلاهما مقصود.(3/607)
قال ابن أبى جمرة معناه: تنقل تلك البقعة بعينها فى الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة، ويحتمل أن يكون المراد: العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معا، يعنى احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، قال:
ولكل وجه منهما دليل يعضده ويقويه من جهة النظر والقياس.
أما الدليل على أن العمل فيها يوجب روضة فى الجنة، فلأنه إذا كانت الصلاة فى مسجده- صلى الله عليه وسلم- بألف فيما سواه من المساجد، فلهذه البقعة زيادة على باقى البقع كما كان للمسجد زيادة على غيره.
وأما الدليل على كونها بعينها فى الجنة، وكون المنبر أيضا على الحوض، كما أخبر- صلى الله عليه وسلم- وأن الجذع فى الجنة، والجذع فى البقعة نفسها، فالعلة التى أوجبت للجذع الجنة هى فى البقعة سواء، على ما أذكره بعد- إن شاء الله تعالى-.
والذى أخبر بهذا أخبر بهذا، فينبغى الحمل على أكمل الوجوه، وهو الجمع بينهما، لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقعة المباركة، ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضا، فعلى هذا يكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة كما كان فى موضعه، ويكون للعامل فيه روضة فى الجنة، وهو الأظهر لوجهين: أحدهما: لعلو منزلته- صلى الله عليه وسلم-، ولما خص الخليل- عليه السّلام- بالحجر من الجنة، خص الحبيب- صلى الله عليه وسلم- بالروضة من الجنة.
وها هنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبد، فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة فحينئذ يحتاج إلى البحث.
والأظهر أنه لحكمة، وهى أنه قد سبق فى العلم الربانى بما ظهر أن الله عز وجل فضله على جميع خلقه، وأن كل ما كان منه بنسبة ما من جميع(3/608)
المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه كما استقرئ فى كل أموره، من بدء ظهوره- صلى الله عليه وسلم- إلى حين وفاته، فى الجاهلية والإسلام. فمنها ما كان فى شأن أمه، وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء، حسب ما هو مذكور معلوم.
ومثل ذلك حليمة السعدية. وحتى الأتان، وحتى البقعة التى تجعل الأتان يدها عليها تخضر من حينها، وما هو من ذلك كله معلوم.
وكان مشيه- صلى الله عليه وسلم- حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع- صلى الله عليه وسلم- يده المباركة ظهر فى ذلك كله من الخيرات والبركات حسّا ومعنى، كما هو منقول معروف.
ولما شاء صاحب القدرة أنه- صلى الله عليه وسلم- لا بدّ له من بيت، ولا بدّ له من منبر، وأنه بالضرورة يكثر تردده- صلى الله عليه وسلم- بين المنبر والبيت، فالحرمة التى أعطى غيرهما إذا كان من مسّة واحدة بمباشرته أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده- صلى الله عليه وسلم- فى البقعة الواحدة مرارا فى اليوم الواحد طول عمره، من وقت هجرته إلى حين وفاته. فلم يبق من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفناه، وهو أنها كانت من الجنة، وتعود إليها، وهى الآن منها، وللعامل فيها مثلها، فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه فى هذه الدار، لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرنا فى جنسها.
فإن احتج محتج لا فهم له بأن يقول: ينبغى أن يكون ذلك للمدينة بكمالها، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يطؤها بقدمه مرارا.
فالجواب: أنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها، من ذلك أن ترابها شفاء كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-، مع ما شاركت فيه البقعة المكرمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام. وأنه- صلى الله عليه وسلم- أول ما يشفع لأهلها يوم القيامة، وأن ما كان لها من الوباء والحمى رفع عنها، وأنه بورك فى طعامها وشرابها وأشياء كثيرة، فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولا، بأن تردده- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد نفسه أكثر مما فى المدينة نفسها، وتردده- صلى الله عليه وسلم- فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض، لأنه جاءت البركة متناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة، والقرب من تلك النسمة(3/609)
المرتفعة لا خفاء فيه إلا على ملحد أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد والبقعة أرفع البقع، قضية معلومة وحجة ظاهرة موجودة. انتهى.
وقال الخطابى: المراد من هذا الحديث الترغيب فى سكنى المدينة، وأن من لازم ذكر الله فى مسجدها آل به إلى روضة من رياض الجنة، وسقى يوم القيامة من الحوض انتهى. وتقدم فى الخصائص من مقصد المعجزات مزيد لذلك.
وعند مسلم من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» .
وقد اختلف العلماء فى المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم فى مكة والمدينة أيهما أفضل؟
ومذهب سفيان بن عيينة والشافعى وأحمد- فى أصح الروايتين عنه- وابن وهب ومطرف وابن حبيب- الثلاثة من المالكية- وحكاه الساجى عن عطاء بن أبى رباح، والمكيين والكوفيين. وحكاه ابن عبد البر عن عمر وعلى وابن مسعود وأبى الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة، وجماهير العلماء، أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة.
وقد حكى ابن عبد البر أنه روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، قال: ولكن المشهور عن أصحابه فى مذهبه تفضيل المدينة.
انتهى. وقال مالك: المدينة ومسجدها أفضل.
ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة: حديث عبد الله بن الحمراء أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على راحلته يقول: «والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» «1» . قال الترمذى:
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3925) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- وصحبه، وابن ماجه (3108) فى المناسك، باب: فضل مكة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/610)
حسن صحيح. وقال ابن عبد البر: هذا أصح الآثار عنه- صلى الله عليه وسلم-. قال: وهذا قاطع فى محل الخلاف. انتهى.
فعند الشافعى والجمهور معناه- أى الحديث-: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة فى مسجدى.
وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فى مسجدى تفضله بدون الألف.
وعن عبد الله بن الزبير قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فى هذا» «1» رواه أحمد وابن حبان فى صحيحه. وزاد: يعنى فى مسجد المدينة، البزار ولفظه: «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه مائة» .
قال المنذرى: وإسناده صحيح أيضا.
ومما يستدل به المالكية، ما ذكره ابن حبيب فى «الواضحة» أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «صلاة فى مسجدى كألف صلاة فيما سواه. وجمعة فى مسجدى كألف جمعة فيما سواه، ورمضان فى مسجدى كألف رمضان فيما سواه» .
ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين- كما قاله القاضى عياض- أن المدينة أفضل، وهو أحد الروايتين عن أحمد.
وأجمعوا على أن الموضع الذى ضم أعضاءه الشريفة- صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجى والقاضى عياض، بل نقل التاج السبكى كما ذكره السيد السمهودى فى «فضائل المدينة» عن ابن عقيل الحنبلى أنها أفضل من العرش، وصرح الفاكهانى بتفضيلها على السماوات ولفظه: وأقول أنا وأفضل من بقاع السماوات أيضا. ولم أر من
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1406) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى فضل الصلاة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(3/611)
تعرض لذلك، والذى أعتقده لو أن ذلك عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطئ قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها لكونه- صلى الله عليه وسلم- حالا فيها لم يبعد، بل هو عندى الظاهر المتعين. انتهى.
وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووى: إن الجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أى ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة.
وقد استشكل ما ذكر من الإجماع على أفضلية ما ضم أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام فى تفضيل بعض الأماكن على بعض، من أن الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما. قال: ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه، والتفضيل الذى فيهما أن الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما. انتهى. ملخصا.
لكن تعقبه الشيخ تقى الدين السبكى بما حاصله: إن الذى قاله لا ينفى أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما وإن لم يكن عمل، لأن قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا لأنه ليس مسجدا، ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق للنبى- صلى الله عليه وسلم-.
وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبى- صلى الله عليه وسلم- حى كما تقرر، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.
قال: ومن فهم هذا انشرح صدره لما قاله القاضى عياض من تفضيل ما ضم أعضاءه الشريفة- صلى الله عليه وسلم- باعتبارين: أحدهما، ما قيل إن كل أحد يدفن فى الموضع الذى خلق منه، والثانى: تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله(3/612)
تعالى. ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته ولكن لأجل من حلّ فيه- صلى الله عليه وسلم-.
انتهى.
وقد روى أبو يعلى عن أبى بكر أنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يقبض النبى إلا فى أحب الأمكنة إليه» . ولا شك أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى، لأن حبه تابع لحب ربه جل وعلا، وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل؟ وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة، وإنى أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه» «1» . ولا ريب أن دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم- أفضل من دعاء إبراهيم، لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعى. وقد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد» «2» . وفى رواية «بل أشد» وقد أجيبت دعوته، حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها. وروى الحاكم أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم إنك أخرجتنى من أحب البقاع إلىّ فأسكنى فى أحب البقاع إليك» «3» أى فى موضع تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان. قيل ضعفه ابن عبد البر، ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة لحديث «إن مكة خير بلاد الله» ، وفى رواية «أحب أرض الله إلى الله» ، ولزيادة التضعيف بمسجد مكة.
وتعقبه العلامة السيد السمهودى: بأن ما ذكر لا يقتضى صرفه عن ظاهره، إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيرها الله كذلك. وحديث:
«إن مكة خير بلاد الله» محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدين، وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابة دعوته، وصيرورتها أحب مطلقا بعد، ولهذا
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1373) فى الحج، باب: فضل المدنية ودعاء النبى فيها بالبركة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1889) فى الحج، باب: كراهية النبى أن تعدى المدينة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) ذكره العجلونى فى «كشف الخفاء» (555) وعزاه للحاكم فى المستدرك، وابن سعد فى شرف المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، إلا أنى لم أقف عليه فى المستدرك.(3/613)
افترض الله تعالى على نبيه- صلى الله عليه وسلم- الإقامة بها، وحث هو- صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به فى سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل.
قال: وأما مزيد المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر فى ذلك، فالصلوات الخمس بمنى للمتوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة، إذ فى الاتباع ما يربو عليها، ومذهبنا: شمول المضاعفة للنفل مع تفضيله بالمنزل، ولهذا قال عمر- رضى الله عنه- بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة، ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة: تفضيل مكة. إذ غايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، مع أن دعاءه- صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضا. وقد يبارك فى العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة.
وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب: إن الكلام فيما عداها، فلا يرد شئ مما جاء فى فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش المخزومى. أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هى حرم الله وأمنه وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول فى حرم الله وبيته شيئا، ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له: لا أقول فى حرم الله وبيته شيئا، فأشير على عبد الله فانصرف.
وقد عوضت المدينة عن العمرة، ما صح فى إتيان مسجد قباء، وعن الحج ما جاء فى فضل الزيارة النبوية والمسجد، والإقامة بعد النبوة بالمدينة وإن كانت أقل من مكة على القول به، فقد كانت سببا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر الفرائض وإكمال الدين، حتى كثر تردد جبريل- عليه السّلام- بها، ثم استقر بها- صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة. ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا- يعنى المدينة- أو مكة؟ فقال: هنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين فى أقل من ساعة؟!(3/614)
وروى الطبرانى حديث «المدينة خير من مكة» «1» وفى رواية للجندى «أفضل من مكة» وفيه: محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان فى الثقات وقال: كان يخطئ، وقال أبو زرعة: لين، وقال: ابن عدى، روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم: ليس بقوى.
وفى الصحيحين عن أبى هريرة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهى المدينة، تنفى الناس كما ينفى الكير خبث الحديد» «2» . أى أمرنى الله بالهجرة إليها، إن كان قاله- صلى الله عليه وسلم- بمكة، أو:
بسكناها، إن كان قاله بالمدينة. وقال القاضى عبد الوهاب: لا معنى لقوله:
«تأكل القرى» إلا رجوح فضلها عليها، أى على القرى وزيادتها على غيرها.
وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك: غلبة فضلها على فضل غيرها، أى أن الفضائل تضمحل فى جنب عظيم فضلها حتى تكون عدما، وهذا أبلغ من تسمية مكة «أم القرى» لأن الأمومة لا ينمحى معها ما هى له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى.
ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى، والأقرب: حمله عليهما، إذ هو أبلغ فى الغرض المسوق له. انتهى ما قاله السيد السمهودى.
وقد أطلت فى الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة، وإن كان مذهب إمامنا الشافعى- رحمه الله- تفضيل مكة، لأن هوى كل نفس أين حل حبيبها.
علىّ لربع العامرية وقفة ... ليملى على الشوق والدمع كاتب
ومن مذهبى حب الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير والدار قطنى فى الأفراد عن رافع بن خديج كما فى «ضعيف الجامع» (5920) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1871) فى الحج، باب: فضل المدينة وأنها تنفى الناس، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/615)
على أن للقلم فى أرجاء تفضيل المدينة مجالا واسعا ومقالا جامعا، لكن الرغبة فى الاختصار تطوى أطراف بساطه، والرهبة من الإكثار تصرف عن تطويله وإفراطه.
وقد استنبط العارف ابن أبى جمرة من قوله- صلى الله عليه وسلم- المروى فى البخارى «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة» «1» . التساوى بين فضل مكة والمدينة. قال: وظاهر هذا الحديث يعطى التسوية بينهما فى الفضل، لأن جميع الأرض يطؤها الدجال إلا هذين البلدين، فدل على تسويتهما فى الفضل، قال: ويؤيد ذلك أيضا من وجوه النظر: لأنه إن كانت خصت المدينة بمدفنه- صلى الله عليه وسلم- وإقامته بها ومسجده، فقد خصت مكة بمسقطه- صلى الله عليه وسلم- بها ومبعثه منها، وهى قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة المباركة مكة، ومغربها المدينة، وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة مثل إقامته- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، عشر سنين فى كل واحدة منهما. كذا قاله.
وأنت إذا تأملت قوله- صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم من حديث سعد «يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذى نفسى بيده لا يخرج أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه» «2» ظهر لك أن فيه إشعارا بذم الخروج من المدينة. بل نقل الشيخ محب الطبرى عن قوم أنه عام أبدا مطلقا، وقال: إنه ظاهر اللفظ.
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتى إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1881) فى الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم (2943) فى الفتن، باب: قصة الجساسة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1381) فى الحج، باب: المدينة تنفى شرارها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1378) فى الحج، باب: الترغيب فى سكنى المدينة والصبر على لأوائها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/616)
وفيه عن سعيد- مولى المهرى- أنه جاء إلى أبى سعيد الخدرى ليالى الحرة، فاستشاره فى الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك. لا آمرك بذلك، إنى سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يصبر أحد على لأوائها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» . و «اللأواء» : بالمد، الشدة والجوع.
و «أو» فى قوله: «إلا كنت له شفيعا أو شهيدا» الأظهر أنها ليست للشك، لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبى عبيد، عنه- صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله- صلى الله عليه وسلم-.
وتكون «أو» للتقسيم، ويكون شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لباقيهم، إما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين، وإما شهيدا لمن مات فى حياته، وشفيعا لمن مات بعده، أو غير ذلك.
وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين فى القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله علو مرتبة وزيادة منزلة وحظوة.
وإذا قلنا «أو» للشك، فإن كانت اللفظة الصحيحة «شهيدا» اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة «شفيعا» فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، وأو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات لكونهم على منابر، أو فى ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات.
كيف لا يتحمل المشقات من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات، وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات، وإنجاز(3/617)
وعده لشفاعته وشهادته وبلوغ قصده فى المحيا والممات، وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها، وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأملت يا هذا، لوجدت فى البلاد ما هو فى الشدة وشظف العيش مثلها أو أشق منها، وأهلها مقيمون فيها، وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل، وقوى على الرحلة فلا يرتحل، ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال.
على أن المدينة مع شظف العيش بها فى غالب الأحيان، قد وسع الله فيها على بعض السكان، حتى من أصحابنا من غير أهلها ممن استوطنها وحسن فيها حاله، وتنعم بها باله دون سائر البلدان، فإن من الله على المرء بمثل ذلك هنالك، وإلا فالصبر للمؤمن أولى، فمن وفقه الله تعالى صبره فى إقامته بها ولو على أحر من الجمر، فيتجرع مرارة غصتها ليجتلى عروس منصتها، ويلقى نزرا من لأوائها ليوقى بذلك من مصائب الدنيا وبلائها.
وقد روى البخارى من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» «1» أى ينقبض وينضم ويلتجئ، مع أنها أصل فى انتشاره، فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها فى جميع الأزمان، لحبه فى ساكنها- صلى الله عليه وسلم-، فأكرم بسكانها ولو قيل فى بعضهم ما قيل، فقد حظوا بشرف المجاورة بهذا الحبيب الجليل. فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم، فلا يسلب عنهم اسم الجار، وقد عمم- صلى الله عليه وسلم- فى قوله: «ما زال جبريل يوصينى بالجار» «2» ولم يخص جارا دون جار، وكل ما احتج به محتج من رمى بعض عوامهم السنية بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت ذلك فى شخص منهم فلا يترك إكرامه، ولا ينقص احترامه فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته فى الدار
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1876) فى الحج، باب: الإيمان يأرز إلى المدينة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6014) فى الأدب. باب: الوصاة بالجار، ومسلم (2624) فى البر والصلة، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/618)
كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح بهذا القرب الصورى قرب المعنى.
فيا ساكن أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
ولله در ابن جابر حيث قال:
هناؤكم يا أهل طيبة قد حقا ... فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا
فلا يتحرك ساكن منكم إلى ... سواها وإن جار الزمان وإن شقا
فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا
فبشراكم نلتم عناية ربكم ... فها أنتم فى بحر نعمته غرقى
ترون رسول الله فى كل ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقا
متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوى الإحسان لا يقبل الغلقا
فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حرّا ولا رقا
بطيبة مثواكم وأكرم مرسل ... يلاحظكم فالدهر يجرى لكم وفقا
وكم من نعمة لله فيها عليكم ... فشكرا ونعم الله بالشكر تستبقى
أمنتم من الدجال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطرقا
كذاك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه الليالى لا يزال لكم طلقا
فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا
حياة وموتا تحت رحماه أنتم ... وحشرا فستر الجاه فوقكم ملقى
فيا راحلا عنها لدنيا تريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى
أتخرج عن حوز النبى وحرزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا
لئن سرت تبغى من كريم إعانة ... فأكرم من خير البرية ما تلقى
هو الرزق مقسوم فليس بزائد ... ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا
فكم قاعد قد وسع الله رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا
فعش فى حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت فى الدارين تطلب أن ترقا
إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى
لقد أسعد الرحمن جار محمد ... ومن جار فى ترحاله فهو الأشقى(3/619)
وقد روى الترمذى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه من حديث ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإنى أشفع لمن يموت بها» «1» ورواه الطبرانى فى الكبير من حديث سبيعة الأسلمية. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«لا يدخل المدينة الدجال ولا الطاعون» «2» .
وفيه: عن أبى بكرة- رضى الله عنه- عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان» «3» .
قال فى فتح البارى: وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونه شهادة، وكيف قرن بالدجال، ومدحت المدينة بعدم دخولهما.
وأجيب: بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدم فى المقصد الثامن من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله فيها لا يتمكن من طعن أحد منهم.
وقد أجاب القرطبى فى المفهم عن ذلك فقال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذى وقع فى غيرها، كطاعون عمواس والجارف.
وهذا الذى قاله يقتضى أنه دخلها فى الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة فى «المعارف» وتبعه جمع منهم الشيخ محى الدين النووى فى «الأذكار» : بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلا، ولا مكة أيضا، لكن نقل
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3917) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل المدينة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (7134) فى الفتن، باب: لا يدخل الدجال المدينة. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1879) فى الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة. من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-.(3/620)
جماعة أنه دخل مكة الطاعون فى العام الذى كان فى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلا.
وأجاب بعضهم بأنه- صلى الله عليه وسلم- عوضهم عن الطاعون بالحمى، لأن الطاعون يأتى مرة بعد مرة، والحمى تتكرر فى كل حين فيتعادلان فى الأجر، ويتم المراد من عدم دخول الطاعون المدينة.
قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لى جواب آخر، بعد استحضار الذى أخرجه أحمد من رواية أبى عسيب- بمهملتين آخره موحدة، بوزن عظيم- رفعه: «أتانى جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام» «1» ، وهو أن الحكمة فى ذلك: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة كان فى قلة من أصحابه عددا ومددا، وكانت المدينة وبيئة، كما فى حديث عائشة، ثم خير- صلى الله عليه وسلم- فى أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، وأذن له فى القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل فى سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التى هى حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره فى هذه المدة المتطاولة، فكان منع دخول الطاعون من خصائصها ولوازم دعائه- صلى الله عليه وسلم- لها بالصحة. وقال بعضهم:
هذا من المعجزات المحمدية، لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، انتهى ملخصا والله أعلم.
ومن خصائص المدينة أن غبارها شفاء من الجذام والبرص بل من كل
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 81) من حديث أبى عسيب مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.(3/621)
داء، كما رواه رزين العبدرى فى جامعه من حديث سعد، زاد فى حديث ابن عمر: وعجوتها شفاء من السم، ونقل البغوى عن ابن عباس فى قوله تعالى:
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً «1» أنها المدينة.
وذكر ابن النجار تعليقا عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن. وروى الطبرانى فى الأوسط بإسناد لا بأس به عن أبى هريرة يرفعه: «المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام» «2» .
وبالجملة، فكل المدينة وترابها وطرقها وفجاجها ودورها وما حولها قد شملته بركته- صلى الله عليه وسلم-، فإنهم كانوا يتبركون بدخوله منازلهم، ويدعونه إليها وإلى الصلاة فى بيوتهم، ولذلك امتنع مالك من ركوب دابة فى المدينة وقال:
لا أطأ بحافر دابة فى عراص كان- صلى الله عليه وسلم- يمشى فيها بقدميه- صلى الله عليه وسلم-.
وينبغى أن يأتى قباء للصلاة فيه والزيارة، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يزوره راكبا وماشيا، رواه مسلم وفى رواية له: «يأتى» بدل «يزور» فيصلى فيه ركعتين.
وعنده أيضا: إن ابن عمر كان يأتيه كل سبت ويقول: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يأتيه كل سبت.
وعند الترمذى وابن ماجه والبيهقى من حديث أسيد بن ظهير الأنصارى، يرفعه: «صلاة فى مسجد قباء كعمرة» «3» ، قال الترمذى: حسن غريب. وقال المنذرى: لا نعرف لأسيد حديثا صحيحا غير هذا.
ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف بلفظ: «من تطهر
__________
(1) سورة النحل: 41.
(2) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط، كما فى «ضعيف الجامع» (5921) .
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (324) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، وابن ماجه (1411) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/622)
فى بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة» «1» ، وصححه الحاكم.
وينبغى أيضا بعد زيارته- صلى الله عليه وسلم- أن يقصد المزارات التى بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة، والمساجد التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم- التماسا لبركته، ويخرج إلى البقيع لزيارة من فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفى فى المدينة فى حياته- صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته مدفون فى البقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين.
وروى عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك أمهات المؤمنين سوى خديجة فإنها بمكة، وميمونة فإنها بسرف. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» «2» رواه مسلم.
قال ابن الحاج فى «المدخل» وقد فرق علماؤنا بين الآفاقى والمقيم فى التنفل بالطواف والصلاة، فقالوا: الطواف فى حق الآفاقى أفضل له، والتنفل فى حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أولى، فمن كان مقيما خرج إلى زيارة أهل البقيع ومن كان مسافرا فليغتنم مشاهدته- صلى الله عليه وسلم-.
وحكى عن العارف ابن أبى جمرة، أنه لما دخل المسجد النبوى لم يجلس إلا الجلوس فى الصلاة، وأنه لم يزل واقفا بين يديه- صلوات الله وسلامه عليه-، وكان قد خطر له أن يذهب إلى البقيع فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 37) فى المساجد، باب: فضل مسجد قباء بالصلاة فيه، وابن ماجه (1412) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، وأحمد (3/ 487) ، والحاكم (3/ 13) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (249) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/623)
وروى ابن النجار مرفوعا: «مقبرتان مضيئتان لأهل السماء كما تضئ الشمس والقمر لأهل الدنيا: بقيع الغرقد ومقبرة بعسقلان» ، وعن كعب الأحبار قال: نجدها فى التوراة- يعنى مقبرة المدينة- كقبة محفوفة بالنخيل موكل بها ملائكة كلما امتلأت أخذوها مكفؤوها فى الجنة.
وأخرج أبو حاتم من حديث ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر ثم عمر، ثم آتى البقيع فيحشرون معى، ثم أنتظر أهل مكة حتى يحشروا بين الحرمين» «1» .
الفصل الثالث
فى تفضيله- صلى الله عليه وسلم- فى الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم وعلى الدرجات العاليات وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، المغبوط عليه من الأولين والآخرين، وانفراده بالسؤدد فى مجمع جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه فى جنات عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه يوم المزيد فى أعلى معالى الحسنى وزيادة.
اعلم أن الله تعالى كما فضل نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى البدء بأن جعله أول الأنبياء فى الخلق، وأولهم فى الإجابة فى عالم الذر، يوم ألست بربكم، فضل له ختم كمال الفضائل فى العود، فجعله أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يؤذن له بالسجود، وأول من ينظر إلى رب العالمين، والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك، وأول الأنبياء يقضى بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته، وأول داخل الجنة، وأمته أول الأمم دخولا إليها. وزاده لطائف التحف ونفائس الطرف ما لا يحد ولا يعد:
فمن ذلك أنه يبعث راكبا، وتخصيصه بالمقام المحمود، ولواء الحمد تحته آدم فمن دونه من الأنبياء، واختصاصه أيضا بالسجود لله تعالى أمام العرش،
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3692) فى المناقب، باب: رقم (72) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6899) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1310) .(3/624)
وما يفتحه الله عليه فى سجوده من التحميد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبله ولا يفتحه على أحد بعده زيادة فى كرامته وقربه، وكلام الله له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى.
ومن ذلك: تكراره فى الشفاعة، وسجوده ثانية وثالثة، وتجديد الثناء عليه بما يفتح الله عليه.
ومن ذلك: كلام الله تعالى له فى كل سجدة: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع، فعل المدل على ربه الكريم عليه الرفيع عنده، المحب ذلك منه تشريفا له وتكريما وتبجيلا وتعظيما.
ومن ذلك: قيامه عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم، وإتيانهم إليه يسألونه الشفاعة ليريحهم من غمهم وعرقهم وطول وقوفهم، وشفاعته فى أقوام قد أمر بهم إلى النار.
ومنها: الحوض، الذى ليس فى الموقف أكثر أوان منه، وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته.
ومنها: أنه يشفع فى رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم.
وهو صاحب الوسيلة التى هى أعلى منزلة فى الجنة، إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيما وتبجيلا وتكريما على رؤس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بأولية انشقاق القبر المقدس عنه، فروى مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع» «1» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2278) فى الفضائل، باب: تفضيل نبينا على جميع الخلائق. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/625)
وفى حديث أبى سعيد- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى- آدم فمن سواه- إلا تحت لوائى، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر..» «1»
رواه الترمذى.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر، ثم آتى أهل البقيع فيحشرون معى، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين» «2» قال الترمذى: حسن صحيح. ورواه أبو حاتم وقال: حتى نحشر. وتقدم.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش: فما أدرى أكان فيمن صعق» «3» . وفى رواية: «فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق قبلى أو كان ممن استثنى الله» «4» .
رواه البخارى. والمراد بالصعق: غشى يلحق من سمع صوتا أو رأى شيئا ففزع منه.
ولم يبين فى هذه الرواية- من الطريقين- محل الإفاقة، من أى الصعقتين. ووقع فى رواية الشعبى عن أبى هريرة فى تفسير سورة الزمر «إنى أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة» .
والمراد بقوله: «ممن استثنى الله» قوله تعالى: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3148) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة بنى إسرائيل من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. قال الترمذى: حسن صحيح. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) ضعيف: وقد تقدم قريبا.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2411) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(4) تقدم.(3/626)
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «1» . وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أن الموتى لا إحساس لهم؟
فقيل المراد: الذين يصعقون هم الأحياء، وأما الموتى فهم فى الاستثناء فى قوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «2» أى إلا من سبق له الموت قبل ذلك فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح القرطبى. ولا يعارضه ما ورد فى الحديث: إن موسى ممن استثنى الله، لأن الأنبياء أحياء عند الله.
وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض. وتعقبه القرطبى: بأنه صرح- صلى الله عليه وسلم- بأنه يخرج من قبره فيلقى موسى وهو متعلق بالعرش وهذا إنما هو عند نفخة البعث.
انتهى.
ووقع فى رواية أبى سلمة عند ابن مردويه: «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة فأقوم فأنفض التراب عن رأسى، فاتى قائمة العرش فأجد موسى قائما عندها، فلا أدرى أنفض التراب عن رأسه قبلى، أو كان ممن استثنى الله» «3» .
واختلف فى المستثنى من هو على عشرة أقوال: فقيل الملائكة، وقيل الأنبياء، وبه قال البيهقى فى تأويل الحديث فى تجويزه: أن يكون موسى ممن استثنى الله، قال: ووجهه عندى أنهم أحياء كالشهداء، فإذا نفخ فى الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتا فى جميع معانيه إلا فى ذهاب الاستشعار.
وقيل الشهداء: واختاره الحليمى قال: وهو مروى عن ابن عباس، فإن الله تعالى يقول: أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «4» ، وضعف غيره من الأقوال.
__________
(1) سورة النمل: 87.
(2) سورة النحل: 87.
(3) تقدم.
(4) سورة آل عمران: 169.(3/627)
وقال أبو العباس القرطبى صاحب «المفهم» : الصحيح أنه لم يأت فى تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. وتعقبه تلميذه فى «التذكرة» فقال: قد ورد فى حديث أبى هريرة بأنهم الشهداء وهو صحيح. وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل عن هذه الآية: «من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟» قال: هم شهداء الله «1» . وصححه الحاكم.
وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، ثم يموتون، وآخرهم ملك الموت، وقيل هم الحور العين والولدان فى الجنة.
وتعقب: بأن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض، لأن العرش فوق السماوات كلها، وبأن جبريل وميكائيل وملك الموت من الصافين المسبحين، ولأن الحور العين والولدان فى الجنة، وهى فوق السماوات ودون العرش، وهى بانفرادها عالم مخلوق للبقاء فلا شك أنها بمعزل عما خلقه الله للفناء. ثم إنه وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل ثم يحييهم. وأما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر، والأظهر أنها دار خلود، فالذى يدخلها لا يموت فيها أبدا، مع كونه قابلا للموت، فالذى خلق فيها أولى أن لا يموت فيها أبدا.
فإن قلت: قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2» يدل على أن الجنة نفسها تفنى ثم تعاد ليوم الجزاء، ويموت الحور العين ثم يحيون.
أجيب: بأنه يحتمل أن يكون معنى قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ «3» أى أنه قابل للهلاك، فيهلك إن أراد الله به ذلك، إلا هو سبحانه فإنه قديم، والقديم لا يمكن أن يفنى، انتهى ملخصا من تذكرة القرطبى.
ويؤيد القول بعدم موت الحور قولهن: نحن الخالدات فلا نموت، كما فى الحديث. ولا يقال: المراد من قولهن الخلود الكائن بعد القيامة، لأنه لا خصوصية فيه، والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها، والله أعلم.
__________
(1) ذكره الحافظ فى «الفتح» (11/ 371) .
(2) سورة القصص: 88.
(3) سورة القصص: 88.(3/628)
وفى كتاب العظمة لأبى الشيخ ابن حبان من طريق وهب بن منبه من قوله: قال: خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء فى صفاء الزجاجة، ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلق به، ثم قال: كن فكان إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة، فذكر الحديث وفيه:
ثم تجتمع الأرواح كلها فى الصور، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح فى جسدها. فعلى هذا فالنفخ يقع فى الصور أولا ليصل النفخ بالروح إلى الصّور وهى الأجساد، فإضافة النفخ إلى الصور الذى هو القرن حقيقة، وإلى الصور التى هى الأجساد مجاز.
وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، رفعه: «ثم ينفخ فى الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون» «1» .
و «الليت» بكسر اللام وبالمثناة التحتية ثم الفوقية: صفحة العنق، وهما ليتان و «أصغى» : أمال.
وأخرج البيهقى بسند قوى، عن ابن مسعود موقوفا: ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه- والصور قرن- فلا يبقى لله خلق فى السماوات والأرض إلا مات، إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون.
وأخرج ابن المبارك فى الرقاق من مرسل الحسن: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حى، والآخرى يحيى الله بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس، وهو ضعيف.
وعن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدى، ولواء الحمد
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2940) فى الفتن، باب: فى خروج الدجال ومكثه فى الأرض ونزول عيسى. من حديث عبد الله بن عمرو، وليس ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/629)
يومئذ بيدى، وأنا أكرم ولد آدم على ربى، يطوف علىّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور» «1» . رواه الدارمى، وقال الترمذى: حديث غريب.
ولم يقل: وأنا إمامهم، لأن دار الآخرة ليست دار تكليف.
وفى حديث رواه صاحب كتاب «حادى الأرواح» : أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه ينادى بالأذان.
وفى كتاب «ذخائر العقبى» للطبرى، مما عزاه لتخريج الحافظ السلفى من حديث أبى هريرة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «تبعث الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتىّ العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة» «2» .
وأخرجه الطبرانى والحاكم بلفظ: «يحشر الأنبياء على الدواب، وأبعث على البراق، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة فينادى بالأذان محضّا وبالشهادة حقّا، حتى إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله، شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين» «3» .
وعند ابن زنجويه فى «فضائل الأعمال» عن كثير بن مرة الحضرمى، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تبعث ناقة ثمود لصالح فيركبها من عند قبره حتى توافى به المحشر، وأنا على البراق اختصصت به من دون الأنبياء يومئذ، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادى على ظهرها بالأذان حقّا، فإذا سمعت الأنبياء وأممها: أشهد أن محمدا رسول الله قالوا: ونحن نشهد على ذلك» «4» .
__________
(1) أخرجه الدارمى (48) فى المقدمة، باب: ما أعطى النبى من الفضل. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 333) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والكبير، وفيه أبو صالح كاتب الليث وهو ضعيف وقد وثق، وعثمان بن يحيى بن صالح المصرى كذلك وبقية رجالهما رجال الصحيح.
(3) انظر ما قبله.
(4) أخرجه حميد بن زنجويه وابن عساكر عن كثير بن مرة الحضرى، والعقيلى فى الضعفاء، -(3/630)
وذكر الشيخ زين الدين المراغى، مما عزاه لابن النجار فى تاريخ المدينة عن كعب الأحبار، والقرطبى فى «التذكرة» وابن أبى الدنيا عن كعب: أنه دخل على عائشة- رضى الله عنها-، فذكروا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفون بالقبر، ويضربون بأجنحتهم ويصلون على النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبى- صلى الله عليه وسلم-، سبعون ألفا بالليل وسبعون ألفا بالنهار، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج فى سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه- صلى الله عليه وسلم-.
وفى «نوادر الأصول» للحكيم الترمذى من حديث ابن عمر قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويمينه على أبى بكر وشماله على عمر، فقال: «هكذا نبعث يوم القيامة» «1» .
وعن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيرى» «2» .
رواه الترمذى.
وفى رواية جامع الأصول عنه: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى» «3» ، وفى رواية كعب: حلة خضراء.
وفى البخارى، من حديث ابن عباس، عنه- صلى الله عليه وسلم-: «تحشرون حفاة
__________
وابن عساكر عن عبد الكريم بن كيسان عن سويد بن عمير، وقال العقيلى: ابن كيسان مجهول وحديثه غير محفوظ، وأورد ابن الجوزى حديث سويد فى الموضوعات ووافقه الذهبى، وقال غيره: منكر، انظر «كنز العمال» (39179) .
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3661) فى المناقب، باب: فى مناقب أبى بكر وعمر، كليهما من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3619) فى المناقب، باب: فضل النبى. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(3) تقدم فى الذى قبله.(3/631)
عراة غرلا، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم» «1» .
وأخرجه البيهقى، وزاد: وأول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة ويؤتى بكرسى فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بى فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر. وفيه: أنه يجلس على الكرسى عن يمين العرش.
ولا يلزم من تخصيص إبراهيم- عليه السّلام- بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبينا- صلى الله عليه وسلم-، على أنه يحتمل أن يكون نبينا- صلى الله عليه وسلم- خرج من قبره فى ثيابه التى مات فيها، والحلة التى يكساها يومئذ حلة الكرامة، بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم فى الكسوة بالنسبة لبقية الخلق.
وأجاب الحليمى: بأنه يكسى إبراهيم أولا، ثم يكسى نبينا، - عليهما الصلاة والسلام-، على ظاهر الخبر، لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فتجبر بنفاستها ما فات من الأولية.
وفى حديث أبى سعيد عند أبى داود وصححه ابن حبان، أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الميت يبعث فى ثيابه التى يموت فيها» «2» .
وعند الحارث بن أبى أسامة وأحمد بن منيع: «فإنهم يبعثون فى أكفانهم ويتزاورون فى أكفانهم» «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3349) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3114) فى الجنائز، باب: ما يستحب من تطهير ثياب الميت عند الموت. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه مسحويه والعقيلى فى الضعفاء والخطيب فى التاريخ عن أنس، كما فى «صحيح الجامع» (845) .(3/632)
ويجمع بينه وبين ما فى البخارى بأن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم كاسيا، أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء، وأول من يكسى إبراهيم- عليه السّلام-، أو يخرجون من القبور بالثياب التى ماتوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة ثم يكون أول من يكسى إبراهيم.
وحمل بعضهم حديث أبى سعيد على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه فى الشهداء فحمله على العموم.
وأما ما رواه الطبرى فى «الرياض النضرة» وعزاه للإمام أحمد فى المناقب عن محدوج بن زيد الهذلى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال لعلى: «أما علمت يا على أنه أول من يدعى به يوم القيامة بى، فأقوم عن يمين العرش فى ظله، فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش ويكسون حللا خضرا من حلل الجنة، ألا وإن أمتى أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشر، فأول من يدعى بك، فيدفع لك لوائى وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم وجميع خلق الله تعالى يستظلون بظل لوائى يوم القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة، وسنانه ياقوتة حمراء، قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور، ذؤابة فى المشرق، وذؤابة فى المغرب، والثالثة فى وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، الثانى: الحمد لله رب العالمين، الثالث: لا إله إلا الله محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك، والحسين عن يسارك، حتى تقف بينى وبين إبراهيم- عليه السّلام- فى ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة، والسماطان من الناس والنخل: الجانبان» «1» .
ورواه ابن سبع فى الخصائص بلفظ: قال سأل عبد الله بن سلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن لواء الحمد ما صفته؟ قال: «طوله مسيرة» الحديث. فقال
__________
(1) أخرجه بنحوه أحمد فى «المسند» (3/ 116) من حديث أنس، وله رواية أيضا بنحوه فى الصحيحين.(3/633)
الحافظ قطب الدين الحليمى: كما نقله عنه المحب بن الهمام: إنه موضوع بين الوضع. قال: والله أعلم بحقيقة لواء الحمد.
وفى حديث أبى سعيد- عند الترمذى بسند حسن- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» «1» الحديث. واللواء: الراية، وفى عرفهم لا يمسكها إلا صاحب الجيش ورئيسه، ويحتمل أن تكون بيد غيره بإذنه وتكون تابعة له ومتحركة بحركته، تميل معه حيث مال، لا أنه يمسكها بيده، إذ هذه الحالة أشرف.
وفى استعمال العرب عند الحروب، إنما يمسكها صاحبها، ولا يمنعه ذلك من القتال بها، بل يقاتل بها ممسكا لها أشد القتال، ولذا لا يليق بإمساكها كل أحد، بل مثل على- رضى الله عنه-، كما قال «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله وسوله، ويحبه الله ورسوله» «2» . وإنما أضاف «اللواء» إلى «الحمد» الذى هو الثناء على الله بما هو أهله، لأن ذلك هو منصبه فى ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء. وقد اختلف فى هيئة حشر الناس.
ففى البخارى من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير وأربعة على بعير. وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار، تقبل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسى معهم حيث أمسوا» «3» رواه الشيخان.
وقد مال الحليمى إلى أن هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالى، وقيل: إنهم يخرجون من القبور بالوصف المذكور فى
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2404) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب. من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6522) فى الرقاق، باب: كيف الحشر، ومسلم (2861) فى الجنة وصفته، باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/634)
حديث ابن عباس عند الشيخين: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا، ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف، كما فى حديث أبى هريرة:
«ويحشر الكافر على وجهه» ، قال رجل: يا رسول الله، كيف يحشر على وجهه؟ قال: «أليس الذى أمشاه على الرجلين فى الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» «1» أخرجه الشيخان.
وفى حديث أبى ذر عند النسائى مرفوعا: «إن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوجا راكبين طاعمين كاسين، وفوجا تسحبهم الملائكة على وجوههم، وفوجا يمشون ويسعون» «2» .
وفى حديث سهل بن سعد مرفوعا: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقى ليس فيها علم لأحد» «3» رواه الشيخان.
وفى حديث عقبة بن عامر- عند الحاكم- رفعه: «تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه وأشار بيده ألجمها فاه، ومنهم من يغطيه عرقه، وضرب بيده على رأسه» «4» .
وله شاهد عند مسلم، من حديث المقداد بن الأسود، وليس بتمامه، وفيه: «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4760) فى تفسير القرآن، باب: قوله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك ... من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(2) ضعيف: أخرجه النسائى (4/ 116) فى الجنائز، باب: البعث، وأحمد فى «المسند» (5/ 164) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6521) فى الرقاق، باب: يقبض الله الأرض يوم القيامة. من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-. ولفظه يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقىّ، قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لأحد.
(4) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 615) ، وانظر ما بعده.(3/635)
فيكون الناس على قدر أعمالهم فى العرق» «1» . وهذا ظاهر فى أنهم يستوون فى وصول العرق إليهم ويتفاوتون فى حصوله فيهم.
فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد قال الله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «2» والألف واللام فى «السماء» للجنس، بدليل وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «3» فما طريق الجمع؟
فالجواب: يجوز أن تقام بنفسها دانية من الناس فى المحشر ليقوى هوله وكربه، عافانا الله من كل مكروه.
وقال ابن أبى جمرة: ظاهر الحديث يقتضى تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الآخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم.
وأخرج أبو يعلى، وصححه ابن حبان عن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «4» قال: مقداره نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون على المؤمنين كتدلى الشمس إلى أن تغرب «5» . وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبى سعيد.
وللبيهقى فى البعث عن أبى هريرة: «يحشر الناس قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء، فليجمهم العرق من شدة الكرب» «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2864) فى الجنة وصفتها، باب: فى صفة يوم القيامة. من حديث المقداد بن الأسود- رضى الله عنه-.
(2) سورة الأنبياء: 104.
(3) سورة الزمر: 67.
(4) سورة المطففين: 6.
(5) أصله فى مسلم (987) فى الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(6) أخرجه البيهقى فى «البعث والنشور» (ص 339) .(3/636)
وفى البخارى من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، - صلى الله عليه وسلم-: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم فى الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم» » .
وعند البيهقى من حديث ابن مسعود: «إذا حشر الناس قاموا أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم، والشمس على رؤسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر» .
وفى حديث أبى سعيد، عند أحمد، أنه يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة فريضة مكتوبة «2» ، وسنده حسن. وللطبرانى من حديث ابن عمر: ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار.
وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن الذى يلجمه العرق الكافر، أخرجه البيهقى فى البعث بسند حسن عنه قال: يشتد كرب الناس ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال: على كراسى من ذهب ويظلل عليهم الغمام.
وبسند قوى عن أبى موسى قال: الشمس فوق رؤس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظلهم.
وأخرج ابن المبارك فى «الزهد» وابن أبى شيبة فى «المصنف» واللفظ له، بسند جيد عن سلمان قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الرأس حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون حتى يرشح العرق فى الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل. زاد ابن المبارك فى روايته:
ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة. قال القرطبى: المراد من يكون كامل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6532) فى الرقاق، باب: قول الله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) ضعيف: أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن حبان فى «صحيحه» كلهم من طريق دراج عن أبى الهيثم، قاله المنذرى فى «الترغيب والترهيب» (4/ 391) ، قلت: وهو طريق ضعيف.(3/637)
الإيمان لما يدل عليه حديث المقداد وغيره: أنهم يتفاوتون فى ذلك بحسب أعمالهم.
وفى رواية عند أبى يعلى، وصححها ابن حبان: إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب، أرحنى ولو إلى النار «1» . وهو كالصريح فى أن ذلك كله فى الموقف. ومن تأمل الحالة المذكورة، عرف عظيم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف، وتدنو الشمس من الرؤس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرونه من العرق مع أن كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء فى عرقهم مع تنوعهم فيه.
إن هذا لما يبهر العقول، ويدل على عظيم القدرة، ويقتضى الإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول.
فتأمل- رحمك الله- شدة هذا الازدحام والانضمام والاتساق والالتصاق، واجتماع الإنس والجان، ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم وتدافعهم واختلاطهم، وقرب الشمس منهم، وما يزاد فى حرها، ويضاعف فى وهجها، ولا ظل إلا ظل عرش ربك بما قدمته، مع ما انضاف إلى ذلك من حر البأس، لتزاحم الناس واحتراق القلوب، لما غشيها من الكروب.
ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش فى ذلك اليوم، وكثرة الالتهاب، والماء ثم أعز موجود، وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود- صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، ولا مشرب لأمته سواه، ولا تبرد أكبادهم إلا به، فالشربة منه كما ورد تروى الظمأ، وتشفى من الصدى. وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها ولا يسقم بعدها أبدا.
__________
(1) رواه الطبرانى فى الكبير بإسناد جيد، وأبو يعلى، ومن طريقه ابن حبان إلا أنهما قالا: إن الكافر. ورواه البزار والحاكم من حديث الفضل بن عيسى وهو واه عن المنكدر عن جابر، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، قاله المنذرى فى «الترغيب والترهيب» (4/ 390) .(3/638)
وفى حديث أنس عند البزار: من شرب منه- أى من الحوض- شربة لم يظمأ أبدا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا، وزاد فى حديث أبى أمامة عند أحمد وابن حبان: ولم يسود وجهه أبدا.
وفى حديث ثوبان عند الترمذى وصححه الحاكم: «أكثر الناس عليه ورودا فقراء المهاجرين» «1» .
وفى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عند الشيخين: «حوضى مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، ورائحته أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ أبدا» «2» .
قال القرطبى فى «التذكرة» : ذهب صاحب «القوت» وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح أن للنبى- صلى الله عليه وسلم- حوضين، أحدهما فى الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمى كوثرا.
وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب فى الحوض، ويطلق على الحوض كوثر لكونه يمد منه. فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبى أن الحوض يكون قبل الصراط لأن الناس يردون الموقف عطاشا، فيرد المؤمنون الحوض، وتتساقط الكفار فى النار بعد أن يقولوا ربنا عطشنا، فترفع لهم جهنم كأنها سراب فيقال ألا تردون، فيظنونها ماء فيتساقطون فيها.
وفى حديث أبى ذر مما رواه مسلم: «أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة» «3» وهو حجة على القرطبى لا له، لأن الصراط جسر جهنم، وهو بين
__________
(1) صحيح المرفوع منه: أخرجه الترمذى (2444) فى صفة القيامة، باب: ما جاء فى صفة أوانى الحوض، من حديث ثوبان- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6579) فى الرقاق، باب: فى الحوض. من حديث عبد الله ابن عمرو- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2300) فى الفضائل، باب: إتيان حوض نبينا وصفاته. من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.(3/639)
الموقف والجنة، والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذى يصب من الكوثر فى الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض، بجانب الجنة ليصب فيه الماء من النهر الذى داخلها.
وقال القاضى عياض: ظاهر قوله- صلى الله عليه وسلم-: «من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا» يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها بالظمأ بل بغيره.
وعن أنس قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لى يوم القيامة، فقال: «أنا فاعل إن شاء الله» قلت: فأين أطلبك؟ قال: «أول ما تطلبنى على الصراط» ، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: «فاطلبنى عند الميزان» ، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: «فاطلبنى عند الحوض، فإنى لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن» «1» . رواه الترمذى وقال: حسن غريب.
وفى حديث ابن مسعود عند أحمد: «ثم أوتى بكسوتى فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد، فيغبطنى به الأولون والآخرون» . قال:
«ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض» «2» . الحديث.
وقد بين فى حديث ابن عمرو بن العاص، عند البخارى، أن الحوض مسيرة شهر، وزاد فى رواية مسلم من هذا الوجه: وزواياه سواء طوله كعرضه. وهذه الزيادة- كما قاله فى فتح البارى- تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث فى تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (2433) فى صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء فى شأن الصراط. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. وصححه الألبانى فى «صحيح الترمذى» .
(2) أخرجه أحمد (1/ 398) من حديث ابن مسعود، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 362) وقال: رواه أحمد والبزار والطبرانى وفى أسانيدهم كلهم عثمان بن عمير، وهو ضعيف.(3/640)
وفى حديث أبى سعيد عند ابن ماجه رفعه: «إن لى حوضا ما بين الكعبة وبيت المقدس» «1» .
وفى حديث أبى برزة عند الطبرانى وابن حبان فى صحيحه: «ما بين ناحيتى حوضى كما بين أيلة وصنعاء، مسيرة شهر عرضه كطوله» «2» . وفى حديث أنس- عند الشيخين- كما بين صنعاء والمدينة. وفى حديث عتبة بن عبد السلمى عند ابن حبان فى صحيحه كما بين صنعاء إلى بصرى. وفى حديث أبى أمامة عند الطبرانى: ما بين عدن وعمان- بضم المهملة وتخفيف الميم- وقال ابن الأثير فى النهاية فى حديث الحوض: عرضه من مقامى إلى عمّان- هى بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء، فأما بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين. انتهى.
وهذه المسافات كلها متقاربة، وظن بعضهم أنه وقع اضطراب فى ذلك، وليس كذلك. وأجاب النووى عن ذلك: بأنه ليس فى ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة. وحاصله يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة ثم أعلم بالمسافة الطويلة فأخبر بما كان الله تفضل عليه باتساعه شيئا بعد شئ، فيكون الاعتماد على أطولها مسافة.
فإن قلت: هل لكل نبى من الأنبياء غير نبينا- صلى الله عليه وسلم- حوض هناك يقوم عليه كنبينا؟ فالجواب: أنه اشتهر اختصاص نبينا- صلى الله عليه وسلم- بالحوض. قال القرطبى فى «المفهم» مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به، أنه تعالى قد خص نبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم- بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه فى الأحاديث الصحيحة الشهيرة التى يحصل بمجموعها العلم القطعى، إذ روى ذلك عنه- صلى الله عليه وسلم- من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم فى الصحيحين
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (4301) فى الزهد، باب: ذكر الحوض، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، وقال البوصيرى فى الزوائد: فى إسناده عقبة العوفى، وهو ضعيف.
(2) إسناده حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (6458) وقال الشيخ شعيب الأرناؤط: إسناده حسن.(3/641)
ما ينيف على العشرين، وفى غيرهما بقية ذلك، كما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرّا، واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى.
لكن أخرج الترمذى من حديث سمرة رفعه: «إن لكل نبى حوضا» «1» وأشار إلى أنه اختلف فى وصله وإرساله، وأن المرسل أصح، والمرسل أخرجه ابن أبى الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل نبى حوضا» ، وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، ألا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإنى لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا.
وأخرجه الطبرانى من وجه آخر عن سمرة موصولا مرفوعا مثله، وفى سنده لين.
وأخرج ابن أبى الدنيا أيضا من حديث أبى سعيد رفعه: «وكل نبى يدعو أمته، ولكل نبى حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإنى لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة» ، وفى إسناده لين.
فإن ثبت، فالمختص نبينا- صلى الله عليه وسلم- الكوثر الذى يصب من مائه فى حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به فى سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «2» انتهى ملخصا من فتح البارى.
و «الفئام» كما فى الصحاح، الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، والعامة تقول «فيام» بلا همز.
وفى رواية مسلم من حديث أبى هريرة رفعه، قال: «ترد علىّ أمتى الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل عن إبله» قالوا: يا رسول الله،
__________
(1) تقدم.
(2) سورة الكوثر: 2.(3/642)
تعرفنا؟ قال: «نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون علىّ غرّا محجلين من آثار الوضوء» «1» .
قالوا: والحكمة فى الذود المذكور، أنه- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدم «إن لكل نبى حوضا» ، فيكون هذا من جملة إنصافه- صلى الله عليه وسلم- ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أن يكون بطرد من لا يستحق الشرب من الحوض. والله أعلم.
وفى حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لحوضى أربعة أركان، الأول بيد أبى بكر الصديق، والثانى بيد عمر الفاروق، والثالث بيد عثمان ذى النورين، والرابع بيد على بن أبى طالب. فمن كان محبّا لأبى بكر مبغضا لعمر لا يسقيه أبو بكر، ومن كان محبّا لعلى مبغضا لعثمان لا يسقيه على» . رواه أبو سعد فى «شرف النبوة» والغيلانى والله أعلم.
وأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بالشفاعة والمقام المحمود، فقد قال تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» . اتفق المفسرون على أن كلمة «عسى» من الله واجب، قال أهل المعانى: لأن لفظة «عسى» تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا فى شئ ثم أحرمه كان عارا، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدا فى شئ ثم لا يعطيه ذلك. وقد اختلف فى تفسير المقام المحمود على أقوال:
أحدها: أنه الشفاعة. قال الواحدى: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الآية: «هو المقام الذى أشفع فيه لأمتى» .
وقال الإمام ابن الخطيب: اللفظ مشعر بذلك، لأن الإنسان إنما يصير محمودا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع لأن
__________
(1) تقدم.
(2) سورة الإسراء: 79.(3/643)
ذلك كان حاصلا فى الحال. وقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» يدل على أن يحصل للنبى- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل، ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه فى التخلص عن العقاب أعظم من سعيه فى زيادة من الثواب لا حاجة به إليها، لأن احتياج الإنسان فى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التى لا حاجة إلى تحصيلها.
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» هو الشفاعة فى إسقاط العذاب على ما هو مذهب أهل السنة.
ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارا قويّا. ثم وردت الأخبار الصحيحة فى تقرير هذا المعنى كما فى البخارى من حديث ابن عمر قال:
سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المقام المحمود فقال: «هو الشفاعة» «3» . وفيه أيضا عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثّى كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع لنا، حتى تنتهى الشفاعة إلىّ فذلك المقام المحمود» «4» .
فإذا ثبت هذا، فيجب حمل اللفظ عليه قال: ومما يؤكد هذا، الدعاء المشهور: وابعثه مقاما محمودا يغبطه فيه الأولون والآخرون.
ونصب قوله «مقاما» على الظرفية، أى وابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا، أو على أنه مفعول به، وضمن معنى «ابعثه» معنى «أقمه» ، ويجوز أن يكون حالا بعد حال، أى: ابعثه ذا مقام. قال الطيبى: وإنما نكّره لأنه
__________
(1) سورة الإسراء: 79.
(2) سورة الإسراء: 79.
(3) أخرجه أحمد (2/ 478) ، من حديث أبى هريرة، وهو عند البخارى بلفظ آخر انظر رقم (4718) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (4718) فى تفسير القرآن، باب: قوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/644)
أفخم وأجزل، أى مقاما محمودا بكل لسان. وقول النووى: «إن الرواية ثبتت بالتنكير، وأنه كان حكاية للفظ القرآن» متعقب بأنه جاء فى هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائى.
قال ابن الجوزى: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وادعى الإمام فخر الدين الاتفاق عليه.
القول الثانى: قال حذيفة: يجمع الله الناس فى صعيد واحد، فلا تكلم نفس، فأول مدعو محمد- صلى الله عليه وسلم- فيقول: «لبيك وسعديك والخير فى يديك، والشر ليس إليك، والمهتدى من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» قال: فهذا هو المراد من قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» رواه الطبرانى وقال ابن منده: حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رجاله.
قال الرازى: والقول الأول أولى، لأن سعيه فى الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده فيصير محمودا، وأما ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلا الثواب، أما الحمد فلا.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول؟
فالجواب: لأن الحمد فى اللغة مختص بالثناء المذكور فى مقابلة الإنعام فقط، فإن ورد لفظ «الحمد» فى غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز.
القول الثالث: مقام تحمد عاقبته، قال الإمام فخر الدين: وهذا أيضا ضعيف للوجه الذى ذكرنا.
القول الرابع: قيل هو إجلاسه- صلى الله عليه وسلم- على العرش وقيل على الكرسى، روى عن ابن مسعود أنه قال: يقعد الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلم- على العرش، وعن مجاهد أنه قال: يجلسه معه على العرش. قال الواحدى:
وهذا قول رذل موحش فظيع، ونص الكتاب ينادى بفساد هذا التفسير، ويدل عليه وجوه:
__________
(1) سورة الإسراء: 79.(3/645)
الأول: أن البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال بعث الله الميت أى أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد.
والثانى: يوجب أنه تعالى لو كان جالسا على العرش بحيث يجلس عنده محمد- صلى الله عليه وسلم- لكان محمودا متناهيا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى الله علوّا كبيرا.
والثالث: أنه تعالى قال: مَقاماً مَحْمُوداً «1» ولم يقل مقعدا، والمقام موضع القيام، لا موضع القعود.
الرابع: وإذا قيل: السلطان بعث فلانا، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه، فثبت أن هذا القول ساقط، لا يميل إليه إلا قليل العقل عديم الدين، انتهى.
وتعقب القول الثانى: بأنه تعالى يجلس على العرش كما أخبر جل وعلا عن نفسه المقدسة بلا كيف، وليس إقعاد محمد- صلى الله عليه وسلم- على العرش موجبا له صفة الربوبية، أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه، وأما قوله «معه» فهو بمنزلة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «2» وقوله: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «3» فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان.
وقال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلانى: قول مجاهد «يجلسه معه على العرش» ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به قال: وبالغ الواحدى فى رد هذا القول. ونقل النقاش عن أبى داود صاحب السنن أنه قال: من أنكر هذا فهو متهم. وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبى، وعن ابن عباس عند أبى الشيخ
__________
(1) سورة الإسراء: 79.
(2) سورة الأعراف: 206.
(3) سورة التحريم: 11.(3/646)
قال: إن محمدا يوم القيامة يجلس على كرسى الرب بين يدى الرب، فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس هى المنزلة المعبر عنها بالوسيلة. كذا قاله بعضهم: ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن فى الشفاعة.
واختلف فى «فاعل» الحمد من قوله تعالى: مَحْمُوداً «1» فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل النبى- صلى الله عليه وسلم-، أى أنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده فى الليل، والأول أرجح لما ثبت من حديث ابن عمر بلفظ:
«مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم» ويجوز أن يحمل على أعم من ذلك، أى: مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق فى كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان، وأيده بأنه نكرة تدل على أنه ليس المراد مقاما مخصوصا. انتهى.
فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور، أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، فأى شفاعة هى؟ فالجواب: إن الشفاعة التى وردت فى الأحاديث، فى المقام المحمود نوعان: النوع الأول: العامة فى فصل القضاء، والثانى: فى الشفاعة فى إخراج المذنبين من النار، لكن الذى يتجه: رد هذه الأقوال كلها إلى الشفاعة العظمى العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد، وثناءه على ربه وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه كل ذلك صفات للمقام المحمود الذى يشفع فيه ليقضى بين الخلق.
وأما شفاعته فى إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك، وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة فى إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «2» وقوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ «3» .
__________
(1) سورة الإسراء: 79.
(2) سورة المدثر: 48.
(3) سورة غافر: 18.(3/647)
وأجاب أهل السنة بأن هذه الآيات فى الكفار. قال القاضى عياض:
مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلا، ووجوبها سمعا، لصريح قوله تعالى:
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا «1» وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» ولقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «3» المفسر بها عند الأكثرين، كما قدمنا.
وقد جاءت الأحاديث التى بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة فى الآخرة لذنبى المؤمنين، وعن أم حبيبة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أريت ما تلقى أمتى من بعدى، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق لهم من الله ما سبق للأمم قبلهم فسألت الله أن يؤتينى فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل» «4» .
وفى حديث أبى هريرة: «لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى فى الآخرة» . وفى رواية أنس: «فجعلت دعوتى شفاعة لأمتى» «5» . وهذا من مزيد شفقته علينا، وحسن تصرفه حيث جعل دعوته المجابة فى أهم أوقات حاجاتنا، فجزاه الله عنا أفضل الجزاء.
وعن أبى هريرة؛ قلت: يا رسول الله ماذا ورد عليك فى الشفاعة؟
فقال: «شفاعتى لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق لسانه قلبه» «6» .
وعن أبى زرعة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد
__________
(1) سورة طه: 109.
(2) سورة الأنبياء: 28.
(3) سورة الإسراء: 79.
(4) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 427) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 138) ، والطبرانى فى «الكبير» (23/ 221 و 222) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (918) .
(5) صحيح: أخرجه البخارى (6304) فى الدعوات، باب: لكل نبى دعوة مستجابة، ومسلم (198) فى الإيمان، باب: اختباء النبى دعوة الشفاعة لأمته. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(6) أخرجه أحمد (2/ 307 و 518) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/648)
الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعى، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغتم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهانى عن الشجرة فعصيت، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا- عليه السّلام- فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لى دعوة، دعوت بها على قومى، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم- عليه السّلام- فيقولون: أنت نبى الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى- عليه السّلام-، فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك برسالته وبكلامه على الناس، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى قد قتلت نفسّا لم أومر بقتلها، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى- عليه السّلام-، فيقولون: يا عيسى: أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمات الناس فى المهد، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى- عليه السّلام-: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى،(3/649)
اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا- صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فأنطلق فاتى تحت العرش فأقع ساجدا لربى، ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسى فأقول: أمتى يا رب، أمتى يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب» «1» الحديث رواه البخارى ومسلم.
قال فى فتح البارى: وقد استشكل قولهم لنوح: «أنت أول الرسل من أهل الأرض» ، فإن آدم نبى مرسل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح.
ومحصل الأجوبة عن ذلك: أن الأولية مقيدة بقوله «أهل الأرض» لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا، وإلى هذا جنح ابن بطال فى حق آدم. وتعقبه القاضى عياض بما صححه ابن حبان من حديث أبى ذر، فإنه كالصريح فى أنه كان مرسلا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال. وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان من بنى إسرائيل.
ومن الأجوبة: أن رسالة آدم كانت إلى بنيه، وهم موحدون، ليعلمهم شريعته ونوح رسالته كانت إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد.
وذكر الغزالى فى كتاب «كشف علوم الآخرة» أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبى ونبى، إلى نبينا- صلى الله عليه وسلم-.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل، قال: ولقد أكثر فى هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها، فلا يغتر بشئ منها.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3340) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك ... ، ومسلم (194) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/650)
ووقع فى رواية حذيفة: أن الخليل- عليه السّلام- قال: «لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء» . بفتح الهمزة فيهما بلا تنوين، ويجوز البناء فيها على الضم للقطع عن الإضافة نحو «من قبل ومن بعد» واختار أبو البقاء. قال الأخفش: يقال لقيته من وراء بالضم، وقال:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء
ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازا جيدا، قاله أبو عبد الله الأبى.
ومعناه: لم أكن فى التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقيل: مراده: إن الفضل الذى أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذى كلمه الله بلا واسطة، وكرر «وراء» إشارة إلى نبينا- صلى الله عليه وسلم- لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا من وراء موسى، الذى هو من وراء محمد، وسبق مزيد لذلك فى الخصائص.
وأما ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوى: الحق أنها إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استقصارا لنفسه عن الشفاعة، لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة، كان أعظم خوفا.
وأما قوله عن عيسى: «إنه لم يذكر ذنبا» ، فوقع فى حديث ابن عباس عند أحمد والنسائى: «إنى اتخذت إلها من دون الله» » .
وفى حديث النضر بن أنس عن أبيه، حدثنى نبى الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«إنى لقائم انتظر أمتى عند الصراط، إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء، لعظم ما هم فيه» «2» .
فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبى- صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وأن هذا الذى
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 372) وقال: رواه أبو يعلى وأحمد وفيه على بن زيد، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 373) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.(3/651)
وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار فى النار، وأن عيسى هو الذى يخاطب نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وأن جميع الأنبياء يسألونه فى ذلك.
وفى حديث سلمان عند ابن أبى شيبة: يأتون محمدا فيقولون: يا نبى الله، أنت فتح الله بك وختم بك، وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وجئت فى هذا اليوم، وترى ما نحن فيه فقم فاشفع لنا إلى ربنا، فيقول: «أنا صاحبكم» ، فيجوس الناس حتى ينتهى إلى باب الجنة.
فإن قلت: ما الحكمة فى انتقاله- صلى الله عليه وسلم- من مكانه إلى الجنة؟
أجيب: بأن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مقام مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون فى مكان إكرام.
وفى حديث أبى بن كعب عند أبى يعلى رفعه: فأسجد له سجدة يرضى بها عنى، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عنى.
وفى حديث أبى بكر الصديق، فينطلق إليه جبريل، فيخر ساجدا قدر جمعة، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك.
وفى رواية النضر بن أنس: فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له: ارفع رأسك.
وعلى هذا، فالمعنى يقول لى على لسان جبريل، والظاهر أنه- صلى الله عليه وسلم- يلهم التحميد قبل سجوده، وبعده وفيه، ويكون فى كل مكان ما يليق به، فإنه ورد فى رواية: «فأقوم بين يديه فيلهمنى بمحامد لا أقدر عليها، ثم أخر ساجدا» «1» . وفى رواية البخارى: «فأرفع رأسى فأحمد ربى بتحميد يعلمنى» «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7510) فى التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء، ومسلم (193) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(2) تقدم فى الذى قبله.(3/652)
وفى رواية أبى هريرة عند الشيخين: «فاتى تحت العرش فأقع ساجدا لربى: ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى» «1» ، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك. الحديث.
وفى رواية البخارى من حديث قتادة عن أنس: «ثم أشفع، فيحد لى حدّا، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة» «2» .
قال الطيبى: أى يبين لى كل طور من أطوار الشفاعة حدّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة، ثم فيمن أخل بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنا، وهكذا على هذا الأسلوب، والذى يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفصيل مراتب المخرجين فى الأعمال الصالحة، كما وقع عند أحمد عن يحيى القطان عن سعيد بن أبى عروبة.
وفى رواية ثابت عند أحمد فأقول: «أى رب، أمتى أمتى» ، فيقول:
أخرج من كان فى قلبه مثقال شعيرة، وفى حديث سلمان: فيشفع فى كل من كان فى قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة، ثم حبة خردل، فذلك المقام المحمود.
وفى رواية أبى سعيد عند مسلم: «ارجعوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال دينار من خير» . قال القاضى عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان. وأما قوله فى رواية أنس عند البخارى: «فأخرجهم من النار» فقال الداودى: كأن راوى هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله، وذلك أن فى أول الحديث ذكر الشفاعة فى الإراحة من كرب الموقف، وفى آخره ذكر الشفاعة فى الإخراج من النار، يعنى: وذلك إنما يكون بعد الدخول من الموقف والمرور على
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4712) فى تفسير القرآن، باب: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (7440) فى التوحيد، باب: قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.(3/653)
الصراط وسقوط من يسقط فى تلك الحالة فى النار. ثم تقع بعد ذلك الشفاعة فى الإخراج. وهو إشكال قوى.
وقد أجاب عنه النووى: ومن قبله القاضى عياض: بأنه قد وقع فى حديث حذيفة وأبى هريرة: فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له فى الشفاعة، وترسل معه الأمانة والرحم فيقومان جنبتى الصراط، يمينا وشمالا، أى يقفان فى ناحيتى الصراط. قال القاضى عياض: فبهذا ينفصل الكلام، لأن الشفاعة التى لجأ الناس إليه فيها هى لإراحة الناس من كرب الموقف، ثم تجئ الشفاعة فى الإخراج. انتهى.
والمعنى فى قيام الأمانة والرحم، أنهما لعظم شأنهما، وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما، يوقفان للأمين والخائن، وللواصل والقاطع، فتحاجان عن المحق، ويشهدان على المبطل.
وقد وقع فى حديث أبى هريرة بعد ذكر الجمع فى الموقف: الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكأن الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف، وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. انتهى.
فظهر أنه- صلى الله عليه وسلم- أول ما يشفع ليقضى بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وأن العرض والميزان وتطاير الصحف تقع فى هذا الموطن، ثم ينادى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيسقط الكفار فى النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن فى نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين، فيسقطون فى النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط، ويوقف من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة.
وقد قال النووى ومن قبله القاضى عياض: الشفاعات خمس:(3/654)
الأولى: فى الإراحة من هول الموقف.
الثانية: فى إدخال قوم الجنة بغير حساب.
الثالثة: فى إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذبوا.
الرابعة: فى إخراج من أدخل النار من العصاة.
الخامسة: فى رفع الدرجات. انتهى.
فأما الأولى: وهى لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حديث أبى هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخارى، ولفظه: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذى خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربك، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا نوحا، وذكر إتيانهم الأنبياء واحدا واحدا، إلى أن قال:
فيأتونى، فأستأذن على ربى، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعنى ما شاء الله ثم يقال لى: ارفع رأسك، سل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسى فأحمد ربى، بتحميد يعلمنى» «1» . الحديث.
وأما الثانية: وهى إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليها ما فى آخر حديث أبى هريرة عند البخارى ومسلم الذى قدمته «فأرفع رأسى فأقول: يا رب أمتى، يا رب أمتى» ، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة «2» قال أبو حامد: والسبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب، لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفا، وإنما هى براءة مكتوبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه براءة فلان ابن فلان، قد غفر له وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدا، فما مر عليه شئ أسر من ذلك المقام.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.(3/655)
وأما الثالثة: وهى إدخال قوم حوسبوا أن لا يعذبوا، فيدل على ذلك قوله فى حديث حذيفة عند مسلم: ونبيكم على الصراط يقول: «رب سلم سلم» «1» .
وأما الرابعة: وهى فى إخراج من أدخل النار من العصاة، فدلائلها كثيرة، وقد روى البخارى عن عمران بن حصين مرفوعا: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد- صلى الله عليه وسلم- فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين» «2» .
وأما الخامسة: وهى فى رفع الدرجات، فقال النووى «فى الروضة» :
إنها من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- ولم يذكر لذلك مستندا فالله أعلم.
وقد ذكر القاضى عياض شفاعة سادسة، وهى شفاعته- صلى الله عليه وسلم- لعمه أبى طالب فى تخفيف العذاب لما ثبت فى الصحيح أن العباس قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل نفعه ذلك؟
قال: نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح «3» . وفى الصحيح أيضا من طريق أبى سعيد أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه» «4» .
وزاد بعضهم سابعة: وهى الشفاعة لأهل المدينة، لحديث سعد، رفعه:
«لا يثبت أحد على لأوائها إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» «5» .
وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن متعلقها لا يخرج عن واحد من الخمس
__________
(1) تقدم.
(2) قلت: هو عند البخارى (6559) فى الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3883) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (209) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى لأبى طالب. من حديث العباس- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (6564) فى الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، ومسلم (210) فى الإيمان، باب شفاعة النبى لأبى طالب من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1363) فى الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبى فيها بالبركة. من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-.(3/656)
الأول، وبأنه لو عدّ مثل ذلك لعدّ حديث عبد الملك بن عباد: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أول من أشفع له أهل المدينة ثم أهل مكة. ثم أهل الطائف» «1» . رواه البزار، وأخرى لمن زار قبره الشريف، وأخرى لمن أجاب المؤذن ثم صلى عليه- صلى الله عليه وسلم-، وأخرى فى التجاوز عن تقصير الصلحاء. لكن قال الحافظ ابن حجر إنها مندرجة فى الخامسة.
وزاد القرطبى: أنه أول شافع فى دخول أمته الجنة قبل الناس، ويدل له ما رواه ... «2» .
وزاد فى فتح البارى أخرى، فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، لما أخرجه الطبرانى عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون بشفاعته- صلى الله عليه وسلم-. وأرجح الأقوال فى أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
وشفاعة أخرى وهى شفاعته فيمن قال: «لا إله إلا الله» ولم يعمل خيرا قط، لرواية الحسن عن أنس: فأقول يا رب ائذن لى فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتى وكبريائى وعظمتى لآخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله «3» .
فالوارد على الخمسة أربعة، وما عداها لا يرد، كما لا ترد الشفاعة فى التخفيف عن صاحبى القبرين وغير ذلك لكونه من جملة أحوال الدنيا.
انتهى.
فإن قلت: فأى شفاعة ادخرها- صلى الله عليه وسلم- لأمته؟ أما الأولى فلا تختص
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير عن عبد الله بن جعفر كما فى «ضعيف الجامع» (2142) .
(2) بياض بالأصل.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (7510) فى التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ومسلم (193) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها.(3/657)
بهم بل هى لإراحة الجمع كلهم، وهى المقام المحمود كما تقدم، وكذلك باقى الشفاعات الظاهر أنه يشاركهم فيها بقية الأمم.
فالجواب: أنه يحتمل أن المراد الشفاعة العظمى التى للإراحة من هول الموقف وهى وإن كانت غير مختصة بهذه الأمة لكن هم الأصل فيها، وغيرهم تبع لهم، ولهذا كان اللفظ المنقول عنه- صلى الله عليه وسلم- فيها أنه قال: «يا رب أمتى أمتى» ، فدعا لهم فأجيب، وكان غيرهم تبعا لهم فى ذلك، ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية، وهى التى فى إدخال قوم الجنة بغير حساب هى المختصة بهذه الأمة، فإن الحديث الوارد فيها: «يدخل من أمتى الجنة سبعون ألفا بغير حساب» «1» ، الحديث. ولم ينقل ذلك فى بقية الأمم، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس. وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها أو فى بعضها لا ينافى أن يكون- صلى الله عليه وسلم- أخر دعوته شفاعة لأمته، فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم بل يشفع لهم أنبياؤهم، ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعا كما تقدم مثله فى الشفاعة العظمى، والله أعلم.
وعن بريدة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنى لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما فى الأرض من شجرة ومدرة» «2» رواه أحمد.
وعن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «نحن آخر الأمم وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأولون» «3» ، رواه ابن ماجه.
وفى حديث ابن عباس عند أبى داود الطيالسى مرفوعا: «فإذا أراد الله
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوي غيره وفضل من لم يكتو. من حديث عمران بن الحصين- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 347) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 378) وقال: رواه أحمد ورجاله وثقوا على ضعف كثير فى أبى إسرائيل الملائى.
(3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (4290) فى الزهد، صفة أمة محمد. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(3/658)
أن يقضى بين خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته فأقوم وتتبعنى أمتى غرّا محجلين من أثر الطهور» . قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فنحن الآخرون الأولون وأول من يحاسب، وتفرج لنا الأمم عن طريقنا وتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها» «1» .
وقد صح أن أول ما يقضى بين الناس فى الدماء «2» . رواه البخارى.
وللنسائى مرفوعا: «أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس فى الدماء» «3» .
وفى البخارى عن على بن أبى طالب- رضى الله عنه- أنه قال: أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدى الرحمن للخصومة، يريد قصته فى مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش. قال أبوذر: وفيهم نزلت هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «4» «5» الآية.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه» «6» . رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 281 و 295) ، من حديث ابن عباس، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 373) وقال: رواه أبو يعلى وأحمد وفيه على بن زيد وقد وثق على ضعفه وبقية رجالهما رجال الصحيح.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6864) فى الديات، باب قول الله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ... ، ومسلم (1678) فى القسامة، باب: المجازاة بالدماء فى الآخرة. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 83) فى تحريم الدم، باب: تعظيم الدم. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) سورة الحج: 19.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (3965) فى المغازى، باب: قتل أبى جهل. من حديث على ابن أبى طالب- رضى الله عنه-.
(6) صحيح: أخرجه الترمذى (2417) فى صفة القيامة، باب: ما جاء فى شأن الحساب والقصاص، من حديث أبى برزة الأسلمى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/659)
وفى البخارى من حديث عائشة، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «من نوقش الحساب عذب» «1» .
وروى البزار عن أنس بن مالك عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه، فيقول لأصغر نعمة- أحسبه قال من ديوان النعم-: خذى ثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح وتقول: وعزتك ما استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم، وقد ذهب العمل الصالح، فأراد الله أن يرحم عبدا، قال: يا عبدى، قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك- أحسبه قال: ووهبت لك نعمى-» «2» .
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليختصمن كل شئ يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا» «3» .
وعن أنس: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس إذ رأيناه يضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، قال:
«رجلان من أمتى جثيا بين يدى رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لى مظلمتى من أخى، فقال الله: كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شئ؟
قال: يا رب فليتحمل من أوزارى» ، وفاضت عينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالبكاء ثم قال: «إن ذلك ليوم عظيم، يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر، فقال: يا رب أرى مدائن من ذهب وفضة مكللة باللؤلؤ، لأى نبى هذا، أو لأى صديق هذا، أو لأى شهيد هذا؟
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (103) فى العلم، باب: من سمع شيئا فلم يفهمه، ومسلم (2876) فى الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إتيان الحساب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 357) وقال: رواه البزار، وفيه صالح المرى وهو ضعيف.
(3) حسن: أخرجه أحمد (2/ 390) من حديث أبى هريرة، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 349) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.(3/660)
قال: لمن يعطى الثمن، فقال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال:
بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب فإنى قد عفوت عنه، قال الله تعالى:
فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة» ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: «اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله يصلح بين المسلمين يوم القيامة» «1» . رواه الحاكم والبيهقى فى البعث، كلاهما عن عباد بن أبى شيبة الحبطى، عن سعيد ابن أنس عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، كذا قال.
وقد نقل: لو أن رجلا له ثواب سبعين نبيّا، وله خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حتى يرضى خصمه. وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم. ذكره القشيرى فى التحبير.
ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء فينبغى أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها.
وقد ذكر الله تعالى الميزان فى كتابه بلفظ الجمع، وجاءت السنة بلفظ الإفراد والجمع، فقيل: إن صورة الإفراد محمولة على أن المراد الجنس، جمعا بين الكلامين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال، فيكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، وذهبت طائفة إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد فى الآية بصيغة الجمع للتفخيم، وليس المراد حقيقة العدد، وهو نظير قوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ «2» ، والمراد رسول واحد، وهذا هو المعتمد، وعليه الأكثرون.
واختلف فى كيفية وضع الميزان، والذى جاء فى أكثر الأخبار، أن الجنة توضع عن يمين العرش، والنار عن يسار العرش، ثم يؤتى بالميزان، فينصب بين يدى الله تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة، وكفة السيئات مقابل النار. ذكره الترمذى الحكيم فى «نوادر الأصول» .
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 620) .
(2) سورة الشعراء: 105.(3/661)
واختلف أيضا فى الموزون نفسه. فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها.
وهى وإن كانت أعراضا إلا أنها تجسم يوم القيامة فتوزن وقال بعضهم:
الموزون صحائف الأعمال، ويدل له حديث البطاقة المشهور، وقد رواه الترمذى، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: «إن الله يستخلص رجلا من أمتى على رؤس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين رجلا، كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟
أظلمك كتبتى الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا، يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات فى كفة والبطاقات فى كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شئ» «1» .
فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع فى الكفة شئ وفى الآخرى ضده، فتوضع الحسنات فى كفة والسيئات فى كفة، والذى يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتى عبد واحد بالكفر والإيمان معا حتى يوضع الإيمان فى كفة والكفر فى أخرى؟
أجاب الترمذى الحكيم: بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد فى كفة الميزان، وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر الحسنات. ويدل لما قاله قوله: «بلى إن لك عندنا حسنة» ولم يقل لك عندنا إيمانا. وقد سئل- صلى الله عليه وسلم- عن لا إله إلا الله، أمن الحسنات هى؟ فقال: من أعظم الحسنات. أخرجه البيهقى وغيره. ويجوز- كما قاله القرطبى فى التذكرة- أن تكون هذه الكلمة هى آخر كلامه فى الدنيا، كما فى حديث
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (4300) فى الزهد، باب: ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. من حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(3/662)
معاذ: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» «1» .
وفى «التحبير» للقشيرى: قيل لبعضهم فى المنام: ما فعل الله بك؟
قال: وزنت حسناتى فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة فى كفة الحسنات فرجحت، فحلت الصرة فإذا فيها، كف تراب ألقيته فى قبر مسلم.
وفى الخبر: إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بطاقة كالأنملة فيلقيها فى كفة الميزان التى فيها الحسنات فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد المؤمن للنبى- صلى الله عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك، فمن أنت؟ فيقول أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك علىّ وقد وفيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيرى فى تفسيره.
وذكر الغزالى أنه يؤتى برجل يوم القيامة، فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدلت بالسوية، فيقول الله له- رحمة منه-: اذهب فى الناس فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة، فما يجد أحدا يكلمه فى ذلك الأمر إلا قال له: أنا أحوج لذلك منك فييأس، فيقول له رجل: لقد لقيت الله فما فى صحيفتى إلا حسنة واحدة، وما أظنها تغنى عنى شيئا، خذها هبة، فينطلق بها فرحا مسرورا، فيقول الله له: ما بالك؟ - وهو أعلم- فيقول: يا رب اتفق لى من أمرى كيت وكيت، قال: فينادى الله تعالى بصاحبه الذى وهب له الحسنة فيقول له تعالى: كرمى أوسع من كرمك، خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة.
وكذا تستوى كفتا الميزان لرجل، فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتى الملك بصحيفة فيضعها فى كفة الميزان فيها مكتوب «أف» فترجح على الحسنات لأنها كلمة عقوق، فيؤمر به إلى النار، قال: فيطلب أن يرد إلى الله تعالى، فيقول الله تعالى: ردوه، فيقول له: أيها
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3116) فى الجنائز، باب: فى التلقين. من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/663)
العبد العاق لأى شئ تطلب الرد؟ فيقول: إلهى، إنى سائر إلى النار وكنت عاقا لأبى وهو سائر إلى النار مثلى، فضعف علىّ عذابه وأنقذه منها، قال:
فيضحك الله تعالى ويقول: عققته فى الدنيا وبررته فى الآخرة، خذ بيد أبيك فانطلقا إلى الجنة.
وقد روى حذيفة أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل- عليه السّلام-، وهو الذى يزن الأعمال يوم القيامة.
واختلف أيضا فى كيفية الرجحان والنقص فقال بعضهم: الراجح أن الموزون فى الآخرة يصعد، عكس ما فى الدنيا، واستشهد فى ذلك بقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ»
الآية. قال الزركشى: وهو غريب مصادم لقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ «2» .
وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها؟ حكى عن وهب بن منبه أنه قال: يوزن من الأعمال خواتيمها، واستدل بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بخواتيمها» «3» .
وذكر الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من قضى لأخيه المؤمن حاجة كنت واقفا عند ميزانه، فإن رجح وإلا شفعت له» . وقال بعض أهل العلم، فيما حكاه القرطبى فى «التذكرة» : ولن يجوز أحد الصراط حتى يسأل على سبع قناطر، فأما القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصا جاز، ثم يسأل فى القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز، ثم يسأل فى القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان، فإن جاء به تامّا جاز، ثم يسأل فى القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز، ثم يسأل فى القنطرة الخامسة عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما تامتين جاز، ثم يسأل فى السادسة
__________
(1) سورة فاطر: 10.
(2) سورة القارعة: 6، 7.
(3) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (6493) فى الرقاق، باب: الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها. من حديث سهل بن سعد الساعدى- رضى الله عنه-.(3/664)
عن الغسل والوضوء، فإن جاء بهما تامين جاز، ثم يسأل فى السابعة، وليس فى القناطر أصعب منها، فيسأل عن ظلامات الناس.
وفى حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: «ويضرب الصراط بين ظهرانى جهنم، أكون أنا وأمتى أول من يجوز عليه، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفى جهنم كلاليب مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى، فتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو» «1» . الحديث رواه البخارى.
وفى حديث حذيفة وأبى هريرة عند مسلم: «ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يأتى الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا، قال: وفى حافتى الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به: فمخدوش ناج ومكدوس فى النار» «2» .
وهذه الكلاليب هى الشهوات المشار إليها فى الحديث «حفت النار بالشهوات» «3» فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط فى النار. قاله ابن العربى.
ويؤخذ من قوله: «فمخدوش إلخ» أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو.
وفى حديث المغيرة عند الترمذى: شعار المؤمنين على الصراط: ربّ سلّم. ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به، بل ينطق به الرسل، يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمى ذلك شعارا لهم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (806) فى الأذان، باب: فضل السجود، ومسلم (182) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (195) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) تقدم فى الذى قبله.(3/665)
وفى حديث ابن مسعود: فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين أيديهم، الحديث؛ وفيه:
فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم من يمر كشد الرجل، حتى يمر الذى يعطى نوره على ظهر قدميه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تجرّ يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها وقال: الحمد لله الذى أعطانى ما لم يعط أحدا إذ نجانى منها بعد أن رأيتها. الحديث. رواه ابن أبى الدنيا والطبرانى.
وروى مسلم: قال أبو سعيد: بلغنى أن الصراط أحد من السيف وأرق من الشعرة «1» . وفى رواية ابن منده من هذا الوجه: قال سعيد بن أبى هلال.
ووصله البيهقى عن أنس عن النبى- صلى الله عليه وسلم- مجزوما به، وفى سنده لين.
ولابن المبارك من مرسل عبيد بن عمير: «أن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، والذى نفسى بيده إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر» . وأخرجه ابن أبى الدنيا من هذا الوجه وفيه: والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلم سلم.
وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أن الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى، أدق من الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله. ذكره ابن عساكر فى ترجمته، قال فى فتح البارى: وهذا معضل لا يثبت.
قال: وعن سعيد بن أبى هلال: بلغنا أن الصراط أدق من الشعرة على بعض الناس، ولبعض الناس مثل الوادى الواسع، أخرجه ابن المبارك، وهو مرسل أو معضل.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (183) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.(3/666)
وقد ذهب بعضهم إلى أن المراد من قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» الجواز على الصراط لأنه ممدود على النار.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط. وقيل الورود: الدخول.
وعن أبى سمية قال: اختلفنا فى الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، ثم ينجى الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله، فقلت له: اختلفنا فى الورود فقال: يردونها جميعا، فقلت له: إنا اختلفنا فى ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا:
يدخلونها جميعا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار- أو قال: لجهنم- ضجيجا من بردهم، ثم ينجى الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا» . رواه أحمد والبيهقى بإسناد حسن.
وأخرج ابن الجوزى- كما ذكره القرطبى فى التذكرة- رفعه: الزالون عن الصراط كثير، وأكثر من يزل عنه النساء، قال: وإذا صار الناس على طرفى الصراط نادى ملك من تحت العرش: يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط وليقف كل عاص منكم وظالم. فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها، وأشد حرها، يتقدم فيها من كان فى الدنيا ضعيفا مهينا، ويتأخر عنها من كان فيها عظيما مكينا، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك فى الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط بأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- نادوا: وامحمداه وا محمداه، فبادر- صلى الله عليه وسلم- من شدة إشفاقه عليهم، وجبريل آخذ بحجزته، فينادى- صلى الله عليه وسلم- رافعا صوته: رب أمتى أمتى، لا أسلك اليوم نفسى ولا فاطمة ابنتى، والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون رب سلم. وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال، والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال، والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال، وينادونهم: أما نهيتم عن كسب
__________
(1) سورة مريم: 71.(3/667)
الأوزار، أم أما أنذرتم كل الإنذار، أما جاءكم النبى المختار. ذكره ابن الجوزى فى كتابه «روضة المشتاق» .
وقد جاء فى حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحسن الصدقة فى الدنيا مر على الصراط» . رواه أبو نعيم.
وفى الحديث: من يكن المسجد بيته ضمن الله له بالروح والرحمة الجواز على الصراط إلى الجنة.
وروى القرطبى عن ابن المبارك عن عبد الله بن سلام: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيّا نبيّا، وأمة أمة، ويضرب الجسر على جهنم وينادى أين أحمد وأمته، فيقوم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتتبعه أمته، برها وفاجرها، حتى إذا كان على الصراط طمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون فى النار يمينا وشمالا، ويمضى النبى- صلى الله عليه وسلم- والصالحون معه، فتتلقاهم الملائكة فيدلونهم على الطريق، على يمينك، على شمالك، حتى ينتهى إلى ربه، فيوضع له كرسى عن يمين العرش، ثم يتبعه عيسى- عليه السّلام- على مثل سبيله، وتتبعه أمته برها وفاجرها، فإذا كانوا على الصراط طمس الله أبصار أعدائهم فيتهافتون فى النار يمينا وشمالا. الحديث.
واعلم أن فى الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم إلا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر حبسوا على صراط آخر لهم، ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم.
وقد روى البخارى من حديث أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم فى الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة، والذى نفس محمد بيده لأحدهم أهدى فى الجنة بمنزله منه بمنزله كان فى الدنيا» .
وأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بأنه أول من يقرع باب الجنة وأول من يدخلها، ففى صحيح مسلم من حديث المختار بن فلفل عن ابن عباس قال: قال رسول(3/668)
الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة» «1» .
وفيه أيضا من حديث أنس قال- صلى الله عليه وسلم-: «آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك» «2» . ورواه الطبرانى وزاد فيه: قال فيقوم الخازن ويقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم لأحد بعدك.
فقيامه له- صلى الله عليه وسلم- خاصة، فيه إظهار لمزيته ومرتبته، وأنه لا يقوم فى خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون فى خدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه تعالى فى خدمة عبده ورسوله محمد- صلى الله عليه وسلم-.
وروى سهيل بن أبى صالح عن زياد المهرى عن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يأخذ بحلقة الجنة ولا فخر» «3» . وهو فى مسند الفردوس لكن من حديث ابن عباس.
وعن أبى سعيد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» ، قال: فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم، فذكر الحديث إلى أن قال: «فيأتونى فأنطق معهم» ، قال ابن جدعان قال أنس: فكأنى أنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال فاخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد، فيفتحون لى ويرحبون بى فيقولون: مرحبا، فأخر ساجدا، فيلهمنى الله من الثناء والحمد، فيقال: ارفع رأسك «4» . الحديث. رواه الترمذى وقال: حسن.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (196) فى الإيمان، باب: فى قول النبى أنا أول الناس يشفع فى الجنة وأنا أكثر. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (197) فى الإيمان، باب: فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس يشفع فى الجنة» .
(3) أخرجه الديلمى عن ابن عباس، كما فى «كنز العمال» (16634) .
(4) تقدم.(3/669)
وفى حديث سلمان: فيأخذ بحلقة الباب وهى من ذهب، فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح «1» . وفى حديث الصور: إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم فى الدخول، فيقصدون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمدا- صلى الله عليه وسلم-، كما فعلوا عند العرصات عند استشفاعهم إلى الله عز وجل فى فصل القضاء ليظهر شرف نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- على سائر البشر كلهم فى المواطن كلها.
وروى أبو هريرة مرفوعا: «أنا أول من يفتح له باب الجنة، إلا أن امرأة تبادرنى فأقول لها ما لك؟ وما أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى» «2» .
رواه أبو يعلى، ورواته لا بأس بهم. قال المنذرى: إسناده حسن إن شاء الله.
وقوله: «تبادرنى» أى لتدخل معى، أو تدخل فى أثرى، ويشهد له حديث «أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا، وقال بأصبعيه السبابة والوسطى» «3» رواه البخارى من حديث سهل بن سعد. قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الجنة، ولا منزلة فى الجنة أفضل من ذلك، انتهى، ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حال دخول الجنة كما فى الحديث قبله.
ووجه التشبيه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه ويعلمه ويحسن أدبه.
وعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- ينتظرونه، قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم فقال بعضهم: عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا، اتخذ إبراهيم خليلا، وقال
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الخرائطى فى مكارم الأخلاق والديلمى عن أبى هريرة- رضى الله عنه-، كما فى «كنز العمال» (45429) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6005) فى الأدب، باب: فضل من يعول يتيما. من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.(3/670)
آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه تكليما، وقال آخر: فعيسى روح الله، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلم وقال: «قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك، وموسى كلمه الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك. ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» «1» . رواه الترمذى.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد بيدى، ومفاتيح الجنة يومئذ بيدى، وأنا أكرم ولد آدم على ربى ولا فخر، ويطوف على ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون» «2» ، رواه الترمذى والبيهقى واللفظ له.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة» «3» رواه مسلم. وعنه أيضا عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا الجنة» «4» .
فهذه الأمة أسبق الأمم خروجا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان فى الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى فصل القضاء، وأسبقهم إلى الجوار على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنة، وهى أكثر أهل الجنة.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث أبى هريرة: لما نزلت هذه
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) تقدم.(3/671)
الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ «1» قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة» ، قال الطبرانى: تفرد برفعه ابن المبارك عن الثورى. وفى حديث بهز بن حكيم، رفعه: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون» «2» .
وعن عمر بن الخطاب، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتى» «3» قال الدار قطنى: غريب عن الزهرى.
فإن قلت: فما تقول فى الحديث الذى صححه الترمذى من حديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فدعا بلالا فقال: «يا بلال، بم سبقتنى إلى الجنة، فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامى» «4» الحديث.
أجاب عنه ابن القيم: بأن تقدم بلال بين يديه- رضى الله عنه- إنما هو لأنه كان يدعو إلى الله أولا بالأذان، ويتقدم أذانه بين يدى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فيتقدم دخوله بين يديه كالحاجب والخادم. قال: وقد روى فى حديث أن النبى- صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه. ينادى بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له- صلى الله عليه وسلم-، وإظهارا لشرفه وفضيلته لا سبقا من بلال له.
وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله
__________
(1) سورة الواقعة: 39، 40.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (2546) فى صفة الجنة، باب: ما جاء فى كم صف أهل الجنة، وابن ماجه (4289) فى الزهد، باب: صفة أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-، من حديث بريدة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) أخرجه ابن النجار، كما فى «كنز العمال» (31953) ، والدار قطنى فى الأفراد، المصدر السابق (32049) .
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3689) فى المناقب، باب: فى مناقب عمر بن الخطاب. من حديث أبى بريدة- رضى الله عنه-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/672)
- صلى الله عليه وسلم-: «أتانى جبريل فأخذ بيدى، فأرانى باب الجنة الذى تدخل منه أمتى» ، فقال أبو بكر: يا رسول الله وددت أنى كنت معك حتى أنظر إليه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتى» «1» .
وقد دل هذا الحديث على أن لهذه الأمة بابا مختصا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم.
فإن قلت: من أى أبواب الجنة يدخل النبى- صلى الله عليه وسلم-؟
فالجواب: إنه قد ذكر الترمذى الحكيم أبواب الجنة، كما نقله عنه القرطبى فى التذكرة، فذكر باب محمد- صلى الله عليه وسلم- قال: وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة.
فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟
فاعلم أن فى حديث أبى هريرة عند الشيخين مرفوعا: من أنفق زوجين فى سبيل الله دعى من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الريان.
وروى الترمذى من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- مرفوعا: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له من أبواب الجنة الثمانية» «2» بزيادة «من» .
قال القرطبى: وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية، قال:
وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا، كذا قال؟!
فإن قلت: أى الجنان يسكنها النبى- صلى الله عليه وسلم-؟
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4652) فى السنة، باب: فى الخلفاء، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (234) فى الطهارة، باب: الذكر المستحب عقب الصلاة. من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-.(3/673)
فاعلم- منحنى الله وإياك التمتع بذاته القدسية فى الحضرة الفردوسية- أن الله تعالى قد اتخذ من الجنان دارا اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهى سيدة الجنان، والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة جبريل ومن البشر محمدا- صلى الله عليه وسلم-، وربك يخلق ما يشاء ويختار.
وفى الطبرانى من حديث أبى الدرداء قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«ينزل الله تعالى فى آخر ثلاث ساعات بقين من الليل، فينظر فى الساعة الأولى منهن فى الكتاب الذى لا ينظر فيه غيره، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم ينظر فى الساعة الثانية فى جنة عدن، وهى مسكنه الذى يسكن لا يكون معه فيها أحد إلا الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرنى فأغفر له، ألا سائل يسألنى فأعطيه، ألا داع يدعونى فأستجيب له، حتى يطلع الفجر» «1» .
وروى أبو الشيخ عن شمر بن عطية قال: خلق الله جنة الفردوس بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات فيقول: ازدادى طيبا لأوليائى، ازدادى حسنا لأوليائى.
فتأمل هذه العناية، كيف جعل الجنة التى غرسها بيده لمن خلقه بيده، ولأفضل بريته اعتناء وتشريفا، وإظهارا لفضل ما خلقه بيده وشرفه، وتمييزه بذلك عن غيره.
وروى الدارمى عن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«خلق الله ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده وغرس
__________
(1) صحيح: أصله فى البخارى (1145) فى الجمعة، باب: الدعاء فى الصلاة من آخر الليل. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، ولفظه ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعونى فأستجيب له من يسألنى فأعطيه من يستغفرنى فأغفر له.(3/674)
الفردوس بيده، ثم قال: وعزتى وجلالى لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث» «1» . وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن تكلم فيه.
وروى الدارمى أيضا، عن عبد الله بن عمر: خلق الله أربعة أشياء بيده، العرش والقلم وعدنا وآدم- عليه السّلام-، ثم قال لسائر والخلق كن فكان.
وعنده أيضا عن ميسرة قال: إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث:
خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده.
فجنة عدن أعلى الجنان وسيدتها، وهى قصبة الجنة، وفيها الكثيب الذى تقع فيه الرؤية، وعليها تدور ثمانية أسوار بين كل سورين جنة، فالتى تلى جنة عدن من الجنان جنة الفردوس، وأصله البستان، وهى أوسط الجنان التى دون جنة عدن وأفضلها ثم جنة الخلد، ثم جنة النعيم، ثم جنة المأوى، وهى التى يأوى إليها جبريل والملائكة. وعن مقاتل: تأوى إليها أرواح الشهداء، ثم دار السلام، لأنها دار السلام من كل مكروه، ثم دار المقامة.
واعلم أن للجنة أسماء عديدة باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار ذاتها، فهى مترادفة من هذا الوجه، ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين، وهذه اللفظة مشتقة من الستر، ومنه سمى البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدّا، كما قال- صلى الله عليه وسلم- لأم حارثة لما قتل ببدر، وقد قالت: يا رسول الله ألا تحدثنى عن حارثة، فإن كان فى الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت فى البكاء عليه، فقال: «يا أم حارثة، إنها جنان فى الجنة، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى» «2» . وقال تعالى:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «3» فذكرهما ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «4»
__________
(1) أخرجه الديلمى عن الحارث بن نوفل، كما فى «كنز العمال» (15138) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2809) فى الجهاد والسير، باب: من أتاه سهم غرب فقتله. من حديث أم حارثة- رضى الله عنها-.
(3) سورة الرحمن: 46.
(4) سورة الرحمن: 62.(3/675)
أى فهذه أربع» ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» . رواه الشيخان من حديث أبى موسى الأشعرى.
وقد قسم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة:
اختصاص إلهى وهى التى يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها أهل الفترات، ومن لم تصل إليه دعوة رسول.
والجنة الثانية: جنة ميراث، ينالها كل من دخل الجنة من المؤمنين، وهى الأماكن التى كانت معينة لأهل النار لو دخلوها.
والجنة الثالثة: جنة الأعمال، وهى التى ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره فى وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر. وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن، غير أن فضله فى هذا المقام لهذه الحالة، فما من عمل من الأعمال إلا وله جنة، ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضى أحوالهم. قال- صلى الله عليه وسلم-: «يا بلال، بم سبقتنى إلى الجنة» الحديث، فعلم أنها كانت جنة مخصوصة، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص، يناله من دخلها، وقد يجمع الواحد من الناس فى الزمان الواحد أعمالا من العبادات فيؤجر فى الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس له ذلك.
فقد تبين أن نيل المنازل والدرجات فى الجنات بالأعمال، وأما الدخول فلا يكون إلا برحمة الله تعالى، كما فى البخارى ومسلم من حديث عائشة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» «1» أى يلبسنيها ويسترنى بها، مأخوذ من غمد السيف وهو غلافه.
وعند الإمام أحمد، بإسناد حسن، من حديث أبى سعيد الخدرى: «لن
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5673) فى المرض، باب: تمنى المريض الموت، ومسلم (2816) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/676)
يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» ، وقال بيده فوق رأسه. يعنى أن الجنة إنما تدخل برحمة الله، وليس عمل العبد سببا مستقلا بدخولها وإن كان سببا، ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال فى قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» ، ونفى- صلى الله عليه وسلم- دخولها بالأعمال فى قوله: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» ولا تنافى بين الأمرين، لما ذكره سفيان وغيره، قال:
كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمة الله، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل له حديث أبى هريرة: إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم. رواه الترمذى.
قال ابن بطال: محمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، ومحل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»
فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال. وأجاب: بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول.
ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شئ من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل الله عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم.
وأشار إلى نحوه القاضى عياض فقال: وإن من رحمة الله توفيقه للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله ورحمته.
وقال غيره: لا تنافى بين ما فى الآية والحديث، لأن «الباء» التى أثبتت
__________
(1) سورة الزخرف: 72.
(2) سورة النحل: 32.(3/677)
الدخول هى باء السبب التى تقتضى سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلا بحصوله و «الباء» التى نفت الدخول هى باء المعاوضة التى يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر، نحو: اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس فى مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده- ولو تناهى- لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضا لها، لأنه لو وقع على الوجه الذى يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازى نعمة واحدة. فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا من أعمالهم، كما فى حديث أبى بن كعب عند أبى داود وابن ماجه.
وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة والتعليل القائلين بأن القيام للعبادة ليس إلا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببا للسعادة فى معاش ولا معاد، ولا لنجاة المعتقدين أن النار ليست سببا للإحراق، وأن الماء ليس سببا للإرواء والتبريد.
والقدرية الذين ينفون نوعا من الحكمة والتعليل، القائلين بأن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وإنما هى بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، محتجين بأن الله تعالى يجعلها عوضا عن العمل، كما فى قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» وبقوله- صلى الله عليه وسلم- حاكيا عن ربه تعالى: «يا عبادى، إنما هى أعمالكم أحصاها لكم ثم أوفيكم إياه» .
وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال وثمنا لها، والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذى فطر الله عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو: أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب
__________
(1) سورة النحل: 32.(3/678)
لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزينها فى قلبه، وكره إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرا له تعالى أن قبلها سبحانه، ولهذا نفى- صلى الله عليه وسلم- دخول الجنة بالعمل ردّا على القدرية القائلين بأن الجزاء بمحض الأعمال وثمنا لها، وأثبت سبحانه وتعالى دخول الجنة بالعمل ردّا على الجبرية الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطا بالجزاء. فتبين أنه لا تنافى بينهما، إذ توارد النفى والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفى استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ردّا على القدرية، والمثبت الدخول بسبب العمل ردّا على الجبرية، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو، عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا. وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا: فمعنى قوله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» أى تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر مع هذا أن تكون «الباء» للمصاحبة أو للإلصاق أو للمقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية.
قال: ثم رأيت النووى جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث: أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها. وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة الله تعالى. انتهى.
وروى الدار قطنى عن أبى أمامة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «نعم الرجل أنا لشرار أمتى، فقالوا: فكيف أنت لخيارها؟ فقال: أما خيارها
__________
(1) سورة النحل: 32.(3/679)
فيدخلون الجنة بأعمالهم وأما شرار أمتى فيدخلون الجنة بشفاعتى» «1» ، ذكره عبد الحق فى العاقبة.
وأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- فى الجنة بالكوثر- وهو على وزن فوعل من الكثرة- سمى به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته وعظم قدره وخيره.
فقد نقل المفسرون فى تفسير «الكوثر» أقوالا تزيد على العشرة، ذكرت كثيرا منها فى المقصد السادس من هذا الكتاب، وأولاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبى- صلى الله عليه وسلم- فلا معدل عنه.
فقد روى مسلم وأبو داود والنسائى من طريق محمد بن فضيل وعلى ابن مسهر، كلاهما عن المختار بن فلفل عن أنس- واللفظ لمسلم- قال: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا فى المسجد، إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما، قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أنزلت على آنفا سورة، فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «2» ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنه نهر وعدنيه ربى عز وجل» «3» . الحديث.
لكن فيه إطلاق الكوثر على الحوض، وقد جاء صريحا فى حديث عند البخارى أن الكوثر هو النهر الذى يصب فى الحوض. وعند أحمد: «ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض» «4» ، وعند مسلم «يغت فيه- يعنى الحوض- ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب والآخر من ورق» .
وقوله: «يغت» بالغين المعجمة، أى: يصب.
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 377) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه جميع بن ثوب الرجبى، قال فيه البخارى: منكر الحديث، وقال النسائى: متروك الحديث، وقال ابن عدى: روايته تدل على أنه ضعيف.
(2) سورة الكوثر: 1- 3.
(3) تقدم.
(4) أخرجه أحمد (5/ 393) بمعناه من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.(3/680)
وفى البخارى من حديث قتادة عن أنس قال: لما عرج بالنبى- صلى الله عليه وسلم- إلى السماء قال: «أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟: قال: هذا الكوثر» «1» .
ورواه ابن جرير عن شريك بن أبى نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- مضى به جبريل، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فذهب يشم ترابه فإذا هو مسك، قال: «يا جبريل، ما هذا النهر؟ قال: الكوثر الذى خبأ لك ربك» «2» .
وروى أحمد عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال:
«نهر فى الجنة أعطانيه ربى، لهو أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل» «3» .
وعن أبى عبيدة عن عائشة قال: سألتها عن قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «4» قالت: نهر أعطيه نبيكم شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم «5» . رواه البخارى. وقوله: «شاطئاه» أى: حافتاه. وقوله: «در مجوف» أى: القباب التى على جوانبه.
ورواه النسائى بلفظ قالت: نهر فى بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت «6» . و «بطنان» : بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون.
و «وسط» بفتح المهملة، المراد به أعلاها، أرفعها قدرا، والمراد به: أعدلها.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4964) فى تفسير القرآن، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: جزء من حديث أخرجه البخارى (7517) فى التوحيد، باب: قوله وكلم الله موسى تكليما. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أصله عند مسلم (247) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(4) سورة الكوثر: 1.
(5) صحيح: أخرجه البخاري (4965) فى تفسير القرآن. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (2300) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا- صلى الله عليه وسلم- وصفاته، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.(3/681)
وعن- ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الكوثر نهر فى الجنة حافتاه من الذهب والماء يجرى على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل» «1» ، رواه أحمد وابن ماجه، وقال الترمذى: حسن صحيح.
وروى عن ابن عباس فى قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قال: هو نهر فى الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، شاطئاه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خص الله به نبيه قبل الأنبياء، رواه ابن أبى الدنيا موقوفا.
وعن أنس قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما الكوثر؟ قال: «نهر أعطانيه الله- يعنى فى الجنة- أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق البخت، أو أعناق الجزر» ، قال عمر: إنها لناعمة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكلتها أنعم منها» «2» . رواه الترمذى وقال: حسن. و «الجزر» بضم الجيم والزاى، جمع جزور وهو البعير.
قال الحافظ ابن كثير: قد تواترت- يعنى أحاديث الكوثر- من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض، قال: وهكذا روى عن أنس وأبى العالية ومجاهد وغير واحد من السلف: أن الكوثر نهر فى الجنة.
وأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- فى الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول: ثم صلوا علىّ، فإنه من صلى علىّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة» «3» .
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) تقدم.(3/682)
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة علم على أعلى منزلة فى الجنة، وهى منزلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وداره فى الجنة، وهى أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.
وقال غيره: الوسيلة «فعيلة» من وسل إليه إذا تقرب، يقال: توسلت أى تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، كما قال فى هذا الحديث، فإنها منزلة فى الجنة، على أنه يمكن ردها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فيكون كالقربة التى يتوسل بها، ولما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى، وهى أعلى درجة فى الجنة، وأمر أمته أن يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضا: فإن الله تعالى قدرها له بأسباب منها دعاء أمته له، بما نالوه على يده من الهدى والإيمان.
وأما الفضيلة، فهى المرتبة الزائدة على سائر الخلق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرا للوسيلة. وعن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الوسيلة درجة عند الله عز وجل ليس فوقها درجة، فسلوا الله لى الوسيلة» «1» . رواه أحمد فى المسند، وذكره ابن أبى الدنيا وقال: الوسيلة درجة ليس فى الجنة أعلى منها، فسلوا الله أن يؤتينيها على رؤوس الخلائق.
وروى ابن مردويه عن على عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا سألتم الله فسلوا لى الوسيلة، قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك؟ قال: على وفاطمة والحسن والحسين» «2» . لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب منكر من هذا الوجه.
وعند ابن أبى حاتم من حديث على أيضا: أنه قال على منبر الكوفة:
أيها الناس إن فى الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والآخرى صفراء، فأما البيضاء فإنها إلى بطنان العرش. والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه ابن مردويه عن على كما فى «كنز العمال» (34195 و 37619) .(3/683)
غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة، هى لمحمد- صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته والصفراء فيها مثل ذلك، هى لإبراهيم- عليه السّلام- وأهل بيته. وهذا أثر غريب كما نبه عليه الحافظ ابن كثير أيضا.
وعن ابن عباس فى قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «1» قال: أعطاه الله فى الجنة ألف قصر فى كل قصر ما ينبغى له من الأزواج والخدم. رواه ابن جرير وابن أبى حاتم من طريقه، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف، فهو فى حكم المرفوع.
__________
(1) سورة الضحى: 5.(3/684)
خاتمة
عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إلى من نفسى، وإنك لأحب إلى من أهلى، وإنك لأحب إلى من ولدى، وإنى لأكون فى البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك.
وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنى إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يردّ عليه النبى- صلى الله عليه وسلم- شيئا، حتى نزل عليه جبريل- عليه السّلام- بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» «2» رواه أبو نعيم، وقال الحافظ أبو عبد الله المقدسى: لا أعلم بإسناد هذا الحديث بأسا. كذا نقله فى «حادى الأرواح» .
وذكره البغوى فى «معالم التنزيل» بلفظ: نزلت- يعنى الآية- فى ثوبان مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان شديد الحب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغير لونه، يعرف الحزن فى وجهه، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما غير لونك؟» فقال: يا رسول الله، ما بى وجع ولا مرض، غير أنى إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك، لأنك ترفع مع النبيين، وإنى إن دخلت الجنة فى منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية.
وكذا ذكره ابن ظفر فى «ينبوع الحياة» لكن قال: إن الرجل هو عبد الله ابن زيد الأنصارى الذى رأى الأذان.
__________
(1) سورة النساء: 69.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2444) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/685)
وليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل فى درجة واحدة، لأن هذا يقتضى التسوية فى الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فالمراد كونهم فى الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، فإذا أرادوا الرؤية والتلاقى قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية.
وقد ثبت فى الصحيحين من حديث أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» قال: لا شئ إلا أنى أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت» ، قال أنس: فما فرحنا بشئ فرحنا بقول النبى- صلى الله عليه وسلم-: أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبى إياهم «1» .
وفى الحديث الإلهى الذى رواه حذيفة- كما عند الطبرانى بسند غريب- أنه تعالى قال: «ما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه» «2» الحديث. وفيه من الزيادة على حديث البخارى: «ويكون من أوليائى وأصفيائى، ويكون جارى مع النبيين والصديقين والشهداء فى الجنة» «3» .
فلله درها من كرامة بالغة، ونعمة على المحبين سابغة، فالمحب يرقى فى درجات الجنات على أهل المقامات، بحيث ينظر إليه كما ينظر إلى الكوكب الغابر فى أفق السماوات لعلو درجته وقرب منزلته من حبيبه، ومعيته معه، فإن المرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة والوصول والقرب من المحبوب.
__________
(1) متفق عليه: أخرجه البخارى (3688) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب، ومسلم (2639) فى البر والصلة، باب: المرء مع من أحب. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) أصله فى البخارى (6502) فى الرقاق، باب: التواضع. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه أبو نعيم فى الحلية والحاكم فى تاريخه وابن عساكر والديلمى، وفيه إسحاق بن يحيى الكعبى هالك يأتى بالمناكير عن الأثبات، قاله المتقى الهندى فى «كنز العمال» (43600) .(3/686)
رؤيت امرأة مسرفة على نفسها بعد موتها فقيل لها: ما فعل الله بك؟
قالت: غفر لى، فقيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبتى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وشهوتى النظر إليه، نوديت: من اشتهى النظر إلى حبيبنا نستحى أن نذله بعتابنا، بل نجمع بنيه وبين من يحبه.
وانظر إلى قوله تعالى: طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ «1» وإن طوبى اسم شجرة غرسها الله بيده، وتنبت الحلى والحلل، وإن أغصانها لترمى من وراء سور الجنة، وإن أصلها فى دار النبى- صلى الله عليه وسلم-، وفى دار كل مؤمن منها غصن، فما من جنة من الجنات إلا وفيها من شجرة طوبى، ليكون سر كل نعيم، ونصيب كل ولى من سره- صلى الله عليه وسلم-، وأنه- صلى الله عليه وسلم- ملأ الجنة، فلا ولى يتنعم فى جنته إلا والرسول متنعم بنعمته، لأن الولى ما وصل إلى ما وصل إليه من النعيم إلا باتباعه لنبيه- صلى الله عليه وسلم-، فلهذا كان سر النبوة قائما به فى تنعمه. وكذلك إبليس ملأ النار، فلا عذاب لأحد من أهلها إلا وإبليس- لعنه الله- سر تعذيبه ومشارك له فيه.
وفى «البحر» لأبى حيان عند تفسير قوله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً «2» قيل: هى عين فى دار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين.
وإذا علمت هذا، فاعلم أن أعظم نعيم الجنة وأكمله التمتع بالنظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى، ورسوله- صلى الله عليه وسلم-، وقرة العين بالقرب من الله ورسوله مع الفوز بكرامة الرضوان التى هى أكبر من الجنان وما فيها، كما قال الله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «3» .
ولا ريب أن الأمر أجل مما يخطر ببال أو يدور فى خيال، ولا سيما عند فوز المحبين فى روضة الأنس وحظيرة القدس، بمعية محبوبهم الذى هو غاية
__________
(1) سورة الرعد: 29.
(2) سورة الإنسان: 6.
(3) سورة التوبة: 72.(3/687)
مطلوبهم، فأى نعيم وأى لذة وأى قرة عين وأى فوز يدانى تلك المعية ولذتها، وقرة العين بها، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية الله ورسوله نعيم، فلا شئ- والله- أجل ولا أكمل ولا أجمل ولا أجلى ولا أحلى ولا أعلى ولا أغلى من حضرة يجتمع فيها المحب بأحبابه فى مشهد مشاهد الإكرام حيث ينجلى لهم حبيبهم ومعبودهم الإله الحق جل جلاله خلف حجاب واحد فى اسمه الجميل اللطيف، فينفهق عليهم نور يسرى فى ذواتهم فيبهتون من جمال الله، وتشرق ذواتهم بنور ذلك الجمال الأقدس، بحضرة الرسول الأرأس، ويقول لهم الحق جل جلاله: سلام عليكم عبادى، ومرحبا بكم أهل ودادى، أنتم المؤمنون الآمنون، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أنت أوليائى وجيرانى، وأحبابى، إنى أنا الله الجواد الغنى، وهذه دارى قد أسكنتكموها، وجنتى قد أبحتكموها، وهذه يدى مبسوطة ممتدة عليكم، وأنا ربكم أنظر إليكم، لا أصرف نظرى عنكم، أنا لكم جليس وأنيس، فارفعوا إلى حوائجكم، فيقولون ربنا حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم والرضا عنا، فيقول لهم جل جلاله: هذا وجهى فانظروا إليه وأبشروا، فإنى عنكم راض، ثم يرفع الحجاب ويتجلى لهم فيخرون سجدا فيقول لهم: ارفعوا رؤسكم، فليس هذا موضع سجود يا عبادى، ما دعوتكم إلا لتتمتعوا بمشاهدتى، يا عبادى قد رضيت عنكم فلا أسخط عليكم أبدا.
فما أحلاها من كلمة، وما ألذها من بشرى، فعندها يقولون: الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن، وأحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب، إن ربنا لغفور شكور.
وهذا يدل على أن جميع العبادات تزول فى الجنة إلا عبادة الشكر والحمد والتسبيح والتهليل. والذى يدل عليه الحديث الصحيح، أنهم يلهمون ذلك كإلهام النفس، كما فى مسلم من حديث جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يمتخطون ولا يبولون، ويكون طعامهم ذلك جشاء ورشحا كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد، كما يلهمون النفس، يعنى أن تسبيحهم وتحميدهم يجرى مع الأنفاس» ، فليس(3/688)
عن تكليف وإلزام، وإنما هو عن تيسير وإلهام، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا بد له منه ولا كلفة ولا مشقة فى فعله، وكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة. وسر ذلك أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة لذكره، وقد أخبر تعالى عن شأنهم فى ذلك بقوله تعالى فى كتابه العزيز: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ «1» وقوله تعالى:
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
قال مؤلفه وجامعه أحمد بن الخطيب القسطلانى- عامله الله بما يليق بكرمه-: فهذا آخر ما جرى به قلم المدد، من هذه المواهب اللدنية، وسطرته يد الفيض من المنح المحمدية، وذلك وإن كثر لقليل فى جنب شرفه الشامخ، ويسير مما أكرمه الله به من فضله الراسخ، ولو تتبعنا ما منحه الله به من مواهبه، وشرفه به من مناقبه، لما وسعت بعض بعضه الدفاتر، وكلّت دون مرماه الأقلام وجفت المحابر، وضاقت عن جمعه الكتب، وعجزت عن حمله النجب.
وعلى تفنن واصفيه لحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وإلى الله أضرع أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، مخلصا من شوائب الرياء، ودواعى التعظيم، وأن ينفعنى به والمسلمين والمسلمات فى المحيا وبعد الممات، سائلا من وقف عليه من فاضل أنار الله بصيرته، وجبل على الإنصاف سريرته، أن يصلح بحلمه عثارى وزللى، ويسد بسداد فضله خطئى وخللى، فالكريم يقيل العثار، ويقبل الاعتذار، خصوصا عذر مثلى، مع
__________
(1) سورة الزمر: 74.
(2) سورة يونس: 10.(3/689)
قصر باعه فى هذه الصناعة، وكساد سوقه بما لديه من مزجاة البضاعة، وما ابتلى به من شواغل الدنيا الدنية، والعوارض البدنية، وتحمله من الأثقال التى لو حملها رضوى لتضعضع، أو أنزلت على ثبير لخشع وتصدع، لكننى أخذت غفلة الظلام الغاسق، والليل الواسق، فسرقته من أيدى العوائق، والليل يعين السارق، واستفتحت مغاليق المعانى بمفاتيح فتح البارى، واستخرجت من مطالب كنوز العلوم نفائس الدرارى، حامد الله تعالى على ما أنعم وألهم وعلم ما لم أكن أعلم. مصليا مسلما على رسوله محمد أشرف أنبيائه، وأفضل مبلغ لأنبائه، وعلى آله وأصحابه وصفائه صلاة لا ينقطع مددها، ولا يفنى أمدها.
والله أسأل أن ينفع به جيلا بعد جيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل وأستودع الله نفسى ودينى وخواتيم عملى، وما أنعم به على ربى، وهذا الكتاب، وأن ينفعنى به والمسلمين، وأن يردنى وأحبابى إلى الحرمين الشريفين على أحسن وجه وأتمه، وأن يرزقنى الإقامة بهما فى عافية بلا محنة، وأن يطيل عمرى فى طاعته، ويلبسنى أثواب عافيته، ويجمع لى وللمسلمين بين خيرى الدنيا والآخرة، ويصرف عنى سوءهما، ويجعل وفاتى ببلد رسوله، ويمنحنا من المدد المحمدى بما منح به عباده الصالحين مع رضوانه، ويمتعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم من غير عذاب يسبق، فإنه سبحانه إذا استودع شيئا حفظه، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال مؤلفه- رحمه الله-: وقد انتهت كتابة النسخة المنقول منها النسخة المباركة النافعة- إن شاء الله تعالى- فى خامس عشر شعبان المكرم سنة تسع وتسعين وثمانمائة، وكان الابتداء فى المسودة المذكورة ثانى يوم قدومى من مكة المشرفة، صبيحة الحاج فى شهر محرم سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أمين. (بعونه تعالى تم الكتاب) .(3/690)
فهرس المحتويات
الموضوع الصفحة المقصد الثامن فى طبه- صلى الله عليه وسلم- لذوى الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات 3
الفصل الأول فى طبه- صلى الله عليه وسلم- لذوى الأمراض والعاهات 4
النوع الأول فى طبه- صلى الله عليه وسلم- بالأدوية الإلهية 18
رقية الذى يصاب بالعين 26
عقوبة العائن 31
ذكر رقية النبى- صلى الله عليه وسلم- التى كان يرقى بها 32
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من الفزع والأرق المانع من النوم 33
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى 33
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب 34
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من داء الفقر 42
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من داء الحريق 42
ذكر ما كان- صلى الله عليه وسلم- يطب به من داء الصرع 43(3/691)
ذكر دوائه- صلى الله عليه وسلم- من داء السحر 44
ذكر رقية لكل شكوى 51
رقيته- صلى الله عليه وسلم- من الصداع 51
رقيته- صلى الله عليه وسلم- من وجع الضرس 52
رقيته لعسر البول 53
رقية الحمى 53
ذكر ما يقى من كل بلاء 56
ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء 57
ذكر دواء داء الطعام 58
ذكر دواء أم الصبيان 58
النوع الثانى طبه- صلى الله عليه وسلم- بالأدوية الطبيعية 59
ذكر ما كان- صلى الله عليه وسلم- يعالج به الصداع والشقيقة 59
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- للرمد 61
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من العذرة 64
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- لداء استطلاق البطن 65
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- فى يبس الطبيعة بما يمشيه ويلينه 68
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- للمفؤود 70
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- لذات الجنب 70(3/692)
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- لداء الاستسقاء 71
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من داء عرق النسا 74
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من الأورام والخراجات 74
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- بقطع العروق والكى 75
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من الطاعون 77
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من السلعة 80
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من الحمى 81
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من حكة الجسد وما يولد القمل 85
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من السم الذى أصابه بخيبر 86
النوع الثالث ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية 87
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من القرحة والجرح وكل شكوى 87
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من القرحة والجرح وكل شكوى 87
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من لدغة العقرب 89
ذكر الطب من النملة 90
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من البثرة 90
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من حرق النار 90
ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- بالحمية 91
ذكر حمية المريض من الماء 92
ذكر أمره- صلى الله عليه وسلم- بالحمية من الماء المشمس خوف البرص 93(3/693)
ذكر الحمية من طعام البخلاء 93
ذكر الحمية من داء الكسل 94
ذكر الحمية من داء البواسير 94
ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحى الذباب بانغماس الثانى 94
ذكر أمره- صلى الله عليه وسلم- بالحمية من الوباء النازل فى الإناء بالليل بتغطيته 95
ذكر حمية الوليد من إرضاع الحمقى 95
الفصل الثانى فى تعبيره- صلى الله عليه وسلم- الرؤيا 97
الرؤيا الصالحة جزء من النبوة 99
الفصل الثالث فى إنبائه- صلى الله عليه وسلم- بالأنباء المغيبات 125
المقصد التاسع فى لطيفة من عباداته 149
النوع الأول فى الطهارة وفيه فصول: 155
الفصل الأول فى ذكر وضوئه- صلى الله عليه وسلم- وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به 155
الفصل الثانى فى وضوئه- صلى الله عليه وسلم- مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا 164(3/694)
الفصل الثالث فى صفة وضوئه- صلى الله عليه وسلم- 166
الفصل الرابع فى مسحه- صلى الله عليه وسلم- على الخفين 175
الفصل الخامس فى تيممه- صلى الله عليه وسلم- 178
الفصل السادس فى غسله- صلى الله عليه وسلم- 179
النوع الثانى فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- 185
القسم الأول فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبواب 187
الباب الأول فى الصلوات الخمس وفيه فصول 187
الفصل الأول فى فرضها 187
الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس 188(3/695)
الفصل الثالث فى ذكر كيفية صلاته- صلى الله عليه وسلم- وفيه فروع 193
الفرع الأول: فى صفة افتتاحه- صلى الله عليه وسلم- 193
الفرع الثانى: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- البسملة فى أول الفاتحة 199
الفرع الثالث: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- الفاتحة وقول آمين بعدها 208
الفرع الرابع: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- بعد الفاتحة فى صلاة الغداة 208
الفرع الخامس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- بعد الفاتحة فى صلاتى الظهر والعصر 212
الفرع السادس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة المغرب 214
الفرع السابع: فى ذكر ما كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى صلاة العشاء 217
الفرع الثامن: فى ذكر صفة ركوعه- صلى الله عليه وسلم- 218
الفرع التاسع: فى مقدار ركوعه- صلى الله عليه وسلم- 219
الفرع العاشر: فى ذكر ما كان- صلى الله عليه وسلم- يقوله فى الركوع والرفع منه 220
الفرع الحادى عشر: فى ذكر صفة سجوده- صلى الله عليه وسلم- وما يقول فيه 222
الفرع الثانى عشر: فى ذكر جلوسه- صلى الله عليه وسلم- للتشهد 225
الفرع الثالث عشر: فى ذكر تشهده- صلى الله عليه وسلم- 227
الفرع الرابع عشر: فى ذكر تسليمه- صلى الله عليه وسلم- من الصلاة 235
الفرع الخامس عشر: فى ذكر قنوته- صلى الله عليه وسلم- 242(3/696)
الفصل الرابع فى سجوده- صلى الله عليه وسلم- للسهو فى الصلاة 249
الفصل الخامس فيما كان- صلى الله عليه وسلم- يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها 262
الباب الثانى فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- الجمعة 267
الباب الثالث فى ذكر تهجده- صلوات الله وسلامه عليه- 286
ذكر سياق صلاته- صلى الله عليه وسلم- بالليل 290
الباب الرابع فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- الوتر 309
الباب الخامس فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- الضحى 316
القسم الثانى فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- النوافل أحكامها وفيه بابان 325
الباب الأول فى النوافل المقرونة بالأوقات 325(3/697)
الفصل الأول فى رواتب الصلوات الخمس والجمعة 325
الفرع الأول: فى أحاديث جامعة لرواتب مشتركة 325
الفرع الثانى: فى ركعتى الفجر 326
الفرع الثالث: فى راتبة الظهر 331
الفرع الرابع: فى سنة العصر 332
الفرع الخامس: فى راتبة المغرب 334
الفرع السادس: فى راتبة العشاء 337
الفرع السابع: فى راتبة الجمعة 337
الفصل الثانى فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- العيدين 339
الفرع الأول: فى عدد الركعات 340
الفرع الثانى: فى عدد التكبير 340
الفرع الثالث: فى الوقت والمكان 341
الفرع الرابع: فى الأذان والإقامة 342
الفرع الخامس: فى قراءته- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة العيدين 342
الفرع السادس: فى خطبته- صلى الله عليه وسلم- وتقديمه صلاة العيدين عليها 343
الفرع السابع: فى أكله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر قبل خروجه إلى الصلاة 344(3/698)
الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسباب 351
الفصل الأول فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- الكسوف 351
الفصل الثانى فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- صلاة الاستسقاء 361
الفصل الثالث 373
الفصل الرابع 374 القسم الثالث فى ذكرته. - صلى الله عليه وسلم- فى السفر 376
الفصل الأول فى قصره- صلى الله عليه وسلم- الصلاة فيه وأحكامه 376
الفرع الأول: فى كم كان- صلى الله عليه وسلم- يقصر الصلاة 376
الفرع الثانى: فى القصر مع الإقامة 378
الفصل الثانى فى الجمع 380
الفرع الأول: فى جمعه- صلى الله عليه وسلم- 380
الفرع الثانى: فى جمعه- صلى الله عليه وسلم- بجمع مزدلفة وبعرفة 381(3/699)
الفصل الثالث فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- النوافل فى السفر 382
الفصل الرابع فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- التطوع فى السفر على الدابة 385
القسم الرابع فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف 387
القسم الخامس فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- على الجنازة 390
الفرع الأول: فى عدد التكبيرات 390
الفرع الثانى: فى القراءة والدعاء 390
الفرع الثالث: فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- على القبر 392
الفرع الرابع: فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- على الغائب 394
النوع الثالث فى ذكر سيرته- صلى الله عليه وسلم- فى الزكاة 398
النوع الرابع فى ذكر صيامه- صلى الله عليه وسلم- 404
القسم الأول فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان وفيه فصول 407(3/700)
الفصل الأول فيما يختص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده- صلى الله عليه وسلم- فيه 407
الفصل الثانى فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- برؤية الهلال 410
الفصل الثالث فى صومه- صلى الله عليه وسلم- بشهادة العدل الواحد 411
الفصل الرابع فيما كان يفعله- صلى الله عليه وسلم- وهو صائم 412
الفصل الخامس فى وقت إفطاره- صلى الله عليه وسلم- 416
الفصل السادس فيما كان- صلى الله عليه وسلم- يفطر عليه 417
الفصل السابع فيما كان يقوله- صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار 417
الفصل الثامن فى وصاله- صلى الله عليه وسلم- 418
الفصل التاسع فى سحوره- صلى الله عليه وسلم- 423(3/701)
الفصل العاشر فى إفطاره- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان فى السفر وصومه 425
القسم الثانى فى صومه- صلى الله عليه وسلم- غير شهر رمضان وفيه فصول 427
الفصل الأول فى سرده- صلى الله عليه وسلم- صوم أيام من الشهر وفطره أياما 427
الفصل الثانى فى صومه- صلى الله عليه وسلم- عاشوراء 428
الفصل الثالث فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- شعبان 436
الفصل الرابع فى صومه- صلى الله عليه وسلم- عشر ذى الحجة 440
الفصل الخامس فى صومه- صلى الله عليه وسلم- أيام الأسبوع 442
الفصل السادس فى صومه- صلى الله عليه وسلم- الأيام البيض 445
النوع الخامس فى ذكر اعتكافه- صلى الله عليه وسلم- واجتهاده فى العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر 447(3/702)
النوع السادس فى ذكر حجه وعمره- صلى الله عليه وسلم- 453
النوع السابع من عبادته- صلى الله عليه وسلم- فى ذكر نبذة من أدعيته وأذكاره وقراءته 511
المقصد العاشر الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه- صلى الله عليه وسلم- 540
الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف 587
الفصل الثالث فى تفضيله- صلى الله عليه وسلم- فى الآخرة ... إلخ 624
خاتمة 685(3/703)