بسببه وعلى يده، فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقه- صلى الله عليه وسلم- أن يكثر من الصلاة عليه فى هذا اليوم وليلته.
[فضيلة الصلاة على النبي ص]
وأما فضيلة الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- فقد ورد التصريح بها فى أحاديث قوية، لم يخرج البخارى منها شيئا، أمثلها ما أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة، عن النبى- صلى الله عليه وسلم- «من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرا» «1» .
وعن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاجة، فلم يجد أحدا يتبعه، فأتاه عمر بمطهرة من خلفه، فوجد النبى- صلى الله عليه وسلم- ساجدا، فتنحى عنه حتى رفع النبى- صلى الله عليه وسلم- رأسه، فقال: «أحسنت يا عمر حين وجدتنى ساجدا فتنحيت عنى، إن جبريل أتانى فقال: من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، ورفعه عشر درجات» «2» . رواه الطبرانى وقال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح قال ابن كثير: وقد اختار هذا الحديث الحافظ الضياء المقدسى فى كتابه «المستخرج على الصحيحين» .
وعن أبى طلحة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء ذات يوم والسرور يرى فى وجهه، فقالوا: يا رسول الله إنا لنرى السرور فى وجهك، فقال: «إنه أتانى الملك فقال: يا محمد، أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلى عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا، قال: بلى» «3» ، رواه الدارمى وأحمد وابن حبان والحاكم والنسائى، واللفظ له.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (408) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد.
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 287) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبرانى محمد بن عبد الرحيم بن بحير المصرى، ولم أجد من ذكره.
(3) حسن: أخرجه النسائى (3/ 44) فى السهو، باب: فضل التسليم على النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (4/ 29 و 30) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(2/674)
وعن عامر بن ربيعة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى على صلاة لم تزل الملائكة تصلى عليه ما صلى على، فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر» «1» . رواه أحمد وابن ماجه من حديث شعبة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: من صلى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر «2» ، رواه أحمد. والتخيير بعد الإعلام بما فيه الخيرة فى المختبر فيه على جهة التحذير من التفريط فى تحصيله، وهو قريب من معنى التهديد. وروى الترمذى، أن أبى بن كعب قال: يا رسول الله، إنى أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتى؟ قال: «ما شئت» ، قلت: الربع؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك» ، قلت: فالنصف؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك» ، قلت: فالثلثين؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك» ، قلت:
أجعل لك صلاتى كلها، قال: «إذن تكفى همك، ويغفر ذنبك» «3» . ثم قال:
هذا حديث حسن.
فهذا ما يتعلق بالصلاة، وأما السلام فقال النووى: يكره إفراد الصلاة عن السلام، واستدل بورود الأمر بهما معا فى الآية، يعنى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «4» .
وتعقبوه: بأن النبى- صلى الله عليه وسلم- علم أصحابه التسليم قبل تعليمهم الصلاة، كما هو مصرح به فى قولهم: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلى عليك، وقوله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن علمهم الصلاة والسلام: «كما قد علمتم» ، فأفرد التسليم مدة قبل الصلاة عليه. لكن قال فى فتح البارى: إنه
__________
(1) أخرجه الطيالسى عن أبى هريرة، كما فى «كنز العمال» (18902) .
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 172) .
(3) حسن: أخرجه الترمذى (2457) فى صفة القيامة، باب: منه، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) سورة الأحزاب: 56.(2/675)
يكره أن يفرد الصلاة ولا يسلم أصلا، أما لو صلى فى وقت، وسلم فى وقت آخر فإنه يكون ممتثلا.
وقال أبو محمد الجوينى من أصحابنا: السلام بمعنى الصلاة، فلا يستعمل فى الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: على عليه السلام، سواء فى هذا الأحياء والأموات، وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: سلام عليك، أو عليكم، أو السلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه انتهى.
وقد جرت عادة بعض النساخ أن يفردوا عليّا وفاطمة- رضى الله عنهما- بالسلام، فيقولو: عليه أو عليها السلام من دون سائر الصحابة فى ذلك، وهذا وإن كان معناه صحيحا لكن ينبغى أن يساوى بين الصحابة- رضى الله عنهم- فى ذلك، فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، والشيخان وعثمان أولى بذلك منهما، أشار إليه ابن كثير.
وأما الصلاة على غير النبى- صلى الله عليه وسلم- فاختلف فيها. وأخرج البيهقى بسند واه من حديث بريدة رفعه: «لا تتركن فى التشهد الصلاة على وعلى أنبياء الله» . وأخرج إسماعيل القاضى بسند ضعيف من حديث أبى هريرة: «صلوا على أنبياء الله» . وأخرج الطبرانى من حديث ابن عباس رفعه: «إذا صليتم على فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثنى» «1» .
وثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبى- صلى الله عليه وسلم-. أخرجه ابن أبى شيبة من طريق عثمان عن عكرمة عنه قال: «ما أعلم الصلاة تنبغى على أحد من أحد إلا على النبى- صلى الله عليه وسلم-» . وسنده صحيح. وحكى القول به عن مالك، وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز. وقال سفيان: يكره أن يصلى إلا على نبى. وعن بعض شيوخ مذهب مالك: لا يجوز أن يصلى إلا على محمد. قالوا: وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغى لنا أن نتعدى ما أمرنا به. وخالفه يحيى بن يحيى
__________
(1) حسن: أخرجه ابن أبى عمر، والبيهقى فى الشعب عن أبى هريرة، والخطيب عن أنس، كما فى «صحيح الجامع» (3782) .(2/676)
فقال: لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة، فلا تمنع إلا بنص أو إجماع.
وأما الصلاة على غير الأنبياء، فإن كان على سبيل التبعية كما تقدم فى الحديث: اللهم صل على محمد وآل محمد ونحوه، فهو جائز بالإجماع.
وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم.
فقال قائلون بجواز ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ «1» وبقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ «2» ، وبقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ «3» ، وبحديث عبد الله بن أبى أوفى قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صل عليهم» ، فأتاه أبى بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبى أوفى» «4» أخرجه الشيخان.
وقال الجمهور من العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة، لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال أبو بكر صلى الله عليه وسلم. أو: قال على صلى الله عليه وسلم، وإن كان المعنى صحيحا، كما لا يقال: قال محمد عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا، لأن هذا من شعار ذكر الله عز وجل. وحملوا ما ورد فى ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء لهم، ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبى أوفى. وهذا مسلك حسن.
وقال آخرون: لا يجوز ذلك، لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء، يصلون على من يعتقدون فيهم، فلا يقتدى بهم فى ذلك. ثم اختلف المانعون من ذلك: هل هو من باب التحريم، أو كراهة
__________
(1) سورة الأحزاب: 43.
(2) سورة البقرة: 157.
(3) سورة التوبة: 103.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1498) فى الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (1078) فى الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقته.(2/677)
التنزيه، أو خلاف الأولى؟ على ثلاثة أقوال، حكاها النووى فى كتاب «الأذكار» ، ثم قال: والصحيح الذى عليه الأكثرون، أنه مكروه كراهة تنزيه، لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم.
الفصل الثالث فى ذكر محبة أصحابه ص وقرابته وأهل بيته وذريته
[فى ذكر محبة آله ص وقرابته وأهل بيته وذريته]
قال الطبرى: اعلم أن الله تعالى لما اصطفى نبيه- صلى الله عليه وسلم- على جميع من سواه، وخصه بما عمه به من فضله الباهر وحباه، أعلى ببركته من انتمى إليه نسبا أو نسبة، ورفع من انطوى عليه نصرة وصحبة، وألزم مودة قرباه كافة بريته، وفرض محبة جملة أهل بيته المعظم وذريته، فقال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» . ويروى أنها لما نزلت قالوا: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء؟ قال: «على وفاطمة وابناهما» . وقال تعالى:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2» . وقد اختلف فى المراد بأهل البيت فى هذه الآية.
فروى ابن أبى حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت فى نساء النبى- صلى الله عليه وسلم- وروى ابن جرير عن عكرمة، أنه كان ينادى فى السوق إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «3» قال: نزلت فى نساء النبى- صلى الله عليه وسلم-.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا يعنى: ما فى الآية نص فى دخول أزواجه- صلى الله عليه وسلم- لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وقيل: المراد النبى- صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) سورة الشورى: 23.
(2) سورة الأحزاب: 33.
(3) سورة الأحزاب: 33.(2/678)
قال عكرمة: من شاء باهلته «1» أنها نزلت فى نساء النبى- صلى الله عليه وسلم-. فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن ففى هذا نظر فإنه قد ورد فى ذلك أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك. فروى الإمام أحمد عن واثلة ابن الأسقع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء ومعه على وحسن وحسين آخذ كل واحد منهما بيده، حتى دخل فأدنى عليّا وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه- أو قال: كساءه- ثم تلا هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2» وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى، وأهل بيتى أحق» «3» .
زاد فى رواية ابن جرير، فقلت: وأنا يا رسول الله من أهلك، قال: وأنت من أهلى. قال واثلة: وإنها أرجى ما أرتجى.
وعن أم سلمة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فى بيتها، إذ جاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فدخلت عليه بها، فقال: «ادعى زوجك وابنيك» قالت:
فجاء على وحسن وحسين فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وتحته كساء، قالت: وأنا فى الحجرة أصلى، فينزل الله عز وجل هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «4» قالت:
فأخذ فضل الكساء فغشاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال:
«اللهم هؤلاء أهل بيتى وحامتى فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» ، قالت: فأدخلت رأسى من البيت فقلت وأنا معكم يا رسول الله فقال: «إنك
__________
(1) المباهلة: الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا فى شىء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.
(2) سورة الأحزاب: 33.
(3) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (3205) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، و (3787) فى المناقب، باب: مناقب أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (4/ 107) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» وهو عند الترمذى من حديث عمر بن أبى سلمة- رضى الله عنه-.
(4) سورة الأحزاب: 33.(2/679)
إلى خير، إنك إلى خير» «1» . رواه أحمد فى إسناده من لم يسم وبقية إسناده ثقات. وقوله: «حامتى» بالتشديد، أى خاصتى.
وعن أبى سعيد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نزلت هذه الآية فى خمسة: فىّ وفى على وحسن وحسين وفاطمة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2» » رواه ابن جرير، ورواه أحمد فى المناقب، والطبرانى.
وعن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتينى رسول ربى عز وجل فأجيبه، وإنى تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله عز وجل، فيه الهدى والنور، فتمسكوا بكتاب الله عز وجل، وخذوا به» ، وحث فيه ورغب فيه ثم قال: «وأهل بيتى، أذكركم الله عز وجل فى أهل بيتى» ، ثلاث مرات. فقيل لزيد: من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال:
بلى، إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال:
ومن هم؟ قال: هم آل على وال جعفر وآل عقيل وآل العباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم «3» ، خرجه مسلم، و «الثقل» محركة كما فى القاموس كل شىء نفيس مصون، قال: ومنه حديث «إنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتى» «4» ، وهى بكسر المهملة وسكون المثناة الفوقية. والأخذ بهذا الحديث أحرى، وليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هن مع أهله، ولا يشك من تدبر القرآن أن نساء النبى- صلى الله عليه وسلم- داخلات فى الآية الكريمة، فإن
__________
(1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله.
(2) سورة الأحزاب: 33.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2408) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (2786) فى المناقب، باب: مناقب أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم-، والطبرانى فى «الكبير» (3/ 66) من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/680)
سياق الكلام معهن، ولهذا قال بعد هذا كله وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ»
. وهذا اختيار ابن عطية بعد أن نقل أن الجمهور على أنّهم: على وفاطمة والحسن والحسين. قال: وحجة الجمهور قوله تعالى:
عَنْكُمُ، وَيُطَهِّرَكُمْ «2» ب «الميم» ولو كان للنساء خاصة لقال: عنكن.
وأجيب أن الخطاب بلفظ التذكير وقع على سبيل التغليب. فيكون المراد به كالمراد ب «آل» فى حديث كيفية الصلاة عليه السابق ذكره، على قول من فسره به، كما قدمته مع غيره قريبا فى الفصل السابق، والله أعلم. ولله در القائل:
يا آل بيت رسول الله حبكم ... فرض من الله فى القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفضل أنكم ... من لم يصل عليكم لا صلاة له
وأخرج أحمد عن أبى سعيد معنى حديث زيد بن أرقم السابق مرفوعا بلفظ: «إنى أوشك أن أدعى فأجيب، وإنى تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتى، وإن اللطيف الخبير أخبرنى أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا بماذا تخلفونى فيهما» «3» وعترة الرجل- كما قاله الجوهرى-: أهله ونسله، ورهطه الأدنون، أى الأقارب. وعن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- أنه قال: (يا أيها الناس ارقبوا محمدا فى أهل بيته) «4» رواه البخارى. والمراقبة للشىء:
المحافظة عليه، يقول: احفظوهم فلا تؤذوهم.
وقال أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- كما فى البخارى أيضا- (لقرابة رسول
__________
(1) سورة الأحزاب: 34.
(2) سورة الأحزاب: 33.
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 14 و 17 و 26 و 59) ، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3713) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.(2/681)
الله- صلى الله عليه وسلم- أحب إلىّ أن أصل من قرابتى) «1» وهذا قاله على سبيل الاعتذار لفاطمة من منعه إياها ما طلبته منه من تركة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقد جرى منه على موجب الإيمان، لأنه- صلى الله عليه وسلم- شرط الأحبية فيه على النفس والمال والولد، كما ذكرته فى الفصل الأول من هذا المقصد. ثم إنه- صلى الله عليه وسلم- أثبت لأقاربه ما أثبت لنفسه من ذلك فقال: «من أحبهم فبحبى أحبهم» «2» وحثنا على ذلك شفقة منه علينا- صلوات الله وسلامه عليه وعليهم-، ولقد أحسن القائل:
رأيت ولائى آل طه فريضة ... على رغم أهل البعد يورثنى القربى
فما طلب المبعوث أجرا على الهدى ... بتبليغه إلا المودة فى القربى
وفى الترمذى- وقال: حديث حسن غريب-: «أحبوا الله لما يغذوكم به، وأحبونى بحب الله، وأحبوا أهل بيتى بحبى» «3» . وفى المناقب لأحمد: من أبغض أهل البيت فهو منافق. وروى ابن سعد: من صنع إلى أحد من أهل بيتى معروفا، فعجز عن مكافأته فى الدنيا، فأنا المكافىء له فى يوم القيامة.
والمراد بالقرابة من ينتسب إلى جده الأقرب، وهو عبد المطلب، ممن صحب النبى- صلى الله عليه وسلم-، أو رآه من ذكر وأنثى، وهم:
* على وأولاده: الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم من فاطمة- رضى الله عنها-.
* وجعفر بن أبى طالب وأولاده: عبد الله، وعون، ومحمد، ويقال إنه كان لجعفر بن أبى طالب ابن اسمه أحمد.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3712) فيما سبق.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3862) فى المناقب، باب: رقم (59) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 87) و (5/ 54 و 57) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7256) ، إلا أن الحديث ضعفه الشيخ الألبانى «ضعيف الجامع» (1160) .
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3789) فى المناقب، باب: مناقب أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- والحاكم فى «المستدرك» (3/ 162) ، والطبرانى فى «الكبير» (3/ 46) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(2/682)
* وعقيل بن أبى طالب، وولده مسلم بن عقيل.
* وحمزة بن عبد المطلب، وأولاده: يعلى، وعمارة، وأمامة.
* والعباس بن عبد المطلب، وأولاده الذكور العشرة، وهم: الفضل، وعبد الله، وقثم، وعبيد الله، والحارث، ومعبد، وعبد الرحمن، وكثير، وعون، وتمام، وفيه يقول العباس- رضى الله عنه-:
تموا بتمام فصاروا عشرة ... يا رب فاجعلهم كراما بررة
ويقال: إن لكل منهم رؤية، وكان له من الإناث: أم حبيبة، وآمنة، وصفية، وأكثرهم من لبابة أم الفضل.
* ومعتب بن أبى لهب، والعباس بن أبى لهب «1» ، وكان زوج آمنة بنت العباس.
* وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وأخته ضباعة، وكانت زوج المقداد بن الأسود.
* وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابنه جعفر.
* ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وابناه: المغيرة والحارث، ولعبد الله بن الحارث هذا رؤية. وكان يلقب «ببة» بموحدتين، الثانية ثقيلة.
* وأميمة وأروى وعاتكة وصفية بنات عبد المطلب، أسلمت صفية وصحبت، وفى الباقيات خلاف، والله أعلم.
وفى البخارى من حديث سعد بن أبى وقاص أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال لعلى: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبى بعدى» «2» وفى لفظ آخر (أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى) أى نازلا منى منزلة هارون من موسى. والباء زائدة.
__________
(1) هو: العباس بن عتبة بن أبى لهب، وقد نسبه المصنف لجده بدلا من أبيه.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3706) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب على بن أبى طالب القرشى الهاشمى- رضى الله عنه-، ومسلم (2404) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على- رضى الله عنه-.(2/683)
وقال الطيبى: معنى الحديث: أنت متصل بى نازل منى منزلة هارون من موسى. وفيه تشبيه مبهم بينه بقوله: (إلا أنه لا نبى بعدى) «1» فعرف أن الاتصال بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها وهو الخلافة، ولما كان هارون المشبه به، إنما كان خليفة فى حياة موسى، دل ذلك على تخصيص خلافة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بحياته والله أعلم. وأما ما استدل به من هذا الحديث على استحقاق على للخلافة دون غيره من الصحابة، فإن هارون كان خليفة موسى، فأجيب: بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا فى حياته لا بعد موته، لأنه مات قبل موسى باتفاق. أشار إلى ذلك الخطابى.
وأما حديث الترمذى والنسائى «من كنت مولاه فعلى مولاه» «2» فقال الشافعى: يعنى بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ «3» وقول عمر: أصبحت مولى كل مؤمن، أى ولى كل مؤمن. وطرق هذا الحديث كثيرة جدّا، استوعبها ابن عقدة فى كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان.
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من آذى عليّا فقد آذانى» «4» خرجه أحمد.
وأخرج المخلص الذهبى: «من أحب عليّا فقد أحبنى» . وقد ذكر النقاش: أن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «5» نزلت فى على: وقال محمد ابن الحنفية: لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليّا وأهل بيته. وقال أبو حيان فى «البحر» : ومن الغريب ما أنشدنا الإمام اللغوى رضى الدين أبو عبد الله بن يوسف الأنصارى الشاطبى لزبينا بن إسحاق النصرانى الرسعنى:
__________
(1) صحيح: وقد تقدم، وهى رواية مسلم السابقة.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3713) فى المناقب، باب: مناقب على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، من حديث أبى سريحة، أو زيد بن أرقم- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6523) .
(3) سورة محمد: 11.
(4) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 483) ، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 133) .
(5) سورة مريم: 96.(2/684)
عدى وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء ولكنى محب لهاشم
وما يعترينى فى على ورهطه ... إذا ذكروا فى الله لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهى من أعرب وأعاجم
فقلت لهم أنى لأحسب حبهم ... سرى فى قلوب الخلق حتى البهائم
وقالت عائشة- رضى الله عنها-: كانت فاطمة أحب الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وزوجها أحب الرجال إليه «1» . رواه الترمذى. وفى البخارى: «إن فاطمة بضعة منى، فمن أغضبها أغضبنى» «2» و «البضعة» بفتح الباء الموحدة، وحكى ضمها وكسرها أيضا، وبسكون المعجمة، أى قطعة لحم. واستدل به السهيلى على أن من سبها فإنه يكفر.
وفى الترمذى من حديث أسامة بن زيد- وقال حسن غريب- إنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى حسن وحسين: «اللهم إنى أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما» «3» . وخرجه مسلم من حديث أبى هريرة فى الحسن خاصة «4» ، زاد أبو حاتم فما كان أحد أحب إلى من الحسن بعد ما قال- صلى الله عليه وسلم- ما قال.
وفى حديث أبى هريرة أيضا عند الحافظ السلفى قال: ما رأيت الحسن ابن على قط إلا فاضت عيناى دموعا، وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج يوما وأنا فى المسجد فأخذ بيدى واتكأ على حتى جئنا سوق قينقاع، فنظر فيه ثم رجع حتى جلس فى المسجد ثم قال: «ادع ابنى» ، قال: فأتى الحسن بن
__________
(1) منكر: أخرجه الترمذى (3868) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل فاطمة بنت محمد- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 168) من حديث بريدة، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» منكر.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) حسن: أخرجه الترمذى (3769) فى المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين- رضى الله عنهما-، وابن حبان فى «صحيحه» (6967) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5884) فى اللباس، باب: السخاب للصبيان، ومسلم (2421) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل الحسن والحسين- رضى الله عنهما-.(2/685)
على يشتد حتى وقع فى حجره، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفتح فمه، ثم يدخل فمه فى فمه ويقول: «اللهم إنى أحبه فأحبه وأحب من يحبه» «1» ، ثلاث مرات.
وفى الترمذى من حديث أنس، أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يشمهما ويضمهما إليه، وقال: «من أحبنى وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معى فى درجتى يوم القيامة» «2» ، رواه أحمد، وقال الترمذى: «كان معى فى الجنة» ، وقال:
حديث غريب. وليس المراد بالمعية هنا المعية من حيث المقام، بل من حيث رفع الحجاب، وتقدم نحوه فى قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ «3» فى المقصد السادس.
وفى حديث أبى زهير بن الأرقم عن رجل من الأزد أنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى الحسن «من أحبنى فليحبه، فيبلغ الشاهد الغائب» . وفى البخارى: «هما ريحانتاى من الدنيا» «4» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يمص لسان الحسن أو شفته «5» ، رواه أحمد.
وعن عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر، وحمل الحسن وهو يقول:
بأبى شبيه بالنبى، ليس شبيها بعلى. وعلى يضحك «6» . وعن محمد بن
__________
(1) صحيح: وهو رواية مسلم (2421) (57) السابقة دون ذكر ثلاث مرات.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3733) فى المناقب، باب: مناقب على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، وأحمد فى «المسند» (1/ 77) من حديث على- رضى الله عنه-، وليس أنس كما ذكر المصنف، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(3) سورة النساء: 69.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3753) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب الحسن والحسين- رضى الله عنهما-، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(5) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 93) ، من حديث معاوية- رضى الله عنه-.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (3542) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو فى «صحيح البخارى» ، بلفظ (شبيه) بدل (شبيها) على أن (ليس) حرف عطف، وهو مذهب كوفى.(2/686)
سيرين عن أنس: كان- يعنى الحسين- أشبههم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» .
رواهما البخارى.
وعنده عن رواية الزهرى عن أنس (لم يكن أحد أشبه بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من الحسن بن على) «2» وهذا قد يعارضه قول على فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-:
«لم أر قبله ولا بعده مثله» ، أخرجه الترمذى فى الشمائل كما تقدم فى المقصد الثالث، وأجيب: بأن يحمل النفى على عموم الشبه، والإثبات على معظمه.
وقول أنس: (لم يكن أحد أشبه بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من الحسن بن على) قد يعارض رواية ابن سيرين عنه السابقة (كان الحسين- يعنى بالياء- أشبههم بالنبى- صلى الله عليه وسلم-) ويمكن الجمع بأن يكون أنس قال ما وقع فى رواية الزهرى فى حياة الحسن، لأنه كان يومئذ أشد شبها بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من أخيه الحسين. وأما ما وقع فى رواية ابن سيرين فكان بعد ذلك، أو المراد بمن فضل عليه الحسين فى الشبه، كان من عدا الحسن، ويحتمل أن يكون كل منهما كان أشد شبها به فى بعض أعضائه، فقد روى الترمذى وابن حبان من طريق هانئ بن هانئ عن على قال: الحسن أشبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما بين الرأس إلى الصدر، والحسين أشبه النبى- صلى الله عليه وسلم- ما كان أسفل من ذلك «3» .
وقد عدوا من كان له شبه بالنبى- صلى الله عليه وسلم- سوى الحسن والحسين جعفر بن أبى طالب، وقد قال- صلى الله عليه وسلم- لجعفر: «أشبهت خلقى وخلقى» «4» قال الترمذى: حسن صحيح. وابنه عبد الله بن جعفر. وقثم بن العباس بن عبد المطلب. وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. ومسلم بن عقيل بن
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3748) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب الحسن والحسين- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3752) فيما سبق.
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3779) فى المناقب، باب: رقم (109) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 99) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3765) فى المناقب، باب: مناقب جعفر بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/687)
أبى طالب. ومن غير بنى هاشم: السائب بن يزيد المطلبى، الجد الأعلى للإمام الشافعى. وعبد الله بن عامر بن كريز- بضم الكاف وفتح الراء- وكابس بن ربيعة رجل من أهل البصرة، وجه إليه معاوية، وقبله بين عينيه وأقطعه قطيعة، وكان أنس إذا رآه بكى. فهؤلاء عشرة، ونظمهم شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل ابن حجر فقال:
شبه النبى لعشر سائب وأبى ... سفيان والحسنين الطاهرين هما
وجعفر وابنه ثم ابن عامرهم ... ومسلم كابس يتلوه مع قثما
وعدهم بعضهم: سبعة وعشرين. وممن كان يشبهه أيضا: فاطمة ابنته، وإبراهيم ولده. وولدا جعفر، عبد الله- السابق ذكره- وأخوه عون. وكان يشبهه أيضا من أهل البيت غير هؤلاء: إبراهيم بن الحسين بن الحسن بن على ابن أبى طالب. ويحيى بن القاسم بن محمد بن جعفر بن على بن الحسين ابن على، وكان يقال له: الشبيه. قال الشريف محمد بن أسعد النسابة فى الزورة الأنيسة لمشهد السيدة نفيسة أنه كان ليحيى هذا موضع خاتم النبوة شامة قدر بيضه الحمامة، تشبه خاتم النبوة، وكان إذا دخل الحمام ورآه الناس صلوا على النبى- صلى الله عليه وسلم- وازدحموا عليه يقبلون ظهره تبركا، ولذا وصف بالشبيه.
والقاسم بن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبى طالب. وعلى بن على بن نجاد بن رفاعة الرفاعى، شيخ بصرى من أتباع التابعين. والمراد بالشبه هنا، الشبه فى البعض، وإلا فتمام حسنه- صلى الله عليه وسلم- منزه عن الشريك، كما قال الأبوصيرى- رحمه الله- وأجاد:
منزه عن شريك فى محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم
كما أشرت إليه فى أول المقصد الثالث.
وقد أطلت المقال، وإنما جرنى إلى ذلك ذكر حمل الصديق للحسن على عاتقه، المشعر بالإكرام من أفضل البشر بعد النبيين، لأهل البيت المحمدى، وحملهم على الأعناق، ولا سيما مع قوله- رضى الله عنه- لقرابة رسول(2/688)
الله- صلى الله عليه وسلم- أحب إلى أن أصل من قرابتى «1» ، فلما تضمن هذا الحديث ذلك الشبه الكريم جرنى الكلام إليه، وهذا وقع لى كثير فى هذا المجموع لكنه لا يخلو عن فرائد الفوائد.
وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «العباس بن عبد المطلب منى وأنا منه، لا تؤذوا العباس فتؤذنى، من سب العباس فقد سبنى» «2» أخرجه البغوى فى معجمه. وقال- صلى الله عليه وسلم- للعباس أيضا: «والذى نفسى بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله» ، ثم قال: «أيها الناس، من آذى عمى فقد آذانى، فإنما عم الرجل صنو أبيه» «3» رواه الترمذى وقال: حسن صحيح.
وفى قوله: «لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم» الإشارة إلى الإيمان الحقيقى المنجى، وهو التصديق القلبى، وبين المحبة والإيمان ارتباط من جهة أن المحبة ميل القلب إلى المحبوب، والإيمان التصديق القلبى، فيجتمعان فى القلب، وجعلهما متلازمين، فيلزم من نفى أحدهما نفى الآخر، ثم علل هذه المحبة بكونها لله ولرسوله، فلا عبرة بمحبة تكون لغير ذلك، ثم جعل أذاه كأذى نفسه، لأنه عضوه وعصبه، ثم عظم مقامه بتنزيله منزلة الأب، فكما أنه يجب على الولد تعظيم والده والقيام بحقوقه فكذلك عمه، فقال:
«وإنما عم الرجل صنو أبيه» وهو بكسر الصاد المهملة وسكون النون، أى:
مثل أبيه، قال ابن الأثير: وأصله أن تطلع نخلتان من عرق واحد، يريد أن أصل العباس وأصل أبى واحد، انتهى.
وجلله- صلى الله عليه وسلم- وبنيه بكساء ثم قال: «اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبا، اللهم احفظه فى ولده» «4» رواه الترمذى وقال:
__________
(1) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(2) أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس، كما فى «كنز العمال» (33407) .
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3758) فى المناقب، باب: مناقب العباس بن عبد المطلب- رضى الله عنه-، وأحمد فى «المسند» (1/ 207) و (4/ 165) والحديث ضعفه الشيخ الألبانى إلا طرفه الأخير.
(4) حسن: أخرجه الترمذى (3762) فيما سبق، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/689)
حسن غريب. وبين ابن السرى فى روايته: أن بنيه الذين جللوا بالكساء كانوا ستة: الفضل وعبد الله وعبيد الله وقثم ومعبد وعبد الرحمن. قال: وغطاهم بشملة له سوداء مخططة بحمرة وقال: «اللهم إن هؤلاء أهل بيتى وعترتى فاسترهم من النار كسترهم بهذه الشملة» قال: فلم يبق فى البيت مدرة ولا باب إلا أمن.
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لعقيل بن أبى طالب: «إنى أحبك حبين، حبّا لقرابتك منى، وحبّا لما كنت أعلم من حب عمى لك» »
قال الطبرى: أخرجه أبو عمر، والبغوى. وروى الدارقطنى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: «أبو سفيان ابن الحارث خير أهلى، أو من خير أهلى» «2» . وأخرج الحاكم وصححه عن أبى سعيد: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار» «3» .
اعلم أنه قد اشتهر استعمال أربعة ألفاظ يوصفون بها:
الأولى: آله- عليه الصلاة والسلام-.
والثانية: أهل بيته.
والثالثة: ذوو القربى.
والرابعة: عترته.
فأما الأولى: فذهب قوم إلى أنهم هم أهل بيته، وقال آخرون: هم الذين حرمت عليهم الصدقة وعوضوا عنها خمس الخمس، وقال قوم: من دان بدينه وتبعه فيه.
وأما اللفظة الثانية، وهى أهل بيته، فقيل من ناسبه إلى جده الأدنى، وقيل من اجتمع معه فى رحم، وقيل من اتصل به بنسب أو سبب.
__________
(1) أخرجه الحاكم (3/ 667) عن أبى إسحاق مرسلا، وعن حذيفة موصولا.
(2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (22/ 327) ، ولم أجده عند الدارقطنى.
(3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 162) و (4/ 392) .(2/690)
وأما اللفظة الثالثة: وهى ذوو القربى، فروى الواحدى فى تفسيره بسنده عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أمرنا الله تعالى بمودتهم؟ قال: «على وفاطمة وابناهما» .
وأما اللفظة الرابعة: وهى عترته، فقيل العشيرة، وقيل الذرية، فأما العشيرة فهى الأهل الأولون، وأما الذرية: فنسل الرجل، وأولاد بنت الرجل ذريته، ويدل عليه قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ إلى قوله:
وَعِيسى «2» ، ولم يتصل عيسى بإبراهيم إلا من جهة أمه مريم.
فهذه الذرية الطاهرة، قد خصوا بمزايا التشريف، وعموا بواسطة السيدة فاطمة بفضل منيف، وألبسوا رداء الشرف، ومنحوا بمزيد الإكرام والتحف.
وقد وقع الاصطلاح على اختصاصهم من بين ذوى الشرف كالعباسيين والجعافرة بالشطفة الخضراء، لمزيد شرفهم.
والسبب فى ذلك- كما قيل- أن المأمون أراد أن يجعل الخلافة فى بنى فاطمة فاتخذ لهم شعارا وألبسهم ثيابا خضرا- لكون السواد شعار العباسيين، والبياض شعار سائر المسلمين فى جمعهم ونحوها، والأحمر مختلف فى كراهته، والأصفر شعار اليهود باخرة. ثم انثنى عزمه عن ذلك، ورد الخلافة لبنى العباس، فبقى ذلك شعار الأشراف العلويين من الزهراء، لكنهم اختصروا الثياب إلى قطعة من ثوب أخضر توضع على عمائمهم شعارا لهم ثم انقطع ذلك إلى أواخر القرن الثامن.
قال فى حوادث سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة من «أنباء الغمر بأبناء العمر» : وفيها أمر السلطان الأشرف أن يمتازوا عن الناس بعصائب خضر على العمائم، ففعل ذلك بمصر والشام وغيرهما، وفى ذلك يقول الأديب أبو عبد الله بن جابر الأندلسى:
__________
(1) سورة الشورى: 23.
(2) سورة الأنعام: 84، 85.(2/691)
جعلوا لأبناء الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة فى كريم وجوههم ... يغنى الشريف عن الطراز الأخضر
وللأديب شمس الدين الدمشقى- رحمه الله-:
أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر بأعلام على الأشراف
والأشرف السلطان خصهم بها ... شرفا ليفرقهم من الأطراف
والأشرف السلطان هو شعبان بن حسن بن الناصر محمد بن قلاوون.
فى محبة الصحابة:
وأما الصحابة- رضوان الله عليهم-، فقال الله سبحانه وتعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «1» إلى آخر السورة. لما أخبر سبحانه وتعالى أن سيدنا محمدا- صلى الله عليه وسلم- رسوله حقّا من غير شك ولا ريب، قال: محمد رسول الله. وهذا مبتدأ وخبر. وقال البيضاوى وغيره: جملة مبينة للمشهود به، يعنى قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ إلى قوله: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «2» ، قال:
ويجوز أن يكون «رسول الله» صفة، و «محمد» خبر مبتدأ محذوف انتهى.
وهذه الآية مشتملة على كل وصف جميل.
ثم ثنّى بالثناء على أصحابه فقال: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «3» ، كما قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «4» فوصفهم بالشدة والغلظة على الكفار، والرحمة والبر بالأخيار. ثم أثنى عليهم بكثرة الأعمال مع الإخلاص التام، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً «5» ، فمن نظر إليهم أعجبه سمتهم وهداهم، لخلوص نياتهم، وحسن أعمالهم.
__________
(1) سورة الفتح: 29.
(2) سورة الفتح: 28.
(3) سورة الفتح: 29.
(4) سورة المائدة: 54.
(5) سورة الفتح: 29.(2/692)
قال مالك: بلغنى أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: «والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا» وصدقوا، فإن هذا الأمة المحمدية، خصوصا الصحابة، لم يزل ذكرهم معظما فى الكتب، كما قال سبحانه وتعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ «1» أى أفراخه فَآزَرَهُ «2» أى شده وقواه فَاسْتَغْلَظَ «3» شب فطال فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ «4» قوته وغلظه وحسن منظره. فكذلك أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطأ مع الزرع لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «5» .
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك- رحمه الله- فى رواية عنه- تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر، وقد وافقه على ذلك جماعة من العلماء. والأحاديث فى فضائل الصحابة كثيرة، ويكفى ثناء الله عليهم ورضاه عنهم، وقد وعدهم الله مغفرة، وأجرا عظيما، ووعد الله حق وصدق لا يخلف، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. و «من» فى قوله «منهم» لبيان الجنس وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً «6» .
واختلف فى تعريف الصحابى:
فقيل: من صحب النبى- صلى الله عليه وسلم- أو رآه من المسلمين. وإليه ذهب البخارى، وسبقه إليه شيخه ابن المدينى، وعبارته- كما قال شيخنا- من صحب النبى- صلى الله عليه وسلم- أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحابه. انتهى.
وهذا هو الراجح. والتقييد ب «الإسلام» يخرج من صحبه أو رآه من الكفار، ولو اتفق إسلامه بعد موته.
__________
(1) سورة الفتح: 29.
(2) سورة الفتح: 29.
(3) سورة الفتح: 29.
(4) سورة الفتح: 29.
(5) سورة الفتح: 29.
(6) سورة الفتح: 29.(2/693)
لكن يرد على التعريف: من صحبه أو رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك، ولم يعد إلى الإسلام، كعبيد الله بن جحش، فإنه ليس بصحابى اتفاقا، وكذلك ابن خطل، وربيعة بن أمية بن خلف الجمحى وهو ممن أسلم فى الفتح وشهد حجة الوداع وحدث عن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد موته، ثم لحقه الخذلان- والعياذ بالله- فى خلافة عمر فلحق بالروم وتنصر بسبب شىء أغضبه وقد أخرج له الإمام أحمد فى مسنده «1» ، وإخراجه له مشكل ولعله لم يقف على قصة ارتداده، فينبغى أن يزاد فى التعريف: ومات على ذلك.
فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام، لكنه لم يرد النبى- صلى الله عليه وسلم- ثانيا بعد عوده، فالصحيح أنه معدود فى الصحابة، لإطباق المحدثين على عد الأشعث ابن قيس ونحوه ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحاديثهم فى المسانيد.
لكن قال الحافظ زين الدين العراقى: إن فى ذلك نظرا كبيرا، فإن الردة محبطة للعمل عند أبى حنيفة، ونص عليه الشافعى فى الأم، وإن كان الرافعى قد حكى عنه أنها إنما تحيط بشرط اتصالها بالموت، وحينئذ فالظاهر أنها محبطة للصحبة المتقدمة، أما من رجع إلى الإسلام فى حياته- صلى الله عليه وسلم- كعبد الله بن أبى سرح فلا مانع من دخوله فى الصحبة بدخوله الثانى فى الإسلام.
وهل يشترط فى الرائى أن يكون بحيث يميز ما رآه، أو يكتفى بمجرد حصول الرؤية؟ قال الحافظ ابن حجر: محل نظر، وعمل من صنف فى الصحابة يدل على الثانى، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبى بكر الصديق، وإنما ولد قبل وفاة النبى- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أشهر وأيام، كما ثبت أن أمه أسماء بنت عميس ولدته فى حجة الوداع قبل أن تدخل مكة، وذلك فى أواخر ذى القعدة سنة عشرة من الهجرة.
ومنهم من بالغ فكان لا يعد فى الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية. وروى عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد فى الصحابة إلا من أقام
__________
(1) قلت: لم أقف له على رواية فى المسند.(2/694)
مع النبى- صلى الله عليه وسلم- سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فصاعدا. والعمل على خلاف هذا القول. ومنهم من اشترط فى ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغا، وهو مردود أيضا، لأنه يخرج مثل الحسن بن على ونحوه من أحداث الصحابة.
وأما التقييد بالرؤية فالمراد به عند عدم المانع منها، فإن كان كابن أم مكتوم الأعمى فهو صحابى جزما، فالأحسن أن يعبر ب «اللقاء» بدل الرؤية ليدخل فيه ابن أم مكتوم ونحوه.
قال الحافظ زين الدين العراقى: قولهم فمن رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- هل المراد رآه فى حال نبوته، أو أعم من ذلك، حتى يدخل من رآه قبل النبوة ومات قبل النبوة على دين الحنيفية كزيد بن عمرو بن نفيل، فقد قال النبى- صلى الله عليه وسلم-:
«أنه يبعث أمة وحده» «1» ، وقد ذكره فى الصحابة أبو عبد الله بن منده، وكذلك لو رآه قبل النبوة ثم غاب عنه وعاش إلى بعد زمن البعثة، وأسلم ثم مات ولم يره، ولم أر من تعرض لذلك، ويدل على أن المراد: رآه بعد نبوته، أنهم ترجموا فى الصحابة لمن ولد للنبى- صلى الله عليه وسلم- كإبراهيم وعبد الله، ولم يترجموا لمن ولد قبل النبوة ومات قبلها كالقاسم، انتهى.
وهل يختص جميع ذلك ببنى آدم، أم يعم غيرهم من العقلاء؟ محل نظر. أما الجن، فالراجح دخولهم لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعث إليهم قطعا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغى التردد فى ذكره فى الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب على أبى موسى فلم يستند فى ذلك إلى حجة، وأما الملائكة فيتوقف عدهم فى ذلك على ثبوت البعثة إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته، وعكس بعضهم.
وهذا كله فيمن رآه فى قيد الحياة الدنيوية، أما من رآه بعد موته وقبل
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (7/ 2) عن جابر وقال: رواه أبو يعلى وفيه مجالد، وهذا مما مدح من حديث مجالد، وبقية رجاله رجال الصحيح.(2/695)
دفنه «1» فالراجح أنه ليس صحابيّا، وإلا لعد من اتفق أنه رأى جسده المكرم وهو فى قبره المعظم، ولو فى هذه الأعصار، وكذلك من كشف له من الأولياء عنه- صلى الله عليه وسلم- فرآه كذلك على طريق الكرامة كما قدمت مباحث فى خصوصياته- صلى الله عليه وسلم- من المقصد الرابع، إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذا الحياة ليست دنيوية، وإنما هى أخروية لا تتعلق بها أحكام الدنيا، وأما من رآه فى المنام، وإن كان قد رآه حقّا. فذلك فيما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فلذلك لا يعد صحابيّا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به فى تلك الحالة.
وقد أجمع جمهور العلماء من السلف والخلف على أنهم خير خلق الله، وأفضلهم بعد النبيين وخواص الملائكة المقربين، لما روى البخارى من حديث عبد الله أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «2» وله من حديث عمران بن حصين «خير أمتى قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدرى أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا «3» .
قال فى فتح البارى: والقرن أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا فى أمر من الأمور المقصودة، ويطلق على مدة من الزمان، واختلفوا فى تحديدها، من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين، لكن لم أر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل، وقال صاحب المحكم: هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال. والمراد بقرن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الحديث الصحابة، وتقدم فى أول المقصد الأول حديث «بعثت من خير قرون بنى آدم» «4» وفى رواية بريدة عند أحمد «خير هذه الأمة القرن الذى بعثت فيهم» «5» .
__________
(1) كما وقع لأبى ذؤيب الهذلى مثلا.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) صحيح: وقد تقدم.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3557) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(5) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 357) .(2/696)
وقد ضبط الأئمة من الحفاظ آخر من مات من الصحابة على الإطلاق بلا خلاف أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثى، كما جزم به مسلم، وكان موته سنة مائة على الصحيح، وقيل سنة سبع ومائة، وقيل سنة عشر ومائة، وهو الذى صححه الذهبى، وهو مطابق لقوله- صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته بشهر-: «على رأسه مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد» . وفى رواية مسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه ليس من نفس منفوسة تأتى عليها مائة سنة» «1» .
وأما ما ذكر أن عكراش بن ذؤيب عاش بعد يوم الجمل مائة سنة فذلك غير صحيح، وإن صح فمعناه أنه استكمل المائة بعد الجمل، لا أنه بقى بعدها مائة سنة، كما نص عليه الأئمة. وأما ما ذكر أيضا من أمر «بابارتن» «2» ونحوه فإن ذلك لا يروج على من له أدنى مسكة من العقل، كما قاله الأئمة.
وأما آخر الصحابة موتا بالإضافة إلى النواحى فقد أفردهم ابن منده.
وأما قوله: «ثم الذين يلونهم» فهم أهل القرن الذين بعدهم، وهم التابعون، ثم الذين يلونهم وهم أتباع التابعين. واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين. لكن هل هذه الفضيلة بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟
والذى ذهب إليه ابن عبد البر هو الأول، كما قدمت ذلك فى خصائص هذه الأمة من المقصد الرابع، واحتج لذلك- سوى ما تقدم- بحديث «مثل أمتى مثل المطر، لا يدرى آخره خير أم أوله» «3» قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث حسن، له طرق وقد يرتقى بها إلى درجة الصحة.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2537) فى فضائل الصحابة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تأتى مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم» من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) قاله الذهبى فى تجريده: رتن الهندى شيخ ظهر بعد الستمائة بالمشرق وادعى الصحبة، فسمع منه الجهلة، أو لا وجود له، بل اختلق اسمه بعض الكذابين، وإنما ذكرته تعجبا.
(3) صحيح: أخرجه أحمد والترمذى عن أنس وأحمد عن عمار، وأبو يعلى عن على، والطبرانى عن ابن عمر وابن عمرو، كما فى «صحيح الجامع» (5854) .(2/697)
وقد روى ابن أبى شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير- أحد التابعين- بإسناد حسن قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير، ثلاثا، ولن يخزى الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها» «1» .
وروى أبو داود والترمذى من حديث أبى ثعلبة- رفعه-: «تأتى أيام للعامل فيها أجر خمسين» ، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: «بل منكم» «2» وهو شاهد لحديث «مثل أمتى مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» لكن حديث «للعامل منهم أجر خمسين منكم» لا يدل على أفضلية غير الصحابة، لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضا:
الأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله فى ذلك العمل.
فأما ما فاز به من شاهد النبى- صلى الله عليه وسلم- من فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها أحد، ولا ريب أن من قاتل معه أو فى زمانه بأمره، أو أنفق شيئا من ماله بسببه، لا يعدله أحد فى الفضل بعده كائنا من كان، قال الله تعالى:
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا «3» ، وكذلك من ضبط الشرع المتلقى عنه وبلغه لمن بعده.
فمحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، وقد ظهر أنه فاز بما لم يفز به من لم يحصل له ذلك. وبهذا يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة.
ثم إن الصحابة على ثلاثة أصناف: الأول: المهاجرون، الثانى: الأنصار
__________
(1) مرسل: أخرجه ابن أبى شيبة فى مصنفه (4/ 206) و (7/ 414) .
(2) أخرجه أبو داود (4341) فى الملاحم، باب: الأمر والنهى، والترمذى (3058) فى التفسير، باب: ومن سورة المائدة، وابن ماجه (4041) فى الفتن، باب: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ من حديث أبى ثعلبة الخشنى- رضى الله عنه-.
(3) سورة الحديد: 10.(2/698)
وهم الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومواليهم، الثالث: من أسلم يوم الفتح.
قال ابن الأثير فى «الجامع» : والمهاجرون أفضل من الأنصار، وهذا على سبيل الإجمال، وأما على سبيل التفصيل، فإن جماعة من سباق الأنصار أفضل من جماعة من متأخرى المهاجرين وإنما سباق المهاجرين أفضل من سباق الأنصار، ثم هم بعد ذلك متفاوتون، فرب متأخر فى الإسلام أفضل من متقدم عليه، مثل عمر بن الخطاب وبلال بن رباح.
[طبقات الصحابة]
وقد ذكر العلماء للصحابة ترتيبا على طبقات، وممن قسمهم كذلك الحاكم فى «علوم الحديث» .
الطبقة الأولى: قوم أسلموا بمكة أول البعث،
وهم سباق المسلمين، مثل: خديجة بنت خويلد، وعلى بن أبى طالب، وأبى بكر الصديق، وزيد ابن حارثة، وبقية العشرة، وقد تقدم الخلاف فى أول من أسلم فى المقصد الأول.
الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة،
بعد إسلام عمر بن الخطاب حمل النبى- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين إلى دار الندوة، فأسلم لذلك جماعة من أهل مكة.
الطبقة الثالثة: الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم
من أذى المشركين أهل مكة، منهم: جعفر بن أبى طالب، وأبو سلمة بن عبد الأسد.
الطبقة الرابعة: أصحاب العقبة الأولى،
وهم سباق الأنصار إلى الإسلام، وكانوا ستة، وأصحاب العقبة الثانية من العام المقبل، وكانوا اثنى عشر، وقد قدمت أسماء أهل العقبتين فى المقصد الأول.
الطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثالثة،
وكانوا سبعين من الأنصار، منهم: البراء بن معرور، وعبد الله بن حرام، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة.(2/699)
الطبقة السادسة: المهاجرون
الذين وصلوا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته وهو بقباء قبل أن يا بنى المسجد وينتقل إلى المدينة.
الطبقة السابعة: أهل بدر الكبرى.
قال- صلى الله عليه وسلم- لعمر فى قصة حاطب ابن أبى بلتعة: «وما يدريك، لعل الله اطلع على هذه العصابة من أهل بدر فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1» رواه مسلم.
الطبقة الثامنة: الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان
الذين بايعوا بالحديبية تحت الشجرة، قال- صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد» «2» رواه مسلم.
الطبقة العاشرة: الذين هاجروا بعد الحديبية
وقبل الفتح، كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومثل بعضهم بأبى هريرة لكن قال الحافظ العراقى، لا يصح التمثيل به، فإنه هاجر قبل الحديبية، عقيب خيبر بل فى أواخرها.
الطبقة الحادية عشر: الذين أسلموا يوم الفتح،
وهم خلق كثير، فمنهم من أسلم طائعا، ومنهم من أسلم كارها ثم حسن إسلام بعضهم، والله أعلم بهم.
الطبقة الثانية عشر: صبيان أدركوا النبى- صلى الله عليه وسلم- ورأوه عام الفتح وبعده
فى حجة الوداع وغيرهما، كالسائب بن يزيد. ثم انقطعت الهجرة بعد الفتح على الصحيح من الأقوال.
وأما عدة أصحابه- صلى الله عليه وسلم-، فمن رام حصر ذلك رام أمرا بعيدا، ولا
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3007) فى الجهاد والسير، باب: الجاسوس، ومسلم (2494) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر- رضى الله عنهم-، من حديث على- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2496) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان- رضى الله عنهم-، من حديث أم مبشر- رضى الله عنها-.(2/700)
يعلم حقيقة ذلك إلا الله تعالى، لكثرة من أسلم من أول البعثة إلى أن مات النبى- صلى الله عليه وسلم-، وتفرقهم فى البلدان والبوادى. وقد روى البخارى أن كعب بن مالك قال فى قصة تخلفه عن غزوة تبوك: وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كثير لا يجمعهم كتاب حافظ «1» ، يعنى الديوان، لكن قد جاء ضبطهم فى بعض مشاهده كتبوك.
وقد روى أنه سار عام الفتح فى عشرة آلاف من المقاتلة، وإلى حنين فى اثنى عشر ألفا، وإلى حجة الوداع فى تسعين ألفا، وإلى تبوك فى سبعين ألفا، وقد روى أنه قبض عن مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، والله أعلم بحقيقة ذلك.
ثم إن أفضلهم على الإطلاق عند أهل السنة إجماعا أبو بكر ثم عمر- رضى الله عنهما-. عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس فى زمان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان»
. رواه البخارى. وفى رواية عبيد الله بن عمر عن نافع: كنا فى زمان النبى- صلى الله عليه وسلم- لا نعدل بأبى بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- فلا نفاضل بينهم «3» . رواه البخارى أيضا. وقوله: «لا نعدل بأبى بكر أحدا» أى لا نجعل له مثيلا.
ولأبى داود من طريق سالم عن ابن عمر: كنا نقول- ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- حى-: أفضل أمة النبى- صلى الله عليه وسلم- بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان «4» .
زاد الطبرانى فى رواية: فيسمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك فلا ينكره.
وروى خيثمة بن سليمان فى «فضائل الصحابة» من طريق سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن ابن عمر: كنا نقول: إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان
__________
(1) صحيح: وقصة كعب أخرجها البخارى (4418) فى المغازى، باب: حديث كعب بن مالك، ومسلم (2769) فى التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3655) فى فضائل الصحابة، باب: فضل أبى بكر بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3697) فى المناقب، باب: مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4627 و 4628) فى السنة، باب: فى التفضيل.(2/701)
استوى الناس، فيسمع النبى- صلى الله عليه وسلم- ذلك فلا ينكره. وفى ذلك تقديم عثمان بعد أبى بكر وعمر. وأهل السنة على أن عليّا بعد عثمان. وذهب بعض السلف إلى تقديم على على عثمان. وممن قال به سفيان الثورى.
وقيل: لا يفضل أحدهما على الآخر، ونقل ذلك عن مالك فى المدونة، وتبعه جماعة منهم يحيى بن القطان. وقال ابن معين: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وعرف على سابقته وفضله فهو صاحب سنة، ولا شك أن من اقتصر على عثمان ولم يعرف لعلى فضله فهو مذموم.
وقد ادعى ابن عبد البر أن حديث الاقتصار على الثلاثة: أبى بكر وعمر وعثمان خلاف قول أهل السنة أن عليّا أفضل الناس بعد الثلاثة. وتعقب:
بأنه لا يلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله عدم تفضيله، فالمقطوع به عند أهل السنة: القول بأفضلية أبى بكر ثم عمر ثم اختلفوا فيمن بعدهما، فالجمهور على تقديم عثمان، وعن مالك الوقف، والمسألة اجتهادية، ومستندها أن هؤلاء الأربعة اختارهم الله لخلافة نبيه، وإقامة دينه، فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم فى الخلافة.
وقال الإمام أبو منصور البغدادى: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة تمام العشرة، يعنى: طلحة والزبير وسعدا وسعيدا وعبد الرحمن بن عوف وأبى عبيدة عامر بن الجراح.
وقد روى الترمذى عن سعيد بن زيد أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«عشرة فى الجنة، أبو بكر فى الجنة، وعمر فى الجنة، وعثمان فى الجنة، وعلى والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبى وقاص» فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر، فقال له القوم ننشدك الله، من العاشر؟ فقال: نشدتمونى بالله، سعيد بن زيد فى الجنة، يعنى نفسه «1» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4649) فى السنة، باب: فى الخلفاء، والترمذى (3748) فى المناقب، باب: مناقب عبد الرحمن بن عوف الزهرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/702)
وعن أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-، أنه خرج إلى المسجد، فسأل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: وجه هاهنا، فخرجت فى أثره حتى دخل بئر أريس «1» ، فجلست عند الباب، وبابها من جريد، حتى قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاجته، فتوضأ فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسط قفها، فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بوابا للنبى- صلى الله عليه وسلم- اليوم، فجاء أبو بكر، فدفع الباب فقلت من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت على رسلك ثم ذهبت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: هذا أبو بكر يستأذن، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» ، فأقبلت حتى قلت لأبى بكر: ادخل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معه فى القف ودلى رجليه فى البئر كما صنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست، وقد تركت أخى يتوضأ ويلحقنى، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا- يريد أخاه- يأت به، فإذا بإنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟
قال: عمر بن الخطاب، فقلت على رسلك، ثم جئت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» ، فقلت:
ادخل وبشرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالجنة، فجلس مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى القف عن يساره ودلى رجليه فى البئر، فرجعت وقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت على رسلك، وجئت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» ، فجئت فقلت: ادخل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبشرك بالجنة على بلوى تصيبك، فدخل فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاهه من الصف الآخر «2» . قال شريك: قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم.
رواه أحمد ومسلم وأبو حاتم وأخرجه البخارى.
__________
(1) بئر معروفة بالمدينة.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3674) فى المناقب، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2403) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان- رضى الله عنه-.(2/703)
وأخرج أبو داود نحوه عن أبى سلمة عن نافع بن عبد الحارث الخزاعى قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حائطا من حوائط المدينة، فقال لبلال: «أمسك على الباب» ، فجاء أبو بكر فاستأذن. فذكر نحوه «1» . قال الطبرانى: وفى حديث أن نافع بن الحارث هو الذى كان يستأذن. وهذا يدل على تكرر القصة، لكن صوب الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر عدم التعدد، وأنها، عن أبى موسى، ووهّم القول بغيره. وأنشد لنفسه:
لقد بشر الهادى من الصحب زمرة ... بجنات عدن كلهم فضله اشتهر
سعيد زبير سعد طلحة عامر ... أبو بكر عثمان ابن عوف على عمر
ولأبى الوليد بن [الشحنة] :
أسماء عشر رسول الله بشرهم ... بجنة الخلد عمن زانها وعمر
سعد سعيد على عثمان طلحة بو ... بكر ابن عوف ابن جراح الزبير عمر
فإن قلت: من اعتقد فى الخلفاء الأربعة الأفضلية على الترتيب المعلوم، ولكن محبته لبعضهم تكون أكثر، هل يكون آثما أم لا؟
فأجاب شيخ الإسلام الولى بن العراقى: أن المحبة قد تكون لأمر دينى، وقد تكن لأمر دنيوى، فالمحبة الدينية لازمة للأفضلية، فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر، فمتى اعتقدنا فى واحد منهم أنه أفضل ثم أحببنا غيره من جهة الدين أكثر كان تناقضا، نعم إن أحببنا غير الأفضل أكثر من محبة الأفضل لأمر دنيوى كقرابة وإحسان فلا تناقض فى ذلك ولا امتناع، فمن اعترف بأن أفضل الأمة بعد نبيها- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على، لكنه أحب عليّا أكثر من أبى بكر مثلا، فإن كانت المحبة المذكورة محبة دينية فلا معنى لذلك، إذ المحبة الدينية لازمة للأفضلية كما قررناه، وهذا لم يعترف بأفضلية أبى بكر إلا بلسانه، وأما بقلبه فهو مفضل لعلى لكونه أحبه
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (5188) فى الأدب، باب: الرجل يدق الباب ولا يسلم، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» حسن الإسناد.(2/704)
محبة دينية زائدة على محبة أبى بكر، وهذا لا يجوز، وإن كانت المحبة المذكورة محبة دنيوية لكونه من ذرية على أو لغير ذلك من المعانى فلا امتناع والله أعلم. انتهى.
وقد روى الطبرى فى «الرياض» وعزاه للملاء فى «سيرته» عن أنس مرفوعا، «إن الله افترض عليكم حب أبى بكر وعمر وعثمان وعلى كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج، فمن أنكر فضلهم فلا تقبل منه الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج» .
وأخرج الحافظ السلفى فى «مشيخته» من حديث أنس مرفوعا: «حب أبى بكر واجب على أمتى» .
وأخرج الأنصارى عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أبا بكر، ليت أنى لقيت إخوانى» فقال أبو بكر: يا رسول الله، نحن إخوانك، قال: «لا، أنتم أصحابى، إخوانى الذين لم يرونى، وصدقوا بى وأحبونى، حتى إنى لأحب إلى أحدهم من ولده ووالده» ، قالوا: يا رسول الله، أما نحن إخوانك؟ قال:
«لا، بل أنتم أصحابى، ألا تحب يا أبا بكر قوما أحبوك بحبى إياك؟» قال:
فأحبهم ما أحبوك بحبى إياك.
فمحبة من أحبه الرسول- صلى الله عليه وسلم- كال بيته وأصحابه- رضى الله عنهم- علامة على محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كما أن محبته- صلى الله عليه وسلم- علامة على محبة الله تعالى، وكذلك عداوة من عاداهم وبغض من أبغضهم وسبهم. فمن أحب شيئا أحب من يحب، وأبغض من يبغض، قال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» فحب آل بيته- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأولاده وأزواجه من الواجبات المتعينات، وبغضهم من الموبقات المهلكات.
ومن محبتهم وجوب توقيرهم، وبرهم والقيام بحقوقهم، والاقتداء بهم بأن يمشى على سنتهم وآدابهم وأخلاقهم، والعمل بأقوالهم مما ليس للعقل فيه
__________
(1) سورة المجادلة: 22.(2/705)
مجال، وحسن الثناء عليهم بأن يذكروا بأوصافهم الجميلة على قصد التعظيم.
فقد أثنى الله تعالى عليهم فى كتابه المجيد، ومن أثنى الله عليه فهو واجب الثناء، والاستغفار لهم، قالت عائشة: (أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسبوهم) «1» رواه مسلم. وفائدة المستغفر لهم عائدة عليه. قال سهل بن عبد الله التسترى: لم يؤمن بالرسول- صلى الله عليه وسلم- من لم يوقر أصحابه ولم يعزّ أوامره.
ومما يجب أيضا: الإمساك عما شجر بينهم، أى وقع بينهم من الاختلاف، والإضراب عن أخبار المؤرخين وجهلة الرواة، وضلال الشيعة والمبتدعين، القادحة فى أحد منهم، قال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا ذكر أصحابى فأمسكوا» «2» ، وأن يلتمس لهم مما نقل من ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصوب المخارج، إذ هم أهل ذلك كما هو فى مناقبهم، ومعدود من ماثرهم، مما يطول إيراد بعضه.
وما وقع بينهم من المنازعات والمحاربات فله محامل وتأويلات، فسبهم والطعن فيهم إذا كان مما يخالف الأدلة القطعية كفر، كقذف عائشة- رضى الله عنها-، وإلا فبدعة وفسق. قال- صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس احفظونى فى أختانى وأصهارى وأصحابى، لا يطالبنكم الله بمظلمة أحد منهم، فإنها ليست مما يوهب» «3» . رواه الخلعى.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «الله الله فى أصحابى، لا تتخذوهم غرضا من بعدى، من أحبهم فقد أحبنى، ومن أبغضهم فقد أبغضنى، ومن آذاهم فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه الله» «4» رواه المخلص
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (3022) فى التفسير.
(2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (2/ 96) عن ثوبان، و (10/ 198) عن ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(3) انظره فى «كنز العمال» (32536) .
(4) ضعيف: أخرجه الترمذى (3862) فى المناقب، باب: فيمن سب أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (4/ 87) و (5/ 54 و 57) ، من حديث عبد الله بن مغافل- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(2/706)
الذهبى. [أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن الذهبى] . وهذا الحديث- كما قال بعضهم- خرج مخرج الوصية بأصحابه على طريق التأكيد والترغيب فى حبهم، والترهيب عن بغضهم. وفيه إشارة إلى أن حبهم من الإيمان، وبغضهم كفر، لأنه إذا كان بغضهم بغضا له كان كفرا بلا نزاع، للحديث السابق «لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» «1» .
وهذا يدل على كمال قربهم منه بتنزيلهم منزلة نفسه، حتى كأن أذاهم واقع عليه وواصل إليه- صلى الله عليه وسلم-. و «الغرض» : الهدف الذى يرمى فيه. فهو نهى عن رميهم مؤكدا ذلك بتحذيرهم الله منه، وما ذاك إلا لشدة الحرمة.
وروى مرفوعا: «من سب أحدا من أصحابى فاجلدوه» «2» . خرجه تمام فى فوائده. وقال مالك بن أنس وغيره- فيما ذكره القاضى عياض-: من أبغض الصحابة فليس له فى فىء المسلمين حق. قال: ونزع باية الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ «3» الآية. وقال: من غاظه أصحاب محمد فهو كافر، قال الله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «4» والله أعلم.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) موضوع: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 260) عن على وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط عن شيخه عبيد الله بن محمد العمرى، رماه النسائى بالكذب، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (5616) موضوع.
(3) سورة الحشر: 10.
(4) سورة الفتح: 29.(2/707)
فهرس المحتويات
الموضوع الصفحة المقصد الثالث الفصل الأول فى كمال خلقته وجمال صورته- صلى الله عليه وسلم- وشرفه وكرمه 5
الفصل الثانى فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية 10
الفصل الثالث فيما تدعو ضرورته إليه- صلى الله عليه وسلم- من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق ذلك وفيه أربعة أنواع 142
النوع الأول فى عيشه- صلى الله عليه وسلم- فى المأكل والمشرب 142
النوع الثانى فى لباسه- صلى الله عليه وسلم- وفراشه 183
النوع الثالث فى سيرته- صلى الله عليه وسلم- فى نكاحه 220
النوع الرابع فى نومه- صلى الله عليه وسلم- 227
المقصد الرابع الفصل الأول فى معجزاته- صلى الله عليه وسلم- 235(2/709)
تعريف المعجزة بالدليل 235
حديث القصعة 295
الفصل الثانى فيما خصّه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات 301
المقصد الخامس الإسراء والمعراج 426
المقصد السادس فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره- صلى الله عليه وسلم- 507
النوع الأول فى آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلته 508
النوع الثانى فى أخذ الله الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه 528
النوع الثالث فى وصفه له- صلى الله عليه وسلم- بالشهادة وشهادته له بالرسالة 531
النوع الرابع فى التنويه به- صلى الله عليه وسلم- فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل 547
النوع الخامس فى آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه(2/710)
من آياته وعلو رتبته الشريفة ومكانته 556
الفصل الأول فى قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم 557
الفصل الثانى فى قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلى لديه 559
الفصل الثالث فى قسمه تعالى على تصديقه فيما أوتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى فى خطابه 561
الفصل الرابع فى قسمه تعالى على تحقيق رسالته 570
الفصل الخامس فى قسمه تعالى بمدة حياته- صلى الله عليه وسلم- وعصره وبلده 572
النوع السادس فى وصفه تعالى له- صلى الله عليه وسلم- بالنور والسراج المنير 576
النوع السابع فى آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته 580
النوع الثامن فيما يتضمن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- 586
النوع التاسع فى آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه- صلى الله عليه وسلم- ترفيعا لشأنه 589(2/711)
النوع العاشر فى إزالة الشبهات عن آيات وردت فى حقه- صلى الله عليه وسلم- متشابهات 593
المقصد السابع الفصل الأول فى وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته- صلى الله عليه وسلم- 612
الفصل الثانى فى حكم الصلاة عليه والتسليم فريضة وسنة وفضيلة وصفة ومحلّا 648
الفصل الثالث فى ذكر محبة أصحابه- صلى الله عليه وسلم- وآله وقرابته وأهل بيته وذريته 678
فهرس الكتاب 709(2/712)
الجزء الثالث
المقصد الثامن فى طبه ص لذوى الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات
اعلم أنه لا سبيل لأحد إلى الإحاطة بنقطة من بحار معارفه، أو قطرة مما أفاضه الله تعالى عليه من سحائب عوارفه، وأنت إذا تأملت ما منحه الله تعالى به من جوامع الكلم، وخصه به من بدائع الحكم، وحسن سيره، وحكم حديثه، وإنبائه بأنباء القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى مع الخضر، ويوسف مع إخوته، وأصحاب الكهف، وذى القرنين، وأشباه ذلك، وبدء الخلق، وأخبار الدار الآخرة، وما فى التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، وإظهار أحوال الأنبياء وأممهم، وأسرار علومهم ومستودعات سيرهم، وإعلامهم بمكتوم شرائعهم، ومضمنات كتبهم وغير ذلك مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك فضلا عما أفاضه من العلم ومحاسن الآداب والشيم «1» ، والمواعظ والحكم، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والرد على فرق الأمم ببراهين الأدلة الواضحات، والإشارة إلى فنون العلوم التى اتخذ أهلها كلامه فيها قدوة، وإشاراته حجة، كاللغة والمعانى والعربية، وقوانين الأحكام الشرعية والسياسات العقلية، ومعارف عوارف الحقائق القلبية، إلى غير ذلك من ضروب العلوم، وفنون المعارف الشاملة لمصالح أمته، كالطب والعبارة «2» والحساب وغير ذلك مما لا يعد ولا يحد ... قضيت بإن مجال هذا الباب فى حقه- صلى الله عليه وسلم- ممتد، تنقطع دون نفاده الأدلاء، وإن بحر علمه ومعارفه زاخر لا تكدره الدلاء. وهذا المقصد- أعزك الله- يشتمل على ثلاثة فصول:
__________
(1) الشيم: الخلق، والشيمة: الطبيعة.
(2) كذا بالأصل: ولعلها العمارة.(3/3)
الفصل الأول فى طبه صلّى الله عليه وسلم لذوى الأمراض والعاهات
اعلم أنه قد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يعود من مرض من أصحابه، حتى لقد عاد غلاما كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمه وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام، فأسلم الأول وكان يهوديّا، كما روى البخارى وأبو داود من حديث أنس: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبى- صلى الله عليه وسلم- فمرض فعاده- صلى الله عليه وسلم- فقعد عند رأسه، فقال: «أسلم» ، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال:
أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «الحمد لله الذى أنقذه من النار» «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه، ويسأل عن حاله ويقول: «كيف تجدك؟» «2» .
وفى حديث جابر عند البخارى ومسلم والترمذى وأبى داود، قال:
مرضت فأتانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعودنى وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجدانى أغمى على، فتوضأ النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم صب وضوءه على فأفقت، فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعند أبى داود: فنضح فى وجهى فأفقت. وفيه: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال:
«يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا» «3» .
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1356) فى الجنائز، باب: إذا أسلم الصبى، وأبو داود (3095) فى الجنائز، باب: فى عيادة الذمى، وأحمد فى المسند (3/ 175، 257، 260 و 280) .
(2) حسن: أخرجه الترمذى (983) فى الجنائز، باب: رقم (10) ، وابن ماجه (4261) فى الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، وأبو يعلى فى «مسنده» (6/ 57) من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى صحيح سنن ابن ماجه، وهو فى صحيح البخارى (3926) فى فضائل الصحابة، من قول عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2887) فى الفرائض، باب: من كان ليس له ولد وله أخوات، وأحمد فى «المسند» (3/ 372) ، وهو فى الصحيحين بدون هذه الزيادة، والرواية صححها الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/4)
وفى حديث أبى موسى عند البخارى مرفوعا: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العانى» «1» . وعنده من رواية البراء: أمرنا- صلى الله عليه وسلم- بسبع، وذكر منها عيادة المريض «2» وعند مسلم: خمس تجب للمسلم على المسلم، فذكرها منها «3» . قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب، يعنى الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب على التواصل والألفة. وعند الطبرى: يتأكد فى حق من ترجى بركته، ويسن فيمن يراعى حاله، ويباح فيما عدا ذلك. وهو فرض كفاية عند أبى حنيفة، كما قاله أبو الليث السمرقندى «4» فى «مقدمته» .
واستدل بعموم قوله: «عودوا المريض» على مشروعية العيادة فى كل مرض، واستثنى بعضهم: الأرمد، وردّ: بأنه قد جاء فى عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن الأرقم، قال: عادنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من وجع كان بعينى «5» ، رواه أبو داود وصححه الحاكم. وأما ما أخرجه البيهقى والطبرانى مرفوعا: «ثلاثة ليس لهم عيادة، الرمد والدمل والضرس» «6» ،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3046) فى الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، وأبو داود (3105) فى الجنائز، باب: الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة، وأحمد فى «المسند» (4/ 394 و 406) ، وابن حبان فى «صحيحه» (3324) .
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1239) فى الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (2066) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1240) فى الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (2162) فى السلام، باب: حق المسلم للمسلم والسلام، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(4) هو: الإمام الفقيه المحدث الزاهد، أبو الليث، نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندى الحنفى، صاحب كتاب «تنبيه الغافلين» وغير ذلك، توفى سنة 375 هـ.
(5) حسن: أخرجه أبو داود (3102) فى الجنائز، باب: فى العيادة فى الرمد، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 492) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (3/ 381) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 300) عن أبى هريرة وقال: رواه الطبرانى فى «الأوسط» وفيه سلمة بن على الحبشى، وهو ضعيف.(3/5)
فصحح البيهقى أنه موقوف على يحيى بن أبى كثير، ويؤخذ من إطلاقه عدم التقييد بزمان يمضى من ابتداء مرضه. وهو قول الجمهور، وجزم الغزالى فى «الإحياء» : بأنه لا يعاد إلا بعد ليال ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يعود مريضا إلا بعد ثلاثة «1» وهذا حديث ضعيف تفرد به مسلمة بن على، وهو متروك، وقال أبو حاتم هو حديث باطل.
ولا نطيل بإيراد ما ورد فى فضل العيادة، ويكفى حديث أبى هريرة، مما حسنه الترمذى مرفوعا: «من عاد مريضا ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا» «2» وهذا لفظ ابن ماجه. وفى سنن أبى داود عن أنس مرفوعا: «من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبا، بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفا» «3» . وفى حديث أبى سعيد عند ابن حبان فى صحيحه مرفوعا: «خمس من عملهن فى يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضا وشهد جنازة وصام يوما، وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة» «4» . وعند أحمد، عن كعب مرفوعا: من عاد مريضا، خاض فى
__________
(1) موضوع: أخرجه ابن ماجه (1437) فى الجنائز، باب: ما جاء فى عيادة المريض، وقال البوصيرى فى «الزوائد» : فى إسناده سلمة بن على، قال فيه البخارى وأبو حاتم وأبو زرعة: منكر الحديث، ومن منكراته (كان لا يعود مريضا إلا بعد ثلاثة أيام) قال فيه أبو حاتم: هذا منكر باطل وقال ابن عدى: أحاديثه غير محفوظة، واتفقوا على تضعيفه. اهـ. وقال عنه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4499) : موضوع.
(2) حسن: أخرجه الترمذى (2008) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى زيارة الإخوان، وابن ماجه (1443) فى الجنائز، باب: ما جاء فى ثواب من عاد مريضا، وأحمد فى «المسند» (2/ 326 و 344 و 354) ، وابن حبان فى «صحيحه» (2961) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3097) فى الجنائز، باب: فى فضل العيادة على وضوء، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) إسناده قوى: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (2771) ، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.(3/6)
الرحمة، فإذا جلس عنده استنقع فيها «1» . زاد الطبرانى: وإذا قام من عنده فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيث خرج.
ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يخص يوما من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتا من الأوقات، فترك العيادة يوم السبت المخالفة للسنة، ابتدعه يهودى طبيب لملك قد مرض وألزمه بملازمته، فأراد يوم الجمعة أن يمضى لسبته فمنعه، فخاف على استحلال سبته، ومن سفك دمه، فقال: إن المريض لا يدخل عليه يوم السبت، فتركه الملك، ثم أشيع ذلك، وصار كثير من الناس يعتمده، ومن الغريب ما نقله ابن الصلاح عن الفراوى: أن العيادة تستحب فى الشتاء ليلا.
وفى الصيف نهارا، ولعل الحكمة فى ذلك أن المريض يتضرر بطول الليل فى الشتاء، وبطول النهار فى الصيف، فتحصل له بالعيادة استراحة.
وينبغى اجتناب التطبب بأعداء الدين، من يهودى أو نحوه، فإنه مقطوع بغشه سيما إن كان المريض كبيرا فى دينه أو علمه، خصوصا إن كان هذا العدو يهوديّا، لأن قاعدة دينهم: أن من نصح منهم مسلما فقد خرج عن دينه، وأن من استحل السبت فهو مهدر الدم عندهم، حلال لهم سفك دمه، ولا ريب أن من خاطر بنفسه يخشى عليه أن يدخل فى عموم النهى فيمن قتل نفسه بشئ. وقد كثر الضرر فى هذا الزمن بأهل الذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، والله تعالى يرحم القائل:
لعن النصارى واليهود فإنهم ... بلغوا بمكرهم بنا الآمالا
خرجوا أطباء وحسابا لكى ... يتقسموا الأرواح والأموالا»
ومما كان يفعله- صلى الله عليه وسلم- ويأمر به تطييب نفوس المرضى وتقوية قلوبهم،
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 460) ، وهو عنده أيضا (3/ 304) ، وابن حبان فى «صحيحه» (2956) من حديث جابر- رضى الله عنه- بنحوه وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(2) قلت: رحم الله المسلمين الآن، فأين هم من هذه النصائح، وللأسف نجد من بيننا الآن من يدافع عنهم وعن عقائدهم الباطلة ويقربهم إلينا، ويقولون: إن العلم ليس له دين ولا وطن، وقد كذبوا فى قولهم، ولو فاقوا إلى أنفسهم لعرفوا الحق الذى لا مرية فيه.(3/7)
ففى حديث أبى سعيد الخدرى، قال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخلتم على المريض فنفسوا له فى أجله، فإن ذلك يطبب نفسه» «1» ، مثل أن يقول له: لا بأس عليك، طهور إن شاء الله، ووجهك الآن أحسن، وما أشبه ذلك. وقد يكون من هذا أن يذكر له الأجور الداخلة عليه فى مرضه، وأن المرض كفارة، فربما أصلح ذلك قلبه، وأمن من خوف ذلك ونحوه. وقال بعضهم: فى هذا الحديث نوع شريف جدّا من أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذى تقوى به الطبيعة، وتنتعش به القوة، وينبعث به الحار الغريزى، ويساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذى هو غاية تأثير الطبيب.
وفى تفريج نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال السرور عليه تأثير عجيب فى شفاء علته وخفتها، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذى. وقد شاهد الناس كثيرا من المرضى تنتعش قواهم بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم له، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم.
قال فى الهدى «2» : وكان- صلى الله عليه وسلم- يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجد، وعما يشتهيه، فإن اشتهى شيئا وعلم أنه لا يضره أمر له به، ويضع يده على جبهته، وربما وضعها بين ثدييه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه فى علته، وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه، كما فى حديث جابر المتقدم، وربما كان يقول للمريض: لا بأس عليك، طهور إن شاء الله «3» ، وربما كان يقول: كفارة وطهور «4» . وقالت عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا عاد
__________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (2087) فى الطب، باب: رقم (34) ، وابن ماجه (1438) فى الجنائز، باب: ما جاء فى عيادة المريض، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (488) .
(2) يقصد كتاب (زاد المعاد فى هدى خير العباد) للعلامة ابن القيم، فانظره بتحقيقنا، فهو كتاب قيم فى بابه، جامع لأبوابه.
(3) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث صحيح أخرجه البخارى (5656) فى المرضى، باب: عيادة الأعراب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنها-.
(4) شاذ: وقد ورد ذلك فى حديث رواه أحمد بسند رجاله ثقات من حديث أنس- رضى الله عنه-، قال الهيثمى فى «المجمع» (2/ 299) اهـ. قلت: وسياقه هو سياق البخارى السابق إلا فى مقولة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى بها أعللت رواية أنس عند أحمد- رحمه الله-.(3/8)
مريضا يضع يده على المكان الذى يألم ثم يقول: بسم الله «1» . رواه أبو يعلى بسند صحيح. وأخرج الترمذى من حديث أبى أمامة- بسند لين- رفعه: تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته فيسأله كيف هو «2» ، وعند ابن السنى بلفظ: كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟
وإذا علمت هذا، فاعلم أن المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان.
فأما طب القلوب ومعالجتها فخاص بما جاء به الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- عن ربه تعالى، لا سبيل إلى حصوله إلا من جهته، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لرضاه ومحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقى ذلك إلا من جهة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-.
وأما طب الأجساد، فمنه ما جاء فى المنقول عنه- صلى الله عليه وسلم-، ومنه ما جاء عن غيره، لأنه- صلى الله عليه وسلم- إنما بعث هاديا وداعيا إلى الله وإلى جنته، ومعرفا بالله، ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها، ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم، وأخبار تخليق العالم، وأمر المبدأ والمعاد، وكيف شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك.
وأما طب الأجساد فجاء من تكميل شريعته، ومقصودا لغيره، بحيث إنما يستعمل للحاجة إليه، فإذا قدر الاستغناء عنه كان صرف الهمم إلى علاج القلوب وحفظ صحتها، ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بإصلاح الجسد، وإصلاح الجسد بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدّا، وهى مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة.
__________
(1) رجاله موثقون: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 299) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله موثقون.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2731) فى الاستئذان والآداب، باب: ما جاء فى المصافحة، وأحمد فى «المسند» (5/ 259) ، والطبرانى فى «الكبير» (8/ 211) وقال الترمذى: هذا إسناد ليس بالقوى، وهو كما قال.(3/9)
وإذا علمت هذا، فاعلم أن ضرر الذنوب فى القلوب كضرر السموم فى الأبدان، على اختلاف درجاتها فى الضرر. وهل فى الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصى، فللمعاصى من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة بالقلب والبدن والدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله.
فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله فى القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، وللإمام الشافعى- رضى الله عنه-:
شكوت إلى وكيع سوء حفظى ... فأرشدنى إلى ترك المعاصى
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصى
ومنها: حرمان الرزق، ففى المسند: وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه «1» .
ومنها: وحشة يجدها العاصى فى قلبه، بينه وبين الله، لا يوازيها ولا يقاربها لذة.
ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه، أو متعسرا عليه.
ومنها: ظلمة يجدها فى قلبه حقيقة يحس بها، كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع فى البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، ثم تقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سوادا فيه، يراها كل أحد.
ومنها: أنها توهن القلب والبدن.
ومنها: حرمان الطاعة، وتقصير العمر، ومحق البركة، ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب، وقيل: بتأثير المعاصى فى محق العمر إنما
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 277 و 280 و 282) ، وابن حبان فى «صحيحه» (872) من حديث ثوبان- رضى الله عنه-، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن. اهـ. وانظر «ضعيف الجامع» (1452) .(3/10)
هو بأن حقيقة الحياة هى حياة القلب، فليس عمر المرء إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبر والتقوى والطاعات تزيد فى هذه الأوقات التى هى حقيقة عمره، ولا عمر له سواها. وبالجملة: فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصى ضاعت عليه أيام حياته الحقيقة.
ومنها: أن المعصية تورث الذل.
ومنها: أنها تفسد العقل، فإن للعقل نورا، والمعصية تطفئ نور العقل.
ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «1» وقد أحسن القائل:
إذا كنت فى نعمة فارعها ... فإن الذنوب تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد ... فرب العباد سريع النقم
ومن عقوباتها أنها تستجلب مواد هلاك العبد فى دنياه وآخرته، فإن الذنوب هى أمراض متى استحكمت قتلت ولابد، وكما أن البدن لا يكون صحيحا إلا بغذاء يحفظ قوته، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة الأخلاط الرديئة التى متى غلبت عليه أفسدته، وحمية يمتنع بها من تناول من يؤذيه ويخشى ضرره فكذلك القلب، لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته، واستفراغ بالتوبة النصوح يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التى متى غلبت عليه أفسدته، وحمية توجب له حفظ الصحة، وتجنب ما يضادها، وهى عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة، والتقوى اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة، فما فات منها فات من التقوى بقدره.
وإذا تبين هذا فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب المواد المؤذية، وتوجب التخليط المضاد للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح.
__________
(1) سورة الشورى: 30.(3/11)
فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الأخلاط ومواد المرض، وهو لا يستفرغها ولا يحتمى لها، كيف تكون صحته وبقاؤه، وقد أحسن القائل:
جسمك بالحمية حصنته ... مخافة من ألم طارى
وكان أولى بك أن تحتمى ... من المعاصى خشية النار
فمن حفظ القوة بامتثال الأوامر، واستعمل الحمية باجتناب النواهى، واستفرغ التخليط بالتوبة النصوح، لم يدع للخير مطلبا، ولا للشر مهربا، وفى حديث أنس: «ألا أدلكم على دائكم ودوائكم، ألا إن داءكم الذنوب، ودواءكم الاستغفار» «1» . فقد ظهر لك أن طب القلوب ومعالجتها لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بواسطة الوحى.
وأما طب الأجساد فغالبه يرجع إلى التجربة. ثم هو نوعان:
نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر، بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش والبرد والتعب، وهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب.
ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر، كدفع ما يحدث فى البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما حرارة أو برودة، وكل منهما: إما إلى رطوبة أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم الواحد منها بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن، وقد يقع داخله وهو من أعسرهما، والطريق إلى معرفته بتحقيق السبب والعلامة. فالطبيب الحاذق هو الذى يسعى فى تفريق ما يضر بالبدن جمعه، أو عكسه، وفى تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحة. والاحتماء عن المؤذى واستفراغ المادة الفاسدة. وقد أشير إلى الثلاثة فى القرآن:
فالأول: فى قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
__________
(1) ضعيف: أخرجه الديلمى فى مسند الفردوس عن أنس، كما فى «كنز العمال» (2092) .(3/12)
أَيَّامٍ أُخَرَ «1» وذلك أن السفر مظنة النصب، وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر، وكذلك القول فى المرض.
والثانى: وهو الحمية، من قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد «3» ، وقال تعالى فى آية الوضوء: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً
«4» فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهو تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج.
والثالث: من قوله تعالى: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ «5» فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذى منع منه المحرم، لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن فى الرأس تحت الشعر، لأنه إذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذى انحباسه. فقد أرشد تعالى عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده.
وفى الصحيحين من حديث عطاء عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء» «6» . وأخرجه النسائى وابن حبان وصححه الحاكم عن ابن مسعود بلفظ «إن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء
__________
(1) سورة البقرة: 184.
(2) سورة النساء: 29.
(3) كما ورد فى قصة عمرو بن العاص حينما أصبح جنبا وهو فى إحدى الغزوات فخشى من الغسل بالماء البارد فتيمم وصلى بأصحابه، والقصة أخرجها أبو داود (334 و 335) فى الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، وابن حبان فى «صحيحه» (1315) ، وانظر «الإرواء» (154) .
(4) سورة النساء: 43.
(5) سورة البقرة: 196.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (5678) فى الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وابن ماجه (3439) فى الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، والحديث ليس فى مسلم كما قال المصنف- رحمه الله-.(3/13)
فتداووا» «1» وعند أحمد من حديث أنس: «إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا» «2» .
وعند البخارى فى «الأدب المفرد» ، وأحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذى وابن خزيمة والحاكم عن أسامة بن شريك، رفعه: «تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا وهو الهرم» «3» وفى لفظ «إلا السام» - وهو بمهملة مخففة- الموت، يعنى إلا داء الموت، أى المرض الذى قدر على صاحبه الموت فيه واستثنى الهرم فى الرواية الأولى إما لأنه جعله شبيها بالموت، والجامع بينهما نقص الصحة، أو تقربه من الموت وإفضائه إليه، ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا، والتقدير: لكن الهرم لا دواء له.
ولأبى داود، عن أبى الدرداء، رفعه: «إن الله جعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام» «4» . وفى البخارى: إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم «5» ، فلا يجوز التداوى بالحرام.
وروى مسلم عن جابر، مرفوعا: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى فى «الكبرى» (6863- 6865) ، وابن ماجه (3438) فى الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وأحمد فى «المسند» (1/ 377 و 413 و 443 و 446 و 453) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6062 و 6075) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 218) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال.
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 156) بسند صحيح.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (3855) فى الطب، باب: فى الحمية، والترمذى (2038) فى الطب، باب: ما جاء فى الدواء والحث عليه، وابن ماجه (3436) فى الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وأحمد فى «المسند» (4/ 278) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6064) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3874) فى الطب، باب: فى الأدوية المكروهة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(5) ضعيف: أخرجه البخارى (10/ 81) تعليقا فى الأشربة، باب: شراب الحلوى والعسل، عن ابن مسعود من قوله، ونسبه صاحب «الجامع الصغير» للطبرانى فى الكبير عن أم سلمة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1637) : ضعيف.(3/14)
برئ بإذن الله تعالى» «1» . فالشفاء متوقف على إصابة الدواء بالداء بإذن الله تعالى. وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد فى الكيفية أو الكمية فلا ينجح، بل ربما أحدث داء آخر. وفى رواية على عند الحميدى فى كتابه المسمى بطب أهل البيت: ما من داء إلا وله دواء، فإذا كان كذلك بعث الله عز وجل ملكا ومعه ستر فجعله بين الداء والدواء، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء، فإذا أراد برأه أمر الملك فرفع الستر، ثم يشرب المريض الدواء فينفعه الله تعالى به.
وفى حديث ابن مسعود رفعه: «إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله» «2» رواه أبو نعيم وغيره. وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد. وأما قوله «لكل داء دواء» فيجوز أن يكون على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التى لا يمكن طبيب معرفتها، ويكون الله قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليها سبيلا، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله.
ولهذا علق- صلى الله عليه وسلم- الشفاء على مصادفة الدواء للداء، وقد يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من دائه بدوائه فيبرأ، ثم يعتريه بعد ذلك الداء، والدواء بعينه فلا ينجح، والسبب فى ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء، فرب مرضين تشابها، ويكون أحدهما مركبا، لا ينجح فيه ما ينجح فى الذى ليس مركبا، فيقع الخطأ من هناك، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجح، وهنا تخضع رقاب الأطباء.
وفى مجموع ما ذكرناه من الأحاديث الإشارة إلى إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافى التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات، والدعاء بطلب الشفاء ودفع المضار وغير ذلك. وقد سئل الحارث المحاسبى فى كتاب «القصد» من تأليفه: هل يتداوى المتوكل؟
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2204) فى السلام، باب: لكل داء دواء، واستحباب التداوى.
(2) صحيح: حديث ابن مسعود قد تقدم، إلا أن صاحب الجامع الصغير عزاه للحاكم من حديث أبى سعيد، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1809) : صحيح.(3/15)
قال: نعم، قيل له من أين ذلك؟ قال: من وجود ذلك عن سيد المتوكلين، الذى لم يلحقه لا حق، ولا يسبقه فى التوكل سابق، محمد خير البرية- صلى الله عليه وسلم-. قيل له: ما تقول فى خبر النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من استرقى أو اكتوى برئ من التوكل» «1» ؟ قال: برئ من توكل المتوكلين الذين ذكرهم فى حديث آخر فقال: «يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب» «2» ، وأما سواهم من المتوكلين فمباح لهم الدواء والاسترقاء. فجعل المحاسبى التوكل بعضه أفضل من بعض.
وقال فى «التمهيد» : إنما أراد بقوله: «برئ من التوكل» إذا استرقى الرقى المكروهة فى الشريعة، أو اكتوى وهو يعلق رغبته فى الشفاء بوجود الكى، وكذلك قوله «لا يسترقون» الرقى المخالفة للشريعة، «لا يكتوون» وقلوبهم معلقة بنفع الكى ومعرضة عن فعل الله تعالى وأن الشفاء من عنده.
وأما إذا فعل ذلك على ما جاء فى الشريعة، وكان ناظرا إلي رب الدواء، وتوقع الشفاء من الله تعالى، وقصد بذلك استعمال بدنه إذا صح لله تعالى، وإتعاب نفسه وكدها فى خدمة ربه، فتوكله باق على حاله لا ينقص منه الدواء شيئا، استدلالا بفعل سيد المتوكلين إذ عمل بذلك فى نفسه وفى غيره انتهى.
فقد تبين أن التداوى لا ينافى التوكل، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نصبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح فى نفس التوكل، كما يقدح فى الأمر والحكمة.
__________
(1) أخرجه الترمذى (2055) فى الطب، باب: ما جاء فى كراهية الرقية، وابن ماجه (3489) فى الطب، باب: الكى، وأحمد فى «المسند» (4/ 249 و 253) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6087) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6081) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوي أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، ومسلم (220) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/16)
وحكى ابن القيم: أنه ورد فى خبر إسرائيلى، أن الخليل- عليه الصلاة والسلام- قال: يا رب ممن الداء؟ قال: منى، قال: فممن الدواء؟ قال: منى.
قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أرسل الدواء على يديه. قال: وفى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لكل داء دواء» تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء، والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء، وبرد من حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، وقويت نفسه وانبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التى هى حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته. انتهى.
فإن قلت: ما المراد بالإنزال فى قوله فى الأحاديث السابقة «إلا أنزل له دواء» وفى الرواية الآخرى «شفاء» فالجواب: أنه يحتمل أن يكون عبر بالإنزال عن التقدير، ويحتمل أن يكون المراد إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبى- صلى الله عليه وسلم-.
وأين يقع طب حذاق الأطباء، الذى غايته أن يكون مأخوذا من قياس أو مقدمات وحدس وتجربة، من الوحى الذى يوحيه الله تعالى إلى رسوله- صلى الله عليه وسلم- بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عند حذاق الأطباء من الطب إلى هذا الوحى كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاء به- صلى الله عليه وسلم-. بل هاهنا من الأدوية التى تشفى من الأمراض ما لم تهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجربتهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله تعالى والتوكل عليه والانكسار بين يديه، والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق والتفريج عن المكروب.
فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، وقد جربت ذلك- والله- مرات، فوجدته يفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية.(3/17)
ولا ريب أن طب النبى- صلى الله عليه وسلم- متيقن البرء، لصدوره عن الوحى ومشكاة النبوة، وطب غيره أكثره حدس وتجربة، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل، من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول. وأظهر الأمثلة فى ذلك القرآن، الذى هو شفاء لما فى الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره به لقصوره فى الاعتقاد والتلقى بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسا إلى رجسه، ومرضا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، والقلوب الحية.
فإعراض الناس عن طب النبوة لإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الكريم الذى هو الشفاء النافع. وكان علاجه- صلى الله عليه وسلم- للمريض على ثلاثة أنواع:
أحدها: بالأدوية الإلهية الروحانية. والثانى: بالأدوية الطبيعية.
والثالث: بالمركب من الأمرين.
النوع الأول فى طبه ص بالأدوية الإلهية
اعلم أن الله تعالى لم ينزل من السماء شفاء قط أعم- ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع فى إزالة الداء- من القرآن، فهو للداء شفاء، ولصدأ القلوب جلاء، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «1» .
ولفظه «من» - كما قال الإمام فخر الدين «2» - ليست للتبعيض بل للجنس، والمعنى: وننزل من هذا الجنس الذى هو القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر، وذلك لأن المرض الروحانى نوعان:
__________
(1) سورة الإسراء: 82.
(2) هو: الإمام العلامة، فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشى البكرى الطبرستانى الأصولى المفسر كبير الأذكياء والحكماء المصنفين، إلا أنه بدت له فى تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفى على طريقة حميدة، له التفسير الكبير، وغير ذلك، مات بهراة سنة 606 هـ، وله بضع وستون سنة.(3/18)
الاعتقادات الباطلة: وأشدها فسادا الاعتقادات الفاسدة فى الإلهية والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق فى هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة. ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ فى هذه المطالب، والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة فى هذه المذاهب الباطلة من العيوب لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحانى.
وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريفها وما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض. فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته ينفع كثيرا من الأمراض. وإذا اعتبر الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التى لا يفهم منها شئ آثارا عظيمة فى تحصيل المنافع ودفع المفاسد، أفلا تكون قراءة القرآن العظيم المشتمل على ذكر جلال الله تعالى وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع فى الدين والدنيا.
ويتأيد ما ذكرناه بما روى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» «1» ونقل عن الشيخ أبى القاسم القشيرى- رحمه الله- أن ولده مرض مرضا شديدا حتى أشرف على الموت، فاشتد عليه الأمر، قال: فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام فشكوت إليه ما بولدى فقال: أين أنت من آيات الشفاء؟ فانتبهت فأفكرت فيها فإذا هى فى ستة مواضع من كتاب الله، وهى قوله تعالى:
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ «2» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «الأفراد» عن أبى هريرة، كما فى «كنز العمال» (28106) .
(2) سورة التوبة: 14.(3/19)
وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «1» .
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «2» .
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «3» .
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» .
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ «5» .
قال: فكتبتها ثم حللتها بالماء وسقيته إياها فكأنما نشط من عقال، أو كما قال: وانظر رقية اللديغ ب «الفاتحة» وما فيها من السر البديع والبرهان الرفيع. وتأمل قوله- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أدعيته: «وأن تجعل القرآن ربيع قلبى وجلاء حزنى، وشفاء صدرى» «6» فيكون له بمنزلة الدواء الذى يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله. وفى حديث عند ابن ماجه مرفوعا:
«خير الدواء القرآن» «7» .
وها هنا أمر ينبغى أن يتفطن له، نبه عليه ابن القيم: وهو أن الآيات والأذكار والأدعية التى يستشفى بها، ويرقى بها، هى فى نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعى قبول المحل، وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء
__________
(1) سورة يونس: 57.
(2) سورة النحل: 69.
(3) سورة الإسراء: 82.
(4) سورة الشعراء: 80.
(5) سورة فصلت: 44.
(6) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 391 و 452) ، وابن حبان فى «صحيحه» (972) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 690) ، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه، فإنه مختلف فى سماعه عن أبيه. ا. هـ. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(7) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3501 و 3533) فى الطب، باب: الاستشفاء بالقرآن، من حديث على- رضى الله عنه-، وقال البوصيرى فى «الزوائد» : فى إسناده الحارث الأعور، وهو ضعيف، وكذا ضعفه الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2885) .(3/20)
كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المحل المنفعل، أو لمانع قوى فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك فى الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون المانع قوى يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان الدواء فى نفس فعالة، وهمة مؤثرة أثر فى إزالة الداء.
وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب فى رفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه فى نفسه بأن يكون دعاء لا يجيبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغافلة والسهو واللهو، وقد روى الحاكم حديث: «واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه» «1» .
ومن أنفع الأدوية الدعاء، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وإذا جمع من الدعاء حضور القلب، والجمعية بالكلية على المطلوب، وصادف وقتا من أوقات الإجابة كثلث الليل الأخير، مع الخضوع والانكسار، والذل والتضرع، واستقبال القبلة، والطهارة ورفع اليدين، والبداءة بالحمد والثناء على الله تعالى، والصلاة والتسليم على سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- بعد التوبة والاستغفار والصدقة، واللح فى المسألة، وأكثر التملق والدعاء، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بنبيه- صلى الله عليه وسلم- فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، لا سيما إن دعاه بالأدعية التى أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. ولا خلاف فى مشروعية الفزع إلى الله تعالى، والالتجاء إليه فى كل ما ينوب الإنسان.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (3479) فى الدعوات، باب: فى جامع الدعوات عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 670) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/21)
وأما الرقى «1» ، فاعلم أن الرقى بالمعوذات من أسماء الله تعالى، هو الطب الروحانى، وإذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، لكن لما عزّ هذا النوع، فزع الناس إلى الطب الجسمانى. وفى البخارى، من حديث عائشة، (أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ينفث على نفسه فى المرض الذى مات فيه بالمعوذات وهى الفلق والناس والإخلاص) «2» فيكون من باب التغليب، أو المراد الفلق والناس. وكذلك كل ما ورد فى التعويذ فى القرآن، كقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ «3» .
وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى من حديث ابن مسعود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يكره عشر خصال، فذكر منها الرقى إلا بالمعوذات «4» ، ففى سنده عبد الرحمن بن حرملة، قال البخارى: لا يصح حديثه. وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن فى الرقية بالفاتحة.
وأما حديث أبى سعيد عند النسائى: كان- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فأخذ بهما وترك ما سواهما «5» ، وحسنه
__________
(1) الرقى: جمع رقية، وهى العوذة، أى الاعتياذ من جنون أو مرض، وأصل العوذ: اللجوء والاعتصام ولا يكون ذلك إلا بالله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا بكلمات نافعة وردت فى كتابه أو على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم-.
(2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (5735) فى الطب، باب: الرقى والقرآن والمعوذات، ومسلم (2192) فى السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) سورة المؤمنون: 97.
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (4222) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الذهب، والنسائى (8/ 141) فى الزينة، باب: الخضاب بالصفرة، وأحمد فى «المسند» (1/ 380) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 216) قلت: ولم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود إلا عبد الرحمن بن حرملة، ولم يرو عبد الرحمن بن حرملة إلا عن ابن أخيه القاسم بن حسان، وكلاهما جهلهما الحافظ ابن حجر فى «التقريب» ، حيث قال عند كل واحد منها: مقبول، وهى تعنى عنده الجهالة.
(5) صحيح: أخرجه الترمذى (2058) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقية بالمعوذتين، والنسائى (8/ 271) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من عين الجان، وابن ماجه (3511) فى الطب، باب: من استرقى من العين، والحديث صححه الشيخ الألبانى كما فى «صحيح الجامع» (4902) .(3/22)
الترمذى، فلا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما. وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا. وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط:
- أن تكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته.
- وباللسان العربى، أو بما يعرف معناه من غيره.
- وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى.
واختلفوا فى كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبارها. وفى صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك: كنا نرقى فى الجاهلية، فقلنا يا رسول الله، كيف ترى فى ذلك؟ فقال: «اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقى إذا لم يكن فيه شرك» «1» .
وله من حديث جابر: (نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم، فقالوا: يا رسول الله، إنها كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال: «فاعرضوها على» ، قال: فعرضوا عليه، قال: «ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه» «2» وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدى إلى الشرك فإنه يمتنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدى إلى الشرك فيمنع احتياطا. والشرط الأخير لا بد منه.
وقال قوم: لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة، لحديث عمران بن حصين: (لا رقية إلا من عين أو حمة) «3» . وأجيب: بأن معنى الحصر فيه
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2200) فى السلام، باب: لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، وأبو داود (3886) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2199) فى السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، وابن ماجه (3515) فى الطب، باب: ما رخص فيه من الرقى.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، وهو عند مسلم (220) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب من حديث بريدة- رضى الله عنه-.(3/23)
أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مسّ ونحو ذلك، لا شتراكهما فى كونهما ينشان عن أحوال شيطانية من إنس أو جن، ويلحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية.
وقد وقع عند أبى داود من حديث أنس مثل حديث عمران وزاد: (أو دم) «1» وفى مسلم من حديث أنس أيضا (رخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الرقى من العين والحمة والنملة) «2» وفى حديث آخر (والأذن) «3» ، ولأبى داود من حديث الشفاء بنت عبد الله أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا تعلمين هذه- يعنى حفصة- رقية النملة؟» «4» . والنملة: قروح تخرج فى الجنب وغيره من الجسد. وقيل: المراد بالحصر يعنى الأفضل، أى لا رقية أنفع، كما قيل: لا سيف إلا ذو الفقار، وقال قوم: المنهى عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكر ابن عبد البر والبيهقى وغيرهما.
وروى أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود، رفعه «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» «5» . والتمائم: جمع تميمة وهى خرزة أو قلادة تعلق فى الرأس، كانوا فى الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات. والتولة:
بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا- شئ كانت المرأة تستجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (3889) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2196) فى السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.
(3) لم أقف على زيادة (والأذن) .
(4) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (3887) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى، وأحمد فى «المسند» (6/ 372) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3883) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى، وابن ماجه (3530) فى الطب، باب: تعليق التمائم، وأحمد فى «المسند» (1/ 381) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 463) ، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو كما قال.(3/24)
المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل فى ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه. فقد ثبت فى الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. ولا خلاف فى مشروعية الفزع إلى الله سبحانه وتعالى، والالتجاء إليه سبحانه فى كل ما يقع وكل ما يتوقع.
وقال بعضهم: المنهى عنه من الرقى هو الذى يستعمله المعزم وغيره ممن يدعى تسخير الجن له، فيأتى بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم، والتعوذ من مردتهم، ويقال إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بنى آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رقى بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربى الذى يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك. وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة. وقال القرطبى: الرقى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان يرقى به فى الجاهلية، مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدى إلى الشرك.
الثانى: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب.
الثالث: ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذى يتضمن الالتجاء إلى الله تعالى به والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغى أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى.
وقال الربيع «1» : سألت الشافعى عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله تعالى، وبما يعرف من ذكر الله تعالى. فقلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله. انتهى.
__________
(1) هو: الربيع بن سليمان، أبو محمد المرادى، مولاهم المصرى، صاحب الإمام الشافعى، وناقل علمه، أفنى عمره فى العلم ونشره، مات فى شوال سنة 270 هـ.(3/25)
وفى الموطأ: أن أبا بكر قال لليهودية التى كانت ترقى عائشة: ارقيها بكتاب الله «1» . قال النووى وقال القاضى عياض: واختلف قول مالك فى رقية اليهودى والنصرانى المسلم، وبالجواز قال الشافعى والله أعلم.
وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط، والذى يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم.
رقية الذى يصاب بالعين:
روى مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «العين حق، ولو كان شئ سابق القدر لسبقته العين» «2» . أى الإصابة بالعين شئ ثابت موجود، وهى من جملة ما تحقق كونه. قال المازرى: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى، لأن كل شئ ليس محالا فى نفسه، ولا يؤدى إلى قلب حقيقة، ولا إلى فساد دليل، فهو من مجوزات العقول. فإذا أخبر الشارع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى. وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة. وقد استشكل بعض الناس هذه الإصابة فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟
وأجيب: بأن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن فى الهواء إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال: إذا رأيت شيئا يعجبنى وجدت حرارة تخرج من عينى. ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها فى إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد. ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد.
وقال المازرى: زعم بعض الطبائعيين أن العائن تنبعث من عينيه قوة
__________
(1) أخرجه مالك فى «الموطأ» (2/ 943) بسند منقطع بين عمرة بنت عبد الرحمن الراوية للقصة لأنها لم تدرك أبا بكر- رضى الله عنه-، إلا أنها من أحد الثقات فى عائشة، فلعلها سمعته منها.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2188) فى السلام، باب: الطب والمرض والرقى.(3/26)
سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد. وهو كإصابة السم من نظر الأفعى، وأشار إلى منع الحصر فى ذلك مع تجويزه. وإن الذى يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آخر، وهل ثم جواهر حقيقة أو لا؟ هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه. ومن قال ممن ينتمى إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن ثم جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق البارى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم فقد أخطأ بدعوى القطع، ولكنه جائز أن تكون عادة ليست ضرورية ولا طبيعية، انتهى.
وهو كلام سديد. وليس المراد بالتأثير المعنى الذى تذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون. وقد أخرج البزار بسنده عن جابر رفعه: «أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس» «1» . قال الراوى: يعنى العين. وقد أجرى الله تعالى العادة بوجود كثير من القوى والخواص فى الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى فى وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه. وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه. وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى فى الأرواح من التأثيرات لشدة ارتباطها بالعين، وليست هى المؤثرة، وإما التأثير للروح، والأرواح مختلفة فى طبائعها وكيفياتها وخواصها، فمنها ما يؤثر فى البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة.
والحاصل: أن التأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسمانى، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى بتوجه الروح، كالذى يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 106) وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا طالب بن حبيب بن عمرو، وهو ثقة.(3/27)
تعالى، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذى يخرج من عين العائن سهم معنوى، إن صادف البدن- لا وقاية له- أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم بل ربما عاد على صاحبه كالسهم الحسى. انتهى ملخصا من فتح البارى وغيره.
قال ابن القيم: والغرض العلاج النبوى لهذه العلة، فمن التعوذات والرقى: الإكثار من قراءة المعوذتين والفاتحة وآية الكرسى، ومنها التعوذات النبوية نحو: أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامة. ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ فى الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان «1» .
وإذا كان يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه. كما قال- صلى الله عليه وسلم- لعامر بن ربيعة لما عاين سهل بن حنيف: «ألا برّكت عليه» «2» . ومما يدفع به إصابة العين: قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله «3» . ومنها رقية جبريل للنبى- صلى الله عليه وسلم- كما رواه مسلم: (بسم الله أرقيك من شر كل شئ يؤذيك، من شر كل ذى نفس أو عين حاسد. الله يشفيك،
__________
(1) قلت: قد ورد هذا الدعاء مرفوعا، من حديث خالد بن الوليد، وقد رواه الطبرانى فى الأوسط وفيه زكريا بن يحيى بن أيوب الضرير المدائنى ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمى فى «المجمع» (10/ 126) ، وأورده أيضا فى (10/ 127) من حديث عبد الرحمن بن حنيش- رضى الله عنه- وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبرانى بنحوه، ورجال أحد إسنادى أحمد وأبى يعلى وبعض أسانيد الطبرانى رجال الصحيح وكذا رجال الطبرانى، وفى المصدر السابق أيضا عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-، وقال: رواه الطبرانى فى الصغير، وفيه من لم أعرفه.
(2) صحيح: وقد ورد ذلك عند مالك فى «الموطأ» (2/ 938) فى أول كتاب العين بسند رجاله ثقات، وانظر ابن ماجه (3509) فى الطب، باب: العين.
(3) لعله يشير إلى قول الرجل الصالح فى سورة الكهف: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الآية: 39.(3/28)
بسم الله أرقيك) «1» . وعنده أيضا من حديث عائشة: كان جبريل يرقى النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر كل حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذى عين «2» . وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: «العين حق، ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» «3» .
وظاهر الأمر الوجوب، وحكى فيه المازرى خلافا وصحح الوجوب، وقال: متى خشى الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجب بذل الطعام للمضطر، وهذا أولى.
ولم يبين فى حديث ابن عباس صفة الاغتسال. قال الحافظ ابن حجر:
وقد وقعت فى حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائى وصححه ابن حبان من طريق الزهرى عن أبى أمامة بن سهل «4» : أن أباه حدثه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الحرار من الجحفة، اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة «5» ، فلبط سهل- أى صرع- وسقط إلى الأرض. فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هل تتهمون من أحد؟» قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامرا، فتغيظ عليه، فقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت» . ثم قال: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره فى قدح، ثم صب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم كفأ القدح ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2186) فى السلام، باب: الطب والمرض والرقى.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2185) فيما سبق.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2188) فيما سبق، وقد تقدم.
(4) ما بين المعقوفتين مستدرك من «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (10/ 250) .
(5) المخبأة: الفتاة فى خدرها، وهو كناية عن شدة بياضه.
(6) صحيح: وقد تقدمت القصة، وهى عند ابن ماجه (3509) كما تقدم.(3/29)
قال المازرى: المراد ب «داخلة إزاره» الطرف المتدلى الذى يلى حقوه الأيمن، قال: وظن بعضهم أنه كناية عن الفرج. انتهى. وزاد القاضى عياض: أن المراد ما يلى جسده من الإزار. وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل أراد وركه لأنه معقد الإزار. رأيت مما عزى لخط شيخنا الحافظ أبى الخير السخاوى: قال ابن بكير عن مالك: أنه كناية عن الثوب الذى يلى الجسد.
وقال ابن الأثير فى النهاية: كان من عادتهم أن الإنسان إذا أصابته عين من أحد جاء للعائن بقدح فيه ماء فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه فى القدح ثم يغسل وجهه فيه، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على يده اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على يده اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب علي قدمه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره ولا يوضع القدح بالأرض، ثم يصب ذلك الماء المستعمل على رأس المصاب بالعين من خلفه صبة واحدة فيبرأ بإذن الله تعالى، انتهى.
قال المازرى: وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه. وقال ابن العربى: إن توقف فيه متشرع قلنا له: قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة، أو متفلسف؛ فالرد عليه أظهر، لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله: الخواص. قال ابن القيم: ومن علاج ذلك والاحتراز منه، ستر محاسن من يخاف عليه العين، بما يردها عنه، كما ذكره البغوى فى كتاب شرح السنة: أن عثمان بن عفان رأى صبيّا مليحا، فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين، ثم قال فى تفسيره، ومعنى دسموا نونته: أى سودوا نونته، والنونة: النقرة التى تكون فى ذقن الصغير «1» .
__________
(1) انظر ذلك فى «شرح السنة» (13/ 116) للإمام البغوى.(3/30)
وذكر عن أبى عبد الله الساجى أنه كان فى بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة، فكان فى الرقة رجل عائن قل ما نظر إلى شئ إلا أتلفه، فقيل لأبى عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال ليس له إلى ناقتى سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبى عبد الله، فجاء إلى رحله فنظر إلى الناقة فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله فأخبر أن العائن قد عانها وهى كما ترى. فقال: دلونى عليه، فوقف عليه فقال: بسم الله حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير. فخرجت حدقتا العائن وقامت الناقة لا بأس بها» .
انتهى.
وفى حديث هذا الباب من الفوائد: أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذى يعجبه الشئ يبادر إلى الدعاء للذى يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الإصابة بالعين قد تقتل.
عقوبة العائن:
وقد اختلف فى جريان القصاص بذلك:
فقال القرطبى: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو فى ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا. انتهى. ولم تتعرض الشافعية للقصاص فى ذلك، بل منعوه وقالوا: إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا. وقال النووى فى «الروضة» : ولا دية فيه ولا كفارة، لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام، دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط لها، كيف ولم يقع منه فعل
__________
(1) قلت: وقد ذكر أيضا هذه القصة ابن القيم فى «زاد المعاد» (4/ 174) بتحقيقنا، ولم يعقب عليها.(3/31)
أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة، وأيضا: فالذى ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه فى زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين، انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: ولا يعكر عليه إلا الحكم بقتل الساحر، فإنه فى معناه، والفرق بينهما عسر. ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم: أنه ينبغى للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس، وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذى منعه عمر من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذى منع الشارع أكله من حضور الجماعة. قال النووى: وهذا القول صحيح متعين لا يعرف من غيره تصريح بخلافه.
ذكر رقية النبى ص التى كان يرقى بها
عن عبد العزيز قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟
قال: بلى، قال: قل اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافى لا شافى إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما «1» . رواه البخارى. وقوله: «مذهب الباس» : بغير همزة للمواخاة، أصله الهمز. وفى قوله «لا شافى إلا أنت» إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوى إن لم يصادف تقدير الله وإلا فلا ينجع. وقوله «لا يغادر- بالعين المعجمة- أى لا يترك» .
وفى البخارى أيضا عن مسروق عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: «اللهم رب الناس أذهب الباس، واشفه وأنت الشافى لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما» «2» . وقوله «يمسح يده» أى على الوجع. وقوله «إلا شفاؤك» بالرفع بدل من موضع: لا شفاء.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5742) فى الطب، باب: رقية النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5743) فى الطب، باب: رقية النبى- صلى الله عليه وسلم-.(3/32)
وعن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرقى ويقول: «امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت» «1» . رواه البخارى أيضا.
وفى صحيح مسلم، عن عثمان بن أبى العاص، أنه شكا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعا يجده فى جسده منذ أسلم، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ضع يدك على الذى تألم من جسدك وقل: بسم الله، ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» «2» . وإنما كرره ليكون أنجح وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة.
ذكر طبه ص من الفزع والأرق المانع من النوم:
عن بريدة قال: شكا خالد إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل من الأرق، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت، كن لى جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط على أحد منهم أو يبغى على، عزّ جارك، وجل ثناؤك ولا إله غيرك» «3» رواه الترمذى.
ذكر طبه ص من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى:
فى المسند مرفوعا: «ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا منها، إلا آجره الله فى مصيبته وأخلف له خيرا منها» «4» . قال فى الهدى النبوى «5» : وهذه الكلمة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5744) فيما سبق.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2203) فى السلام، باب: استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء.
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3523) فى الدعوات، باب: منه، وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوى، والحكم بن ظهير قد ترك حديثه بعض أهل الحديث ويروى هذا الحديث عن النبى- صلى الله عليه وسلم- مرسلا من غير هذا الوجه.
(4) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 317 و 321) ، وهو عند مسلم (918) فى الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.
(5) يقصد «زاد المعاد فى هدى خير العباد» ، وانظر هذا النقل عنده فى (4/ 189) .(3/33)
من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له فى عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن المصيبة:
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله الله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير.
الثانى: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله [مولاه الحق] ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجئ ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد ونهايته فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء.
قال: ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسى بأهل المصائب، وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وإن سرور «1» الدنيا أحلام نوم، أو ظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما أساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملأت دارا حبرة «2» إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور، إلا خبأت له يوم شرور.
قال ابن مسعود: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا.
ذكر طبه ص من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب:
عن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب العرش الكريم» «3» . وقوله «عند الكرب» أى عند حلول الكرب. وعند مسلم: كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب. وعنده أيضا:
__________
(1) فى مطبوع «زاد المعاد» (4/ 190) (شرور) وهى هنا أصوب.
(2) فى مطبوع «زاد المعاد» (4/ 190) (خيرة) وهى هنا أصوب.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6345 و 6346) فى الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، ومسلم (2730) فى الذكر والدعاء، باب: دعاء الكرب.(3/34)
(كان إذا حزبه أمر) - وهى بفتح المهملة والزاى وبالموحدة- أى هجم عليه أو غلبه.
قال الطبرى: معنى قول ابن عباس «يدعو» ، وإنما هو تهليل وتعظم، يحتمل أمرين: أحدهما، أن المراد تقديم ذلك قبل الدعاء، كما عند عبد بن حميد «كان إذا حزبه أمر قال ... » فذكر الذكر المأثور، وزاد: ثم دعا. قال الطبرى: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب له، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة وقد سئل عن الحديث الذى فيه «أكثر ما كان يدعو به النبى- صلى الله عليه وسلم- بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» «1» الحديث. فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه دعاء، ولكن قال النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ربه عز وجل: من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين «2» . وقال أمية ابن أبى الصلت فى مدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شبمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء
فهذا مخلوق حين نسبه إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق.
ثم إن حديث ابن عباس هذا- كما قاله ابن القيم- قد اشتمل على توحيد الإلهية والربوبية ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز، ووصفه
__________
(1) ضعيف: وقد ورد ذلك فى حديث ضعيف أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 210) من حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4464) : ضعيف.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2926) فى فضائل القرآن، باب: رقم (24) ، والدارمى فى «سننه» (3356) ، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(3/35)
بكمال ربوبيته الشاملة للعالم العلوى والسفلى والعرش الذى هو سقف المخلوقات وأعظمها، والربوبية التامة تستلزم توحيده، وأنه الذى لا تنبغى العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه، وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه. فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسى، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى. ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمنها هذا الحديث وجدته فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخرج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور. وإنما يصدق هذه الأمور من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها.
قال ابن بطال حدثنى أبو بكر الرازى قال: كنت بأصبهان عند أبى نعيم فقال له شيخ: إن أبا بكر بن على قد سعى به إلى السلطان فسجن، فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لى النبى- صلى الله عليه وسلم- قل لأبى بكر بن على يدعو بدعاء الكرب الذى فى صحيح البخارى «1» حتى يفرج الله عنه، قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به، فلم يمكث إلا قليلا حتى أخرج.
وفى حديث على عند النسائى وصححه الحاكم: لقننى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذه الكلمات وأمرنى إن نزل بى كرب أو شدة أن أقولها: «لا إله إلا الله الكريم العظيم، سبحان الله تبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين» وفى لفظ: «الحليم الكريم» فى الأولى، وفى لفظ لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم العلى العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له
__________
(1) هو حديث ابن عباس المتقدم قبل قليل.(3/36)
الحليم الكريم، وفى لفظ لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحانه، تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين «1» . أخرجها كلها النسائى.
وروى الترمذى عن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أهمه أمر رفع طرفه إلى السماء فقال: «سبحان الله العظيم» وإذا اجتهد فى الدعاء قال:
«يا حى يا قيوم» «2» وعنده أيضا من حديث أنس: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر قال: «يا حى يا قيوم، بك أستغيث» «3» .
قال العلامة ابن القيم: وفى تأثير قوله: «يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث» فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإن صفة «الحياة» متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة «القيومية» متضمنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا كان اسم الله الأعظم الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى هو اسم الحى القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الآلام والأسقام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقها هم ولا غم ولا حزن ولا شئ من الآفات. فالتوسل بصفة «الحياة والقيومية» له تأثير فى إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال. فلهذا الاسم «الحى القيوم» تأثير عظيم خاص فى إجابة الدعوات وكشف الكربات. ولهذا كان- صلى الله عليه وسلم- إذا اجتهد فى الدعاء قال: يا حى يا قيوم.
وروى أبو داود عن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلنى إلى نفسى طرفة
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى فى «الكبرى» (7673 و 7677 و 7678 و 8410- 8415 و 10463- 10482) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 688 و 689) و (3/ 149) وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين. اهـ. قلت: وهو فى الصحيحين بنحوه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (3436) فى الدعوات، باب: ما جاء ما يقول عند الكرب، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف جدّا.
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3524) فى الدعوات، والنسائى فى «الكبرى» (7682 و 7683 و 10448) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (6545) بسند ضعيف.(3/37)
عين، وأصلح لى شأنى كله، لا إله إلا أنت» «1» . وفى هذا الدعاء- كما قاله فى زاد المعاد- من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيده، والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه ولا يكله إلى نفسه، والتوسل إليه بتوحيده، مما له تأثير فى دفع هذا الداء. وكذا قوله فى حديث أسماء بنت عميس عند أبى داود أيضا مرفوعا: «كلمات الكرب: الله ربى لا أشرك به شيئا» «2» .
وفى مسند الإمام أحمد من حديث ابن مسعود عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال:
ما أصاب عبدا همّ ولا حزن فقال: «اللهم إنى عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتى بيدك، ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك أو أعلمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبى، ونور صدرى، وجلاء حزنى، وذهاب همى، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا» «3» .
وإنما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة لاشتماله على الاعتراف بعبودية الداعى وعبودية آبائه وأمهاته، وأن ناصيته بيده، يصرفها كيف يشاء، وإثبات القدر، وأن أحكام الرب نافذة فى عبده، ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له فى دفعها، وأنه سبحانه وتعالى عدل فى هذه الأحكام غير ظالم لعبده، ثم
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (5090) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، وأحمد فى «مسنده» (5/ 42) ، والبخارى فى «الأدب المفرد» (701) بسند حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» والحديث من طريق عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبى فلعل بكرة تصحفت عنده لبكر ثم أضاف من أضاف من عنده الصديق باعتباره أبى بكر الصديق، ولعل ذلك نتيجة نقله من الإمام ابن القيم فى «زاد المعاد» حيث وقع فى نفس الوهم- رحمهما الله-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1525) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار، والنسائى فى «الكبرى» (10484) ، وابن ماجه (2882) فى الدعاء، باب: الدعاء عند الكرب، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: وقد تقدم.(3/38)
توسله بأسماء الرب تعالى التى سمى بها نفسه، ما علم العباد منها، وما لم يعلموا، ومنها ما استأثر به فى علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيّا مرسلا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله، وأقربها تحصيلا للمطلوب، ثم سؤاله أن يجعل القرآن لقلبه ربيعا، أى كالربيع الذى يرتع فيه الحيوان، وأن يجعله لصدره كالنور الذى هو مادة الحياة، وبه يتم معاش العباد وأن يجعله شفاء همه وغمه فيكون بمنزلة الدواء الذى يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذى يجلو الطبوع «1» والأصدية، فإذا صدق العليل فى استعما لهذا الدواء أعقبه شفاء تامّا.
وفى سنن أبى داود، عن أبى سعيد الخدرى قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: «يا أبا أمامة ما لى أراك فى المسجد فى غير وقت الصلاة» فقال: هموم لزمتنى وديون يا رسول الله، فقال: «ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك، وقضى دينك» قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت، اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همى، وقضى دينى «2» .
وقد تضمن هذا الحديث الاستعاذة من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان مزدوجان: فالهم والحزن أخوان، والجبن والبخل أخوان، والعجز والكسل أخوان وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان، فحصلت الاستعاذة من كل شر.
__________
(1) الطبوع: جمع طبع، وهى السجية التى جبل عليها الإنسان، كما تأتى بمعنى الدنس والصدأ، ولعلها المقصودة هنا.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1555) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة وفى إسناده غسان بن عوف، هو البصرى، قال عنه الحافظ فى «التقريب» : لين الحديث، ولذا ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/39)
وفى سنن أبى داود- أيضا- عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» «1» . وإنما كان الاستغفار له تأثيرا فى دفع الهم والضيق لأنه قد اتفق أهل الملل وعقلاء كل ملة على أن المعاصى والفساد يوجبان الهم والغم والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب، وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار.
وعن ابن عباس عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من كثرت همومه فليكثر من قول:
لا حول ولا قوة إلا بالله» . وثبت فى الصحيحين أنها كنز من كنوز الجنة «2» ، وفى الترمذى: أنها باب من أبواب الجنة «3» ، وفى بعض الآثار: أنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله.
وروى الطبرانى من حديث أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما كربنى أمر إلا تمثل لى جبريل فقال لى: يا محمد قل توكلت على الحى الذى لا يموت، والحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا» . وفى كتاب ابن السنى من حديث أبى قتادة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ آية الكرسى وخواتيم سورة البقرة عند
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1518) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار، وابن ماجه (3819) في الأدب، باب: الاستغفار وأحمد فى «المسند» (1/ 248) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 291) ، بسند فيه الحكم بن مصعب، قال عنه الحافظ ابن حجر فى «التقريب» مجهول، وهو كما قال، وليس له إلا حديثين أحدهما ليس له أصل، والثانى مثله بهذا اللفظ، والراوى عنه الوليد بن مسلم، وهو ما فيه.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (6384) فى الدعوات، باب: الدعاء إذا علا عقبة، ومسلم (2704) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3581) فى الدعوات، باب: فى فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، وأحمد فى «المسند» (3/ 422) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 323) من حديث سعد بن عباد، - رضى الله عنه-، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. اهـ. وكذا صححه الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/40)
الكرب أغاثه الله عز وجل» . وعنده- أيضا- من حديث سعد بن أبى وقاص، قال: قال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه، كلمة أخى يونس: فنادى فى الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين» «1» . وعند الترمذى: «لم يدع بها رجل مسلم فى شئ قط إلا استجيب له» «2» .
وروى الديلمى فى مسند الفردوس، عن جعفر بن محمد- يعنى الصادق- قال: حدثنى أبى عن جدى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدعاء: «اللهم احرسنى بعينك التى لا تنام، واكنفنى بكنفك الذى لا يرام، وارحمنى بقدرتك على فلا أهلك وأنت رجائى، فكم من نعمة أنعمت بها على قلّ لك بها شكرى، وكم من بلية ابتليتنى بها قلّ لك بها صبرى، فينا من قلّ عند نعمته شكرى فلم يحرمنى، ويا من قلّ عند بليته صبرى فلم يخذلنى، ويا من رآنى على الخطايا فلم يفضحنى، يا ذا المعروف الذى لا ينقضى أبدا، ويا ذا النعمة التى لا تحصى عددا، أسألك أن تصلى على محمد وعلى آل محمد وبك أدرأ فى نحور الأعداء والجبارين، اللهم أعنى على دينى بالدنيا، وعلى آخرتى بالتقوى واحفظنى فيما غبت عنه، ولا تكلنى إلى نفسى فيما حظرته على، يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو، هب لى ما لا ينقصك، واغفر لى ما لا يضرك، إنك أنت الوهاب، أسألك فرجا قريبا وصبرا جميلا، ورزقا واسعا، والعافية من البلايا، وشكر العافية- وفى رواية: وأسألك الشكر على العافية- وأسألك الغنى عن الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
__________
(1) رجاله ثقات: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (7/ 68) وقال: رواه أحمد ورجال رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبى وقاص وهو ثقة.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3505) فى الدعوات، باب: رقم (85) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 684 و 685) و (2/ 637 و 639) والحديث صححه الألبانى فى «صحيح الجامع» (3383) .(3/41)
ذكر طبه ص من داء الفقر:
عن ابن عمر: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن الدنيا أدبرت عنى وتولت، قال له: «فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبه يرزقون، قل عند طلوع الفجر: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، استغفر الله مائة مرة تأتيك الدنيا صاغرة» فولى الرجل فمكث ثم عاد فقال: يا رسول الله لقد أقبلت على الدنيا فما أدرى أين أضعها. رواه الخطيب فى رواة مالك.
ذكر طبه ص من داء الحريق:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه» «1» . فإن قلت ما وجه الحكمة فى إطفاء الحريق بالتكبير، أجاب صاحب زاد المعاد: بأنه لما كان الحريق سببه النار، وهى مادة الشيطان التى خلق منها، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله، وكان للشيطان إعانة عليه وتنفيذ له، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهما هدى الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يهلك بنى آدم، فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو فى الأرض والفساد، وكبرياء الله تعالى تقمع الشيطان وفعله، فلهذا كان تكبير الله له أثر فى إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله تعالى لا يقوم لها شئ، فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبره فى خمود النار التى هى مادة الشيطان. وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك. انتهى. وقد جربت ذلك بطيبة فى سنة خمس وتسعين وثمانمائة فوجدت له أثرا عظيما لم أجده لغيره. ولقد شاع وذاع رؤية طيور بحريق طيبة الواقع فى ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين وثمانمائة معلنة بالتكبير.
وفيه يقول قاضى القضاة شمس الدين السخاوى:
__________
(1) ضعيف جدّا: أخرجه ابن السنى فى «عمل اليوم والليلة» (289- 292) ، وفى سنده القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمرى نسبة إلى عمر بن الخطاب، قال عنه الحافظ فى «التقريب» (5468) : متروك رماه أحمد بالكذب.(3/42)
فظن كلّ بأن النار تحرقه ... فما ترى من جواها غير منهزم
فجاءت الطير روتها بأجنحة ... عن البيوت رآها غير متهم
وقال أيضا فى قصيدة أخرى:
فكل شخص تولى خائفا حذرا ... فجاءت الطير للنيران تطردها
عن البيوت ولا يخفى لمن بصرا
ذكر ما كان ص يطب به من داء الصرع:
فى الصحيحين أن امرأة أتت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنى أصرع، وإنى أتكشف، فادع الله لى، فقال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك» فقالت: أصبر، قالت: فإنى أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها «1» .
قال ابن القيم: الصرع صرعان، صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثانى هو الذى يتكلم فيه الأطباء. فأما علاج صرع الأرواح فيكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذى من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذى قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا فى نفسه جيدا، وأن يكون الساعد قويّا.
والثانى: من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا، حتى إن من المعالجين من يكتفى بقوله: اخرج منه، أو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5652) فى المرضى، باب: فصل من يصرع من الريح، ومسلم (2576) فى البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/43)
قال: وقد كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اخرج عدو الله أنا رسول الله» «1» وكان بعضهم يعالج ذلك باية الكرسى ويأمر بكثرة قراءتها للمصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين. قال: ومن حدث له الصرع وله خمسة وعشرون سنة وخصوصا بسبب دماغى أيس من برئه، وكذلك إذا استمر به إلى هذه السن. قال: فهذه المرأة التى جاء الحديث أنها تصرع وتتكشف يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها النبى- صلى الله عليه وسلم- بصبرها على هذا المرض بالجنة.
ولقد جربت الإقسام بالنبى- صلى الله عليه وسلم- على الله تعالى «2» مع قوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ «3» إلى آخر سورة الفتح فى ابنتين صغيرتين صرعتا فشفيتا. ومن الغريب قصة غزالة الحبشية خادمتنا لما صرعت بدرب الحجاز الشريف واستغثت به- صلى الله عليه وسلم-»
فى ذلك، فجئ إلى بصارعها فى المنام بأمره- صلى الله عليه وسلم- فوبخته وأقسم أن لا يعود إليها، فاستيقظت وما بها قلبة ومن ثم لم يعد إليها فلله الحمد.
ذكر دوائه ص من داء السحر:
قال النووى: السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد يكون
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 170 و 171) من حديث يعلى بن مرة- رضى الله عنه-، وهو عند ابن ماجه (3548) فى الطب، باب: الفزع والأرق وما يتعوذ منه، من حديث عثمان بن أبى العاص- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(2) قلت: الإقسام لا يكون إلا بالله عز وجل، لا بنبى مرسل، ولا ملك مقرب، لحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أراد أن يحلف فليحلف بالله» .
(3) سورة الفتح: 29.
(4) قلت: الاستغاثة لا تكون إلا بالله عز وجل، أو من عبد فيما يقدر عليه، كما استغاث الإسرائيلى بموسى- عليه السّلام- ضد المصرى، وذلك يكون حال حياته، أما بعد موته فلا يجوز لعدم إمكان الإغاثة فلا يبقى إلا الحى الذى لا موت، ونأسف إنه يوجد من بين علمائنا من يغالى فى ذات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويضعه فوق منزلته الشريفة، والأصل فى ذلك الاتباع، وانظر فى ذلك فى حال أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذين كان الواحد منهم يقع سوطه على الأرض وهو على الدابة، فينيخها ويأتى به ولا يسأل أحدا وهم أحياء، ومنا من يترك الأحياء، ويسأل الموتى.(3/44)
كفرا، وقد لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضى الكفر كفر، وإلا فلا، وأما تعليمه وتعلمه فحرام، وإذا لم يكن فيه ما يقتضى الكفر عزر فاعله واستتيب منه، ولا يقتل عندنا، وإن تاب قبلت توبته. وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله.
والمسألة مبنية على الخلاف فى قبول توبة الزنديق، لأن الساحر عنده كافر، كما ذكرناه، وعندنا: ليس بكافر «1» ، وعندنا تقبل توبة المنافق والزنديق.
قال القاضى عياض: وبقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروى عن جماعة من الصحابة والتابعين. قال أصحابنا: فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص. فإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية فى ماله لا على عاقلته، لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجانى. قال أصحابنا: ولا يتصور ثبوت القتل بالسحر بالبينة، وإنما يتصور باعتراف الساحر. انتهى. واختلف فى السحر:
فقيل: هو تخييل فقط، ولا حقيقة له، وهو اختيار أبى جعفر الاستراباذى من الشافعية، وأبى بكر الرازى من الحنفية وطائفة. قال النووى:
والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة.
قال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلانى: لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، والقائلون بأن له حقيقة اختلفوا: هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض، أو ينتهى إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه، فالذى عليه الجمهور هو الأول.
__________
(1) قلت: الذى أعرفه عن الإمام الشافعى- رحمه الله- أنه لا يكفر الساحر، بل يتوقف فى أمره حتى يستبين له أن ما يأتيه سحر أم لا، حيث إن بعض الدجالين يأتون بأعمال ليست من السحر، فلا يكفرون بها، أما الساحر الحقيقى فكافر كما قال مالك وأحمد- رحمهما الله- مستدلين على ذلك بقول الله تعالى ... وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ... وليس بعد كلام الله كلام.(3/45)
وقال المازرى: جمهور العلماء على إثبات السحر، لأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق، أو تركيب أجسام، أو مزج قوى على ترتيب مخصوص. ونظير ذلك ما وقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده فيصير بالتركيب نافعا. وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله فى قوله: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ «1» ، لكون المقام مقام تهويل. فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره الله تعالى. وقال المازرى: والصحيح من جهة العقل أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصّا فى منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة فى ذلك.
ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة، أن السحر يكون معاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدى.
ونقل إمام الحرمين: الإجماع على أن السحر لا يقع إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على يد فاسق. ونقل نحوه النووى فى «زيادة الروضة» عن المتولى. وينبغى أن يعتبر حال من يقع منه الخارق، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات، فإن الذى يظهر على يديه من الخوارق كرامة وإلا فهو سحر.
وقال القرطبى: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجود تركيبها وأوقاتها، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك، كما قال تعالى عن سحرة فرعون وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ «2» مع أن حبالهم وعصيهم لم يخرجوها عن كونها حبالا وعصيّا.
وقال أبو بكر الرازى فى «الأحكام» : (أخبر الله تعالى أن الذى ظنه
__________
(1) سورة البقرة: 102.
(2) سورة الأعراف: 116.(3/46)
موسى أنها تسعى لم يكن سعيّا، وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة وقد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا، فلما طرحت على ذلك الموضع وحمى الزئبق حركا، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصى صارت تتحرك بحركته، فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة، انتهى.
قال القرطبى: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا فى القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفى الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكر أن ينقلب الجماد حيوانا، أو عكسه، بسحر الساحر.
وقد ثبت فى البخارى من حديث عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سحر، حتى إن كان ليخيل إليه أنه يفعل الشئ وما فعله، حتى إذا كان ذات ليلة عند عائشة دعا ودعا ثم قال: «يا عائشة، أشعرت أن الله أفتانى فيما استفتيته؟
أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلى، فقال أحدهما: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب «1» ، قال من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فى أى شئ؟ قال: فى مشط ومشاقة «2» وجف طلع «3» نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: فى بئر ذروان «4» » ، فأتاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ناس من أصحابه، فجاء فقال: «يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء «5» ، وكان رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، فقلت يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: قد عافانى الله، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرّا، فأمر بها فدفنت» . وفى رواية للبخارى أيضا:
«فأتى البئر حتى استخرجه فقال: هذه البئر التى رأيتها» ، قالت عائشة: أفلا
__________
(1) مطبوب: أى مسحور.
(2) المشاقة: ما يسقط من الشعر حين يمشط.
(3) جف الطلعة: وعاء الطلع وغشاؤه إذا جف.
(4) بئر ذروان: بئر فى المدينة فى بستان لأحد اليهود.
(5) نقاعة الحناء: أى الماء الذى ينقع فيه الحناء، والحناء معروف، وهو الذى يتخذ للخضاب.(3/47)
تنشرت «1» ؟ قال: «أما الله شفانى، وأكره أن أثير على الناس شرّا» «2» . وفى حديث ابن عباس عند البيهقى- بسند ضعيف- فى آخر قصة السحر الذى سحر به النبى- صلى الله عليه وسلم- أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت الفلق والناس، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة. وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس أن عليّا وعمارا لما بعثهما النبى- صلى الله عليه وسلم- لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة فذكر نحوه. وفى رواية ذكرها فى فتح البارى: فنزل رجل فاستخرجه وأنه وجد فى الطلعة تمثالا من شمع تمثال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإذا فيه أبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما، ثم يجد بعدها راحة.
وقد بين الواقدى السنة التى وقع فيها السحر، كما أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن عبد الحكم مرسلا قال: لما رجع- صلى الله عليه وسلم- من الحديبية فى ذى الحجة ودخل المحرم سنة سبع جاءت رؤوس اليهود إلى لبيد بن الأعصم، وكان حليفا إلى بنى زريق، وكان ساحرا، فقالوا: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير. ووقع فى رواية أبى ضمرة عند الإسماعيلى:
فأقام أربعين ليلة، وفى رواية وهيب عن هشام عند أحمد: ستة أشهر.
ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يوما من استحكامه. وقال السهيلى: لم أقف فى شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التى مكث- صلى الله عليه وسلم- فيها فى السحر، حتى ظفرت به فى جامع معمر عن الزهرى: أنه لبث سنة. قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدناه موصولا بالإسناد الصحيح، فهو المعتمد. وقال المازرى: أنكر بعض المبتدعة
__________
(1) عند مسلم: أفلا أحرقته.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3268) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، وأطرافه (5763 و 5765 و 5766 و 6063 و 6391) ، ومسلم (2189) فى السلام، باب: السحر.(3/48)
هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة، ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا: أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثمّ، وأنه يوحى إليه بشئ ولم يوح إليه بشئ.
قال المازرى: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبى- صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته فى التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التى لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو فى ذلك عرضة لما يعرض لبشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه فى أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك فى أمور الدين، انتهى. وقال غيره: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشئ ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور، أنه يظهر له من نشاطه ومن سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقور، ويكون قوله فى الرواية الآخرى «حتى كاد ينكر بصره» أى كالذى ينكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشئ يخيل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم: أنه لم ينقل عنه فى خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به.
قال بعضهم: وقد سلك النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذه القصة مسلكى التفويض وتعاطى الأسباب، ففى أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، واحتسب الأجر فى صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشى من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوى. فقد أخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: احتجم النبى- صلى الله عليه وسلم- على رأسه، يعنى حين طب، ثم جنح إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية فى الكمال.(3/49)
وقال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يؤخذ من النشرة «1» مقاومة السحر الذى هو من تأثير الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئا من الله مغمورا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان تأثير السحر هو فى القلوب الضعيفة، ولهذا كان غالب ما يؤثر فى النساء والصبيان والجهال، لأن الأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها، انتهى ملخصا.
ويعكر عليه حديث الباب، وجواز السحر على النبى- صلى الله عليه وسلم- مع عظم مقامه، وصدق توجهه وملازمة ورده، ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذى ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به- صلى الله عليه وسلم- لبيان تجويز ذلك عليه.
وأما ما يعالج به من النشرة المقاومة للسحر، فذكر ابن بطال: أن فى كتب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر «2» أخضر، فتدق بين حجرين ثم يضرب ذلك بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسى والقلاقل «3» ثم يحسو منه ثلاث حسيات ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه ما كان به، وهو جيد للرجل إذا احتبس عن أهله. وممن صرح بجواز النشرة، المزنى عن الشافعى، وأبو جعفر الطبرى وغيرهما. انتهى.
وقال ابن الحاج «4» فى «المدخل» : كان الشيخ أبو محمد المرجانى أكثر تداويه بالنشرة يعملها لنفسه ولأولاده ولأصحابه فيجدون على ذلك الشفاء،
__________
(1) النشرة: بضم النون، ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسّا من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أى: يكشف ويزال، «النهاية» فى غريب الحديث، مادة (نشر) .
(2) السدر: شجر النبق.
(3) يقصد: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، والمعوذتين.
(4) هو: الإمام العالم، أبو عبد الله، محمد بن محمد بن محمد العبدرى الفاسى المالكى الشهير بابن الحاج، كان فاضلا عارفا يقتدى به، له التاليف النافعة من أجلها هذا الكتاب المسمى «بمدخل الشرع الشريف على المذاهب» ، ذكر فيه بدع يفعلها الناس ويتساهلون فيها، وأكثرها مما ينكر وبعضها مما يحتمل، توفى بالقاهرة سنة 737 هـ.(3/50)
وأخبر- رحمه الله- أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أعطاها له فى المنام، وقال: إنه مرة رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- وقال له: ما تعلم ما عمل معك ومع أصحابك فى هذه النشرة، نقله عنه خادمه، وهى هذه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ «1» إلى آخر السورة، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً «3» إلى آخر السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين، ثم يكتب: اللهم أنت المحيى وأنت المميت، وأنت الخالق البارئ وأنت المبلى، وأنت المعافى، وأنت الشافى، خلقتنا من ماء مهين، وجعلتنا فى قرار مكين إلى قدر معلوم، اللهم إنى أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، يا من بيده الابتلاء والمعافاة، والشفاء والدواء أسألك بمعجزات نبيك محمد- صلى الله عليه وسلم- حبيبك، وبركات خليلك إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، وحرمة كليمك موسى- عليه الصلاة والسلام-، اللهم اشفه.
ذكر رقية لكل شكوى:
عن أبى الدرداء قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من اشتكى منكم شيئا فليقل: ربنا الله الذى فى السماء تقدس اسمك، أمرك فى السماء والأرض، كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين أنزل رحمة من عندك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ بإذن الله» «4» رواه أبو داود فى سننه.
رقيته ص من الصداع:
روى الحميدى فى «الطب» عن يونس بن يعقوب عن عبد الله قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من الصداع، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله
__________
(1) سورة التوبة: 128.
(2) سورة الإسراء: 82.
(3) سورة الحشر: 21.
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3892) فى الطب، باب: كيف الرقى، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى ضعيف سنن أبى داود.(3/51)
الكبير وأعوذ بالله العظيم من كل عرق نعار «1» ومن شر حر النار «2» .
ورواه ابن السنى من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. وأصاب أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما- ورم فى رأسها، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده على ذلك من فوق الثياب فقال: «بسم الله أذهب عنها سوءه وفحشه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم الله» صنع ذلك ثلاث مرات، وأمرها أن تقول ذلك، فقالت ثلاثة أيام. فذهب الورم «3» رواه الشيخ ابن النعمان بسنده والبيهقى.
رقيته ص من وجع الضرس:
روى البيهقى أن عبد الله بن رواحة شكا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وجع ضرسه، فوضع- صلى الله عليه وسلم- يده على خده الذى فيه وقال: «اللهم أذهب عنه سوء ما يجد وفحشه، بدعوة نبيك المكين المبارك عندك» سبع مرات، فشفاه الله قبل أن يبرح. وروى الحميدى أن فاطمة- رضى الله عنها- أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تشكو ما تلقى من ضربان الضرس، فأدخل سبابته اليمنى فوضعها على السن الذى تألم، فقال: «بسم الله وبالله، أسألك بعزتك وجلالك وقدرتك على كل شئ، فإن مريم لم تلد غير عيسى من روحك وكلمتك، أن تكشف ما تلقى فاطمة بنت خديجة من الضر كله، فسكن ما بها» .
ومن الغريب: ما شاع وذاع عن شيخنا المحب الطبرى إمام مقام الخليل بمكة، ورأيته يفعله غير مرة، وضع يده على رأس الموجوع ضرسه، ويسأل
__________
(1) قال ابن الأثير فى «النهاية» مادة (نعر) : نعر العرق بالدم، إذا ارتفع وعلا، وجرح نعار ونعور، إذا صوت دمه عند خروجه.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2075) فى الطب، باب: رقم (26) ، وابن ماجه (3526) فى الطب، باب: ما يعوذ به من الحمى، وأحمد فى «المسند» (1/ 300) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 459) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الترمذى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبى حبيبة، وإبراهيم يضعف فى الحديث، وهو كما قال.
(3) أخرجه ابن أبى الدنيا فى «المرض والكفارات» (ص 124) من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وذكر فيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر عائشة بوضع يدها وأن تقول الدعاء.(3/52)
عن اسمه واسم أمه وعن المدة التى يريد المألوم أن لا يألمه فيها، فيقول: سبع سنين أو تسع سنين مثلا بالوتر، قالوا: فما يرفع يده إلا وقد سكن ألمه، ويمكث المدة المذكورة لا يألمه، كما أشيع ذلك واشتهر. ومما جرب أن يكتب على الخد الذى يلى الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «1» ، وإن شاء كتب وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2» .
رقية لعسر البول:
روى النسائى عن أبى الدرداء أنه أتاه رجل يذكر أن أخاه احتبس بوله، فأصابه حصاة البول، فعلمه رقية سمعها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ربنا الله الذى فى السماء تقدس اسمك، أمرك فى السماء والأرض، كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب المتطببين فأنزل شفاء من شفائك، ورحمة من رحمتك على هذا الوجع فيبرأ.
وأمره أن يرقيه بها، فرقاه بها فبرئ «3» . وقد تقدم هذا فى رقية الشكوى العامة من حديث أبى الدرداء.
رقية الحمى:
عن أنس قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عائشة وهى موعوكة، وهى تسب الحمى، فقال: «لا تسبيها فإنها مأمورة ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله عنك» قالت: علمنى، قال: «قولى اللهم ارحم جلدى الرقيق وعظمى الدقيق من شدة الحريق، يا أم ملدم «4» ، إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعى الرأس، ولا تنتنى الفم، ولا تأكلى اللحم، ولا تشربى
__________
(1) سورة الملك: 23.
(2) سورة الأنعام: 13.
(3) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10876 و 10877) .
(4) أم ملدم: كنية الحمى.(3/53)
الدم، وتحولى عنى إلى من اتخذ مع الله إلها آخر» فقالتها فذهبت عنها «1» ، رواه البيهقى.
وقد جرب ذلك- كما رأيته بخط شيخنا- ولفظه: اللهم ارحم عظمى الدقيق وجلدى الرقيق، وأعوذ بك من فورة الحريق، يا أم ملدم، إن كنت آمنت بالله واليوم الآخر، فلا تأكلى اللحم، ولا تشربى الدم، ولا تفورى على الفم، وانتقلى إلى من يزعم أن مع الله إلها آخر، فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
ويكتب للحمى المثلاثة- مما ذكره صاحب الهدى- على ثلاث ورقات لطاف: بسم الله فرّت، بسم الله مرّت. بسم الله قلّت، ويأخذ كل يوم ورقة ويجعلها فى فمه ويبلعها بماء. وقد رخص جماعة من السلف فى كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذى جعله الله فيه. قال ابن الحاج فى «المدخل» : وقد كان الشيخ أبو محمد المرجانى لا تزال الأوراق للحمى وغيرها على باب الزاوية، فمن كان به ألم أخذ ورقة منها فاستعملها فيبرأ بإذن الله تعالى، وكان المكتوب فيها: أزلى لم يزل، ولا يزال، يزيل الزوال، وهو لا يزال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» .
وقال المروزى: بلغ أبا عبد الله أنى حممت فكتب لى من الحمى رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومحمد رسول الله، يا نار كونى بردّا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، إله الحق آمين.
* ومما جرب للخراج، ونقله صاحب زاد المعاد، أن يكتب عليه
__________
(1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 169) بسند ضعيف.
(2) سورة الإسراء: 82.(3/54)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «1» .
* ومما يكتب لعسر الولادة ما روى الخلال عن عبد الله بن الإمام أحمد ابن حنبل قال: رأيت أبى يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها فى جام «2» أبيض، أو شئ نظيف، حديث ابن عباس: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها.
قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزى أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله اكتب لامرأة قد عسر عليها الولادة منذ يومين فقال: قل له يجئ بجام واسع وزعفران. قال المروزى: ورأيته يكتب لغير واحد.
وفى «المدخل» : يكتب فى آنية جديدة: اخرج أيها الولد من بطن ضيق إلى سعة هذه الدنيا، اخرج بقدرة الذى جعلك فى قرار مكين إلى قدر معلوم، لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، إلى آخر السورة، وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. وتشربها النفساء، ويرش منها على وجهها. قال الشيخ المرجانى: أخذته عن بعض السادة، فما كتبته لأحد إلا نجح فى وقته.
انتهى.
وروى عن عكرمة عن ابن عباس قال: مر عيسى- عليه السّلام- على امرأة وقد اعترض ولدها فى بطنها فقالت: يا كلمة الله ادع الله لى أن يخلصنى مما أنا فيه فقال: يا خالق النفس من النفس، ويا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس خلصها، قال: فرمت بولدها وإذا هى قائمة. قال:
فإذا عسر على المرأة ولدها فاكتبه لها.
__________
(1) سورة طه: 105- 107.
(2) الجام: إناء أو طاسة.(3/55)
ومما يكتب أيضا لذلك، ويكون فى إناء نظيف: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ «1» وتشرب الحامل منه وترش على بطنها.
* ومما يكتب للرعاف «2» على جبهة المرعوف وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ»
، ولا يجوز كتابتها بدم الرعاف كما يفعله بعض الجهال، فإن الدم نجس فلا يجوز أن يكتب به كلام الله.
* ومما يكتب لعرق النسا: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم رب كل شئ، ومليك كل شئ، وخالق كل شئ، أنت خلقتنى وخلقت عرق النسا فىّ فلا تسلطه علىّ بأذى، ولا تسلطنى عليه بقطع، واشفنى شفاء لا يغادر سقما، لا شافى إلا أنت.
وأما حفيظة رمضان: لا آلاء إلا آلاؤك يا الله، إنك سميع عليم محيط به علمك كعسلهون، وبالحق أنزلناه وبالحق نزل إلى آخرها ... فقال شيخنا:
اشتهرت ببلاد اليمن ومكة ومصر والمغرب وجملة بلدان أنها حفيظة رمضان، تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات، وتكتب فى آخر جمعة منه، وجمهورهم يكتبها والخطيب يخطب على المنبر، وبعضهم بعد صلاة العصر.
وهذه بدعة لا أصل لها، وإن وقعت فى كلام غير واحد من الأكابر، بل أشعر كلام بعضهم إلى ورودها فى حديث ضعيف، وكان الحافظ ابن حجر ينكرها جدّا، حتى وهو قائم على المنبر فى أثناء خطبته حين يرى من يكتبها.
ذكر ما يقى من كل بلاء:
عن أبان بن عثمان عن أبيه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:
«من قال بسم الله الذى لا يضر مع اسمه شئ فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات حين يمسى لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن
__________
(1) سورة الانشقاق: 1- 4.
(2) الرعاف: نزول الدم من الأنف.
(3) سورة هود: 44.(3/56)
قالها حين يصبح لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسى» . قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج «1» ، فتجعل الذى سمع منه الحديث ينظر إليه، فقال: ما لك تنظر فو الله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولكن اليوم الذى أصابنى فيه ما أصابنى غضبت فنسيت أن أقولها «2» . رواه أبو داود، ورواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح. وعنده: فكان أبان أصابه طرف فالج فجعل الرجل ينظر إليه فقال له أبان: ما لك تنظر إلى، أما إن الحديث كما حدثتك ولكن لم أقله يومئذ ليمضى الله أمرا قدره.
ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء:
وذكر أبو محمد عبد الله بن محمد المالكى الإفريقى، فى كتابه «أخبار أفريقية» عن أنس بن مالك مرفوعا: «من قال بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم عشر مرات برئ من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وعوفى من سبعين بلاء من بلايا الدنيا، منها الجنون والجذام والبرص والريح» . ويشهد له ما رواه الترمذى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا من ذكر لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم فإنها من كنز الجنة» . قال مكحول: من قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، ولا ملجأ من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابا من الضر أدناها الفقر «3» .
__________
(1) الفالج: داء معروف يرخى بعض البدن، وكذلك تباعد الأعضاء كالقدمين والأسنان.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (5088) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، والترمذى (3388) فى الدعوات، باب: ما جاء فى الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى، وابن ماجه (3869) فى الدعاء، باب: ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، وأحمد فى «المسند» (1/ 62 و 66 و 72) ، وابن حبان فى صحيحه (852 و 862) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 695) ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال.
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3601) فى الدعوات، باب: فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال الترمذى: ليس إسناده بمتصل مكحول لم يسمع من أبى هريرة، وهو كما قال إلا أن لطرفه المرفوع شواهد يصحح بها.(3/57)
وروى الطبرانى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم» «1» .
ومن ذلك فى الأمان من الفقر: عن أبى موسى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قال لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة فى كل يوم لم يصبه فقر أبدا» . رواه ابن أبى الدنيا.
وروى الطبرانى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أبطأ عليه رزقه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» «2» . وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على بن أبى طالب يرفعه: من قال كل يوم وليلة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، مائة مرة كان له أمانا من الفقر وأنسا من وحشة القبر، واستفتح به باب الغنى، واستقرع به باب الجنة. قال بعض رواته: لو رحلتم فى هذا الحديث إلى الصين ما كان كثيرا. ذكره عبد الحق فى كتاب الطب النبوى.
ذكر دواء داء الطعام:
روى البخارى فى تاريخه عن عبد الله بن مسعود: من قال حين يوضع الطعام: بسم الله خير الأسماء فى الأرض وفى السماء، لا يضر مع اسمه داء، اجعل فيه رحمة وشفاء. لم يضره ما كان «3» .
ذكر دواء أم الصبيان:
عن على قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من ولد له مولود فأذن فى أذنه
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 98) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه بشر بن رافع الحارثى، وهو ضعيف، وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح، إلا أن النسخة من الطبرانى الأوسط سقط منها عجلان والد محمد الذى بينه وبين أبى هريرة والله أعلم، ا. هـ. قلت: وبشر هذا ضعيف الحديث، قاله الحافظ فى «التقريب» (685) ، وعلى ذلك فالحديث ضعيف.
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 201) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط وفيه يونس بن تميم ضعفه الذهبى بهذا الحديث.
(3) أخرجه البخارى فى «التاريخ الكبير» (4/ 21) .(3/58)
اليمنى وأقام فى اليسرى لم تضره أم الصبيان» «1» رواه ابن السنى، وذكره عبد الحق فى «الطب النبوى» . وأم الصبيان: هى الريح التى تعرض لهم، فربما يخشى عليهم منها. وسر التأذين- كما قاله صاحب تحفة المودود بأحكام المولود- أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التى أول ما يدخل بها فى الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها. مع ما فى ذلك من فائدة أخرى، وهى هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التى قدرها الله وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أو أوقات تعلقه به.
النوع الثانى طبه ص بالأدوية الطبيعية
ذكر ما كان ص يعالج به الصداع والشقيقة:
اعلم أن الصداع ألم فى بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه فى أحد جانبى الرأس لازما سمى شقيقة- بوزن عظيمة- وسببه أبخرة مرتفعة، أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذا أحدثت الصداع، فإن مال إلى أحد شقى الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك كل الرأس أحدث داء البيضة تشبيها ببيضة السلاح تشتمل على الرأس كله.
وأسباب الصداع كثيرة: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم فى المعدة أو فى عروقها، أو ريح غليظة فيها، أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقئ والاستفراغ والسهر وكثرة الكلام، ومنها ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث فى الرأس كضربة تصيبه أو ورم فى صفاق الدماغ، أو حمل شئ
__________
(1) أخرجه ابن السنى فى «عمل اليوم والليلة» (617) .(3/59)
ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بشئ خارج عن الاعتدال، أو بتبريده بملاقاة الهواء أو الماء فى البرد.
وأما الشقيقة: فهى فى شرايين الرأس وحدها، أو تختص بالموضع الأضعف من الرأس. وعلاجها بشد العصابة. وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ربما أخذته الشقيقة فيمكث اليوم واليومين لا يخرج «1» . وفى الصحيح أنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى مرض موته: «وارأساه» «2» وأنه خطب وقد عصب رأسه «3» . فعصب الرأس ينفع فى الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس.
وفى البخارى من حديث ابن عباس: احتجم- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم فى رأسه من شقيقة كانت به «4» . وقد جاءت مقيدة فى بعض طرق ابن عباس نفسه، فعند أبى داود الطيالسى فى مسنده من حديث ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- احتجم فى وسط رأسه «5» . وقد قال الأطباء إنها نافعة جدّا. وورد أنه- صلى الله عليه وسلم- احتجم أيضا فى الأخدعين والكاهل «6» . أخرجه الترمذى وحسنه، وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم. وقد قال الأطباء: الحجامة
__________
(1) ذكره ابن القيم فى «زاد المعاد» (4/ 87) وعزاه لأبى نعيم فى «الطب النبوى» .
(2) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (5666) فى المرضى، باب: قول المريض: إنى وجع أو وارأساه، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) ذكره ابن القيم فى «زاد المعاد» (4/ 87) وعزاه لأبى نعيم فى «الطب النبوى» .
(4) أخرجه البخارى (5701) تعليقا فى الطب، باب: الحجامة من الشقيقة والصداع، وقال الحافظ فى «الفتح» (10/ 162) : وقد وصله الإسماعيلى وقد اتفقت هذه الطرق عن ابن عباس أنه احتجم- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم فى رأسه. ا. هـ. قلت: وهى رواية البخارى الموصولة دون تعيين سبب العلة.
(5) قلت: بل هى عند البخارى (5700) فيما سبق.
(6) صحيح: أخرجه أبو داود (3860) فى الطب، باب: ما جاء فى موضع الحجامة، والترمذى (2051) فى الطب، باب: ما جاء فى الحجامة، وابن ماجه (3483) فى الطب، باب: موضع الحجامة، وأحمد فى «المسند» (3/ 192) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6077) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» و (الأخدعان) : عرقان فى جانبى العنق، و (الكاهل) : ما بين الكتفين، وهو مقدم الظهر.(3/60)
على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه والأذنين والعينين والأسنان والأنف.
وقد ورد فى حديث ضعيف جدّا، أخرجه ابن عدى من طريق عمر بن رباح عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رفعه: الحجامة فى الرأس تنفع فى سبع، من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين «1» . وعمر متروك، رماه الفلاس وغيره بالكذب.
وروى ابن ماجة فى سننه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صدع غلف رأسه بالحناء، ويقول: إنه نافع بإذن الله من الصداع «2» . وفى صحته نظر. وهو علاج خاص بما إذا كان الصداع من حرارة ملتهبة، ولم يكن من مادة يجب استفراغها، وإذا كان كذلك نفع فيه الحناء نفعا ظاهرا. قالوا: وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل سكن الصداع، وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعم جميع الأعضاء.
وفى تاريخ البخارى وسنن أبى داود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما شكا إليه أحد وجعا فى رأسه إلا قال له «احتجم» ، ولا شكا وجعا فى رجليه إلا قال له: «اختضب بالحناء» «3» . وفى الترمذى عن على بن عبد الله عن جدته- وكانت تخدم النبى- صلى الله عليه وسلم- قالت: ما كان يكون برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرحة ولا نكتة إلا أمرنى أن أضع عليها الحناء «4» .
ذكر طبه ص للرمد:
وهو ورم حار يعرض فى الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها،
__________
(1) ضعيف جدّا: أخرجه ابن عدى فى «الكامل» (5/ 51) فى ترجمة عمر بن رباح، وضعفه.
(2) ضعيف: وهو عند البزار، وليس ابن ماجه كما ذكر المصنف، وفيه الأحوص بن حكيم، وقد وثق وفيه ضعف كثير، وأبو عون، ولم أعرفه، قاله الهيثمى فى «المجمع» (5/ 95) .
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3808) فى الطب، باب: فى الحجامة، وأحمد فى «المسند» (6/ 462) ، من حديث سلمى مولاة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وفى إسناده ضعف.
(4) ضعيف: أخرجه الترمذى (2054) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالحناء، وابن ماجه (3502) فى الطب، باب: الحناء، من حديث سلمى مولاة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وسنده ضعيف.(3/61)
وسببه: انصباب أحد الأخلاط أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ، فإن اندفع إلى الخياشيم «1» أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة «2» والمنخرين أحدث الخنان- بالخاء المعجمة والنون-، أو إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة «3» ، وإن لم ينحدر وطلب نفاذا فلم يجد أحدث الصداع، كما تقدم. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يعالج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة.
وفى سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وبين يديه خبز وتمر فقال: «ادن وكل» ، فأخذت تمرا فأكلت، فقال: «تأكل تمرا وبك رمد؟» فقلت: يا رسول الله، أمضغ من الناحية الآخرى، فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «4» . وقد روى أنه حمى عليّا من الرطب لما أصابه الرمد.
وفى البخارى من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» «5» . والكمأة: نبات لا ورق لها ولا ساق، يوجد فى الأرض من غير أن يزرع. وروى الطبرانى من طريق المنكدر عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هو جدرى الأرض، فبلغه ذلك فقال: «إن الكمأة ليست جدرى الأرض، ألا إن الكمأة من المن» «6» . واختلف فى قوله: «من
__________
(1) يقصد: الأنف.
(2) اللهاة: اللحمة التى فى أقصى الحلق.
(3) الشوصة: وجع فى البطن من ريح تنعقد تحت الأضلاع. (النهاية فى غريب الحديث) مادة (شوص) .
(4) حسن: أخرجه ابن ماجه (3443) فى الطب، باب: الحمية، وقال البوصيرى فى «الزوائد» : إسناده صحيح، رجاله ثقات.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (4478) فى التفسير، باب: وقوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، ومسلم (2049) فى الأشربة، باب: فضل الكمأة ومداواة العين بها.
(6) قلت: هو عند الترمذى (2068) بنحوه فى الطب، باب: ما جاء فى الكمأة والعجوة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وقال الترمذى: هذا حديث حسن، وهو كما قال.(3/62)
المن» ، فقيل: من المن الذى أنزل الله على بنى إسرائيل، وهو الطل الذى يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا، ومنه الترنجبيل فكأنه يشبه الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج.
وقال الخطابى: ليس المراد أنها نوع من المن الذى أنزل الله على بنى إسرائيل، فإن الذى أنزل على بنى إسرائيل كان كالترنجبيل الذى يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شئ ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقى، وإنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها من الحلال المحض، الذى ليس فى اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر.
وقال ابن الجوزى: فى المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنها لا تستعمل صرفا فى العين، لكن اختلفوا كيف يصنع بها على رأيين: أحدهما أن يختلط فى الأدوية التى يكتحل بها، حكاه أبو عبيد، ثانيهما: أن تؤخذ فتشق وتوضع على الجمر حتى يغلى ماؤها ثم يؤخذ الميل «1» فيجعل فى ذلك الشق وهو فاتر، فيكتحل بمائها، لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه، ولا يجعل الميل فى مائها وهى باردة يابسة فلا ينجع.
وقال آخر: تجعل الكمأة فى قدر جديدة ويصب عليها الماء، ولا يطرح فيها ملح، ثم يؤخذ غطاء جديد نقى فيجعل على القدر، فما جرى على الغطاء من بخار الكمأة فذلك الماء الذى يكتحل به.
وقال ابن واقد: إن ماء الكمأة إذا عصر وربى به الإثمد كان ذلك من أصلح الأشياء للعين إذا اكتحل به يقوى أجفانها، ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة، ويدفع عنها نزول النوازل. وقال أيضا: إذا اكتحل بماء الكمأة وحده بميل من ذهب تبين للفاعل لذلك قوة عجيبة وحدة فى البصر كثيرة.
وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسيحى وابن سينا وغيرهما، قال: والذى يزيل الإشكالات عن هذا
__________
(1) الميل: العود الذى يكتحل به.(3/63)
الاختلاف أن الكمأة وغيرها خلقت فى الأصل سليمة من المضار، ثم عرضت لها الآفات بأمور أخرى، من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التى أرادها الله تعالى، فالكمأة فى الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضر لنيته والعكس بالعكس والله أعلم.
ذكر طبه ص من العذرة:
وهى- بضم المهملة وسكون الذال المعجمة- وجع فى الحلق يعترى الصبيان غالبا، وقيل: هى قرحة تخرج بين الأذن والحلق، أو فى الخرم الذى بين الأنف والحلق، وهو الذى يسمى سقوط اللهاة، وقيل هو اسم اللهاة والمراد وجعها سمى باسمها، وقيل: هو موضع قريب من الهاة، واللهاة- بفتح اللام- اللحمة التى فى أقصى الحلق.
وفى البخارى، من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية- أسد خزيمة- وهى أخت عكاشة، أنها أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بابن لها قد علقت عليه من العذرة، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق؟ عليكم بهذا العود الهندى فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب» «1» يريد الكست وهو العود الهندى. قوله: «تدغرن» خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة والدال المهملة، والدغر: غمز الحلق.
وعن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عائشة وعندها صبى يسيل منخراه دما، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: به العذرة، أو وجع فى رأسه، فقال: «ويلكن لا تقتلن أولادكن، أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع فلتأخذ قسطا هنديا فلتحله بماء ثم تسعطه إياه» فأمرت عائشة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5693) فى الطب، باب: السعوط بالقسط الهندى، ومسلم (287) فى السلام، باب: التداوى بالعود الهندى وهو الكست.(3/64)
فصنع ذلك للصبى فبرئ. الحديث «1» . وفى القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها، وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة، وبالعلاق: وهو شئ يعلقونه على الصبيان، فنهاهم النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم.
والسعوط: ما يصب فى الأنف.
وقد استشكل معالجتها- أى العذرة- بالقسط الهندى مع كونه حارّا، والعذرة إنما تعرض فى زمن الحر بالصبيان، وأمزجتهم حارة، لا سيما وقطر الحجارة حار؟
وأجيب: بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفى القسط تجفيف للرطوبة وقد يكون نفعه فى هذا الداء بالخاصية، وأيضا فالأدوية الحارة قد تنفع فى الأمراض الحارة بالعرض كثيرا، بل وبالذات أيضا، وقد ذكر ابن سينا فى معالجة سقوط اللهاة بالقسط مع الشب اليمانى، على أنا لو لم نجد شيئا من التوجيهات لكان المعجز خارجا من القواعد الطبية.
ذكر طبه ص لداء استطلاق البطن «2» :
فى الصحيحين من حديث أبى المتوكل عن أبى سعيد الخدرى: أن رجلا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخى يشتكى بطنه- وفى رواية: استطلق بطنه- فقال: «اسقه عسلا» ، فسقاه فقال: إنى سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال:
«صدق الله وكذب بطن أخيك» «3» . وفى رواية مسلم فقال له ثلاث مرات،
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 315) وإسناده صحيح، وهو عند مسلم (2214) فى السلام، باب: التداوى بالعود الهندى بنحوه من حديث أم قيس- رضى الله عنها-.
(2) أى: الإسهال.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5684) فى الطب، باب: الدواء بالعسل، ومسلم (2217) فى الطب، باب: التداوى بسقى العسل، والترمذى (2082) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالعسل، وأحمد فى «المسند» (3/ 19 و 92) ، واستدركه الحاكم (4/ 445) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.(3/65)
ثم جاء الرابعة فقال: «اسقه عسلا» ، فقال: سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال: «صدق الله» . وفى رواية أحمد عن يزيد بن هارون فقال فى الرابعة:
«اسقه عسلا» ، قال فأظنه فسقاه فبرأ، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «صدق الله وكذب بطن أخيك» .
قال الخطابى وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب فى موضع الخطأ، يقال: كذب سمعك، أى زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى: كذب بطن أخيك، أى لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه.
وقال الإمام فخر الدين الرازى: لعله- صلى الله عليه وسلم- علم بنور الوحى أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه فى الحال مع كونه- صلى الله عليه وسلم- كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك كان جاريا مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ. وقد اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مسهل، فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟
وأجيب: بأن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ «1» . فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف، والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع: منها الهيضة التى تنشأ عن تخمة، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته فوصف له- صلى الله عليه وسلم- العسل لدفع الفضول المجتمع فى نواحى المعدة من أخلاط لزجة تمنع من استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شئ فى ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفده أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية، وإن
__________
(1) سورة يونس: 39.(3/66)
جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر، فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفى بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله تعالى.
وفى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وكذب بطن أخيك» إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء فى الشفاء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها.
وقال بعضهم: إن العسل تارة يجرى سريعا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضا، وتارة يبقى فى المعدة فيهيجها بلذعة لها حتى تدفع ويسهل البطن فيكون مسهلا، فإنكار وصفه بالمسهل مطلقا قصور من المنكر. وقال ابن الجوزى: فى وصفه- صلى الله عليه وسلم- العسل لهذا المسهل أربعة أقوال:
أحدها: أن حمل الآية على عمومها فى الشفاء أولى، وإلى ذلك أشار بقوله: صدق الله، أى فى قوله: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «1» فلما نبه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول فشفى بإذن الله تعالى.
الثانى: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوى بالعسل من الأمراض كلها.
الثالث: أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة، كما تقدم تقريره.
الرابعة: يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البلغم، فلعله شربه أولا بغير طبخ، انتهى.
والثانى والرابع ضعيفان: ويؤيد الأول حديث ابن مسعود: «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن» «2» أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعا، وأخرجه
__________
(1) سورة النحل: 69.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3452) فى الطب، باب: العسل، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 222 و 223 و 447) ، والبيهقى فى «الكبرى» (9/ 344) وقال البيهقى: رفعه غير معروف، والصحيح موقوف، ورواه وكيع عن سفيان موقوفا. ا. هـ. قلت: ولعل ذلك هو الصواب.(3/67)
ابن أبى شيبة والحاكم موقوفا، ورجاله رجال الصحيح. وأثر على: إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته شيئا من صداقها فليشتر به عسلا، ثم يأخذ ماء السماء، فيجمع هنيئا مريئا مباركا، أخرجه ابن أبى حاتم فى التفسير بسند حسن.
وروينا عنه- رضى الله عنه- أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله فى صحفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلا فليشربه فإنه شفاء: قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ذكره، أى من وجوه: قال الله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ»
وقال: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً «2» وقال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «3» وقال فى العسل: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «4» .
ذكر طبه ص فى يبس الطبيعة بما يمشيه ويلينه:
روى الترمذى وابن ماجه فى سننه من حديث أسماء بنت عميس قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بماذا كنت تستمشين؟» قالت: بالشبرم، قال: «حار حار ضار ضار» ثم قالت: استمشيت بالسنا، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو أن شيئا كان فيه شفاء من الموت لكان فى السنا» «5» . قال أبو عيسى هذا حديث غريب، وقد ذكر البخارى فى تاريخه الكبير من حديث أسماء بنت عميس مثل ما ذكره الترمذى. وذكر أبو محمد الحميدى فى كتاب «الطب» له أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والشبرم فإنه حار حار، ضار ضار،
__________
(1) سورة الإسراء: 82.
(2) سورة ق: 9.
(3) سورة النساء: 4.
(4) سورة النحل: 69.
(5) ضعيف: أخرجه الترمذى (2081) فى الطب، باب: ما جاء فى السنا، وابن ماجه (3461) فى الطب، باب: دواء المشى، وأحمد فى «المسند» (6/ 369) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 224 و 448) ، والبيهقى فى «الكبرى» (9/ 346) والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(3/68)
وعليكم بالسنا فتداووا به، فلو دفع الموت شئ لدفعه السنا» . وحكى عبد الحق الإشبيلى فى كتاب «الطب النبوى» له أن المحاسبى ذكر فى كتابه المسمى ب «القصد إلى الله» أن النبى- صلى الله عليه وسلم- شرب السنا بالتمر.
وفى سنن ابن ماجه، من حديث إبراهيم بن أبى عبلة قال: سمعت عبد الله بن أم حرام، وكان ممن صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى القبلتين، يقول:
«عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام» ، قيل: يا رسول الله وما السام؟ قال: «الموت» «1» . قالوا: والشبرم: قشر عرق شجرة، وهو حار يابس فى الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التى منع الأطباء من استعمالها لخطرها وفرط إسهالها.
وأما السنا: فهو نبت حجازى، وأفضله المكى، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الاعتدال، حار يابس فى الدرجة الأولى، يسهل الصفراء أو السوداء، ويقوى جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة، ومن خاصيته النفع فى الوسواس السوداوى.
قال الرازى: السنا والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة وينفعان فى الجرب والحكة، قال والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم. وأما السنوت، فقيل هو العسل، وقيل: رب عكة السمن يخرج خطوطا سودا على السمن، وقيل: حب يشبه الكمون وليس به، وقيل: هو الكمون الكرمانى، وقيل: إنه الرازيانج، وقيل إنه الشبث، وقيل إنه العسل الذى يكون فى زقاق السمن.
قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب، أى:
يخلط السنا مدقوقا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردا، لما فى العسل والسمن من إصلاح السنا وإعانته على الإسهال.
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3457) فى الطب، باب: السنا والسنوت، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(3/69)
ذكر طبه ص للمفؤود:
وهو الذى أصيب فؤاده، فهو يشتكيه كالمبطون. روى أبو داود عن سعد قال: مرضت مرضا، فأتانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعودنى، فوضع يده بين ثديىّ حتى وجدت بردها على فؤادى، وقال لى: «إنك رجل مفؤود، فائت الحارث ابن كلدة «1» من ثقيف فإنه رجل متطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلد بهن الفؤاد» «2» .
وهذا الحديث من الخطاب العام الذى أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم. والتمر لأهل المدينة كالحنطة لغيرهم، و «اللدود» : ما يسقاه الإنسان من أحد جانبى الفم. وفى التمر خاصية عجيبة لهذا الداء، سيما أهل المدينة، ولا سيما العجوة، وفى كونها سبعا خاصية أخرى تدرك بالوحى. وفى الصحيحين «من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية لم يضره فى ذلك اليوم سم ولا سحر» «3» .
ذكر طبه ص لذات الجنب:
فى البخاري مرفوعا: «عليكم بهذا العود الهندى، فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب» «4» . وفى الترمذى من حديث زيد بن أرقم قال: قال- صلى الله عليه وسلم-: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحرى والزيت» «5» . واعلم أن ذات الجنب هو ورم حار يعرض فى الغشاء المستبطن للأعضاء، وقد يطلق على ما يعرض فى نواحى الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات
__________
(1) هو: أحد حكماء العرب وكان طبيبا مشهورا فى عصره، عاصر عهد النبوة.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3875) فى الطب، باب: فى تمرة العجوة، وإسناده ضعيف.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5445) فى الأطعمة، باب: العجوة، ومسلم (2047) فى الأشربة، باب: فضل تمر المدينة، من حديث سعد- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: وقد تقدم من حديث أم قيس- رضى الله عنه-.
(5) ضعيف: أخرجه الترمذى (2079) فى الطب، باب: ما جاء فى دواء ذات الجنب، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(3/70)
والعضل الذى فى الصدر والأضلاع، فيحدث وجعا. فالأول هو ذات الجنب الحقيقى، الذى تكلم عليه الأطباء، قالوا: ويحدث بسببه خمسة أمراض:
الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشارى.
ويقال لذات الجنب أيضا: وجع الخاصرة، وهو من الأمراض المخوفة لأنها تحدث بين القلب والكبد، وهو من سئ الأسقام. والمراد بذات الجنب هنا الثانى، لأن القسط وهو العود الهندى هو الذى يداوى به الريح الغليظة.
وقد حكى الإمام ابن القيم عن المسيحى أنه قال: العود حار يابس قايض، محبس للبطن، ويقوى الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح ويفتح السدد، ويذهب فضل الرطوبة، نافع من ذات الجنب، جيد للدماغ. قال: ويجوز أن ينفع من ذات الجنب الحقيقية أيضا إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما فى وقت انحطاط العلة.
ذكر طبه ص لداء الاستسقاء:
عن أنس قال: قدم رهط من عرينة وعكل على النبى- صلى الله عليه وسلم-، فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من ألبانها وأبوالها» ، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل، وحاربوا الله ورسوله، فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم فى الشمس حتى ماتوا «1» .
رواه الشيخان.
واعلم أن الاستسقاء مرض مادى، سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو بها، إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحى التى فيها تدبير الغذاء والأخلاط. وأقسامه ثلاثة: لحمى، وهو أصعبها، وهو الذى يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو مع الدم فى
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (233) فى الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم، ومسلم (1671) فى القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين.(3/71)
الأعضاء. وزقى: وهو الذى يجتمع منه فى البطن الأسفل مادة مائية رديئة يسمع لها عند الحركة خضخضة كالماء فى الزق، وهو أردأ أنواعه عند أكثر الأطباء، وطبلى: وهو الذى ينتفخ معه البطن بمادة ريحية، إذا ضربت عليه سمعت له صوتا كصوت الطبل.
وإنما أمرهم- صلى الله عليه وسلم- بشرب ذلك، لأن فى لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد، إذ كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء خصوصا إذا استعمل بحرارته التى يخرج بها من الضرع، مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك ما يزيد فى ملوحة اللبن وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن.
وأما ضعف المعدة فذكر ابن الحاج فى المدخل: أن بعض الناس مرض بمعدته، فرأى الشيخ الجليل أبو محمد المرجانى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء، وهو أن يأخذ كل يوم على الريق وزن درهم من الورد المربى، ويكون ملتوتا بالمصطكى بعد دقها ويجعل فيها سبع حبات من الشونيز «1» ، يفعل ذلك سبعة أيام ففعله فبرئ. ومرض بعض الناس ببرد المعدة فرأى الشيخ المرجانى أيضا النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء: أوقية ونصف أوقية عسل نحل، ودر همين شونيز، ومثلها أنيسون، ونصف أوقية من النعنع الأخضر، ومن القرنفل نصف درهم، ومن القرفة نصف درهم، وشئ من قشر الليمون، مع قليل من الخل، ويعقد ذلك على النار، فاستعمله فبرئ.
ومرض آخر بسلس الريح، فرأى الشيخ المرجانى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء: شونيز ثلاثة دراهم، ومن خزامى در همين ونصف، ومن الكمون الأبيض ثلاثة دراهم، ومثله من السعتر الشامى ومثله من الغليا، ووزن درهم من البلوط وهو ثمرة الفؤاد، وأوقية من الزيت المرقى تجعل فيه من عسل النحل ما يعقد به وهو ربع رطل، ويؤخذ منه غدوة النهار وزن
__________
(1) الشونيز: الحبة السوداء.(3/72)
در همين على الريق، وعند النوم وزن درهم ونصف، فاستعمله فبرئ. ثم إنه- صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك قال فى النوم لذلك الشخص الذى أخبره بهذا الدواء إنه ينفع لأدواء هى: الريح، وسلسل الريح، والمعدة وبرودتها، ووجع الفؤاد وألم الحيض، وألم النفاس، وتعقد الرياح.
والزيت المرقى: صفته أن تأخذ شيئا من الزيت الطيب، وتجعله فى إناء نظيف وتحركه بعود، وتقرأ عليه سورة الإخلاص والمعوذتين، ولَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» إلى آخر السورة وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «3» إلى آخر السورة.
وحصل لآخر قولنج، فرأى الشيخ المرجاني النبى- صلى الله عليه وسلم- فأشار بهذا الدواء: وهو أن يأخذ ثلاثة دراهم من عسل النحل، ووزن درهم ونصف من الزيت المرقى، وإحدى وعشرين حبة من الشونيز ويخلط الجميع ثم يفطر عليه، ويفعل مثله عند النوم، يفعل ذلك حتى يبرأ، وتعمل له التلبينة ويستعملها بعد إن يفطر على ذلك، والتلبينة حساء يعمل من دقيق أو نخالة، وربما عمل فيها عسل، ويكون غذاؤه مصلوقة الدجاج أو لحم الضأن، ففعله فبرئ بعد أن أعيا الأطباء.
ومرض آخر بوجع الظهر، فشكا ذلك للشيخ فرأى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء، وهو عسل نحل وشونيز ودهن الألية والزيت المرقى، ورقيق البيضة، ويخلط ذلك كله، ويمده على الموضع ويدر عليه دقيق العدس بقشرة مع الحرمل بعدما يدق دقّا ناعما حتى يعود مثل الدقيق. ففعله فبرئ.
وشكا بعض الناس الدوخة فى رأسه فرأى الشيخ النبى- صلى الله عليه وسلم- فى النوم فأشار إلى هذا الدواء: قرنفل وزنجبيل وقرفة وجوزة طيب وسنبل، من
__________
(1) سورة التوبة: 128.
(2) سورة الإسراء: 82.
(3) سورة الحشر: 21.(3/73)
كل واحد درهم ونصف، وشونيز درهمين، يدق الجميع ثم يطبخ ويعقد بعسل النحل، فإذا قرب استواؤه عصر عليه قليل ليمون، فيكون عسل النحل غالبا عليه، ففعله فبرأ، انتهى. وهذا وإن كان مناما فقد عضدته التجربة مع إرشاد الشيخ المرجانى لذلك.
ذكر طبه ص من داء عرق النسا:
وهو بفتح النون والمهملة، المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشئ إلى محله. قيل: وسمى بذلك لأن ألمه ينسى ما سواه. وهذا العرق ممتد من مفصل الورك وينتهى إلى آخر القدم وراء الكعب. وعن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق فى كل يوم جزآ» «1» رواه ابن ماجه.
وهذا الدواء خاص بالعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم، وهو أنفعه لهم، لأن هذا المرض يحدث عن يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال. والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج والتليين. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين. وفى تعيين الشاة الأعرابية، قلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها، لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيح والقيصوم ونحوهما، وهذه إذا تغذى بها الحيوان صار فى لحمه من طبعها، بعد أن يلطفه تغذية، ويكسبها مزاجا ألطف منها ولا سيما الألية.
ذكر طبه ص من الأورام والخراجات:
بالبط والبزل «2» ، يذكر عن على- رضى الله عنه- قال: دخلت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رجل يعوده، بظهره ورم، فقالوا: يا رسول الله، هو بهذه مدة،
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3463) فى الطب، باب: دواء عرق النسا، وقال البوصيرى فى الزوائد: إسناده صحيح، وهو كما قال.
(2) البط: هو القطع والشق، والبزل: كذلك.(3/74)
فقال: «بطوا عنه» قال على: فما برحت حتى بطت، والنبى- صلى الله عليه وسلم- شاهد «1» .
ذكر طبه ص بقطع العروق والكى:
روى البخارى ومسلم من حديث جابر بن عبد الله، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعث إلى أبى بن كعب طبيبا، فقطع له عرقا وكواه عليه «2» . وأخرج مسلم عن جابر: لما رمى سعد بن معاذ فى أكحله، حسمه النبى- صلى الله عليه وسلم- «3» .
وروى الطحاوى، وصححه الحاكم عن أنس قال: كوانى أبو طلحة فى زمن النبى- صلى الله عليه وسلم- «4» .
وعند الترمذى: أنه- صلى الله عليه وسلم- كوى أسعد بن زرارة من الشوكة «5» . وروى مسلم عن عمران بن حصين قال: كان يسلّم على حتى اكتويت فتركت، ثم تركت فعاد «6» . وفى رواية: إن الذى كان انقطع عنى رجع إلى، يعنى تسليم الملائكة. وروى أحمد وأبو داود والترمذى عن عمران: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الكى، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا، الحديث «7» .
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 99) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه أبو الربيع السمان، وهو ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2207) فى السلام، باب: لكل داء دواء، والحديث ليس فى البخارى، كما قال المصنف.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2208) فيما سبق.
(4) صحيح: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 463) ، والطحاوى فى «شرح معانى الآثار» (4/ 321) ، وهو عند البخارى (5719- 5721) فى الطب، باب: ذات الجنب، وأحمد فى «المسند» (3/ 139) ، إلا أنه عند البخارى لم يرفعه إلى عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بل اكتفى بقوله «كواه أبو طلحة بيده» .
(5) صحيح: أخرجه الترمذى (2050) فى الطب، باب: ما جاء فى الرخصة فى ذلك من حديث أنس- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1226) فى الحج، باب: جواز التمتع.
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (3865) فى الطب، باب: فى الكى، والترمذى (2049) فى الطب، باب: ما جاء فى كراهية الكى، وابن ماجه (3490) فى الطب، باب: الكى، وسنده صحيح.(3/75)
وإنما يستعمل الكى فى الخلط الباغى الذى لا تحسم مادته إلا به، ولهذا وصفه- صلى الله عليه وسلم- ثم نهى عنه «1» ، وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولهذا كانت العرب تقول فى أمثلتها: آخر الدواء الكى. والنهى فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى، لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرا فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح.
وقال ابن قتيبة: الكى نوعان: كى الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذى قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى. لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع، والثانى: كى الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذى شرع التداوى له، فإن كان الكى لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق.
وحاصل الجمع: أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، ولذا وقع الثناء على تاركه، وأما النهى عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقا إلى الشفاء. وقال بعضهم: إنما نهى عنه مع إثباته الشفاء فيه إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم الداء بطبعه فكرهه لذلك، ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذى يكتوى التعذيب بالنار لأمر مظنون.
قال فى فتح البارى: ولم أر فى أثر صحيح أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اكتوى، إلا أن القرطبى نسب إلى كتاب آداب النفوس للطبرى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اكتوى، وذكره الحليمى بلفظ: وروى أنه أكوى للجرح الذى أصابه بأحد.
قال الحافظ ابن حجر: والثابت فى الصحيح فى غزوة أحد أن فاطمة أحرقت حصيرا فحشت به جرحه. وليس هذا الكى المعهود.
__________
(1) صحيح: وهو يشير إلى الحديث الذى عند البخارى (5680 و 5681) فى الطب، باب: الشفاء فى ثلاث.(3/76)
ذكر طبه ص من الطاعون:
قال الخليل «1» : الطاعون الوباء، وقال ابن الأثير: الطاعون المرض العام والوباء الذى يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان، وقال القاضى أبو بكر بن العربى: الطاعون، الوجع الغالب الذى يطفئ الروح، سمى بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله، وقال أبو الوليد الباجى: وهو مرض يعم الكثير من الناس فى جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس. وقال القاضى عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة فى الجسد، والوباء عموم الأمراض فسميت طاعونا تشبيها بها فى الهلاك. وقال النووى فى تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جدّا ويخرج مع لهب، ويسود ما حوله أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان وقئ، ويخرج غالبا فى المراق والآباط، وقد يخرج فى الأيدى والأصابع وسائر البدن.
وقال ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث فى المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط، أو خلف الأذن، أو عند الأربية، وسببه ورم ردئ يستحيل إلى جوهر سمى يفسد العضو، ويغير ما يليه، ويؤدى إلى القلب كيفية رديئة تحدث القئ والغثيان والغشى والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع فى الأعضاء الرئيسة، والأسود منه قلّ من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر، والطواعين تكثر عن الوباء فى البلاد الوبيئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء: فهو فساد جواهر الهواء الذى هو مادة الروح ومدده.
والحاصل: أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم وانصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء، يسمى طاعونا بطريق المجاز، لاشتراكهما فى عموم المرض أو كثرة الموت.
__________
(1) هو: الخليل بن أحمد الفراهيدى، اللغوى المشهور، عنه أخذ سيبويه علم اللغة، وإليه ينسب نشأة علم العروض.(3/77)
والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء، أن الطاعون لم يدخل المدينة النبوية، وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهى أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا إلى أرض الوباء.
والطاعون: من طعن الجن، وإنما لم يتعرض له الأطباء لكونه من طعن الجن، لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما عرف من الشارع، فتكلموا فى ذلك على ما اقتضته قواعدهم، وإنما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبا فى أعدل الفصول، وفى أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام فى الأرض لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحيانا ويجئ أحيانا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم ممن هو فى مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع دون موضع من الجسد لا يجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضى تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا فى الغالب يقتل غالبا بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجن. كما ثبت فى الأحاديث الواردة فى ذلك.
منها حديث أحمد والطبرانى عن أبى بكر بن أبى موسى الأشعرى عن أبيه قال: سألت عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هو وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة» «1» .
وقال الشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: يقع فى الألسنة، وهو فى النهاية تبعا لغريبى الهروى بلفظ «وخز إخوانكم» ولم أره بلفظ «إخوانكم» بعد التتبع الطويل البالغ فى شئ من طرق الحديث المسندة، لا فى الكتب المشهورة، ولا فى الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد الطبرانى أو كتاب الطواعين لابن أبى الدنيا، ولا وجود لذلك فى واحد منها والله أعلم.
انتهى.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 395 و 413) ، والطبرانى فى «الصغير» (351) ، و «الأوسط» (1418) .(3/78)
وفى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الطاعون رجز أرسل على طائفة من بنى إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه» «1» . وقد ذكر العلماء فى النهى عن الخروج حكما:
منها: أن الطاعون: فى الغالب يكون عاما فى البلد الذى يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن هو بها، فلا يفيده الفرار، لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل.
ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره ضائع المصلحة، لفقد من يتعهده حيّا وميتا. وأيضا: لو شرع الخروج. فخرج الأقوياء لكان فى ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد فى الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخلافه.
وقد جمع الغزالى بين الأمرين فقال: الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق، فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر فى الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير فى الباطن، فالخارج من البلد الذى يقع فيه لا يخلص غالبا مما استحكم به، وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء فى الخروج لبقى المرضى لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم.
ومنها: ما ذكره بعض الأطباء: أن المكان الذى يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة فتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التى حصل تكيف بدنها بها فأفسدته فمنع من الخروج لهذه النكتة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3473) فى أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (2218) فى السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها.(3/79)
ومنها: أن الخارج يقول: لو أقمت لأصبت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقع اللوم المنهى عنه. وقال العارف ابن أبى جمرة: البلاء إنما يقصد به أهل البقعة، لا البقعة نفسها، فمن أراد الله تعالى إنزال البلاء به فهو واقع به لا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشدنا الشارع إلى عدم النصب.
وقال ابن القيم: جمع- صلى الله عليه وسلم- للأمة فى نهيه عن الدخول إلى الأرض التى هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه، كمال التحرز منه، فإن فى الدخول فى الأرض التى هو فيها تعرضا للبلاء وموافاة له فى محل سلطانه، وإعانة الإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التى أرشد الله تعالى إليها، وهى حمية من الأمكنة والأهوية المؤذية، وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه معنيان:
أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله تعالى والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضا.
والثانى: ما قاله أئمة الطب أنه يجب على من كان يحترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه، والخروج من أرض الوباء والسفر منها لا يكون إلا بحركة شديدة، وهى مضرة جدّا. هذا كلام أفضل المتأخرين من الأطباء، فظهر المعنى الطبى من الحديث النبوى، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما، انتهى.
ذكر طبه ص من السلعة «1» :
أخرج البخارى فى تاريخه، والطبرانى والبيهقى عن شرحبيل الجعفى قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وبكفى سلعة، فقلت يا رسول الله قد آذتنى، تحول بينى وبين قائم السيف أن أقبض عليه وعنان الدابة، فنفث فى كفى، ووضع كفه على السلعة فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها عنها وما أرى أثرها.
__________
(1) السّلعة: الغدة.(3/80)
ومسح- صلى الله عليه وسلم- وجه أبيض بن حمال وكان به القوباء فلم يمس من ذلك اليوم ومنها أثر «1» ، رواه البيهقى وغيره.
ذكر طبه ص من الحمى:
روى البخارى من حديث ابن عمر عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء البارد» «2» واختلف فى نسبتها إلى جهنم. فقيل:
حقيقة، واللهب الحاصل فى جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها فى هذه الدار عبرة ودلالة.
وقيل: الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى: أن حر الحمى شبيه بحر جهنم، تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها. قوله «فأطفئوها» بهمزة قطع، أمر من: أطفأ. وروى الطبرانى «الحمى حظ المؤمن من النار» »
. وفى رواية نافع عن ابن عمر، عند الشيخين: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء» بهمزة وصل والراء مضمومة على المشهور وحكى كسر الراء. وفى رواية ابن ماجه «بالماء البارد» «4» . وفى رواية أبى جمرة- بالجيم- عند البخارى، قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتنى الحمى، فاحتبست أياما، فقال: ما حبسك؟ فقلت: الحمى، قال:
أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم» «5» شك.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 176- 177) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3264) فى بدء الخلق، باب: صفة النار، ومسلم (2209) فى السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوى.
(3) أخرجه الطبرانى فى «الصغير» (314) ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) هى عند ابن ماجه (3472) فى الطب، باب: الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء.
(5) هى عند البخارى (3261) فى بدء الخلق، باب: صفة النار، وأحمد فى «المسند» (1/ 291) .(3/81)
قال ابن القيم: قوله «بالماء» فيه قولان: أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح، والثانى: أنه ماء زمزم. ثم قال بعد أن روى حديث أبى جمرة هذا، وراوى هذا قد شك فيه، ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم، إذ هو متيسر عندهم، وأخبرهم بما عندهم من الماء، انتهى. وتعقب: بأنه وقع فى رواية أحمد عن عفان بن همام: «فأبردوها بماء زمزم» ولم يشك، وكذا أخرجه النسائى، وابن حبان والحاكم.
وقال ابن القيم: واختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن أن الذى حمل من قال إن المراد به الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد فى الحمى ولم يفهم وجهه. مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمان بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا، انتهى.
وقال الخطابى وغيره: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث، بأن اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك، لأنه يجمع المسام، ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببا للتلف. وقد غلط بعض من ينسب إلى العلم «1» ، فانغمس فى الماء لما أصابته الحمى، فاحتنقت الحرارة فى باطن بدنه، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه فى ذلك جهله بمعنى الحديث.
والجواب: أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب فى صدق الخبر، فيقال له أولا، من أين حملت الأمر على الاغتسال، وليس فى الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل، وإنما فى الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء، فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم فى الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصده- صلى الله عليه وسلم- استعمال الماء على وجه ينفع فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل
__________
(1) فى الأصل (العمل) ، والصواب ما أثبتناه، وكذا فى «فتح البارى» (10/ 186) .(3/82)
الانتفاع به، وهذا كما وقع فى أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى بالماء ما صنعته أسماء بنت أبى بكر الصديق- رضى الله عنهما-: فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه، فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابى ولا سيما مثل أسماء بنت أبى بكر التى هى كانت تلازم بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- أعلم بالمراد من غيرها.
وقد ذكر أبو نعيم وغيره، من حديث أنس يرفعه: «إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر» «1» . وقال المازرى: لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشئ دواءه فى ساعة فيكون داءه فى الساعة التى تليها لعارض يعرض له من غضب يحمى مزاجه مثلا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير. فإذا فرض وجود الشفاء لشخص لشئ فى حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره فى سائر الأحوال. والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف، وقوة الطباع. ويحتمل أن يكون هذا فى وقت مخصوص فيكون من الخواص التى اطلع عليها النبى- صلى الله عليه وسلم- بالوحى، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب.
وجعل ابن القيم خطابه- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الحديث خاصّا لأهل الحجاز وما والاهم، إذ كان أكثر الحميات التى تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية، الحادثة من شدة حرارة الشمس. قال: هذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا، لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل فى القلب، وتنشر منه بتوسط الروح والدم فى العروق إلى جميع البدن وهى قسمان: عرضية وهى الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ الشديد ونحو ذلك،
__________
(1) صحيح: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 223 و 447) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال.(3/83)
ومرضية وهى ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهى حمى يوم، لا تقلع غالبا فى يوم ونهايتها إلى ثلاث، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهى حمى دق، وهى أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفينية، وهى بعدد الأخلاط الأربعة: أعنى صفراوية، سوداوية، بلغمية، دموية، وتحت هذا الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الأفراد والتركيب. انتهى.
وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول. فإنها تسكن بالانغماس فى الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره، ولا يحتاج إلى علاج آخر. وقد قال جالينوس: لو أن شابّا خشن اللحم خصب البدن ليس فى أحشائه ورم استحم بماء بارد وسبح فيه فى وقت القيظ عند منتهى الحمى لانتفع بذلك.
وقد تكرر فى الحديث استعماله- صلى الله عليه وسلم- الماء البارد فى علته، كما فى الحديث: «صبوا على من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن» «1» . وفى المسند وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه «الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد» وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل «2» وصححه الحاكم، ولكن قال فى إسناده راو ضعيف. وعن أنس رفعه: «إذا حم أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال» «3» أخرجه الطحاوى وأبو نعيم فى الطب. وأخرج الطبرانى من حديث عبد الرحمن بن المرقع، رفعه: «الحمى رائد الموت، وهى سجن الله فى
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب والقدح، وأحمد فى «المسند» (6/ 151) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 447) ، هكذا وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الزيادة، وطرفه الأول عند أحمد فى «المسند» (5/ 281) ، من حديث ثوبان- رضى الله عنه-، ولم أقف عليه فيه من حديث سمرة.
(3) صحيح: وقد تقدم قبل حديثين.(3/84)
الأرض، فبردوا لها الماء فى الشنان وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء» «1» قال ففعلوا فذهب عنهم.
وقد أخرج الترمذى من حديث ثوبان مرفوعا: «إذا أصاب أحدكم الحمى وهى قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء، يستنقع فى نهر جار، ويستقبل جريته، وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك، وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاثة غمسات، ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله» «2» قال الترمذى: غريب، وفى سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه.
ذكر طبه ص من حكة الجسد وما يولد القمل:
لما كانت الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة رخص- صلى الله عليه وسلم- للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف فى لبس الحرير لحكة كانت بهما، كما فى البخارى عن قتادة أن أنسا حدثهم أن النبى- صلى الله عليه وسلم- رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير فى قميص من حرير من حكة كانت بهما.
وفى رواية أن عبد الرحمن والزبير شكيا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- يعنى القمل- فأرخص لهما فى الحرير، فرأيته عليهما فى غزاة. وفى رواية رخص النبى- صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فى الحرير. وفى رواية رخص النبى- صلى الله عليه وسلم-، أو رخص لحكة كانت بهما «3» .
ويحتمل أن تكون إحدى العلتين بأحد الرجلين، أو أن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى المسبب. قال النووى: هذا
__________
(1) ضعيف: أخرجه القضاعى فى مسند الشهاب (1/ 69) ، عن عبد الرحمن بن المرقع، وأخرجه ابن الدنيا فى «المرض والكفارات» (ص 73) ، والقضاعى فى مسند الشهاب (1/ 69) عن الحسن مرسلا.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2084) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالغسل، وأحمد فى «المسند» (5/ 281) ، والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(3) صحيح: وانظر هذه الروايات عند البخارى (2919- 2922) فى الجهاد والسير، باب: الحرير فى الحرب، وطرفه (5795) .(3/85)
الحديث صريح فى الدلالة لمذهب الشافعى وموافقيه: أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة، وكذا للقمل وما فى معنى ذلك.
وقال مالك: لا يجوز، وهذا الحديث حجة عليه، انتهى. وتعقب قوله: «لما فيه من البرودة» بأن الحرير حار. والصواب: أن الحكمة فيه إنما هى لخاصية فيه تدفع الحكة والقمل.
وقال ابن القيم: وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة فى مزاجه، مسخنا للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه. وقال الرازى: الإبريسم أسخن من الكتان وأبرد من القطن، يربى اللحم، وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن، فثياب الكتان باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من ثياب القطن وأقل حرارة منه، ولما كانت ثياب الحرير ليس فيها من اليبس والخشونة كغيرها صارت نافعة من الحكة، لأن الحكة- كما قدمته- لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص- صلى الله عليه وسلم- لهما فى الحرير لمداواة الحكة.
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم- من السم الذى أصابه بخيبر:
تقدم فى غزوتها قصة اليهودية التى أهدت إليه الشاة المسمومة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت للنبى- صلى الله عليه وسلم- شاة مصلية بخيبر، فقال: «ما هذه؟» قالت: هدية، وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل. فأكل النبى- صلى الله عليه وسلم- وأكل أصحابه، ثم قال: «أمسكوا» ثم قال للمرأة: «هل سميت هذا الشاة؟» قالت من أخبرك؟ قال: «هذا العظم، لساقها» وهو فى يده، قالت: نعم قال:
«لم؟» قالت: أردت إن كنت كاذبا أن يستريح منك الناس، وإن كنت نبيّا لم يضرك. قال: فاحتجم النبى- صلى الله عليه وسلم- ثلاثا على كاهله «1» .
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (4/ 260- 261) من هذا الطريق، وهى فى «صحيح البخارى» (3169) فى الجزية والموادعة، باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بسياق آخر.(3/86)
وقد ذكروا فى علاج السم أنه يكون بالاستفراغات وبالأدوية التى تعارض فعل السم وتبطله، إما بكيفياتها وإما بخواصها، فمن عدم الدواء فليبادر إلى الدواء الكلى، وأنفعه الحجامة، ولا سيما إذا كان البلد حارا، فإن القوة السمية تسرى فى الدم، فتبعثه فى العروق والمجارى، حتى تصل إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم وأخرج الدم خرجت معه تلك الكيفية السمية التى خالطته، فإن كان استفراغا تاما لم يضره السم، بل إما أن يذهب، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة فتبطل فعله، أو تضعفه.
ولما احتجم- صلى الله عليه وسلم- احتجم على الكاهل، لأنه أقرب إلى القلب، فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجا كليّا بل بقى أثرها مع ضعفه لما يريد الله تعالى من تكميل مراتب الفضل كلها له بالشهادة زاده الله فضلا وشرفا.
النوع الثالث فى طبه ص بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية
ذكر طبه ص من القرحة والجرح وكل شكوى:
عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول للمريض: «بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا، يشفى سقيمنا» . وفى رواية: كان يقول فى الرقية:
«بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا» «1» رواه البخارى.
وفى رواية لمسلم: كان إذا اشتكى الإنسان، أو كانت به قرحة أو جرح قال بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض، الحديث. وقوله: «تربة أرضنا؟» خبر مبتدأ محذوف، أى هذه تربة أرضنا. وقوله «يشفى سقيمنا» ضبط بوجهين، بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع، وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر، وسقيمنا بالنصب على المفعولية.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5745 و 5746) فى الطب، باب: رقية النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2194) في السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.(3/87)
قال النووى: معنى الحديث، أنه أخذ من ريق نفسه: على أصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب فعلق بها شئ منه، ثم مسح به على الموضع العليل أو الجرح قائلا الكلام المذكور فى حالة المسح.
وقال القرطبى: زعم بعض الناس أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذى به الألم، ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه، مع منفعته فى تجفيف الجراح واندمالها. وقال فى الريق: إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم، ولا سيما من الصائم والجائع.
وتعقبة القرطبى: بأن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق، وملازمة ذلك فى أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله- صلى الله عليه وسلم-: وأما وضع الأصبع بالأرض فلعله لخاصية فى ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة.
وقال البيضاوى: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا فى النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير فى حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغى للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه فى سقائه ليأمن مضرة ذلك، ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها.
وقال التوربشتى كأن المراد بالتربة الإشارة إلى النطفة، كأن تضرع بلسان الحال: إنك اخترعت الأصل الأول من التراب ثم أبدعته من ماء مهين، فهين عليك أن تشفى من كانت هذه نشأته.
وقال النووى: وقيل المراد «بأرضنا؟» أرض المدينة لبركتها، و «بعضنا» رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لشرف ريقه فيكون ذلك مخصوصا. وفيه نظر. وفى حديث عائشة عند أبى داود والنسائى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض، فقال: «اكشف الباس رب الناس» ، ثم أخذ(3/88)
ترابا من بطحان فجعله فى قدح ثم نفث عليه، ثم صبه عليه قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث تفرد به الشخص المرقى.
ذكر طبه- ص من لدغة العقرب:
عن عبد الله بن مسعود قال: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى إذ سجد فلدغته عقرب فى إصبعه، فانصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: «لعن الله العقرب، ما تدع نبيّا ولا غيره» ، ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة فى الماء والملح، ويقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1» والمعوذتين حتى سكنت «2» رواه ابن أبى شيبة فى مسنده. وقال ابن عبد البر: رقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من العقرب بالمعوذتين، وكان يمسح الموضع بماء فيه ملح.
وهذا طب مركب من الطبيعى والإلهى، فإن سورة الإخلاص قد جمعت الأصول الثلاثة، التى هى مجامع التوحيد، وفى المعوذتين استعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا. ولهذا أوصى- صلى الله عليه وسلم- عقبة بن عامر أن يقرأهما عقب كل صلاة «3» . رواه الترمذى. وفى هذا سر عظيم فى استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة. وقال: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» «4» .
وأما الماء والملح فهو الطب الطبيعى، فإن فى الملح نفعا لكثير من السموم ولا سيما لدغة العقرب، وفيه من القوة الجاذبة ما يجذب السموم ويحللها، ولما كان فى لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب استعمل- صلى الله عليه وسلم- الماء والملح لذلك.
__________
(1) سورة الإخلاص: 1.
(2) أخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (5/ 44) من حديث على- رضى الله عنه-، ولم أجده من حديث ابن مسعود، وكذا هو فى «مجمع الزوائد» (5/ 111) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير، وإسناده حسن.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1523) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار، والترمذى (2903) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء فى المعوذتين، والنسائى (3/ 68) فى السهو، باب: الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 155 و 201) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1463) فى الصلاة، باب: فى المعوذتين، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/89)
ذكر الطب من النملة:
وهى بفتح النون وإسكان الميم، قروح تخرج فى الجنب، وسمى نملة لأن صاحبه يحس فى مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه. وفى حديث مسلم عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- رخص فى الرقية من الحمة والعين والنملة «1» . وروى الخلال أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقى فى الجاهلية من النملة، فلما هاجرت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وكانت بايعته بمكة قالت: يا رسول الله إنى كنت أرقى فى الجاهلية من النملة، وأريد أن أعرضها عليك، فعرضتها فقالت:
بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها ولا تضر أحدا، اللهم اكشف الباس رب الناس. قال: «ترقى بها على عود سبع مرات، وتقصد به مكانا نظيفا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق وتطليه على النملة» .
ذكر طبه ص من البثرة:
روى النسائى عن بعض أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «عندك ذريرة؟» قلت: نعم، فدعا بها فوضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجله، ثم قال: «اللهم مطفئ الكبير، ومكبر الصغير، أطفئها عنى، فطفئت» «2» .
ذكر طبه ص من حرق النار:
روى النسائى عن محمد بن حاطب قال: تناولت قدرا، فأصاب كفى من مائها، فاحترق ظهر كفى، فانطلقت بى أمى إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال:
«أذهب الباس رب الناس» قال: وأحسبه قال: «واشف أنت الشافى وتفل» «3» .
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2196) فى السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة.
(2) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10870) ، وأحمد فى «المسند» (5/ 370) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 230) .
(3) حسن: أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10015) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 418) و (4/ 259) ، و (6/ 437) ، وابن حبان فى «صحيحه» (2977) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 70) والحديث حسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط.(3/90)
ذكر طبه ص بالحمية:
وهى قسمان: حمية عما يجلب المرض، وحمية عما يزيده فيقف على حاله.
فالأولى: حمية الأصحاء.
والثانية: حمية المرضى، فإن المريض إذا احتمى وقف مرضه عن التزايد، وأخذت القوى فى دفعه.
والأصل فى الحمية قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ إلى قوله: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «1» فحمى المريض من استعمال الماء لأنه يضره، كما وقعت الإشارة لذلك فى أوائل هذا المقصد.
وقد قال بعض أفاضل الأطباء: رأس الطب الحمية. والحمية للصحيح عندهم فى المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه، وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض، لأن التخليط يوجب الانتكاس والانتكاس أصعب من ابتداء المرض. والفاكهة تضر الناقه من المرض، لسرعة استحالتها وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة، وفى سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وبين يديه خبز وتمر، فقال: «ادن وكل» فأخذت تمرا فأكلت، فقال: «أتأكل تمرا وبك رمد؟» فقلت يا رسول الله أمضغ من الناحية الآخرى، فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» . ففيه الإشارة إلى الحمية وعدم التخليط، وأن الرمد يضر به التمر.
وعن أم المنذر بنت قيس الأنصارية قالت: دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه على، وهو ناقه من مرض، ولنا دوال معلقة، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأكل منها، وقام على يأكل منها، فطفق النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول لعلى: «إنك ناقه» حتى كف. قالت: وصنعت شعيرا وسلقا فجئت به فقال- صلى الله عليه وسلم- لعلى: «من هذا أصب فإنه أنفع لك» «3» رواه ابن ماجه.
__________
(1) سورة النساء: 43.
(2) حسن: وقد تقدم.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (3856) فى الطب، باب: فى الحمية، والترمذى (2037) فى الطب، باب: ما جاء فى الحمية، وابن ماجه (3442) فى الطب، باب: الحمية، وأحمد فى «المسند» (6/ 363 و 364) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/91)
وإنما منعه- صلى الله عليه وسلم- من أكله من الدوالى لأن فى الفاكهة نوع ثقل على المعدة، ولم يمنعه من السلق والشعير لأنه من أنفع الأغذية للناقه، ففى ماء الشعير التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة. فالحمية من أكبر الأدوية للناقه قبل زوال الداء، لكى يمتنع تزايده وانتشاره.
قال ابن القيم: ومما ينبغى أن يعلم أن كثيرا مما يحمى عنه العليل والناقه والصحيح إذا اشتدت الشهوة إليه، ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشئ اليسير الذى لا تعجز الطبيعة عن هضمه لم يضره تناوله، بل ربما انتفع به، فإن الطبيعة والمعدة يتلقيانه بالقبول والمحبة، فيصلحان ما يخشى من ضرره، وقد يكون أنفع من تناوله ما تكرهه الطبيعة وتدفعه من الدواء. ولهذا أقر النبى- صلى الله عليه وسلم- صهيبا وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة وعلم أنها لا تضره. ففى هذا الحديث- يعنى حديث صهيب- سر طبى لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق وكان فيه ضرر ما، كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه عن جوع صادق وإن كان نافعا فى نفسه. فإن صدق شهوته ومحبة الطبيعة له تدفع ضرره، وكذلك بالعكس.
ذكر حمية المريض من الماء:
عن قتادة بن النعمان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أحب الله العبد حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمه الماء» «1» . قال الترمذى حديث حسن غريب.
وروى الحميدى مرفوعا: «لو أن الناس أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم» .
وللطبرانى فى الأوسط عن أبى سعيد مرفوعا: «من شرب الماء على الريق انتقصت قوته» وفيه محمد بن مخلد الرعينى، وهو ضعيف.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (2036) فى الطب، باب: ما جاء فى الحمية، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 344) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو كما قال.(3/92)
ذكر أمره ص بالحمية من الماء المشمس خوف البرص:
روى الدار قطنى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: «لا تغتسلوا بالماء المشمس فإنه يورث البرص» «1» . وروى الدار قطنى هذا المعنى مرفوعا من حديث عامر عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو ضعيف. وكذا خرج العقيلى نحوه عن أنس بن مالك، ورواه الشافعى عن عمر.
فعلى هذا يكره استعمال الماء المشمس شرعا خوف البرص، لكنهم اشترطوا شروطا: أن يكون فى البلاد الحارة، والأوقات الحارة دون الباردة، وفى الأوانى المنطبعة على الأصح دون الحجر والخشب ونحوهما. واستثنى النقدان لصفائهما. وقال الجوينى بالتسوية، حكاه ابن الصلاح. ولا يكره المشمس فى الحياض والبرك قطعا، وأن يكون الاستعمال فى البدن لا فى الثوب، وأن يكون مستعملا حال حرارته، فلو برد زالت الكراهة فى الأصح فى الروضة وصحح فى الشرح الصغير عدم الزوال. واشترط صاحب التهذيب- كما قاله الجيلى- أن يكون رأس الإناء منسدا لتنحبس الحرارة، وفى شرح المهذب أنها شرعية يثاب تاركها وقال فى شرح التنبيه: إن اعتبرنا القصد فشرعية وإلا فإرشادية، وإذا قلنا بالكراهة فكراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة.
وقال الطبرى: إن خاف الأذى حرم، وقال ابن عبد السلام: لو لم يجد غيره وجب استعماله، واختار النووى فى الروضة عدم الكراهة مطلقا، وحكاه الرويانى فى البحر عن النص.
ذكر الحمية من طعام البخلاء:
عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «طعام البخيل داء وطعام الأسخياء شفاء» . رواه التنيسى عن مالك فى غير الموطأ، كما ذكره عبد الحق فى الأحكام.
__________
(1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 39) بسند فيه مجهول وبه ضعفه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (1/ 53- 54) .(3/93)
ذكر الحمية من داء الكسل:
روى أبو داود فى المراسيل عن يونس عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن:
أنه رآه مضطجعا فى الشمس، قال يونس فنهانى وقال: بلغنى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنها تورث الكسل وتثير الداء الدفين» «1» .
ذكر الحمية من داء البواسير:
عن الحسن قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يجامعن أحدكم وبه حقن خلاء، فإنه يكون منه البواسير» «2» رواه أبو أحمد الحاكم.
ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحى الذباب بانغماس الثانى:
عن أبى هريرة- رضى الله عنه-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن فى أحد جناحيه شفاء وفى الآخر داء» «3» . وفى رواية أبى داود: «فإنه يتقى بجناحه الذى فيه الداء، فليغمسه كله» . وفى رواية الطحاوى: فإن يقدم السم ويؤخر الشفاء. وفى قوله «كله» دفع توهم المجاز فى الاكتفاء بالبعض.
قال شيخ شيوخنا «4» : لم يقع لى فى شئ من الطرق تعيين الجناح الذى فيه الشفاء من غيره. لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقى بجناحه الأيسر. فعرف أن الأيمن هو الذى فيه الشفاء. وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا: «عمر الذباب أربعون ليلة. والذباب كله فى النار إلا النحل» «5» . وسنده لا بأس به.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود فى «المراسيل» (473 و 474) بلاغا.
(2) ضعيف: أخرجه ابن النجار عن أنس كما فى «كنز العمال» (44902) ، وأعاده برقم (45892) . ولم أجده فى «المستدرك» للحاكم.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3320) فى بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه.
(4) هو شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانى.
(5) صحيح: أخرج طرفه الأخير البزار وأبو يعلى فى مسنده والطبرانى فى الكبير، عن ابن عمر، والطبرانى فى الكبير عن ابن عباس وابن مسعود- رضى الله عنهما-، كما فى «صحيح الجامع» (3442) . وقد أوله بعض العلماء أن المقصود بذلك أنه ليعذب به أهل النار، لا ليعذب هو.(3/94)
قال الجاحظ: كونه فى النار ليس تعذيبا له بل ليعذب أهل النار له، ويتولد من العفونة. ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس، وأكثر ما يظهر فى أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثم من التوالد، وهو أكثر الطيور سفادا، وربما بقى عامة اليوم على الأنثى. ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعى: لأى علة خلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك، وكان ألحت عليه ذبابة. وقال الشافعى: سألنى ولم يكن عندى جواب فاستنبطت ذلك من الهيئة الحاصلة، فرحمة الله عليه ورضوانه.
ذكره أمره ص بالحمية من الوباء النازل فى الإناء بالليل بتغطيته:
عن جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «غطوا الإناء وأوكوا السقاء، فإن فى السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا ينزل فيه من ذلك الوباء» «1» . رواه مسلم فى صحيحه. قيل:
وذلك فى آخر شهور السنة الرومية.
ذكر حمية الوليد من إرضاع الحمقى:
روى أبو داود فى المراسيل بإسناد صحيح عن زياد السهمى قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نسترضع الحمقاء، فإن اللبن يشبه. وعند ابن حبيب:
يعدى، وعند القضاعى بسند حسن من حديث ابن عباس مرفوعا: «الرضاع يغير الطباع» «2» . وعند ابن حبيب أيضا مرفوعا: «أنه نهى عن استرضاع الفاجرة» . وعن عمر بن الخطاب: «أن اللبن ينزع لمن تسترضع» .
وأما الحمية من البرد فاشتهر على الألسنة: «اتقوا البرد فإنه قتل أبا
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2014) فى الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وذكر اسم الله عليها.
(2) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 56) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (3156) .(3/95)
الدرداء» »
. لكن قال شيخ الحفاظ ابن حجر: لا أعرفه: فإن كان واردا فيحتاج إلى تأويل، فإن أبا الدرداء عاش بعد النبى دهرا. انتهى. وأما ما اشتهر أيضا: «أصل كل داء البردة» «2» ، فقال شيخنا: رواه أبو نعيم والمستغفرى معا فى الطب النبوى والدار قطنى فى العلل، كلهم من طريق تمام ابن نجيح عن الحسن البصرى عن أنس رفعه. وتمام: ضعفه الدار قطنى وغيره، ووثقه ابن معين.
ولأبى نعيم أيضا من حديث ابن المبارك عن السائب بن عبد الله بن على بن زحر عن ابن عباس مرفوعا مثله. ومن حديث عمرو بن الحارث عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد رفعه: «أصل كل داء من البردة» «3» . وقد قال الدار قطنى عقب حديث أنس من علله: عباد بن منصور عن الحسن من قوله، وهو أشبه بالصواب. وجعله الزمخشرى فى «الفائق» من كلام ابن مسعود.
قال الدار قطنى فى كتاب التصحيف: قال أهل اللغة «البردة» يعنى بإسكان الراء، والصواب «البردة» يعنى بالفتح، وهى التخمة، لأنها تبرد حرارة الشهوة، أو لأنها ثقيلة على المعدة بطيئة الذهاب. من «برد» إذا ثبت وسكن. وقد أورد أبو نعيم مضموما لهذه الأحاديث، حديث الحارث بن فضيل عن زياد بن ميناء عن أبى هريرة رفعه: «استدفئوا من الحر والبرد» .
وكذا أورد المستغفرى مع ما عنده منها حديث إسحاق بن نجيح عن أبان عن أنس رفعه: «إن الملائكة لترح بفراغ البرد عن أمتى، أصل كل داء البرد» وهما ضعيفان وذلك شاهد لما حكى عن اللغويين فى كون المحدثين رووه بالسكون. انتهى.
__________
(1) ضعيف: وانظر كشف الخفاء (73) للعجلونى، وقد ذكر فيه كلام الحافظ ابن حجر المذكور.
(2) ضعيف جدّا: ذكره العجلونى فى كشف الخفاء (380) ، وكذا السيوطى فى «الجامع الصغير» (1087) ، وقال الألبانى فى «ضعيف الجامع» (893) : ضعيف جدّا.
(3) ضعيف جدّا: وانظر المصادر السابقة. وكذا «كنز العمال» (28249) .(3/96)
الفصل الثانى فى تعبيره ص الرؤيا
يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف: إذا فسرتها، وعبرتها بالتشديد للمبالغة فى ذلك. وأما «الرؤيا» بوزن فعلى- وقد تسهل الهمزة- فهى ما يراه الشخص فى منامه.
قال القاضى أبو بكر بن العربى: الرؤيا إدراكات يخلقها الله تعالى فى قلب العبد على يد ملك أو شيطان، إما بأسمائها، أى حقيقتها، وإما بكناها أى بعبارتها، وإما تخليطا. وذهب أبو بكر بن الطيب: إلى أنها اعتقادات، واحتج بأن الرائى قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد. قال ابن العربى: والأول أولى، والذى ذكره ابن الطيب من قبيل المثل فالإدراك يتعلق به لا بأصل الذات.
وقال المازرى: كثر كلام الناس فى حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع «1» ، فاضطربت أقاويلهم، فمن ينتمى إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط، فيقول:
من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح فى الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود فى الجو وهكذا إلى آخره، وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجرى الله العادة به لكنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة، والقطع فى موضع التجويز غلط.
__________
(1) الدليل السمعى: أى الكتاب والسنة لأنهما تلقيا عن طريق السماع من الوحى، بخلاف الدليل العقلى الذى لا يستمد منهما.(3/97)
ومن ينتمى إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجرى فى الأرض هى فى العالم العلوى كالنقوش، فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها. قال:
وهذا أشد فسادا من الأول، لكونه تحكما لا برهان عليه. والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجرى فى العالم العلوى الأعراض، والأعراض لا ينتقش فيها.
قال: والصحيح ما عليه أهل السنة، أن الله تعالى يخلق فى النائم اعتقادات قل يخلقها فى قلب اليقظان فإذا خلقها جعلها علما على أمور أخرى خلقها أو يخلقها فى ثانى الحال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف. وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسره، وتارة بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند الله.
وأخرج الحاكم والعقيلى من رواية محمد بن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لقى عمر عليّا فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، قال: نعم، سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذى لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التى صدق، والذى يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التى تكذب» «1» . قال الذهبى فى تلخيصه: هذا حديث منكر، ولم يصححه المؤلف.
وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو: أن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه به فى المنام. ووجد الحديث للترمذى «2» فى «نوادر الأصول» من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه فى الأصل الثامن والسبعين، وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبى عمر، وهو واه، وفى سنده جند بن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة.
__________
(1) منكر: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 439) ، ولم يصححه، وتعقبه الذهبى قائلا: بل منكر.
(2) هو: الحكيم الترمذى، صاحب نوادر الأصول وغير ذلك، وليس الإمام الترمذى صاحب السنن المعروف.(3/98)
قال الحكيم «1» : قال بعض أهل التفسير فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» أى فى المنام. ورؤيا الأنبياء وحى بخلاف غيرهم، فالوحى لا يدخله خلل لأنه محروس، بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنه قد يحضرها الشيطان.
وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بنى آدم من اللوح المحفوظ فينسخ منها، ويضرب لكل على قصته مثلا، فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدمى قد يسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه إما بتغليطه فيها أو بغافلته عنها.
الرؤيا الصالحة جزء من النبوة:
وفى البخارى من حديث أنس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة» «3» .
والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم، فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلطه عليهم. وقد استشكل كون الرؤيا جزآ من النبوة، مع أن النبوة انقطعت بموته- صلى الله عليه وسلم-.
وأجيب: بأن الرؤيا إن وقعت منه- صلى الله عليه وسلم- فهى جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبى فهى جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز. وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق. وتعقب بقول مالك- كما حكاه ابن عبد البر- أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب. ثم قال: الرؤية جزء من النبوة.
__________
(1) هو السابق.
(2) سورة الشورى: 51.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6983) في التعبير، باب: رؤيا الصالحين.(3/99)
وأجيب: بأنه لم يرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغى أن تكلم فيها بغير علم، فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة، لأن المراد تشبيه الرؤية بالنبوة، وجزء الشئ لا يستلزم ثبوت وصفه، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا، وفى حديث أم كرز الكعبية عند أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان: «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات» «1» . وعند أحمد من حديث عائشة مرفوعا: «لم يبق بعدى من المبشرات إلا الرؤيا» «2» وفى حديث ابن عباس عند مسلم وأبى داود: أنه- صلى الله عليه وسلم- كشف الستارة ورأسه معصوب فى مرضه الذى مات فيه، والناس صفوف خلف أبى بكر فقال: «يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له» «3» ، والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهى صادقة يريها الله للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه.
وقوله: «من الرجل الصالح» لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك، وحكى ابن بطال الاتفاق عليه. وقوله: «جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة» كذا فى أكثر الأحاديث. وروى مسلم من حديث أبى هريرة «جزء من خمسة وأربعين جزآ من النبوة» «4» ، وعنده أيضا من حديث ابن عمر «جزء من سبعين جزآ» «5» ، وعند الطبرانى: «جزء من ستة وسبعين» «6» ، وسنده
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3896) فى تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وأحمد فى «المسند» (6/ 381) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6047) ، ولم أجده فى الجزء المطبوع من صحيح ابن خزيمة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 829) بسند صحيح.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (479) فى الصلاة، باب: النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، وأبو داود (876) فى الصلاة، باب: فى الدعاء فى الركوع والسجود.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2263) (6) فى الرؤيا.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2265) فى الرؤيا.
(6) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (10/ 223) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، بسند فيه الركين، هو: الربيع بن سهل الفزارى، ضعيف الحديث.(3/100)
ضعيف، وعنه عن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعا: «جزء من ستة وعشرين جزآ» . ووقع فى شرح مسلم للنووى وفى رواية عبادة: «أربعة وعشرين» . والذى يتحصل من الروايات عشرة، أقلها ما عند النووى، وأكثرها: من ستة وسبعين، وأضربنا عن باقيها خوف الإطالة.
قال القاضى أبو بكر بن العربى: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبى، وإنما القدر الذى أراده النبى- صلى الله عليه وسلم- أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة فى الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة.
وقال المازرى: لا يلزم العالم أن يعرف كل شئ جملة وتفصيلا، فقد جعل الله للعالم حدّا يقف عنده، فمنه ما يعلم به المراد جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل.
وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبة، فنقل ابن بطال عن أبى سعيد السفاقسى أن بعض أهل العلم ذكر أن الله تعالى أوحى إلى نبيه فى المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك فى اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحى فى المنام جزء من ستة وأربعين جزآ، لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح. قال ابن بطال: هذا التأويل بعيد من وجهين:
أحدهما: أنه قد اختلف فى قدر المدة التى بعد بعثته- صلى الله عليه وسلم-.
والثانى: أنه يبقى حديث السبعين جزآ بغير معنى.
وهذا الذى قاله من الإنكار فى هذه المسألة سبقه إليه الخطابى فقال: كان بعض أهل العلم يقولون فى تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام بعد الوحى ثلاثا وعشرين سنة، وكان يوحى إليه فى منامه ستة أشهر، وهى نصف سنة، فهى جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة. قال الخطابى: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب(3/101)
على من قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا، ولم نسمع فيه أثرا ولا ذكر مدعيه فى ذلك خبرا، فكأنه قاله على سبيل الظن، والظن لا يغنى من الحق شيئا.
وليس كل ما خفى علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام، ورمى الجمرات، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك فى موجب اعتقادنا للزومها. وقد ذكروا فى المناسبات غير ذلك ما يطول ذكره.
وعن أبى سعيد عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «أصدق الرؤيا بالأسحار» «1» رواه الترمذى والدارمى. وروى مسلم من حديث أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» «2» . قال الخطابى فى «المعالم» فى قوله: «إذا اقترب الزمان» قولان:
أحدهما: أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار، وهو وقت استهوائهما، أيام الربيع، وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا، قال:
والمعبرون يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار.
والثانى: أن اقتراب الزمان انتهاء مدته، إذا دنا قيام الساعة.
وتعقب الأول: بأنه يبعده التقييد بالمؤمن، فإن الوقت الذى تعتدل فيه الطبائع لا يختص به. وجزم ابن بطال بأن الثانى هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذى من طريق معمر عن أيوب فى هذا الحديث بلفظ: فى آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن. وقيل: المراد بالزمان المذكور زمان المهدى عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه.
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (2274) فى الرؤيا، باب: قوله لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، والدارمى (2146) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 29، 68) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 434) ، بسند ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2263) فى الرؤيا، وطرفه الأول عند البخارى (7017) فى التعبير، باب: القيد فى المنام.(3/102)
وقال القرطبى فى «المفهم» : المراد- والله أعلم- باخر الزمان المذكور فى الحديث، زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم- عليهما السلام- بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول.
وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤياهم لا تكذب، ومن ثم قال عقب هذا:
وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، وإنما كانت كذلك لأن من كثر صدقه تنور قلبه وقوى إدراكه، وانتقشت فيه المعانى على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب أحواله الصدق فى يقظته فإنه يستصحب ذلك فى نومه فلا يرى إلا صدقا، وهذا بخلاف الكاذب والمخلط، فإنه يفسد قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيانا، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا.
وعن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هى من الله، فليحمد الله عليها وليتحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هى من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها، فإنها لا تضره» «1» رواه البخارى. وفى رواية لمسلم: «ورؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا وكره منها شيئا فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان، ولا يخبر بها أحدا، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها إلا من يحب» «2» . وقوله: «فليبشر» بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة، من البشرى.
وفى حديث أبى رزين عند الترمذى: «ولا يقصها إلا على وادّ» «3» - بتشديد الدال، اسم فاعل من الود- «أو ذى رأى» وفى أخرى: «ولا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا» وفى أخرى: «لا تقص رؤياك إلا على عالم أو
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6985) فى التعبير، باب: الرؤيا من الله.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2261) فى الرؤيا، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (5020) فى الأدب، باب: ما جاء فى الرؤيا، والترمذى (2278) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى تعبير الرؤيا، وابن ماجه (3914) فى تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا إذا عبرت وقعت فلا يقصها إلا على وادّ، والدارمى (2148) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 10 و 11 و 12 و 13) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/103)
ناصح» . وفى حديث أبى سعيد عند مسلم: «فليحمد الله عليها وليحدث بها» «1» .
وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها، وأن يبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره.
وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل حين يهب من نومه، ولا يذكرها لأحد أصلا. فى البخارى من حديث أبى هريرة خامسة: وهى الصلاة، ولفظه:
«فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل» «2» . لكن لم يصرح البخارى بوصله، وصرح به مسلم، وزاد مسلم سادسة: وهى التحول من جنبه الذى كان عليه فقال: عن جابر رفعه: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذى كان عليه» «3» .
قال النووى: وينبغى أن تجمع هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأ فى رفع ضررها كما صرحت به الأحاديث. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لم ير فى شئ من الأحاديث الاقتصار على واحد، ثم قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية فى دفع شرها. انتهى.
ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله كما قاله القرطبى، لأنه إذا قام يصلى تحول عن جنبه، وبصق ونفث عند المضمضة فى الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله فى أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها. وذكر بعضهم سابعة: وهى قراءة آية الكرسى، ولم يذكر لذلك مستندا، فإن أخذه من
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6985) فى التعبير، باب: الرؤيا من الله، والحديث عند البخارى كما تقدم، وليس في مسلم، كما قال المصنف.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (7017) فى التعبير، باب: القيد فى المنام، ومسلم (2263) فى الرؤيا.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2262) فى الرؤيا.(3/104)
عموم قوله فى حديث أبى هريرة: «ولا يقربك شيطان» فيتجه، قال: وينبغى أن يقرأها فى صلاته المذكورة.
وحكمة التفل- كما قال القاضى عياض- أمر به طردا للشيطان الذى حضر الرؤيا المكروهة، تحقيرا له واستقذارا، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها، والتثليث للتأكيد. وقد ورد التفل والنفث والبصق، قال النووى فى الكلام على النفث على الرقية- تبعا للقاضى عياض-: اختلف فى التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى واحد لا يكونان إلا بريق. وقال أبو عبيد:
يشترط فى التفل ريق يسير، ولا يكون فى النفث، وقيل عكسه. وسئلت عائشة عن النفث فى الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه.
قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد. قال: وقد جاء فى حديث أبى سعيد فى الرقية بفاتحة الكتاب: فجعل يجمع بزاقه.
قال القاضى: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء.
وقال النووى أيضا: وأكثر الروايات فى الرؤية «فلينفث» وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن المطلوب فى الموضعين مختلف، لأن المطلوب فى الرقية التبرك برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان، وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما تقدم.
فالذى يجمع الثلاثة، الحمل على التفل، فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له بصق. وأما قوله:
«فإنها لا تضره» فمعناه- كما قاله النووى-: أن الله تعالى جعل ما ذكر سبب للسلامة من المكروه المرتب على الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال، وأما التحول، فللتفاؤل بتحول تلك الحال التى كان عليها.
والحكمة فى قوله فى الرؤيا الحسنة: «ولا يخبر بها إلا من يحب» لأنه إذا حدث بها من لا يحب قد يفسرها له بما لا يحب، إما بغضا وإما حسدا، فقد تقع على تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك.(3/105)
وقد روى من حديث أنس مرفوعا: «الرؤيا لأول عابر» «1» . وهو حديث ضعيف، فيه يزيد الرقاشى، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذى وابن ماجه، بسند حسن، وصححه الحاكم عن أبى رزين العقيلى رفعه:
«الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت» «2» .
وعند الدارمى بسند حسن عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف فى التجارة، فأتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجى غائب، وتركنى حاملا، فرأيت فى منامى أن سارية بيتى انكسرت وأنى ولدت غلاما أعور، فقال: «خير يرجع زوجك إن شاء الله تعالى صالحا، وتلدين غلاما برّا» ، فذكرت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- غائب، فسألتها فأخبرتنى بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكى، فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها» «3» .
وعند سعيد بن منصور بن مرسل عطاء بن أبى رباح: جاءت امرأة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنى رأيت كأن جائزة بيتى انكسرت، وكان زوجها غائبا، قال: «رد الله عليك زوجك، فرجع سالما» «4» الحديث. قال أبو عبيد وغيره: معنى قوله: «الرؤيا لأول عابر» إذا كان العابر الأول عالما، فعبر وأصاب وجه التعبير، وإلا فهى لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب فى تعبير المنام ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب فلا ينبغى أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثانى، وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول. هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره.
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3915) فى تعبير الرؤيا، باب: علام تعبر به الرؤيا، من حديث أنس، وفيه يزيد بن أبان الرقاشى، وهو ضعيف.
(2) صحيح: وقد تقدم، وطرفه «ولا يقصها إلا على واد» .
(3) أخرجه الدارمى (2163) ، وذكره الحافظ فى «الفتح» (12/ 433) وقال: سنده حسن.
(4) ذكره الحافظ فى «الفتح» (12/ 433) وقال: سنده صحيح عن عطاء.(3/106)
ومن آداب المعبر، ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه كتب إلى أبى موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خير لنا وشر لأعدائنا. ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع. وفى حديث ابن زمل «1» عند الطبرانى والبيهقى فى الدلائل: لما قص على النبى- صلى الله عليه وسلم- رؤياه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «خير تتلقاه وشر تتوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين اقصص على رؤياك» «2» الحديث، وسنده ضعيف جدّا، ويأتى- إن شاء الله تعالى-. ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا فى الليل، وأن لا يقصها على امرأة، لكن ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى الغداة يقول: «هل رأى أحد الليلة رؤيا» «3» ، فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، ويعبر لهم ما يقصون، وبوب عليه البخارى: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.
قالوا: وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال: لا تقص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس، وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير: إن المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبل الغروب، فإن الحديث دل على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، فلا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها فى أوقات كراهة الصلاة.
قال المهلب «4» : تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات، لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها، وقبل ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائى ما
__________
(1) ذكره الحافظ فى «اللسان» (3/ 287) وقال: تابعى أرسل ولا يكاد يعرف، ليس بمعتمد، وقال ابن حبان فى الثقات، يقال له صحبة.
(2) ضعيف: وهو جزء من حديث طويل أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (8/ 302) ، والبيهقى فى «الدلائل» (7/ 36- 38) .
(3) الحديث أخرجه البخارى (7047) فى التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.
(4) هو: المهلب بن أحمد بن أبى صفرة الأسدى الأندلسى المريى، مصنف «شرح صحيح البخارى» ، كان أحد الأئمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء، وتوفى سنة 435 هـ.(3/107)
يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشر بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان فى الرؤيا تحذير من معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذارا لأمر فيكون له مترقبا. قال: فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار. قاله فى فتح البارى.
وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائى أن يكون صادق اللهجة، وأن ينام على وضوء، على جنبه الأيمن، وأن يقرأ عند نومه والشمس، والليل، والتين، وسورة الإخلاص والمعوذتين وأن يقول: اللهم إنى أعوذ بك من سيئ الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان فى اليقظة والمنام، اللهم إنى أسألك رؤيا صالحة صادقة نافعة حافظة غير منسية، اللهم أرنى فى منامى ما أحب. وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل. إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائى تنحصر فى قسمين:
* أضغاث أحلام وهى لا تنذر بشئ وهى أنواع:
الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائى. كأنه يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو رأى أنه واقع فى هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك. وروى مسلم عن جابر: جاء أعرابى فقال: يا رسول الله، إنى حلمت أن رأسى قطع وأنا أتبعه، فزجره- صلى الله عليه وسلم- وقال: «لا تخبر بتلعب الشيطان بك فى المنام» «1» .
الثانى: أن يرى أن بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحال عقلا.
الثالث: ما يحدث به نفسه فى اليقظة أو يتمناه، فيراه كما هو فى المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته فى اليقظة، أو ما يغلب على مزاجه ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا، وعن الماضى قليلا.
* القسم الثانى: الرؤيا الصادقة، وهى رؤيا الأنبياء، ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور، وهى التى تقع فى اليقظة على وفق ما
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2268) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» .(3/108)
وقعت فى النوم، وقد وقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- من الرؤيا الصادقة التى كفلق الصبح ما لا يعد ولا يحد. قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح»
. الحديث رواه البخارى. وفى رواية: الرؤيا الصالحة.
وهما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة فى حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة فى الأصل أخص. فرؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم- كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع فى الرؤيا يوم أحد، فإنه- صلى الله عليه وسلم- رأى بقرا تذبح، ورأى فى سيفه ثلما، فأول البقر ما أصاب أصحابه يوم أحد، والثلم الذى فى سيفه برجل من أهل بيته يقتل، ثم كانت العاقبة للمتقين، وكان بعد ذلك النصر والفتح على الخلق أجمعين.
وأما رؤيا غير الأنبياء، فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التى لا تحتاج إلى تفسير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقا. وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينورى فى «التعبير القادرى» :
الرؤيا الصالحة ما يقع بعينه، أو ما يعبر فى المنام، أو يخبر به من لا يكذب، والصالحة ما فسر. واعلم أن الناس فى الرؤيا على ثلاث درجات:
الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير.
والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير.
ومن عداهم: يقع فى رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال فى حقهم، وفسقة فالغالب على
__________
(1) صحيح: الحديث أخرجه البخارى (3) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.(3/109)
رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق، وكفار: ويندر فى رؤياهم الصدق جدّا، ويشير إلى ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا» «1» ، أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة.
وقد وقعت الصادقة من بعض الكفار كما فى رؤيا صاحبى السجن مع يوسف- عليه السّلام-، ورؤيا ملكهما وغير ذلك. وقد روى الإمام أحمد مرفوعا وصححه ابن حبان من حديث أبى سعيد: أصدق الرؤيا بالأسحار. وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينورى أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها، ومن النصف الثانى يسرع بتفاوت أجزاء الليل، وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر، ولا سيما عند طلوع الفجر، وعن جعفر الصادق أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة، وعن محمد بن سيرين: رؤيا النهار مثل رؤيا الليل، والنساء بمثل الرجال، وعن القيروانى: أن المرأة إذا رأت ما ليست له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه.
ومن مرائيه الكريمة- صلى الله عليه وسلم-: شربه اللبن وتعبره بالعلم، كما فى حديث ابن عمر عند البخارى قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه، حتى إنى لأرى الرى يخرج من أظفارى، ثم أعطيت فضلى- يعنى عمر-» ، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال:
«العلم» «2» . وفى رواية الكشميهنى: من أظافرى، وفى رواية صالح بن كيسان: من أطرافى.
وهذه الرؤية يحتمل بأن تكون بصرية، وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول: ما أخرجه الحاكم والطبرانى من طريق أبى بكر بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده فى هذا الحديث: «فشربت حتى رأيته
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3681) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى الله عنه-، ومسلم (2391) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-.(3/110)
يجرى فى عروقى بين الجلد واللحم» «1» ، على أنه محتمل أيضا. قال بعض العارفين: الذى خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، وهو كما قال، لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم والذى ذكره قد يكون خارقا للعادة فيكون من باب الكرامة.
وقال العارف ابن أبى جمرة: تأول النبى- صلى الله عليه وسلم- اللبن بالعلم اعتبارا بما بين له أول الأمر حين أتى بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن فقال له جبريل: أخذت الفطرة، انتهى. وقد جاء فى بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة، كما أخرجه البزار من حديث أبى هريرة رفعه: اللبن فى المنام فطرة.
وذكر الدينورى: أن اللبن المذكور فى هذا يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم، قال: ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك فى الدين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللبوة مال مع عداوة لذى أمر، وفى الحديث: أن علم النبى- رضى الله عنه- بالله لا يبلغ أحد درجته فيه، لأنه شرب حتى رأى الرى يخرج من أطرافه. وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله بحيث كان لا تأخذه فى الله لومة لائم، ووجه التعبير فى الحديث بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم فى كثرة النفع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدنى، والعلم للغذاء المعنوى.
ومن ذلك رؤيته- صلى الله عليه وسلم- القميص وتعبيره بالدين. وعن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علىّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدى، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرّ علىّ عمر وعليه قميص يجره» . قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال:
«الدين» «2» ، رواه البخارى. وفى رواية الترمذى الحكيم من طريق أخرى فى هذا الحديث، فقال أبو بكر: علام تؤول هذا يا رسول الله؟
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 92) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 293) ، وفى «فضائل الصحابة» (1/ 253) ، من الطريق المذكور.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (23) فى الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال، ومسلم (2390) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-.(3/111)
و «الثدى» بضم المثلاثة وكسر الدال وتشديد الياء، جمع ثدى، بفتح ثم سكون، والمعنى: أن القميص قصير جدّا بحيث لا يستر من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها. وقوله: «ومنها ما يبلغ دون ذلك» يحتمل أن يريد به من جهة السفل، وهو الظاهر فيكون أطول، ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما فى رواية الترمذى الحكيم المذكورة:
فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته، ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه.
ويجوز النصب فى قوله «الدين» والتقدير: أولته الدين، ويجوز الرفع.
وفى رواية الحكيم المذكورة: على الإيمان. وقد قيل فى وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة فى الدنيا، والدين يسترها فى الآخرة ويحجبها عن كل مكروه، والأصل فيه قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ «1» .
واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده. وقال ابن العربى: إنما أول- صلى الله عليه وسلم- القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل، كما يستر القميص عورة البدن. قال:
وأما غير عمر فالذى كان يبلغ الثدى هو الذى يستر قلبه عن الكفر ولو كان يتعاطى المعاصى، والذى كان يبلغ أسفل من ذلك وفرجه باد هو الذى لم يستر رجله عن المشى إلى المعصية، والذى يستر رجله هو الذى احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذى يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص.
وأشار العارف ابن أبى جمرة: إلى أن المراد بالناس فى الحديث:
المؤمنون، لتأويله القميص بالدين، قال: والذى يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية، بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهى، وكان لعمر فى ذلك المقام العالى.
__________
(1) سورة الأعراف: 26.(3/112)
قال: ويؤخذ من هذا الحديث، أن كل ما يرى فى القميص من حسن أو غيره فإنه يعبر بدين لابسه، والنكتة فى القميص أن لابسه إذا اختار نزعه، وإذا اختار أبقاه، فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل فى ذلك سابغ الأثواب، ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون بسبب نقص العمل. وفى الحديث: أن أهل الدين يتفاضلون فى الدين بالقلة والكثرة، وبالقوة والضعف، وهذا من أمثلة ما يحمد فى المنام ويذم فى اليقظة شرعا، أعنى جر القميص، لما روى من الوعيد فى تطويله.
ومن ذلك رؤيته- صلى الله عليه وسلم- السوارين الذهب فى يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين. روى البخارى عن عبيد الله بن عبد الله قال: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم- التى ذكر فقال ابن عباس ذكر لى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينا أنا نائم إذ رأيت أنه وضع فى يدىّ سواران من ذهب فقطعتهما وكرهتهما، فأذن لى فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان» «1» . فقال عبيد الله: أحدهما العنسى الذى قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة.
وفى رواية أبى هريرة عند الشيخين: «بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع فى يدىّ سواران من ذهب، فكبرا على وأهمانى، فأوحى إلىّ أن أنفخهما، فأولتهما الكذابين أنا بينهما، صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» «2» . قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وإنما هى ضرب من المثل، وإنما أول النبى- صلى الله عليه وسلم- السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشئ فى غير موضعه، فلما رأى فى يديه سوارين من ذهب وليسا من لبسه، لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعى ما ليس له.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4375) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة، ومسلم (2273) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (7037) فى التعبير، باب: النفخ فى المنام، ومسلم (2274) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-.(3/113)
وأيضا: ففى كونهما من ذهب، والذهب منهى عن لبسه، دليل على الكذب، وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شئ يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له فى نفخهما فطارا، فعرف أنه ينسب إليهما أمر، وأن كلامه بالوحى الذى جاء به يزيلهما من موضعهما.
وقال ابن العربى: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسى، فأول الرؤيا عليهما ليكونا ذلك، إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت. ويحتمل أن يكون بوحى. والمراد ب «خزائن الأرض» التى ذكر، ما فتح على أمته من الغنائم ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التى فيها الذهب والفضة.
وقال القرطبى: إنما كبر عليه السواران لكون الذهب من حلية النساء، ومما حرم على الرجال، وفى طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما، ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا، أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا أسلموا، فكانوا كالساعدين للإسلام، فلما ظهر الكذابان، وبهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعاويهما الباطلة انخدع أكثرهم بذلك، فكأن اليدين بمنزلة البلدين، والسوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا، والزخرف من أسماء الذهب.
وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير فإن كان إلى جهة السماء تعريجا ناله ضرر، فإن غاب فى السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه، وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه.
ومن ذلك: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- المرأة السوداء الثائرة الرأس، تعبيرها بنقل وباء المدينة إلى الجحفة. روى البخارى من حديث عبد الله بن عمر، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة- وهى الجحفة- فأولت أن وباء المدينة نقل إليها» «1» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7038) فى التعبير، باب: إذا رأى أنه أخرج الشئ من كورة فأسكنه موضعا آخر، وأطرافه (7039 و 7040) .(3/114)
وهذا من قسم الرؤيا المعبرة، وهى مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء: السوء والداء، فتأول خروجها بما جمع اسمها، وتأول من ثوران شعرها أن الذى يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة.
وقال القيروانى من أهل التعبير: كل شئ غلبت عليه السوداء فى أكثر وجوهها فهو مكروه، وقال غيره: ثوران الرأس يؤول بالحمى لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء فإنها أكثر استيحاشا.
ومن ذلك: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- أنه فى درع حصينة وبقرا تنحر وتعبير ذلك.
عن أبى موسى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت فى المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هى المدينة يثرب، ورأيت فيه بقرا، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذى أتانا الله «1» بعد يوم بدر» «2» رواه البخارى ومسلم. وروى الإمام أحمد وغيره عن جابر: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت كأنى فى درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة بالمدينة، والبقر بقرا» «3» . وهذه اللفظة الأخيرة وهى «بقر» بفتح الموحدة، وسكون القاف مصدر بقره يبقره بقرا.
ولهذا الحديث سبب جاء بيانه فى حديث ابن عباس عند أحمد أيضا والنسائى والطبرانى، وصححه الحاكم من طريق أبى الزناد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس فى قصة أحد، وإشارة النبى- صلى الله عليه وسلم- عليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج لطلب الشهادة، ولبسه اللأمة وندامتهم على ذلك، وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها
__________
(1) سقط من الأصل، وزدناها من مصادر التخريج.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3622) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2272) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(3) حسن: أخرجه الدارمى (2159) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 351) ، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد (1/ 271) ، والحاكم (2/ 141) و (3/ 41) يحسن به.(3/115)
حتى يقاتل» وفيه: «إنى رأيت أنى فى درع حصينة» «1» الحديث، بنحو حديث جابر، وأتم منه، وقد تقدمت الإشارة إليه فى غزوة أحد من المقصد الأول.
والمراد بقوله: «وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذى أتانا الله بعد يوم بدر» فتح خيبر ثم مكة، أى ما جاء الله به بعد بدر الثانية من تثبيت قلوب المؤمنين.
قال فى فتح البارى: وفى هذا السياق إشعار بأن قوله فى الخبر «والله خير» من جملة الرؤيا. قال: والذى يظهر لى أن لفظة «والله خير» لم يتحرر إيراده، وأن رواية ابن إسحاق هى المحررة، وأنه رأى بقرا ورأى خيرا. فأول البقر على من قتل من الصحابة يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق فى القتال والصبر على الجهاد يوم بدر وبعده إلى فتح مكة، والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد نبه عليه ابن بطال.
ومن ذلك رؤيته- صلى الله عليه وسلم- أنه أتى برطب. روى مسلم عن أنس قال:
سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «رأيت الليلة فيما يرى النائم، كأنى فى دار عقبة بن رافع، وأتيت برطب من رطب ابن طاب «2» ، فأولته بأن الرفعة لنا فى الدنيا، والعاقبة فى الآخرة، وأن ديننا قد طاب» «3» .
ومن ذلك: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- سيفا يهزه، وتعبيره ما روى فى حديث أبى موسى المتقدم أنه قال: «ورأيت فى رؤياى هذه أنى هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان. فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين» «4» رواه الشيخان.
وهذه أيضا من ضرب المثل، ولما كان- صلى الله عليه وسلم- يصول بالصحابة عبر عن
__________
(1) حسن: وقد تقدم فى الشاهد الذى قبله.
(2) رطب ابن طاب، هو نوع من أنواع تمر المدينة منسوب إلى ابن طاب، رجل من أهلها. النهاية فى غريب الحديث مادة (طيب) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2270) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(4) صحيح: وقد تقدم قبل حديثين.(3/116)
السيف بهم، وبهزه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وفى الهزة الآخرى لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم.
وقال أهل التعبير: السيف يصرف على أوجه؛ منها أن من نال سيفا فإنه ينال سلطانا، وإما ولاية وإما وديعة، وإما زوجة، وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف فبالعكس، فإن سلما أو عطبا فكذلك. وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله بالأم وذوى الرحم، وإن جرد السيف وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده فى خصومة. وربما عبر السيف بسلطان جائر.
وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا فإنه يتزوج، أو ضرب شخصا بسيف فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه، ومن رأى سيفا عظيما فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره.
ومن ذلك: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- أنه على قليب. عن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينا أنا نائم، رأيتنى على قليب، وعليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبى قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفى نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقريّا من الناس ينزع نزع ابن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن» «1» .
وعبقرى القوم: سيدهم وكبيرهم وقويهم. وفى رواية: فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر. وفى رواية: فأتانى أبو بكر فأخذ الدلو من يدى ليريحنى. وفى رواية موسى عن سالم عن أبيه: رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفى نزعه ضعف والله يغفر له، ثم قام
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3664) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2392) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-.(3/117)
عمر بن الخطاب فاستحالت غربا، فما رأيت من الناس يفرى فرية حتى ضرب الناس بعطن. رواه البخارى.
قال النووى: قالوا هذا المنام مثال لما جرى للخليفتين، من ظهور آثارهما الصالحة، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبى- صلى الله عليه وسلم-، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر به قواعد الدين، ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام فى زمنه. فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذى فيه حياتهم وصلاحهم، وأميرهم المستقى لهم منها، وفى قوله: «فأخذ الدلو من يدى ليريحنى» إشارة إلى خلافة أبى بكر بعد موته- صلى الله عليه وسلم-، لأن الموت راحة من كد الدنيا وتعبها، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم. وأما قوله: «وفى نزعه ضعف» فهو إخبار عن حاله فى قصر مدة ولايته، وأما ولاية عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «والله يغفر له» نقض، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب، إنما هى كلمة كانوا يقولونها. وقوله: «فاستحالت فى يده غربا» أى تحولت الدلو غربا- بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة- أى:
دلوا عظيما.
وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة بن جندب أن رجلا قال: يا رسول الله، رأيت كأن دلوا عظيما دلى من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ فعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء على فانتشطت وانتضح عليه منها شئ. والعراقى: جمع عرقوة الدلو، وهى الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان كالصليب، وقد يقال: عرقيت الدلو إذا ركبت العرقوة فيها. وانتشطت: أى جذبت ورفعت. فهذه نبذة من مرائيه الكريمة- صلى الله عليه وسلم- مع تعبيرها.
وأما ما رآه غيره فعبر- صلى الله عليه وسلم- له بما يخص ويعم من أمور الدنيا والآخرة. فقد كان- صلى الله عليه وسلم- إذا انفتل من صلاة الصبح أقبل على الصحابة(3/118)
فيقول: «من رأى منكم الليلة رؤيا فليقصها على أعبرها له، فيقص الناس عليه مرائيهم» «1» . وروى البخارى والترمذى عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رأيا؟» فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وأنه قال ذات غداة: «هل رأى أحد منكم رؤيا» وقالوا: ما منا أحد رأى شيئا، قال: «لكنى أتانى الليلة آتيان، وإنهما ابتعثانى فقالا لى: انطلق، فانطلقت فأتيت على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوى بالصخرة لرأسه فتثلغ رأسه» «2» الحديث.
وأقام- صلى الله عليه وسلم- يسأل أصحابه: «هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا، ما شاء الله» ثم ترك السؤال فكان يعبر لمن قص متبرعا. واختلف النقلة فى سبب تركه السؤال:
فقيل: سبب ذلك حديث أبى بكرة- عند الترمذى وأبى داود- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم: «من رأى منكم الرؤيا؟» فقال رجل: أنا يا رسول الله، رأيت كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبى بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهة فى وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
قالوا: فمن حينئذ لم يسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحدا عن رؤيا.
قال بعضهم: وسبب كراهته- صلى الله عليه وسلم- إيثاره لستر العواقب وإخفاء المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم مبينة لفضل بعضهم على بعض فى التعيين خشى أن يتواتر ويتوالى ما هو أبلغ فى الكشف من ذلك، ولله فى ستر خلقه حكمة بالغة ومشيئة نافذة.
وقال ابن قتيبة- فيما ذكره ابن المنير-: سبب تركه السؤال فى حديث ابن زمل: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الصبح قال- صلى الله عليه وسلم- وهو ثان
__________
(1) صحيح: وقد تقدم من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (7047) فى التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، والترمذى (2294) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم- الميزان والدلو، ولكنه عند الترمذى مختصرا.(3/119)
رجليه: «سبحان الله وبحمده وأستغفر الله، إن الله كان توابا، سبعين مرة» ثم يقول: «سبعون بسبعمائة، لا خير فيمن كانت ذنوبه فى يوم أكثر من سبعمائة» ثم يستقبل الناس بوجهه فيقول: «هل رأى أحد منكم شيئا؟» قال ابن زمل: فقلت ذات يوم أنا يا رسول الله، قال: «خير تتلقاه وشر تتوقاه، وخير لنا وشر لأعدائنا، والحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك» . قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب لاحب سهل، والناس على الجادة منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى ذلك الطريق بهم على مرج لم تر عينى مثله، يرف رفيفا، يقطر نداه، فيه من أنواع الكلأ، فكأنى بالرعلة الأولى حين أشرفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم فى الطريق فلم يضلوه يمينا وشمالا، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشرفوا على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم فى الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشرفوا على المرج كبروا وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا فى المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت فى أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى آدم «1» ، إذا هو تكلم يسمو، يكاد يفزع الرجال طولا، وإذا عن يسارك رجل ربعة «2» تارّ أحمر، كثير خيلان الوجه «3» ، إذا هو تكلم أصغيتم إليه إكراما له، وإذا أمام ذلك شيخ كأنكم تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول الله. قال: فانتقع لون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ساعة، ثم سرى عنه، فقال: «أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل، فذلك ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذى رأيت فالدنيا وغضارة عيشها، لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها، وأما
__________
(1) أقنى الأنف: ارتفاع أعلاه واحد يداب وسطه وسبوع طرفه، أو نتوء وسط القصبة، و (آدم) : أى أسمر.
(2) التار: الممتلئ البدن.
(3) خيلان: جمع خال، وهو الشامة فى الجسد.(3/120)
الرعلة الثانية والثالثة- وقص كلامه- فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقانى، وأما المنبر فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا فى آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم فذلك موسى، نكرمه بفضل الله إياه، وأما الرجل الربعة التار الأحمر، فذلك عيسى- عليه السّلام- نكرمه بفضل منزلته من الله، وأما الشيخ الذى رأيت كأننا نقتدى به فذلك إبراهيم- عليه السّلام-، وأما الناقة العجفاء الشارف التى رأيتنى أبعثها فهى الساعة عليها، أى على الأمة تقوم، لأنه لا نبى بعدى ولا أمة بعد أمتى» . قال الراوى: فما سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد هذا أحدا عن رؤيا، إلا أن يجئ الرجل متبرعا فيحدثه بها» «1» رواه ابن قتيبة والطبرانى والبيهقى فى الدلائل، وسنده ضعيف جدّا.
ومن غريب ما نقل عنه- صلى الله عليه وسلم- من التعبير، أن زرارة بن عمرو النخعى قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى وفد النخع، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت فى طريقى هذا رؤيا، رأيت أتانا «2» تركتها فى الحى ولدت جديا أسفع أحوى، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هل لك من أمة تركتها مصرة حملا؟» قال: نعم تركت أمة أظنها قد حملت، قال: «فقد ولدت غلاما وهو ابنك» ، قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منى» ، فدنا منه، قال: «هل بك برص تكتمه؟» قال: نعم والذى بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به أحد، قال: «فهو ذاك» .
فقال: ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان، قال:
ذلك ملك العرب عاد إلى أفضل زيه وبهجته. قال: ورأيت عجوزا شمطاء تخرج من الأرض، قال: تلك بقية الدنيا. قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، آكلكم وأهلكم ومالكم فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «تلك فتنة تكون
__________
(1) ضعيف: وقد تقدم حديث ابن زمل.
(2) الأتان: أنثى الحمار.(3/121)
فى آخر الزمان» ، قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال: «يفتك الناس بإمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس» ، وخالف- صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه، يحسب المسئ أنه محسن، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء البارد.
فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة، محشوّا حلاوة الحق، مكسوّا طلاوة الصدق مجلوّا بأنوار الوحى. والأسفع: الذى أصاب جسده لون آخر. والأحوى: الأسود الذى ليس بالشديد. والمسكتان: السواران من ذهب. وأطبق الرأس: عظامه. والاشتجار: الاختلاف والاشتباك. فإن قلت:
تعبيره- صلى الله عليه وسلم- السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مر.
أجيب: بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، وكان السواران من زى النعمان ليسا بمنكرين فى حقه، ولا موضوعين فى غير موضعهما عرفا، وأما النبى فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته فجدير أن يهمه ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع فى غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابهما، ولله الحمد.
ومن ذلك: ما روى عن قيس بن عباد- بضم العين وتخفيف الموحدة- قال: كنت فى حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا، قال:
سبحان الله، ما كان ينبغى لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع فى روضة خضراء، فنصب فيها، وفى رأسها عروة، وفى أسفلها منصف- والمنصف الوصيف- فقال: ارقه، فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى» «1» . رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7010) فى التعبير، باب: الخضر فى المنام والروضة الخضراء، ومسلم (2484) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن سلام- رضى الله عنه-.(3/122)
وفى رواية خرشة: بينما أنا نائم أتانى رجل فقال لى قم، فأخذ بيدى فانطلقت معه، فإذا أنا بجوادّ- بجيم ودال مشددة، جمع جادة وهى الطريق المسلوك- عن شمالى، قال: فأخذت لآخذ فيها- أى أسير فقال: لا تأخذ فيها فإنها طريق أهل الشمال.
وفى رواية النسائى من طريقه: فبينا أنا أمشى إذ عرض لى طريق عن شمالى، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها.
وفى رواية مسلم: فإذا منهج عن يمينى، فقال لى خذها هنا، فأتى بى جبلا فقال لى: اصعد، قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت، حتى فعلت ذلك مرارا.
وفى رواية ابن عون: فقال تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة، العروة الوثقى، لا تزال متمسكا بالإسلام حتى تموت.
وفى رواية خرشة عند النسائى وابن ماجه قال: رأيت خيرا، أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء، زاد مسلم: ولن تناله.
وهذا علم من أعلام نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم- فإن عبد الله بن سلام لم يمت شهيدا، وإنما مات على فراشه فى أول خلافة معاوية بالمدينة.
وقولهم إنه من أهل الجنة، أخذوه من قوله لما ذكر طريق الشمال: إنك لست من أهلها. وإنما قال: «ما كان ينبغى لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم» «1» على سبيل التواضع وكراهية أن يشار إليه بالأصابع، خشية أن يدخله العجب، عافانا الله من سائر المكاره.
وقال القيروانى: الروضة التى لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها، وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف وكتب العلم والعالم ونحو ذلك انتهى. وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة، تدل لمن تمسك بها على قوته فى دينه، وإخلاصه فيه.
__________
(1) هى فى رواية مسلم السابقة.(3/123)
ومن ذلك، ما رواه البخارى عن أم العلاء، وهى امرأة من نسائهم، بايعت رسول الله: وأريت لعثمان بن مظعون بعد موته فى النوم عينا تجرى، فجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: «ذاك عمله يجري له» «1» .
وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شئ من عمله بقى له ثوابه جاريا كالصدقة، وأنكره مغلطاى وقال: لم يكن له شئ من الأمور الثلاثة التى ذكرها مسلم فى حديث أبى هريرة رفعه: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» «2» .
وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات فى خلافة أبى بكر، فهو أحد الثلاث. قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن يكون له صدقة استمرت بعد موته.
وقال المهلب: العين الجارية تحتمل وجوها، فإن كان ماؤها صافيا عبرت بالعمل الصالح، وإلا فلا. وقال غيره: العين الجارية عمل جار من صدقة أو معروف لحى أو ميت. وقال آخر: عين الماء نعمة وبركة وخير، وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة يبكى لها أهل داره، والله أعلم.
فهذا طرف من تعبيره- صلى الله عليه وسلم-، يهدى إلى غيره مما يشبهه، وإلا فالذى نقل عنه- صلى الله عليه وسلم- من غرائب التأويل، ولطائف التعبير- كما قاله ابن المنير- لا تحصره المجلدات.
وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحدة من هذه الأمة فى علم أو عمل، هى من آثار معجزة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، وسر تصديقه، وبركات طريقه، وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين من لطائف التعبير، مما شاع وذاع، وامتلأت به الأسماع، طبق الأرض صدقا وصوابا، وعجبا عجابا، بل بحرا عبابا، قضيت بأن ما منحه- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2687) فى الشهادات، باب: القرعة فى المشكلات.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1631) فى الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.(3/124)
من العلوم والمعارف، لا تحيط به العبارات، ولا تدرك حقيقة كنهه الإشارات، وإذا كان هذا ابن سيرين واحد من أمته- صلى الله عليه وسلم- نقل عنه فى فن التعبير ما لا يعد لكثرته، فكيف به- صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، وأفاض علينا من سحائب علومه ومعارفه، وتعطف علينا بعواطفه.
الفصل الثالث فى إنبائه ص بالأنباء المغيبات
اعلم أن الغيب يختص به تعالى، وما وقع منه على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم- وغيره فمن الله تعالى، إما بوحى أو إلهام، والشاهد لهذا قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1» ليكون معجزة له. واستدل به على إبطال الكرامات.
وأجيب: بتخصيص الرسول بالملك، والإظهار بما يكون بغير توسطه، وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون برؤيا الملائكة، كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء، وفى حديث مرّ: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «والله إنى لا أعلم إلا ما علمنى ربى» «2» فكل ما ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به، إعلاما على ثبوت نبوته، ودلائل على صدق رسالته، وقد اشتهر وانتشر أمره- صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه بالاطلاع على الغيوب، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت فو الله لو لم يكن عندنا من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء، ويشهد له قول ابن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
وقال حسان بن ثابت:
__________
(1) سورة الجن: 26، 27.
(2) تقدم.(3/125)
نبى يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله فى كل مشهد
فإن قال فى يوم مقالة غائب ... فتصديقها فى ضحوة اليوم أو غد
وهذا الفصل ينقسم قسمين:
الأول: فيما أخبر به- صلى الله عليه وسلم- مما نطق به القرآن. من ذلك: فى قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إلى قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «1» فقوله وَلَنْ تَفْعَلُوا إخبار عن غيب تقضى العادة بخلافه.
ومن ذلك: قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «2» الآية، فإنه قد كان لقريش قافلتان: إحداهما ذات غنيمة دون الآخرى، فأخبر الله تعالى عما فى ضمائرهم، وأنجز ما وعد، ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشئ بعد وقوعه غير جائز.
ومن ذلك: قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ»
، وهذا إخبار عن المستقبل، لأن «السين» بمعنى الاستقبال، يعنى كفار قريش يوم بدر، وقد كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف، وكانوا مستعدين بالمال والسلاح، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وليس معهم إلا فرسان، إحداهما للزبير بن العوام، والآخرى للمقداد، فهزم الله المشركين ومكن المسلمين من قتل أبطالهم واغتنام أموالهم.
ومن ذلك: قوله تعالى فى كفار قريش سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً «4» ، يريد ما قذف الله فى قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن
__________
(1) سورة البقرة: 23، 24.
(2) سورة الأنفال: 7.
(3) سورة القمر: 45.
(4) سورة آل عمران: 151.(3/126)
شاء الله» ، وقيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى الله فى قلوبهم الرعب.
ومن ذلك: قوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ إلى قوله: لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ «1» ، سبب نزول هذه الآية أن كسرى وقيصر تقاتلا فغلب كسرى قيصر، فساء المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب، ولتعظيم قيصر كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، وتمزيق كسرى كتابه، وفرح المشركون به، فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون فى بضع سنين، والبضع ما بين الثلاثة إلى العشر، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية، وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين «2» .
ومن ذلك: قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً «3» فأخبر أنهم لا يتمنون الموت بالقلب ولا بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا، فأخبر فوجد مخبره كما أخبر، فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت لسارعوا إلى تكذيبه بالتمنى، ولو لم يعلم ذلك لخشى أن يجيبوا إليه فيقضى عليه بالكذب، قال البيضاوى: وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت لنقل واشتهر، فإن التمنى ليس من عمل القلب فيخفى. وروى مرفوعا: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات وما بقى يهودى على وجه الأرض» «4» .
ومن ذلك: قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
__________
(1) سورة الروم: 1- 6.
(2) قلت: عند الترمذى (3193) فى التفسير، باب: ومن سورة الروم، إلا أنه ذكر أن انتصار الفرس على الروم كان فى مكة، وانتصار الروم على الفرس كان مع بدر، فكان ذلك الفرح لأنهم أهل كتاب وأقرب إلى المسلمين من أهل الأوثان الذين هم أقرب إلى كفار قريش، ولا أظن ذلك يرجع إلى سبب معاملة كسرى وقيصر لرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لأن ذلك كان بعد غزوة بدر بكثير.
(3) سورة الجمعة: 6، 7.
(4) الذى فى تفسير ابن كثير، أن المقصود بتمنى الموت هنا المباهلة كما جاء فى سورة آل عمران، بمعنى أنه إن كنتم على هدى وأن محمدا وأصحابه على ضلالة فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين فيما تزعمون.(3/127)
الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «1» الآية. هذا وعد من الله لرسوله بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، وأئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تعالى ذلك ولله الحمد والمنة، فإنه لم يمت- صلى الله عليه وسلم- حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشى ملك الحبشة الذى تملك بعد أصحمة- رحمه الله-.
ثم لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- فلمّ شعث ما وهى عند موته- صلى الله عليه وسلم- ووطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ففتحوا طرفا منها، وجيشا آخر صحبة أبى عبيدة إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاص إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامى فى أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها. وتوفاه الله تعالى واختار له ما عنده. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق.
فقام فى الأمر بعده قياما تامّا، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله فى قوة سيره وكمال عدله، وتم فى أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزاع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق أموالهما فى سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» .
__________
(1) سورة النور: 55.
(2) يشير إلى الحديث الصحيح الذى أخرجه البخارى (3028) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (2918) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- بلفظ: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى نفس محمد بيده، لتنفقن كنوزهما فى سبيل الله» صدقت يا رسول الله.(3/128)
ثم لما كانت الدولة العثمانية «1» امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدّا، وجئ بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه للأمة على حفظ القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.
ومن ذلك: قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ «2» ، فاليهود أذل الكفار فى كل مكان وزمان كما أخبر.
ومن ذلك: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «3» ، وهذا ظاهر فى العباد بأن دين الإسلام كما أخبر عال على سائر الأديان.
ومن ذلك، قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «4» إلى آخرها، فكان كما أخبر، دخل الناس فى الإسلام أفواجا، فما مات- صلى الله عليه وسلم- وفى بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام. إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه.
القسم الثانى: فيما أخبر به- صلى الله عليه وسلم- من الغيوب سوى ما فى القرآن العزيز فكان كما أخبر به فى حياته وبعد مماته. أخرج الطبرانى عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قد رفع لى الدنيا، فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفى هذه» «5» .
__________
(1) نسبة إلى عثمان بن عفان- رضى الله عنه-، فالسياق هنا يشير إلى ذلك.
(2) سورة البقرة: 61.
(3) سورة التوبة: 33.
(4) سورة النصر: 1.
(5) ضعيف: ذكر الهيثمى فى «المجمع» (8/ 287) وقال: رواه الطبرانى ورجاله وثقوا على ضعف كثير فى سعيد بن سنان الرهاوى.(3/129)
وعن حذيقة قال: قام فينا رسول الله قائما، فما ترك شيئا يكون فى مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابه هؤلاء، وإنه ليكون منه الشئ قد نسيته فأراه فأعرفه «1» فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه «2» ثم قال حذيفة: ما أدرى أنسى أصحابى أم تناسوه، والله ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قائد فتنة إلى أن تنقضى الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا وقد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته رواه أبو داود.
وروى مسلم من حديث ابن مسعود فى الدجال: فيبعثن عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، وهم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ» «3» . فوضح من هذا الخبر وغيره مما يأتى من الأخبار، وسنح من خواطر الأبرار الأخيار أنه- صلى الله عليه وسلم- عرفهم بما يقع فى حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه فلا سبيل إلى فوته. وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما يحرك طائر جناحه فى السماء إلا ذكرنا منه علما. ولا شك أن الله تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين. وأما علم عوارف المعارف الإلهية فتلك لا يتناهى عددها، وإليه- صلى الله عليه وسلم- ينتهى مددها.
ومن ذلك: ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشى للناس فى اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى وصف بهم وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات» «4» . وفى حديث أنس عند أحمد والبخارى:
__________
(1) ليست هذه العبارة فى سنن أبى داود.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4240) فى الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها، وهو عند البخارى (6604) فى القدر، باب: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، ومسلم (2891) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: إخبار النبى- صلى الله عليه وسلم- فيما يكون إلى قيام الساعة، بلفظ قريب منه.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2899) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: إقبال الروم فى كثرة القتل عند خروج الدجال.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1245) فى الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ومسلم (951) فى الجنائز، باب: فى التكبير على الجنازة.(3/130)
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صعد أحدا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله وقال له: «أثبت أحد، فإنما عليك نبى، وصديق وشهيدان» «1» فكان كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-.
ومن ذلك: ما رواه الشيخان من حديث أبى هريرة أنه- رضى الله عنه- قال:
«إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى نفسى بيده لتنفقن كنوزهما فى سبيل الله» «2» قال النووى قال الشافعى وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، كما كان فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، فأعلمنا- صلى الله عليه وسلم- بانقطاع ملكهما من هذين الإقليمين، وكان كما قال، فأما كسرى فانقطع ملكه وزال بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق، واضمحل بدعوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأما قيصر فانهزم من الشام ودخل أقصى بلاده، فافتتح المسلمون بلاده واستقرت للمسلمين ولله الحمد، انتهى.
وقد وقع ذلك فى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب كما قدمته، وقال- صلى الله عليه وسلم- لسراقة: «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟» فلما أتى بهما عمر ألبسهما إياه وقال: «الحمد لله الذى سلبهما كسرى وألبسهما سراقة» «3» .
ومن ذلك: إخباره- صلى الله عليه وسلم- بالمال الذى تركه عمه العباس عند أم الفضل، بعد أن كتمه، فقال: ما علمه غيرى وغيرها وأسلم كما تقدم ذلك فى غزوة بدر من المقصد الأول. وإخباره بشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة.
وبموضع ناقته حين ضلت وكيف تعلقت بخطامها فى الشجرة.
ولما رجع المشركون يوم الأحزاب، قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «الآن نغزوهم
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3675) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» .
(2) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(3) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقى وابن عساكر، عن الحسن مرسلا، كما فى «كنز العمال» (35752) .(3/131)
ولا يغزونا» «1» ، فلم يغز- صلى الله عليه وسلم- بعدها. وبعث- صلى الله عليه وسلم- جيشا إلى مؤتة، وأمر عليهم زيد بن حارثة ثم قال: «فإن أصيب فجعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة» ، فلما التقى المسلمون بمؤتة جلس النبى- صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فكشف له حتى نظر إلى معركتهم فقال: «أخذ الراية زيد بن حارثة حتى استشهد» ، فصلى عليه ثم قال: «استغفرو له، ثم أخذ الراية جعفر بن أبى طالب حتى استشهد» ، فصلى عليه ثم قال: «استغفروا لأخيكم جعفر، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فاستشهد» فصلى عليه، ثم قال:
«استغفروا لأخيكم» «2» . فأخبر أصحابه بقتلهم فى الساعة التى قتلوا فيها، ومؤتة دون دمشق بأرض البلقاء.
وعن أسماء بنت عميس قالت: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صبيحة اليوم الذى قتل فيه جعفر وأصحابه فقال: «يا أسماء، أين بنو جعفر» فجئت بهم، فضمهم وشمهم ثم ذرفت عيناه بالدموع فبكى، فقلت: يا رسول الله، أبلغك عن جعفر شئ؟ قال: «نعم قتل اليوم» «3» ، رواه يعقوب الإسفراينى فى كتاب دلائل الإعجاز، وخرجه ابن إسحاق والبغوى.
ومن ذلك، قوله- صلى الله عليه وسلم-: «زويت لى الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها» «4» ، فكان كذلك امتدت فى المشارق والمغارب ما بين أقصى الهند إلى أقصى المشرق إلى بحر طنجة حيث لا عمارة وراءه، وذلك ما لم تملكه أية أمة من الأمم.
ومن ذلك: إعلامه قريشا بأكل الأرضة ما فى صحيفتهم التى تظاهروا
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4110) فى المغازى، باب: غزوة الخندق، وهى الأحزاب، من حديث سليمان بن حدد- رضى الله عنه-.
(2) انظر القضية فى «دلائل النبوة» للبيهقى (4/ 361- 362) .
(3) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (8/ 220) .
(4) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3952) فى الفتن، باب: ما يكون من الفتن، وهو عند مسلم (2889) بنحوه فى الفتن، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، من حديث ثوبان- رضى الله عنه-.(3/132)
بها على بنى هاشم، وقطعوا بها رحمهم، وأنها أبقت فيها كل اسم لله، فوجدوها كما قال- صلى الله عليه وسلم-.
ومن ذلك: ما رواه الطبرانى فى الكبير، والبزار من حديث ابن عمر قال: كنت جالسا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى مسجد منى، فأتى رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما ثم قالا: يا رسول الله، جئنا نسألك فقال: «إن شئتما أن أخبركما بما جئتما تسألانى عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألانى فعلت» فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفى للأنصارى: سل، فقال:
أخبرنى يا رسول الله، قال: «جئتنى تسألنى عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام، ومالك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف ومالك فيهما، وعن سعيك بين الصفا والمروة ومالك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك فيه، وعن نحرك ومالك فيه، وعن حلاقك رأسك ومالك فيه مع الإفاضة» . فقال: والذى بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك «1» .
ومن ذلك: ما روى عن واثلة بن الأسقع قال: أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهو فى نفر من أصحابه يحدثهم، فجلست وسط الحلقة، فقال بعضهم: يا واثلة قم عن هذا المجلس، فقد نهينا عنه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «دعونى وإياه فإنى أعلم بالذى أخرجه من منزله» قلت: يا رسول الله ما الذى أخرجنى؟ قال: «أخرجك من منزلك لتسأل عن البر وعن الشك» قال: قلت والذى بعثك بالحق ما أخرجنى غيره، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «البر ما استقر فى الصدر، واطمأن إليه القلب، والشك ما لم يستقر فى الصدر، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون» «2» .
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 274- 275) وقال: رواه البزار والطبرانى فى «الكبير» بنحوه، ورجال البزار موثقون.
(2) قلت: القصة بنحوها عند مسلم (2553) فى البر والصلة، باب: تفسير البر والإثم، والترمذى (2389) فى الزهد، باب: ما جاء فى البر والإثم، وأحمد فى «المسند» (4/ 182) من حديث النواس بن سمعان، ولم أقف على هذه القصة عن واثلة بن الأسقع، لا صاحب الطبقات ولا صاحب الإصابة وعديد غيرهم.(3/133)
ومن ذلك: قوله لفاطمة- رضى الله عنها- فى مرضه: «إنك أول أهلى لحوقا بى» «1» فعاشت بعده ثمانية أشهر، وقيل ستة أشهر. وقوله- صلى الله عليه وسلم- لنسائه:
«أسرعكن بى لحوقا، أطولكن يدا» فكانت زينب بنت جحش لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق «2» .
ومن ذلك، قوله- صلى الله عليه وسلم- لعلى: «أتدرى من أشقى الآخرين» قلت:
الله ورسوله أعلم، قال: قاتلك. أخرجه أحمد فى المناقب. وعند ابن أبى حاتم «الذى يضربك على هذا» وأشار إلى يافوخه، وعند المحاملى: قال على: عهد إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لتخضبن هذه من هذه، وأشار إلى لحيته ورأسه، وعند الضحاك: «الذى يضربك على هذه فتبتل منها هذه» وأخذ بلحيته. فضربه عبد الرحمن بن ملجم. وعند الطبرانى وأبى نعيم، من حديث جابر مرفوعا: إنك مؤمر مستخلف، وإنك مقتول، وإن هذه مخضوبة من هذه.
وقال- صلى الله عليه وسلم- لمعاوية: «أما إنك ستلى أمر أمتى من بعدى، فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم» . قال معاوية: فما زلت أرجوها حتى قمت مقامى هذا «3» . رواه ابن عساكر.
وأخرج ابن عساكر أيضا من حديث عروة بن رويم مرفوعا: لن يغلب معاوية أبدا، وإن عليّا قال يوم صفين: لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية.
ومن ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم-: «يقتل هذا مظلوما» وأشار إلى عثمان
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3624) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2450) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام- من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1420) فى الزكاة، باب: أى الصدقة أفضل ومسلم (2452) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل زينب أم المؤمنين- رضى الله عنها-، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) رواه الطبرانى فى الأوسط، كما فى «مجمع الزوائد» (9/ 356) .(3/134)
- رضى الله عنه- «1» . خرجه البغوى فى المصابيح من الحسان والترمذى وقال حسن غريب، وخرجه أحمد، فكان كما قال- صلى الله عليه وسلم-، فاستشهد فى الدار وبين يديه المصحف، فنضح الدم على هذه الآية فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2» .
وفى الشفاء «3» أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يقتل عثمان وهو يقرأ فى المصحف، وإن الله عسى أن يلبسه قميصا، وإنهم يريدون خلعه وإنه سيقطر دمه على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وقد أخرجه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة فتقع قطرة من دمك» على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»
لكن قال الذهبى: إنه حديث موضوع.
وقد روى مسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال: (هل ترون ما أرى، إنى لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر) «5» فوقعت فتنة قتلة عثمان وتتابعت الفتن إلى فتنة الحرة وكانت لثلاث بقين من ذى الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، وجرت فيها مواقع كثيرة موجودة فى كتب التواريخ.
وأخرج البيهقى عن الحسن «6» قال: لما كان يوم الحرة قتل أهلى، حتى لا يكاد ينفلت منهم أحد. وأخرج أيضا عن أنس بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، منهم ثلاثمائة من الصحابة، وذلك فى
__________
(1) حسن الإسناد: أخرجه الترمذى (3708) فى المناقب، باب: رقم (77) ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال.
(2) سورة البقرة: 137.
(3) هو الشفاء للقاضى عياض.
(4) سورة البقرة: 137.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1878) فى فضائل المدينة، باب: آطام المدينة، ومسلم (2885) فى الفتن، باب: نزول الفتن كمواقع القطر، وقد قصر المصنف فى عزوه إلى مسلم فقط، وهو عند البخارى أيضا. و (الأطم) : هو القصد والحصن، وجمعه آطام.
(6) هو: الحسن البصرى، من خيار أئمة التابعين.(3/135)
خلافة يزيد. وأخرج أيضا عن مغيرة قال: انتهب أبو مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام وافتض فيها ألف عذراء.
وقال- صلى الله عليه وسلم- لأبى موسى وهو قاعد على قف بئر «1» أريس، لما طرق عثمان الباب «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» «2» إشارة إلى ما تقدم من استشهاده يوم الدار بل أصرح من ذلك كله ما رواه أحمد عن ابن عمر قال ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنة، فمر رجل فقال: «يقتل فيها هذا يومئذ ظلما» ، قال: فنظرت فإذا هو عثمان «3» . وإسناده صحيح.
وأخبر- صلى الله عليه وسلم- بوقعة الجمل وصفين وقتال عائشة والزبير عليّا، كما أخرجه الحاكم وصححه البيهقى عن أم سلمة قالت: ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة فقال: «انظرى يا حميراء أن لا تكونى أنت» ، ثم التفت إلى على فقال له: «إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها» «4» .
وعن ابن عباس مرفوعا: «أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب «5» ، ويقتل حولها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت» «6» .
رواه البزار وأبو نعيم.
__________
(1) قف البئر: أى حافتها.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3674) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2403) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان- رضى الله عنه-.
(3) حسن: أخرجه الترمذى (3708) فى المناقب، باب: رقم (77) ، وأحمد فى «المسند» (2/ 115) ، وقد تقدم قريبا.
(4) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 129) .
(5) الحوأب: الواسع من الأودية، وهو هنا منزل بين مكة والبصرة، وهو الذى نزلته عائشة لما جاءت إلى البصرة فى وقعة الجمل.
(6) رجاله ثقات: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (7/ 234) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. اهـ. قلت: وهو عند أحمد (6/ 52 و 97) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6732) ، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 129) من حديث عائشة- رضى الله عنها- بسند صحيح.(3/136)
وأخرج الحاكم وصححه البيهقى عن أبى الأسود قال: شهدت الزبير خرج يريد عليّا فقال على: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «تقاتله وأنت له ظالم» «1» ، فمضى الزبير منصرفا. وفى رواية أبى يعلى والبيهقى قال الزبير: بلى ولكن نسيت.
ومن ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الحسن بن على: «إن ابنى هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» «2» رواه البخارى، فكان كما قال- صلى الله عليه وسلم-، لأنه لما قتل على بن أبى طالب بايع الحسن أكثر من أربعين ألفا، فبقى سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء النهر من خراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه، فلما تراء الجمعان بموضع يقال له بستكين بناحية الأنبار من أرض السواد، فعلم أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الآخرى، فكتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه دون غيره على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشئ مما كان فى أيام أبيه، فأجابه معاوية إلا عشرة، فلم يزل يراجعه حتى بعث إليه برق أبيض وقال: اكتب فيه ما شئت فأنا ألتزمه، واصطلحا على ذلك، فكان الأمر كما قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» .
وأخرج الدولابى أن الحسن «3» قال: كانت جماجم العرب بيدى يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله تعالى وحقن دماء المسلمين.
ومن ذلك: إعلامه- صلى الله عليه وسلم- بقتل الحسين بالطف، وأخرج بيده تربة وقال: فيها مضجعه، رواه البغوى فى معجمه من حديث أنس بن مالك بلفظ: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبى- صلى الله عليه وسلم- فأذن له وكان فى يوم
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 413) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 415) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2704) فى الصلح، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم- للحسن بن على- رضى الله عنهما- ابنى هذا سيد من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-.
(3) الحسن هنا هو: الحسن بن على- رضى الله عنهما- الذى قيل فيه نص الحديث السابق.(3/137)
أم سلمة، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا أم سلمة احفظى علينا الباب لا يدخل علينا أحد» فبينما هى على الباب إذ دخل الحسين فاقتحم فوثب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلثمه ويقبله، فقال له الملك:
أتحبه؟ قال: «نعم» ، قال: إن أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك المكان الذى يقتل فيه، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة فجعلته فى ثوبها. قال: ثابت: كنا نقول: إنها كربلاء. وخرجه أبو حاتم فى صحيحه ورواه أحمد بنحوه. والسهلة- بالكسر-: رمل خشن ليس بالدقاق الناعم.
وفى رواية الملاء، قالت ثم ناولنى كفّا من تراب أحمر، وقال: إن هذا من تربة الأرض التى يقتل بها فمتى صار دما فاعلمى أن قد قتل. قالت أم سلمة: فوضعته فى قارورة عندى وكنت أقول: إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم. الحديث.
فاستشهد الحسين كما قال- صلى الله عليه وسلم- بكربلاء من أرض العراق، بناحية الكوفة، ويعرف الموضع بالطف، وقتله سنان بن أنس النخعى وقيل غيره، ولما قتلوه بعثوا برأسه إلى يزيد، فنزلوا أول مرحلة فجعلوا يشربون بالرأس، فبينما هم كذلك إذ خرجت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد فكتبت سطرا بدم:
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب
فهربوا وتركوا الرأس. أخرجه منصور بن عمار وذكر أبو نعيم الحافظ فى كتاب دلائل النبوة عن نضرة الأزدية أنها قالت: لما قتل الحسين بن على أمطرت السماء دما فأصبحنا وجبابنا وجرارنا مملوءة دما. وكذا روى فى أحاديث غير هذا وقال- صلى الله عليه وسلم- لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» «1» . رواه البخارى فكان كما قال- صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (447) فى المساجد، باب: التعاون فى بناء المسجد، ومسلم (2915) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، من حديث أبى سعيد الخدرى عن أبى قتادة الأنصارى- رضى الله عنهما-.(3/138)
ومن ذلك: ما رواه أبو عمر بن عبد البر أن عبد الله بن عمر رأى رجلا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يعرفه، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أرأيته؟» قال: نعم. قال:
«ذاك جبريل، أما إنك ستفقد بصرك» ، فعمى فى آخر عمره.
ومن ذلك: قوله- صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس بن شماس: «تعيش حميدا وتقتل شهيدا» «1» رواه الحاكم وصححه، والبيهقى وأبو نعيم، فقتل يوم مسيلمة الكذاب باليمامة.
ومن ذلك: قوله لعبد الله بن الزبير: «ويل لك من الناس، وويل للناس منك» «2» . فكان من أمره مع الحجاج ما كان.
ومن ذلك: حديث أبى هريرة أنه- رضى الله عنه- قال: «إن هذا الدين بدأ نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا عضوضا، ثم يكون سلطانا وجبرية» «3» . وقوله: ملكا عضوضا أى يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضّا.
وفى حديث سفينة عند أبى داود والترمذى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الخلافة فى أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» «4» . قال سعيد بن جمعان: أمسك خلافة أبى بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وخلافة على فوجدناها ثلاثين سنة، فقيل له: إن بنى أمية يزعمون أن الخلافة فيهم فقال:
كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك «5» .
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 260 و 261) وصححهما.
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 638) ، وابن أبى عاصم فى «الآحاد والمثانى» (1/ 414) ، وسكت عنه الحافظان الحاكم والذهبى.
(3) أخرجه أبو يعلى فى «مسنده» (873) ، وأبو داود فى «مسنده» (228) ، والطبرانى فى «الكبير» (1/ 156) و (20/ 53) ، والبيهقى فى «الكبرى» (8/ 159) من حديث أبى عبيدة ابن الجراح ومعاذ بن جبل- رضى الله عنهما-، ولم أقف عليه من حديث أبى هريرة.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (2226) فى الفتن، باب: ما جاء فى الخلافة، وأحمد فى «المسند» (5/ 220 و 221) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3341) .
(5) ذكره الترمذى عقب الحديث السابق.(3/139)
وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس أن أم الفضل مرت به- صلى الله عليه وسلم- فقال:
إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتنى به، قالت: فلما ولدته أتيته به فأذن فى أذنه اليمنى وأقام فى اليسرى وألبأه من ريقه وسماه عبد الله وقال: اذهبى بأبى الخلفاء فأخبرت العباس فأتاه فذكر له ذلك فقال: هو ما أخبرتك، هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدى، حتى يكون منهم من يصلى بعيسى ابن مريم.
وأخرج أبو يعلى عن معاوية سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:
«لتظهرن الترك على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم» «1» .
ومن ذلك: إخباره- صلى الله عليه وسلم- بعالم المدينة، أخرج الحاكم وصححه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلم يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة» «2» . قال سفيان بن عيينة: نرى هذا العالم مالك بن أنس، وقال عبد الرزاق: ولم يعرف بهذا الاسم غيره ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما ضربت إليه، وقال أبو مصعب: كان الناس يزدحمون على باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام، يعنى لطلب العلم. وممن روى عنه من الأئمة المشهورين: محمد بن شهاب الزهرى «3» ، والسفيانان والشافعى والأوزاعى إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام «4» ، وصاحباه: أبو يوسف ومحمد ابن الحسن وعبد الرحمن بن مهدى شيخ الإمام أحمد ويحيى بن يحيى شيخ
__________
(1) لم أقف عليه فيه.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2680) بنحوه فى العلم، باب: ما جاء فى عالم المدينة، وأحمد فى «المسند» (2/ 299) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 168) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: رجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن جريج وأبى الزبير، وهما مدلسان.
(3) قلت: محمد بن شهاب الزهرى، من طبقة شيوخ مالك، فقد روى عنه مالك، كما روى عن مالك من باب رواية الأكابر عن الأصاغر، وغالبا ما يكون ذلك من باب اعتراف الشيخ بالتلميذ.
(4) قلت: الإمام أبو حنيفة، أسن من الإمام مالك، كما لم يثبت عنهما أنهما التقيا، فلا أظن أنه روى عنه شيئا، وكذلك صاحباه.(3/140)
البخارى، وأبو رجاء قتيبة بن سعيد شيخ البخارى، وذو النون المصرى، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم بن أدهم. كما نقله العلامة عيسى بن مسعود الزواوى فى كتابه «المنهج السالك إلى معرفة قدر الإمام مالك» .
وإخباره بعالم قريش؛ عن ابن مسعود قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما» «1» . رواه أبو داود الطيالسى فى مسنده، وفيه الجارود مجهول، لكن له شواهد عن أبى هريرة فى تاريخ بغداد للخطيب وعن على وابن عباس فى المدخل للبيهقى. قال الإمام أحمد وغيره: هذا العالم هو الشافعى، لأنه لم ينتشر فى طباق الأرض من علم عالم قريش من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعى، وما كان الإمام أحمد ليذكر حديثا موضوعا يحتج أو يستأنس به فى أمر شيخه الشافعى. وأما قوله: «وروى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قالت عالم قريش» إلخ، بصيغة التمريض احتياطا للشك فى ضعفه، فإن إسناده لا يخلو من ضعف.
قاله العراقى ردّا على الصغانى فى زعمه أنه موضوع، وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه فى كتابه سماه: لذة العيش فى طرق حديث الأئمة من قريش، كما أفاده شيخنا.
وأخبر- صلى الله عليه وسلم- بأن طائفة من أمته لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله «2» . رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة وبأن الله تعالى يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها «3» . رواه الحاكم من حديث أبى هريرة. وبذهاب الأمثال فالأمثل رواه الحاكم وصححه
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطيالسى فى «مسنده» (309) بسند ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (7311) فى الاعتصام، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق» . وهم أهل العلم، ومسلم (1921) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتى» من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (4291) فى الملاحم، باب: ما يذكر فى الملاحم، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 567 و 568) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/141)
بلفظ: تذهبون الخير فالخير «1» . وبالخوارج رواه الشيخان من حديث أبى سعيد الخدرى بلفظ: بينما نحن عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة، فقال: يا رسول الله، «اعدل» فقال: «ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل، خبت وخسرت إن لم أعدل» فقال عمر: يا رسول الله دعنى أضرب عنقه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدى المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس» «2» .
قال أبو سعيد: فأشهد أنى سمعت هذا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن على بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى نعته.
وأخبر- صلى الله عليه وسلم- أيضا بالرافضة، أخرجه البيهقى عن على قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يكون فى أمتى قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام» «3» .
وأخبر أيضا بالقدرية والمرجئة وقال: هم مجوس هذه الأمة «4» ، رواه الطبرانى فى الأوسط عن أنس.
__________
(1) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 480) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7225) ، والطبرانى فى «الكبير» (5/ 29) ، من حديث رويفع بن ثابت الأنصارى- رضى الله عنه-، والحديث حسنه لغيره الشيخ الأرناؤوط فى صحيح ابن حبان.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3610) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (1064) فى الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، وقد ذكر البخارى ومسلم تتمة كلام أبى سعيد عقب حديثه السابق.
(3) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 103) ، والبيهقى فى «الدلائل» (6/ 547) بسند فيه يحيى بن المتوكل، وهو ضعيف الحديث، إلا أن للحديث شواهد أخرجها أبو يعلى فى «مسنده» (6749) من حديث فاطمة بنت النبى- عليهما السلام-، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 242) ، وعبد بن حميد (698) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بأسانيد حسنها الهيثمى فى «المجمع» (10/ 22) .
(4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (92) فى المقدمة، باب: فى القدر، والطبرانى فى «الصغير» (1/ 368) ، من حديث جابر- رضى الله عنه-، من طريق بقية عن الأوزاعى عن ابن جريج عن أبى الزبير عنه، وهذا إسناد ضعيف. ولم أقف عليه من حديث أنس- رضى الله عنه-، وقد رمز إليه الشيخ الألبانى بالحسن.(3/142)
وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأشياء بين موته وبين الساعة وحذر من مفاجأتها، كما يحذر من حاد عن الطاعة، وأن الساعة لا تقوم حتى تظهر جملة الأمارات فى العالم، فإذا جاءت الطامة الكبرى، يطيش منها الجاهل والعالم. كما روى من رفع الأمانة والقرآن، واشتهار الخيانة وحسد الأقران وقلة الرجال، وكثرة النسوان، إلى غير ذلك مما شهدت بصحته الأخبار، وقضى بحقيقة وقوعه الاعتبار. وقد تعين أن نلمّ بذكر طرف من الآثار الصحاح والحسان: فروى البخارى من حديث أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج- وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم الرجل من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذى يعرضه عليه: لا أرب لى فيه، وحتى يتطاول الناس فى البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول:
يا ليتنى مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانهم لم تكون آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ولا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» «1» .
فهذه ثلاث عشرة علامة جمعها أبو هريرة فى حديث واحد، ولم يبق بعد هذا ما ينظر من صحيح العلامات والأشراط. وقد ظهر أكثر هذه العلامات:
فأما قوله: «حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة» يريد فتنة معاوية وعلى بصفين. قال القاضى أبو بكر بن العربى: وهذا أول خطب طرق الإسلام.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7121) فى الفتن، باب: خروج النار.(3/143)
وتعقبه القرطبى بأن أول أمر دهم الإسلام موت النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد موته موت عمر، لأن بموته- صلى الله عليه وسلم- انقطع الوحى وكان أول ظهور الشر ارتداد العرب وغير ذلك، وبموت عمر سل سيف الفتنة بقتل عثمان. وكان من قضاء الله وقدره ما كان وما يكون.
وأما قوله: «دجالون كذابون قريب من ثلاثين» فقد جاء عددهم معينا من حديث حذيفة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يكون فى أمتى دجالون كذابون سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة. وأنا خاتم النبيين لا نبى بعدى» .
أخرجه الحافظ أبو نعيم وقال: هذا حديث غريب قال القاضى عياض: هذا الحديث قد ظهر، فلو عدّ من تنب من زمن النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى الآن من اشتهر بذلك لوجد هذا العدد، ومن طالع كتب التاريخ عرف صحة هذا.
وقوله: «حتى يقبض العلم» فقد قبض ولم يبق إلا رسمه. وأما:
«الزلازل» فوقع منها شئ كثير، وقد شاهدنا بعضها. وأما قوله: «حتى يكثر فيكم المال فيفيض وحتى يهم رب المال من يقبل صدقته» فهذا مما لم يقع.
وقوله: «حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتنى مكانه» لما يرى من عظيم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول العلماء وغير ذلك، مما ظهر كثير منه.
وفى حديث أبى هريرة عند الشيخين أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تضئ لها أعناق الإبل ببصرى» «1» .
وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة فى ليلة الأربعاء بعد العشاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، وفى يوم الثلاثاء اشتدت حركتها، وعظمت رجفتها، وتتابعت حطمتها، وارتجت الأرض بمن عليها، وعجت الأصوات لباريها، ودامت الحركة إثر الحركة، حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلكة، وزلزلوا زلزالا شديدا، من جملة ثمانية عشر حركة فى يوم واحد دون ليلته.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7118) فى الفتن، باب: خروج النار، ومسلم (2902) فى الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز.(3/144)
قال القرطبى: وكان يأتى المدينة ببركته- صلى الله عليه وسلم- نسيم بارد، وشوهد من هذه النار غليان كغليان البحر، وانتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها.
قال: وقال لى بعض أصحابنا: ولقد رأيتها صاعدة فى الهواء من مسيرة خمسة أيام. قال: وسمعت أنها رؤيت من مكة ومن جبال بصرى.
وقال الشيخ قطب الدين القسطلانى: أقامت اثنين وخمسين يوما، وكان انطفاؤها فى السابع والعشرين من رجب ليلة الإسراء والمعراج به- صلى الله عليه وسلم-.
وبالجملة فاستيفاء الكلام على هذه النار يخرج عن المقصود، وقد نبه عليه القرطبى فى التذكرة، وأفردها بالتأليف قطب الدين القسطلانى فى كتاب سماه «جمل الإيجاز فى الإعجاز بنار الحجاز» فأتى فيه من دقائق الحقائق بالعجب العجاب، والله الموفق للصواب.(3/145)
المقصد التاسع وفيه:
* فى لطيفة من عباداته.(3/147)
المقصد التاسع فى لطيفة من عباداته
قال الله تعالى مخاطبا له- صلى الله عليه وسلم-: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» . فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد ب «اليقين» ، وإنما سمى الموت باليقين لأنه أمر متيقن. فإن قلت: ما الفائدة فى قوله: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»
وكان قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ «3» كافيا فى الأمر بالعبادة؟
أجاب القرطبى تبعا لغيره: بأنه لو قال: وَاعْبُدْ رَبَّكَ «4» مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا، ولما قال: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «5» أى اعبد ربك فى جميع زمان حياتك ولا تمل ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من هذه العبادة.
كما قال العبد الصالح: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا «6» .
وهذا مصير منه إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، وهى مسألة معروفة فى الأصول اختلف فيها. وهى: هل الأمر المطلق يفيد التكرار، أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منها؟ على مذاهب:
الأول: أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه، بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال، إذ
__________
(1) سورة الحجر: 97- 99.
(2) سورة الحجر: 99.
(3) سورة الحجر: 99.
(4) سورة الحجر: 99.
(5) سورة الحجر: 99.
(6) سورة مريم: 31.(3/149)
لا توجد الماهية بأقل منها، وهذا مختار الإمام «1» مع نقله له على الأقلين، ورجحه الآمدى وابن الحاجب وغيرهما.
الثانى: أنه يفيد التكرار مطلقا، كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراينى وأبو حاتم القزوينى، فإن عيّن للتكرار أمدا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمن قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات.
الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق فى شرح «اللمع» عن أكثر أصحابنا وأبى حنيفة وغيرهم. وإن علق بشرط أو صفة اقتضى التكرار بحسب تكرار المعلق به، نحو وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «2» والزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «3» ، انتهى ملخصا من شرح العلامة أبى الحسن الأشمونى لنظمه جمع الجوامع للعلامة ابن السبكى.
وقد روى جبير بن نفير «4» مرسلا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أوحى إلىّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إلى أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» «5» . رواه البغوى فى شرح السنة وأبو نعيم فى الحلية عن أبى مسلم الخولانى «6» . وقد أمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح والتحميد والسجود والعبادة.
واختلف العلماء فى أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن.
__________
(1) يقصد إمام الحرمين، الإمام الجوينى- رحمه الله-.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) سورة النور: 2.
(4) ممن أسلم قديما، إلا أنه لم يهاجر إلا فى زمن عمر بن الخطاب، ولذلك فروايته عن النبى- صلى الله عليه وسلم- مرسلا، لأنها لا تكون إلا بواسطة.
(5) أخرجه الحاكم فى تاريخه، عن أبى ذر، كما فى «كنز العمال» (6374) .
(6) كالذى قبله، أسلم قديما، إلا أنه لم يدرك زمن النبى- صلى الله عليه وسلم-، حيث أنه لما رحل إليه، وجده قد مات، فعلى ذلك فحديثه مرسل أيضا.(3/150)
فحكى الإمام فخر الدين الرازى عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها، فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب على عبادتك سواء أعطيتنى الخيرات أو ألقيتنى فى المكروهات.
وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ «1» . فأمره تعالى- صلى الله عليه وسلم- بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف فى الإنذار والإبلاغ. فإن قلت: لم لم يقل: واصبر على عبادته، بل قال: وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ «2» .
فالجواب: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن فى قولك للمحارب: اصطبر لقرنك أى: اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه. والمعنى: أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها قاله الفخر الرازى وكذا البيضاوى.
وقال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ «3» . فأول درجات السير إلى الله عبودية الله تعالى، وآخرها التوكل عليه، وإذا كان العبد لا يزال مسافرا إلى ربه لا ينقطع سيره إليه ما دام فى قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة لا يستغنى عنه البتة، ولو أتى بأعمال الثقلين جميعا، وكلما كان العبد إلى ربه أقرب كان جهاده إلى الله أعظم، قال تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «4» ولهذا كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق اجتهادا «5» وقياما بوظائف العبادة، ومحافظته عليها إلى أن توفاه الله تعالى. وتأمل أصحابه- رضى الله عنهم- فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب مقاما عظم جهادهم واجتهادهم.
__________
(1) سورة مريم: 65.
(2) سورة مريم: 65.
(3) سورة هود: 123.
(4) سورة الحج: 78.
(5) لعل الصواب: جهادا.(3/151)
ولا يلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف حيث قال: «القرب الحقيقى ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل» . زاعما بذلك سقوط التكليف عنه. وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التى هى أمانى النفس وخدع الشيطان. فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة ما دام قادرا عليه.
وقد اختلف العلماء: هل كان- صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟
فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشئ، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأنه لو كان كذلك لنقل، ولما أمكن كتمه وستره فى العادة، إذ كان من مهم أمره، وأولى ما اهتبل به من سيرته، ولفخر به أهل تلك الشريعة ولا حتجوا به عليه، ولم يؤثر بشئ من ذلك.
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا. والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى.
وذهب آخرون إلى الوقف فى أمره- صلى الله عليه وسلم- وترك قطع الحكم عليه بشئ من ذلك، إذ لم يحل الوجهين منها العقل، وهذا مذهب الإمام أبى المعالى إمام الحرمين وكذا الغزالى والآمدى.
وقال آخرون: كان عاملا بشرع من قبله. ثم اختلفوا: هل يتعين ذلك الشرع أم لا؟ فوقف بعضهم عن التعيين وأحجم، وجسر بعضهم على التعيين وصمم، ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع فقيل نوح، وقيل إبراهيم، وقيل موسى، وقيل عيسى.
فهذه جملة المذاهب فى هذه المسألة. والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضى أبو بكر، وأبعدها مذاهب التعيين، إذ لو كان شئ من ذلك لنقل- كما قدمناه- ولم يخف جملة، ولا حجة لهم فى أن عيسى- عليه السّلام- آخر الأنبياء(3/152)
فلزمت شريعته من جاء بعده، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح أنه لم يكن لنبى دعوة عامة إلا لنبينا- صلى الله عليه وسلم-. انتهى ملخصا من كلام القاضى عياض، وهو كلام حسن بديع، لكن قوله: فهذه جملة المذاهب، فيه نظر، لأنه بقى منها شئ، فقد قيل شريعة آدم أيضا، وهو محكى عن ابن برهان، وقيل جميع الشرائع. حكاه صاحب «المحصول» من المالكية.
وأما قول من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته- صلى الله عليه وسلم- إحياء شرع إبراهيم، وعول فى إثبات مذهبه على قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «1» فهذا قول ساقط مردود، لا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع.
وإنما المراد بهذه الآية الاتباع فى التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم- عليه السّلام- فى هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: إِنْ أَتَّبِعُ «2» كان المراد منه ذلك. ومثله قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «3» وقد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ولم يكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب. على قول من يقول إنه ليس برسول «4» . وقد سمى الله تعالى جماعة منهم فى هذه الآية وشرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها، فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى.
فإن قيل: النبى- صلى الله عليه وسلم- إنما نفى الشرك وثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: إِنْ أَتَّبِعُ «5» على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التى يصح حصول المتابعة فيها.
__________
(1) سورة النحل: 123.
(2) سورة النحل: 123.
(3) سورة الأنعام: 90.
(4) وذلك على اعتبار من يفرق بين (الرسول) و (النبى) على أن الرسول من أوحى إليه بشئ وأمر بتبليغه، والنبى من جاء بإحياء شريعة رسول سبقته.
(5) سورة النحل: 123.(3/153)
أجاب الفخر الرازى: بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته فى كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة، على ما هو الطريقة المألوفة فى القرآن.
وقد قال صاحب الكشاف «1» : لفظة «ثم» فى قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «2» تدل على تعظيم منزلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتى خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتى من النعمة اتباع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ملته، من قبل أن هذه اللفظة دلت على تباعد النعت فى المرتبة على سائر المدائح التى مدحه الله بها، انتهى.
ومراده بالمدائح: المذكورة فى قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «3» .
وقال ابن العراقى فى شرح تقريب الأسانيد: وليت شعرى كيف تلك العبادة؟ وأى أنواعها هى؟ وعلى أى وجه فعلها؟ يحتاج ذلك لنقل. ولا أستحضره الآن. انتهى.
وقال شيخ الإسلام البلقينى فى شرح البخارى: لم تجئ فى الأحاديث التى وقفنا عليها كيفية تعبده- صلى الله عليه وسلم-، لكن روى ابن إسحاق وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى حراء فى كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه، وكان من تنسك قريش فى الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة، وحمل بعضهم التعبد على التفكر.
__________
(1) هو: الإمام المعتزلى الكبير، أبو القاسم، محمود بن عمر الزمخشرى الخوارزمى، الذى ولد بها، كان رأسا فى البلاغة والعربية والمعانى والبديع، كما كان داعيا إلى الاعتزال- سامحه الله-، مات ليلة عرفة سنة 538 هـ.
(2) سورة النحل: 123.
(3) سورة النحل: 120- 122.(3/154)
قال «1» : وعندى أن هذا التعبد يشتمل على أنواع: وهى الانعزال عن الناس، كما صنع إبراهيم- عليه السّلام- باعتزاله قومه والانقطاع إلى الله تعالى، فإن «انتظار الفرج عبادة» «2» ، كما رواه على بن أبى طالب مرفوعا، وينضم إلى ذلك الأفكار، وعن بعضهم: كانت عبادته- صلى الله عليه وسلم- فى حراء التفكر.
انتهى.
وقد آن أن أشرع فيما قصدته على النحو الذى أردته. وقد اقتصرت من عباداته على سبعة أنواع:
النوع الأول فى الطهارة وفيه فصول:
الفصل الأول: فى ذكر وضوئه ص وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به
اعلم أن الوضوء، بالضم: الفعل، وبالفتح: الماء الذى يتوضأ به، على المشهور فيهما، وهو مشتق من الوضاءة، وسمى به لأن المصلى يتنظف به فيصير وضيئا. وقد استنبط بعض العلماء- كما حكاه فى فتح البارى- إيجاب النية فى الوضوء من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «3» لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها. ومثله قوله: إذا رأيت الأمير فقم، أى، لأجله.
وقال ابن القيم: لم يرو أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى أول وضوئه نويت رفع الحدث ولا غيرها، لا هو ولا أصحابه البتة، ولم يرو عنه لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى.
__________
(1) القال هنا: شيخ الإسلام البلقينى أحد شراح البخارى.
(2) ضعيف: أخرجه ابن أبى الدنيا فى الفرج، وابن عساكر عن على، كما فى «ضعيف الجامع» (1331) وانظر رقمى (1329 و 1330) .
(3) سورة المائدة: 6.(3/155)
قال: أما التلفظ بالنية فلا نعلم أنه روى عنه- صلى الله عليه وسلم-، وأما كونه أتى بها فقد قال الإمام فخر الدين الرازى فى «المعالم» : اعلم أنا إذا أردنا أن نقول فى أمر من الأمور: هل فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم-؟ قلنا فى إثباته طرق:
الأول: أنا إذا أردنا أن نقول إنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ مع النية والترتيب، قلنا:
لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضرورى حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوى، ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العارى عن النية والترتيب، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوى، فوجب أن يجب علينا مثله.
والطريق الثانى: أن نقول: لو أنه- صلى الله عليه وسلم- ترك النية والترتيب وجب علينا تركه للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله. وفى الصحيحين وغيرهما من حديث عمر مرفوعا «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» «1» . قال البخارى:
«فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام» .
وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لم يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعى وأبى حنيفة وغيرهما. وحجتهم: أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة. ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية. واستدل الجمهور على اشتراط النية فى الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه فلا بد من قصد يميزه ليحصل الثواب الموعود به.
وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» ليس المراد منه نفى ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفى أحكامها كالصحة والكمال. ولكن الحمل على نفى الصحة أولى لأنه أشبه بنفى الشئ نفسه، ولأن اللفظ دل على نفى الذات بالصريح وعلى نفى الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفى الذات بقيت دلالته على نفى الصفات مستمرة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1) فى بدء الوحى، باب: بدء الوحى، ومسلم (1907) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنية» .(3/156)
قال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية، قدروا: صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا: كمال الأعمال. ورجح الأول لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى.
وفى هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية، وليس الخلاف بينهم فى ذلك إلا فى الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم فى اشتراط النية لها. ومن ثم خالف الحنفية فى اشتراطها للوضوء كما تقدم، وخالف الأوزاعى فى اشتراطها فى التيمم أيضا. نعم بين العلماء اختلاف فى اقتران النية بأول العمل كما هو معروف فى مبسوطات الفقه.
وأما قوله- أى البخارى- «فدخل فيه الإيمان» ، فتوجيه دخول النية فى الإيمان على طريقة البخارى: أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، من خشية الله وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة لله فلا تحتاج إلى نية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل لله عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية.
وقوله أيضا: «والأحكام» أى المعاملات التى يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فتشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وكل صورة لم تشترط فيها النية فذلك لدليل خاص.
وقد ذكر ابن المنير ضابطا- لما تشترط فيه النية مما لا تشترط فيه- فقال:
كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتقاضته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب.
قال: وإنما اختلف العلماء فى بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة.
قال: وأما ما كان من المعانى المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويّا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلى.(3/157)
وأما الأقوال، فتحتاج إلى النية فى ثلاثة مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء، والثانى: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود. والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى، ذكره الحافظ ابن حجر فى فتح البارى.
وقد اختلف العلماء فى الوقت الذى وجب فيه الوضوء:
فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «1» الآية. ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه- صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، كما افترضت الصلاة، وأنه لم يصل قطّ إلا بوضوء، وقال: وهذا مما لا يجهله عالم.
وقال الحاكم فى المستدرك: أهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس:
دخلت فاطمة- رضى الله عنها- على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهى تبكى فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: «ائتونى بوضوء فتوضأ» «2» . قال الحافظ ابن حجر: وذا يصلح أن يكون ردّا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ.
وقد جزم ابن الجهم المالكى بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة. ورد عليه بما أخرجه ابن لهيعة فى المغازى التى يرويها عن أبى الأسود عن عروة أن جبريل- عليه السّلام- علم النبى- صلى الله عليه وسلم- الوضوء عند نزوله عليه بالوحى. وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال: عن الزهرى عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهرى نحوه،
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 268) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الحاكم: حديث صحيح ولا أعلم له علة. قلت: إن مولد ابن عباس- رضى الله عنهما- كان فى الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، فمتى تحمل رواية هذا الخبر فى مكة قبل الهجرة!.(3/158)
لكن لم يذكر زيد بن حارثة فى السند، وأخرجه الطبرانى فى الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا. ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة.
وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة. قيل له:
كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث «1» . رواه البخارى وأبو داود والترمذى. وعن عثمان- رضى الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ لكل صلاة. رواه الدارمى. وروى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى صلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئا لم تكن تفعله، فقال: «عمدا فعلته يا عمر» «2» يعنى لبيان الجواز. وفى رواية أحمد وأبى داود، من حديث عبد الله بن أبى عامر الغسيل، أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة»
ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. واختلف العلماء فى موجب الوضوء:
فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا.
وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا، ورجحه جماعة من الشافعية.
وقيل: بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس مرفوعا: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبى عامر هذا من قال بوجوب السواك عليه- صلى الله عليه وسلم-، لكن فى إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (214) فى الوضوء، باب: الوضوء من غير حدث، وأبو داود (171) فى الطهارة، باب: الرجل يصلى الصلوات بوضوء واحد، والترمذى (60) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء لكل صلاة.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (277) فى الطهارة، باب: جواز الصلوات كلها بوضوء واحد.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (48) فى الطهارة، باب: السواك، والدارمى (658) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 258) والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/159)
وأخرج الطبرانى فى الأوسط والبيهقى فى السنن عن عائشة مرفوعا:
«ثلاث هن علىّ فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل» «1» . وقد روى أحمد فى مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على» «2» . وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا. لكن حكى عن بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة ونوزع فيه. واتفقوا على أنه مستحب مطلقا، ويتأكد بأحوال:
منها: عند الوضوء وإرادة الصلاة.
ومنها: عند القيام من النوم، لما ثبت فى الصحيحين من حديث حذيفة أنه- صلى الله عليه وسلم- (كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) «3» لكن قد يقال:
المراد، قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك للصلاة وعند الوضوء.
ومنها: قراءة القرآن، كما جزم به الرافعى.
ومنها: تغير الفم، سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان، كما ذكره الرافعى.
ومنها: دخول المنزل، جزم به النووى فى زيادة الروضة، لما روى مسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجه، من حديث عائشة، أنه- صلى الله عليه وسلم- (كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك) «4» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 231) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 441) ، والدار قطنى فى «سننه» (2/ 21) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 468) و (9/ 264) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، بسند فيه أبو جناب الكلبى، اسمه يحيى بن أبى حية، ضعيف الحديث، ولم يتابع عليه.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 490) ، والطبرانى فى «الكبير» (22/ 76) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 98) وقال: وفيه ليث بن أبى سليم، وهو ثقة مدلس، وقد عنعنه.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (246) فى الوضوء، باب: السواك، ومسلم (255) فى الطهارة، باب: السواك.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (253) فى الطهارة، باب: السواك.(3/160)
ومنها: إرادة النوم، كما ذكره الشيخ أبو حامد «1» فى «الرونق» «2» ، وروى فيه ما رواه ابن عدى فى الكامل من حديث جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يستاك إذا أخذ مضجعه «3» . وفيه: حرام بن عثمان، متروك.
ومنها: الانصراف من صلاة الليل، لما روى ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد صحيح قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك «4» .
ويجزئ بكل خشن، ولو بأصبع غيره الخشنة، وقد جزم النووى فى شرح المهذب ودقائق المنهاج أنه يجزئ بها قطعا. قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما أدرى ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره وكونه جزآ منه لا يظهر منه ما يقتضى منعه، بل كونها أصبعه أبلغ فى الإزالة، لأنه يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم. قال النووى فى شرح المهذب: المختار أجزاؤه مطلقا. قال: وبه قطع القاضى حسين والمحاملى فى اللباب والبغوى واختاره فى البحر. انتهى.
ولقد أطبق أصحاب الشافعى على استحباب «الأراك» فروى الطبرانى من حديث أبى خيرة الصنابحى- وله صحبة- حديثا قال فيه: ثم أمر لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأراك فقال: «استاكوا بهذا» «5» .
__________
(1) هو: الشيخ أبو حامد الإسفرايينى الفقيه الشافعى المعروف، المتوفى سنة 406 هـ.
(2) الرونق: مختصر فى فروع الشافعية على طريقة اللباب للمحاملى، وقد اختلف فى مؤلفه، قيل إنه منسوب إلى الشيخ أبى حامد الإسفرايينى، وقيل إنه من تصانيف أبى حاتم القزوينى كذا فى طبقات السبكى، قال ابن السبكى: وهذا غير مستبعد فإن أبا حاتم قرأ على المحاملى والرونق أشبه شئ بكلام المحاملى فى اللباب، انظر كشف الظنون (1/ 934) .
(3) ضعيف: لضعيف راويه.
(4) صحيح: أخرجه ابن ماجه (288) فى الطهارة، باب: السواك، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح الجامع» (4961) .
(5) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 61- 62) وقال: رواه الطبرانى، وفيه جماعة لم أعرفهم.(3/161)
وفى مستدرك الحاكم من حديث عائشة فى دخول أخيها عبد الرحمن ابن أبى بكر فى مرضه- صلى الله عليه وسلم- ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة فطيبته ثم أعطته رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستاك به «1» . والحديث فى الصحيح وليس فيه ذكر الأراك. وفى بعض طرقه عند البخارى: ومعه سواك من جريد النخل.
وقد روى أبو نعيم فى كتاب السواك، من حديث عائشة قالت: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يستاك عرضا «2» ، وروى البيهقى أيضا من حديث ربيعة بن أكثم قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستاك عرضا الحديث.
قال أصحابنا: والمراد بقوله «عرضا» : عرض الأسنان فى طول الفم.
وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم بيمينه، لحديث:
كان يعجبه التيمن فى ترجله وتنعله وطهره وسواكه. وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطيب، أو من باب إزالة القاذورات. فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمنى، وإن قلنا بالثانى فبشماله لحديث عائشة:
كانت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اليمين لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى «3» . رواه أبو داود بإسناد صحيح.
قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما استدل به على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن فى الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى فى التطهير، والبداءة بالجانب الأيمن فى الاستياك، وأما كونه يفعل ذلك بيمينه فيحتاج إلى نقل، والظاهر أنه من باب إزالة الأذى
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 8) ، وهو فى صحيح البخارى (890) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره، بدون ذكر (الأراك) ورواية (جريد النخل) عند البخارى (4451) .
(2) ضعيف: أخرجه البغوى وابن قانع والطبرانى فى الكبير وابن السنى وأبو نعيم فى الطب عن بهز، والبيهقى فى السنن عن ربيعة بن أكثم، كما فى «ضعيف الجامع» (4552) .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (33 و 34) فى الطهارة، باب: كراهية مس الذكر باليمين فى الاستبراء، وأحمد فى «المسند» (6/ 156 و 170 و 265) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/162)
كالامتخاط ونحوه فيكون باليسرى. وقد صرح بذلك أبو العباس أحمد القرطبى فقال فى «المفهم» حكاية عن مالك: أنه لا يتسوك فى المساجد لأنه من باب إزالة القذر والله أعلم.
وأما مقدار ما كان- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ أو يغتسل به من الماء:
فعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، وفى رواية: كان يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود وعنده: يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع. ورواه الترمذى وعنده: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يجزئ فى الوضوء رطلان من الماء» «2» . وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد «3» . رواه أبو داود. وعن ابن عباس، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد «4» . والصاع: خمسة أرطال وثلث، برطل بغداد، وهو على ما قاله النووى مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم.
وحذر- صلى الله عليه وسلم- أمته من الإسراف فيه.
ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف يا سعد؟» قال: أفى الوضوء سرف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهر جار» «5» ، رواه أحمد بإسناد لين، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (201) فى الوضوء، باب: الوضوء بالمد، ومسلم (325) فى الحيض، باب: القدر المستحب من الماء فى غسل الجنابة، وأبو داود (95) فى الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء من الوضوء.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (609) فى الجمعة، باب: قدر ما يجزئ من الماء فى الوضوء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (92) فى الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء فى الوضوء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (253) فى الغسل، باب: الغسل بالصاع ونحوه، ومسلم (322) فى الحيض، باب: القدر المستحب من الماء فى غسل الجنابة.
(5) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 221) ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنه-، بسند فيه ضعف.(3/163)
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء» «1» . رواه الترمذى من حديث أبى بن كعب.
الفصل الثانى فى وضوئه ص مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا
عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرة مرة «2» . رواه البخارى وأبو داود وغيرهما. وهو بيان لمجمل قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «3» الآية. إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة، للإيجاب، وما زاد عليها للاستحباب. وأما حديث أبى بن كعب أنه- صلى الله عليه وسلم- دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» «4» ، ففيه بيان القول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قال فى فتح البارى.
وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ مرتين مرتين وقال:
«نور على نور» «5» ذكره رزين، وعن عثمان- رضى الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (57) فى الطهارة، باب: ما جاء فى كراهية الإسراف فى الوضوء بالماء، وابن ماجه (421) فى الطهارة، باب: ما جاء فى القصد فى الوضوء وكراهة التعدى فيه، وأحمد فى «المسند» (5/ 136) ، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (157) فى الوضوء، باب: الوضوء مرة مرة.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (420) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، والدار قطنى في «سننه» (1/ 81) ، وقال البوصيرى فى الزوائد. فى إسناده زيد هو العمى، ضعيف، وكذا الراوى عنه، ورواه الإمام أحمد فى مسنده عن أبى إسرائيل عن زيد العمى عن نافع عن ابن عمر.
(5) صحيح دون طرفه الأخير: والحديث أخرجه البخارى (158) فى الوضوء، باب: الوضوء مرتين مرتين، ولم أقف على زيادة «نور على نور» .(3/164)
توضأ ثلاثا ثلاثا «1» . رواه أحمد ومسلم. وعنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا وقال: «هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى ووضوء إبراهيم» «2» .
ذكره رزين، وضعفه النووى فى شرح مسلم كما حكاه فى مشكاة المصابيح.
ولم يأت فى شئ من الأحاديث المرفوعة فى صفة وضوئه- صلى الله عليه وسلم- أنه زاد على ثلاث، بل روى عنه أنه نهى عن الزيادة على الثلاث.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» «3» ، رواه أبو داود بإسناد جيد، لكن عده مسلم فى جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب، لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة.
وأجيب: بأنه أمر نسبى، والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة، وقيل: فيه حذف تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه أبو نعيم عن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: «الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من واحدة أو زاد على الثلاث فقد أخطأ» «4» وهو مرسل رجاله ثقات.
وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم يقتصر على قوله: فمن زاد فقط، كذا رواه ابن خزيمة فى صحيحه. قال الشافعى: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد أكرهه، أى لم أحرمه، لأن قوله: لا أحب، يقتضى الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره كراهة تنزيه.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (230) فى الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (419) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 79- 81) ، من حديث ابن عمر، ولم أجده من حديث عثمان، وقال البوصيرى فى «الزوائد» فى الإسناد زيد العمى وهو ضعيف، وعبد الرحيم متروك، بل كذاب، ومعاوية بن قرة لم يلق ابن عمر، قاله أبو حاتم فى العلل وصرح به الحاكم فى المستدرك.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (135) فى الطهارة، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا.
(4) المطلب بن حنطب، مختلف فى صحبته بين من أثبتها وبين من نفاها، وعلى ذلك فمن الممكن أن يكون حديثه موصولا.(3/165)
وحكى الدارمى من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء، كالزيادة فى الصلاة، وهو قياس فاسد. وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث. وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم.
ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق.
الفصل الثالث فى صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم
عن عثمان بن عفان- رضى الله عنه- أنه دعا بإناء فأفرغ على يديه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا إلى المرفقين، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من توضأ نحو وضوئى هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» «1» رواه البخارى.
وقد استدل بعضهم بقوله: «ثم أدخل يمينه» على عدم اشتراط نية الاغتراف. ولا دلالة فيه نفيّا ولا إثباتا، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس فى هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. قال الغزالى: مجرد الاغتراف لا يصيّر الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع فى المغترف منه. وبهذا قطع البغوى.
وقد ذكروا فى حكمة تأخير غسل الوجه، أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح بالأنف. فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة.
وقال النووى فى قوله: «نحو وضوئى» ، إنما لم يقل- صلى الله عليه وسلم-: مثل، لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. لكن تعقبه فى «فتح البارى» بأنه ثبت
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (160) فى الوضوء، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا.(3/166)
التعبير بها فى رواية البخارى فى الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران بن عثمان ولفظه: «من توضأ مثل وضوئى هذا» . وفى الصيام من رواية معمر: «من توضأ وضوئى هذا» ، قال: وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة، لأنها تطلق على المثلية مجازا، ولأن «مثل» وإن كانت تقتضى المساواة ظاهرا، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود، انتهى.
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصارى، أنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فدعا بإناء، فأكفأ على يديه فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فتمضمض واستنشق من كف واحد ففعل ذلك ثلاثا «1» . ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا. ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح رأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وفى رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذى بدأ منه «2» . رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. وفى رواية لأبى داود: ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه فى صماخى أذنيه.
وفى رواية أبى داود والترمذى والنسائى عن عبد خير، أبى عمارة بن زيد بن خولى- بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء- الهمدانى،
__________
(1) زيادة من مصادر التخريج.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (185) فى الوضوء، باب: مسح الرأس كله، ومسلم (235) فى الطهارة، باب: وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأبو داود (118- 120) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (32) فى الطهارة، باب: ما جاء فى مسح الرأس أنه يبدأ بمقدم الرأس إلى مؤخره، والنسائى (1/ 71) فى الطهارة، باب: حد الغسل، وباب: صفة مسح الرأس، وابن ماجه (434) فى الطهارة، باب: ما جاء فى مسح الرأس، ومالك (1/ 18) فى الطهارة، باب: العمل فى الوضوء.(3/167)
من كبار أصحاب على بن أبى طالب، قال: أتانا على وقد صلى، فدعا بطهور، فقلنا ما يصنع بالطهور وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأتى بإنا فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا، فمضمض ونثر من الكف الذى يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده اليمنى فى الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله اليسرى ثلاثا، وقال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو هذا «1» .
وقال ابن القيم: والصحيح أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكرر مسح رأسه، انتهى.
وقال النووى: والأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة وفى بعضها الاقتصار على قوله: مسح. واحتج الشافعى بحديث عثمان- رضى الله عنه- فى صحيح مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا، وبالقياس على باقى الأعضاء، انتهى.
وأجيب: بأنه مجمل مبين فى الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب ويخص بالمغسول، وبأن المسح مبنى على التخفيف فلا يقاس على الغسل الذى المراد منه المبالغة فى الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر فى المسح لصار فى صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء.
واحتج الشافعية أيضا بما رواه أبو داود فى سننه عن عثمان من وجهين، صحح أحدهما ابن خزيمة: أنه- صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه ثلاثا «2» . وفى رواية أبى داود والترمذى من حديث الربيع بنت معوذ: فغسل كفيه ثلاثا، ووضأ وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة، ووضأ يديه ثلاثا، ومسح رأسه مرتين بدأ
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (116) مختصرا فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (48) فى الطهارة، باب: ما جاء فى وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (1/ 70) فى الطهارة، باب: عدد غسل اليدين، وأحمد فى «المسند» (1/ 127) بسند حسن.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (110) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، بسند فيه عامر بن شقيق بن جمرة، ضعيف الحديث.(3/168)
بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كليهما ظهورهما وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا» .
وقد أجاب العلماء عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه. وقال ابن السمعانى- كما حكاه فى فتح البارى- اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا، فليس في رواية مسح مرة حجة على منع التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول، لأن الوضوء طهارة حكمية، ولا فرق فى الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح.
قال «2» : ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد، الحديث المشهور الذى صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصى فى صفة الوضوء بعد أن فرغ: «من زاد على هذا فقد أساء وظلم» «3» فإن فى رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة فى مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث فى تثليث المسح، إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس، جمعا بين الأدلة. انتهى.
وفى حديث عبد الله بن زيد- عند البخارى- الذى ذكرته قبل: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. وفى رواية: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما فى المكان الذى بدأ منه. وزاد ابن الطباع بعد قوله:
«ثم مسح رأسه» كله، كما هو فى رواية ابن خزيمة. وفى رواية غيره- كما
__________
(1) أخرجه أبو داود (126- 131) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (33) فى الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (390) فى الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، و (438) باب: ما جاء فى مسح الرأس، وأحمد فى «المسند» (6/ 379) بسند فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال مشهور، ولا سيما إذا عنعن.
(2) القائل هنا: هو الحافظ ابن حجر صاحب فتح البارى.
(3) تقدم: وفيه ضعف بهذه الزيادة.(3/169)
قدمته-: «برأسه» بزيادة الباء، موافقة لقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «1» .
قال البيضاوى: «الباء» أى فى الآية مزيدة، وقيل: للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك، مسحت المنديل وبالمنديل، ووجه أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فلكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضى الاستيعاب، بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله:
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، انتهى.
وقال الشافعى: احتمل قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «2» جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ، والفرق بينه وبين قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ «3» فى التيمم، أن المسح فيه بدل عن الغسل، ومسح الرأس أصل فافترقا. ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل، لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع.
وقد روى من حديث عطاء أنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ، فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس «4» ، وفى إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، لكن اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة وهذا مثال لما ذكره الشافعى من أن المرسل يعضد بمرسل آخر أو مسند.
وفى الباب أيضا عن عثمان فى صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه،
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) حديث أنس أخرجه أبو داود (147) فى الطهارة، باب: المسح على العمامة وابن ماجه (564) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على العمامة، والحديث فى إسناده أبو معقل الراوى عن أنس مجهول، والراوى عنه عبد العزيز بن مسلم مقبول الحديث، قاله الحافظ فى «التقريب» (4123) .(3/170)
أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبى مالك مختلف فيه.
وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك قاله ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر:
وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره. انتهى.
واختلف فى القدر الواجب فى مسح الرأس، فذهب الشافعى وجماعة إلى أن الواجب ما ينطلق عليه الاسم ولو شعرة واحدة أخذا باليقين. وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب استيعابه أخذا بالاحتياط. وقال أبو حنيفة فى رواية: الواجب ربعه، لأنه- صلى الله عليه وسلم- مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. والله أعلم.
وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق «1» . رواه أبو داود. وعنه أيضا قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ، فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد «2» . رواه ابن ماجه.
وفى حديث مسلم أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات. وفى حديث عبد الله بن زيد عند البخارى: ثم غسل ومضمض واستنشق من كف واحد ثم قال: هكذا وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . قال النووى: فيه أن السنة فى المضمضة والاستنشاق، أن يأخذ الماء لهما بيمينه، قال: وفى الأفضل فى كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه:
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (139) فى الطهارة، باب: فى الفرق بين المضمضة والاستنشاق، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 51) وقال: قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: أن ابن عيينة كان ينكره ويقول: أيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده.
(2) قلت: هو عند ابن ماجه (404) فى الطهارة، باب: المضمضة والاستنشاق من كف واحد، من حديث على- رضى الله عنه-، وذكر حديثان معه فى نفس الباب ليس فيها أحد من طريق طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده.
(3) تقدم حديثى عثمان وعبد الله بن زيد- رضى الله عنهما-.(3/171)
الأصح: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق.
والثانى: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا.
والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق.
والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثا، ثم يستنشق من الآخرى ثلاثا.
والخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.
قال: والصحيح الأول: وبه جاءت الأحاديث الصحيحة. وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق، وهو أن يبلغ الماء إلى خياشمه، مستدلين بقوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى هريرة: «إذا توضأ أحدكم فليجعل فى أنفه ماء ثم ليستنثر» «1» لظاهر الأمر. وحمله الجمهور ومالك والشافعى وأهل الكوفة على الندب، لقوله- صلى الله عليه وسلم- للأعرابى: «توضأ كما أمر الله» «2» ، وليس فى الآية المائدة: 6 ذكر الاستنشاق، والله أعلم.
وعند أبى داود: كان- صلى الله عليه وسلم- يمسح الماقين «3» . وعن عثمان أنه- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (162) فى الوضوء، باب: الاستجمار وترا، ومسلم (237) فى الطهارة، باب: الإيتار فى الاستنثار والاستجمار.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (861) فى الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود، من حديث رفاعة بن رافع- رضى الله عنه-، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (134) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، وابن ماجه (444) فى الطهارة، باب: الأذنان من الرأس، وأحمد فى «المسند» (5/ 258 و 264) ، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والراوى عنه شهر بن حوشب، وفيه مقال مشهور.(3/172)
كان يخلل لحيته «1» ، رواه الترمذى وابن ماجه. وعنده من حديث ابن عمر:
كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ عرك «2» عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها «3» . وعن أنس كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ أخذ كفّا من ماء فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: «بهذا أمرنى ربى عز وجل» «4» رواه أبو داود. وعن أبى رافع: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ حرك خاتمه «5» . رواه ابن ماجه والدار قطنى وضعفه. وعن المستورد بن شداد: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره «6» ، رواه الترمذى وأبو داود وابن ماجه.
وعن عائشة: كانت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه. وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى «7» .
وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر، وأنه ذهب لحاجة له وأن المغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ «8» . رواه
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (31) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، وابن ماجه (430) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح.
(2) عرك: أى دلك.
(3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (432) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (145) فى الطهارة، باب: تخليل اللحية، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(5) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (449) فى الطهارة، باب: تخليل الأصابع، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 83) وقال البوصيرى فى «الزوائد» : إسناده ضعيف، لضعف معمر وأبيه محمد بن عبيد الله.
(6) حسن: أخرجه أبو داود (148) فى الطهارة، باب: غسل الرجلين، والترمذى (40) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل الأصابع، وابن ماجه (446) فى الطهارة، باب: تخليل الأصابع، وأحمد فى «المسند» (4/ 229) ، وقال الترمذى: حديث حسن غريب، وهو كما قال.
(7) صحيح: وقد تقدم.
(8) صحيح: أخرجه البخارى (182) فى الطهارة، باب: الرجل يوضئ صاحبه، ومسلم (274) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.(3/173)
البخارى ومسلم. وعن صفوان بن عسال: صببت على النبى- صلى الله عليه وسلم- الماء فى السفر والحضر فى الوضوء «1» . رواه ابن ماجه. وفى ذلك جواز استعانة الرجل بغيره فى صب الماء فى الوضوء من غير كراهة، وكذا إحضار الماء من باب أولى، ولا دليل فى هذين الحديثين لجواز الإعانة المباشرة.
وقد روى الحاكم فى المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت:
أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بوضوء فقال: «أمسكى» ، فمسكت عليه. وهذا أصرح فى عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه فى الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، والله أعلم.
وفى الترمذى، من حديث معاذ بن جبل: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه «2» . وعن عائشة: كانت له- صلى الله عليه وسلم- خرقة ينشف بها بعد الوضوء «3» . قال الترمذى: هذا الحديث ليس بالقائم، وأبو معاذ الراوى ضعيف عند أهل الحديث.
وقد احتجم- صلى الله عليه وسلم- ولم يتوضأ، ولم يزد، على غسل محاجمه «4» ، رواه الدار قطنى. وأكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ «5» . رواه البخارى ومسلم. وللنسائى: قال كان آخر الأمرين من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (391) فى الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، وفى إسناده حذيفة بن أبى حذيفة، لم يعرف إلا بهذا الحديث، ولذا قال عنه الحافظ فى «التقريب» (1155) : مقبول، أى: عند المتابعة.
(2) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (54) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المنديل بعد الوضوء، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : إسناده ضعيف.
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (53) فيما سبق، وقال الترمذى: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الباب شئ، وهو كما قال.
(4) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 151، 152) وضعفه.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (207) فى الوضوء، باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، ومسلم (354) فى الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار، من حديث عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما-.(3/174)
مما غيرت النار «1» . وشرب- صلى الله عليه وسلم- لبنا ولم يتمضمض ولم يتوضأ وصلى «2» . رواه أبو داود، وأتى بالسويق فأمر به فثرى فأكل منه، ثم قام إلى المغرب فتمضمض «3» . رواه البخارى ومالك والنسائى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من النوم ربما توضأ، وربما لم يتوضأ، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه «4» كما فى البخارى وغيره. وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره. قال الخطابى: وإنما منع قلبه النوم ليعى الوحى الذى يأتيه فى منامه.
الفصل الرابع فى مسحه ص على الخفين
اعلم أنه قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعى فى الأم إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا،
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (192) فى الطهارة، باب: فى ترك الوضوء مما مست النار، والنسائى (1/ 108) فى الطهارة، باب: ترك الوضوء مما غيرت النار، من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) حسن: أخرجه أبو داود (197) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» وهو فى الصحيحين عن ابن عباس بلفظ: «ثم دعا بماء فتمضمض» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (209) فى الوضوء، باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ، والنسائى (1/ 108) فى الطهارة، باب: المضمضة من السويق، ومالك فى «الموطأ» (1/ 26) ، من حديث سويد بن النعمان- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3569) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/175)
وثانيهما: للمسافر دون المقيم، وهذا الثانى مقتضى ما فى «المدونة» ، وبه جزم ابن الحاجب.
وقال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل، المسح على الخفين أو نزعهما وغسل الرجلين؟ والذى اختاره: أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض. وقال النووى: مذهب أصحابنا أن الغسل أفضل لكونه الأصل، لكن بشرط أن لا يترك المسح.
وقد تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ «1» عطفا على وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «2» . فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين، وحكى عن ابن عباس فى رواية ضعيفة، والثابت عنه خلافه.
وعن عكرمة والشعبى وقتادة: الواجب الغسل أو المسح. وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما. وحجة الجمهور: الأحاديث الصحيحة من فعله- صلى الله عليه وسلم- كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-، فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة.
منها: أنه قرئ وَأَرْجُلَكُمْ»
بالنصب عطفا على أيديكم.
وقيل: إنه معطوف على محل بِرُؤُسِكُمْ «4» ، كقوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «5» بالنصب.
وقيل: المسح فى الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة «الجر» على مسح الخفين، وقراءة «النصب» على غسل الرجلين. وجعل البيضاوى «الجر» على الجوار، قال: ونظيره فى القرآن كقوله
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) سورة المائدة: 6.
(5) سورة سبأ: 10.(3/176)
تعالى: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ «1» وَحُورٌ عِينٌ «2» بالجر فى قراءة حمزة والكسائى. وقولهم «جحر ضب خرب» وللنحاة باب فى ذلك. وفائدته:
التنبيه على أنه ينبغى أن يقتصد فى صب الماء عليهما ويغسلا غسلا يقرب من المسح. انتهى.
وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غزوة تبوك، فتبرز رسول الله قبل الغائط فحملت معه إداوة- قبل الفجر- فلما رجع أخذت أهريق على يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده من تحت الجبة؛ وألقى الجبة على منكبيه وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: «دعهما فإنى أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما، ثم ركب وركبت» «3» . الحديث رواه مسلم.
وعند الترمذى من حديث المغيرة أيضا أنه- صلى الله عليه وسلم- مسح على الخفين على ظاهرهما «4» . وعند أبى داود من حديثه أيضا: ومسح- عليه الصلاة والسلام- على الجوربين والنعلين «5» . وعنه قال: مسح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الخفين، فقلت: يا رسول الله، نسيت، فقال: «بل أنت نسيت، بهذا أمرنى ربى عز وجل» «6» . رواه أبو داود وأحمد. وعن عمرو بن أمية
__________
(1) سورة هود: 26.
(2) سورة الواقعة: 22.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (363) فى الصلاة، باب: الصلاة فى الجبة الشامية، ومسلم (274) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (98) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على الخفين ظاهرهما، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (159) فى الطهارة، باب: المسح على الجوربين، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) ضعيف: أخرجه أبو داود (156) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين، وأحمد فى «المستدرك» (4/ 253) من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/177)
الضمرى قال: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يمسح على عمامته وخفيه «1» . رواه البخارى.
وقال على بن أبى طالب: جعل- صلى الله عليه وسلم- المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم «2» . رواه مسلم.
الفصل الخامس فى تيممه صلى الله عليه وسلم
اعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو من خصائص هذه الأمة. وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا فى الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أكبر، أو عن حدث أصغر، وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها. واختلفوا فى كيفيته: فمذهبنا ومذهب الأكثرين، أنه لا بد من ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين «3» .
وعن حذيفة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فضلنا على الناس بثلاث:
جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» «4» رواه مسلم. وفى رواية أبى أمامة عند البخارى: «جعلت الأرض كلها لى ولأمتى مسجدا وطهورا» «5» . وهذا
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (205) فى الوضوء، باب: المسح على الخفين، وابن ماجه (562) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على العمامة، وأحمد فى «المسند» (1/ 204 و 205) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (276) فى الطهارة، باب: التوقيت فى المسح على الخفين.
(3) قال الألبانى فى «الإرواء» (1/ 185) ، واعلم أنه قد روى هذا الحديث عن عمار بلفظ ضربتين، كما وقع فى بعض طرقه إلى المرفقين، وكل ذلك معلول لا يصح، قال الحافظ فى «التلخيص» (1/ 153) : وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روى عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وقد جمع البيهقى طرق حديث عمار فأبلغ.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (522) فى المساجد، باب: رقم (1) .
(5) قلت: الحديث عند أحمد فى «المسند» (5/ 248) ، وليس فى البخارى كما قال المصنف، والحديث صححه الألبانى فى «الإرواء» (152) .(3/178)
عام، وحديث حذيفة خاص، فينبغى أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب. ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ «التربة» على خصوصية التيمم بالتراب، بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره.
وأجيب: بأنه ورد فى الحديث بلفظ التراب، أخرجه ابن خزيمة وغيره.
وفى حديث على «وجعل لى التراب طهورا» أخرجه أحمد والبيهقى بإسناد حسن. وعن عمار: قال رجل لعمر بن الخطاب: إنى أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا فى سفر، أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنما كان يكفيك هكذا» ، وضرب النبى- صلى الله عليه وسلم- بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه «1» رواه البخارى ومسلم.
واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب، وسقوط استحباب التكرار فى التيمم لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف. وعن أبى الجهيم بن الحارث بن الصمة قال: مررت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد على، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد على، رواه البغوى فى شرح السنة وقال: حديث حسن. وهذا محمول على أن الجدار كان مباحا، أو مملوكا لإنسان كان يعرف رضاه.
الفصل السادس فى غسله صلى الله عليه وسلم
والغسل- بضم الغين- اسم للاغتسال. وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح، حكاه ابن سيده وغيره.
وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم. وقيل: الغسل- بالفتح-: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذى يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (338) فى التيمم، باب: المتيمم هل ينفخ فيهما، ومسلم (368) فى الحيض، باب: التيمم.(3/179)
كالإشنان. وحقيقة الغسل: جريان الماء على الأعضاء. وحقيقة الاغتسال:
غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية.
ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «1» وقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا «2» . ففى الآية الأولى إجمال، وهو قوله تعالى: فَاطَّهَّرُوا «3» بينه قوله فى الآية الثانية: حَتَّى تَغْتَسِلُوا «4» . ويؤيده قوله تعالى فى الحائض: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ «5» المفسر ب «اغتسلن» . اتفاقا.
وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطوف على نسائه بغسل واحد «6» . رواه مسلم من حديث أنس. وعن أبى رافع: طاف- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: قلت له: يا رسول الله، ألا تجعله غسلا واحدا آخرا، قال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر» «7» . رواه أحمد وأبو داود والنسائى.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الغسل بين الجماعين وأما الوضوء
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة النساء: 43.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) سورة النساء: 43.
(5) سورة البقرة: 222.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (309) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(7) حسن: أخرجه أبو داود (219) فى الطهارة، باب: الوضوء لمن أراد أن يعود، والنسائى فى «الكبرى» كما فى «التحفة» (9/ 206) ، وابن ماجه (590) فى الطهارة، باب: فيمن يغتسل عند كل واحدة غسلا، وأحمد فى «المسند» (6/ 8) ، قلت: وقد رد البعض هذا الحديث بحديث أنس السابق، والأمر أنه ليس بينه وبين حديث أنس اختلاف، بل كان يفعل هذا مرة وذاك أخرى، ليدل الحديث على استحباب الغسل قبل المعاودة ولا خلاف فى ذلك.(3/180)
فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف إنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر، لحديث: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوآ» «1» رواه مسلم. وحمله بعضهم على الوضوء اللغوى، فقال: المراد به غسل الفرج، انتهى. وقالت عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جسده كله «2» . رواه البخارى.
ويحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم. ويدل عليه زيادة ابن عيينة فى هذا الحديث عن هشام «قبل أن يدخلهما فى الإناء» «3» رواه الشافعى والترمذى وزاد أيضا: «ثم يغسل فرجه» «4» وكذا لمسلم وأبى داود. وهى زيادة جليلة، لأن تقديم غسله يحصل به الأمن من مسه فى أثناء الغسل.
ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفى بغسلها فى الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة فى أول عضو.
وإنما قدم أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى. ونقل ابن بطال: الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل.
وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (308) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (248) فى الغسل، باب: الوضوء قبل الغسل، ومسلم (316) فى الحيض، باب: صفة غسل الجنابة.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (104) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الغسل من الجنابة.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (316) فى الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، والنسائى (1/ 133) فى الطهارة، باب: ذكر عدد غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء.(3/181)
وقوله: «فيخلل بها أصول الشعر» أى شعر رأسه، ويدل عليه رواية حماد بن سملة عن هشام- عند البيهقى-: يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك. وقال القاضى عياض:
احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية فى الغسل. إما لعموم قوله:
«أصول الشعر» وإما بالقياس على شعر الرأس. وفائدة التخليل، إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء، وهذا التخليل غير واجب اتفاقا، إلا إن كان الشعر متلبدا بشئ يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله.
واختلف فى وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر. ونقل عن مالك والمزنى: وجوبه، واحتج له ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك فى الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما.
وتعقب: بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد فى الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة.
وفى قوله فى هذا الحديث: «ثلاث غرفات» استحباب التثليث فى الغسل. قال النووى: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما انفرد به الماوردى، فإنه قال:
لا يستحب التكرار فى الغسل. قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى- ومنه لخصت ما ذكرته- قلت: وكذا قال الشيخ أبو على السنجى وكذا قال القرطبى. وقالت ميمونة: وضعت له- صلى الله عليه وسلم- ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثا، ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه «1» . رواه البخارى. ولم يقيد فى هذه الرواية بعدد، فيحمل على أقل مسمى الغسل، وهو مرة واحدة لأن الأصل عدم الزيادة عليها. وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق فى غسل الجنابة، لقوله: «ثم مضمض واستنشق» وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما. وتعقب: بأن الفعل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (257) فى الغسل، باب: الغسل مرة واحدة.(3/182)
المجرد لا يدل على الوجوب، إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك.
وعنها (توضأ- صلى الله عليه وسلم- وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء ثم نحى رجليه فغسلهما) «1» رواه البخارى. وفيه التصريح بتأخير الرجلين فى وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة. ويمكن الجمع بينهما، إما بحمل رواية عائشة على المجاز، وإما بحمله على حالة أخرى. وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء. فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين.
وعن مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية: فى الأفضل قولان، قال النووى: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه.
قال: ولم يقع فى شئ من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس فى هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن الوضوء للغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفى عنه بغسلها. وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما أنا فأفيض على رأسى ثلاثا، وأشار بيديه كلتيهما» «2» رواه البخارى. وفيه عن أبى هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما قام فى مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: «مكانكم» ، ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه «3» . وقوله: «ذكر» أى تذكر، لا أنه قال ذلك لفظا، وعلم
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (249) فى الغسل، باب: الوضوء قبل الغسل، من حديث ميمونة- رضى الله عنها-، وهو رواية للحديث السابق.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (254) فى الغسل، باب: من أفاض على رأسه ثلاثا، ومسلم (327) فى الحيض، باب: استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثا، واللفظ للبخارى، ولعله اقتصر فى العزو للبخارى فقط لذلك.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (275) فى الغسل، باب: إذا ذكر فى المسجد أنه جنب، ومسلم (605) فى المساجد، باب: متى يقوم الناس للصلاة.(3/183)
الراوى ذلك من قرائن، أو بإعلامه له بعد ذلك. وظاهر قوله: «فكبر» الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول فى الصلاة. وعنده أيضا من حديث ميمونة: وضعت للنبى- صلى الله عليه وسلم- غسلا وسترته بثوب، وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوبا فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه «1» . وقد استدل بعضهم بقولها: «فناولته ثوبا فلم يأخذه» على كراهة التنشيف بعد الغسل. ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة أو غير ذلك. قال المهلب «2» : يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة بلل الماء، وللتواضع، أو لشئ رآه فى الثوب من حرير أو وسخ. وقد وقع عند أحمد فى هذا الحديث عن الأعمش قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعى فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة.
وقال التيمى فى شرحه: فى هذا الحديث دليل على أنه كان ينشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة فى التنشيف لأن كلّا منهما إزالة. وقال النووى: اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه، أشهرها: أن المستحب تركه، وقيل مكروه، وقيل مباح، وقيل مستحب، وقيل مكروه فى الصيف مباح فى الشتاء. وفي هذا الحديث جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء، ولكن فيه حديث ضعيف أورده الرافعى وغيره، ولفظه: «تنفضوا أيديكم فى الوضوء فإنها مراوح الشيطان» قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووى.
وقالت عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (266) فى الغسل، باب: من أفرغ بيمينه على شماله فى الغسل.
(2) هو: المهلب بن أحمد بن أبى صفرة، وقد تقدمت ترجمته.(3/184)
فرجه وتوضأ للصلاة»
. رواه البخارى. وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف. وقوله: «وتوضأ للصلاة» أى وضوآ كما للصلاة، أى وضوآ شرعيّا لا لغويّا، وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة.
والحكمة فيه أنه يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبى شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابى قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة.
وقيل: الحكمة فيه أنه أحد الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقد روى البيهقى بإسناد حسن عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أجنب وأراد أن ينام توضأ أو تيمم. ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل غير ذلك. انتهى ملخصا من فتح البارى.
النوع الثانى فى ذكر صلاته ص
اعلم أن بالصلاة يحصل تحقيق العبودية، وأداء حق الربوبية وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة. وقد جمع الله تعالى للمصلين فى كل ركعة ما فرق على أهل السموات، فلله ملائكة فى الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود والقيام والقعود.
واجتمع فيها أيضا من العبوديات ما لم يجتمع فى غيرها، منها:
الطهارة والصمت واستقبال القبلة، والاستفتاح بالتكبير، والقراءة والقيام
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (288) فى الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثم ينام، ومسلم (305) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له.(3/185)
والركوع والسجود، والتسبيح فى الركوع، والدعاء فى السجود، إلى غير ذلك. فهى مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة، والقراءة بمجردها عبادة وكذا كل فرد فرد.
وقد أمر الله تعالى نبيه بالصلاة فى قوله سبحانه: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ «1» ، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «2» .
وفى ذلك- كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير «3» : أمدنا الله بمدده- إشارة إلى أن فى الصلاة تكليفا للنفوس شاقّا عليها، لأنها تأتى فى أوقات ملاذّ العباد وأشغالهم، فيطالبون بالخروج عن ذلك كله إلى القيام بين يديه، والفراغ مما سوى الله تعالى، فلذلك قال تعالى: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «4» .
قال: ومما يدل على أن فى القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية، قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «5» . فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج فى الصلاة إلى الصبر، صبر على ملازمة أوقاتها، وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها، وصبر يمنع القلوب فيها من غفلاتها، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «6» فأفرد الصلاة بالذكر ولم يفرد الصبر، إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير، فذلك يدل على ما قلنا، أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر، كما قال تعالى فى الآية الآخرى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «7» . انتهى ملخصا.
ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام:
__________
(1) سورة العنكبوت: 45.
(2) سورة طه: 132.
(3) هو: كتاب «التنوير فى إسقاط التدبير» لابن عطاء الله الإسكندرانى المتوفى سنة (709 هـ) . انظر كشف الظنون لحاجى خليفة (1/ 502) .
(4) سورة طه: 132.
(5) سورة البقرة: 45.
(6) سورة البقرة: 45.
(7) سورة التوبة: 62.(3/186)
[القسم الأول] فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبواب
الباب الأول فى الصلوات الخمس وفيه فصول:
الفصل الأول فى فرضها
عن أنس قال: فرضت على النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به خمسون صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نادى: يا محمد إنه لا يبدل القول لدى، وإن لك بهذه الخمس خمسين «1» . رواه الترمذى هكذا مختصرا، ورواه البخارى ومسلم من حديث طويل تقدم فى مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث.
وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين، وفى الخوف ركعة «2» . رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقوله: «فى الخوف ركعة» محمول على أن المراد ركعة مع الإمام وينفرد بالآخرى.
وعن عائشة: فرض الله الصلاة- حين فرضها- ركعتين ركعتين، ثم أتمها فى الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى «3» . رواه
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) ، وأبو داود (1247) فى الصلاة، باب: من قال يصلى بكل طائفة ركعة ولا يقضون، والنسائى (3/ 118) فى أول كتاب تقصير الصلاة فى السفر.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (350) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة فى الإسراء، وأطرافه (1090 و 3935) ، ومسلم (685) فى أول صلاة المسافرين.(3/187)
البخارى. وعنده- فى كتاب الهجرة- من طريق معمر عن الزهرى، عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر- صلى الله عليه وسلم- ففرضت أربعا.
فعيّن فى هذه الرواية أن الزيادة فى قوله فى الحديث الذى قبله «وزيد فى صلاة الحضر» وقعت بالمدينة. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية، وبنوا عليه: أن القصر فى السفر عزيمة لا رخصة.
واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ «1» ، لأن نفى الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شئ أطول منه، ويدل على أنه رخصة أيضا قوله- عليه الصلاة والسلام-:
«صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» «2» رواه مسلم. وأما خبر:
فرضت الصلاة ركعتين، أى فى السفر فمعناه: لمن أراد الاقتصار عليهما، جمعا بين الأخبار. قاله فى المجموع.
الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس
عن جابر: أن جبريل- عليه الصلاة والسلام- أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل ظل شخصه، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى العصر، ثم أتاه جبريل حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى المغرب، ثم تاه جبريل حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى الغداة.
__________
(1) سورة النساء: 101.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (685) فى أول صلاة المسافرين، من حديث عمر- رضى الله عنه-.(3/188)
ثم أتاه فى اليوم الثانى حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثلى شخصه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة. ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت «1» . رواه النسائى.
وفى رواية قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفئ قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفئ قدر الشراك، وظل الرجل مثله، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين الفجر، ثم صلى الغداة- أى الظهر- حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل- شك أحد رواته- ثم صلى الفجر فأسفر.
وعن ابن عباس: قال- صلى الله عليه وسلم-: «أمّنى جبريل عند البيت مرتين، فصلى بى الظهر فى الأولى حين كان الفئ مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم» «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (150) فى الصلاة، باب: ما جاء فى مواقيت الصلاة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (1/ 251- 252) فى المواقيت، باب: أول وقت العصر، و (1/ 255- 256) ، باب: آخر وقت العصر، و (1/ 261) باب: آخر وقت المغرب، و (1/ 263) باب: أول وقت العشاء، وأحمد فى «المسند» (3/ 330 و 351) ، والحديث صححه الألبانى فى «الإرواء» (250) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (393) فى الصلاة، باب: فى المواقيت، والترمذى (149) فى الصلاة، باب: ما جاء فى مواقيت الصلاة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (1/ 333) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (249) .(3/189)
وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شئ مثله كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثليه، ثم صلى المغرب كوقت الأولى، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إلى جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين، رواه الترمذى وغيره.
وقوله: «صلى بى الظهر حين كان ظل كل شئ مثله» أى فرغ منها حينئذ، كما شرع فى العصر فى اليوم الأول، وحينئذ فلا اشتراك بينهما فى وقت، ويدل له حديث مسلم «وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم تحضر العصر» .
وقوله فى حديث جابر «فصلى الظهر حين زالت الشمس» يقتضى جواز فعل الظهر إذا زالت الشمس، ولا ينتظر بها وجوبا ولا ندبا مصير الفئ، مثل الشراك، كما اتفقت عليه أئمتنا ودلت عليه الأخبار الصحيحة، وأما حديث ابن عباس فالمراد به أنه حين زالت الشمس كان الفئ حينئذ مثل الشراك، لا أنه أخر إلى أن صار مثل الشراك. ذكره فى المجموع.
وقد بيّن ابن إسحاق فى المغازى أن صلاة جبريل به- صلى الله عليه وسلم- كانت صبيحة الليلة التى فرضت الصلاة فيها، وهى ليلة الإسراء. ولفظه: قال نافع ابن جبير وغيره: لما أصبح- صلى الله عليه وسلم- من الليلة التى أسرى به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت «الأولى» - أى صلاة الظهر- فأمر فصيح بأصحابه: «الصلاة جامعة» ، فاجتمعوا فصلى به جبريل وصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه فذكر الحديث.
وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبى- صلى الله عليه وسلم-. وإنما دعاهم بقوله:
«الصلاة جامعة» لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ. واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره. ويجاب عنه بما يجاب عن قصة أبى بكر فى صلاته خلف النبى- صلى الله عليه وسلم- وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط، كما سيأتى تقريره- إن شاء الله تعالى-.(3/190)
وقد صلى- صلى الله عليه وسلم- العصر والشمس فى حجرة عائشة لم يظهر الفئ من حجرتها «1» . رواه البخارى ومسلم. وقال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالى فيأتيهم والشمس مرتفعة «2» ، وبعض العوالى من المدينة على أربعة أميال. رواه البخارى.
وفى ذلك دليل على تعجيله- صلى الله عليه وسلم- بصلاة العصر، لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضى مسافة أربعة أميال، والمراد بالشمس ضوؤها وعن سلمة بن الأكوع أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب «3» . رواه البخارى ومسلم والترمذى. وعن رافع بن خديج: كنا نصلى المغرب معه- صلى الله عليه وسلم- فينصرف أحدنا، وإنه ليرى مواقع نبله «4» . رواه البخارى ومسلم.
والنبل- بفتح النون-: السهام العربية: أى يبصر مواقع سهامه إذا رمى بها، ومقتضاه المبادرة بالمغرب فى أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل «5» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (545) فى المواقيت، باب: وقت العصر، ومسلم (611) فى المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (548 و 550 و 551) فى المواقيت، باب: وقت العصر، ومسلم (621) فى المساجد، باب: استحباب التبكير بالعصر.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (561) فى المواقيت، باب: وقت المغرب، ومسلم (636) فى المساجد، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس، وأبو داود (417) فى الصلاة، باب: فى وقت المغرب، والترمذى (164) فى الصلاة، باب: ما جاء فى وقت المغرب، وابن ماجه (688) فى الصلاة، باب: وقت صلاة المغرب.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (559) فى المواقيت، باب: وقت المغرب، ومسلم (637) فى المساجد، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس.
(5) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 248) فى المواقيت، باب: تعجيل الظهر فى البرد، وللبخارى نحوه أخرجه برقم (560) من حديث جابر- رضى الله عنه-.(3/191)
النسائى من حديث أنس. ويؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية «1» .
رواه أبو داود من رواية على بن شيبان. وقال- عليه الصلاة والسلام-: «إذا قدّم العشاء فابدؤوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم» «2» ، رواه البخارى ومسلم.
وعند أبى داود: «ولا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره» «3» .
واعتم- صلى الله عليه وسلم- بالعشاء ليلة، حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم» ، قال: ولا تصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول «4» . زاد فى رواية: وذلك قبل أن يفشوا الإسلام.
وفى رواية: فخرج ورأسه تقطر ماء يقول: «لولا أن أشق على أمتى، أو على الناس، لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة» «5» . رواه البخارى ومسلم.
وفى رواية أبى داود من حديث أبى سعيد: فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: «خذوا مقاعدكم» ، فأخذنا مقاعدنا، فقال: «إن الناس قد صلوها وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتم الصلاة،
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (408) فى الصلاة، باب: فى وقت صلاة العصر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى ضعيف سنن أبى داود.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (672) فى الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (557) فى المساجد، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذى يريد أكله فى الحال، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود عن جابر كما فى «ضعيف الجامع» (6182) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (566) فى المواقيت، باب: فضل العشاء، وأطرافه (569 و 862 و 864) ، ومسلم (638) فى المساجد، باب: وقت العشاء وتأخيرها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (7239) فى التمنى، باب: ما يجوز من اللهو، ومسلم (639) فى المساجد، باب: وقت العشاء وتأخيرها، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/192)
ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لآخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل» «1» . وفى حديث أبى هريرة: «لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» «2» ، صححه الترمذى.
فعلى هذا: من وجد به قوة على تأخيرها ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمورين فالتأخير فى حقه أفضل. وقد قرر النووى ذلك فى شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم. وقال الطحاوى: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعى فى الجديد.
وقال فى القديم: التعجيل أفضل. وكذا قال فى «الإملاء» وصححه النووى فى جماعة، وقالوا: إنه مما يفتى به على القديم. وتعقب: بأنه ذكره فى «الإملاء» وهو من كتبه الجديدة. والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، قاله فى فتح البارى.
الفصل الثالث فى ذكر كيفية صلاته ص وفيه فروع:
الفروع الأول: فى صفة افتتاحه صلى الله عليه وسلم
روى أبو داود أنه- عليه الصلاة والسلام- سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال: «أقامها الله وأدامها» «3» . وكان- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (422) في الصلاة، باب: فى وقت العشاء الآخرة، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (167) فى الصلاة، باب: ما جاء فى تأخير صلاة العشاء الآخرة، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (528) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإقامة، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 411) من حديث أبى أمامة أو بعض أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، بسند فيه محمد بن ثابت العبدى، ضعيف الحديث، وشهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد، وكذا الرجل الذى بينهما مجهول، وانظر «الإرواء» (241) .(3/193)
يفتتح الصلاة بالتكبير. رواه عبد الرزاق من حديث عائشة. وروى البخارى عن ابن عمر قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- افتتح التكبير فى الصلاة «1» .
واستدل بهما على تعيين لفظ «التكبير» دون غيره من ألفاظ التعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف. وعن الحنفية: تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم. وقد روى البزار بإسناد صحيح، على شرط مسلم، عن على أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام إلى الصلاة قال: «الله أكبر» .
ولأحمد والنسائى من طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: الله أكبر كلما وضع ورفع «2» . وليعلم أن تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل شرط، وهو مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل سنة، قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غير الزهرى.
ولم يختلف أحد فى إيجاب النية فى الصلاة. قال البخارى- فى أواخر الإيمان-: باب ما جاء فى قوله- صلى الله عليه وسلم- الأعمال بالنية، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة «3» .
وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة قال:
الله أكبر، ولم يقل شيئا قبلها، ولا تلفظ بالنية، ولا قال: أصلى صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما، ولا أداء ولا قضاء، ولا فرض الوقت. قال: وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة البتة، بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة. وقال الشافعى:
«إنها ليست كالصيام فلا يدخل أحد فيها إلا بذكر» أى تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعى أمرا لم يفعله- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة واحدة، ولا أحد من أصحابه. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (739) فى الأذان، باب: رفع اليدين إذا قام من الركعتين.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 62) فى السهو، باب: كيف السلام على اليمين، وأحمد فى «المسند» (2/ 71 و 152) ، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) انظر الباب رقم (39) ، من كتاب الإيمان.(3/194)
وعبارة الشافعى فى كتاب المناسك: «ولو نوى الإحرام بقلبه، ولم يلب أجزأة، وليس كالصلاة، لأن فى أولها نطقا واجبا» ، هذا نصه. وقد قال الشيخ أبو على السنجى فى شرح التلخيص، وابن الرفعة فى المطلب، والزركشى فى الديباج وغيرهم: إنما أراد الشافعى بذلك تكبيرة الإحرام فقط، انتهى.
وبالجملة: فلم ينقل أحد أنه- صلى الله عليه وسلم- تلفظ بالنية، ولا علّم أحدا من أصحابه التلفظ بها، ولا أقره على ذلك. بل المنقول عنه فى السنن أنه قال:
«مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» «1» . وفى الصحيحين أنه- صلى الله عليه وسلم- لما علم المسئ صلاته قال له: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» »
فلم يأمره بالتلفظ بشئ قبل التكبير. نعم اختلف العلماء فى التلفظ بها:
فقال قائلون: هو بدعة لأنه لم ينقل فعله.
وقال آخرون: هو مستحب، لأنه عون على استحضار النية القلبية، وعبادة للسان، كما أنه عبودية للقلب، والأفعال المعنوية عبودية الجوارح.
وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقى الدين السبكى والحافظ عماد الدين بن كثير.
وأطنب ابن القيم- فى غير الهدى- فى رد الاستحباب، وأكثر فى الاستدلال بما فى ذكره طول يخرجنا عن المقصود، لا سيما والذى استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها.
وقاسه بعضهم على ما فى الصحيحين، من حديث أنس: أنه سمع
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (61) فى الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذى (3) فى الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275) فى الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، وأحمد فى «المسند» (3/ 203) من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (301) .
(2) صحيح: وحديث المسئ صلاته عند البخارى (757) فى الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام المأموم، وأطرافه (793 و 6251 و 6667) ، ومسلم (397) فى الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/195)
النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبى بالحج والعمرة جميعا، يقول: «لبيك عمرة وحجّا» «1» وفى البخارى من حديث عمر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول- وهو بوادى العقيق-: «أتانى الليلة آت من ربى فقال: صل فى هذا الوادى المبارك وقل:
عمرة فى حجة» «2» . وهذا تصريح باللفظ، والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس.
ولكن تعقب هذا بأنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك فى ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك، وامتثالا للأمر الذى جاءه من ربه تعالى فى ذلك الوادى، ولقد صلى- صلى الله عليه وسلم- أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال: نويت أصلى صلاة كذا وكذا، وتركه سنة، كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوى بين ما فعله وتركه، فنأتى من القول فى الموضع الذى تركه بنظير ما أتى به فى الموضع الذى فعله، والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما على الآخر. انتهى ما قاله هذا المتعقب فليتأمل.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، فإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك.
وفى رواية: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، وقال:
«سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» . وفى أخرى: نحوه وقال: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع من السجود «3» . رواه البخارى ومسلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1551) فى الحج، باب: التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإحلال، ومسلم (1251) فى الحج، باب: إحلال النبى- صلى الله عليه وسلم- وهديه، واللفظ له.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1534) فى الحج، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «العقيق واد مبارك» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (735) فى الأذان، باب: رفع اليدين فى التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، وأطرافه (736 و 738 و 739) ، ومسلم (390) فى الصلاة، باب: استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/196)
وعند أبى داود من حديث علقمة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من سجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح «1» . وهو قطعة من حديث رواه أيضا الترمذى. وكان يكبر فى كل خفض ورفع. رواه مالك.
وقال النووى: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها: فقال الشافعى وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة: يستحب أيضا رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه. وهو رواية عن مالك. وللشافعى قول: أنه يستحب رفعهما فى موضع رابع وهو: إذا قام من التشهد الأول. وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يفعله «2» . رواه البخارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يضع يده اليمنى على اليسرى «3» ، رواه أبو داود.
ومذهب الشافعى والأكثرين: أن المصلى إذا وضع يديه حطهما تحت صدره فوق سرته. وقال أبو حنيفة وبعض الشافعية: تحت سرته.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، فقال له أبو هريرة:
يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، إسكاتتك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟
قال: «أقول اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد» «4» . رواه البخارى ومسلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والترمذى (304) فى الصلاة، باب: منه، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-، ولم أقف على حديث علقمة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: وقد تقدم حديث ابن عمر قبل حديث.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (401) فى الصلاة، باب: وضع اليد اليمنى على اليسرى، وأبو داود (723) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الصلاة، وأطرافه (726 و 727 و 957) من حديث وائل بن حجر- رضى الله عنه-
(4) صحيح: أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام.(3/197)
وعن على: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة- وفى رواية: إذا افتتح الصلاة- كبر، ثم قال: «وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربى وأنا عبدك، ظلمت نفسى، واعترفت بذنبى فاغفر لى ذنوبى جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدنى لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عنى سيئها، لا يصرف عنى سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله فى يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» «1» ، الحديث رواه مسلم.
وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا افتتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» «2» . رواه الترمذى وأبو داود.
وعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى صلاة قال: «الله أكبر كبيرا ثلاث مرات «3» ، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا،
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (771) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه.
(2) أخرجه أبو داود (776) فى الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، والترمذى (243) فى الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، وابن ماجه (806) فى إقامة الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع حيث إن الراوى عن عائشة أبو الجوزاء، لم يسمع منها شيئا على الراجح، وهو عند مسلم (399) فى الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة، عن عمر موقوفا عليه، إلا أن الراوى عنه عبدة بن أبى لبابة، لا يعرف له سماع عنه أيضا، وإنما سمع من ابنه عبد الله بن عمر، ويقال رأى عمر رؤية، ولذلك قال الشوكانى فى «النيل» (2/ 280) : ولا يخفى أن ما صح عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أولى بالإيثار والاختيار. وأصح ما روى فى الاستفتاح حديث أبى هريرة المتقدم ثم حديث على، وأما حديث عائشة فقد عرفت ما فيه من المقال. ا. هـ.
(3) زيادة من مصدر التخريج.(3/198)
أعوذ بالله من الشيطان، من نفخه ونفثه وهمزه» «1» . قال عمرو «2» : نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزه الموتة «3» . رواه أبو داود.
وعن محمد بن مسلمة «4» قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام يصلى تطوعا قال: «الله أكبر، وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» «5» . وذكر الحديث مثل حديث جابر إلا أنه قال:
وأنا من المسلمين، ثم قال: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك» ، ثم يقرأ. رواه النسائى.
الفرع الثانى: فى ذكر قراءته ص البسملة فى أول الفاتحة
روى عن ابن عباس قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة ببسم الله
__________
(1) ضعيف مرفوعا: أخرجه أبو داود (764) فى الصلاة، باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وابن ماجه (807) فى إقامة الصلاة، باب: الاستعاذة فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 80) بسند فيه عاصم العنزى، قال البخارى: لا يصلح، قاله الحافظ فى «التهذيب» (5/ 48) إلا أنه عند مسلم (601) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام عن ابن عمر قال: بينما نحن نصلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من القائل كلمة كذا وكذا» ، قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال: «عجبت لها فتحت لها أبواب السماء» . قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك.
(2) فى الأصل: (ابن عمر) ، والصواب عمرو، وهو عمرو بن برة أحد رواة الحديث.
(3) الموتة: بضم الميم، ضرب من الجنون.
(4) هو الصحابى الجليل، محمد بن مسلمة الأوسى الأنصارى الحارثى، أبو عبد الرحمن المدنى حليف بنى عبد الأشهل، أسلم قديما على يد مصعب بن عمير، شهد المشاهد كلها بدرا وما بعدها إلا غزوة تبوك وتخلف عنها بإذن النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان من فضلاء الصحابة، وممن اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، كان عمر يرسله فى المعضلات لبيان الأمر، كما حدث فى قصة سعد بن أبى وقاص حين بنى القصر بالكوفة، مات سنة 43 هـ بالمدينة، وله 77 سنة.
(5) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (19/ 221) .(3/199)
الرحمن الرحيم «1» . رواه أبو داود. وقال الترمذى: ليس إسناده بذاك. ورواه الحاكم عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم «2» . ثم قال: صحيح. وفى صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرأ البسملة أول الفاتحة فى الصلاة، وعدها آية «3» ، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخى، وفيه ضعف عن ابن جريج عن ابن أبى مليكة عنها.
وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه فى تفسيره عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله رب العالمين سبع آيات، بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهى السبع المثانى والقرآن العظيم، وهى أم الكتاب» ورواه الدار قطنى عن أبى هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله «4» ، وقال:
رواته كلهم ثقات. وروى البيهقى عن على وابن عباس وأبى هريرة أنهم فسروا قوله سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «5» بالفاتحة، وأن البسملة هى الآية السابعة منها «6» .
وعن شعبة عن قتادة عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «7» «8» . رواه البخارى، أى كانوا
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (245) فى الصلاة، باب: من رأى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: ليس إسناده بذاك، وهو كما قال.
(2) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 326) ، وهو مخالف لما فى الصحيحين.
(3) إسناده ضعيف: لضعف عمر بن هارون البلخى، كما ذكر المصنف.
(4) ضعيف مرفوعا: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 312) وقال: قال أبو بكر الحنفى: ثم لقيت نوحا فحدثنى عن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة بمثله، ولم يرفعه. ا. هـ. قلت: والذى رفعه عبد الحميد بن جعفر، صدوق له أوهام، ولعل ذلك منها.
(5) سورة الحجر: 87.
(6) انظر سنن البيهقى «الكبرى» (2/ 45) .
(7) سورة الفاتحة: 1.
(8) صحيح: أخرجه البخارى (743) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (399) فى الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة.(3/200)
يفتتحون بالفاتحة. وفى رواية مسلم: فلم أسمع أحدا منهم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم «1» . كذا أخرجه مسلم وغيره. لكنه معلول أعله الحفاظ، كما هو فى كتب علوم الحديث. وفى شرح ألفية العراقى لشيخنا الحافظ أبى الخير السخاوى- أمتع الله بوجوده- فى باب العلل ما نصه: وعلة المتن القادحة فيه كحديث نفى قراءة البسملة فى الصلاة المروى عن أنس، إذ ظن راو من رواته حين سمع قول أنس: صليت خلف النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان- رضى الله عنهم- فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، نفى البسملة، فنقله مصرحا بما ظنه وقال: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول القراءة ولا فى آخرها. وفى لفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. وصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا. والراوى لذلك مخطئ فى ظنه «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (399) (50) فيما سبق.
(2) قلت: قال الحافظ الزيلعى فى معرض رده على من يردون رواية أنس التى فى صحيح مسلم حيث يقول فى «نصب الراية» (1/ 330- 331) : كيف يجوز العدول عنه- أى رواية مسلم- بغير موجب ويؤكده قوله فى رواية مسلم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا فى آخرها، لكنه محمول على نفى الجهر، لأن أنسا إنما ينفى ما يمكنه العلم بانتفائه، فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه، إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكوت يمكن فيه القراءة سرّا، ولهذا استدل بحديث أنس هذا على عدم قراءتها من لم ير هنا سكوتا كمالك وغيره لكن ثبت فى الصحيحين من أبى هريرة أنه قال: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: «أقول كذا وكذا إلى آخره» ، وفى السنن عن سمرة وأبى وغيرهما أنه كان يسكت قبل القراءة وأنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفى قراءتها فى ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر والاستفتاح والسماع مرادا به الجهر، بذلك يدل عليه قوله: «فكانوا لا يجهرون» وقوله فلم أسمع أحدا منهم يجهر، ولا تعرض فيه للقراء، سرّا ولا على نفيها إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها أو ينفيها، وكذلك قال لمن سأله إنك تسألنى عن شئ ما أحفظه، فإن العلم بالقراءة السرية إنما يحصل بإخبار أو سماع عن قرب، وليس فى الحديث شئ منها، ورواية من روى «فكانوا يسرون» كأنها مروية بالمعنى من لفظ «لا يجهرون» والله أعلم، وأيضا عمل الافتتاح بالحمد لله رب العالمين على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة وتمجه الأفهام-(3/201)
ولذا قال الشافعى- رحمه الله- فى الأم، ونقله عنه الترمذى فى جامعه: المعنى أنهم يبدؤون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، لا أنهم يتركون البسملة أصلا.
ويتأيد بثبوت تسمية أم القرآن بجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» فى صحيح البخارى، وكذا بحديث قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: كانت مدّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد «بسم الله» ويمد «الرحمن» ويمد «الرحيم» «2» . كذا أخرجه البخارى فى
__________
- الصحيحة لأن هذا من العلم الظاهر الذى يعرفه العام والخاص كما يعلمون أن الفجر ركعتان وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس إلى غير ذلك، فليس فى نقل مثل هذا فائدة، فكيف يجوز أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه وإنما مثل هذا مثل من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود أو فكانوا يجهرون فى العشاءين والفجر ويخافتون فى صلاة الظهر والعصر والله أعلم، وأيضا فلو أريد الافتتاح بسورة الحمد لقيل كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن أو بفاتحة الكتاب أو بسورة الحمد، هذا هو المعروف فى تسميتها عندهم وأما تسميتها بالحمد لله رب العالمين فلم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد يحتج بقوله، وأما تسميتها بالحمد فقط فعرف متأخر، يقولون فلان قرأ الحمد، وأين هذا من قوله «فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين» فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح، وأن للمخالف ذلك. ا. هـ ومما سبق يتبين أن رواية مسلم صحيحة، وليست بمعلولة، وأن الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أنه ما كان يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم، وكذا الخلفاء من بعده، ثم لا ينتشر فى المدينة موطن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو فى مكة موطن الحج.
(1) سورة الفاتحة: 1.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5046) فى فضائل القرآن، باب: مد القراءة، وقد علق الحافظ فى «الفتح» (8/ 710) على من يستدل بذلك على رد حديث أنس بنفى الجهر بالبسملة وقراءتها فى أول الفاتحة حيث قال: وفى الاستدلال بحديث الباب نظر، وقد أوضحته فيما كتبته من النكت على علوم الحديث لابن الصلاح، وحاصله أنه لا يلزم من وصفه بأنه كان إذا قرأ البسملة يمد فيها أن يكون قرأ البسملة فى أول الفاتحة فى كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال فلا تتعين البسملة، والعلم عند الله تعالى. ا. هـ. قلت: ومن الممكن أن يحمل ذلك على قراءته خارج الصلاة، كما أن هذا الحديث عام ويقابله حديث أنس الآخر الذى يخصص القراءة فى الفاتحة بعدم الجهر بالبسملة فيقدم عليه، والله أعلم.(3/202)
صحيحه، وكذا صححه الدار قطنى والحازمى وقال: إنه لا علة له، لأن الظاهر- كما أشار إليه أبو شامة- أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح فى الصلاة بأى سورة وأجابه ب «الحمد لله» ، سأله عن كيفية قراءته فيها، وكأنه لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة خصوصا وهو السائل أولا.
وقد أخرج ابن خزيمة فى صحيحه، وصححه الدار قطنى أن أبا مسلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا: أكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستفتح ب الْحَمْدُ لِلَّهِ أو ب بِسْمِ اللَّهِ؟ فقال: لا أحفظ فيه شيئا. قال: وهذا مما يتأيد به خطأ النافى «1» .
ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة منهم حميد وقتادة، والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة، إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم عن مالك عنه، بل ومن بعضه أصحاب حميد عنه، فإنها فى سائر الموطات عن مالك: صليت وراء أبى بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، لا ذكر للنبى- صلى الله عليه وسلم- فيه، وكذا الذى عند سائر حفاظ أصحاب حميد عنه، إنما هو فى الوقف خاصة. وبه صرح ابن معين عن ابن أبى عدى حيث قال: إن حميدا كان إذا رواه عن أنس لم يرفعه، وإذا قال فيه: عن قتادة عن أنس رفعه.
وأما رواية قتادة، وهى من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعى:
أن قتادة كتب إليه ليخبره أن أنسا حدثه قال: صليت ... فذكره بلفظ: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم لا فى أول قراءة ولا فى آخرها، فلم يتفق أصحابه عنه على هذا اللفظ، بل أكثرهم لا ذكر عندهم للنفى فيه، وجماعة منهم بلفظ: فلم يكونوا يجهرون ب بسم الله الرحمن الرحيم.
وممن اختلف عليه فيه من أصحابه شعبة، فجماعة منهم «غندر» لا ذكر عندهم فيه للنفى، وأبو داود الطيالسى فقط حسبما وقع من طريق غير واحد عنه بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ب «بسم الله» وهى موافقة للأوزاعى.
__________
(1) تقدم الرد على هذا الحديث فى الهامش قبل السابق.(3/203)
وأبو عمر الدورى وكذا الطيالسى وغندر أيضا بلفظ: فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ب «بسم الله» .
بل كذا اختلف غير قتادة من أصحاب أنس، فإسحاق بن أبى طلحة وثابت البنانى باختلاف عليهما، ومالك بن دينار ثلاثتهم عن أنس بدون نفى، وإسحاق وثابت أيضا ومنصور بن زاذان وأبو قلابة وأبو نعامة كلهم عنه باللفظ النافى للجهر خاصة. ولفظ إسحاق منهم: يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين فيما يجهر فيه.
وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الروايات- كما قال شيخنا، يعنى شيخ الإسلام ابن حجر- رحمه الله- ممكن بحمل نفى القراءة على نفى السماع، ونفى السماع على نفى الجهر. ويؤيده: أن لفظ رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة بسم الله. وأصرح منها رواية الحسن عن أنس- كما عند ابن خزيمة- كانوا يسرون ببسم الله.
وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب. كما أنه ظهر أن الأوزاعى- الذى رواه عن قتادة مكاتبة مع أن قتادة ولد أكمه، وكاتبه مجهول لعدم تسميته- لم ينفرد به، وحينئذ فيجاب عن قول أنس: «لا أحفظه» بأن المثبت مقدم على النافى، خصوصا وقد تضمن النفى عدم استحضار أنس- صلى الله عليه وسلم- لأهم شئ يستحضره. وبإمكان نسيانه حين سؤال أبى مسلمة له وتذكره له بعد، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله: أيقرأ الرجل فى الصلاة بسم الله؟ فقال: صليت وراء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله.
ويحتاج إذا استقر محصل حديث أنس على نفى الجهر إلى دليل له، وإن لم يكن من مباحثنا.
وقد ذكر له الشارح دليلا، وأرشد شيخنا- يعنى الحافظ ابن حجر- لما يؤخذ منه ذلك. بل قال: إن قول نعيم المجمر «صليت وراء أبى هريرة فقرأ ب بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين، وقال الناس: آمين، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس فى الاثنتين يقول الله(3/204)
أكبر، ويقول إذا سلم: والذى نفسى بيده إنى لأشبهكم صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» » ، أصح حديث ورد فيه، ولا علة له.
وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه النسائى والحاكم، وقد بوب عليه النسائى: الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم. ولكن تعقب الاستدلال به، لاحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله «أشبهكم» فى معظم الصلاة لا فى جميع أجزائها، لا سيما وقد رواه عنه جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة.
وأجيب: بأن نعيما ثقة، فزيادته مقبولة، والخبر ظاهر فى جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصه. ومع ذلك فيطرقه أن يكون سماع نعيم لها من أبى هريرة حال مخافتته لقربه منه.
وقد قال الإمام فخر الدين الرازى فى تصنيف له فى الفاتحة: روى الشافعى بإسناده وكذا رواه الحاكم فى مستدركه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم، أين التكبير عند الركوع والسجود، فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير «2» . ثم قال الشافعى: وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية والتكبير كان كالأمر المقرر عن كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب تركه. انتهى. وهو حديث حسن أخرجه الحاكم فى صحيحه والدار قطنى وقال: إن رجاله ثقات.
__________
(1) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (2/ 134) الافتتاح، باب: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وابن حبان فى «صحيحه» (1797 و 1801) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (499 و 688) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 305) قلت: وهو فى الصحيحين من طريق آخر عن أبى هريرة ليس فيه هذه الزيادة، والحديث ضعف إسناده الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 357) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 311) بسند حسن، إلا أنه عند الحاكم «أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التى بعد أم القرآن» وعلى ذلك فلا حجة فيه.(3/205)
ثم قال الإمام بعد: وقد بينا أن هذا- يعنى الإنكار المتقدم- يدل على أن الجهر بهذه الكلمة كالأمر المتواتر فيما بينهم. وكذا قال الترمذى عقب إيراده، بعد أن ترجم بالجهر بالبسملة حديث معتمر بن سليمان عن إسماعيل بن حماد بن أبى سليمان عن أبى خالد الوالبى الكوفى عن ابن عباس قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة ب بسم الله الرحمن الرحيم «1» . ووافقه على تخريجه الدار قطنى، وأبو داود وضعفه. بل وقال الترمذى: ليس إسناده بذاك. والبيهقى فى المعرفة، واستشهد له بحديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم يمد بها صوته الحديث «2» ، وهو عند الحاكم فى مستدركه أيضا، ما نصه: وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- منهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، ومن بعدهم من التابعين رووا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وبه يقول الشافعى، انتهى «3» .
وقال الشيخ أبو أمامة بن النقاش: والذى يروم تحقيق هذه المسألة ينبغى أن يعرف أن هذه المسألة بعلم القراآت أمس، وذلك أن من القراء الذين صحت قراءتهم وتواترت عن النبى- صلى الله عليه وسلم- من كان يقرأ بها آية من الفاتحة وهم: حمزة وعاصم والكسائى وابن كثير وغيرهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من لا يعدها آية من الفاتحة كابن عامر، وأبى عمرو، ونافع فى رواية عنه.
وحكم قراءتها فى الصلاة حكم قراءتها خارجها، فمن قرأ على قراءة من جعلها من أم القرآن لزمه فرضا أن يقرأ بها. ومن قرأ على قراءة من لم
__________
(1) ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (245) فى الصلاة، باب: من رأى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 304) ، وقال الترمذى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وهو كما قال.
(2) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 303) بسند فيه أبو الصلت الهروى، هو عبد السلام بن صالح، ضعيف الحديث.
(3) هذا الكلام قاله الترمذى عقب حديثه السابق.(3/206)
يرها من أم القرآن فهو مخير بين القراءة والترك. فحينئذ الخلاف فيها كالخلاف فى حرف من حروف القرآن، وكلا القولين صحيح ثابت لا مطعن على مثبته ولا على منفيه. ولا ريب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- تارة قرأ بها، وتارة لم يقرأ بها، هذا هو الإنصاف.
ثم قال: والمستيقن الذى يجب المصير إليه، أن كلّا من العملين ثابت، لأنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام أن هذه القراآت السبع كلها حق مقطوع بها من عند الله، وليست هذه أول كلمة ولا أول حرف اختلف فى إثباته وحذفه، وقلّ سورة من القرآن ليس فيها ذلك، كلفظ «هو» فى سورة الحديد لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «1» ، ولفظ «من» فى سورة التوبة، فى قوله تعالى: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «2» ، وألفات عديدة، وواوات، وهاآت كذلك، وكل هذا من نتيجة كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذا هو الذى يدلك على بطلان قول من لم يجعلها من الفاتحة لموضع اختلاف الناس فيها، وقوله: إن الاختلاف لا يثبت معه قرآن «3» ، فما أدرى ما هذا الظن. وهذا الذى ذكرناه هو الذى يريحك من تلك التقريرات من الجانبين.
ثم قال: ولا ريب أن الواقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- كلا الأمرين، من الجهر والإسرار، فجهر وأسر، غير أن إسراره كان أكثر من جهره، وقد صح فى الجهر أحاديث، لا مطعن فيها لمنصف نحو ثلاثة أحاديث، كما أنه قد صح فى الإسرار بها أحاديث لا مطعن فيها لعار من العصبية، ولا يلتفت لمن يقول: إن الواقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- كان الجهر فقط، انتهى. وقيل لبعض العارفين: بماذا ترى ظهر اسم الإمام الشافعى وغلب ذكره؟ أرى ذلك بإظهار اسم الله فى البسملة لكل صلاة. انتهى.
__________
(1) سورة الحديد: 24.
(2) سورة التوبة: 72.
(3) يشير إلى أبى بكر بن العربى، صاحب تفسير أحكام القرآن.(3/207)
الفرع الثالث: فى ذكر قراءته ص الفاتحة وقوله آمين بعدها
كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا قرأ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ «1» قال: «آمين» ، ومد بها صوته، وفى رواية: وخفض بها صوته «2» ، رواه الترمذى. وفى رواية أبى داود: ورفع بها صوته، وفى رواية له: جهر بامين. وقال ابن شهاب: وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قال: وَلَا الضَّالِّينَ «3» جهر بامين، أخرجه السراج. ولابن حبان من رواية الزبيدى عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته وقال: «آمين» .
وللحميدى من طريق سعيد المقبرى عن أبى هريرة بنحوه بلفظ: إذا قال:
وَلَا الضَّالِّينَ «4» ولأبى داود، وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حجر نحو رواية الزبيدى. وفيه رد على من أومأ إلى النسخ فقال: إنما كان- صلى الله عليه وسلم- يجهر بامين فى ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم فى أواخر الأمر.
الفرع الرابع: فى ذكر قراءته ص بعد الفاتحة فى صلاة الغداة
عن أبى برزة: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة «5» . رواه النسائى. وعن عمرو بن حريث: أنه سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- يقرأ
__________
(1) سورة الفاتحة: 7.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (932) فى الصلاة، باب: التأمين وراء الإمام، والترمذى (248) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التأمين، وأحمد فى «المسند» (4/ 316 و 317) ، من حديث وائل بن حجر، - رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) سورة الفاتحة: 7.
(4) سورة الفاتحة: 7.
(5) قلت: بل هو عند البخارى (771) فى الأذان، باب: القراءة فى الفجر، ومسلم (461) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح، و (647) فى المساجد، باب: استحباب التبكير بالصبح فى أول وقتها. وقوله (صلاة الغداة) : هى الفجر.(3/208)
فى الفجر وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ «1» «2» رواه مسلم. وفى رواية النسائى: أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ فى الفجر إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «3» «4» وعن جابر بن سمرة كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «5» ونحوها، وكانت قراءته بعد تخفيفا «6» . رواه مسلم.
وعن عبد الله بن السائب قال: صلى- صلى الله عليه وسلم- الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى- شك الراوى، أو اختلف عليه- أخذت النبى- صلى الله عليه وسلم- سعلة فركع. الحديث «7» رواه مسلم. قال النووى: فيه جواز قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السورة.
وكرهه مالك. انتهى.
وتعقب: بأن الذى كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر فى أنه كان للضرورة فلا يرد عليه. وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، لأن كلّا من الموضعين يقع فى وسط آية، نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل.
وأدلة الجواز كثيرة: وفى حديث زيد بن ثابت أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ الأعراف فى الركعتين «8» ، وأمّ أبو بكر بالصحابة فى صلاة الصبح بسورة البقرة قرأها
__________
(1) سورة التكوير: 17.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (456) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(3) سورة التكوير: 1.
(4) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 257) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الصبح ب إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، من حديث عمرو بن حريث- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(5) سورة ق: 1.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (458) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (455) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(8) صحيح: أخرجه البخارى (764) فى الأذان، باب: القراءة فى المغرب، بلفظ: «كان يقرأ بطولى الطوليين» ، وقد حصل الاتفاق على تفسير الطولى بالأعراف.(3/209)
فى الركعتين. وهذا إجماع منهم. وقرأ فى الصبح إِذا زُلْزِلَتِ «1» فى الركعتين كلتيهما، قال الراوى: فلا أدرى أنسى أم قرأ ذلك عمدا «2» . رواه أبو داود.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى صبح الجمعة الم (1) تَنْزِيلُ «3» ، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «4» «5» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث أبى هريرة. وإنما كان يقرؤهما كاملتين، وقراءة بعضهما خلاف السنة. وإنما كان يقرأ بهما لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار، وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك يقع يوم الجمعة. ذكره ابن دحية فى «العلم المشهور» وقرره تقريرا حسنا، كما أفاده ابن حجر.
قال: وقد ورد فى حديث ابن مسعود التصريح بمداومته- صلى الله عليه وسلم- على قراءتهما فى صبح الجمعة «6» . أخرجه الطبرانى، ولفظه «يديم ذلك» وأصله فى ابن ماجه لكن بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم إرساله.
__________
(1) سورة الزلزلة: 1.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (816) فى الصلاة، باب: الرجل يعيد سورة واحدة فى الركعتين، من حديث رجل من جهينة سمع النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا يضر جهالته لعدالة الصحابة، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) سورة السجد: 1، 2.
(4) سورة الإنسان: 1.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (891) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الفجر يوم الجمعة، ومسلم (880) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، والنسائى (2/ 159) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الصبح يوم الجمعة، وابن ماجه (823) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وهو ليس عند أبى داود والترمذى كما ذكر المصنف، إلا أنه عندهما ولكن من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) صحيح: أخرجه ابن ماجه (824) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة، بنحوه، بسند رجاله ثقات.(3/210)
قال: وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه فقال فى الكلام على حديث الباب: «ليس فى الحديث ما يقتضى فعل ذلك دائما اقتضاء قويّا» ، وهو كما قال بالنسبة لحديث الباب، فإن الصيغة ليست نصّا فى المداومة، لكن الزيادة المذكورة نص فى ذلك، ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس بلفظ:
«كل جمعة» أخرجه الطبرانى فى الكبير.
وأما تعيين السورة للركعة فورد من حديث على- عند الطبرانى- بلفظ:
كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة الم (1) تَنْزِيلُ «1» ، وفى الركعة الثانية هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ «2» .
وقد اختلف تعليل المالكية لكراهة قراءة السجدة فى الصلاة.
فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود فى الفرض. قال القرطبى:
وهو تعليل فاسد، بشهادة هذا الحديث.
وقيل لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية والسرية، لأن الجهرية يؤمن معها التخليط لكن صح من حديث ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة فيها سجدة فى صلاة الظهر فسجد بهم فيها «3» . رواه أبو داود والحاكم، فبطلت التفرقة. ومنهم من علل الكراهة بخشية اعتقاد العوام أنها فرض. قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهية مطلقا فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغى أن تترك أحيانا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك فى بعض الأوقات. انتهى.
وقال صاحب «المحيط» من الحنفية: يستحب قراءتها فى صبح يوم
__________
(1) سورة السجدة: 1، 2.
(2) سورة الإنسان: 1.
(3) لعله يشير إلى الحديث الذى أخرجه أبو داود (1411) في الصلاة، باب: فى الرجل يسمع السجدة وهو راكب وفى غير الصلاة، وابن خزيمة فى «صحيحه» (556) ، والحاكم فى «المستدرك» (798) إلا أنه فيه أن قرأ عام الفتح سجدة، ولم أقف على رواية صلاة الظهر هذه.(3/211)
الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أر فى شئ من الطرق التصريح بأنه- صلى الله عليه وسلم- سجد لما قرأ سورة الم (1) تَنْزِيلُ «1» فى هذا المحل، إلا فى كتاب «الشريعة» لابن أبى داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوت على النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة فى صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد، الحديث، وفى إسناده من ينظر فى حاله. انتهى. وعن على عند الطبرانى فى الأوسط: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سجد فى الصبح يوم الجمعة فى الم (1) تَنْزِيلُ «2» ، وهذه الزيادة حسنة تدفع احتمال أن يكون قرأ السورة ولم يسجد.
الفرع الخامس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- فى صلاتى الظهر والعصر
عن أبى قتادة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر فى الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفى الركعتين الآخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول فى الركعة الأولى ما لا يطول فى الركعة الثانية، وهكذا فى العصر، وهكذا فى الصبح «3» . رواه البخارى ومسلم.
قال الشيخ تقى الدين السبكى: كأن السبب فى تطويله الأولى على الثانية أن النشاط فى الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف فى الثانية حذرا من الملل. انتهى. وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى فى آخر هذا الحديث:
فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. وعن أبى سعيد الخدرى قال: كنا نحزر أى نقدر- قيام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الظهر والعصر، فحزرنا قيامه فى الركعتين الأوليين من الظهر قدر الم (1) تَنْزِيلُ «4» ، وفى
__________
(1) سورة السجدة: 1، 2.
(2) سورة السجدة: 1، 2.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (759) فى الأذان، باب: القراءة فى الظهر، ومسلم (451) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر.
(4) سورة السجدة: 1، 2.(3/212)
رواية: فى كل ركعة قدر ثلاثين آية، وحزرنا قيامه فى الآخريين قدر النصف من ذلك، وحزرناه فى الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه فى الآخريين من الظهر، وفى الآخريين من العصر على النصف من ذلك «1» .
رواه مسلم.
وعن جابر بن سمرة: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر بالليل إذا يغشى، وفى رواية ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «2» وفى العصر نحو ذلك «3» . الحديث رواه مسلم. وعنه: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق «4» ، رواه أبو داود والترمذى. وعن البراء: كنا نصلى خلفه- صلى الله عليه وسلم- الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من لقمان والذاريات «5» . رواه النسائى.
قال ابن دقيق العيد: فيه جواز الاكتفاء بظاهر الحال فى الأخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة فى السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان فى الجهرية. وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على باقيها. ويحتمل أن يكون الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدّا.
انتهى.
وعن أنس: قرأ- صلى الله عليه وسلم- فى الظهر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «6»
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (452) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر.
(2) سورة الأعلى: 1.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (459) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (805) فى الصلاة، باب: قدر القراءة فى صلاة الظهر والعصر، والترمذى (307) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى الظهر والعصر، وقال الترمذى: حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(5) ضعيف: أخرجه النسائى (2/ 163) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الظهر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(6) سورة الأعلى: 1.(3/213)
وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «1» «2» رواه النسائى. وعن أبى سعيد: كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته، ثم يأتى أهله فيتوضأ ويدرك النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الركعة الأولى «3» . رواه مسلم.
الفرع السادس: فى ذكر قراءته ص فى صلاة المغرب
عن أم الفضل بنت الحارث قالت: سمعته- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى المغرب بالمرسلات عرفا «4» رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى وصرح عقيل فى روايته عن ابن شهاب: أنها آخر صلاته- صلى الله عليه وسلم- ولفظه: ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله تعالى. أورده البخارى فى باب الوفاة.
وعنده فى باب «إنما جعل الإمام ليؤتم به» من حديث عائشة: أن الصلاة التى صلاها النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه فى مرض موته كانت الظهر.
وجمع بينهما: بأن الصلاة التى حكتها عائشة كانت فى المسجد، والتى حكتها أم الفضل كانت فى بيته، كما رواه النسائى. لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب فى هذا الحديث بلفظ: خرج إلينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو عاصب رأسه فى مرضه فصلى المغرب. الحديث رواه الترمذى. ويمكن حمل قوله: «خرج إلينا» أى من مكانه الذى هو راقد فيه إلى من فى البيت فصلى بهم فتلتئم الروايات.
__________
(1) سورة الغاشية: 1.
(2) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (2/ 163) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الظهر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (454) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر.
(4) صحيح: أخرجه مالك (1/ 78) فى الصلاة، باب: القراءة فى المغرب والعشاء، والبخارى (763) فى الأذان، باب: القراءة فى المغرب، ومسلم (462) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح، وأبو داود (810) فى الصلاة، باب: قدر القراءة فى المغرب، والترمذى (308) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى المغرب، والنسائى (2/ 168) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب بالمرسلات.(3/214)
وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى المغرب بالطور «1» . رواه البخارى ومسلم. زاد مسلم فى «الجهاد» : وكان جبير بن مطعم جاء فى أسارى بدر. وزاد الإسماعيلى: وهو يومئذ مشرك. وللبخارى فى «المغازى» : وذلك أول ما وقر الإيمان فى قلبى. وللطبرانى: وأخذنى من قراءته الكرب، ولسعيد بن منصور: فكأنما صدع قلبى. وفى قوله: «سمعته- صلى الله عليه وسلم-» دليل على الجهر بها، والله أعلم. وعن مروان بن الحكم قال: قال لى زيد بن ثابت: ما لك تقرأ فى المغرب بقصار المفصل؟ وقد سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقرأ بطولى الطوليين «2» . رواه البخارى. زاد أبو داود: قلت وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف. وفى رواية النسائى من حديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها فى ركعتين «3» . وعن عبد الله بن عتبة: قرأ- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة المغرب ب «حم» الدخان «4» . رواه النسائى.
وهذه الأحاديث فى القراءة مختلفة المقادير، لأن «الأعراف» من السبع الطوال، و «الطور» من طوال المفصل، و «المرسلات» من أوساطه قال الحافظ ابن حجر: ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشئ من قصار المفصل، إلا حديثا فى ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص «5» . ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدار قطنى: أخطأ بعض رواته فيه،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (765) فى الأذان، باب: الجهر فى المغرب، وأطرافه (3050 و 4023 و 4854) ، ومسلم (463) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 170) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب- «المص» . والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) ضعيف: أخرجه النسائى (2/ 169) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب ب «حم الدخان» ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(5) شاذ: أخرجه ابن ماجه (833) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة المغرب، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» : شاذ والمحفوظ أنه كان يقرأ بهما فى سنة المغرب.(3/215)
وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعد بن السماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما فى الركعتين بعد المغرب.
واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبى هريرة قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- من فلان، قال سليمان:
فكان يقرأ فى الصبح بطوال المفصل، وفى المغرب بقصار المفصل «1» . رواه النسائى، وصححه ابن خزيمة وغيره.
وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن فى الاستدلال به نظر، نعم حديث رافع أنهم كانوا ينتضلون «2» بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان أحيانا يطيل القراءة فى المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس فى حديث جبير دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبى- صلى الله عليه وسلم- واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه- فيما يظهر- المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وفى حديث أم الفضل إشعاره بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ فى الصحة بأطول من المرسلات، لكونه كان فى حال شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف. وهو يرد على أبى داود ادعاء نسخ التطويل فى المغرب، لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ فى المغرب بالقصار قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة. وكيف تصح دعوى النسخ وأم
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 167) فى الافتتاح، باب: تخفيف القيام والقراءة، باب: القراءة فى المغرب بقصار المفصل، وأحمد فى «المسند» (2/ 532) ، وابن حبان (1837) ، وابن خزيمة (520) فى «صحيحيهما» بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) ينتضلون: أى يلعبون بالنضال، وهى السهام، وفى رواية «يتنضلون» ، ورجح الزرقانى فى الشرح الرواية الأولى.(3/216)
الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات. قال ابن خزيمة فى صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلى أن يقرأ فى المغرب وفى الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما أستحب له أن يخفف القراءة.
انتهى.
والراجح عند النووى: أن المفصل من الحجرات إلى آخر القرآن، والله أعلم.
الفرع السابع: فى ذكر ما كان ص يقرأ فى صلاة العشاء
عن البراء: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ «1» فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه- صلى الله عليه وسلم- «2» . رواه البخارى ومسلم.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أتى على آية عذاب وقف وتعوذ «3» ، رواه الترمذى من حديث حذيفة.
وكان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «4» قال: سبحان ربى الأعلى «5» ، رواه أحمد وأبو داود من رواية ابن عباس.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فانتهى إلى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ «6» فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ
__________
(1) سورة التين: 1.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (767) فى الأذان، باب: الجهر فى العشاء، ومسلم (464) فى الصلاة، باب: القراءة فى العشاء.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل، وأبو داود (871) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، والترمذى (262) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التسبيح فى الركوع والسجود.
(4) سورة الأعلى: 1.
(5) أخرجه أبو داود (883) فى الصلاة، باب: الدعاء فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (1/ 232) ، وأعله أبو داود بالوقف عن ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) سورة التين: 1- 8.(3/217)
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى قوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «1» فليقل: بلى، ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «2» فليقل: آمنا بالله» «3» رواه أبو داود، والترمذى إلى قوله «وأنا على ذلك من الشاهدين» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة وعنها سأله أبو هريرة «4» ، ويسكت بعد الفاتحة، ويسكت ثالثة بعد قراءة السورة، وهى سكتة لطيفة جدّا حتى يترادّ إليه النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع. وأما السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، وأما الثانية فلأجل قراءة المأموم الفاتحة، فينبغى تطويلها بقدرها. ذكره فى زاد المعاد.
وعن سمرة بن جندب: سكتتان حفظتهما من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إذا دخل فى صلاته، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ وَلَا الضَّالِّينَ «5» قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يترادّ إليه نفسه «6» . رواه الترمذى.
الفرع الثامن: فى ذكر صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم
عن أبى حميد الساعدى: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة
__________
(1) سورة القيامة: 1- 40.
(2) سورة المرسلات: 1- 50.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (887) فى الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود، والترمذى (3347) فى التفسير، باب: ومن سورة التين، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بسند فيه مجهول.
(4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام والقراءة.
(5) سورة الفاتحة: 7.
(6) أخرجه الترمذى (251) فى الصلاة، باب: ما جاء فى السكتتين فى الصلاة، وهو عند أبى داود (777) ، وابن ماجه (844 و 845) ، وقال الترمذى: حديث سمرة حديث حسن. ا. هـ. قلت: إن سلم من صحة سماع الحسن منه، فهو كما قال.(3/218)
رفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصوب رأسه ولا يقنع «1» رواه أبو داود والدارمى.
الفرع التاسع: فى مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم
عن ابن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشبه صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هذا الفتى- يعنى عمر بن عبد العزيز- قال: فخررنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات «2» . رواه أبو داود. وعن البراء: كان ركوع النبى- صلى الله عليه وسلم- وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، ما خلا القيام والقعود، قريبا من السواء «3» . رواه البخارى ومسلم. قال النووى: هذا حديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبت فى الحديث تطويل القيام، فإنه كان يقرأ فى الصبح بالستين آية إلى المائة، وفى الظهر ب الم السجدة، وأنه كانت تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته ثم يرجع إلى أهله فيتوضأ ثم يأتى المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون، وأنه قرأ فى المغرب بالطور والمرسلات. وفى البخارى:
بالأعراف «4» ، فكل هذا يدل أنه كانت فى إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات. انتهى.
وقال ابن القيم: مراد البراء أن صلاته- صلى الله عليه وسلم- كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال القيام والركوع والسجود، وإذا خفف خفف الركوع والسجود، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام، وهديه- صلى الله عليه وسلم- الغالب تعديل الصلاة وتناسبها. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، بسند صحيح.
(2) أخرجه أبو داود (888) فى الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود بسند رجاله ثقات.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (792) فى الأذان، باب: حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، ومسلم (471) فى الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها فى التمام.
(4) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.(3/219)
الفرع العاشر: فى ذكر ما كان ص يقوله فى الركوع والرفع منه
عن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لى، يتأول القرآن «1» . رواه البخارى ومسلم.
ومعنى «يتأول القرآن» : يعمل بما أمر به فى قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً «2» فكان- صلى الله عليه وسلم- يقول هذا الكلام البديع فى الجزالة المستوفى ما أمر به فى الآية. وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى ركوعه: سبوح قدوس رب الملائكة والروح «3» . رواه البخارى.
وعن حذيفة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى ركوعه: سبحان ربى العظيم، وفى سجوده سبحان ربى الأعلى، وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد «4» . رواه مسلم. قال النووى: يبدأ- يعنى المصلى- بقوله: «سمع الله لمن حمده» حين الشروع فى الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع فى ذكر الاعتدال وهو: ربنا ولك الحمد إلخ.
قال: وفى هذا الحديث دلالة للشافعى وطائفة: أنه يستحب لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين «سمع الله لمن حمده» و «ربنا ولك الحمد» فى حال انتصابه فى الاعتدال. لأنه ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- فعلهما جميعا.
وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» «5» رواه البخارى. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7 8) فى الأذن، باب: التسبيح والدعاء فى السجود، ومسلم (484) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود.
(2) سورة النصر: 3.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (487) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، والحديث ليس في البخارى كما قال المصنف، بل عند مسلم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (631) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر، من حديث مالك ابن الحويرث- رضى الله عنه-.(3/220)
وقال ابن القيم: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا استوى قائما قال: ربنا ولك الحمد، وربما قال: وربنا لك الحمد، وربما قال: اللهم ربنا لك الحمد. صح عنه ذلك كله، وأما الجمع بين «اللهم» و «الواو» فلم يصح. انتهى.
قلت: وقع فى صحيح البخاري من حديث أبى هريرة- فى رواية الأصيلى- مرفوعا: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد» «1» فجمع بين «اللهم» و «الواو» وهو يرد على ابن القيم كما ترى.
وقال الشيخ تقى الدين فى شرح العمدة: كأن إثبات «الواو» دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير: ربنا استجب، أو ما قارب ذلك، ولك الحمد، فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء، ومعنى الخبر، وإذا قيل بإسقاط «الواو» دل على أحد هذين. انتهى.
وقال ابن العراقى: إسقاط «الواو» حكاه عن الشافعى ابن قدامة وقال:
لأن «الواو» للعطف، وليس هنا شئ يعطف عليه. وعن مالك وأحمد فى ذلك خلاف.
وقال النووى: كلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز وأن الأمرين جائزان، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. انتهى.
وعن أبى سعيد الخدرى قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع قال: «اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد- وكلنا لك عبد- اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» «2» رواه مسلم.
قوله: «ملء السماوات وملء الأرض» : أى حمدا لو كان أجساما لملأ السماوات والأرض.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (734) فى الأذان، باب: إيجاب التكبير.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (477) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.(3/221)
ومعنى سمع الله لمن حمده» أى أجاب، يعنى: أن من حمد الله تعالى متعرضا لثوابه استجاب الله له، فأعطاه ما تعرض له، فأنا أقول ربنا لك الحمد ليحصل ذلك.
وقوله «أهل» : منصوب على النداء.
وقوله: «وكلنا لك عبد» بالواو، يعنى: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت إلخ. واعترض بينهما قوله: «وكلنا لك عبد» ، ومثل هذا الاعتراض قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى «1» على قراءة من قرأ «وضعت» بفتح العين وإسكان التاء.
و «الجد» بفتح الجيم، الغنى أى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة، وقيل غير ذلك والله أعلم.
وفى رواية ابن أبى أوفى- عند مسلم-: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول بعد قوله «من شئ» : «اللهم طهرنى بالثلج والبرد والماء البارد» «2» .
الفرع الحادى عشر: فى ذكر صفة سجوده ص وما يقول فيه
كان- صلى الله عليه وسلم- إذا انتهى من ذكر قيامه عن الركوع يكبر، ويخرّ ساجدا، ولا يرفع يديه. وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه أيضا، وصححه بعض الحفاظ كابن حزم، والذى غره أن الراوى غلط من قوله: «كان يكبر فى كل خفض ورفع» إلى قوله: «كان يرفع يديه فى كل خفض ورفع» وهو ثقة، ولم يفطن لسبب غلطه، ووهم فصححه. نبه عليه فى زاد المعاد.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يضع يديه قبل ركبتيه «3» . رواه أبو داود، ثم جبهته
__________
(1) سورة آل عمران: 36.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (476) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (840) فى الصلاة، باب: كيف يضع ركبتيه قبل يديه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (2/ 78) .(3/222)
وأنفه. وقال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين» «1» . رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس.
قال النووى: فينبغى للساجد أن يسجد على هذه الأعضاء كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض، ويكفى بعضها، والأنف مستحب، فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز، هذا مذهب الشافعى ومالك والأكثرين، وقال أبو حنيفة عليهما معا لظاهر الحديث، وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما فى حكم عضو واحد، لأنه قال فيه «سبعة» فلو جعلا عضوين لصارت ثمانية.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا سجد فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه «2» . رواه الشيخان. وقالت ميمونة: جافى بين يديه، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت «3» . رواه مسلم. ولم يذكر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه سجد على كور عمامته، ولم يثبت عنه ذلك فى حديث صحيح ولا حسن، ولكن روى عبد الرزاق فى المصنف عن أبى هريرة: كان- صلى الله عليه وسلم- يسجد على كور عمامته «4» ، وهو من رواية عبد الله بن محرز، وهو متروك. وذكر أبو داود فى المراسيل أنه- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا يصلى فسجد بجبينه وقد اعتم فحسر- صلى الله عليه وسلم- عن جبهته «5» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى سجوده: «اللهم اغفر لى ذنبى كله، دقه وجله، أوله وآخره، علانيته وسره» «6» رواه مسلم من حديث أبى هريرة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (809 و 810) فى الأذان، باب: السجود على سبعة أعظم، ومسلم (490) فى الصلاة، باب: أعضاء السجود، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (390) فى الصلاة، باب: يبدى ضبعيه ويجافى فى السجود، ومسلم (495) فى الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، من حديث عبد الله بن بحينة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (496) في الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة.
(4) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (1564) بسند فيه متروك كما قال المصنف.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود فى «المراسيل» (83) عن صالح بن حيوان السبانى مرسلا.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (483) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/223)
وقوله: «دقه وجله» بكسر أولهما، أى قليله وكثيره.
وعن عائشة قالت: فقدت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدى على بطن قدميه وهو فى السجود، وهما منصوبتان، وهو يقول: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «1» رواه مسلم.
قال الخطابى: فى هذا الحديث معنى لطيف، وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله تعالى استعاذ به منه، ومعناه: الاستغفار من التقصير فى بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه.
وقوله: «لا أحصى ثناء عليك» أى لا أطيقه ولا آتى عليه، وقيل: لا أحيط به، وقال مالك: لا أحصى نعمتك وإحساناتك والثناء بهما عليك وإن اجتهدت فى الثناء عليك.
وقوله: «أنت كما أثنيت على نفسك» اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، فإنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك كله لله تعالى المحيط بكل شئ جملة وتفصيلا، وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه، فكل شئ أثنى به عليه- وإن كثر وطال وبولغ فيه- فقدر الله أعظم وسلطانه أعز، وصفاته أكثر وأكبر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ.
انتهى.
وهاهنا فائدة لطيفة ذكرها بعض المحققين، فى نهيه- صلى الله عليه وسلم- عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود «2» ، وهى أن القرآن أشرف الكلام، وحالتا الركوع
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (486) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود.
(2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (479) فى الصلاة، باب: النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/224)
والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله تعالى أن لا يقرأ فى هاتين الحالتين، وتكون حالة القيام والانتصاب أولى به والله أعلم.
وروى أبو داود: أنه- صلى الله عليه وسلم- سجد على الماء والطين «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يرفع رأسه من السجود مكبرا غير رافع يديه، ثم يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يجلس للاستراحة جلسة لطيفة، بحيث تسكن جوارحه سكونا بينا، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، كما فى صحيح البخارى «2» وغيره. قال النووى: ومذهبنا استحبابها عقب السجدة الثانية من كل ركعة يقوم عنها، ولا تستحب فى سجود التلاوة فى الصلاة. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول بين السجدتين: «اللهم اغفر لى وارحمنى واهدنى وعافنى وارزقنى» «3» . رواه أبو داود والدارمى من حديث ابن عباس.
الفرع الثانى عشر: فى ذكر جلوسه ص للتشهد
كان- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس للتشهد يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى «4» .
رواه مسلم. قال النووى: معناه يجلس مفترشا، وفيه حجة لأبى حنيفة ومن وافقه: أن الجلوس فى الصلاة يكون مفترشا سواء فيه جميع الجلسات. وعند مالك: يسن متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من تحته ويفضى بوركه إلى الأرض.
__________
(1) قلت: بل هو عند البخارى (669) فى الأذان، باب: هل يصلى الإمام بمن حضر، ومسلم (1167) فى الصيام، باب: فضل ليلة القدر، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(2) يشير إلى الحديث الذى أخرجه البخارى (823) فى الأذان، باب: من استوى قاعدا فى وتر من صلاته ثم نهض، من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (850) فى الصلاة، باب: الدعاء بين السجدتين، والترمذى (284) فى الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، وابن ماجه (898) فى إقامة الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، ولم أقف عليه عند الدارمى، وسنده صحيح.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (498) فى الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/225)
وقال الشافعى- رحمه الله-: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا الجلسة التى يعقبها السلام. والجلسات عند الشافعى أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة فى كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير، والجميع يسن مفترشا إلا الأخيرة، ولو كان على المصلى سجود سهو فالأصح أن يجلس مفترشا فى تشهده فإذا سجد سجدتى السهو تورك ثم سلم. هذا تفصيل مذهب الشافعى.
واحتج أبو حنيفة: بإطلاق حديث عائشة هذا.
واحتج الشافعى: بحديث أبى حميد الساعدى فى صحيح البخارى، وفيه التصريح بالافتراش فى الجلوس الأول والتورك فى آخر الصلاة، وحمل حديث عائشة هذا على الجلوس فى غير التشهد الأخير ليجمع بين هذه الأحاديث. انتهى.
فليتأمل مع قول ابن القيم فى الهدى: إنه لم ينقل أحد عنه- صلى الله عليه وسلم- أن هذا كان صفة جلوسه فى التشهد الأول، ولا أعلم أحدا قال به. انتهى.
وقال أبو حميد الساعدى فى عشرة من أصحابه- صلى الله عليه وسلم-: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالوا: فاعرض.. فذكر الحديث إلى أن قال: حتى إذا كانت السجدة التى فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر ثم سلم، قالوا صدقت هكذا كان يصلى «1» ، رواه أبو داود والدارمى.
وفى رواية لأبى داود: فإذا قعد فى الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا كان فى الرابعة أفضى بوركه إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة. الحديث «2» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قعد فى التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والدارمى فى «سننه» (1356) بسند صحيح.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (731) فيما سبق.
(3) أخرجه البزار عن ابن عمر، كما فى «كنز العمال» (22348) .(3/226)
وفى رواية مسلم: وضع يديه على ركبتيه، ورفع أصبعه اليمنى التى تلى الإبهام ويدعو بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها «1» . وفى حديث ابن الزبير عنده أيضا: كان يشير بها ولا يحركها. الحديث «2» . وعند أبى داود من حديث وائل بن حجر: مد مرفقه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها ويدعو. وكان- صلى الله عليه وسلم- يستقبل بأصابعه القبلة فى رفع يديه وركوعه وفى سجوده وفى التشهد، ويستقبل بأصابع رجليه القبلة فى سجوده «3» .
الفرع الثالث عشر: فى ذكر تشهده صلى الله عليه وسلم
كان- صلى الله عليه وسلم- يتشهد دائما فى هذه الجلسة الأخيرة، ويعلم أصحابه أن يقولوا: «التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» «4» رواه مسلم من رواية ابن عباس.
وهو الذى اختاره الشافعى لزيادة «المباركات» لا تشهد ابن مسعود «5» ، وإن قاله القاضى عياض- رحمه الله تعالى- وعبارة الشافعى فيما أخرجه البيهقى بسنده إلى الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعى جوابا لمن سأله بعد ذكر حديث ابن عباس: «فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، فروى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (580) فى المساجد، باب: صفة الجلوس فى الصلاة، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (579) فيما سبق، من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (726) فى الصلاة، باب: رفع اليدين في الصلاة، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (403) فى الصلاة، باب: التشهد فى الصلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (831) فى الأذان، باب: التشهد فى الآخرة، ومسلم (402) فى الصلاة، باب: التشهد فى الصلاة.(3/227)
ابن مسعود خلاف هذا، فساق الكلام إلى أن قال: فلما رأيته واسعا وسمعته- يعنى حديث ابن عباس- صحيحا، ورأيته أكثر لفظا من غيره- يعنى من المرفوعات- أخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره «هذا آخر كلامه، وليس فيه تصريح بالأفضلية، والعلم عند الله.
وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود أفضل لأنه عند المحدثين أشد صحة. وقال مالك- رحمه الله- تشهد عمر بن الخطاب «1» الموقوف عليه أفضل، لأنه علمه للناس على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله، ومذهب الشافعى أن التشهد الأول سنة والثانى واجب. وجمهور المحدثين: أنهما واجبان.
وقال أحمد: الأول واجب يجبر تركه بالسجود، والثانى ركن تبطل الصلاة بتركه. وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان. وعن مالك رواية بوجوب الأخير. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يأتى بالتشهدين.
وفى الغيلانيات عن القاسم بن محمد قال: علمتنى عائشة قالت: هذا تشهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وهو مثل حديث ابن مسعود سواء. رواه البيهقى بإسناد جيد. قال النووى: فى هذا الحديث فائدة حسنة وهى أن تشهده- صلى الله عليه وسلم- بلفظ تشهدنا «2» . انتهى.
__________
(1) صحيح موقوفا: الحديث أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 90) ، وعنه الشافعى فى «مسنده» (ص 237) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 398) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 139 و 142) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 351) بسند ضعيف مرفوعا، والصحيح أنه موقوف عليه، وإن كان لنا فيه أسوة حسنة لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى» ، وفى رواية: «اقتدوا باللذين من بعدى، أبى بكر وعمر» .
(2) أى يقول: (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) بدلا من (وأشهد أنى رسول الله) .(3/228)
قال الحافظ ابن حجر: وكأنه «1» يشير إلى رد ما وقع فى الرافعى:
أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى التشهد: «وأشهد أنى رسول الله» ، وتعقبوه بأنه لم يرو كذلك صريحا. نعم وقع فى البخارى من حديث سلمة بن الأكوع قال:
خفّت أزواد القوم فذكر الحديث وفيه: فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله» «2» .
ومن لطائف التشهد ما قاله البيضاوى: علمهم أن يفردوه- صلى الله عليه وسلم- بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، فإن قيل: كيف يشرع هذا اللفظ، وهو خطاب لبشر مع كونه منهيّا عنه فى الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-.
فإن قلت: ما الحكمة فى العدول عن الغيبة إلى الخطاب فى قوله:
«السلام عليك أيها النبى» مع أن لفظ الغيبة هو الذى يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبى، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبى، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين؟.
أجاب الطيبى بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذى علمه للصحابة. ويحتمل أن يقال على طريق أهل المعرفة بالله: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات، أذن لهم فى الدخول فى حريم الحى الذى لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبى الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا (فإذا الحبيب فى حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته. انتهى) .
وقال الترمذى الحكيم: فى قوله: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» : من أراد أن يحظى بهذا السلام الذى يسلمه الخلق فى صلاتهم فليكن عبدا صالحا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
__________
(1) الضمير عائد إلى الإمام النووى- رحمه الله-.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2484) فى الشركة، باب: الشركة فى الطعام.(3/229)
وقال القفال فى فتاويه: وترك الصلاة يضر جميع المسلمين، لأن المصلى يقول: اللهم اغفر لى وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول فى التشهد:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون التارك للصلاة مقصرا فى خدمة الله وفى حق رسوله، وفى حق نفسه، وفى حق كافة المسلمين. ولذلك عظمت المعصية بتركها.
واستنبط منه السبكى: أن فى الصلاة حقّا للعباد مع حق الله تعالى، وأن من تركها أخل بجميع حق المؤمنين، من مضى ومن يجئ إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» . انتهى.
وتقدم الكلام على وجوب الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد الأخير، وما فى ذلك من المباحث فى فضل الصلاة- صلى الله عليه وسلم-. وعن الطبرانى مرفوعا، عن سهل بن سعد: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه» «1» وكذا عن ابن ماجه والدار قطنى. وعن أبى مسعود الأنصارى- عند الدار قطنى-: «من صلى صلاة لم يصل فيها علىّ وعلى أهل بيتى لم تقبل منه» «2» .
وعن ابن مسعود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا تشهد أحدكم فى الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» «3» . رواه الحاكم. واغتر قوم بتصحيحه فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق، وهو مجهول عن رجل مبهم، وبالغ ابن العربى فى إنكار ذلك فقال: حذار مما ذكره ابن أبى زيد من زيادة وترحم، فإنه قريب من
__________
(1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 355) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 379) وقال الدار قطنى: عبد المهيمن- أحد رواته- ليس بالقوى.
(2) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 355) من حديث أبى مسعود الأنصارى، وليس ابن مسعود كما فى النسخ، والتصويب من المصدر السابق، وقال الدار قطنى جابر- أحد رواته- ضعيف، وقد اختلف عنه.
(3) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 402) ، من حديث ابن مسعود، وليس أبى مسعود، كما فى النسخ، والتصويب من المصدر السابق، وفى سنده جهالة، وضعف.(3/230)
البدعة، لأنه- صلى الله عليه وسلم- علمهم كيفية الصلاة بالوحى، ففى الزيادة على ذلك استدراك عليه. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وابن أبى زيد ذكر ذلك فى الرسالة فى صفة التشهد، لما ذكر ما يستحب فى التشهد، ومنه: اللهم صل على محمد وآل محمد، فزاد: وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلخ. فإن كان إنكاره ذلك لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال: وارحم محمدا، مردودة لثبوت ذلك فى عدة أحاديث أصحها فى التشهد: «السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته» .
قال: ثم وجدت لابن أبى زيد مستندا، فأخرج الطبرى فى تهذيبه «1» ، من طريق حنظلة بن على عن أبى هريرة رفعه: «من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة وشفعت له» ورجال سنده رجال الصحيح، إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاصى، الراوى له عن حنظلة بن على فإنه مجهول، وهذا كله فيما يقال مضموما إلى السلام أو الصلاة.
وقد وافق ابن العربى الصيدلانى من الشافعية على المنع. ونقل القاضى عياض عن الجمهور الجواز مطلقا، وقال القرطبى فى «المفهم» : إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره. ففى «الذخيرة» من كتب الحنفية عن محمد: يكره ذلك لإيهامه النقص، لأن الرحمة غالبا إنما تكون لفعل ما يلام عليه. وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يقول: رحمه الله، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى على» ولم يقل: من
__________
(1) هو كتاب «تهذيب الآثار» لابن جرير الطبرى، لو تم لكان من خير ما كتب فى بابه، حيث أن ابن جرير كان إماما مجتهدا مستقلا لم يتقيد بمذهب معين فكان سيكون كتابه فقها مستقلا قائما على الكتاب والسنة الصحيحة.(3/231)
ترحم على، ولا من دعا لى، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص بهذا اللفظ تعظيما له، فلا يعدل عنه إلى غيره. انتهى.
وأخرج أبو العباس السراج عن أبى هريرة: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلى عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وفى حديث بريدة رفعه: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» .
ووقع فى حديث ابن مسعود عند أبى داود والنسائى: «على محمد النبى الأمى» «1» . وفى حديث أبى سعيد: «على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم» «2» ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم. وعند أبى داود من حديث أبى هريرة: «اللهم صل على محمد النبى وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته» «3» . ووقع فى آخر حديث ابن مسعود: «فى العالمين إنك حميد مجيد» «4» .
قال النووى فى شرح المهذب: ينبغى أن يجمع ما فى الأحاديث الصحيحة، فيقول: اللهم صل على محمد النبى الأمى وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك ...
مثله، ويزيد فى آخره: فى العالمين. وقال فى «الأذكار» مثله، وزاد: عبدك ورسولك بعد قوله: محمد فى «صل» ولم يزدها فى «بارك» . وقال فى «التحقيق والفتاوى» مثله، إلا أنه أسقط النبى الأمى.
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (981) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، من حديث عقبة بن عمر، ولم أقف على هذه الرواية من حديث ابن مسعود، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4798) فى التفسير، باب: رقم (282) .
(3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (982) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) صحيح: وقد تقدم تخريجه.(3/232)
وقد تعقبه الإسنوى فقال: لم يستوعب ما ثبت فى الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعى: لم يسبق إلى ما قاله، والأظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتى بأكمل الروايات، ويقول- كما ثبت- هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة فى التشهد لم ترد مجموعة، وسبقه إلى معنى ذلك ابن القيم.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يدعو فى الصلاة: «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم وأعوذ بك من المأثم والمغرم» . فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف» «1» . رواه البخارى ومسلم من رواية عائشة.
قال ابن دقيق العيد: «فتنة المحيا» : ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها- والعياذ بالله تعالى- أمر الخاتمة عند الموت، و «فتنة الممات» : يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يكون المراد بها: فتنة القبر: ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله: «عذاب القبر» ، لأن العذاب مرتب على الفتنة، والسبب غير المسبب.
وروى الحكيم الترمذى فى «نوادر الأصول» عن سفيان الثورى: أن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه، إنى أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل. وقد استشكل دعاؤه- صلى الله عليه وسلم- بما ذكر مع أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وأجيب بأجوبة، منها أن قصد التعليم لأمته، ومنها: أن المراد السؤال منه لأمته، فيكون المعنى هنا: أعوذ بالله لأمتى، ومنها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية والتزام خوف الله، وإعظامه والافتقار إليه، وامتثال أمره فى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (832) فى الأذان، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (589) فى المساجد، باب: ما يستعاذ منه فى الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/233)
الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرير الطلب مع تحقيق الإجابة، لأن فى ذلك تحصيل الحسنات، ورفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك، لأنه إذا كانت مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة.
وأما الاستعاذة من فتنة الدجال، مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يتحقق عدم إدراكه ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر عند مسلم: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه» «1» ، الحديث، والله أعلم.
وعن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول بعد التشهد: «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الدجال الأعور، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» «2» . رواه أبو داود.
وعن على بن أبى طالب: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقول ما بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» «3» .
رواه مسلم وغيره. وفى رواية له: وإذا سلم قال: «اللهم اغفر لى ما قدمت» ... إلخ.
ويجمع بينهما: بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج الطريقين واحد. وأورده ابن حبان بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وهذا ظاهر فى أنه بعد السلام، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، وسيأتى الجواب عما استشكل فى دعائه- صلى الله عليه وسلم- بهذا الدعاء فى أدعيته- صلى الله عليه وسلم- إن شاء الله تعالى-.
وحاصل ما ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم- من المواضع التى كان يدعو بها فى داخل صلاته ستة مواطن:
__________
(1) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (2937) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه، من حديث النواس بن سمعان- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (590) فى المساجد، باب: ما يستعاذ منه فى الصلاة.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (771) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه.(3/234)
الأول: عقب تكبير الإحرام، كما فى حديث أبى هريرة فى الصحيحين: «اللهم باعد بينى وبين خطاياى» «1» الحديث ونحوه.
الثانى: فى الركوع، كما فى حديث عائشة عند الشيخين: كان يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لى» «2» .
الثالث: فى الاعتدال من الركوع، كما فى حديث ابن أبى أوفى عند مسلم: أنه كان يقول بعد قوله: «من شئ بعد» «اللهم طهرنى بالثلج والبرد والماء البارد» «3» .
الرابع: فى سجوده، وهو أكثر ما كان يدعو فيه، وأمر به.
الخامس: بين السجدتين: «اللهم اغفر لى» «4» ... إلخ.
السادس: فى التشهد.
وكان أيضا يدعو فى القنوت، وفى حال القراءة إذا مر باية رحمة سأل، وإذا مر باية عذاب استعاذ، وتقدم كل ذلك، والله أعلم.
الفرع الرابع عشر: فى ذكر تسليمه ص من الصلاة
كان- صلى الله عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده «5» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام والقراءة.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (794) فى الأذان، باب: الدعاء فى الركوع، ومسلم (484) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (476) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (874) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، وقد تقدم فى الصلاة.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (582) فى المساجد، باب: السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها، والنسائى (3/ 61) فى السهو، باب: السلام، من حديث عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-، وليس عبد الله بن عامر بن ربيعة كما ذكر المصنف، ولعله تصحيف.(3/235)
مسلم والنسائى من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه. وفى حديث ابن مسعود: كان- صلى الله عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن يساره، السلام عليكم ورحمة الله «1» . رواه الترمذى، وزاد أبو داود: حتى يرى بياض خده، وفى رواية النسائى: حتى يرى بياض خده من هاهنا، وبياض خده من هاهنا.
الحديث.
وهذا كان فعله الراتب. رواه عنه خمسة عشر صحابيّا، وهم: عبد الله ابن مسعود، وسعد بن أبى وقاص، وسهل بن سعد، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعرى، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعرى، وطلق بن على، وأوس بن أوس، وأبو ثور، وعدى بن عمرو. هذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأحمد والجمهور.
ومذهب مالك فى طائفة: المشروع تسليمه. ودليل مذهبنا ما تقدم.
وأما ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه «2» ، فلم يثبت من وجه صحيح، وأجود ما فى ذلك حديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة، السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا «3» ، وهو حديث معلول، وهو فى السنن، لكنه فى قيام الليل، والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شاهدوا فى الفرض والنفل، وحديث عائشة ليس هو صريحا فى الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها، ولم تنف الآخرى بل سكتت عنها، وليس سكوتها عنها مقدما
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (996) فى الصلاة، باب: فى السلام، والترمذى (295) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التسليم فى الصلاة، والنسائى (3/ 63) فى السهو، باب: كيف السلام على الشمال، وقال الترمذى: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(2) أخرجه الترمذى (296) فى الصلاة، باب: منه أيضا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وأشار إلى تضعيفه.
(3) أخرجه أبو داود (1346 و 1347) فى الصلاة، باب: فى صلاة الليل، بسند فى رجاله كلام.(3/236)
على رواية من حفظها وضبطها، وهم أكثر عددا وأحاديثهم أصح، والله أعلم.
واختلف فى التسليم: فقال مالك والشافعى وأحمد، وجمهور العلماء:
إنه فرض لا تصح الصلاة إلا به.
وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى: سنة، لو ترك صحت صلاته، وقال أبو حنيفة: لو فعل منافيا للصلاة من حدث أو غيره فى آخرها صحت صلاته، واحتج بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يعلمه الأعرابى حين علمه واجبات الصلاة.
واحتج الجمهور بحديث أبى داود (مفتاح الصلاة الطهور وتحليلها التسليم) «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام فى الصلاة طأطأ رأسه. رواه أحمد. وكان لا يجاوز بصره إشارته «2» . وكان قد جعل الله قرة عينه فى الصلاة كما قال:
«وجعلت قرة عينى فى الصلاة» «3» رواه النسائى. ولم يكن يشغله- صلى الله عليه وسلم- ما هو فيه عن مراعاة أحوال المأمومين، مع كمال إقباله وقربه من ربه وحضور قلبه بين يديه. وكان يدخل فى الصلاة فيريد إطالتها فيسمع بكاء الصبى فيتجوز فى صلاته مخافة أن يشق على أمه «4» . رواه البخارى وأبو داود والنسائى.
وكان يؤم الناس وهو حامل أمامة بنت أبى العاص بن الربيع على
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (61) فى الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذى (3) فى الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275) فى الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (301) .
(2) أى: أصبع السبابة الذى يشير به.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 61) فى عشرة النساء، باب: حب النساء، من حديث أنس- رضى الله عنه-، بسند صحيح.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (707) فى الأذان، باب: من أخف الصلاة عند بكاء الصبى، وأبو داود (789) فى الصلاة، باب: تخفيف الصلاة للأمر يحدث، والنسائى (2/ 95) فى الإمامة، باب: ما على الإمام من التخفيف، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-، وهو فى الصحيحين من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/237)
عاتقه «1» . رواه مسلم وغيره. قال النووى: وهذا يدل لمذهب الشافعى- رحمه الله- ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبى والصبية وغيرهما من الحيوان فى صلاة الفرض والنفل للإمام والمأموم والمنفرد. وحمله أصحاب مالك- رحمه الله- على النافلة، ومنعوا جواز ذلك فى الفريضة.
وهذا التأويل فاسد، لأن قوله: «يؤم الناس» صريح أو كالصريح فى أنه كان فى الفرض. وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه خاص به- صلى الله عليه وسلم-، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكلها مردودة ولا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح فى جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف الشرع، لأن الآدمى طاهر، وما فى جوفه من النجاسة معفو عنها لكونه فى معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال فى الصلاة لا تبطلها إذا قلّت أو تفرقت، وفعله- صلى الله عليه وسلم- للجواز، وتنبيها على هذه القواعد التى ذكرتها.
وهذا يرد ما ادعاه أبو سليمان الخطابى: أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد لحملها فى الصلاة، لكنها كانت تتعلق به- صلى الله عليه وسلم- فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه، قال: ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى، لأنه عمل كثير، ويشغل القلب، وإذا كان علم الخميصة شغله «2» فكيف لا يشغله هذا؟
هذا كلام الخطابى، وهو باطل، ودعوى مجردة، ومما يرده قوله فى صحيح مسلم: «فإذا قام حملها، وإذا رفع من السجود أعادها» وقوله فى رواية غير مسلم: «خرج حاملا أمامة وصلى» وذكر الحديث. وأما قصة
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (543) فى المساجد، باب: جواز حمل الصبيان فى الصلاة، وهو فى الصحيحين أيضا بلفظ: كان يصلى وهو حامل أمامة، ورواية «يؤم» عند مسلم كما ذكرنا.
(2) صحيح: وحديث الخميصة أخرجه البخارى (373) فى الصلاة، باب: إذا صلى فى ثوب له أعلام، ومسلم (556) فى المساجد، باب: كراهة الصلاة فى ثوب له أعلام، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/238)
الخميصة فإنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد، وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة.
والصواب الذى لا يعدل عنه أن الحديث كان للبيان والتنبيه على هذه القواعد، فهو جائز لنا وشرع مستمر إلى يوم القيامة، والله أعلم انتهى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فيجئ الحسن أو الحسين فيركب على ظهره، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره. وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو فى الصلاة. قال جابر: بعثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاجة، فأدركته وهو يصلى فسلمت عليه، فأشار إلى «1» ، رواه مسلم. وقال عبد الله ابن مسعود: لما قدمت من الحبشة أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلى، فسلمت عليه، فأومأ برأسه «2» ، رواه البيهقى. وكان يصلى وعائشة معترض بينه وبين القبلة، فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما «3» . رواه البخارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يلتفت فى صلاته. وفى البخارى عن عائشة قالت:
سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الالتفات فى الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» «4» .
وروى أبو داود من حديث سهل بن الحنظلية: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: «من يحرسنا الليلة» ؟ قال أنس بن أبى مرثد الغنوى: أنا يا رسول الله، قال: «اركب» ، فركب فرسا له، فقال: «استقبل هذا الشعب حتى تكون فى أعلاه» ، فلما أصبحنا توّب «5» بالصلاة، فجعل- صلى الله عليه وسلم- يصلى وهو
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (540) فى المساجد، باب: تحريم الكلام فى الصلاة.
(2) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (2/ 260) مرسلا ومسندا، وقال عن المرسل: هو المحفوظ.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (382: 384) فى الصلاة، باب: الصلاة على الفراش، ومسلم (512) فى الصلاة، باب: الاعتراض بين يدى المصلى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (751) فى الأذان، باب: الالتفات فى الصلاة.
(5) أى: نودى.(3/239)
يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة قال: «أبشروا قد جاء فارسكم» «1» .
فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد فى الصلاة، وهو يدخل فى مداخل العبادات، كصلاة الخوف، وقريب منه قول عمر- رضى الله عنه- إنى لأجهز الجيش وأنا فى الصلاة، فهذا جمع بين الصلاة والجهاد، ونظيره التفكير فى معانى القرآن واستخراج كنوز العلم منه.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فعرض له الشيطان ليقطع عليه صلاته، فأخذه وخنقه حتى سال لعابه على يديه «2» . وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلى، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل «3» ، يعنى يبكى، وفى رواية: ولصدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. رواه أحمد.
ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يغمض عينيه فى صلاته.
وعن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها. فقال- صلى الله عليه وسلم-:
«أميطى عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لى فى صلاتى» «4» . رواه البخارى.
ولو كان يغمض عينيه لما عرضت له فى صلاته، وقد اختلف الفقهاء فى كراهيته، والحق أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع كأن يكون فى قبلته زخرفة أو غيرها
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2501) فى الجهاد، باب: فضل الحرس فى سبيل الله تعالى، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 93) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو كما قال.
(2) رجاله ثقات: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 82) ، من حديث أبى سعيد الخدرى بسند رجاله ثقات، وهو فى الصحيحين بنحوه.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (904) فى الصلاة، باب: البكاء فى الصلاة، والنسائى (3/ 13) فى السهو، باب: البكاء فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 25) بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (374) فى الصلاة، باب: إن صلى فى ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/240)
مما يشغل قلبه فلا يكره التغميض قطعا بل ينبغى أن يكون مستحبّا فى هذه الحالة.
وقد كانت صلاته- صلى الله عليه وسلم- متوسطة، عارية عن الغلو كالوسوسة فى عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التى شرعت سرّا، وتطويل ما السنة تخفيفه، كالتشهد الأول، إلى غير ذلك مما يفعله كثير ممن ابتلى بداء الوسوسة، عافانا الله منها.
وهى نوع من الجنون، وصاحبها بلا ريب مبتدع مستنبط فى أفعاله وأقواله شيئا لم يفعله النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من أصحابه. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن خير الهدى هدى محمد- صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها» «1» وعنه: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار» «2» . ومما نسب لإمام الحرمين: الوسوسة نقص فى العقل، أو جهل بأحكام الشرع. ومن غرائب ما يقع لهؤلاء الموسوسين، أن بعضهم يشتغل بتكرير الطهارة حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ومنهم من يشتغل بالنية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما تفوته ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أن لا يزيد على هذه التكبيرة ثم يكذب.
ثم من العجب أن بعضهم يتوسوس فى حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشى فوات الركوع كبر سريعا وأدركه، فمن لم يحصل له النية فى القيام الطويل حال فراغ باله، فكيف حصلت له فى الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة.
ومنهم من يكثر التلفظ بالتكبير، حتى يشوش على غيره من المأمومين، ولا ريب أن ذلك مكروه، ومنهم من يزعج أعضاءه، ويحنى جبهته، ويقيم
__________
(1) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه مسلم (867) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (46) فى المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، وللحديث شواهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه أصحاب السنن.(3/241)
عروق عينيه، ويصرح بالتكبير كأنه يكبر على العدو ومنهم من يغسل عضوه غسلا يشاهده ويبصره، ويكبر ويقرأ بلسانه، ويسمع بأذنه، ويعلمه بقلبه، ومع ذلك يصدق الشيطان فى إنكاره يقين نفسه وجحده لما رآه ببصره، وسمعه بأذنه.
وقد سأل رجل أبا الوفاء بن عقيل فقال: إنى أكبر وأقول ما كبرت، وأغسل العضو فى الوضوء وأقول ما غسلته، فقال ابن عقيل: دع الصلاة فإنها لا تجب عليك، فقال له: كيف ذلك؟ فقال لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال:
«رفع القلم عن المجنون حتى يفيق» «1» ، ومن يكبر ثم يقول ما كبرت فليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه الصلاة.
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليتبع سنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- السنية، ويقتدى بملته الحنيفية، فإن غلبه الأمر وضاقت عليه المسالك فليتضرع إلى الله ويبتهل إليه فى كشف ذلك.
الفرع الخامس عشر: فى ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم
ليعلم أن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء والتسبيح، والخضوع. كما قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ «2» وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «3» الآية.
وقال تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ «4» . والمراد به هنا: الدعاء فى محل مخصوص من القيام.
__________
(1) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (4399) فى الحدود، باب: فى المجنون يسرق أو يسب أحدا من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) سورة الروم: 26.
(3) سورة الزمر: 9.
(4) سورة التحريم: 12.(3/242)
وعن أنس قال: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- سبعين رجلا يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم، رعل وذكوان، عند بئر يقال لها بئر معونة فقتلوهم، فدعا عليهم النبى- صلى الله عليه وسلم- شهرا فى صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت، قال عبد العزيز بن صهيب: فسأل رجل أنسا عن القنوت أبعد الركوع أو عند فراغ القراءة؟ قال: بل عند فراغ القراءة «1» .
وفى أخرى: قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب «2» وفيأخرى قنت شهرا بعد الركوع في الصلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان، ويقول: «عصية عصت الله ورسوله» «3» .
وفى أخرى: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سرية يقال لهم: «القراء» فأصيبوا، فما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجد على شئ ما وجد عليهم.
فقنت شهرا فى صلاة الفجر «4» . هذه روايات البخارى ومسلم.
وللبخارى: كان القنوت فى المغرب والفجر «5» . وفى رواية أبى داود والنسائى: قنت فى صلاة الصبح بعد الركوع «6» ، وفى أخرى: قنت شهرا ثم تركه «7» . وفى أخرى للنسائى: قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان «8» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4088) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 184) والنسائى (2/ 203) فى التطبيق باب: اللعن فى القنوت من حديث أنس- رضى الله عنه- والحديث صححه الألبانى فى «صحيح النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (677) فى المساجد، باب: استحباب القنوت فى جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، والنسائى (2/ 200) فى التطبيق، باب: القنوت بعد الركوع.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (6394) فى الدعوات، باب: الدعاء على المشركين، وانظر ما قبله.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (798) فى الأذان، باب: فضل اللهم ربنا لك الحمد، وانظر ما قبله.
(6) تقدم.
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (1445) فى الصلاة، باب: القنوت فى الصلاة من حديث أنس وقد تقدم. والحديث صححه الألبانى فى «صحيح: سنن أبى داود» .
(8) تقدم.(3/243)
وعن ابن عباس: قنت- صلى الله عليه وسلم- شهرا متتابعا، فى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، فى دبر كل صلاة، إذا قال «سمع الله لمن حمده» من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه «1» . رواه أبو داود.
وعن ابن عمر: أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع فى الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا» ، بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» فأنزل الله عليه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إلى قوله: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» «3» رواه البخارى.
وعن أبى هريرة: لما رفع- صلى الله عليه وسلم- رأسه من الركعة الثانية، قال: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» «4» . وفى رواية: فى صلاة الفجر «5» . وفى رواية: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ «6» «7» رواه البخارى ومسلم.
وعن البراء: كان- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى الصبح والمغرب «8» . رواه مسلم
__________
(1) ضعيف منكر: أخرجه أبو داود (1231) فى الصلاة، باب القنوت فى الصلوات، وقال الألبانى: ضعيف منكر.
(2) سورة آل عمران: 128.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3762) فى المغازى، باب: ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (4194) فى التفسير، باب: ليس لك من الأمر شئ من حديث أبى هريرة.
(5) تقدم قبله.
(6) سورة آل عمران: 128.
(7) تقدم.
(8) تقدم فى الذى قبله.(3/244)
والترمذى. ولأبى داود: فى صلاة الصبح ولم يذكر المغرب «1» . وعن أبى مالك الأشجعى قال: قلت لأبى: يا أبت، قد صليت خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى بن أبى طالب- هاهنا بالكوفة خمس سنين- أكانوا يقنتون؟ قال: أى بنى، محدث «2» . رواه الترمذى. وعن سعيد ابن جبير قال: أشهد أنى سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت فى صلاة الفجر بدعة. رواه الدار قطنى «3» .
قال بعض العلماء «4» : والصواب أنه- صلى الله عليه وسلم- قنت وترك، وكان تركه للقنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم فجاؤا تائبين، وكان قنوته لعارض. فلما زال العارض ترك القنوت.
ولم يكن مختصّا بالفجر، بل كان يقنت فى صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخارى فى صحيحه عن أنس، وذكره مسلم عن البراء، وصح عن أبى هريرة أنه قال: والله لأنا أقربكم صلاة من صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنه كان يقنت فى الركعة الأخيرة من الصبح بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده» «5» ،
__________
(1) ضعيف: قال أبو داود (1229) فى الصلاة، باب: القنوت فى الصلوات، حدثنا أبو الوليد ومسلم بن إبراهيم وحفص بن عمر، وحدثنا ابن معاذ حدثنى أبى قالوا كلهم حدثنا شعبة عن عمرو بن مرّة عن ابن أبى ليلى عن البراء أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقنت فى صلاة الصبح زاد ابن معاذ وصلاة المغرب. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (244) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ترك القنوت من حديث أبى مالك الأشجعى عن أبيه- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) ضعيف أخرجه الترمذى (244) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ترك القنوت من حديث أبى مالك الأشجعى عن أبيه- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (2/ 213) وقال: إنه لا يصح وأبو ليلى الكوفى متروك وقد روينا عن ابن عباس أنه قنت فى صلاة الصبح.
(4) هو ابن القيم- رحمه الله تعالى- ذكر ذلك فى «زاد المعاد» (1/ 272) تحت فصل ذكر فيه هديه- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (689) فى الأذان، باب: اللهم ربنا لك الحمد، ومسلم (392) فى الصلاة، باب: إتيان التكبير فى كل خفض ورفع فى الصلاة إلا رفعه من الركوع فيقول سمع الله لمن حمده.(3/245)
وقال ابن أبى فديك: ولا ريب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك ثم تركه.
فهذا رد على القائل بكراهة القنوت فى الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة.
وأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه، ويقولون فعله سنة، وتركه سنة، ولا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفا للسنة، من قنت فقد أحسن ومن ترك فقد أحسن. انتهى. ومذهب الشافعى- رحمه الله تعالى- أن القنوت مشروع فى صلاة الصبح دائما، فى الاعتدال من ثانية صلاة الصبح، لما رواه أنس: ما زال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى الفجر حتى فارق الدنيا «1» . رواه أحمد وغيره.
قال ابن الصلاح: قد حكم بصحته غير واحد من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقى وأبو عبد الله محمد بن على البلخى، وفى البيهقى العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة.
وقال بعضهم: أجمعوا على أنه- صلى الله عليه وسلم- قنت فى الصبح، ثم اختلفوا:
هل تركه؟ فيتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. انتهى.
وأما حديث ابن أبى فديك عن عبد الله بن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبيه عن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع فى الركعة الثانية من صلاة الصبح يرفع يديه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم اهدنى فيمن هديت» إلخ ... فقال ابن القيم- فى زاد المعاد- ما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا، ولكن لا يحتج بعبد الله هذا، وإن كان الحاكم صحح حديثه فى القنوت، انتهى. وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه، وردّ عليه، كما قاله ابن القيم، وقد اتفقوا على ضعف عبد الله بن سعيد.
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 162) ، والدار قطنى (1/ 171) من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/246)
وعن ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى صلاة الصبح وفى وتر الليل بهؤلاء الكلمات: «اللهم اهدنى فيمن هديت» ، أخرجه محمد بن نصر فى كتاب قيام الليل. والصحيح: أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء.
وفيه وجه أنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور وهو: «اللهم اهدنى فيمن هديت وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت، وقنى شر ما قضيت، فإنك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تبارك ربنا وتعاليت» رواه أبو داود والترمذى والنسائى من حديث الحسن بن على قال: علمنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن فى الوتر فذكره «1» . وإسنادهم صحيح، قال البيهقى: قد صح أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح وقنوت الوتر، انتهى.
وقوله: «فإنك تقضى» بالفاء. وبالواو فى قوله: «وإنه لا يذل» «وربنا» قبل و «تعاليت» إلا أن الفاء لم تقع فى رواية أبى داود. وزاد البيهقى بعد قوله: «إنه لا يذل من واليت» : ولا يعز من عاديت. وزاد ابن أبى عاصم فى كتاب التوبة: نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
وتسن الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى آخره، لأن النسائى قد رواه من حديث الحسن بسند صحيح أو حسن، كما قاله فى شرح «المهذب» ولفظه- أى النسائى- وصلى الله على النبى.
وجزم فى «الأذكار» باستحباب الصلاة على الآل والسلام. وخالفه صاحب «الإقليد» فقال: أما ما وقع فى كتب أصحابنا من زيادة «وسلم» وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب فكل ذلك لا أصل له.
قلت: وعبارة النووى فى «الأذكار» : يستحب أن يقول عقب هذا
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/247)
الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. فقد جاء فى حديث النسائى بإسناد حسن، وصلى الله على النبى. انتهى.
وتعقب: بأن لفظ الدعوى خلاف الدليل، ويزيد عليه ذكر الآل والتسليم. نعم وقعت الزيادة عند «الرافعى» و «الرويانى» معزوة لحديث الحسن ابن على، عند النسائى لكنها ليست عنده فى رواية أحد من الرواة عنه، على أن لفظ «وصلى الله على النبى» زائد على رواية الترمذى، وهى زيادة غريبة غير ثابتة لأجل عبد الله بن على، أحد رواته، لأنه غير معروف، وعلى تقدير أن يكون هو عبد الله بن على بن الحسن بن على، فهو منقطع، لأنه لم يسمع من جده الحسن بن على، فقد تبين أنه ليس من شرط «الحسن» لانقطاعه أو لجهالة راويه، ولم تجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذ فقد تبين شذوذها على ما لا يخفى. نعم: أصل الحديث إلى آخر «وتعاليت» حسن لاعتضاده برواية الترمذى وغيره، بخلاف الزيادة، إذ لم تجئ فى غيره، وحيث سننا الصلاة على الآل على ما جزم به النووى فينبغى عدها فى القنوت بعضا.
قال فى «المجموع» عن البغوى: ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، وهو ظاهر على ما صححه فيه، وفى تحقيقه فى باب «سجود السهو» من أن الاعتدال ركن طويل، أما على ما صححه فيهما فى «صلاة الجماعة» من أنه قصير، وهو ما فى «المنهاج» و «الروضة» فقد يقال القياس البطلان، لأن تطويل الركن القصير عمدا مبطل.
ويجاب: يحمل ذلك على غير محل القنوت، إذ البغوى نفسه القائل بكراهة الإطالة قائل بأن تطويل الركن القصير مبطل عمده.
ويسن للمنفرد والإمام برضى المحصورين، الجمع فى قنوت الوتر بين القنوت السابق وبين قنوت عمر، وهو: «اللهم إنا نستعينك» «1» إلخ، والأولى تأخيره عن القنوت السابق. ويسن رفع يديه، رواه البيهقى بإسناد جيد.
__________
(1) أخرجه اليبهقى (2/ 210) فى الكبرى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.(3/248)
قال فى «المجموع» : وفى سن مسح وجهه بهما وجهان: أشهرهما:
نعم، وأصحهما، لا، قال البيهقى: ولا أحفظ فى مسحه هنا عن أحد من السلف شيئا. وإن روى عن بعضهم فى الدعاء خارج الصلاة. ومسح غير الوجه كالصدر مكروه.
وقال النووى فى «الأذكار» : اختلف أصحابنا فى رفع اليدين فى القنوت، ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه: أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثانى: يرفع ويمسح، والثالث: لا يمسح ولا يرفع، واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا ذلك مكروه.
انتهى.
ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية للاتباع. رواه البخارى. قال الماوردى: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك.
رواه أبو داود بإسناد حسن. ويوافقه فى الثناء سرّا أو يسكت، لأنه ثناء أو ذكر لا يليق به التأمين، والدعاء يشمل الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- فيؤمن فيها:
صرح به الطبرى.
وإن لم يسمع المأموم قنوت الإمام قنت معه سرّا كبقية الأذكار والدعوات، ولا قنوت لغير وتر وصبح، إلا لنازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحوها، فيستحب أن يقنت فى مكتوبة غير الصبح. لا منذورة، وصلاة جنازة ونافلة. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم-. جهر بالقنوت فى النازلة. انتهى ملخصا من شرح البهجة لشيخ الإسلام أبى يحيى زكريا الأنصارى، مع زيادة من غيره، والله أعلم.
الفصل الرابع فى سجوده ص للسهو فى الصلاة
اعلم أن السهو هو الغافلة عن الشئ، وذهاب القلب إلى غيره، قاله(3/249)
الأزهرى. وفرق بعضهم- فيما حكاه القاضى عياض- بين السهو والنسيان من حيث المعنى، وزعم أن السهو جائز فى الصلاة على الأنبياء، - عليهم الصلاة والسلام-، بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة، والسهو إنما هو شغل، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يسهو فى الصلاة ولا يغافل عنها، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما هو فى الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها، انتهى.
قال ابن كيكلدى: وهو ضعيف من جهة الحديث ومن جهة اللغة، أما من جهة الحديث فلما ثبت فى الصحيحين من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» «1» ، وأما من جهة اللغة فقول الأزهرى الماضى، ونحوه قول الجوهرى وغيره.
وقال فى النهاية: السهو فى الشئ: تركه من غير علم، والسهو عنه:
تركه مع العلم، وهو فرق حسن دقيق، وبه يظهر الفرق بين السهو الذى وقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- غير مرة، والسهو عن الصلاة الذى ذم الله فاعله.
وقد كان سهوه- صلى الله عليه وسلم- من إتمام نعم الله تعالى على أمته، وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذى فى الموطأ- الآتى التنبيه عليه إن شاء الله تعالى- إنما أنسى أو أنسى لأسن «2» ، فكان- صلى الله عليه وسلم- ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجرى على سهو أمته إلى يوم القيامة. واختلف فى حكمه: فقال الشافعية والمالكية:
مسنون كله، وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة.
وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات، فيجب لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (401) فى الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (572) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له.
(2) أخرجه مالك فى الموطأ (225) فى السهو، باب: العمل فى السهو.(3/250)
وعن الحنفية: واجب كله، وحجتهم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث ابن مسعود عند البخارى «ليسجد سجدتين» «1» والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله- صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله فى الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» «2» انتهى.
وقد ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- السجود على قسمين: الأول: السجود قبل التسليم. فعن الأعرج عن عبد الله بن مالك بن بحينة أنه قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم «3» . رواه البخارى.
وهو رواية له عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن بحينة أيضا أنه قال:
إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قام من اثنتين من الظهر، لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك.
وفى روايته أيضا عن الأعرج عنه، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قام فى صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس.
ورواه مسلم أيضا. وزاد الضحاك عن الأعرج- عند ابن خزيمة- بعد قوله:
«ثم قام فلم يجلس» فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته.
وفى رواية الترمذى: قام فى الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم.
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (631) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كان جماعة، والدارمى (1253) فى الصلاة، باب: من أحق بالإمامة. من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1225) فى الجمعة، باب: ما جاء فى السهو إذا قام من ركعتى الفريضة، ومسلم (570) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث عبد الله بن بحينة- رضى الله عنه-.(3/251)
وفى هذا: مشروعية سجود السهو، وأنه سجدتان. فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شئ، أو عامدا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة. وأنه يكبر لهما كما يكبر فى غيرهما من السجود. واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام، ولا حجة فيه، فى كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية.
واستدل به أيضا على أن المأمون يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسه المأموم.
وأن سجود السهود لا تشهد بعده، وأن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور. وفيه أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة، ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به- صلى الله عليه وسلم- كما فى رواية ابن خزيمة- فلم يرجع، فلو تعمد المصلى الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعى.
عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر أو العصر، فسلم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله أنقصت؟ فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «أحق ما يقول هذا؟» قالوا: نعم.
فصلى ركعتين أخراوين ثم سجد سجدتين. قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقى منها، وسجد سجدتين وقال: هكذا فعل النبى- صلى الله عليه وسلم-. رواه البخارى. وقوله: «صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» ظاهر فى أن أبا هريرة حضر القصة.
وحمله الطحاوى على المجاز، فقال المراد به: صلى بالمسلمين. وسبب ذلك قول الزهرى: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبى هريرة بأكثر من خمس سنين. لكن اتفق أئمة الحديث- كما نقله ابن عبد البر وغيره- على أن الزهرى وهم فى ذلك، وسببه أنه جعل القصة لذى الشمالين، وذو الشمالين هو الذى قتل ببدر، وهو خزاعى، واسمه عمير، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-(3/252)
بمدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- كما أخرجه الطبرانى وغيره، وهو سلمى، واسمه الخرباق، كما سيأتى، فلما وقع عند الزهرى بلفظ «فقام ذو الشمالين» وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال لأجل ذلك: إن القصة وقعت قبل بدر.
وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذى الشمالين وذى اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذى الشمالين، وشاهد الآخرى وهى قصة ذى اليدين، وهذا محتمل فى طريق الجمع. وروى البخارى أيضا عن ابن سيرين عن أبى هريرة قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتى العشى- قال محمد بن سيرين: وأكثر ظنى العصر- ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبى- صلى الله عليه وسلم- ذا اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: «لم أنس، ولم تقصر» ، فقال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد، فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر «1» .
وعن ابن عمران بن حصين أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى العصر فسلم من ثلاثة ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان فى يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: «أصدق هذا؟» قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم «2» . رواه مسلم وهو من أفراده لم يروه البخارى.
ورواه أحمد وأبو داود.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (482) فى الصلاة، باب: تشبيك الأصابع، وفى الجمعة، باب: من يكبر فى سجدتى السهو، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (574) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، وأبو داود (1018) فى الصلاة باب: السهو فى السجدتين، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.(3/253)
و «الخرباق» بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحدة، وآخره قاف، هو اسم ذى اليدين، كما ذهب إليه الأكثر، وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو كناية عن طولهما بالعمل أو البذل.
قال الحافظ ابن حجر: الظاهر فى نظرى توحد حديث أبى هريرة، وإن كان قد جنح ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة، والحامل لهم على ذلك الخلاف الواقع فى السياقين، ففى حديث أبى هريرة أن السلام وقع من اثنتين، وأنه- صلى الله عليه وسلم- قام إلي خشبة فى المسجد، وفى حديث عمران هذا: أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة. فأما الأول فقد حكى كيكلدى العلائى أن بعض شيوخه حمله على المراد به أنه سلم فى ابتداء الركعة الثالثة، واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذى اليدين فى كل مرة استفهم النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، واستفهم النبى- صلى الله عليه وسلم- الصحابة عن صحة قوله. وأما الثانى: فلعل الراوى لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت فى جهة منزله، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبى هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعى وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة. انتهى.
وعن معاوية بن حديج- بضم الحاء المهملة آخره جيم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى يوما فانصرف وقد بقى من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال:
نسيت من الصلاة ركعة؟ فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل؟ قلت:
لا، إلا أن أراه، فمر بى فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله «1» . رواه أبو داود والبيهقى فى سننهما، وابن خزيمة فى صحيحه، وعين الصلاة المغرب.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1023) فى الصلاة، باب: إذا صلى خمسا، والنسائى (2- 12) فى الأذان، باب الإقامة لمن نسى ركعة من الصلاة، من حديث معاوية بن حديج- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/254)
وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذى اليدين، لأن المعلم للنبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذه القصة طلحة بن عبيد الله، ومخبره فى تلك القصة ذو اليدين، والسهو منه- صلى الله عليه وسلم- فى قصة ذى اليدين إنما كان فى الظهر أو العصر، وفى هذه القصة إنما كان السهو فى المغرب لا فى الظهر ولا فى العصر.
وعن محمد بن سيرين عن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أصدق ذو اليدين؟» فقال الناس. نعم، فقام- صلى الله عليه وسلم- فصلى اثنتين أخريين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده للصلاة أو أطول، ثم رفع.
وفى رواية سلمة بن علقمة، قلت لمحمد- يعنى ابن سيرين- فى سجدتى السهو تشهد؟ فقال: ليس فى حديث أبى هريرة. رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. قال الحافظ ابن حجر: لم يقع فى غير هذه الرواية لفظ «القيام» وقد استشكل بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان قائما.
وأجيب: بأن المراد بقوله: «فقام» أى اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما أمر.
وقد يفهم من قول محمد بن سيرين عن التشهد: «ليس فى حديث أبى هريرة» أنه ورد فى حديث غيره. وهو كذلك: فقد رواه أبو داود والترمذى وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبى قلابة أبى المهلب عن عمران بن حصين أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى بهم، فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم. قال الترمذى: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وضعفه البيهقى وابن عبد البر وغيرهما.
ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فرواية أشعث شاذة.(3/255)
لكن قد ورد فى التشهد فى سجود السهو عن ابن مسعود عند أبى داود والنسائى، وعن المغيرة عند البيهقى، وفى إسنادهما ضعف. فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة فى التشهد باجتماعها ترتقى إلى درجة الحسن، قال العلائى: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبى شيبة. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وفى رواية أبى سفيان عن أبى هريرة عند مسلم: صلى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر، فسلم فى ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كل ذلك لم يكن» ، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله.
وفى رواية أبى داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبى هريرة فى هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو.
وهذا يؤيد من قال لا بد من تكبيرة الإحرام فى سجود السهو بعد السلام، والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود، وهو ظاهر غالب الأحاديث.
وقال أبو داود: لم يقل أحد: «كبر ثم كبر» إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة. ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة فى هذا الحديث الجذع الذى كان- صلى الله عليه وسلم- يستند إليه قبل اتخاذ المنبر. وإنما وقع الاستفهام «هل قصرت الصلاة؟» لأن الزمان كان زمان النسخ.
وقوله: فقال: «لم أنس ولم تقصر» صريح فى نفى النسيان ونفى القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله فى رواية أبى سفيان المتقدمة «كل ذلك لم يكن» ، وتأييد لما قاله أصحابه المعانى بأن لفظة «كل» إذا تقدمت وعقبها النفى كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين فى رواية أبى سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه فى هذه الرواية بقوله: «بلى قد نسيت» لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه فى الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر.(3/256)
وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيما طريقه التشريع. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبى السهو، وهذا الحديث يرد عليهم- يعنى حديث ابن مسعود- فإن فيه «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» . وإن كان القاضى عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو فى الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال. لكنهم تعقبوه.
نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك، إما متصلا بالفعل أو بعده، كما وقع فى هذا الحديث من قوله: «لم أنس ولم تقصر» ثم تبين أنه نسى.
ومعنى قوله: «لم أنس» أى فى اعتقادى، لا فى نفس الأمر، ويستفاد منه: أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة السهو فى مثل ذلك بيان الحكم الشرعى إذا وقع مثله لغيره. وأما من منع السهو مطلقا، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:
فقيل: قوله «لم أنس» نفى للنسيان، ولا يلزم منه نفى السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم تضعيفه، ويكفى فيه قوله فى هذه الرواية:
«بلى قد نسيت» وأقره على ذلك.
وقيل: قوله: «لم أنس» على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول.
وتعقب: بحديث ابن مسعود عند البخارى ومسلم بلفظ «صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزاد أو نقص، شك بعض الرواة، والصحيح أنه زاد، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث فى الصلاة شئ؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا:
صليت كذا وكذا، قالوا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: «إنه لو حدث فى الصلاة شئ لنبأتكم به، ولكن(3/257)
إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون. فإذا نسيت فذكرونى، وإذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين» «1» .
ففيه: إثبات العلة قبل الحكم، بقوله: «إنما أنا بشر مثلكم» ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له، حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا فقال: «كما تنسون» .
وبهذا الحديث أيضا يرد قول من قال: «معنى قوله لم أنس» إنكار اللفظ الذى نفاه عن نفسه حيث قال: «إنى لأنس أو أنسّى لأسن» «2» وإنكار للفظ الذى أنكره على غيره حيث قال: «بئسما لأحدكما أن يقول نسيت آية كذا وكذا» «3» .
وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث «لا أنسى» لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التى لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وهى أربعة، قاله ابن عبد البر. وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شئ، فإن الفرق بينهما واضح جدّا.
وقيل: إن قوله «لم أنس» راجع إلى السلام، أى سلمت قصدا بانيا على اعتقادى أنى صليت أربعا، وهذا جيد، وكأن ذا اليدين فهم العموم فقال: «بلى قد نسيت» ، وكأن هذا القول أوقع شكّا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين.
وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذى اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغايرا لما فى اعتقاده.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه ملك فى الموطأ (225) فى السهو، باب: العمل فى السهو.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5032) فى فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعهده، بلفظ (نسيت آية كيت وكيت) ، ومسلم (790) فى صلاة المسافرين، باب: الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.(3/258)
وبهذا يجاب من قال: إن من أخبر بأمر حسى بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حامل لهم على السكوت، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به.
وفيه: أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا، وامتنع فى العادة غفلتهم عن ذلك أنه لا يقبل خبره.
وفيه: جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافى سهوا. وقال سحنون:
إنما يا بنى من سلم من ركعتين كما فى قصة ذى اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص. وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتى العشى، فيمنعه مثلا فى الصبح، والذين قالوا بجواز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل.
وفيه: أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة، خلافا للحنفية، واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها.
وتعقب: بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذى اليدين له:
«بلى قد نسيت» وقول الصحابة له: «صدق ذو اليدين» فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ فى وقت يمكن وقوعه، فتكلموا ظنّا أنهم ليسوا فى صلاة. كذا قيل، وهو فاسد، لأنهم تكلموا بعد قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لم تقصر» .
وأجيب: بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومؤوا، كما عند أبى داود فى رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابى، وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ، بخلاف عكسه، فينبغى رد الروايات التى فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية، وهو قوى، أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق وبعضهم قال بالإشارة. لكن يقول قول ذى اليدين: «بلى قد نسيت» .
ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا: بأن كلامهم كان(3/259)
جوابا للنبى- صلى الله عليه وسلم-، وجوابه لا يقطع الصلاة. وتعقب: بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة.
وأجيب: بأنه ثبتت مخاطبته فى التشهد، وهو حى، بقولهم: السلام عليك أيها النبى، ولم تفسد الصلاة، والظاهر: أن ذلك من خصائصه. وعن عبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد فى الصلاة؟ فقال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم. رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى بهذا اللفظ، إلا أن مسلما لم يقل فيه: «بعد ما سلم» وعبد الله هذا هو ابن مسعود. ففى هذه الأحاديث السجود بعد السلام. وقد اختلف فى ذلك.
فقال مالك والمزنى، وأبو ثور- من الشافعية- بالتفرقة إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، فى الأول يسجد قبل السلام، وفى الزيادة يسجد بعده.
وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره، للجمع بين الخبرين، قال: وهو موافق للنظر، لأنه فى النقص جبر، فينبغى أن يكون من أصل الصلاة، وفى الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها.
وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها فيعم الحكم جميع محالها فلا يتخصص إلا بنص.
وتعقب بأن كون السجود فى الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص فى المعنى.
وقال الخطابى: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذى اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهى عن نقصان.
وأما قول النووى: أقوى المذاهب قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره:
بل طريق أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه، وما لم يرد فيه شئ يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم. وعند(3/260)
إمامنا الشافعى: سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود هذا.
وتعقب: بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد فى الصلاة، وقد اتفق العلماء فى هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة فى الصلاة، لأنه كان زمان توقع النسخ.
وأجاب بعضهم: بما وقع فى حديث ابن مسعود من الزيادة. وهى:
«إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين» «1» .
وأجيب: بأنه معارض بحديث أبى سعيد عند مسلم، ولفظه: «إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» «2» . وبه تمسك الشافعية.
وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، ورجح البيهقى طريقة التخيير فى سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردى الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف فى الأفضل، وكذا أطلق النووى.
وتعقب: بأن إمام الحرمين نقل فى «النهاية» الخلاف فى الإجزاء عن المذهب: واستبعد القول بالجواز. ويمكن أن يقال: الإجماع الذى نقله الماوردى والنووى قبل هذه الآراء فى المذاهب المذكورة والله أعلم، قاله الحافظ ابن حجر- رحمه الله-. ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعى ومالك وأبى حنيفة وأحمد سجدتان للجميع. والجمهور: أنه يسجد للسهو فى التطوع كالفرض.
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (571) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/261)
الفصل الخامس فيما كان ص يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها
عن ثوبان: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» «1» رواه مسلم. ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك. وقد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى أقبل على أصحابه. فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقول بعد أن يقبل على أصحابه بوجهه الشريف، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يسرع الانفتال إلى المأمومين، وكان ينفتل عن يمينه وعن شماله.
وقال ابن مسعود: رأيته- صلى الله عليه وسلم- كثيرا ينصرف عن يساره «2» ، رواه الشيخان. وقالت أم سلمة: كان إذا سلم مكث فى مكانه يسيرا «3» ، قالت «4» : فنرى- والله أعلم- لكى ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال.
رواه البخارى.
وقالت عائشة: كان لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: «اللهم أنت السلام
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (591) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته من حديث ثوبان وعائشة، والترمذى (298) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (852) فى الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، ومسلم (707) فى صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (850) فى الأذان، باب: مكث الإمام فى مصلاه بعد الصلاة، وابن ماجه (932) فى إقامة الصلاة، باب: الانصراف من الصلاة من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.
(4) القائل هو الزهرى وليست أم سلمة كما ذكر المصنف.(3/262)
ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام» «1» . رواه مسلم. وهذا الحديث يتمسك به من قال إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع.
والجواب: إن المراد بالنفى المذكور نفى استمراره- صلى الله عليه وسلم- جالسا على هيئته قبل السلام إلا بمقدار أن يقول ما ذكر. وكان يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» «2» . رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة.
وكان يقول بأعلى صوته: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن الجميل، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» «3» ، رواه مسلم من حديث عبد الله بن الزبير.
وعن سعد أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات ويقول: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ بهن دبر الصلوات «اللهم إنى أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر» «4» رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (592) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والترمذى (298) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (844) فى الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة، من حديث المغيرة ابن شعبة- رضى الله عنه-، ومسلم (477) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (594) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والنسائى (1340) فى السهو، باب: عدد التهليل والذكر بعد التسليم، من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (2822) فى الجهاد، باب: ما يتعوذ من الجبن، والترمذى (3567) فى الدعوات، باب: دعاء النبى وتعوذه فى دبر كل صلاة، من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-.(3/263)
وعن زيد بن أرقم: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول دبر كل صلاة: «اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة، اللهم ربنا ورب كل شئ، اجعلنى مخلصا لك وأهلى فى كل ساعة فى الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، الله أكبر الله أكبر، الله نور السموات والأرض، الله أكبر حسبى الله ونعم الوكيل، الله أكبر الله أكبر» «1» . رواه أبو داود وأحمد.
ورأيت فى كتاب «الهدى» لابن القيم: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، سواء للمنفرد والإمام والمأموم، فلم يكن ذلك من هدى النبى- صلى الله عليه وسلم- أصلا، ولا روى عنه بإسناد صحيح، ولا حسن، وخصص بعضهم بصلاتى الفجر والعصر، ولم يفعله النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا عن السنة بعدهما.
قال: وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، قال: وهذا هو الأليق بحال المصلى، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله فى حال مناجاته والقرب منه وهو مقبل عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه.
ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد أن يفرغ منها، ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهى الذكر الوارد بعد المكتوبة، لا لكونه دبر المكتوبة، انتهى.
وقد كان فى خاطرى من دعواه «النفى مطلقا» شئ لما سيأتى، ثم رأيت شيخ مشايخنا إمام الحفاظ أبا الفضل ابن حجر تعقبه فقال:
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 369) ، وأبو داود (1508) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم، من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/264)
وما ادعاه من النفى مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا معاذ والله إنى لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول:
اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» «1» . أخرجه أبو داود والنسائى.
وحديث زيد بن أرقم: سمعته- صلى الله عليه وسلم- يدعو فى دبر الصلاة: «اللهم ربنا ورب كل شئ» «2» . أخرجه أبو داود والنسائى.
وحديث صهيب رفعه: كان يقول إذا انصرف من الصلاة: «اللهم أصلح لى دينى» «3» . أخرجه النسائى وصححه ابن حبان. وغير ذلك.
ثم قال: فإن قيل: المراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلنا:
قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه، وقد أخرج الترمذى من حديث أمامة: قيل يا رسول الله أى الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات» «4» ، وقال: حسن، وأخرج الطبرانى من رواية جعفر بن محمد الصادق قال:
«الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1522) فى الصلاة، باب: الاستغفار، من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه-، وصححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1508) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم. من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (3/ 73) فى السهو، باب: نوع آخر من الدعاء عند الانصراف من الصلاة، من طريق عطاء بن أبى مروان عن أبيه قال: وحدثنى كعب أن صهيبا حلف أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- كان يقولهن عند انصرافه من صلاته، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى إسناده فى «ضعيف سنن النسائى» .
(4) حسن: أخرجه الترمذى (3499) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، وقال الترمذى: حديث حسن، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/265)
قال: وفهم كثير من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفى الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلى القبلة، وإيراده عقب السلام، وأما إذا انفتل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. انتهى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- حين تقام الصلاة فى المسجد إذا رآهم قليلا جلس، وإذا رآهم جماعة صلى. رواه أبو داود. وقال أبو مسعود البدرى: كان- صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا فى الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلنى منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم» «1» رواه مسلم.
وقال ابن عباس: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى فقمت عن يساره، فأخذ بيدى من وراء ظهره فعدلنى كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن «2» .
رواه البخارى ومسلم.
قال أنس: سقط- صلى الله عليه وسلم- عن فرس، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا، فصلينا وراءه قعودا، فلما قضى الصلاة قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا» ، حتى قال: «وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون» «3» . زاد بعض الرواة: وإذا صلى قائما فصلوا قياما. رواه البخارى ومسلم.
قال الحميدى: ومعانى سائر الروايات متقاربة وزاد البخارى: قوله:
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (432) فى الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، وأبو داود (674) فى الصلاة، باب: من يستحب أن يلى الإمام فى الصف وكراهية التأخير. والنسائى (2/ 87) فى الإمامة، باب: من يلى الإمام ثم الذى يليه، من حديث أبى مسعود وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (117) فى العلم، باب: السمر فى العلم، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، فى الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (688) فى الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، من حديث عائشة- رضى الله عنهما-، ومسلم (411) فى الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/266)
«وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا» «1» هو فى مرضه القديم. وقد صلى فى مرضه الذى مات فيه جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره- صلى الله عليه وسلم- انتهى.
وقال الشافعى وأبو حنيفة وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلى خلف القاعد إلا قائما، واحتجوا بأنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى مرض موته بعد هذا قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما. وإن كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر- رضى الله عنه- كان هو الإمام، والنبى- صلى الله عليه وسلم- مقتد به، لكن الصواب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان هو الإمام.
الباب الثانى فى ذكر صلاته ص الجمعة
عن أنس بن مالك قال: أتى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- بمرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما هذا؟» فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، الناس لكم فيها تبع- اليهود والنصارى- ولكم فيها خير، ولكم فيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا جبريل: وما يوم المزيد؟» فقال: إن ربك اتخذ فى الفردوس واديا أقبح فيه كثيب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزمرد عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله تعالى: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدى، فسلونى أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول:
قد رضيت عنكم، ولكم ما تمنيتم ولدى مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم ربهم فيه من الخير، وفيه استوى ربك على العرش «2» . رواه الشافعى فى مسنده.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (689) وقد تقدم فى الذى قبله.
(2) أخرجه الشافعى فى «مسنده» (70) من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.(3/267)
وروى مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا فى يوم الجمعة» «1» .
وروى البيهقى فى الدعوات من حديث أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل رجب قال: «اللهم بارك لنا فى رجب وشعبان وبلغنا رمضان» «2» ، وكان يقول ليلة الجمعة: «ليل أغر ويوم الجمعة يوم أزهر» .
وليوم الجمعة من الخواص ما يبلغ العشرين، ذكرها ابن القيم فى «الهدى النبوى» لا أطيل بذكرها سيما وليس من غرضى. وهو أفضل أيام الأسبوع، كما أن يوم عرفة أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام.
وقال أبو أمامة بن النقاش: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام، قال: وغير هذا لا يسلم قائله من اعتراض يعجز عن دفعه.
انتهى.
وعن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتو الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذى فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا تبع: اليهود غدا، والنصارى بعد غد» «3» ، رواه البخارى.
وفى رواية ابن عيينة عن أبى الزياد عند مسلم: «نحن الآخرون ونحن السابقون» . أى الآخرون زمانا، والأولون منزلة. والمراد باليوم: يوم الجمعة.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (854) فى الجمعة، باب: فضل الجمعة، والترمذى (488) فى الجمعة، باب: ما جاء فى فضل يوم الجمعة، وقال حسن صحيح، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه أحمد (1/ 259) من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (876) فى الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (855) فى الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/268)
وقوله: «بيد» - بفتح الباء الموحدة، وإسكان المثناة من تحت وفتح الدال المهملة- أى: غير. وإذا عرف هذا، فقوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ «1» أى على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم فى السبت كان اختلافا على نبيهم فى ذلك اليوم لأجله.
فإن قيل: هل فى العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت والأحد، وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم فى ستة أيام، وبدأ الخلق والتكوين فى يوم الأحد، وتم يوم الجمعة، فكان الفراغ يوم السبت، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا فى ترك الأعمال، فعينوا السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا عيدا لنا، فهذان اليومان معقولان، فما الوجه فى جعل يوم الجمعة عيدا؟
فالجواب: إن يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام، وحصول الكمال والتمام يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه والله أعلم.
قال ابن بطال: وليس المراد فى الحديث أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله تعالى عليه وهو مؤمن، وإنما يدل- والله أعلم- أنه فرض عليهم يوم الجمعة، ووكل إلى اختيارهم ليقوموا فيه بشريعتهم فاختلفوا فيه ولم يهتدوا ليوم الجمعة.
كذا قال، لكن قد روى ابن أبى حاتم عن السدى التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فأبوا، ولفظه: «إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم» . وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم فى قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ «2» وهم القائلون سَمِعْنا وَعَصَيْنا «3» .
__________
(1) سورة النحل: 124.
(2) سورة البقرة: 58.
(3) سورة البقرة: 93.(3/269)
ويحتمل قوله «فهدانا الله له» بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد الثانى ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلى ونشكره، فجعلوه يوم العزوبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «1» «2» . وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من حديث كعب بن مالك قال:
كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أسعد بن زرارة «3» . فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- علمه بالوحى وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها ثمّ، ولذلك جمّع بهم أول ما قدم المدينة. انتهى
وقال ابن إسحاق: لما قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة أقام بقباء، فى بنى عمرو بن عوف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة فى بنى سالم، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة وذلك قبل تأسيس مسجده.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخارى من حديث أنس، وفى رواية: إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد
__________
(1) سورة الجمعة: 9.
(2) رواه عبد بن حميد فى تفسيره عن ابن سيرين. هكذا قال الحافظ فى «التلخيص» (2/ 56) .
(3) حسن: أخرجه أبو داود (1069) فى الصلاة، باب: الجمعة فى القرى، وابن ماجه (82) فى إقامة الصلاة، باب: فى فرض الجمعة، من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه- والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/270)
بالصلاة- يعنى الجمعة- وفى رواية سهل بن سعد عند البخارى ومسلم: كنا نصلى معه- صلى الله عليه وسلم- الجمعة ونقيل بعد الجمعة.
ثم أعلم أن الخطبة شرط فى انعقاد الجمعة، لا تصح إلا بها، وقال سعيد بن جبير: هى بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك ركعتين من صلاة الظهر.
ولم يكن يؤذن فى زمانه- صلى الله عليه وسلم- على المنار، وبين يديه، وإنما كان بلال يؤذن وحده بين يديه- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس على المنبر، كما صرح به أئمة الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم.
وعبارة البرهان المرغينانى من الحنفية فى هدايته: وإذا صعد الإمام المنبر جلس، وأذن المؤذن بين يدى المنبر، بذلك جرى التوارث، ولم يكن على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا هذا الأذان.
وعبارة ابن الحاجب من المالكية: ويحرم السعى عند آذان جلوس الخطبة، وهو المعهود، فلما كان عثمان وكثروا أمر بأذان قبله على الزوراء، ثم نقله هشام إلى المسجد، وجعل الآخر بين يديه. انتهى. ونحوه قال ابن عبد الحق فى «تهذيب الطالب» .
وأما قول ابن أبى زيد فى رسالته: وهذا الأذان الثانى أحدثه بنو أمية.
فقال شارحوه- الفاكهانى وغيره-: يعنى الأذان الثانى فى الإحداث وهو الأول فى الفعل، قال: وكان بعض شيوخنا يقول: الأول هو الثانى، والثانى هو الأول ومنشؤه ما تقدم. انتهى.
وعبارة الزركشى- كغيره من الشافعية-: ويجلس الإمام على المستراح يستريح من تعب الصعود، ثم يؤذن المؤذن بعد جلوسه، فإن التأذين كان حين يجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن قبله أذان، فلما كان زمن عثمان وكثر الناس، أمرهم بالتأذين ثانيا، ثم يديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، انتهى.
وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام(3/271)
على المنبر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء «1» ، رواه البخارى وقال: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة.
وفى رواية له أيضا: أن التأذين الثانى يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد، وهو يفسر بما فسر به قول أبى زيد السابق. وعند ابن خزيمة:
كان الأذان على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر أذانين يوم الجمعة «2» . قال ابن خزيمة: قوله «أذانين» يريد: الأذان والإقامة تغليبا أو لاشتراكهما فى الإعلام.
وللنسائى: كان بلال يؤذن إذا جلس النبى- صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فإذا نزل أقام «3» . وفى رواية وكيع عن ابن أبى ذئب فأمر عثمان بالأذان الأول «4» ، ونحوه للإمام الشافعى من هذا الوجه. قال فى فتح البارى: ولا منافاة بينهما، لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا. وأما قوله فى رواية «البخارى: إن التأذين الثانى» فمتوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقى لا الإقامة.
وقال الشيخ خليل فى «التوضيح» : واختلف النقل: هل كان يؤذن بين يديه- صلى الله عليه وسلم-، أو على المنار؟ الذى نقله أصحابنا أنه كان على المنار، نقله ابن القاسم عن مالك فى «المجموعة» . ونقل ابن عبد البر فى «كافيه» عن مالك أن الأذان بين يدى الإمام ليس من الأمر القديم. وقال غيره: هو أصل الأذان
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (912) فى الجمعة، باب: الأذان يوم الجمعة، والترمذى (516) فى الجمعة، باب: ما جاء فى أذان الجمعة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، من حديث السائب بن يزيد- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه ابن خزيمة (1774) عن السائب بن يزيد- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 101) فى الجمعة، باب: الأذان للجمعة، من حديث السائب بن يزيد، وأصل الحديث فى الصحيح كما تقدم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) تقدم فى الذى قبله، وهو من طريق ابن أبى ذئب عن الزهرى، عن السائب بن يزيد.(3/272)
فى الجمعة، وكذلك نقل صاحب «تهذيب الطالب» والمازرى. وفى «الاستذكار» : إن هذا اشتبه على بعض أصحابنا، فأنكر أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدى الإمام كان فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر، وأن ذلك حدث فى زمن هشام.
قال: وهذا قول من قل علمه، ثم استشهد بحديث السائب بن يزيد المروى فى البخارى السابق، ثم قال: وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهرى عن السائب بن يزيد، قال: كان يؤذن بين يدى النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبى بكر وعمر. انتهى. والحكمة فى جعل الأذان فى هذا المحل ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر فينصتون له إذا خطب. قاله المهلب.
قال فى فتح البارى: وفيه نظر، فإن فى سياق محمد بن إسحاق عند الطبرانى وغيره فى هذا الحديث: أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد، فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات.
والذى يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان فى جميع البلاد إذ ذاك، لكونه كان حينئذ خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهانى أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد.
وفى تفسير جويبر عن الضحاك عن معاذ: أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارج المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان فى عهد النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين. وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت، وقد تواردت الأخبار أن عثمان هو الذى زاده فهو المعتمد.
وقد روى عبد الرزاق ما يقوى هذا الأثر عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا، إنما كان يدعو الناس ولا يؤذن غير أذان واحد. انتهى.(3/273)
لكن عطاء لم يدرك عثمان بن عفان، فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره. ويمكن الجمع: بأن الذى كان فى زمن عمر بن الخطاب استمر على عهد عثمان، ثم رأى أن يجعله أذانا وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان يفعله عمر لكونه مجرد إعلام.
وروى ابن أبى شيبة عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة. فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، وأن يكون أراد به: لم يكن فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، لأن كل ما لم يكن فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون غير ذلك. ثم إن فعل عثمان- رضى الله عنه-، كان إجماعا سكوتيّا لأنهم لم ينكروه عليه. انتهى.
وأول جمعة جمعها النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه- كما قدمناه فى حديث الهجرة- فى بنى سالم بن عوف، فى بطن واد لهم، فخطبهم وهى أول خطبة خطبها بالمدينة وقال فيها:
«الحمد لله أحمده، وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأومن به ولا أكفره، وأعادى من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة والحكمة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله من نفسه، فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عون وصدق على ما يبتغون من الآخرة، ومن يصل الذى بينه وبين الله من أمره فى السر والعلانية لا ينوى به إلا وجه الله يكن له ذكرا فى عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوف ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله(3/274)
نفسه والله رؤف بالعباد، هو الذى صدق وأنجز وعده لا خلف له فإنه يقول:
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» .
فاتقوا الله فى عاجل أمركم وآجله، فى السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله توقى مقته وتوقى عقوبته وسخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضى الرب، وترفع الدرجة، فخذوا بحظكم ولا تفرطوا فى جنب الله، فقد علمكم كتابه ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا فى الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم» . ذكر هذه الخطبة القرطبى فى تفسيره، وغيره.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يخطب متوكئا على قوس أو عصا. وفى سنن ابن ماجه: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا خطب فى الحرب خطب على قوس، وإذا خطب فى الجمعة خطب على عصا «2» ، وعند أبى داود بإسناد حسن: أنه- صلى الله عليه وسلم- قام متوكئا على قوس أو عصا «3» .
__________
(1) سورة ق: 29.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1107) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فى الخطبة يوم الجمعة، وتفرد به؛ قال: حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار ابن سعد حدثنى أبى عن أبيه عن جده أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فذكره والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(3) حسن: أخرجه أبو داود (1096) فى الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس، من حديث الحكم بن حزن الكلفى- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/275)
قالوا: والحكمة فى التوكؤ على نحو السيف، الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، ولهذا قبضه باليسرى كعادة مريد الجهاد.
ونازع فيه العلامة ابن القيم فى «الهدى النبوى» وقال: إن الدين لم يقم إلا بالقرآن والوحى كذا قاله، والله أعلم «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صعد المنبر سلم «2» . رواه ابن ماجه. وكان- صلى الله عليه وسلم- يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما «3» ، رواه مسلم من رواية جابر بن سمرة. وفى رواية له: كانت له- صلى الله عليه وسلم- خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس «4» . وفى حديث ابن عمر عند أبى داود: كان- صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب «5» . قال ابن المنذر: الذى عليه أهل العلم من علماء الأمصار: الخطبة قائما. ونقل غيره عن أبى حنيفة:
أن القيام فى الخطبة سنة وليس بواجب. وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء وصحت الخطبة.
وعن الباقين: أن القيام شرط، يشترط للقادر كالصلاة، واستدلوا بحديث جابر بن سمرة، وبمواظبته- صلى الله عليه وسلم- على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعا فى الخطبتين ما احتيج إلى الفصل
__________
(1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 190 و 429) .
(2) حسن: أخرجه ابن ماجه (1109) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الخطبة يوم الجمعة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (862) فى الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، وأبو داود (1093) فى الصلاة، باب الخطبة قائما، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-.
(4) تقدم فى الذى قبله.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1092) فى الصلاة، باب: الجلوس إذا صعد المنبر، من حديث ابن عمر، وأصله فى الصحيح وقد تقدم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/276)
بالجلوس. ولأن الذى نقل عنه الجلوس، وهو معاوية، كان معذورا، فعند ابن أبى شيبة من طريق الشعبى: أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه «1» . واستدل الشافعى لوجوب الجلوس بين الخطبتين بما تقدم، وبمواظبة النبى- صلى الله عليه وسلم- على ذلك، مع قوله: صلوا كما رأيتمونى أصلى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول بعد الثناء: «أما بعد» «2» كما قاله البخارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبحكم ومساكم» ويقول: «بعثت وأنا والساعة كهاتين» ، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد- صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» ثم يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلىّ وعلىّ» «3» . رواه مسلم والنسائى من حديث جابر.
وفى رواية: كانت خطبته- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة: يحمد الله ويثنى عليه، ثم يقول على أثر ذلك، وقد علا صوته، وذكر نحوه «4» .
__________
(1) أخرجه ابن أبى شيبة فى مصنفه (5193) ، من كان يخطب قائما قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبى قال: إنما خطب معاوية قاعدا حيث كثر شحم بطنه ولحمه، وله بنحوه عن طاووس، وذكره الهيثمى فى المجمع (2، 187) فى باب الخطبة قائما والجلوس بين الخطبتين، قال: وعن موسى بن طلحة قال: شهدت عثمان يخطب على المنبر قائما وشهدت معاوية يخطب قاعدا فقال: أما إنى لم أجهل السنة ولكنى كبرت سنّى، ورقّ عظمى، وكثرت حوائجكم، فأردت أن أقضى بعض حوائجكم قاعدا ثم أقوم فاخذ نصيبى من السنة رواه الطبرانى فى الكبير وفيه قيس بن الربيع وقد وثقه شعبة والثورى وضعفه غيرهما.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (923) فى الجمعة، باب: من قال فى الخطبة بعد الثناء أما بعد، من حديث عمرو بن تغلب- رضى الله عنه-، وفى باب: قول الإمام فى خطبة الكسوف أما بعد من حديث أسماء- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (867) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، وابن ماجه (45) فى المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: تقدم فى الذى قبله.(3/277)
وفى أخرى: كان يخطب الناس يحمد الله ويثنى عليه بما هو أهله ثم يقول: «من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وخير الحديث كتاب الله» «1» . ثم ذكر نحو ما تقدم.
وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «2» إلا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس «3» . رواه مسلم.
وعن الحكم بن حزن الكلفى قال: قدمت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فلبثنا عنده أياما، شهدنا فيها الجمعة، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متوكئا على قوس، أو قال: عصا، فحمد الله وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: «يا أيها الناس، إنكم لن تفعلوا أو لن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا» «4» . رواه أحمد ومسلم.
وعن يعلى بن أمية قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ على المنبر وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «5» «6» . رواه البخارى ومسلم.
وعن أبى الدرداء قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة فقال:
«توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا، وصلوا الذى بينكم وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، يا أيها الناس إن أكيسكم
__________
(1) صحيح: تقدم فى الذى قبله.
(2) سورة ق: 1.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (873) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، وأبو داود (1102) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، من حديث أم هشام بنت حارثة ابن النعمان- رضى الله عنها-.
(4) حسن: أخرجه أبو داود (1096) وقد تقدم وعزوه لمسلم خطأ.
(5) سورة الزخرف: 77.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (4819) فى التفسير، باب: قوله ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك، ومسلم (871) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة. من حديث يعلى بن أمية- رضى الله عنه-.(3/278)
أكثركم ذكرا للموت، وأكرمكم أحسنكم استعدادا له، ألا وإن من علامات العقل التجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكن القبور، والتأهب ليوم النشور» . ورواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله مختصرا بنحوه «1» .
وفى مراسيل أبى داود عن الزهرى قال: كان صدر خطبة النبى- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدى الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى» «2» . نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه.
وعنده أيضا عنه قال: بلغنا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول إذا خطب: «كل ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، يريد الله أمرا، ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله، لا يكون شئ إلا بإذن الله عز وجل» .
وقال جابر: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يقول بعد أن يحمد الله ويصلى على أنبيائه: «أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن العبد المؤمن بين مخافتين، أجل قد مضى لا يدرى ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله صانع فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، والذى نفسى بيده، ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، أقول قولى هذا وأستغفر الله العظيم لى ولكم» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1081) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: فى فرض الجمعة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1097) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/279)
وعن عمرو أن النبى- صلى الله عليه وسلم- خطب يوما فقال: «ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق يقضى فيها ملك قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره فى الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره فى النار، ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذره خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره» .
رواه الشافعى، وعند أبى نعيم فى الحلية نحوه.
واختلف: هل يجب الإنصات، ويمنع من جميع أنواع الكلام حال الخطبة، أم لا. وعن الشافعى فى المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف فى أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم، لا على الثانى، والثانى هو الأرجح عندهم، فمن ثم أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام، حتى شنع من شنع عليهم من المخالفين. وعن أحمد أيضا روايتان. وعنهما أيضا: التفرقة بين من يسمع الخطبة وبين من لا يسمعها. وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعهما إلا عن قليل من التابعين.
ودخل سليك الغطفانى، وهو- صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقال له- صلى الله عليه وسلم-:
«صليت؟» قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود. واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد.
وتعقب: بأنها واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله فى حديث أبى سعيد- عند أهل السنن-: جاء رجل- والنبى- صلى الله عليه وسلم- يخطب- فى هيئة بذة، فقال له: «أصليت؟» قال: لا، قال: «صل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (930) فى الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب. من حديث جابر بن عبد الله، وليس فيه اسم الرجل الذى دخل، قال النووى فى الإشارات: قال الخطيب: الرجل: سليك الغطفانى، وقيل: النعمان بن قوقل.(3/280)
ركعتين» ، وحض الناس على الصدقة الحديث «1» ... فأمره بأن يصلى ركعتين ليراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه، وورد أيضا ما يؤيد الخصوصية، وهو ما أخرجه ابن حبان وهو قوله- صلى الله عليه وسلم- لسليك فى آخر الحديث: «لا تعودن لمثلها» «2» ، ومما يضعف الاستدلال به على جواز التحية فى تلك الحالة أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس.
فهذا ما اعتل به من طعن فى الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية، وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه- صلى الله عليه وسلم- قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجيزون التطوع لعلة التصدق. قال ابن المنير: لو ساغ ذلك لساغ مثله فى التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به.
ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر فى قصد التصدق، معاودته- صلى الله عليه وسلم- بأمره بالصلاة فى الجمعة الثانية بعد أن حصل له فى الجمعة الأولى ثوبان تصدق بهما عليه، فدخل بهما فى الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. أخرجه النسائى وابن خزيمة من حديث أبى سعيد أيضا.
ولأحمد وابن حبان: أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات فى ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة، لا علة كاملة.
وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس، فقد حكى النووى فى شرح مسلم عن المحققين: أن ذلك فى حق العامد العالم، أما الجاهل والناسى فلا، وحال هذا الداخل محمولة فى المرة الأولى على أحدهما، وفى المرتين الأخيرتين على النسيان.
والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض
__________
(1) متفق عليه: أخرجه البخارى (930) فى الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(2) حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (2504) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.(3/281)
للأمر بالإنصات والاستماع للخطبة. وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن ذلك وغيره من أدلة المانعين بما يطول ذكره، ثم قال: وهذه الأجوبة التى قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى قتادة: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين» «1» متفق عليه. قال: وورد أخص منه فى حال الخطبة، ففى رواية شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، أو قد خرج فليصل ركعتين» «2» متفق عليه.
ولمسلم من طريق أبى سفيان عن جابر أنه قال ذلك فى قصة سليك ولفظه بعد قوله: «فاركعهما وتجوز» ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» «3» . قال النووى: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه. وقال العارف أبو محمد بن أبى جمرة: هذا الذى أخرجه مسلم نص فى الباب لا يحتمل التأويل. انتهى.
وقد قال قوم: إنما أمره- صلى الله عليه وسلم- بسنة الجمعة التى قبلها ومستندهم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى قصة سليك- عند ابن ماجه- «أصليت ركعتين قبل أن تجئ؟» لأن ظاهره: قبل أن تجئ من البيت، ولهذا قال الأوزاعى: إن كان صلى فى البيت قبل أن يجئ فلا يصلى إذا دخل المسجد.
وتعقب: بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا، ويحتمل أن يكون معنى قوله: «قبل أن تجئ» أى إلى الموضع الذى أنت فيه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1167) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع مثنى مثنى، ومسلم (714) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما وأنها مشروعة فى جميع الأوقات من حديث أبى قتادة بن ربعى الأنصارى- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1170) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع مثنى مثنى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنه-.
(3) تقدم فى الذى قبله.(3/282)
الآن، وفائدة الاستفهام، احتمال أن يكون صلاهما فى مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة، ويؤيده: أن فى رواية مسلم «أصليت الركعتين؟» بالألف واللام، وهى للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد، وأما سنة الجمعة التى قبلها فيأتى الكلام فيها- إن شاء الله تعالى-.
وكانت صلاته- صلى الله عليه وسلم- الجمعة قصدا، وخطبته قصدا «1» . رواه مسلم والترمذى من رواية جابر بن سمرة. زاد فى رواية أبى داود: يقرأ بايات من القرآن ويذكر الناس «2»
. وله فى أخرى: كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هى كلمات يسيرات «3» .
وعن عمرو بن حريث أنه- صلى الله عليه وسلم- خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه «4» . رواه مسلم.
قال ابن القيم فى الهدى «5» : وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا اجتمع الناس خرج إليهم وحده من غير شاوش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سواد، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ثم يجلس. ويأخذ بلال فى الأذان، فإذا فرغ منه قام- صلى الله عليه وسلم- فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره، ولم يكن
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (866) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، والترمذى (507) فى الجمعة، باب: ما جاء فى قصد الخطبة، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (862) فى الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، ولفظه (يقرأ القرآن ويذكر الناس) ، وأبو داود (1101) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، من حديث جابر بن سمرة، وقد تقدم فى الذى قبله.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (1107) فى الجمعة، باب: إقصار الخطب، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1359) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام، من حديث عمرو بن حريث، والترمذى (1735) فى اللباس، باب: ما جاء فى العمامة السوداء، من حديث جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام- رضى الله عنهما-، وقال الترمذى: حديث جابر حسن صحيح.
(5) (1/ 429) .(3/283)
يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان يأمر الناس بالدنو منه، ويأمرهم بالإنصات. انتهى. وينظر فى قوله: «ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس، أو عصا قبل أن يتخذ المنبر» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ بسورة الجمعة فى الركعة الأولى، وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ «1» فى الثانية «2» . رواه مسلم والترمذى وأبو داود. والحكمة فى قراءته- صلى الله عليه وسلم- بسورة الجمعة، اشتمالها على وجوب الجمعة وغير ذلك، مما فيه من القواعد، والحث على التوكل والذكر وغير ذلك، وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيه من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون فى مجلس أكثر من اجتماعهم فيها.
وفى حديث النعمان بن بشير عند مسلم: وكان يقرأ فى العيدين وفى الجمعة ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «4» «5» .
وقد اختلف فى العدد الذى تنعقد بهم الجمعة، وللعلماء فيه خمسة عشر قولا:
أحدها: تصح من الواحد، نقله ابن حزم.
الثانى: اثنان كالجماعة، وهو قول النخعى وأهل الظاهر.
الثالث: اثنان مع الإمام، عند أبى يوسف ومحمد والليث.
الرابع: ثلاثة معه، عد أبى حنيفة وسفيان الثورى.
__________
(1) سورة المنافقون: 1.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (877) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، والترمذى (1124) فى الصلاة، باب: ما يقرأ به فى الجمعة من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) سورة الأعلى: 1.
(4) سورة الغاشية: 1.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (878) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، وأبو داود (1122) فى الصلاة، باب: ما يقرأ به فى الجمعة، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-.(3/284)
الخامس: سبعة، عند عكرمة.
السادس: تسعة، عند ربيعة.
السابع: اثنا عشر، عند ربيعة أيضا فى رواية.
الثامن: مثله غير الإمام، عند إسحاق.
التاسع: عشرون فى رواية ابن حبيب عن مالك.
العاشر: ثلاثون، كذلك.
الحادى عشر: أربعون بالإمام عند إمامنا الشافعى، واشتراط كونهم أحرارا، بالغين عقلاء، مقيمين لا يظعنون صيفا ولا شتاء إلا لحاجة، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة.
وحجة الشافعى: ما رواه الدار قطنى وابن ماجه والبيهقى فى الدلائل عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبى حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبى أمامة واستغفر له، قال فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان فى الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت له: يا أبت، استغفارك لأبى أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو؟ قال: يا بنى، هو أول من جمّع بالمدينة، قال: قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا «1» .
وقال جابر بن عبد الله: مضت السنة أن فى كل ثلاثة إماما، وفى كل أربعين فما فوق ذلك جمعة «2» . خرجه الدار قطنى. وروى البيهقى عن ابن مسعود. أنه- صلى الله عليه وسلم- جمّع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا «3» . قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى- نفع الله بوجوده- قال فى «المجموع» : قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، والأصل الظهر، فلا تصح
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1069) فى الصلاة، باب: الجمعة فى القرى، وابن ماجه (1082) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب فى فرض الجمعة، من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) أخرجه الدار قطنى (2/ 3) من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(3) أخرجه البيهقى (3/ 180) من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.(3/285)
الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت (صلوا كما رأيتمونى أصلى) ، ولم يثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا يجوز بأقل منه.
قال: وأما خبر انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر، فليس فيه أن ابتداءها كان باثنى عشر، بل يحتمل عودهم، أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة. وفى مسلم: «انفضوا فى الخطبة» وفى رواية البخارى «انفضوا فى الصلاة» وهى محمولة على الخطبة جمعا بين الأخبار. انتهى.
الثانى عشر: أربعون غير الإمام عند الشافعى أيضا، وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة.
الثالث عشر: خمسون، عند أحمد فى رواية، وحكيت عن عمر بن عبد العزيز وطائفة.
الرابع عشر: ثمانون، حكاه الرازى.
الخامس عشر: جمع كثر بغير حصر.
ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. قاله فى فتح البارى.
الباب الثالث فى ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه
قال الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» أى بالقرآن، والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن. والهجود فى اللغة: النوم، وعن أبى عبيدة: الهاجد: النائم، والهاجد: المصلى بالليل، وعن الأزهرى:
الهاجد: النائم، وقال المازرى: التهجد: الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، قال: وهكذا كانت صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) سورة الإسراء: 79.(3/286)
وقوله: (نافلة لك) أى عبارة زائدة فى فرائضك، ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله: (فتهجد) أمر، وصيغة الأمر للوجوب، فوجب كون هذا التهجد واجبا، وروى الطبرى عن ابن عباس أن النافلة للنبى- صلى الله عليه وسلم- خاصة، لأنه أمر بقيام الليل، وكتب عليه دون أمته «1» ، وإسناده ضعيف.
وقيل معناه: زيادة لك خاصة، لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب، وتطوعه هو- صلى الله عليه وسلم- يقع خالصا له لكونه لا ذنب عليه، فكل طاعة يأتى بها- صلى الله عليه وسلم- سوى المكتوبة إنما تكون لزيادة الدرجات، وكثرة الحسنات، ولهذا سمى نافلة بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات، فهذه الطاعات يحتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات «2» .
وروى مسلم من طريق سعد بن هشام عن عائشة قالت: إن الله افترض قيام الليل فى هذه السورة، تعنى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «3» فقام نبى الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حولا، حتى أنزل فى آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة «4» . وروى محمد بن نصر فى قيام الليل من طريق سماك عن ابن عباس شاهدا لحديث عائشة فى أن بين الإيجاب والنسخ سنة.
وحكى الشافعى عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس. وروى محمد ابن نصر من حديث جابر أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبى عبيدة فى جيش الخبط، وكان ذلك بعد الهجرة لكن فى إسناده على بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. فوجوب قيام الليل قد نسخ فى حقنا. وهل نسخ فى حقه- صلى الله عليه وسلم-؟ أكثر الأصحاب: لا، والصحيح: نعم، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص.
__________
(1) قاله الحافظ ابن حجر فى «فتح البارى» (3/ 3) .
(2) انظر ما قبله.
(3) سورة المزمل: 1.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين قصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، وأحمد (1) من حديث عائشة.(3/287)
وقالت عائشة: قام- صلى الله عليه وسلم- حتى تورمت قدماه، وفى رواية: حتى تفطرت قدماه، فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» قالت: فلما بدن وكثر شحمه- صلى الله عليه وسلم- صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع «1» . رواه البخارى ومسلم.
والفاء فى قوله: «أفلا أكون» للسببية، وهى عن محذوف تقديره: أأترك تهجدى؟ فلا أكون عبدا شكورا، والمعنى: إن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟
قال ابن بطال: فى هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة فى العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لا يعلم، فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار. انتهى.
ومحل ذلك- كما قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى- ما لم يفض ذلك إلى الملال، لأن حال النبى- صلى الله عليه وسلم- كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه، وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «وجعلت قرة عينى فى الصلاة» «2» كما أخرجه النسائى من حديث أنس، فأما غيره- صلى الله عليه وسلم- فإذا خشى الملل ينبغى له أن لا يكد نفسه، وعليه يحمل قوله- صلى الله عليه وسلم-:
«خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» «3» انتهى.
لكن ربما دست النفس أو الشيطان على المجتهد فى العبادة بمثل ما ذكر،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4837) فى التفسير، باب: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك، ومسلم (2820) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد فى العبادة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 61) فى عشرة النساء، باب: حب النساء. من حديث أنس ابن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5862) فى اللباس، باب: الجلوس على الحمير ونحوه، ومسلم (782) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/288)
خصوصا إذا كبر، فيقول: قد ضعفت وكبرت فأبق على نفسك لئلا ينقطع عملك بالكلية، وهذا وإن كان ظاهره جميلا لكن فيه دسائس، فإنه إن أطاعه فقد يكون استدراجا يئول به إلى ترك العمل شيئا فشيئا، إلى أن ينقطع بالكلية، وما ترك سيد المرسلين، المغفور له، شيئا من عمله بعد كبره.
نعم كان يصلى بعض ورده جالسا بعد أن كان يقوم حتى تفطرت قدماه، فكيف بمن أثقلت ظهره الذنوب والأوزار، ولا يأمن عذاب النار، أن يغافل حال شيبته، ويتوانى عند ظهور شيبه فينبغى للإنسان أن يستعد قبل حلول مشيبه. «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك» «1» فإن من شاب فقد لاح صبح سواد ليل شعره، وقد قال تعالى منذرا لمن يدخل فى الصباح: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ «2» فكيف بقرب من دخل فى الصباح، وظهر كوكب نهاره فى أفق رأسه ولاح؟!
قال القرطبى: ظن من سأله- صلى الله عليه وسلم- عن سبب تحمله المشقة فى العبادة أنه إنما يعبد الله خوفا من الذنوب، وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم أن هناك طريقا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة، وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك سمى شكورا، ومن ثم قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «3» .
وفيه: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- عليه من الاجتهاد فى العبادة والخشية من ربه عز وجل، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف لعلمهم بعظيم نعمة الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى عبادته ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، والله أعلم، انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه الحاكم فى المستدرك، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن ابن عباس، وأحمد فى الزهد، وأبو نعيم فى الحلية، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن عمرو بن ميمون مرسلا، كما فى «صحيح الجامع» (1077) .
(2) سورة هود: 81.
(3) سورة سبأ: 13.(3/289)
ذكر سياق صلاته ص بالليل
عن شريح بن هانئ قالت عائشة- رضى الله عنها-: ما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العشاء قط فدخل بيتى إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات «1» . رواه أبو داود. وكان يقوم إذا سمع الصارخ «2» . رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة. وهو يصرخ فى النصف الثانى. وقالت: كان- صلى الله عليه وسلم- ينام أول الليل ويقوم آخره، فيصلى ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج «3» . رواه الشيخان. وقالت أيضا:
كان- صلى الله عليه وسلم- ربما اغتسل فى أول الليل، وربما اغتسل فى آخره، وربما أوتر فى أول الليل، وربما أوتر فى آخره، وربما جهر بالقراءة، وربما خفت «4» .
وقالت أم سلمة: كان يصلى بنا ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلى قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح «5» . رواه أبو داود والترمذى والنسائى.
وفى رواية للنسائى: كان يصلى العتمة، ثم يسبح ثم يصلى بعدها ما شاء من
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1353) فى الصلاة، باب: بعد صلاة العشاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1132) فى الجمعة، باب: من نام عند السحر، ومسلم (741) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (علي 1146) فى الجمعة، باب: من نام أول الليل وأحيا آخره، ومسلم (739) فى صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) أخرجه أحمد (6/ 256) ، وأبو داود (236) فى الطهارة، باب الجنب يؤخر الغسل من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى: حسن إلا قول أم سليم المرأة ترى ... إلخ.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (1466) فى الصلاة باب: استحباب الترتيل فى القراءة، والترمذى (2923) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبى، من حديث أم سلمة زوج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وليس فيه (صلى بنا) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/290)
الليل ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى ثم يستيقظ من نومه فيصلى مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح «1» .
وعن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه «2» . رواه النسائى.
وكان إذا استيقظ من الليل قال: «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبى، وأسألك رحمتك، اللهم زدنى علما ولا تزغ قلبى إذ هديتنى، وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» «3» رواه أبو داود من حديث عائشة.
وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا هب من الليل كبر الله عشرا، وحمد الله عشرا، وقال سبحان الله وبحمده عشرا، وقال سبحان الملك القدوس عشرا، واستغفر الله عشرا، وهلل عشرا، ثم قال: «اللهم إنى أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا» ، ثم يفتتح الصلاة «4» . رواه أبو داود. وقد روى حديث قيامه بالليل ووتره عائشة وابن عباس.
قال ابن القيم: وإذا اختلف ابن عباس وعائشة فى شئ من أمر قيامه- صلى الله عليه وسلم- بالليل، فالقول قول عائشة، لكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل.
__________
(1) ضعيف: أخرجه النسائى (3/ 214) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر صلاة رسول الله بالليل، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1141) فى الجمعة، باب: قيام النبى بالليل من نومه وما نسخ من قيام الليل، والترمذى (769) فى الصوم، باب: ما جاء فى سرد الصوم من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (5061) فى الأدب، باب: ما يقول الرجل إذا تعار من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها- ولفظه (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك لذنبى وأسألك رحمتك، اللهم زدنى علما ولا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (5085) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/291)
انتهى. فأما حديث ابن عباس، فرواه البخارى ومسلم بلفظ: بت عند خالتى ميمونة ليلة والنبى- صلى الله عليه وسلم- عندها، فتحدث النبى- صلى الله عليه وسلم- مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو نصفه قعد ينظر إلى السماء فقرأ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها «2» ، ثم صب فى الجفنة «3» ، ثم توضأ وضوآ حسنا بين الوضوءين «4» لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت وتوضأت فقمت عن يساره، فأخذ بأذنى فأدارنى عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فاذنه بلال الصلاة فصلى ولم يتوضأ. وكان يقول فى دعائه: «اللهم اجعل فى قلبى نورا، وفى بصرى نورا، وفى سمعى نورا، وعن يمينى نورا، وعن يسارى نورا، وفوقى نورا وتحتى نورا، وأمامى نورا وخلفى نورا، واجعل لى نورا» «5» ، وزاد بعضهم: وفى لسانى نورا، وذكر: عصبى ولحمى ودمى وشعرى وبشرى «6» .
وفى رواية: فصلى ركعتين خفيفتين، قلت قرأ فيها بأم الكتاب فى كل ركعة، ثم سلم، ثم صلى إحدى عشر ركعة بالوتر ثم نام، فأتاه بلال فقال:
الصلاة يا رسول الله، فقام فركع ركعتين ثم صلى للناس «7» . وفى رواية:
فقام فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه فى كل ركعة
__________
(1) سورة آل عمران: 190.
(2) القربة: إناء من جلد لحفظ الماء والشناق رباط القربة وما تشد به.
(3) الجفنة: القصعة وهى إناء يسع ما يشبع عشرة.
(4) قوله (وضوآ بين وضوءين) وقال ابن حجر: قد فسره بقوله (لم يكثر وقد أبلغ) وهو يحتمل أن يكون قلل الماء مع التثليث أو اقتصر على دون الثلاث.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (6316) فى الدعوات، باب: الدعاء إذا انتبه من الليل، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) تقدم فى الحديث الذى قبله.
(7) صحيح: أخرجه مسلم (763) فى صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/292)
بقدر يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «1» . وفى رواية: فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمانى ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس فيهن. وفى رواية النسائى: أنه صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام حتى استثقل فرأيته ينفخ فأتاه بلال، الحديث.
وفى أخرى له: فتوضأ واستاك وهو يقرأ هذه الآية حتى فرغ منها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ثم صلى ركعتين. ثم عاد فنام حتى سمعت نفخه، ثم قام فتوضأ واستاك ثم صلى ركعتين ثم نام ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين وأوتر بثلاث.
ولمسلم: فاستيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ وهو يقرأ هذه الآيات، ثم أوتر بثلاث «4» .
وأما حديث عائشة فعن سعد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة فقلت:
يا أم المؤمنين، انبئينى عن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: كان خلقه القرآن، قلت: يا أم المؤمنين، أنبئينى عن وتر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقالت: كنا نعد له- صلى الله عليه وسلم- سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلى تسع ركعات ولا يجلس فيها إلا فى الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم فيصلى التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع فى الركعتين مثل صنيعه
__________
(1) سورة المزمل: 1.
(2) سورة البقرة: 164.
(3) سورة البقرة: 164.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (763) وقد تقدم.(3/293)
فى الأول، فتلك تسع يا بنى «1» . رواه مسلم. وللنسائى: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيستاك ويتوضأ ويصلى تسع ركعات، ولا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، ويحمد الله تعالى ويصلى على نبيه ويدعو بينهن ولا يسلم، ثم يصلى ويقعد ويحمد الله تعالى ويصلى على نبيه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين وهو قاعد- زاد فى أخرى:
فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى «2» - فلما أسن- صلى الله عليه وسلم- وأخذه اللحم أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما سلم، فتلك تسع، أى بنى «3» .
وفى رواية له: فصلى ست ركعات يخيل إلىّ أنه سوى بينهن فى القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة، ثم يصلى ركعتين وهو جالس ثم يضع جنبه. وعن عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين «4» . رواه مسلم وأحمد.
وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، ويسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة فى ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين لنا الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة «5» ، رواه أبو داود. وعنها قالت: كان يصلى ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس فى شئ إلا فى آخرها «6» . رواه البخارى ومسلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، والنسائى (1601) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: قيام الليل، وهو جزء من حديث سعد بن هشام أنه لقى ابن عباس فسأله عن الوتر، فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: نعم، قال عائشة ائتها فسلها ... الحديث.
(2) تقدم فى الذى قبله.
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (767) وتقدم فى الذى قبله.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (994) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الوتر، وأبو داود (1336) فى الصلاة، باب: صلاة الليل، من حديث عائشة واللفظ لأبى داود.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (1164) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى ركعتى الفجر، ومسلم (737) فى صلاة المسافرين، باب. صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل من حديث عائشة واللفظ لمسلم.(3/294)
وفى البخارى عن مسروق: سألت عائشة عن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة، سوى ركعتى الفجر «1» . وعنده أيضا، عن القاسم بن محمد، عنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر «2» .
قال القرطبى: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم، حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب. وهذا إنما يتم لو كان الراوى عنها واحدا، وأخبرت عن وقت واحد.
والصواب: أن كل شئ ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة، وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، انتهى. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله. قيل: والحكمة فى عدم الزيادة على إحدى عشرة: أن التهجد، والوتر مختص بصلاة الليل، وفرائض النهار: الظهر وهى أربع، والعصر وهى أربع، والمغرب وهى ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار فى العدد جملة وتفصيلا، وأما مناسبة «ثلاث عشرة» فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها.
انتهى.
وعن زيد بن خالد الجهنى أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الليلة، قال: فصلى ركعتين خفيفتين، ثم ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة «3» . رواه مسلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1139) فى الجمعة، باب: كيف كان صلاة النبى وكم كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1140) فى الجمعة، باب: كيف كان صلاة النبى وكم كان النبى- صلى الله عليه وسلم- من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (765) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (1366) فى الصلاة، باب: فى صلاة الليل، من حديث زيد بن خالد الجهنى- رضى الله عنه-.(3/295)
وقوله: «ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما» أربع مرات، هكذا فى صحيح مسلم وموطأ مالك وسنن أبى داود وجامع الأصول لابن الأثير.
فقد كان قيامه- صلى الله عليه وسلم- بالليل أنواعا.
أحدها: ست ركعات، يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بثلاث، كما فى حديث ابن عباس، عند مسلم.
ثانيها: أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم يتم ورده إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بركعة. رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة.
ثالثها: ثلاث عشرة، كذلك رواه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهنى.
رابعها: ثمانى ركعات، يسلم من كل ركعتين، ثم يوتر بخمس سردا متوالية، لا يجلس إلا فى آخرهن. رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس.
خامسها: تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا فى الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم ينهض ولا يسلم فيصلى التاسعة، ثم يقعد فيحمده ويدعوه ثم يسلم، ثم يصلى ركعتين بعد ما يسلم قاعدا. رواه مسلم من حديث عائشة.
سادسها: يصلى سبعا كالتسع، ثم يصلى بعدها ركعتين جالسا. رواه مسلم أيضا من حديثها.
سابعها: كان يصلى مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن. رواه أحمد عنها.
ثامنها: ما رواه النسائى عن حذيفة أنه صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان، فركع فقال فى ركوعه: «سبحان ربى العظيم» مثل ما كان قائما، ثم(3/296)
جلس يقول: «رب اغفر لى، رب اغفر لى» ، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة «1» .
ورواه أبو داود، ولفظه: أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل فكان يقول: «الله أكبر، ثلاثا، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» ، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول فى ركوعه: «سبحان ربى العظيم» ، ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: «لربى الحمد» ، ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه، فكان يقول فى سجوده: «سبحان ربى الأعلى» ، ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: «رب اغفر لى» ، فصلى أربع ركعات، فقرأ فيهم البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام، شك شعبة «2» .
ورواه البخارى ومسلم بلفظ: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلى بها فى ركعة، فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر باية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: «سبحان ربى العظيم» ، فكان ركوعه نحو قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» - زاد فى رواية: «ربنا لك الحمد» - ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: «سبحان ربى الأعلى» ، فكان سجوده قريبا من قيامه «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 226) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: تسوية القيام والركوع والقيام بعد الركوع والسجود، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-، قال النسائى: هذا حديث عندى مرسل، وقال الألبانى فى «صحيح النسائى» صحيح.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (874) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-.(3/297)
وزاد النسائى: لا يمر باية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكره «1» .
وقد كانت هيئة صلاته- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة:
أحدها: أنه كان أكثر صلاته قائما: فعن حفصة قالت: ما رأيته- صلى الله عليه وسلم- صلى فى سبحته قاعدا «2» ، حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلى فى سبحته قاعدا، الحديث رواه أحمد ومسلم والنسائى وصححه الترمذى.
الثانى: كان يصلى قاعدا ويركع قاعدا. رواه البخارى ومسلم وغيرهما من حديث عائشة بلفظ: وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد «3» .
الثالث: كان يقرأ قاعدا، فإذا بقى يسير من قراءته قام فركع قائما. رواه مسلم من حديث عائشة ولفظه: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى جالسا، ويقرأ وهو جالس فإذا بقى من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل فى الركعة الثانية مثل ذلك «4» .
وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى متربعا «5» . رواه الدار قطنى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى ركعتين بعد الوتر جالسا تارة، وتارة يقرأ فيهما وهو جالس
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 224) فى التطبيق، باب: نوع آخر، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (733) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا، والترمذى (373) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الرجل يتطوع جالسا، والنسائى (1658) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: صلاة القاعد فى النافلة، من حديث حفصة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (730) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا، والترمذى (373) وقد تقدم فى الذى قبله من حديث حفصة.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1119) فى الجمعة، باب: إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقى، ومسلم (731) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) أخرجه النسائى (3/ 224) فى قيام الليل والتطوع بالنهار، باب: كيف صلاة القاعد، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، قال النسائى: لا أعلم أحدا روى هذا الحديث غير أبى داود وهو ثقة ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ، قال الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» : صحيح.(3/298)
فإذا أراد أن يركع قام فركع «1» . قالت عائشة: كان يوتر بواحدة، ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع «2» . رواه ابن ماجه.
وعن أبى أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما إِذا زُلْزِلَتِ «3» والْكافِرُونَ «4» . رواه أحمد:
واختلف فى هاتين الركعتين فأنكرهما مالك وكذا النووى فى المجموع. وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعه. انتهى.
والصواب: أنه إنما فعلهما بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر، وجواز الصلاة جالسا، ولفظة «كان» لا تفيد دواما ولا أكثرية هنا. وغلط من ظنهما سنة راتبة، فإنه- صلى الله عليه وسلم- ما داومهما، ولا تشبه السنة بالفرض حتى يكون للوتر صلاة بعده.
وأما قيامه- صلى الله عليه وسلم- ليلة النصف من شعبان، فعن عائشة- رضى الله عنها- قالت:
قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك فرجعت، فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته، قال: «يا عائشة، أو يا حميراء، أظننت أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قد خاس بك» ، قلت: لا والله يا رسول الله، ولكنى ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك، فقال: «أتدرين أى ليلة هذه؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله عز وجل يطلع على
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1195) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الركعتين بعد الوتر جالسا، من حديث أم سلمة، ولفظه: (أن النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان يصلى بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1196) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الركعتين بعد الوتر جالسا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(3) سورة الزلزلة: 1.
(4) سورة الكافرون: 1.(3/299)
عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كما هم» ، رواه البيهقى من طريق العلاء بن الحارث عنها، وقال:
هذا مرسل جيد، يعنى أن العلاء لم يسمع من عائشة.
وقد ورد فى فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة، لكن ضعفها الأكثرون، وصحح ابن حبان بعضها وخرجه فى صحيحه، ومن أمثلها- كما نبه عليه الحافظ ابن رجب- حديث عائشة قالت: فقدت النبى- صلى الله عليه وسلم- فخرجت فإذا هو بالبقيع، رافع رأسه إلى السماء، فقال: «أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله» ، فقلت: يا رسول الله قد ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: «إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب» «1» . رواه أحمد، وقال الترمذى: إن البخارى ضعفه.
وفى سنن ابن ماجه: بإسناد ضعيف، عن على مرفوعا: «إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر» «2» . وقد كان التابعون من أهل الشام، كخالد بن معدان، ومكحول يجتهدون ليلة النصف من شعبان فى العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال: إنه بلغهم فى ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس، فمنهم من قبله منهم، وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء، وابن أبى مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (739) فى الصوم عن رسول الله، باب: ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، وابن ماجه (1389) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، قال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(2) ضعيف جدّا: أخرجه ابن ماجه (1388) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، قال الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» : ضعيف جدّا أو موضوع.(3/300)
أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة. واختلف علماء أهل الشام فى صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: إنه يستحب إحياؤها جماعة فى المساجد، وكان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون فى المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهواه على ذلك، وقال فى قيامها فى المساجد جماعة ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرمانى فى مسائله.
الثانى: أنه يكره الاجتماع لها فى المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلى الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعى إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم.
ولا يعرف للإمام أحمد كلام فى ليلة النصف من شعبان، ويتخرج فى استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه فى قيام ليلتى العيد، فإنه فى رواية لم يستحب قيامها جماعة، لأنه لم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه فعلها، واستحبها فى رواية لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود لذلك، وهو من التابعين، وكذلك قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شئ عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، إنما ثبت عن جماعة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام. انتهى ملخصا من اللطائف.
وأما قوله تعالى فى سورة الدخان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» فالمراد بها إنزاله تعالى القرآن فى ليلة القدر، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2» وكان ذلك فى شهر رمضان، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3» .
قال الحافظ ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، كما روى
__________
(1) سورة الدخان: 3.
(2) سورة القدر: 1.
(3) سورة البقرة: 185.(3/301)
عن عكرمة، فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها فى رمضان. وأما الحديث الذى رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهرى، أخبرنى عثمان بن محمد بن المغيرة: أن الأخنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«تقطع الأجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد وقد أخرج اسمه فى الموتى» «1» . فهو حديث مرسل، ومثله لا تعارض به النصوص.
انتهى.
وأما قيامه- صلى الله عليه وسلم- فى شهر رمضان، وهو الذى يسمى بالتراويح: جمع روحية، وهى المرة الواحدة من الراحة، وسميت بذلك لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين.
فعن عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر «2» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى.
ولمسلم: قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- يجتهد فى رمضان ما لا يجتهد فى غيره، وفى العشر الأخير منه ما لا يجتهد فى غيره «3» . وفى رواية الترمذى: كان يجتهد فى العشر الأواخر منه ما لا يجتهد فى غيره «4» .
وعنها: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذى صنعتم، ولم
__________
(1) أخرجه ابن زنجويه، والديلمى عن عثمان بن محمد الأخنس كما فى «كنز العمال» (42780) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2024) فى صلاة التراويح، باب: العمل فى العشر الأواخر من رمضان، ومسلم (1174) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1175) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، والترمذى (796) فى الصوم، باب: منه من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) تقدم فى الذى قبله.(3/302)
يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم» ، وذلك فى رمضان «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود.
وفى رواية للبخارى ومسلم، أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج من جوف الليل فصلى فى المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج- صلى الله عليه وسلم- فى الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كان فى الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليه- صلى الله عليه وسلم-، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلا يخرج إليهم، حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد فقال: «أما بعد؛ إنه لم يخف على شأنكم الليلة، ولكنى خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليلة فتعجزوا عنها» «2» . وفى رواية بنحوه ومعناه مختصرا: قال: وذلك فى رمضان.
قال فى فتح البارى: ظاهر الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها، وفى ذلك إشكال بناه بعض المالكية على قاعدتهم: فى أن الشروع ملزم، وفيه نظر.
وأجاب المحب الطبرى: أنه يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه:
إنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم.
وقيل: خشى أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب، قال القرطبى: أى يظنوه فرضا، فيجب على من ظن ذلك، كما إذا ظن المجتهد حل شئ أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1129) فى الجمعة، باب: تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل، ومسلم (761) فى صلاة المسافرين، باب: الترغيب فى قيام رمضان وهو التراويح، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2012) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان ومسلم وقد تقدم فى الذى قبله.(3/303)
وقد استشكل الخطابى أصل هذه الخشية، مع ما ثبت فى حديث الإسراء، من أن الله تعالى قال: (هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدى) فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة، وهذا يدفع فى صدور الأجوبة المتقدمة.
وقد أجاب عنه الخطابى: بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه- صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها- يعنى عند المواظبة- فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك فى الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر، فتجب عليه ولا يلزم من ذلك زيادة فرض فى أصل الشرع.
قال: وفيه احتمال آخر، وهو أن الله تعالى فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم- صلى الله عليه وسلم- منه، لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضا عليهم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تلقى هذين الجوابين عن الخطابى جماعة كابن الجوزى، وهو مبنى على أن قيام الليل كان واجبا على النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفى كل من الأمرين نزاع.
ثم أجاب منه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد فى المسجد جماعة شرطا فى صحة التنفل بالليل، قال: ويومئ إليه قوله فى حديث زيد بن ثابت: «حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس فى بيوتكم» «1» فمنعهم من التجمع فى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (731) فى الأذان، باب صلاة الليل، والنسائى (1599) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الحث على الصلاة فى البيوت والفضل فى ذلك من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه-.(3/304)
المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه فى المواظبة على ذلك فى بيوتهم من افتراضه عليهم.
وثانيها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم فى العيد ونحوها.
وثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع فى حديث الباب أن ذلك كان فى رمضان، وفى حديث سفيان بن حسين «خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر» «1» ، قال: فعلى هذا يرتفع الإشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم فى السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة فى نظرى الأول.
وعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكانوا يسمونه السحور «2» . رواه النسائى. واختلف العلماء:
هل الأفضل فى صلاة التراويح أن تصلى جماعة فى المسجد، أو فى البيوت فرادى؟
فقال الشافعى وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وبعض المالكية وغيرهم:
الأفضل صلاتها جماعة، كما فعل عمر بن الخطاب والصحابة، واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد.
فإن قلت: قد ذكرت أن الحافظ ابن حجر حمل قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (761) وقد تقدم أكثر من مرة ولفظه خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 203) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب قيام شهر رمضان، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(3/305)
خشيت أن تفرض عليكم» على التجميع فى المسجد، وقال: إنه أقوى الأوجه. فالجواب: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما مات حصل الأمن من ذلك، ورجح عمر التجميع لما فى الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحدة أنشط لكثير من المصلين.
وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل صلاتها فرادى فى البيوت، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الصلاة صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة» «1» ، قالوا: وإنما فعلها- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد لبيان الجواز، أو لأنه كان معتكفا.
وأما عدد الركعات التى كان- صلى الله عليه وسلم- يصليها فى رمضان، فعن أبى سلمة أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان؟
قالت: ما كان يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى ثلاثا، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: «يا عائشة، إن عينى تنامان ولا ينام قلبى» «2» . رواه البخارى ومسلم.
وأما ما رواه ابن أبى شيبة من حديث ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فى رمضان عشرين ركعة والوتر «3» ، فإسناده ضعيف. وقد عارضه حديث عائشة هذا، وهى أعلم بحال النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلا من غيرها.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (731) فى الأذان، باب: صلاة الليل، ومسلم (781) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة النافلة فى بيته وجوازها فى المسجد، من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2013) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، ومسلم (738) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2010) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، ومالك فى الموطأ (252) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى قيام رمضان، عن عبد الرحمن بن عبد القارى أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب فى رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون ... فذكره.(3/306)
وقد كان الأمر فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- استمر على أن كل واحد يقوم فى رمضان فى بيته منفردا، حتى انقضى صدر من خلافة عمر.
وفى البخارى: أن عمر خرج ليلة فى رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط، فقال عمر: إنى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أجمع، ثم عزم فجمعهم على أبى بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه، والتى تنامون عنها أفضل من التى تقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. وإنما اختار أبيّا لأنه كان أقرأهم، كما قال عمر.
وروى سعيد بن منصور من طريق عروة: أن عمر جمع الناس على أبى ابن كعب، فكان يصلى بالرجال، وكان تميم الدارى يصلى بالنساء. وفى الموطأ: أمر عمر أبى بن كعب وتميما الدارى أن يقوما للناس فى رمضان «1» .
وروى البيهقى بإسناد صحيح أن الناس كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب فى شهر رمضان بعشرين ركعة.
قال الحليمى: والسر فى كونها عشرين ركعة أن الرواتب فى غير رمضان عشر ركعات، فضوعفت لأنه وقت جد وتشمير.
وفى الموطأ: بثلاث وعشرين «2» . وجمع البيهقى بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث. وفى الموطأ: عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة «3» ، وعند عبد العزيز: إحدى وعشرين.
والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة يقل الركعات وبالعكس.
__________
(1) أخرجه مالك فى «الموطأ» (254) .
(2) أخرجه مالك فى «الموطأ» (255) .
(3) أخرجه مالك فى «الموطأ» (253) .(3/307)
وقد روى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس، قال: أدركت الناس فى إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز- يعنى بالمدينة- يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. وقال مالك: هو الأمر القديم عندنا. وعن الزعفرانى عن الشافعى: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس فى شئ من ذلك ضيق. وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلى. انتهى.
وهل يجوز لغير أهل المدينة صلاتها ستّا وثلاثين، قال النووى: قال الشافعى: لا يجوز ذلك لغيرهم، لأن لأهلها شرفا بهجرته- صلى الله عليه وسلم- ومدفنه، ويخالفه قول الحليمى: ومن اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين فحسن أيضا.
وينبغى أن يسلم من كل ركعتين، فلو صلى أربعا بتسليمة واحدة لم يصح وفاقا للقاضى حسين فى فتاويه، ولو صلى سنة الظهر أو العصر أربعا بتسليمة واحدة جاز، والفرق: أن التراويح بمشروعية الجماعة أشبهت الفرائض، قاله النووى فى فتاويه، وصرح به فى «الروضة» .
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يطيل القراءة فى رمضان بالليل أكثر من غيره. وقد صلى معه حذيفة ليلة فى رمضان، قال: فقرأ بالبقرة ثم بالنساء ثم آل عمران، لا يمر باية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فاذنه بالصلاة «1» . أخرجه أحمد وأخرجه النسائى. وعنده أيضا:
أنه ما صلى إلا أربع ركعات «2» . وكان للشافعى فى رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.(3/308)
الباب الرابع فى صلاته ص الوتر
قد صح عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه أوتر بخمس لم يجلس فى آخرها «1» . لكن أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا. واحتج الحنفية لما ذهبوا إليه- من تعيين الوصل-، والاقتصار على ثلاث- بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما زاد أو نقص، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه.
وتعقبه محمد بن منصور المروزى، بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبى هريرة مرفوعا وموقوفا «لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب» «2» وقد صححه الحاكم، وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث فى الوتر وقال:
لا يشبه التطوع بالفرض. انتهى.
لكن قد روى الحاكم من حديث عائشة أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يوتر بثلاث لا يقعد إلا فى آخرهن «3» ، وروى النسائى من حديث أبى بن كعب نحوه، ولفظه: (يوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «4» وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «5» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «6» ولا يسلم إلا فى آخرهن) «7» وبين فى عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 446) .
(3) سورة الأعلى: 1.
(4) سورة الكافرون: 1.
(5) سورة الإخلاص: 1.
(6) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 447) .
(7) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 235) فى قيام الليل، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبى بن كعب فى الوتر، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(3/309)
والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهى عن التشبيه بصلاة المغرب، أن يحمل النهى على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضا. وروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض إلى الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا فى آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن.
وكان ابن عمر يسلم من الركعة والركعتين فى الوتر. حتى يأمر ببعض حاجته، وهذا ظاهره أنه كان يصلى الوتر موصولا، فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى. وفى هذا رد على من قال: لا يصح الوتر إلا موصولا.
وأصرح من ذلك ما روى الطحاوى من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يفعله، وإسناده قوى. وقد استدل بعضهم على فضل الفصل بأنه- صلى الله عليه وسلم- أمر به وفعله، وأما الوصل فورد من فعله فقط وقد حمل المخالف من الحنفية كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرا من الأحاديث ظاهر فى الفصل، كحديث عائشة «يسلم من كل ركعتين» «1» فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص فى موضع النزاع.
وقد حمل الطحاوى هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك فى دعوى ذلك إلا بالنهى عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شئ، وهو أعم من أن يكون مع الوصل والفصل. وقد اختلف السلف فى أمرين:
أحدهما: فى مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس.
والثانى: فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل فى الليل، هل يكتفى بوتره الأول
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (736) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الليل.(3/310)
ويتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل؟ ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟
أما الأول: فوقع عند مسلم من طريق أبى سلمة عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس «1» . وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعلوا الأمر فى قوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» «2» مختصّا بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن بالركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر. وحمله النووى على أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسا.
وأما الثانى: فذهب الأكثر إلى أنه يصلى شفعا ما أراد ولا ينقض وتره، عملا بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا وتران فى ليلة» «3» وهو حديث حسن أخرجه النسائى وابن خزيمة من حديث طلق بن على، وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر.
واختلف السلف أيضا فى مشروعية قضاء الوتر، فنفاه الأكثر، وفى مسلم عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة «4» .
وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شئ من الأخبار
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (998) فى الجمعة، باب ليجعل آخر صلاته وترا، ومسلم (751) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 229) فى قيام الليل، باب: نهى النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الوترين فى ليلة، وأحمد فى «المسند» (4/ 23) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، والترمذى (445) فى الصلاة، باب: إذا نام عن صلاته بالليل صلى بالنهار، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/311)
أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه، وعن عطاء والأوزاعى: يقضى ولو طلعت الشمس إلى الغروب، وهو وجه عند الشافعى حكاه النووى فى شرح مسلم، وعن سعيد بن جبير: يقضى من القابلة، وعن الشافعية: يقضى مطلقا وقالت عائشة: أوتر- صلى الله عليه وسلم- من كل الليل، من أوله وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى.
والمراد بأوله: بعد صلاة العشاء. ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا، وحيث أوتر فى وسطه لعله كان مسافرا، وأما وتره فى آخره فكان غالب أحواله لما عرف من مواظبته على الصلاة آخر الليل والسحر قبيل الصبح. وحكى الماوردى أنه السدس الأخير، وقيل أوله الفجر الأول. وفى رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس، عند ابن خزيمة: فلما انفجر الفجر قام- صلى الله عليه وسلم- فأوتر بركعة، قال ابن خزيمة والمراد به: الفجر الأول.
وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: «زادنى ربى صلاة وهى الوتر، وقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» «2» . وفى إسناده ضعف، وكذا فى حديث خارجة بن حذافة فى السنن، وهو الذى احتج به من قال بوجوب الوتر، وليس صريحا فى الوجوب.
وأما حديث بريدة رفعه: «الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا- وأعاد ذلك ثلاثا-» «3» . ففى سنده أبو المنيب، وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (996) فى الجمعة، باب: ساعات الوتر، ومسلم (745) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل إن أوتر، والترمذى (456) واللفظ له، فى الصلاة، باب: ما جاء فى الوتر من أول الليل وآخره من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) أخرجه أحمد (5/ 242) بسند فيه ضعف.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1419) فى الصلاة، باب: فيمن لم يوتر من حديث بريدة بن الحصيب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/312)
فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظة «حق» بمعنى واجب فى عرف الشارع، وأن لفظة «واجب» بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد، والله أعلم.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى وعائشة راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظها فتوتر «1» ، كما فى البخارى. وهذا يدل على استحباب الوتر فى آخر الليل، سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره. واستدل به على وجوب الوتر، لكونه- صلى الله عليه وسلم- سلك به مسلك الواجب، حيث لم يدعها نائمة للوتر، وأبقاها للتهجد.
وتعقب: بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكيد أمره بالوتر، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية. وفيه: استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة، ولا يختص ذلك بالمفروضة ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع ذلك لإدراك الجماعة، وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات.
قال القرطبى: ولا يبعد أن يقال: إنه واجب فى الواجب، مندوب فى المندوب، لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال، فهو كالغافل، وتنبيه الغافل واجب والله أعلم.
وعن على: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ فى كل ركعة بثلاث سور آخرهن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» رواه الترمذى. وعن ابن عباس: كان يقرأ فى الوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «4» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «5» فى كل ركعة «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (512) فى الصلاة، باب: الصلاة خلف النائم، ومسلم (512) فى الصلاة، باب: الاعتراض بين يدى المصلى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (460) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الوتر بثلاث، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: ضعيف جدّا.
(3) سورة الأعلى: 1.
(4) سورة الكافرون: 1.
(5) سورة الإخلاص: 1.
(6) صحيح: أخرجه الترمذى (462) فى الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به فى الوتر، والنسائى (3/ 236) فى الصلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/313)
وعن عائشة: كان يقرأ فى الأولى ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» وفى الثانية ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» وفى الثالثة ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «3» و «المعوذتين» «4» . رواه أبو داود والترمذى. ولأبى داود: وكان إذا سلم قال:
«سبحان الملك القدوس» . وعند النسائى: ثلاثا يطيل فى آخرهن «5» ، وفى رواية: «ويرفع صوته بالثالثة «6» . وعن على: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى آخر وتره: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «7» . رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه.
قال ابن تيمية: سنة الفجر تجرى مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى سنة الفجر وفى الوتر بسورتى الإخلاص والكافرون، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «8» متضمنة لتوحيد الاعتقاد
__________
(1) سورة الأعلى: 1.
(2) سورة الكافرون: 1.
(3) سورة الإخلاص: 1.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (463) فى الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به فى الوتر، وابن ماجه (1173) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الوتر، من حديث عائشة قال الترمذى: حسن غريب، قال الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» : صحيح.
(5) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 245) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الدعاء فى الوتر من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(6) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 244) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الدعاء فى الوتر من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (1427) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (3566) فى الدعوات، باب: فى دعاء الوتر، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(8) سورة الإخلاص: 1.(3/314)
والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذى لا يلحقه نقص، ونفى الولد والوالد والكفؤ، المتضمن لنفى الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت إثبات كل كمال ونفى كل نقص عنه، ونفى كل شبيه، وهذه هى مجامع التوحيد العملى والاعتقادى، فلذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر ونهى وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمى، كما خلصته سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» من الشرك العملى. قاله ابن القيم.
وأما القنوت فى الركعة الأخير من الوتر، فى النصف الأخير من شهر رمضان، فقال النووى فى «الأذكار» باستحبابه، ولم يذكر لذلك دليلا. وقد أخرج أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات، لكن أحدهما منقطع، وفى الآخر راو لم يسم: أن عمر لما جمع الناس على أبى بن كعب كان لا يقنت إلا فى النصف الأخير من رمضان.
وعن الحسن بن على قال: علمنى جدى كلمات أقولهن فى الوتر:
«اللهم اهدنى فيمن هديت، وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت وقنى شر ما قضيت، إنك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل ما واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» «2» . وهذا لفظ رواية شريك رواه الطبرانى وغيره.
__________
(1) سورة الكافرون: 1.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، من حديث الحسن بن على- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/315)
الباب الخامس فى ذكر صلاته ص الضحى
وهى معدودة من خصائصه، اختلف الرواة هل صلاها النبى- صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فمنهم المثبت ومنهم النافى. فمن العلماء من رجح رواية المثبت على النافى، جريا على القاعدة المعروفة، لأنها تتضمن زيادة علم خفيت على النافى، قالوا: وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا.
قال الحاكم: وفى الباب عن أبى سعيد، وأبى ذر الغفارى، وزيد بن أرقم، وأبى هريرة، وبريدة الأسلمى، وأبى الدرداء، وعبد الله بن أبى أوفى، وعتبان بن مالك، وعتبة بن عبد السلمى، ونعيم بن همار الغطفانى، وأبى أمامة الباهلى، وعائشة بنت أبى بكر، وأم هانئ، وأم سلمة. كلهم شهدوا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى الضحى. انتهى.
فأما حديث أبى سعيد فأخرجه الحاكم والترمذى عن عطية العوفى عنه قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها «1» . وقال الترمذى: حسن غريب، لكن قال النووى:
عطية ضعيف، فلعله اعتضد. وأما حديث أبى ذر الغفارى، فرواه البزار فى مسنده. وأما حديث زيد بن أرقم، فرواه مسلم بلفظ «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى من الضحى» «2» الحديث. وأما حديث أبى هريرة فرواه البزار فى مسنده بلفظ: «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان لا يترك الضحى فى سفر ولا فى
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (477) فى الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حسن غريب، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (748) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، ولفظه أن زيد بن أرقم رأى قوما يصلون من الضحى فقال: أما لقد علموا أنّ الصلاة فى غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال.(3/316)
غيره «1» . وإسناده ضعيف، فيه يوسف بن خالد السمتى ضعيف جدّا. وأما حديث بريدة الأسلمى فرواه ... » وأما حديث أبى الدرداء فرواه الطبرانى.
وأما حديث ابن أبى أوفى، فرواه ابن عدى والحاكم بلفظ: قال رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبى جهل «2» . قال بعض العلماء النافين لرواية المثبتين: هذا الحديث إن كان صحيحا فهو صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشكره يوم فتح مكة. وأما حديث عتبان بن مالك، فرواه أحمد من رواية محمود بن الربيع عنه، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيته سبحة الضحى.
وأما حديث عتبة بن عبد فرواه ...
وأما حديث نعيم بن همار فرواه ...
وأما حديث أبى أمامة فرواه ...
وأما حديث عائشة فرواه مسلم وأحمد وابن ماجه، قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله «3» . وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة، هل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى قالت:
لا إلا أن يجئ من مغيبه «4» .
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 238، 239) وقال: رواه البزار، وفيه يوسف ابن خالد السمتى، وهو ضعيف.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1391) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الصلاة السجدة عند الشكر، والدارمى (1462) فى الصلاة، باب: فى سجدة الشكر، من حديث ابن أبى أوفى، ولفظه صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الضحى ركعتين، حين بشر بالفتح أو برأس أبى جهل. ولفظ ابن ماجه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بشّر برأس أبى جهل فصلى ركعتين كلاهما عن الشعثاء عن ابن أبى أوفى، والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (719) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وابن ماجه (1381) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) أخرجه أحمد (6/ 171) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/317)
وأما حديث أم هانئ، فرواه البخارى ومسلم، قالت: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمانى ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. قالت فى رواية أخرى: وذلك ضحى «1» . ولمسلم: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيتها عام الفتح ثمانى ركعات فى ثوب واحد، وقد خالف بين طرفيه «2» . وللنسائى: أنها ذهبت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة تستره بثوب. فسلمت فقال:
«من هذه؟» قلت: أنا أم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمانى ركعات ملتحفا فى ثوب واحد «3» . ولأبى داود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثمانى ركعات يسلم من كل ركعتين «4» .
وقد استدل بحديث البخارى ومسلم على استحباب تخفيف صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الضحى فطول فيها، أخرجه ابن أبى شيبة من حديث حذيفة.
وأما حديث أم سلمة فرواه الحاكم من طريق إسحاق بن بشر المحاربى، قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى صلاة الضحى ثنتى عشرة ركعة «5» .
قلت: وروى عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه: أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى ست ركعات «6» . رواه الحاكم أيضا. وعن أنس بن مالك قال: رأيت
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1176) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى السفر، ومسلم (336) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3171) فى الجزية، باب: أمان النساء وجوارهن، ومسلم (336) فى الحيض، باب: ستر المغتسل بثوب ونحوه.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 126) فى الطهارة، باب: ذكر الاستتار عند الاغتسال، من حديث أم هانئ، ولفظه فى ثوب ملتحفا به والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1290) فى الصلاة، باب: صلاة الضحى، من حديث أم هانئ- رضى الله عنها- والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(5) لم أجده فيه.
(6) لم أجده فيه.(3/318)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى السفر سبحة الضحى ثمانى ركعات «1» . رواه أحمد، وصححه ابن خزيمة والحاكم. وعن على: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى من الضحى «2» ، رواه النسائى فى سننه الكبرى وأحمد وأبو يعلى، وإسناده جيد. وعن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان لا يصلى من الضحى إلا يومين، يوم يقدم مكة ويوم يقدم المدينة. وعن أبى بكرة عند ابن عدى فى الكامل من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن عن أبى بكرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى، فجاء الحسن وهو غلام فلما سجد ركب ظهره.
الحديث، وعمرو بن عبيد متروك. وعن جابر بن عبد الله أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ست ركعات رواه الحاكم.
قال الشيخ ولى الدين العراقى: وقد ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال محمد بن جرير الطبرى: إنها بلغت حد التواتر. وقال ابن العربى: وهى كانت صلاة الأنبياء قبل محمد- صلوات الله وسلامه عليه وعليهم-، قال الله تعالى مخبرا عن داود: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «3» فأبقى الله تعالى من ذلك فى دين محمد «العصر» ونسخ صلاة الإشراق.
واحتج القائلون بالنفى بحديث عائشة: إن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم- وما سبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سبحة الضحى فقط، وإنى لأسبحها «4» ، رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود. وبحديث مورق العجلى قال: قلت لابن عمر، أتصلى الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 343) من حديث أم هانئ- رضى الله عنها-.
(2) تقدم من حديث زيد بن أرقم.
(3) سورة ص: 18.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1128) فى الجمعة، باب: تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل، ومسلم (718) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، من حديث عائشة وقد تقدم.(3/319)
قال: لا، قلت: فالنبى- صلى الله عليه وسلم- قال: لا إخاله «1» . رواه البخارى. وقوله:
«لا إخاله» أى لا أظنه، وهو بكسر الهمزة وتفتح أيضا، والخاء معجمة.
وقول الشعبى: سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى. وروى عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة، فإذا الناس فى المسجد يصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم فقال بدعة. وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال بدعة ونعمت البدعة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئا أحب إلى منها.
وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث، بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على أمته فيعجزوا عنها، وكان يفعلها كما صرحت به عائشة كما تقدم، وكما ذكرته أم هانئ وغيرها.
وقول عائشة: «ما رأيته صلاها» لا يخالف قولها: «كان يصليها» لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يكون عندها فى وقت الضحى إلا فى النادر من الأوقات، لأنه قد يكون مسافرا، وقد يكون حاضرا، وفى الحضر قد يكون فى المسجد، وقد يكون فى بيت من بيوت زوجاته، أو غيره، وما رأته صلاها فى تلك الأوقات النادرة، فقالت: ما رأيته، وعلمت بغير رؤية أنه كان يصليها بإخباره- صلى الله عليه وسلم- أو بإخبار غيره، فروت ذلك.
وقول ابن عمر: «لا إخاله» فتوقف، وكأن سبب توقفه أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره. وأما قوله: «إنها بدعة» فمؤولة على أنه لم تبلغه الأحاديث المذكورة، أو أراد أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يداوم عليها، أو أن إظهارها فى المساجد ونحوها بدعة، وإنما هى سنة نافلة فى البيوت والله أعلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1175) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى السفر، من حديث مورق العجلى عن ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/320)
وبالجملة: فليس فى أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى، لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع فى نفس الأمر، أو الذى نفاه صفة مخصوصة كما قدمناه. وقد روى ابن أبى شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوما يصلونها فأنكر عليهم وقال: إن كان ولا بد ففى بيوتكم.
وذهب آخرون إلى استحباب فعلها غبا، فتصلى فى بعض الأيام دون بعض، وكان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام. وذهب آخرون: إلى أنها تفعل لسبب من الأسباب، وأنه- صلى الله عليه وسلم- إنما صلاها يوم الفتح من أجل الفتح، وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح. متمسكين بما قاله القاضى عياض وغيره: أن حديث أم هانئ ليس بظاهر فى أنه- صلى الله عليه وسلم- قصد سنة الضحى، وإنما فيه أنها أخبرت عن وقت صلاته فقط، قال: وقد قيل إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها.
وتعقبه النووى: بأن الصواب صحة الاستدلال به، لما رواه أبو داود من طريق كريب عن أم هانئ أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى سبحة الضحى «1» . ولمسلم: فى كتاب الطهارة من طريق أبى مرة عن أم هانئ فى قصة اغتساله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، ثم صلى ثمانى ركعات سبحة الضحى «2» . وروى ابن عبد البر فى «التمهيد» من طريق عكرمة بن خالد عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة فصلى ثمانى ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: «هذه صلاة الضحى» «3» .
واستدل به على أن أكثر الضحى ثمان ركعات. واستبعده السبكى.
ووجّه بأن الأصل فى العبادة التوقف، وهذا أكثر ما ورد من فعله- صلى الله عليه وسلم-.
وقد ورد من فعله دون ذلك كحديث ابن أبى أوفى: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ركعتين، أخرجه ابن عدى.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) أخرجه ابن عبد البر فى «التمهيد» (8/ 136) .(3/321)
وأما ما ورد من قوله- صلى الله عليه وسلم- مما فيه زيادة على ذلك كحديث أنس مرفوعا: «من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له قصرا فى الجنة» «1» .
أخرجه الترمذى واستغربه وليس فى إسناده من أطلق عليه الضعف. ومن ثم قال الرويانى: أكثرها ثنتا عشرة ركعة. وقال النووى فى شرح المهذب: فيه حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس، لكن إذا ضم إليه حديث أبى الدرداء رفعه، وفيه «ومن صلى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتا فى الجنة» «2» .
رواه الطبرانى وحديث أبى ذر عند البزار، وفى إسناده ضعف أيضا، قوي وصلح للاحتجاج به.
ونقل الترمذى عن أحمد: أن أصح شئ ورد فى الباب حديث أم هانئ، وهو كما قال، ولهذا قال النووى فى الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. ففرق بين الأكثر والأفضل.
وأجاب القائلون بأنها لا تفعل إلا لسبب عن قول أبى هريرة المروى فى البخارى (أوصانى خليلى- صلى الله عليه وسلم- بثلاث، لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى) «3» الحديث، بأنه قد روى أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل، ولهذا أمره أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا سائر الصحابة. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه الوصية لأبى هريرة ورد مثلها لأبى الدرداء
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (473) فى الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث غريب، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (728) فى صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، من حديث أم حبيبة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1178) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى الحضر، ومسلم (721) فى صلاة المسافرين، استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/322)
فيما رواه مسلم، ولأبى ذر فيما رواه النسائى، قال: والحكمة فى الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل فى الواجب منهما بانشراح، ولينجبر ما لعله يقع فيه من نقص. ومن فوائد صلاة الضحى أنها تجزئ عن الصدقة التى تصبح على مفاصل الإنسان فى كل يوم وهى الثلاثمائة وستون مفصلا، كما أخرجه مسلم من حديث أبى ذر، قال فيه: ويجزى عن وذلك ركعتا الضحى.
وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووى فى شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها فى الفضل بين الرواتب والضحى.
وحكى الحافظ أبو الفضل العراقى فى شرح الترمذى: أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثير من الناس يتركها أصلا لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير، لا سيما ما وقع فى حديث أبى ذر واقتصر فى الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة فى الحديث، لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات البدنية، ولم يكن المذكورون من أصحاب الأموال فكان يجزيهم من الصدقة على السلامى، كما فى الحديث والله أعلم.
وروى الحاكم من طريق أبى الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نصلى الضحى بسور منها: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «1» وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ «2» «3» ومناسبة ذلك ظاهرة جدّا والله أعلم.
تنبيه: قال شيخ الإسلام والحفاظ أبو الفضل ابن حجر: قول عائشة فى الصحيح «ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسبح سبحة الضحى» يدل على ضعف ما روى عنه- صلى الله عليه وسلم- أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه. وقد عدها جماعة من العلماء من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. ولم يثبت ذلك فى خبر صحيح.
__________
(1) سورة الشمس: 1.
(2) سورة الضحى: 1، 2.
(3) لم أجده فيه.(3/323)
وقول الماوردى فى «الحاوى» إنه- صلى الله عليه وسلم- واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات. يعكر عليه ما رواه مسلم من حديث أم هانئ: «أنه لم يصلها قبل ولا بعد» ولا يقال إن نفى أم هانئ لذلك يلزم منه العدم، لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة، لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه، انتهى.
وقال ابن العربى فى «عارضة الأحوذى» : أخبرنا أبو الحسن الأزدى أخبرنا طاهر، أخبرنا على، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن عبد الرحمن العسكرى، حدثنا الحسين الختنى، حدثنا أبو غسان حدثنا قيس عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها» «1» . رواه الدار قطنى.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 317) والدار قطنى (4/ 282) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/324)
القسم الثانى فى صلاته ص النوافل وأحكامها وفيه بابان:
الباب الأول فى النوافل المقرونة بالأوقات وفيه فصلان:
الفصل الأول فى رواتب الصلوات الخمس والجمعة
الفرع الأول: فى أحاديث جامعة لرواتب مشتركة
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى قبل الظهر، ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين فى بيته، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وكان لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلى فى بيته ركعتين «1» .
قال: وأخبرتنى حفصة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح، وبدا له الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة «2» . رواه البخارى. فهذه عشر ركعات، لأن الركعتين بعد الجمعة لا يجتمعان مع الركعتين بعد الظهر، إلا لعارض، بأن يصلى الجمعة وسنتها التى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (885) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة وقبلها، ومسلم (1461) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (583) فى الأذان، باب: الأذان بعد الفجر، ومسلم (1184) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما، من حديث حفصة- رضى الله عنها-.(3/325)
بعدها، ثم يتبين له فسادها فيصلى الظهر ويصلى بعدها سنتها كما نبه عليه الشيخ ولى الدين العراقى.
واختلف فى دلالة «كان» على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه، قال: وهذا استفدناه من قولهم: كان حاتم يقرى الضيف، وصحح الإمام فخر الدين فى «المحصول» أنها لا تقتضيه، لا لغة ولا عرفا، وقال النووى فى شرح مسلم، إنه المختار الذى عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين. وذكر ابن دقيق العيد أنها تقتضيه عرفا. فعلى هذا: ففى الحديث دلالة على تكرار هذه النوافل من النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنه كان دأبه وعادته.
وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فى بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج فيصلى بالناس، ثم يدخل فيصلى ركعتين، وكان يصلى بالناس المغرب ثم يدخل فيصلى ركعتين، ثم يصلى بالناس العشاء ويدخل بيتى فيصلى ركعتين، الحديث، وفى آخره: وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين «1» . رواه مسلم، فهذه ثنتا عشرة ركعة. وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة «2» . وفى رواية: لم يكن يتركهما سرّا وعلانية، فى سفر ولا حضر ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر «3» . رواه البخارى ومسلم.
الفرع الثانى: فى ركعتى الفجر
قالت عائشة: لم يكن- صلى الله عليه وسلم- على شئ من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتى الفجر «4» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1201) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1110) فى الجمعة، باب: الركعتين قبل الظهر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (592) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، ومسلم (835) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليها النبى بعد العصر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1162) فى الجمعة، باب: تعاهد ركعتى الفجر ومن سماهما تطوعا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/326)
ولمسلم «لهما أحب إلىّ من الدنيا جميعا» «1» وكان يصليهما إذا سكت المؤذن بعد أن يستنير الفجر ويخففهما «2» . رواه الشيخان وهذا لفظ النسائى.
واختلف فى حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح فى أول الوقت، وبه جزم القرطبى، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يصنع فى صلاة الليل كما تقدم، ليدخل فى الفرض أو ما شابهه فى الفضل بنشاط واستعداد تام.
وقد ذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما، وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن الشعبى، وأورد البيهقى فيه حديثا مرفوعا من مرسل سعيد بن جبير، وفى سنده راو لم يسم، وخص بعضهم ذلك بمن فاته شئ من قراءته فى صلاة الليل، فيستدركها فى ركعتى الفجر، وأخرجه ابن أبى شيبة بسند صحيح عن الحسن البصرى.
كان كثيرا ما يقرأ فى الأولى منهما قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «3» الآية التى فى البقرة، وفى الآخرة قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إلى قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «4» «5» . رواه مسلم وأبو داود والنسائى من رواية ابن عباس.
وفى رواية أبى داود، من حديث أبى هريرة قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «6» فى الركعة الأولى، وبهذه الآية رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (725) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، والترمذى (416) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ركعتى الفجر من الفضل، وقال: حديث عائشة: حديث حسن صحيح.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (724) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) سورة البقرة: 136.
(4) سورة آل عمران: 64.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (727) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى الفجر والحث عليهما، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) سورة البقرة: 136.(3/327)
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» أو إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ «2» قال أبو داود: شك الراوى «3» .
وقال أبو هريرة: قرأ فى ركعتى الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «4» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «5» «6» رواه مسلم وأبو داود والترمذى.
وقد روى ابن ماجه بإسناد قوى، عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى ركعتين قبل الفجر، وكان يقول: «نعم السورتان يقرأ بهما فى ركعتى الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «7» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «8» «9» » .
ولابن أبى شيبة من طريق ابن سيرين عن عائشة: كان يقرأ فيهما بهما.
وللترمذى والنسائى من حديث ابن عمر: رمقت النبى- صلى الله عليه وسلم- شهرا فكان يقرأ بهما «10» .
__________
(1) سورة آل عمران: 53.
(2) سورة البقرة: 119.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (1260) فى الصلاة، باب: فى تخفيفهما، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال الألبانى: حسن وأخرجه البيهقى دون قوله: أو إنا أرسلناك.
(4) سورة الكافرون: 1.
(5) سورة الإخلاص: 1.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (726) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، والنسائى (945) فى الافتتاح، باب: القراءة فى ركعتى الفجر بقل يا أيها الكافرون، وابن ماجه (1448) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(7) سورة الكافرون: 1.
(8) سورة الإخلاص: 1.
(9) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1150) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر، من حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(10) صحيح: أخرجه الترمذى (417) فى الصلاة، باب: ما جاء فى تخفيف ركعتى الفجر-(3/328)
وقد استدل بعضهم بهذا على الجهر بالقراءة فى ركعتى الفجر، ولا حجة فيه، لاحتمال أن يكون ذلك عرف بقراءته بعض السورة، ويدل على ذلك فى رواية ابن سيرين المذكورة: «يسر فيهما القراءة» وصححه ابن عبد البر.
واستدل بعضهم أيضا بهذه الأحاديث المذكورة، على أنه لا تتعين الفاتحة، لأنه لم يذكرها مع سورتى الإخلاص. وأجيب: بأنه ترك الفاتحة لوضوح الأمر فيها. انتهى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى ركعتى الفجر اضطجع على شقه الأيمن «1» .
رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة.
لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب التيمن، وقد قيل: الحكمة فيه أن القلب من جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما، لكونه أبلغ فى الراحة، بخلاف اليمين فيكون القلب معلقا فلا يستغرق، وهذا إنما يصح بالنسبة إلى غيره- صلى الله عليه وسلم- كما لا يخفى.
وأما ما روى أن ابن عمر رأى رجلا يصلى ركعتى الفجر ثم اضطجع فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أردت أن أفصل بين صلاتى فقال له: وأى فصل أفضل من السلام، قال: فإنها سنة، قال: بل بدعة. رواه ابن الأثير فى جامعه عن رزين. وكذا ما روى من إنكار ابن مسعود، ومن قول إبراهيم النخعى: إنها ضجعة الشيطان، كما أخرجهما ابن أبى شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهم الأمر بفعله.
__________
وما كان النبى يقرأ فيهما، وابن ماجه (1149) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، وقال الترمذى: حديث حسن. وقال الألبانى: صحيح فى «صحيح سنن الترمذى» .
(1) صحيح: أخرجه البخارى (636) فى الأذان، باب: من انتظر الإقامة، ومسلم (736) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/329)
وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل، لكن لم يداوم- صلى الله عليه وسلم- عليها، ولذا احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك عند أبى داود وغيره على الاستحباب. وفائدة ذلك: الراحة والنشاط لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للتهجد. وبه جزم ابن العربى. ويشهد لهذا ما رواه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح. وفيه راو لم يسم.
وقيل: فائدتها الفصل بين ركعتى الفجر وصلاة الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص. ومن ثم قال الشافعى: إن السنة تتأدى بكل ما يحصل به الفصل من مشى وكلام وغيره، حكاه البيهقى. وقال النووى: المختار أنه سنة لظاهر حديث أبى هريرة، وقد قال أبو هريرة راوى الحديث: إن الفصل بالمشى إلى المسجد لا يكفى. وأفرط ابن حزم فقال: يجب على كل أحد، وجعله شرطا لصحة صلاة الصبح، فرد عليه العلماء بعده، حتى طعن ابن تيمية فى صحة الحديث لتفرد عبد الواحد بن زياد به، وفى حفظه مقال، والحق: أنه تقوم به الحجة.
وذهب بعض السلف إلى استحبابها فى البيت دون المسجد، وهو محكى عن ابن عمر. وقواه بعض شيوخنا، بأنه لم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه فعله فى المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله فى المسجد، أخرجه ابن أبى شيبة. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من لم يصل ركعتى الفجر، فليصلهما بعد ما تطلع الشمس» «1» رواه الترمذى من رواية أبى هريرة.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (423) فى الصلاة، باب: ما جاء فى إعادتها بعد طلوع الشمس، وعند ابن ماجه (1155) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن فاتته الركعتان قبل صلاة الفجر، ولفظه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نام عن ركعتى الفجر فقضاهما بعد ما طلعت الشمس وكلاهما من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث لا نعرفه، قال الألبانى: فى «صحيح سنن الترمذى» : صحيح.(3/330)
الفرع الثالث: فى راتبة الظهر
عن ابن عمر: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها «1» . رواه البخارى ومسلم والترمذى. وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل صلاة الغداة «2» . رواه البخارى أيضا:
فإما أن يقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى فى بيته صلى أربعا، وإذا صلى فى المسجد صلى ركعتين، وهذا أظهر. وإما أن يقال: كان يفعل هذا وهذا، فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن فى واحد منهما.
وقال أبو جعفر الطبرى: الأربع كانت فى كثير من أحواله، والركعتان فى قليلها. انتهى. وقد يقال: إن الأربع التى قبل الظهر لم تكن سنة الظهر، بل هى صلاة مستقلة، كان يصليها بعد الزوال. وروى البزار من حديث ثوبان: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يستحب أن يصلى بعد نصف النهار، فقالت عائشة:
يا رسول الله، أراك تستحب الصلاة هذه الساعة، قال: «تفتح فيها أبواب السماء، وينظر الله تعالى إلى خلقه بالرحمة، وهى صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى» .
وعن عبد الله بن السائب: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: «إنها ساعة تفتح لها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لى فيها عمل صالح» «3» . رواه الترمذى. وروى الترمذى أيضا حديث
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1253) فى الصلاة، باب: تفريغ أبواب التطوع وركعات السنة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) أخرجه الترمذى (478) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة عند الزوال، من حديث عبد الله بن السائب- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث عبد الله بن السائب حديث حسن غريب. قال الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : حسن الإسناد.(3/331)
«أربع قبل الظهر وبعد الزوال تحسب بمثلهن فى السحر وما من شئ إلا وهو يسبح الله تعالى تلك الساعة» ثم قرأ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ «1» «2» .
فهذه- والله أعلم- هى الأربع التى أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن.
وأما سنة الظهر فالركعتان التى قال ابن عمر. ويوضح هذا أن سائر الصلوات سنتها ركعتان، وعلى هذا فتكون هذه الأربع وردا مستقلا، سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. وسر هذا- والله أعلم- أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس، ويحصل النزول الإلهى بعد انتصاف الليل، فهما وقت قرب رحمة، هذا فيه تفتح أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى عن حركة الأجسام.
الفرع الرابع فى سنة العصر
عن على: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى قبل العصر ركعتين «3» . رواه أبو داود.
وعن على أيضا: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين «4» . رواه الترمذى. وروى مرفوعا أيضا حديث «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا» «5» .
__________
(1) سورة النحل: 48.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3128) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة النحل. من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث غريب، قال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف.
(3) أخرجه أبو داود (1272) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، قال الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» : حسن لكن بلفظ أربع ركعات.
(4) حسن: أخرجه الترمذى (429) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الأربع قبل العصر، والنسائى (874) فى الإمامة، باب: الصلاة قبل العصر. من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه- قال الترمذى: حديث حسن. وقال الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : حسن.
(5) أخرجه أبو داود (1371) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، والترمذى (430) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الأربع قبل العصر، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. قال الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» : صحيح لكن البخارى جعل قوله: فتوفى رسول الله.. من كلام الزهرى.(3/332)
وقالت عائشة: ما كان- صلى الله عليه وسلم- يأتينى فى يومى بعد العصر إلا صلى ركعتين «1» ، وفى رواية: ما ترك ركعتين بعد العصر عندى قط «2» . رواه البخارى ومسلم. ولمسلم: أن أبا سلمة سألها عن السجدتين اللتين كان يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما ونسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعنى داوم عليها «3» . ولأبى داود، قالت: كان يصلى بعد العصر ركعتين وينهى عنهما، ويواصل وينهى عن الوصال «4» .
وقال ابن عباس: إنما صلى- صلى الله عليه وسلم- ركعتين بعد العصر، لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه عن الركعتين اللتين بعد الظهر فقضاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما «5» . رواه الترمذى.
وقالت أم سلمة: سمعته- صلى الله عليه وسلم- ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم سألته عنهما فقال: «إنه أتانى من عبد القيس بالإسلام فشغلونى عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان» ، الحديث. وفيه: أن ابن عباس قال: كنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنهما «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (593) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت، من حديث عائشة وتقدم أكثر من مرة.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (835) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبى بعد العصر. من حديث عائشة وقد تقدم فى الذى قبله.
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1380) فى الصلاة، باب: من رخص فيها إذا كانت الشمس مرتفعة، من حديث عائشة وقد تقدم فى الذى قبله. قال الألبانى فى «صحيح أبى داود» : حسن صحيح.
(5) أخرجه الترمذى (184) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة بعد العصر، من حديث ابن عباس. قال الترمذى: حديث حسن، قال الألبانى فى ضعيف الترمذى ضعيف الإسناد وقوله: ثم لم يعد لهما منكر.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (1233) فى الجمعة، باب: إذا كلم وهو يصلى فأشار بيده واستمع، ومسلم (834) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبى بعد العصر. من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.(3/333)
قال ابن القيم: قضاء السنن الرواتب فى اوقات النهى عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين فى وقت النهى فخاص به، قال: وقد عد هذا من خصائصه. انتهى. والدليل عليه رواية عائشة: كان يصلى ركعتين بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى عن الوصال. لكن قال البيهقى: الذى اختص به- صلى الله عليه وسلم- المداومة على ذلك، لا أصل القضاء.
وأما رواية ابن عباس عند الترمذى: أنه إنما صلاهما بعد العصر لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه. فهو من رواية جرير عن عطاء، وقد سمع منه بعد اختلاطه، وإن صح فهو شاهد لحديث أم سلمة، لكن ظاهر قوله: «ثم لم يعد» معارض لحديث عائشة المذكور فى الباب، فيحمل النفى على نفى علم الراوى، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافى.
وكذا ما رواه النسائى من طريق أبى سلمة، عن أم سلمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة «1» ، الحديث، وفى رواية له عنها: لم أره يصليهما قبل ولا بعد. فيجمع بين الحديثين بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصليهما إلا فى بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة فى رواية: «وكان لا يصليهما فى المسجد مخافة أن يثقل على أمته» «2» .
ومراد عائشة بقولها: «ما كان فى يومى بعد العصر إلا صلى ركعتين» من الوقت الذى شغل عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما. ولم ترد أنه كان يصلى بعد العصر من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى آخر عمره، والله أعلم.
الفرع الخامس فى راتبة المغرب
عن ابن مسعود قال: ما أحصى ما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 281) فى المواقيت، باب: الرخصة فى الصلاة بعد العصر، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (590) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/334)
الركعتين بعد المغرب، وفى الركعتين قبل صلاة الفجر ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» «3» رواه الترمذى. وعن ابن عباس:
كان- صلى الله عليه وسلم- يطيل القراءة فى الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد «4» ، رواه أبو داود.
وكان أصحابه- عليه السّلام- يصلون ركعتين قبل المغرب قبل أن يخرج إليهم- صلى الله عليه وسلم- «5» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود من حديث أنس. وفى رواية أبى داود، قال أنس: رآنا- صلى الله عليه وسلم- فلم يأمرنا ولم ينهنا «6» . وقال عقبة: كنا نفعله على عهده، - صلى الله عليه وسلم-. رواه البخارى ومسلم.
وظاهره: أن الركعتين بعد الغروب وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر أصحابه عليه، وعملوا به، وهذا يدل على الاستحباب، وأما كونه- صلى الله عليه وسلم- لم يصلهما فلا ينفى الاستحباب، بل يدل على أنهما ليسا من الرواتب، وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث. وعن ابن عمر: ما رأيت أحدا يصليهما على عهده- صلى الله عليه وسلم-. وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما. فادعى بعض المالكية نسخهما، وتعقب:
__________
(1) سورة الكافرون: 1.
(2) سورة الإخلاص: 1.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (431) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. قال الترمذى: حديث غريب، وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : حسن صحيح.
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1301) فى الصلاة، باب: ركعتى المغرب أين تصليان. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(5) صحيح: أخرجه البخارى (625) فى الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، ولفظه: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- يبتدرون السوارى حتى يخرج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شئ.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (836) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، وأبو داود (1282) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل المغرب. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.(3/335)
بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، ورواية المثبت- وهو أنس- تقدم على رواية النافى- وهو ابن عمر.
وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين. وعن مالك قول آخر باستحبابها، وهو عند الشافعية وجه رجحه النووى ومن تبعه، وقال فى شرح مسلم: قول من قال: «إن فعلهما يؤدى إلى تأخير المغرب عن أول وقتها» خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء» «1» . خشية أن يتخذها الناس سنة. رواه أبو داود. قال المحب الطبرى: لم يرد نفى استحبابهما، لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابهما. ومعنى قوله: «سنة» أى شريعة وطريقة لازمة. وكأن المراد انحطاط مرتبتهما عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدهما أكثر الشافعية فى الرواتب، واستدركهما بعضهم. وتعقب: بأنه لم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- واظب عليهما.
وقال- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة بعد المغرب: «هذه صلاة البيوت» «2» ، رواه أبو داود والنسائى من حديث كعب بن عجرة. وعنه- صلى الله عليه وسلم-: «من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم رفعت صلاته فى عليين» . رواه رزين.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1183) فى الجمعة، باب: الصلاة قبل المغرب، وأبو داود (1281) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل المغرب. من حديث عبد الله المزنى- رضى الله عنه-.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (1300) فى الصلاة، باب: ركعتى المغرب أين تصليان، والترمذى (604) فى الجمعة، باب: ما ذكر بعد صلاة المغرب أنه فى البيت أفضل، والنسائى (1600) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الحث على الصلاة فى البيوت والفضل فى ذلك. من حديث كعب بن عجرة- رضى الله عنه- والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح أبى داود» .(3/336)
الفرع السادس فى راتبة العشاء
قالت عائشة: ما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العشاء قط فدخل بيتى إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات «1» . رواه أبو داود. وفى مسلم قالت عائشة: ثم يصلى بالناس العشاء فيدخل بيتى فيصلى ركعتين «2» . وكذا فى حديث ابن عمر عند الشيخين. وتقدما أول هذا القسم، والله أعلم.
الفرع السابع فى راتبة الجمعة
عن عبد الله بن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين فى بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلى ركعتين «3» . رواه البخارى ولم يذكر شيئا فى الصلاة قبل صلاة الجمعة.
قال ابن المنير- كما حكاه فى فتح البارى-: كأنه يقول الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه، لأن الجمعة بدل الظهر.
وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد ذكر الظهر من أجل أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى سنة الجمعة فى بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها فى المسجد خشية أن يظن أنها التى حذفت. انتهى.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1303) فى الصلاة، باب: الصلاة بعد العشاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (730) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (937) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة وقبلها من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، ومسلم (729) فى صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/337)
وعلى هذا فينبغى أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها فى المسجد لهذا المعنى. وقد روى أبو داود وابن حبان من طريق أيوب عن نافع قال:
كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلى بعدها ركعتين فى بيته، ويحدث أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك، وقد احتج به النووى فى «الخلاصة» على إثبات سنة الجمعة التى قبلها.
وتعقب: بأن قوله: «كان يفعل ذلك» عائد على قوله: «ويصلى بعد الجمعة ركعتين فى بيته» ، ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين فى بيته ثم قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك. رواه مسلم.
وأما قوله: «كان يطيل الصلاة قبل الجمعة» فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التى قبلها، بل هو تنفل مطلق.
وقد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها، وبالغوا فى الإنكار منهم:
الإمام شهاب الدين أبو شامة، لأنه لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه- صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة. قال ابن العراقى: ولم أر فى كلام الفقهاء من الحنفية والمالكية استحباب سنة الجمعة التى قبلها. انتهى. وقد ورد فى سنة الجمعة التى قبلها أحاديث أخرى ضعيفة، منها عن أبى هريرة، رواه البزار، ولفظه:
كان يصلى قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا.
وأقوى ما يتمسك به فى مشروعية الركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا: «ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان» «1» . قاله فى فتح البارى.
__________
(1) ذكره ابن حجر فى «الفتح» (2/ 427) وعزاه لابن حبان فى صحيحه من حديث عبد الله ابن الزبير- رضى الله عنهما-.(3/338)
وعن عطاء قال: كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين ثم يتقدم فيصلى أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فيصلى ركعتين ولم يصل فى المسجد، فقيل له: فقال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعله «1» . رواه أبو داود.
وفى رواية الترمذى: قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين ثم صلى بعد ذلك أربعا «2» . وعن ابن عمر أيضا قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى بعد الجمعة ركعتين «3» . رواه النسائى، وفى رواية أنه كان يصلى بعد الجمعة ركعتين فى بيته «4» . وفى أخرى: أن ابن عمر كان يصلى بعد الجمعة ركعتين يطيل فيهما ويقول: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعله «5» .
وتقدم حديث دخول سليك الغطفانى يوم الجمعة، وهو- صلى الله عليه وسلم- يخطب، وقوله- صلى الله عليه وسلم- له: «صليت؟» قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» . مع ما فيه من المباحث فى صلاة الجمعة.
الفصل الثانى فى صلاته ص العيدين
وفيه فروع:
__________
(1) أخرجه أبو داود (1127) فى الصلاة، باب: الصلاة بعد الجمعة، والنسائى (3/ 113) فى الجمعة، باب: إطالة الركعتين بعد الجمعة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى فى «صحيح أبى داود» : صحيح المرفوع منه.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (523) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الصلاة قبل الجمعة وبعدها، عن عطاء عن ابن عمر- رضى الله عنهما-. قال الترمذى: حسن صحيح. وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : صحيح.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (882) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. من حديث ابن عمر وقد تقدم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (882) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. وقد تقدم.
(5) تقدم.(3/339)
الفرع الأول فى عدد الركعات
عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء وبلال معه، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بخرصها «1» وسخابها «2» «3» . وفى رواية: خرج يوم أضحى أو فطر «4» . وفى أخرى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى يوم الفطر ركعتين «5» . الحديث رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى.
الفرع الثانى فى عدد التكبير
عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يكبر فى الفطر والأضحى، فى الأولى سبع تكبيرات، وفى الثانية: خمس تكبيرات «6» . زاد فى رواية: سوى تكبير الإحرام والركوع «7» .
وعن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كبر فى
__________
(1) الخرص: القرط بحبة واحدة وقيل هى الحلقة من الذهب والفضة. انظر لسان العرب (4/ 63) مادة (خرص) .
(2) السخاب: قلادة تتخذ من قرنفل ومسك ومحلب ليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شئ: قال ابن الأثير: السخاب: هو خيط ينظم فيه خرز تلبسه الصبيان والجوارى. انظر لسان العرب (2/ 201) مادة (سخب) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (164) فى الجمعة، باب: الخطبة بعد العيد، عن ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (304) فى الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (964) فى الجمعة، وقد تقدم.
(6) أخرجه مالك فى الموطأ (434) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى التكبير والقراءة فى صلاة العيدين. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(7) أخرجه البيهقى (3/ 289) عن أبى موسى وحذيفة بلفظ سوى تكبيرة الافتتاح والركوع.(3/340)
العيدين، فى الأولى سبعا قبل القراءة، وفى الآخرى خمسا قبل القراءة «1» .
رواه الترمذى وابن ماجه والدارمى.
الفرع الثالث فى الوقت والمكان
عن أبى سعيد الخدرى قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شئ يبدأ به الصلاة «2» . الحديث رواه البخارى ومسلم. وفى هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من صلاتها فى المسجد، لمواظبته- صلى الله عليه وسلم- على ذلك، مع فضل مسجده، وعلى هذا عمل الناس فى الأمصار. وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا فى المسجد من الزمن الأول. ولأصحابنا الشافعية وجهان: أحدهما: الصحراء أفضل لهذا الحديث، والثانى: وهو الأصح عند أكثرهم، المسجد أفضل إلا أن يضيق، قالوا: وإنما صلى أهل مكة فى المسجد لسعته، وإنما خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- لضيق المسجد، فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع، والمراد بالمصلى المذكور، الذى على باب المدينة الشرقى.
قال ابن القيم: ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة واحدة، أصابهم مطر فصلى بهم العيد فى المسجد، إن ثبت الحديث، وهو فى سنن أبى داود وابن ماجه. انتهى. ولفظ أبى داود: عن أبى هريرة قال: أصابنا مطر فى يوم فطر فصلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد. زاد رزين: ولم يخرج بنا إلى المصلى «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (536) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التكبير فى العيدين، وابن ماجه (1277) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى كم يكبر الإمام فى صلاة العيدين. من حديث سعد بن عائذ ولقبه القرظ، وصححه الألبانى.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (956) فى الجمعة، باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1160) فى الصلاة، باب: يصلى بالناس فى المسجد إذا كان يوم مطر، وابن ماجه (1313) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة العيد فى المسجد إذا كان مطر، والحديث ضعيف إسناده الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/341)
الفرع الرابع فى الأذان والإقامة
عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة «1» . رواه مسلم وأبو داود والترمذى. وعن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى العيد بلا أذان ولا إقامة «2» . رواه أبو داود.
الفرع الخامس فى قراءته ص فى صلاة العيدين
عن أبى واقد الليثى قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الأضحى والفطر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «3» واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «4» «5» .
رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذى. وعن النعمان بن بشير قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى العيدين وفى الجمعة ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «6» وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «7» . وربما اجتمعا فى يوم واحد فقرأ بهما «8» . رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (887) فى صلاة العيدين، والترمذى (532) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة العيدين بغير أذان ولا إقامة. من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (885) فى صلاة العيدين، من حديث جابر بن عبد الله، وأبو داود (1147) فى الصلاة، باب: ترك الأذان فى العيد. من حديث ابن عباس.
(3) سورة ق: 1.
(4) سورة القمر: 1.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1154) فى الصلاة، باب: ما يقرأ فى الأضحى والفطر، ومالك فى الموطأ (433) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى التكبير والقراءة فى صلاة العيدين، من حديث أبى واقد الليثى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) سورة الأعلى: 1.
(7) سورة الغاشية: 1.
(8) صحيح: أخرجه أبو داود (1125) فى الصلاة، باب: ما يقرأ به فى الجمعة. من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/342)
الفرع السادس فى خطبته ص وتقديمه صلاة العيدين عليها
عن ابن عمر: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة «1» . رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى. وعن جابر: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة «2» .
وفى رواية: قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه تلقى فيه النساء الصدقة «3» .
وفى أخرى، قال: شهدت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: «تصدقن، فإن أكثر كن حطب جهنم» ، فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: «لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير» . قال: فجعلن يتصدقن من حليهن ويلقين فى ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن «4» . رواه البخارى ومسلم.
وفى رواية أبى سعيد الخدري عند البخارى: فأول شئ يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشئ أمر به، ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (963) فى الجمعة، باب: الخطبة بعد العيد، ومسلم (888) فى صلاة العيدين. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (9580) فى الجمعة، باب: المشى والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة، ومسلم (885) فى صلاة العيدين. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (961) فى الجمعة، باب: المشى والركوب إلى العيد، ومسلم (884) فى صلاة العيدين. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(4) تقدم فى الذى قبله.(3/343)
وهو أمير المدينة فى أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه، فقلت له: غيرتم والله. الحديث «1» .
ولابن خزيمة: خطب- صلى الله عليه وسلم- يوم عيد على رجليه «2» . وهذا يشعر بأنه لم يكن فى المصلى فى زمانه- صلى الله عليه وسلم- منبر، ويدل على ذلك قول أبى سعيد:
«فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان» ومقتضاه أن أول من اتخذه مروان.
ووقع فى المدونة للإمام مالك: أن أول من خطب الناس فى المصلى على منبر عثمان بن عفان، كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، لكنه معضل، وما فى الصحيحين أصح، فقد رواه مسلم من طريق داود بن قيس نحو رواية البخارى. ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان ولم يطلع على ذلك أبو سعيد. قاله شيخ الإسلام ابن حجر- رحمه الله تعالى-.
الفرع السابع فى أكله ص يوم الفطر قبل خروجه إلى الصلاة
عن أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات «3» . رواه البخارى وقال: مرجأ بن رجاء حدثنى عبيد الله حدثنى أنس عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: ويأكلهن وترا «4» . ورواه الحاكم من رواية عتبة بن حميد
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (956) فى الجمعة، باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر، من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1288) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الخطبة فى العيدين. من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (953) فى الجمعة، باب: الأكل يوم الفطر قبل الخروج. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(4) تقدم فى الذى قبله.(3/344)
عنه بلفظ: ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات، ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا «1» .
قال المهلب: الحكمة فى الأكل قبل الصلاة، أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلى العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة.
وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، أشار إلى ذلك ابن أبى جمرة.
وقيل: لأن الشيطان الذى يحبس فى رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد فاستحب تعجيل الفطر بدارا إلى السلامة من وسوسته.
والحكمة فى استحباب التمر لما فى الحلو من تقوية البصر الذى يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به فى المنام، ويرق القلب، ومن ثم استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا كالعسل. رواه ابن أبى شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما.
وفى الترمذى والحاكم من حديث بريدة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلى «2» ، ونحوه عند البزار عن جابر بن سمرة. وروى الطبرانى والدار قطنى من حديث ابن عباس قال: من السنة أن لا يخرج يوم الفطر حتى يخرج الصدقة ويطعم شيئا قبل أن يخرج «3» . وفى كل من الأسانيد الثلاثة مقال.
وقد أخذ أكثر الفقهاء بما دلت عليه، قال ابن المنير: وقع أكله- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 162) بلفظ يأكلهن إفرادا، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (542) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الأكل يوم الفطر قبل الخروج. من حديث بريدة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) أخرجه الدار قطنى (2/ 153) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/345)
فى كل من العيدين فى الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها، فاجتمعا من جهة، وافترقا من أخرى.
وقال الشافعى فى الأم: بلغنا عن الزهرى قال: ما ركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عيد ولا جنازة قط «1» . وفى الترمذى عن على قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا «2» ، وفى ابن ماجه عن سعد القرظى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى العيد ماشيا «3» ، وفيه عن أبى رافع نحوه، وأسانيد الثلاثة ضعاف.
وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد فى طريق رجع فى غيره «4» . رواه الترمذى.
وقد اختلف فى معنى ذلك على أقوال كثيرة، قال الحافظ ابن حجر:
اجتمع لى منها أكثر من عشرين، وقد لخصتها وبينت الواهى منها.
فمن ذلك: أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوى بينهما فى مزية الفضل بمروره وفى التبرك، أو ليشم رائحة المسك من الطريق التى يمر بها لأنه كان معروفا بذلك. وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين، فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها. وهذا يحتاج إلى دليل.
وقيل: لإظهار شعائر الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل:
__________
(1) قاله الشافعى فى «الأم» (1/ 233) ، ونقله عنه الحافظ فى «الفتح» (2/ 451) .
(2) حسن: أخرجه الترمذى (530) فى الجمعة، باب: ما جاء فى المشى يوم العيد، من حديث على ولفظه من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيا ... الحديث. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) حسن: أخرجه ابن ماجه (1294) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الخروج إلى العيد ماشيا. من حديث سعيد بن عائظ ولقبه القرظ. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى صحيح ابن ماجه.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (541) فى الجمعة، باب: ما جاء فى خروج النبى إلى العيد فى طريق ورجوعه فى طريق. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/346)
ليغيظ المنافقين أو اليهود، وقيل حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما، وقيل ليعمهم بالسرور به أو التبرك بمروره والانتفاع به فى قضاء حوائجهم فى الاستفتاء أو التعليم والاقتداء، والاسترشاد والسلام عليهم أو غير ذلك، وقيل ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضا، وقيل: كان يتصدق فى ذهابه فإذا رجع لم يبق معه شئ فيرجع فى طريق آخر لئلا يرد من يسأله. وهذا ضعيف جدّا مع احتياجه إلى دليل.
وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام، وهذا رجحه الشيخ أبو حامد، وقيل كان طريقه التى يتوجه منها أبعد من التى يرجع فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطا فى الذهاب، وأما فى الرجوع فيسرع إلى منزله، وهذا اختيار الرافعى. وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطا فى الرجوع أيضا، كما ثبت فى حديث أبى بن كعب عند الترمذى وغيره، وقيل: لأن الملائكة تقف فى الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم. وقال ابن أبى جمرة: هو فى معنى قول يعقوب لبنيه: لا تدخلوا من باب واحد، فأشار إلى أنه فعل حذر إصابة العين. انتهى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور والحيض فى العيدين، فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين. قالت إحداهن: يا رسول الله إحدانا لم يكن لها جلباب، قال: «فلتعرها أختها من جلابيبها» «1» . رواه البخارى ومسلم والترمذى واللفظ له.
ولا دلالة فيه على وجوب صلاة العيد، لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف، فظهر أن القصد منه إظهار شعائر الإسلام بالمبالغة فى الاجتماع، ولتعم الجميع البركة.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (539) فى الجمعة، باب: ما جاء فى خروج النساء فى العيدين. من حديث أم عطية- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/347)
وفيه: استحباب خروج النساء إلى شهود العيد، سواء كن شواب أم لا، أو ذوات هيئات أم لا، لكن نص الشافعى فى الأم يقتضى استثناء ذوات الهيئات. قال: وأحب شهود العجائز غير ذوات الهيئات الصلاة. وأما شهودهن الأعياد فأشد استحبابا.
وادعى بعضهم النسخ فيه، وقال الطحاوى: وأمره- صلى الله عليه وسلم- بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون فى أول الإسلام، والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو. وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك.
وتعقب: بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد صرح فى حديث أم عطية بعلة الحكم، وهى شهودهن الخير ودعوة المسلمين، ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- بمدة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها فى ذلك.
وأما قول عائشة: «لو رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء لمنعهن المساجد» «1» فلا يعارض ذلك لندوره، إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه، مع أن الدلالة منه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة.
وفى قول الطحاوى: «إرهابا للعدو» نظر، لأن الاستنصار بالنساء والتكثير بهن فى الحرب دال على الضعف. والأولى: أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة، فلا يترتب على حضورها محظور، ولا تزاحم الرجال فى الطرق ولا فى المجامع، قاله فى فتح البارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يخرج العنزة يوم الفطر والأضحى يكرزها فيصلى إليها «2» . رواه النسائى وغيره.
__________
(1) أخرجه مالك فى الموطأ (468) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى خروج النساء إلى المساجد، وأحمد (6/ 91) عن عائشة- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (973) فى الجمعة، باب: حمل العنزة أو الحربة بين يدى الإمام يوم العيد، ومسلم (501) فى الصلاة، باب: سترة المصلى. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/348)
وإذا علمت هذا فاعلم أن للمؤمنين فى هذه الدار ثلاثة أعياد، عيد يتكرر كل أسبوع، وعيدان يأتيان فى كل عام مرة من غير تكرار فى السنة.
فأما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات من الله تعالى فشرع لهم فيه عيدا. وأما العيدان اللذان لا يتكرران فى كل عام، وإنما يأتى كل واحد منهما فى العام مرة واحدة.
فأحدهما: عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مرتب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون صيام شهر رمضان المفروض عليهم استوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار، فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنب، وآخره عتق من النار يعتق الله فيه من النار من استحقها بذنوبه، فشرع الله تعالى لهم عقب صيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله تعالى وذكره وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم فى ذلك العيد الصلاة والصدقة، وهو يوم الجوائز يستوفى فيه الصائمون أجر صيامهم ويرجعون بالمغفرة.
والعيد الثانى عيد النحر: وهو أكبر العيدين وأفضلهما، وهو مرتب على إكمال الحج وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم، وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، فإن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذى يليه عيدا لجميع المسلمين فى جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهد، لاشتراكهم فى العتق والمغفرة يوم عرفة، وشرع للجميع التقرب إليه تعالى بالنسك بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك اليوم شكرا منهم لهذه النعمة، والصلاة والنحر الذى يجتمع فى عيد النحر أفضل من الصلاة والصدقة فى عيد الفطر، ولهذا أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر أن يصلى لربه وينحر.
وقد ضحى- صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر.(3/349)
رواه البخارى من حديث أنس، قال: ورأيته واضعا قدميه على صفاحهما، يقول: «بسم الله والله أكبر» «1» . وعن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بكبش يطأ فى سواد «2» ، ويبرك فى سواد «3» ، فأتى به ليضحى به، قال: «يا عائشة، هلمى المدية» ، ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، قال: «بسم الله اللهم تقبل عن محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحى به «4» . رواه مسلم.
وعن جابر: ذبح النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين «5» ، فلما وجههما قال: «إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض، على ملة إبراهيم حنيفا، وما أنا من المشركين، إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر» ثم ذبح «6» .
رواه البخارى وأبو داود وابن ماجه والدارمى.
وفى رواية لأحمد والترمذى: ذبح بيده وقال: «بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا عنى وعمن لم يضح من أمتى» «7» . فهذه أعياد المسلمين فى
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (1521) فى الأضاحى، باب: العقيقة بشاة، من حديث جابر ابن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) يطأ فى سواد: أى قوائمه سود.
(3) يبرك فى سواد: أى أن ملاقى محل بروكه على الأرض من بدنه أسود.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1967) فى الأضاحى، باب: استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل، وأبو داود (2792) فى الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) موجوءين: يعنى منزوع الخصيتين.
(6) ضعيف: أخرجه أبو داود (2795) فى الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا، من حديث جابر بن عبد الله وأصله فى الصحيح من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(7) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 356) ، والترمذى (1521) فى الأضاحى، باب: العقيقة بشاة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/350)
الدنيا، وكلها عند إكمال طاعات مولاهم الملك الوهاب، وحيازتهم لما وعدهم من جزيل الأجر والثواب، فليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، وليس العيد لمن تجمل باللباس والمركوب، وإنما العيد لمن غفرت له الذنوب، فى ليلة العيد تفرق خلع العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شئ فهو له عيد، وإلا فهو مطرود بعيد.
وأما أعياد المؤمنين فى الجنة، فهى أيام زيارتهم ربهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غاية الإكرام، ويتجلى لهم فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك وهو الزيارة، فليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه.
إن يوما جامعا شملى بهم ... ذاك عيدى ليس لى عيد سواه
الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسباب
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول فى صلاته ص الكسوف
الكسوف لغة التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس: إذا اسودت وذهب شعاعها. عن قبيصة بن المخارق قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت، ثم قال: «إنما هذه الآية يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا» «1» . رواه أبو داود والنسائى.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1185) فى الصلاة، عن قبيصة الهلالى وأصله فى الصحيح من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/351)
وفى قوله: - صلى الله عليه وسلم- «يخوف الله بها عباده» رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادى لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن فى ذلك تخويف.
وقد رد عليهم ابن العربى وغيره، بما فى حديث أبى موسى عند البخارى، حيث قال فيه: «فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة» قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة معنى، يعنى كما فى حديث أسماء عند البخارى «لقد أمر النبى- صلى الله عليه وسلم- بالعتاقة فى كسوف الشمس» «1» وكما عنده أيضا من حديث عائشة مرفوعا: «فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا» «2» فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كلما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يندفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف.
ومما نقض به ابن العربى وغيره أنهم يزعمون: أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما فى العقدتين. فقال: «هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر فى الجرم فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله؟ أم كيف يظلم الكثير بالقليل لا سيما وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس.
وقد وقع فى حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائى وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، بلفظ: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى بشئ من خلقه خشع له» «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1054) فى الجمعة، باب: من أحب العتاقة فى كسوف الشمس، من حديث أسماء- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1044) فى الجمعة، باب: الصدقة فى الكسوف. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1063) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف القمر، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وليس فيها وأن الله إذا تجلى لشىء من خلقه خشع له.(3/352)
وقد استشكل الغزالى هذه الزيادة، وقال: أنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة.
وقال ابن بزبزة: وهذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كرى الشكل، وظاهر الشرع يعطى خلاف ذلك والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق فى هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقيف على سبب أو ربط باقتران، والحديث الذى رده الغزالى قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا، لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسى، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا «1» ، انتهى.
ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت، وقال: هى أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذى يذكره أهل الحساب ينافى قوله: «يخوف الله به عباده» ، وليس بشئ، لأن لله تعالى أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم فى عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شئ غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجرى عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله: أن الذى يذكره أهل الحساب إن كان حقّا فى نفس الأمر لا ينافى كون ذلك مخوفّا لعباد الله تعالى. قاله فى فتح البارى.
وعن ابن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) سورة الأعراف: 143.(3/353)
فقام قياما طويلا، نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون قيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله» ، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا فى مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ قال: «إنى رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء» ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن» ، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط» «1» . رواه البخارى ومسلم.
وقوله: «ورأيت الجنة والنار» قال القاضى عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين، كشف الله له عنهما، وأزال الحجاب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فى عرض هذا الحائط» - كما فى رواية-: فى جهته وناحيته، ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحى باطلاعه وتعريفه من أمورهما مفصلا ما لم يعرفه قبل ذلك اليوم. قال القاضى: والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار. انتهى.
واستشكل قوله: «ولو أصبته» مع قوله: «تناولت» . وأجيب: بحمل «التناول» على تكلف الأخذ، لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسى ولو أخذته لكم، حكاه الكرمانى، قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، وقيل: المراد بقوله تناولت: وضعت يدى عليه، بحيث كنت قادرا على
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1052) فى الجمعة، باب: صلاة الكسوف جماعة، ومسلم (907) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الكسوف. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/354)
تحويله، لكن لم يقدر لى قطفه، ولو أصبته، أى لو تمكنت من قطفه، ويدل عليه من قوله فى حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة «أهوى بيده ليتناول شيئا» وفى حديث أسماء عند البخارى «حتى لو اجترأت عليه» وكأنه لم يؤذن له فى ذلك فلم يجترئ عليه. قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى.
وفى حديث أسماء بنت أبى بكر، عند البخارى ومسلم ومالك والنسائى قال: ما من شئ كنت لم أره إلا رأيته فى مقامى هذا حتى الجنة والنار، ولقد أوحى إلىّ أنكم تفتنون فى قبوركم، مثل أو قريبا- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- من فتنة المسيح الدجال. يؤتى أحدكم فى قبره فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثا، فيقال: نم صالحا، قد علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق أو المرتاب- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: لا أدرى، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
وفى رواية: فرأى امرأة تخدشها هرة، ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا. وفى رواية: فرأى عمرو بن مالك يجر قصبه فى النار، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج يعذب «1» .
قوله: «قصبه» بضم القاف وسكون الصاد، أى أمعاءه. وفى رواية عائشة: ثم قال: «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ألا هل بلغت» «2» .
أى لو تعلمون من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1053) فى الجمعة، باب: صلاة النساء مع الرجال فى الكسوف، من حديث أسماء بنت أبى بكر، - رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: وقد تقدم.(3/355)
القيامة ما أعلم، وما بعدها. كما علمت وترون النار كما رأيت فى مقامى هذا وفى غيره لبكيتم كثيرا، ولقلّ ضحككم لتفكركم فيما علمتوه. وفى حديث عائشة عند البخارى. فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبرنا فاقترأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال:
«سمع الله لمن حمده» فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة، وهى أدنى من القراءة الأولى، وزاد فى رواية: «ربنا ولك الحمد» «1» .
واستدل به على استحباب الذكر المشروع فى الاعتدال فى أول القيام الثانى من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخرى الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع فى كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكى خالف فيه.
والجواب: إن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله فيها كان مشروعا، لأنها أصل برأسها. وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة، حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف أشبه شئ بصلاة العيد ونحوها، مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به.
وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة فى القيام وغيره، ومن زيادة ركوع فى كل ركعة، وقد وردت زيادة فى ذلك من طرق أخر، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن فى كل ركعة ثلاث ركوعات «2» ، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس: أن فى كل ركعة أربع ركوعات، ولأبى داود من حديث أبى بن كعب، والبزار من
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) أخرجه مسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، و (904) باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الكسوف من أمر الجنة.(3/356)
حديث على: أن فى كل ركعة خمس ركوعات ولا يخلو إسناد منها من علة «1» .
ونقل ابن القيم فى «الهدى» عن الشافعى وأحمد والبخارى: أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين فى كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم- عليه السّلام- وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح.
وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابى وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك. وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووى فى شرح مسلم.
وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة فى الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء فى أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد فى الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد فى ذلك. وتعقبه النووى وغيره: بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم فى أول الحال، ولا فى الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع فى الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود فى نفسه، منوى من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وعند الإمام أحمد: أنه لما سلم حمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبد الله ورسوله، ثم قال: «يا أيها الناس، أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أنى قصرت عن شئ من تبليغ رسالات ربى لما أخبرتمونى ذلك» فقام رجل فقال: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذى عليك، ثم قال: «وايم الله لقد رأيت منذ قمت أصلى ما أنتم لاقون من أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور الدجال، من تبعه لم ينفعه صالح من عمله» «2» .
__________
(1) انظره فى «فتح البارى» (2/ 532) .
(2) أخرجه أحمد (5/ 19) قال: حدثنا أبو كامل حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس حدثنا ثعلبة بن عباد العبدى من أهل البصرة قال: شهدت يوما خطبة لسمرة بن جندب فذكر فى خطبته حديثا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: بينا أنا وغلام من الأنصار نرمى فى غرضين(3/357)
وفى البخارى: وقالت عائشة وأسماء: خطب النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقد اختلف فى الخطبة فيه، فاستحبها الشافعى وإسحاق وأكثر أهل الحديث. وقال ابن قدامة لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية ليس فى الكسوف خطبة لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهى ذات كثرة.
والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة لها، مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم: بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس.
وتعقب: بما فى الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل، انتهى.
وعن المغيرة بن شعبة عند البخارى: كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا الله» «1» .
وإبراهيم هو ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات
__________
لنا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كانت قيد رمحين أو ثلاثة فى عين الناظر اسودت حتى آضت كأنها تنومة قال: فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد فو الله ليحدثن شأن هذه الشمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أمته حدثا قال: فدفعنا إلى المسجد فإذا هو بارز، قال: ووافقنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين خرج إلى الناس فاستقدم فقام بنا كأطول ما قام بنا فى صلاة قط لا نسمع له صوتا ثم ركع كأطول ما ركع بنا فى صلاة قط لا نسمع له صوتا ثم فعل فى الركعة الثانية مثل ذلك فوافق تجلى الشمس جلوسه فى الركعة الثانية: قال زهير حسبته قال: فسلّم فحمد الله وأثنى عليه ... الحديث.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1043) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف الشمس، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-.(3/358)
فى السنة العاشرة من الهجرة، فقيل فى ربيع الأول، وقيل فى رمضان، وقيل فى ذى الحجة، والأكثر على أنها وقعت فى عاشر الشهر، وقيل فى رابعه وقيل فى رابع عشره، ولا يصح شئ منها على قول ذى الحجة، لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذ ذاك بمكة فى الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت بالمدينة بلا خلاف.
نعم قيل إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح، وجزم النووى بأنها كانت سنة الحديبية فلعل ذلك كان فى آخر ذى القعدة حين رجع منها.
وفى هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب فى الأرض. قال الخطابى: كانوا فى الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير فى الأرض، من موت أو ضرر، فأعلم النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان فى غيرهما، ولا قدرة للدفع عن أنفسهما.
وعن عبد الله بن عمرو قال: لما كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نودى: أن الصلاة جامعة «1» . رواه البخارى: وقوله: «أن» بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهى المفسرة. وفى رواية له ولمسلم، من حديث عائشة: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- مناديا فنادى: الصلاة جامعة «2» .
قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك. وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام. وروى ابن حبان أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم «3» ، وأخرجه الدار قطنى أيضا. وفيه: رد
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1045) فى الجمعة، باب: النداء بالصلاة جامعة فى الكسوف، ومسلم (910) فى الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1066) فى الجمعة، باب: الجهر بالقراءة فى الكسوف، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 146) فى الكسوف، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(3/359)
على من أطلق- كابن رشيد- أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصل فى كسوف القمر، ومنهم من أول قوله: «صلى» أى أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين.
وقال ابن القيم فى «الهدى» : لم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى كسوف القمر فى جماعة، لكن حكى ابن حبان فى السيرة له: أن القمر خسف فى السنة الخامسة، فصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف فى الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور. وقد جزم به مغلطاى فى سيرته المختصرة، وتبعه الحافظ زين الدين العراقى فى نظمها.
وفى البخارى من حديث عائشة: جهر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الخسوف بقراءته. فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، فإذا فرغ من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» ثم يعاود القراءة فى صلاة الكسوف، أربع ركعات وأربع سجدات «1» .
واستدل به على الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر. قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، لأن الإسماعيلى روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ كسفت الشمس فى عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفى مسند أبى داود الطيالسى أنه- صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فى صلاة الكسوف «2» . وقد ورد فيها عن على مرفوعا وموقوفا. أخرجه ابن خزيمة وغيره.
وقال به صاحبا أبى حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثى الشافعية وابن العربى من المالكية. وقال الطبرى:
يخير بين الجهر والإسرار. وقال الأئمة الثلاثة: يسر فى الشمس ويجهر فى القمر.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1047) فى الجمعة، باب: هل يقول كسفت الشمس أو خسفت، وأبو داود (1180) فى الصلاة، باب: من قال أربع ركعات. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) أخرجه أبو داود الطيالسى (1466) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/360)
واحتج الشافعى بقول ابن عباس: «قرأ نحوا من سورة البقرة» «1» لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد روى الشافعى تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الكسوف فلم يسمع منه حرفا «2» ، ووصله البيهقى من ثلاثة طرق أسانيدها واهية. وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى.
قال ابن العربى: الجهر عندى أولى، لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى ملخصا والله أعلم.
الفصل الثانى فى صلاته ص صلاة الاستسقاء
اعلم أن الاستسقاء طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليها، كما تقول: استعطى: أى طلب العطاء. ولم يخالف أحد من العلماء فى سنية الصلاة فى الاستسقاء إلا أبو حنيفة محتجا بأحاديث الاستسقاء التى ليس فيها صلاة.
واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة فى الصحيحين وغيرهما: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الاستسقاء ركعتين «3» . وأما الأحاديث التى ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على نسيان الراوى، وبعضها كان فى الخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة فاكتفى بها، ولو لم تصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف فى جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة لأن فيها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، والاستسقاء أنواع:
الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين، ويتأهب قبله بصدقة وصيام
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه أحمد (1/ 293) من حديث ابن عباس ولفظه قال صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفا من القرآن.
(3) تقدم.(3/361)
وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال ابن عباس: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى، فرقى المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما صلى فى العيد «1» . رواه الترمذى وغيره.
وفى حديث عبد الله بن زيد المازنى، قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المصلى ليستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه، ثم صلى «2» . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية: خرج بالناس إلى المصلى ليستسقى فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة واستقبل يدعو، ورفع يديه وحول رداءه حين استقبل القبلة «3» . وفى رواية؛ قال: وحول رداءه وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله «4» .
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1165) فى الصلاة من حديث ابن عباس ولفظه خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى زاد عثمان فرقى على المنبر ثم اتفقا ولم يخطب خطبكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيد. والترمذى (558) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء، عن ابن عباس أيضا، وابن ماجه (1266) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء عن ابن عباس أيضا. واللفظ للترمذى. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6343) فى الدعوات، باب: الدعاء مستقبل القبلة، ومسلم (894) فى صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء. من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه- واللفظ للبخارى.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (556) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) حسن: أخرجه الترمذى (1165) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها. عن محمد بن مسلم بإسناده. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/362)
قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف فى شئ من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك ولا على صفته- صلى الله عليه وسلم- حال الذهاب إلى المصلى، ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك فى حديث عائشة عند أبى داود وابن حبان قالت: شكا الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له فى المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد الله، ثم قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، الذى لا إله إلا هو، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله الذى لا إله إلا أنت الغنى ونحن الفقراء، اللهم أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين» ، ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب- أو حول- رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابا، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال:
«أشهد أن الله على كل شئ قدير، وأنى عبد الله ورسوله» «2» .
وقد حكى ابن المنذر الاختلاف فى وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، وهل تصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه- صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فيها بالنهار، أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل.
ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى فى وقت الكراهة. وأفاد ابن حبان أن خروجه- صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى للاستسقاء كان فى شهر رمضان سنة
__________
(1) سورة الفاتحة: 1- 5.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (1173) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث حسنه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/363)
ست من الهجرة. وذكر الواقدى: أن طول ردائه- صلى الله عليه وسلم- كان ستة أذرع فى ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين فى ذراعين وشبر، كان يلبسهما فى الجمعة والعيدين.
وقد روى أبو داود عن عباد: استسقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه «1» . وقد استحب الشافعى فى الجديد فعل ما همّ به- صلى الله عليه وسلم- من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبى تبعا لغيره أن الشافعى اختار فى الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذى فى الأم ما ذكرته.
والجمهور على استحباب التحويل فقط. ولا ريب أن الذى استحبه الشافعى أحوط. وعن أبى حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شئ من ذلك.
واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد فى هذا الحديث بلفظ: «وحول الناس معه» «2» .
وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده. واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب فى حقهن.
واختلف فى حكمة هذا التحويل فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هى عليه. وتعقبه ابن العربى بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له حول رداءك ليتحول حالك.
وتعقب بأن الذى جزم به يحتاج إلى نقل، والذى رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدار قطنى والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن على عن أبيه عن جابر. ورجح الدار قطنى إرساله. وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1164) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، والنسائى (1507) فى الاستسقاء، باب: الحال التى يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج. من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) أخرجه أحمد (4/ 39 و 41) .(3/364)
واستدل بقوله فى حديث عائشة: «ثم صلى ركعتين» بعد قوله: «فقعد على المنبر» على أن الخطبة فى الاستسقاء قبل الصلاة، وهى مقتضى حديث ابن عباس، لكن وقع عند أحمد فى حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا فى حديث أبى هريرة عند ابن ماجه، حيث قال:
فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة «1» ، والمرجح عند الشافعية والمالكية الثانى.
ولم يقع فى شئ من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدار قطنى من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما ب سَبِّحِ «2» وهَلْ أَتاكَ «3» «4» . وفى إسناده مقال. لكن أصله فى السنن بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيدين. فأخذ بظاهره الشافعى فقال يكبر فيهما.
الثانى: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- فى خطبة الجمعة. عن أنس: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، قال أنس: ولا والله ما نرى فى السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين «سلع» من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب فى الجمعة المقبلة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1274) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة العيدين، من حديث ابن عباس وليس أبى هريرة.
(2) سورة الأعلى: 1.
(3) سورة الغاشية: 1.
(4) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 66) .(3/365)
الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» ، قال:
فانقطعت وخرجنا نمشى فى الشمس. قال شريك: فسألت أنس بن مالك:
أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدرى «1» . رواه مسلم. وفى رواية قال: فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت، حتى رأيت المدينة مثل الجوبة، وسال وادى قناة شهرا. ولم يجئ أحدا من ناحية إلا أخبر بجود «2» .
وقوله: «يغيثنا» بفتح أوله، يقال: غاث الله البلاد يغيثها، إذا أرسل عليها المطر. وقوله: «من باب كان نحو دار القضاء» هى دار عمر بن الخطاب وسميت بذلك لأنها بيعت فى قضاء دينه. وقوله: «هلكت الأموال» ، وفى رواية كريمة وأبى ذر عند الكشميهنى: هلكت المواشى، وهى المراد بالأموال هنا: وفى رواية البخارى: هلك الكراع- بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفى البخارى أيضا: هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص. والمراد بهلاكهم: عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. وانقطعت السبل: لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد فى طريقها من الكلأ ما يقيم أودها.
و «الآكام» بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع «أكمة» - بفتحات-:
التراب المجتمع، وقيل: الجبل الصغير، وقيل؛ ما ارتفع من الأرض.
و «الظراب» بكسر المعجمة، جمع «ظرب» - بكسر الراء-: الجبل المنبسط العالى. وقوله: «مثل الجوبة» بفتح الجيم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، هى الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا: الفرجة فى السحاب. و «الجود» :
المطر الغزير. وقوله: «قناة شهرا» : أى جرى فيه المطر من الماء شهرا.
وفى هذا دليل على عظم معجزته- صلى الله عليه وسلم-، وهو أن سخرت السحاب
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (933) فى الجمعة، باب: الاستسقاء فى الخطبة يوم الجمعة، ومسلم (897) فى الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) تقدم فى الذى قبله.(3/366)
له كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام، لأن كلامه- صلى الله عليه وسلم- مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها بالطاعة له- صلى الله عليه وسلم- لما كان ذلك، لأنها أيضا- كما جاء- مأمورة حيث تسير، وقدر ما تقيم، وأين تقيم. ورحم الله الشقراطيسى فلقد أحسن حيث قال:
دعوت للخلق عام المحل مبتهلا ... أفديك بالخلق من داع ومبتهل
صعّدت كفيك إذ كفّ الغمام فما ... صوبت إلا بصوب الواكف الهطل
أراق بالأرض ثجا صوب ريقه ... فحل بالروض نسجا رائق الحلل
زهر من النور حلت روض أرضهم ... زهرا من النّور صافى النبت مكتمل
من كل غصن نضير مورق خضر ... وكل نور نضيد مونق خضل
تحية أحيت الأحياء من مضر ... بعد المضرة تروى السبل بالسبل
دامت على الأرض سبعا غير مقلعة ... لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل
وقوله فى الحديث «سبتا» : أى من السبت إلى السبت. وقوله: «ثم دخل رجل» الظاهر أنه غير الأول، لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وفى رواية ابن إسحاق: فقام الرجل أو غيره، وفى رواية لمسلم: فتقشعت عن المدينة فجعلت تمطر حواليها وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفى مثل الإكليل- وهو بكسر الهمزة وسكون الكاف: كل شئ دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك كالتاج-.
وفى رواية له أيضا: فألف الله بين السحاب ومكثت حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتى أهله، وفى رواية له أيضا: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى. والملاء: بضم الميم والقصر وقد تمد، جمع ملاءة وهى ثوب معروف.
واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس فيه صلاة. فأما الأول فقال به الشافعى، وأما الثانى(3/367)
فقال به أبو حنيفة، وتعقب: بأن الذى وقع فى هذه القصة مجرد دعاء، لا ينافى مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت فى واقعة أخرى كما تقدم، والله أعلم.
الثالث: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- على منبر المدينة. روى البيهقى فى الدلائل من طريق يزيد بن عبيد السلمى قال: لما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أتاه وفد من بنى فزارة، بضعة عشر رجلا، وفيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، وهو أصغرهم، فنزلوا فى دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل عجاف مسنتون، فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن بلادهم فقالوا: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله!! ويلك، أنا شفعت إلى ربى، فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد» فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ليضحك من شفقكم وقرب غياثكم» ، فقال أعرابى: أو يضحك ربنا يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، فقال الأعرابى: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرا. فضحك- صلى الله عليه وسلم- من قوله، فقام- صلى الله عليه وسلم- فصعد المنبر وتكلم بكلمات ورفع يديه، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه فى شئ من الدعاء إلا فى الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعاءه:
«اللهم اسق بلدك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مربعا طبقا واسعا، عاجلا غير آجل نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» .
فقام أبو لبابة بن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر فى المربد، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اسقنا» ، فقال أبو لبابة: إن التمر فى المرابد، ثلاث(3/368)
مرات، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» .
قال: فلا والله ما فى السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، وهم ينظرون، ثم أمطرت، فو الله ما رأوا الشمس سبتا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.
فقال الرجل: يا رسول الله- يعنى الذى سأله أن يستسقى له-: هلكت الأموال، وانقطعت السبل. فصعد- صلى الله عليه وسلم- المنبر فدعا ورفع يديه مدّا، حتى رؤى بياض إبطيه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب «1» .
و «الأطيط» صوت الأقتاب، يعنى: أن الكرسى ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه، وعجزه عن احتماله. وهذا مثل لعظمته تعالى وجلاله، ولم يكن أطيط وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة الله تعالى.
وقوله: «طبقا» بفتح الطاء والموحدة، أى مالئا للأرض مغطيا لها، يقال: غيث طبق أى عام واسع. و «المربد» : موضع يجفف فيه التمر.
و «ثعلبه» ثقبه الذى يسيل منه ماء المطر.
وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا صبى يغط، ولا بعير يئط- أى ما لنا بعير أصلا لأن البعير لا بد أن يئط- وأنشد:
أتيناك والعذراء يدمى لبانها ... وقد شغلت أم الصبى عن الطفل
وألقى بكفيه الفتى لاستكانة ... من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلى
__________
(1) تقدم فى الذى قبله.(3/369)
ولا شئ مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامى والعلهز الغسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام- صلى الله عليه وسلم- يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا غدقا طبقا نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيى به الأرض بعد موتها» قال: فما رد- صلى الله عليه وسلم- يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل. وضحك- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: «لله در أبى طالب، لو كان حيّا لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟» فقال على: يا رسول الله كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
تطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال: «أجل» رواه البيهقى.
وقوله: «يدمى لبانها» أى يدمى صدرها لامتهانها نفسها فى الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللبان من الفرس موضع اللبب ثم استعير للناس. وقوله: «ما يمر وما يحلى» أى ما ينطق بخير ولا بشر من الجوع والضعف. وقوله: «سوى الحنظل العامى» نسبة إلى العام، لأنه يتخذ فى عام الجدب، كما قالوا للجدب: السنة. «والعلهز» بالكسر، طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير فى سنى المجاعة. قاله الجوهرى. و «الغسل» الرذل، قال السهيلى: فإن قلت: كيف قال أبو طالب «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» ولم يره قط يستسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟(3/370)
وأجاب بما حاصله: أن أبو طالب أشار إلى ما وقع فى زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبى- صلى الله عليه وسلم- معه وهو غلام. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد ذلك فيه. انتهى.
قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة، وهم فى قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادى وأجدب العيال وأنت فيهم أما تستسقى؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه وما فى السماء قزعة، فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا، وأغدق واغدودق وانفجر له الوادى وأخصب النادى والبادى، وفى ذلك يقول أبو طالب «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» انتهى.
الرابع: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- بالدعاء من غير صلاة. عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله، فقرأ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ «1» ، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى:
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «2» ، يوم بدر. زاد أسباط عن منصور: فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، وشكا الناس كثرة المطر فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم «3» . رواه البخارى.
وأفاد الدمياطى أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلا الجزور، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبى- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) سورة الدخان: 10.
(2) سورة الدخان: 16.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1169) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/371)
بذلك بالمدينة فى القنوت كما فى حديث أبى هريرة عند البخارى، ولا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصص، إذ لا مانع أن يدعو عليهم مرارا. والظاهر أن مجئ أبى سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: «ثم عادوا، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «1» يوم بدر» ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فلذلك قال: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل.
وفى الدلائل للبيهقى عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب قال: دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع الله لقومك قد هلكوا. وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة، ولم يشك، وأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل فقال: استسق الله لمضر، قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك ودعوت الله فأجابك، فرفع يديه فقال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا» الحديث فظهر أن هذا الرجل المبهم المقول له: «إنك لجرئ» هو أبو سفيان.
لكن يظهر أن فاعل «قال يا رسول الله استنصرت الله إلخ» هو كعب بن مرة راوى هذا الحديث، فما أخرجه أحمد والحاكم عن كعب بن مرة المذكور قال: «دعا رسول الله على مضر، فأتيته فقلت: يا رسول الله إن الله قد نصرك وأعطاك واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا» . وعلى هذا: فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشئ، فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت فى هذه ما ثبت فى تلك من قوله «إنك لجرئ» ومن قوله: «اللهم حوالينا ولا علينا» . وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله «استنصرت الله فنصرك» .
ولا يلزم من هذا اتحاد هذه القصة مع قصة أنس السابقة، فهى واقعة أخرى، لأن فى رواية أنس «فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا» وفى هذه «فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مطروا» ، والسائل فى هذه القصة غير السائل فى تلك، فهما قصتان، وقع فى كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم
__________
(1) سورة الدخان: 16.(3/372)
طلب الدعاء بالاستصحاء. وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: «استنصرت الله فنصرك» على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم والله أعلم. انتهى ملخصا من فتح البارى.
الخامس: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء، وهى خارج باب المسجد الذى يدعى باب السلام نحو قذفة بحجر، ينعطف على يمين الخارج من المسجد. عن عمير، مولى أبى اللحم، أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يستسقى رافعا يديه قبل وجهه، لا يجاوزهما رأسه «1» ، رواه أبو داود والترمذى.
السادس: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- فى بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقال بعض المنافقين: لو كان نبيّا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أو قد قالوها، عسى ربكم أن يسقيكم» ، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حتى أظلم السحاب وأمطروا إلى أن سال الوادى، فشرب الناس وارتووا.
الفصل الثالث
عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعا: أنه كان إذا استسقى قال: اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعرى، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا. رواه الشافعى.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1168) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء. من حديث عمير الغفارى مولى أبى اللحم- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/373)
الفصل الرابع
روى أبو الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمى عام الفتق.
وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح من رواية أبى صالح السمان، عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط فى زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل فى المنام فقيل له: أئت عمر.
وفى رواية عبد الرزاق: أن عمرا استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فاستسق. وذكر الزبير بن بكار أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة، بفتح الراء وتخفيف الميم- وسمى به لما حصل من شدة الجدب، فأغبرت الأرض جدّا لعدم المطر.
وذكر ابن عساكر فى كتاب الاستسقاء أن العباس لما استسقى ذلك اليوم قال: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب ثم أنزل منه الماء ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل وأطل به الفرع وأدرّ به الضرع. اللهم تشفعنا إليك بمن لا منطق له من بهائمنا وأنعامنا، اللهم اسقنا سقيا وادعة بالغة طبقا، اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك، لا شريك لك، اللهم نشكو إليك سغب كل ساغب، وعدم كل عادم، وجوع كل جائع، وعرى كل عار، وخوف كل خائف.
وفى رواية الزبير بن بكار: أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم أنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بى القوم إليك لمكانى من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا(3/374)
الغيث. فأرخت السماء مثل الحبال، حتى أخصبت الأرض وعاش الناس.
وعنده أيضا: قحط الناس فقال عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا يا أيها الناس برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عمه العباس، فاتخذوه وسيلة إلى الله. وفيه فما برحوا حتى سقوا، وفى ذلك يقول العباس بن عتبة بن أبى لهب:
بعمى سقى الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقى بشيبته عمر
توجه بالعباس فى الجدب راغبا ... إليه فما إن رام حتى أتى المطر
ومنا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذه للمفاخر مفتخر(3/375)
القسم الثالث فى ذكر صلاته ص فى السفر
وفيه فصول:
الفصل الأول فى قصره ص الصلاة فيه وأحكامه
وفيه فرعان:
الفرع الأول فى كم كان ص يقصر الصلاة
تقدم هل القصر رخصة أو عزيمة، وما استدل به لكل من القولين، فى أوائل هذا المقصد. وعن أنس بن مالك قال: صليت الظهر مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة أربعا، وخرج يريد مكة فصلى بذى الحليفة العصر ركعتين «1» . رواه البخارى ومسلم. وهذا الحديث مما احتج به أهل الظاهر فى جواز القصر فى طويل السفر وقصيره، فإن بين المدينة وذى الحليفة ستة أميال، ويقال سبعة.
وقال الجمهور: لا يجوز القصر إلا فى سفر يبلغ مرحلتين، وقال أبو حنيفة وطائفة: شرطه ثلاث مراحل، واعتمدوا فى ذلك آثارا عن الصحابة.
وأما هذا الحديث فلا دلالة فيه لأهل الظاهر، لأن المراد أنه- صلى الله عليه وسلم- حين سافر إلى مكة فى حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعا ثم سافر، فأدركته العصر
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1089) فى الجمعة، باب: فى كم يقصر الصلاة، ومسلم (690) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.(3/376)
وهو مسافر بذى الحليفة، فصلاها ركعتين. وليس المراد أن ذا الحليفة غاية سفره، فلا دلالة فيه قطعا. والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدان على جواز القصر من حين يخرج من البلد، فإنه حينئذ يسمى مسافرا.
وطويل السفر ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، وهى ستة عشر فرسخا، وهى أربعة برد. والميل من الأرض منتهى مد البصر، لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه. وبذلك جزم ابن الجوزى. وقيل: حده أن تنظر إلى الشخص فى أرض مصطحبة فلا تدرى أهو رجل أو امرأة. أو هو ذاهب أو آت؟
قال النووى: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة، وقد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن بمصر والحجاز فى هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن. فعلى هذا فالميل بذراع الحديد خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا، وهذه فائدة جليلة قل من تنبه لها.
روى البيهقى عن عطاء أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين، أى يقصران فى أربعة برد فما فوقها. وذكره البخارى فى صحيحه تعليقا بصيغة الجزم. ورواه بعضهم عن صحيح ابن خزيمة مرفوعا من رواية ابن عباس. وقد كان فرض الصلاة ركعتين، فلما هاجر- صلى الله عليه وسلم- فرضت أربعا «1» .
رواه البخارى من حديث عائشة لكن يعارضه حديث ابن عباس: فرضت الصلاة فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين «2» . رواه مسلم. وجمع بينهما بما يطول ذكره.
ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها فى السفر عند نزول قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ «3» ، ويؤيده ما ذكره ابن
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3935) فى فضائل الصحابة، باب: التاريخ، من أين أرخوا التاريخ؟، ومسلم (685) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
(3) سورة النساء: 101.(3/377)
الأثير فى شرح المسند أن قصر الصلاة كان فى السنة الرابعة من الهجرة، وقيل كان قصر الصلاة فى ربيع الآخر من السنة الثانية. ذكره الدولابى، وقيل بعد الهجرة بأربعين يوما.
الفرع الثانى فى القصر مع الإقامة
عن أنس قال: خرجنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة، فكان يصلى ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قيل له: أقمتم بمكة شيئا؟
قال: أقمنا بها عشرا «1» . رواه البخارى، ومسلم مختصرا قال: أقمنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- عشرة يقصر الصلاة «2» .
وعن ابن عباس: أقام النبى- صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة يقصر الصلاة. فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا «3» . رواه البخارى. وفى رواية أبى داود: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام سبعة عشر بمكة يقصر الصلاة «4» . قال ابن عباس:
فلو أقام أكثر أتم. والرواية الأولى بتقديم التاء على السين، والثانية بتقديم السين على الموحدة. ولأبى داود، من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الفتح، فأقام بمكة ثمانى عشرة ليلة لا يصلى إلا ركعتين «5» . وله من طريق ابن إسحاق عن الزهرى عن عبيد الله عن ابن عباس: أقام- صلى الله عليه وسلم- بمكة عام الفتح خمسة عشر يوما يقصر الصلاة «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1081) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التقصير وكم يقيم حتى يقصر، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (693) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4300) فى المغازى، باب: مقام النبى بمكة زمن الفتح، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) أخرجه أبو داود (1230) فى الصلاة، باب: متى يتم السفر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى: صحيح بلفظ تسعة عشر وهو الأرجح.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1229) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) ضعيف منكر: أخرجه أبو داود (1231) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» : ضعيف منكر.(3/378)
وجمع البيهقى بين هذا الاختلاف: بأن من قال: «تسعة عشر» عد يومى الدخول والخروج، ومن قال: «سبعة عشر» حذفهما، وأما رواية «خمس عشرة» فضعفها النووى فى «الخلاصة» وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائى من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، فإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوى ظن أن رواية الأصل سبع عشرة، فحذف منها يومى الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية «تسع عشرة» أرجح الروايات.
وأخذ الشافعى بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب الإتمام، فإن أزمع الإقامة فى أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه فى دخول يومى الدخول والخروج فيها، أو: لا.
ولا معارضة بين حديث ابن عباس وحديث أنس، لأن حديث ابن عباس كان فى فتح مكة، وحديث أنس كان فى حجة الوداع. وفى حديث ابن عباس: قدم- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- يعنى مكة- لصبح رابعة، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه قدم فى اليوم الرابع وخرج منها فى اليوم الثامن، فصلى الظهر فى منى، ومن ثم قال الشافعى: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، فالمدة التى فى حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا، متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. والمدة التى فى حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه- صلى الله عليه وسلم- فى أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: لما كان الأصل فى المقيم الإتمام فلما لم يجئ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه أقام فى حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر.
والله أعلم.(3/379)
الفصل الثانى فى الجمع
وفيه فرعان أيضا:
الفرع الأول فى جمعه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب «1» . وفى رواية: أنه كان إذا أراد أن يجمع بين صلاتين فى السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر «2» . وفى أخرى:
كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء «3» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود.
وفى رواية البخارى: كان يجمع بين هاتين الصلاتين فى السفر «4» ، يعنى: المغرب والعشاء. وفى حديث ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين صلاتى الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء «5» ، رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1111) فى الجمعة، باب: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (704) فى صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين فى السفر، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1110) فى الجمعة، باب: هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(5) تقدم.(3/380)
ولمسلم: جمع بين الصلاة فى سفرة سافرها فى غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء «1» . وله ولمالك وأبى داود والنسائى: أنهم خرجوا معه- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك، فكان- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخروا الظهر يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ودخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا «2» .
وفى رواية أبى داود والترمذى من حديث معاذ بن جبل: كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، فإن رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفى المغرب مثل ذلك:
إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم يجمع بينهما «3» .
الفرع الثانى فى جمعه ص بجمع «4» مزدلفة وبعرفة
عن ابن عمر: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعا «5» .
رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود. وزاد البخارى: كل واحدة منهما
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (705) فى صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين فى الحضر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (1206) فى الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين، والترمذى (553) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الجمع بين الصلاتين، من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) جمع: بفتح الجيم وسكون الميم أى المزدلفة وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها أى دنى منها.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1092) فى الجمعة، باب: يصلى المغرب ثلاثا في السفر من حديث ابن عمر، ومسلم (1287) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتى المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة فى هذه الليلة. من حديث أبى أيوب الأنصارى- رضى الله عنه-.(3/381)
بإقامة ولم يسبح بينهما «1» . ولمسلم: جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين «2» . وفى حديث أبى أيوب الأنصارى، عند البخارى ومسلم: جمع فى حجة الوداع بين المغرب والعشاء فى المزدلفة «3» .
وفى رواية ابن عباس، عند النسائى: صلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة «4» . وفى رواية جعفر بن محمد عن أبيه عند أبى داود: صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة، ولم يسبح بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما «5» .
الفصل الثالث فى ذكر صلاته ص النوافل فى السفر
عن ابن عمر قال: سافرت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ولا يصلى قبلهما ولا بعدهما، وقال ابن عمر: لو كنت مصليا قبلهما أو بعدهما لأتممتهما «6» . رواه الترمذى. وفى رواية: صحبت النبى- صلى الله عليه وسلم- فلم أره يسبح فى السفر «7» ، أى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1673) فى الحج، باب: من جمع بينهما ولم يتطوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1288) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتى المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة فى هذه الليلة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) تقدم.
(4) تقدم.
(5) تقدم.
(6) صحيح: أخرجه الترمذى (544) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التقصير فى السفر. قال الترمذى: حسن غريب. وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : صحيح.
(7) صحيح: أخرجه البخارى (1101) فى الجمعة، باب: من لم يتطوع فى السفر دبر الصلاة وقبلها. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/382)
تنفل للرواتب التى قبل الفرائض وبعدها. وهو مستفاد من قوله فى الرواية الآخرى، فكان لا يزيد فى السفر على ركعتين «1» .
قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ يحتمل أن يريد: لا يزيد على عدد ركعات الفرض، فيكون كناية عن نفى الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر، ويحتمل أن يريد: لا يزيد نفلا، ويمكن أن يريد ما هو أعم من ذلك. وفى رواية مسلم: صحبت ابن عمر فى طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رجل فجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال:
لو كنت مسبحا لأتممت «2» .
قال النووى: أجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة محتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها، وأما النافلة فهى إلى خيرة المصلى، فطريق الرفق به أن تكون مشروعة، ويخير فيها. انتهى. وتعقب: بأن مراد ابن عمر بقول:
«لو كنت مسبحا لأتممت» يعنى أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلى الراتبة ولا يتم.
وفى البخارى، من حديث ابن عمر: كان- صلى الله عليه وسلم- يوتر على راحلته «3» ، وبوب عليه «باب الوتر فى السفر» ، وأشار به إلى الرد على من قال: «لا يسن الوتر فى السفر» ، وهو منقول عن الضحاك، وأما قول ابن عمر: «لو كنت مسبحا فى السفر لأتممت» كما أخرجه مسلم، فإنما أراد به راتبة المكتوبة، لا النافلة المقصودة كالوتر، وذلك بيّن من سياق الحديث المذكور عند الترمذى من وجه آخر بلفظ «لو كنت مصليا قبلهما أو بعدهما
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (689) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها، والذى صحب عمر هو حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1000) فى الجمعة، باب: الوتر فى السفر. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/383)
لأتممت» «1» وأما حديث عائشة عند البخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها فليس بصريح فى فعله ذلك فى السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء.
وأجاب النووى- تبعا لغيره- بما لفظه: لعل النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى الرواتب فى رحله فلا يراه ابن عمر، أو لعله تركها فى بعض الأوقات لبيان الجواز. انتهى. وفى رواية الترمذى من حديث ابن عمر قال: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر فى السفر ركعتين، وبعدها ركعتين «2» . وفى رواية:
صليت معه فى الحضر والسفر، فصليت معه فى الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين. وصليت معه فى السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يصل بعدها شيئا والمغرب فى الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات لا تنقص فى حضر ولا سفر، وهى وتر النهار وبعدها ركعتين «3» .
وفى حديث أبى قتادة عند مسلم فى قصة النوم عن صلاة الصبح: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين قبل الصبح، ثم صلى الصبح كما كان يصلى «4» .
وقول صاحب «الهدى» إنه لم يحفظ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى سنة صلاة قبلها ولا بعدها فى السفر إلا ما كان من سنة الفجر. يرد على إطلاقه ما قدمناه فى رواية الترمذى من حديث ابن عمر. وما رواه أبو داود والترمذى من حديث البراء بن عازب قال: سافرت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر سفرا فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر «5» ، وكأنه لم يثبت عند ذلك، لكن
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الترمذى (551) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع فى السفر، وقد تقدم أكثر من مرة. قال الترمذى: حديث حسن. قال الألبانى: ضعيف الإسناد.
(3) تقدم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (681) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (1222) فى الصلاة، باب: التطوع فى الصلاة، والترمذى (550) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التطوع فى السفر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/384)
الترمذى استغربه، ونقل عن البخارى أنه رآه حسنا، وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر.
الفصل الرابع فى صلاته ص التطوع فى السفر على الدابة
عن ابن عمر: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى سبحته حيثما توجهت به ناقته «1» . وفى رواية: يصلى وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيث كان وجهه وفيه نزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «2» «3» . وفى رواية: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر. وفى رواية: كان يوتر على البعير «4» ، رواه مسلم.
وقد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار، فى جواز التنفل على الراحلة فى السفر حيث توجهت، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبلا القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك ما فى حديث أنس عند أبى داود أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتطوع فى السفر استقبل بناقته القبلة ثم صلى حيث توجهت ركابه «5» . وذهب الجمهور إلى جواز التنفل على الدابة سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، إلا مالكا فخصه بالسفر الطويل، وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت فى أسفاره- صلى الله عليه وسلم-، ولم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه سافر سفرا قصيرا فصنع ذلك. وحجة الجمهور مطلق الأخبار فى ذلك.
وقوله: «يصلى على حمار» ، قال النووى: قال الدار قطنى وغيره: هذا
__________
(1) تقدم.
(2) سورة البقرة: 115.
(3) تقدم.
(4) تقدم.
(5) حسن: أخرجه أبو داود (1225) فى الصلاة، باب: التطوع على الراحلة والوتر. من حديث أنس وتقدم بنحوه فى الصحيح عن ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/385)
غلط من عمرو بن يحيى المازنى، وإنما المعروف فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- على راحلة أو بعير. والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم. ثم قال: وفى تغليط راويه نظر لأنه ثقة نقل شيئا محتملا، فلعله كان الحمار مرة والبعير مرة أو مرات، لكن قد يقال إنه شاذ مخالف لرواية الجمهور، والشاذ مردود. انتهى.
وعن يعلى بن مرة عن أبيه عن جده، أنهم كانوا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى مسيرة فانتهوا إلى مضيق فحضرت الصلاة فمطروا، السماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على راحلته، فصلى بهم يومئ إيماء، فجعل السجود أخفض من الركوع «1» . رواه الترمذى.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (411) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة على الدابة فى الطين والمطر. من حديث يعلى بن مرة بن وهب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/386)
القسم الرابع فى ذكر صلاته ص صلاة الخوف
عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة، فاخترطه فقال: تخافنى؟ فقال:
لا، فقال: من يمنعك منى؟ قال: الله، فتهدده أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، فغمد السيف وعلقه، فأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الآخرى ركعتين، فكان للنبى- صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات، وللقوم ركعتان «1» . رواه البخارى ومسلم.
ولمسلم: فصففنا صفين خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبى- صلى الله عليه وسلم- وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذى يليه، وقام الصف المؤخر فى نحر العدو، فلما قضى النبى- صلى الله عليه وسلم- السجود وقام الصف الذى يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبى- صلى الله عليه وسلم- وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذى يليه- الذى كان مؤخرا فى الركعة الأولى- فقام الصف المؤخر فى نحر العدو، فلما قضى النبى- صلى الله عليه وسلم- السجود والصف الذى يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبى- صلى الله عليه وسلم- وسلمنا جميعا «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4137) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (840) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.(3/387)
ولمسلم والبخارى أيضا من حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى معه- صلى الله عليه وسلم- يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتى معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الآخرى فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم «1» .
قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت فى صلاة الخوف. وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعى وأحمد على ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب.
وعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: غزوت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التى لم تصل، فجاؤا فركع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم يركع لنفسه ركعة ويسجد سجدتين «2» . وفى حديث جابر: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى بالناس صلاة الظهر فى الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوى فى شرح السنة.
وعنه: أنه- صلى الله عليه وسلم- نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هى أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم، وهى العصر، فأجمعوا أمركم فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلى بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4130) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (842) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف. من حديث صالح بن خوّات- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (942) فى الجمعة، باب: قول الله تعالى وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ... الآية، من حديث ابن عمر وليس عن عمر كما ذكر المصنف.(3/388)
حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ولرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتان «1» . رواه الترمذى والنسائى.
قال ابن حزم: وقد صح فيها- يعنى صلاة الخوف- أربعة عشر وجها.
وبينها فى جزء مفرد. وقال ابن العربى فى «القبس» : جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ست عشرة رواية مختلفة، ولم يبينها. وقال النووى نحوه فى شرح مسلم ولم يبينها أيضا. وقد بينها الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى وزاد وجها آخر، فصارت سبعة عشر وجها، لكن يمكن أن تتداخل.
وقال صاحب «الهدى» : أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة فى قصة جعلوا ذلك وجها من فعله- صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى. وهذا هو المعتمد، وإليه أشار الحافظ العراقى بقوله: يمكن تداخلها. وقد حكى ابن القصار المالكى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلاها عشر مرات، وقال ابن العربى: أربعا وعشرين، وقال الخطابى: صلاها- صلى الله عليه وسلم- فى أيام مختلفة بأشكال متباينة، يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهى على اختلاف صورها متفقة المعنى.
انتهى. وفى كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة، وفروع يطول ذكرها. حكاها فى فتح البارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 174) فى صلاة الخوف، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(3/389)
القسم الخامس فى ذكر صلاته ص على الجنازة
وفيه فروع أربعة:
الفرع الأول فى عدد التكبيرات
عن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشى فى اليوم الذى مات فيه.
وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات «1» . رواه البخارى ومسلم. وعند الترمذى من حديث أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- كبر على جنازة فرفع يديه مع أول تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى «2» .
الفرع الثانى فى القراءة والدعاء
نقل ابن المنذر عن ابن مسعود، والحسن بن على، وابن الزبير، والمسور ابن مخرمة، مشروعية قراءة الفاتحة فى صلاة الجنازة. وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق. ونقل عن أبى هريرة وابن عمر: ليس فيها قراءة، وهو قول ابن مالك والكوفيين. وروى عبد الرزاق والنسائى بإسناد صحيح عن أبى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1245) فى الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ومسلم (951) فى الجنائز، باب: التكبير على الجنازة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) حسن: أخرجه الترمذى (1077) فى الجنائز، باب: ما جاء فى رفع اليدين على الجنازة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/390)
أمامة بن سهل بن حنيف قال: السنة فى الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا فى الأولى «1» .
وفى البخارى عن سعد عن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة «2» ، وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك فى حديث جابر عند الشافعى بلفظ:
وقرأ بأم الكتاب بعد التكبيرة الأولى «3» ، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى.
وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب «4» . رواه الترمذى وقال: لا يصح هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: «من السنة» وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين. ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال.
وعن عوف بن مالك: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جنازة فحفظنا من دعائه: «اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار» «5» . قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.
__________
(1) أخرجه ابن عساكر كما فى «كنز العمال» (42861) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1335) فى الجنائز، باب: قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة.
(3) أخرجه الشافعى فى «الأم» (1/ 270) ، وذكره الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (3/ 204) .
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (1026) فى الجنازة، باب: ما جاء فى القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(5) صحيح: أخرجه مسلم (963) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت فى الصلاة، من حديث عوف بن مالك الأشجعى- رضى الله عنه-.(3/391)
وعن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: «اللهم إن فلان بن فلان فى ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم» «1» . رواه الترمذى.
وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: «اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده» «2» . رواه أحمد وأبو داود والترمذى. وعنه: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم أنت ربها وأنت خالقها، هديتها إلى الإسلام، قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها» «3» . رواه أبو داود.
الفرع الثالث فى صلاته ص على القبر
عن أبى هريرة أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: «أفلا آذنتمونى؟» قال: فكأنهم
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3202) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، من حديث واثلة ابن الأسقع- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3201) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، والترمذى (1024) فى الجنائز، باب: ما يقول فى الصلاة على الميت، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. ولفظ أبى داود اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده وصححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) ضعيف الإسناد: أخرجه أبو داود (3200) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. ولفظه: اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئناك شفعاء فاغفر لها قال الألبانى: ضعيف الإسناد.(3/392)
صغروا أمرها، فقال: «دلونى على قبرها» ، فدلوه فصلى عليها «1» . رواه البخارى ومسلم. زاد ابن حبان فقال فى رواية حماد بن سلمة عن ثابت: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتى عليهم» «2» .
وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة، على أن ذلك من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيها: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا «3» . قال ابن حبان: فى ترك إنكاره- صلى الله عليه وسلم- على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذى يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة.
وعن عقبة بن عامر: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف «4» ، وفى رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات «5» . رواه أبو داود والنسائى. ورواه الشيخان أيضا بلفظ: خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال فرط لكم «6» . الحديث.
وفيه: الصلاة على الشهداء فى حرب الكفار. وقد اختلف العلماء فى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (458) فى الصلاة، باب: كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان، ومسلم (956) فى الجنائز، باب: الصلاة على القبر من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) تقدم وهو عند مسلم فى الذى قبله.
(3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1528) فى ما جاء فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصلاة على القبر، من حديث يزيد بن ثابت- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (3223) فى الجنائز، باب: الميت يصلى على قبره بعد حين، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) تقدم.(3/393)
هذه المسألة: فذهب مالك والشافعى وأحمد وإسحاق والجمهور: إلى أن لا يصلى عليهم. وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزنى، وهى رواية عن أحمد اختارها الخلال.
وحجة الجمهور: أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصل على قتلى أحد- كما رواه البخارى فى صحيحه عن جابر- وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة. قال النووى: أى دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وأن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم فى القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها فى الأول.
ثم إن الشافعية اختلفوا فى معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحريم الصلاة عليه، وهو الصحيح عندهم. وقال آخرون:
معناه: لا تجب الصلاة عليه. لكن تجوز. وذكر ابن قدامة: أن كلام أحمد فى الرواية التى قال فيها يصلى عليهم: يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة.
قال ابن القاسم صاحب مالك: إنه لا يصلى على الشهيد فيما إذا كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، فإن كان الكفار هم الذين غزوا المسلمين فيصلى عليهم.
الفرع الرابع فى صلاته ص على الغائب
عن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «قد توفى اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه» ، قال: فصففنا فصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- ونحن وراءه «1» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1320) فى الجنائز، باب: الصفوف على الجنائز، من حديث جابر بن عبد الله.(3/394)
البخارى ومسلم. وعن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشى فى اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات «1» . رواه الشيخان أيضا. وعند البخارى من طريق ابن عيينة عن ابن جريج: «فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» «2» .
وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت فى المسجد، وهو قول الحنفية والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن فى الصلاة فيه عليهم بأس.
قال النووى: ولا حجة فيه، لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله.
وقال ابن بزبزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل، لأنه ليس فيه صيغة نهى، ولا احتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى على سهيل بن بيضاء فى المسجد، فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدركونه أسلم، فقد روى ابن أبى حاتم فى التفسير، والدار قطنى فى الأفراد، والبزار، كلاهما عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما صلى على النجاشى قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة؟ فنزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «3» ، الآية، وله شاهد من حديث أبى سعيد عند الطبرانى فى معجمه الكبير، وزاد فيه: إن الذى طعن بذلك كان منافقا.
وقد قال البخارى: «باب الصلاة على الجنازة بالمصلى والمسجد» وروى حديثا عن ابن عمر أن اليهود جاؤا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- برجل منهم وامرأة زنيا
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) سورة آل عمران: 199.(3/395)
فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد «1» . وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوى من ناحية المشرق، انتهى. فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء، لأنه لم يكن عند المسجد النبوى مكان مهيأ للرجم.
ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز فى المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز فى المسجد، ويقويه حديث عائشة «ما صلى- صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن بيضاء إلا فى المسجد» «2» أخرجه مسلم، وبه قال الجمهور. وحمل المانعون الصلاة على سهيل: بأنه كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقا.
وفيه نظر: لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلى عليه. وقد سلم لها الصحابة ذلك، فيدل على أنها حفظت ما نسوه.
وقد روى ابن أبى شيبة وغيره أن عمر صلى على أبى بكر فى المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر فى المسجد، زاد فى رواية: ووضعت الجنازة فى المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضى الإجماع على جواز ذلك. وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشى على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعى وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك. وعن بعض
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1329) فى الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، ومسلم (1699) فى الحدود، باب: رجم اليهود وأهل الذمة فى الزنا. من حديث ابن عمر واللفظ للبخارى.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (973) فى الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز فى المسجد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/396)
أهل العلم: إنما يجوز ذلك فى اليوم الذى يموت فيه الميت أو ما قرب، لا ما إذا ما طالت المدة، حكاه ابن عبد البر.
وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن فى جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز. قال المحب الطبرى: لم أر ذلك لغيره. وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشى بأمور:
منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك؛ ومن ثم قال الخطابى: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلى عليه، واستحسنه الرويانى من الشافعية.
ومنها: قول بعضهم: إنه كشف له- صلى الله عليه وسلم- عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضى عياض فى «الشفاء» بقوله: ورفع له النجاشى حتى صلى عليه، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف فى جوازها. قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال.
وتعقبه بعض الحنفية: بأن الاحتمال كاف فى مثل هذا، وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدى فى أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس: كشف للنبى- صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشى حتى رآه وصلى عليه. ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن الجنازة بين يديه.
ومن الاعتذارات أيضا: أن ذلك خاص بالنجاشى، لأنه لم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره. قاله المهلب، وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثى. واستند من قال بتخصيص النجاشى بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا فى حياته.
قال النووى: لو فتح هذا الباب لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شئ مما ذكروه لتوفرت الدواعى على نقله. وقال ابن العربى: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد- صلى الله عليه وسلم-، قلنا: وما عمل به محمد- صلى الله عليه وسلم-(3/397)
تعمل به أمته، يعنى لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا طويت له الأرض، وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا لقادر، وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى إتلاف ما ليس له تلاف. وقال الكرمانى: قولهم «رفع الحجاب عنه» ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن الصحابة الذين صلوا مع النبى- صلى الله عليه وسلم-، انتهى ملخصا من فتح البارى.
النوع الثالث فى ذكر سيرته ص فى الزكاة
وهى فى اللغة: النماء والتطهير. والمال ينمى بها من حيث لا يرى، وهى مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمى أجرها عند الله تعالى. وسميت فى الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوى فيها. وقيل: لأنها تزكى صاحبها وتشهد بصحة إيمانه، وهى قيد النعمة، وسميت الصدقة صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه.
وقد فهم من شرعه- صلى الله عليه وسلم- أن الزكاة وجبت للمواساة، وأن المواساة لا تكون إلا فى مال له بال، وهو النصاب. ثم جعلها- صلى الله عليه وسلم- فى الأموال النامية، وهى أربعة أصناف:
الأول: الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم.
والثانى: الزروع والثمار.
والثالث: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.
والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها.
وحدد- صلى الله عليه وسلم- نصاب كل صنف بما يحتمل المواساة: فنصاب الفضة خمس أواق، وهى مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالا، وأما الزروع والثمار فخمسة أوسق، وأما الغنم فأربعون شاة، والبقر ثلاثون بقرة، والإبل خمس.(3/398)
ورتب- صلى الله عليه وسلم- مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب فى المال. فأعلاها وأقلها تعبا الركاز، وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ولم يعتبر له حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به. ويليه الزروع والثمار، فإن سقى بماء السماء ونحوه ففيه العشر، وإلا فنصفه. ويليه الذهب والفضة والتجارة، وفيها ربع العشر، لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة. ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنوع السابقة.
ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها شاة، فإذا صارت الخمس خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا، فكان هو الواجب. ثم إنه قد سنّ هذا الواجب فى الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها. وفى كتابه- صلى الله عليه وسلم- الذى كتبه فى الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض: فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمسة عشر ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين ابنة لبون، وفى الغنم فى كل أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فشاتان إلى المائتين، فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففى كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شئ حتى تبلغ المائة «1» . رواه أبو داود والترمذى من حديث سالم بن عبد الله بن عمر.
وفرض- صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (621) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الإبل والغنم، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/399)
العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة «1» ، رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عمر. وفى رواية أبى داود من حديث ابن عباس، فرض- صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين «2» .
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لم يرض بحكم نبى ولا غيره فى الصدقات حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء» «3» . رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائى. وهذه الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس:
أحدهما: من يأخذ لحاجته، فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها، وكثرتها وقلتها، وهم الفقراء والمساكين وفى الرقاب وابن السبيل.
والثانى: من يأخذ لمنفعته، وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاة فى سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له فى الزكاة.
واعلم أن الأنبياء لا تجب عليهم الزكاة، لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما تجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما فى أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه فى أوان بذله، ويمنعونه فى غير محله، ولأن الزكاة إنما هى طهرة لما عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها «4» ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مبرؤون من الدنس، لوجوب العصمة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1503) فى الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر، ومسلم (984) فى الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (1609) فى الزكاة، باب: زكاة الفطر. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1630) فى الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، من حديث زياد بن الحارث الصدائى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) سورة التوبة: 103.(3/400)
لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة، والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف، وذلك بعد البلوغ. وإذا كان أهل المعرفة بالله المشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء والرسل، وأهل التوحيد والمعرفة إنما غرفوا من بحارهم واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب «التنوير» للعارف الكبير أبى الفضل بن عطاء الله الشاذلى، أذاقنا الله حلاوة مشربه.
تنبيه: ما حكى إن الإمام الشافعى وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعى، فقال أحمد بن حنبل للشافعى: أريد أن أسأل هذا المشار إليه فى هذا الزمن، فقال الشافعى: لا تفعل، فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسى أربع سجدات من أربع ركعات؟ فقال: يا أحمد، هذا قلب غافل عن الله، يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك. قال:
فخر أحمد مغشيّا عليه، ثم أفاق فقال: ما تقول فيمن له أربعون شاة، ما زكاتها؟ فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ فقال: أو هما مذهبان؟ فقال:
نعم، أما على مذهبكم ففى الأربعين شاة شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا. فقد نقل شيخنا فى «المقاصد» عن ابن تيمية أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة، لأن الشافعى وأحمد لم يدركا شيبان الراعى والله أعلم. انتهى.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقة قال: «اللهم صل على آل فلان» ، فأتاه أبو أوفى بصدقة فقال: «اللهم صل على آل أبى أوفى» «1» . رواه البخارى ومسلم. واختلف فى أول وقت فرض الزكاة. فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان فى السنة الثانية قبل فرض رمضان أشار إليه النووى فى باب السير من الروضة.
وجزم ابن الأثير فى التاريخ بأن ذلك كان فى التاسعة، وفيه نظر: لما
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1498) فى الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (1078) فى الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقة، من حديث عبد الله ابن أبى أوفى- رضى الله عنه-.(3/401)
فى حديث ضمام بن ثعلبة، وحديث وفد عبد القيس، ومخاطبة أبى سفيان مع هرقل وكان فى أول السابعة، وقال فيها: يأمرنا بالزكاة.
وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع فى قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- عاملا: فقال: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية، والجزية إنما وجبت فى التاسعة، فتكون الزكاة فى التاسعة. لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله. وادعى ابن خزيمة فى صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة فى قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها: أن جعفر بن أبى طالب قال للنجاشى فى جملة ما أخبره به عن الرجل: الذى يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى.
وفى الاستدلال بذلك نظر، لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن فى أول ما قدم على النجاشى، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا فقال: يأمرنا، يعنى أمته، وهو بعيد جدّا. وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا- إن سلم من قدح فى إسناده- أن المراد بقول جعفر «يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام» أى فى الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام شهر رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.
ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس فى قصة ضمام بن ثعلبة. وقوله: «أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟» «1» وكان قدوم ضمام سنة خمس، وإنما الذى وقع فى التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعى تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك.
ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (63) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم وقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.(3/402)
رمضان إنما فرض بعد الهجرة، لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خوف.
وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائى وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله «1» . إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمار، الراوى عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضى وقوعه بعد فرض رمضان. قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه الله-.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها «2» . رواه البخارى من حديث عائشة. وإذا أتى بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة، فإن قيل صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم «3» . رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة. وقال- صلى الله عليه وسلم- لعائشة: «هل عندكم شئ» فقالت: لا، إلا شئ بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التى بعثت بها إليها من الصدقة، قال: «إنها بلغت محلها» «4» . رواه البخارى ومسلم. وقوله:
«محلها» بكسر الحاء، أى زال عنها حكم الصدقة وصارت حلّا لنا. وأتى بلحم قد تصدق به على بريرة فقال: «هو عليها صدقة، ولنا هدية» «5» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 49) فى الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، من حديث قيس بن سعد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2585) فى الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: المكافأة فى الهبة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2576) فى الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: قبول الهدية، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1494) فى الزكاة، باب: إذا تحولت الصدقة، ومسلم (1076) فى الزكاة، باب: إباحة الهدية للنبى ولبنى هاشم وبنى المطلب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1493) فى الزكاة، باب: الصدقة على موالى أزواج النبى، ومسلم (1504) فى العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/403)
البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. وفى حديث عائشة عند البخارى ومسلم: دخل- صلى الله عليه وسلم- وعلى النار برمة تفور، فدعا بالغداء، فأتى بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: «ألم أر برمة على النار تفور؟» قالوا: بلى يا رسول الله، لكنه لحم تصدق به على بريرة، وأهدت إلينا منه، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: «هو صدقة عليها، وهدية لنا» «1» .
النوع الرابع فى ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المقصود من الصيام إمساك النفس عن خسيس عاداتها، وحبسها عن شهواتها، وفطامها عن مألوفاتها، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العاملين، كما قال الله تعالى فى الحديث الإلهى الذى رواه مسلم: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لى وأنا أجزى به» «2» . فأضافه تعالى إليه إضافة تشريف وتكريم، كما قال تعالى: ناقَةُ اللَّهِ «3» مع أن العالم كله له سبحانه.
وقيل: لأنه لم يعبد غيره به، فلم يعظم الكفار فى عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود وغيرها.
قال فى شرح تقريب الأسانيد: واعترض بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات فإنهم يتعبدون لها بالصيام.
وأجيب: بأنهم لا يعتقدون أنها فعالة بأنفسها.
وقيل: لأن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5430) فى الأطعمة، باب: الأدم. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1904) فى الصوم، باب: هل يقول إنى صائم إذا شتم، ومسلم (1151) فى الصيام، باب: فضل الصيام. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) سورة الشمس: 13.(3/404)
وغير ذلك من العبادات الظاهرات، قال فى فتح البارى: معنى النفى فى قولهم «لا رياء فى الصوم» أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء فى الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها. انتهى.
وعن شداد بن أوس مرفوعا: «من صام يرائى فقد أشرك» «1» . رواه البيهقى. وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ. وقيل: لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب تعالى، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه، قال القرطبى معناه: أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم، إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه تعالى يقول:
إن الصائم يتقرب إلىّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتى. أو لكون ذلك من صفات الملائكة، أو لأنه تعالى هو المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، بخلافه غيره من العبادات، فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها، ولذا قال فى بقية الحديث: «وأنا أجزى به» وقد علم بأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك سعة العطاء، وإنما جوزى الصائم هذا الجزاء لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده.
والمراد بالشهوة فى الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص، لكن وقع فى رواية عند ابن خزيمة «يدع لذته من أجلى، ويدع زوجته من أجلى، وأصرح منه ما روى «من الطعام والشراب والجماع من أجلى» .
وللصيام تأثير عجيب فى حفظ الأعضاء الظاهرة، وقوى الجوارح الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب للمواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة المانعة له من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما أشار إليه تعالى بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «2»
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 125) من حديث شداد بن أوس- رضى الله عنه-.
(2) سورة البقرة: 183.(3/405)
وقال- صلى الله عليه وسلم- كما فى البخارى-: «الصوم جنة» «1» ، هى بضم الجيم، الوقاية والستر، أى: ستر من النار. وبه جزم ابن عبد البر، وفى النهاية: أى يقى صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، وقال القاضى عياض: من الآثام. وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصى قولا وفعلا.
وقد اختلف: هل الصوم أفضل أم الصلاة؟ فقيل الصوم أفضل الأعمال البدنية، لحديث النسائى عن أبى أمامة قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، مرنى بأمر آخذه عنك قال: «عليك بالصوم فإنه لا عدل له» «2» ، والمشهور تفضيل الصلاة، وهو مذهب الشافعى وغيره، لقوله- صلى الله عليه وسلم-:
«واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» «3» رواه أبو داود وغيره. ثم إن الكلام فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- على قسمين:
__________
(1) صحيح: البخارى (7492) فى التوحيد، باب: قول الله تعالى: «يريدون أن يبدلوا كلام الله» ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 165) فى الصيام، باب: ثواب من صام يوما فى سبيل من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث صحيح الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (277) فى الطهارة والسنة، باب: المحافظة على الوضوء، من حديث ثوبان بن بجدد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(3/406)
القسم الأول فى صيامه ص شهر رمضان
وفيه فصول:
الفصل الأول فيما كان يخص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده ص فيه
اعلم أن «رمضان» مشتق من الرمض، وهو شدة الحر، لأن العرب لما أرادوا أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر فسموه بذلك، كما سمى الربيعان لموافقتهما زمن الربيع. أو لأنه يرمض الذنوب أى يحرقها، وهو ضعيف لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع. ورمضان أفضل الشهور، كما حكاه الأسنوى عن قواعد الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
قال النووى: وقولهم إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح. انتهى. وقد اختلف السلف: هل فرض صيام قبل صيام رمضان أم لا؟ فالجمهور- وهو المشهور عند الشافعية- أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان، وفى وجه- وهو قول الحنفية- أول ما فرض يوم عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. وسيأتى أدلة الفريقين فى الكلام على صوم عاشوراء- إن شاء الله تعالى-. وقد كان فرض رمضان فى السنة الثانية من الهجرة- كما تقدم- فتوفى سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسع رمضانات.
ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع الجود والبركات لأن نعم الله فيه تزيد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات، من الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف ويخص به من العبادات ما لا يخص به غيره من(3/407)
الشهور، وكان جوده- صلى الله عليه وسلم- يتضاعف فى شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضا، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة.
وفى حديث ابن عباس عند الشيخين، قال: (كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وأجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) «1» .
فبمجموع ما ذكر فى هذا الحديث من الوقت وهو شهر رمضان، والمنزل وهو القرآن، والنازل به وهو جبريل، والمذاكرة وهى مدارسة القرآن، حصل له- صلى الله عليه وسلم- المزيد فى الجود.
والمرسلة: المطلقة، يعنى أنه فى الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، إلى عموم النفع بجوده- صلى الله عليه وسلم-، كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه. ووقع عند الإمام أحمد فى آخر هذا الحديث (لا يسأل شيئا إلا أعطاه) . وتقدم فى ذكر سخائه- صلى الله عليه وسلم- مزيد لذلك.
وقد كان ابتداء نزول القرآن فى شهر رمضان، وكذا نزوله إلى سماء الدنيا جملة واحدة، فكان جبريل- عليه الصلاة والسلام- يتعاهده- صلى الله عليه وسلم- فى كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذى توفى فيه- صلى الله عليه وسلم- عارضه به مرتين «2» ، كما ثبت فى الصحيح عن فاطمة- رضى الله عنها-. قال فى فتح البارى: وفى معارضة جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- بالقرآن فى شهر رمضان حكمتان، إحداهما: تعاهده، والآخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وإحكاما.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6) فى بدء الوحى، باب: بدء الوحى، ومسلم (2308) فى الفضائل، باب: كان النبى أجود الناس بالخير من الريح المرسلة. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2450) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/408)
وفى المسند، عن واثلة بن الأسقع، عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أنزلت صحف إبراهيم فى أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان «1» . وقد دل الحديث على استحباب مدارسة القرآن فى رمضان، والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه.
وفى حديث ابن عباس أن المدارسة بينه- صلى الله عليه وسلم- وبين جبريل كانت ليلا، وهو يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن فى رمضان ليلا، لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان، كما أخرجه الإمام أحمد والنسائى عن أبى هريرة ولفظه قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير الكثير «2» . قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل فى تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان.
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال: «اللهم بارك لنا فى رجب وشعبان وبلغنا رمضان» «3» . رواه الطبرانى وغيره من حديث أنس. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى هلال رمضان قال:
«هلال رشد وخير، هلال رشد وخير هلال رشد وخير، آمنت بالذى خلقك» «4» ، رواه النسائى من حديث أنس.
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 107) من حديث واثلة بن الأسقع- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 129) فى الصيام، باب: ذكر الاختلاف على معمر فيه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 165) عن أنس وقال: رواه البزار وفيه زائدة بن أبى الرقاد، قال البخارى: منكر الحديث وجهله جماعة، وكرره فى (3/ 140) وقال: رواه البزار والطبرانى فى الأوسط، وفيه زائدة بن أبى الرقاد، وفيه كلام وقد وثق!.
(4) أخرجه أبو داود (5092) فى الأدب، باب: ما يقول إذا رأى الهلال، بسند رجاله ثقات، إلا أنه مرسل عن قتادة.(3/409)
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا دخل شهر رمضان: «اللهم سلمنى من رمضان، وسلم رمضان لى، وسلمه منى» «1» أى: سلمنى منه حتى لا يصيا بنى فيه ما يحول بينى وبين صومه من مرض أو غيره. وسلمه لى: حتى لا يغم هلاله على فى أوله وآخره، فيلتبس علىّ الصوم والفطر، وسلمه منى: أن تعصمنى من المعاصى فيه. وهذا منه- صلى الله عليه وسلم- تشريع لأمته.
الفصل الثانى فى صيامه ص برؤية الهلال
عن عائشة (كان- صلى الله عليه وسلم- يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام) «2» . رواه أبو داود. قوله: «فإن غم عليكم» أى: حال بينكم وبينه غيم. «فاقدروا له» من التقدير، أى: قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما، ويؤيده قوله فى الرواية السابقة: «فإن غم عليه- صلى الله عليه وسلم- عد ثلاثين» وهو مفسر ل «اقدروا له» ولهذا لم يجتمعا فى رواية. ويؤكده رواية «فاقدروا له ثلاثين» «3» .
قال المازرى: حمل جمهور الفقهاء قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اقدروا» على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره فى حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به لضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا الأفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم. انتهى.
وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأبى حنيفة، وجمهور السلف والخلف.
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى الدعاء، والديلمى وسنده حسن، عن عبادة بن الصامت كما فى «كنز العمال» (24277) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2325) فى الصوم، باب: إذا غمى عليكم. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1080) فى الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/410)
وفيه دليل: أنه لا يجوز صوم يوم الشك، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم. وقال الإمام أحمد بن حنبل فى طائفة: أى اقدروا له تحت السحاب، فيجوزون صوم ليلة الغيم عن رمضان، بل قال أحمد بوجوبه. وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه: قدروا بحساب المنازل.
الفصل الثالث فى صومه ص بشهادة العدل الواحد
عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنى رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه «1» . رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
وعن ابن عباس قال: جاء أعرابى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إنى رأيت هلال رمضان، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله» قال: نعم، قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله» قال: نعم، قال: «يا بلال، أذن فى الناس فليصوموا» «2» ، رواه أبو داود والترمذى والنسائى. والمراد فى قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث السابق: «إذا رأيتموه» رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان بل يكفى جميع الناس رؤية عدل على الأصح فى مذهبنا. وهذا فى الصوم، وأما فى الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور فجوزه بعدل.
قال الأسنوى: إذا قلنا بالعدل الواحد فى الصوم فلا خلاف أنه لا
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2342) فى الصوم، باب: فى شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 132) فى الصيام، باب: قبول شهادة الرجل الواحد على هلال رمضان. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(3/411)
يتعدى إلى غيره، فلا يقع به الطلاق والعتق المعلقين بدخول رمضان، ولا يحل به الدين المؤجل، ولا يتم به حول الزكاة، كذا أطلقه الرافعى هنا نقلا عن البغوى، وأقره وتبعه عليه فى الروضة، وصورته: فيما إذا سبق التعليق على الشهادة، فإن وقعت الشهادة أولا، وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق فإن الطلاق والعتق يقعان. كذا نقله القاضى حسين فى تعليقه عن ابن سريج وقال الرافعى: فى الباب الثانى من كتاب الشهادات: إنه القياس، انتهى.
الفصل الرابع فيما كان يفعله ص وهو صائم
عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى. واعلم أن الجمهور أجمعوا على عدم الفطر بالحجامة مطلقا. وعن على وعطاء والأوزاعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور: يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء. وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا. وقال بقول أحمد، من الشافعية: ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان.
ونقل الترمذى عن الزعفرانى: أن الشافعى علق القول به على صحة الحديث. قال الترمذى: كان الشافعى يقول ذلك ببغداد، وأما بمصر فمال إلى الرخصة. انتهى.
وقال الشافعى فى «اختلاف الحديث» ، بعد أن أخرج حديث شداد «كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان. فقال- وهو آخذ بيدى-: أفطر الحاجم والمحجوم» «2» ثم ساق حديث ابن عباس «أنه- صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم» «3» قال: وحديث ابن
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1938) فى الصوم، باب: الحجامة والقئ للصائم، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- وليس فى مسلم احتجم وهو صائم.
(2) عزاه صاحب «كنز العمال» لابن جرير، انظر «الكنز» (24337) .
(3) تقدم.(3/412)
عباس أمثلهما إسنادا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلىّ احتياطا، والقياس مع حديث ابن عباس. والذى أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة، انتهى.
وأول بعضهم حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» أن المراد به أنهما سيفطران، كقوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً «1» ، أى ما يؤول إليه.
ولا يخفى بعد هذا التأويل. وقال البغوى فى «شرح السنة» معناه: أى تعرضا للإفطار، أما الحاجم فإنه لا يأمن من وصول شئ من الدم إلى جوفه عند مصه، وأما المحجوم فإنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول أمره إلى أن يفطر. وقيل: معنى أفطرا: فعلا مكروها وهو الحجامة، فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة.
وقال ابن جزم: صح حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبى سعيد «أرخص النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الحجامة للصائم» «2» وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة، سواء كان حاجما أو محجوما. انتهى.
والحديث المذكور، أخرجه النسائى وابن خزيمة والدار قطنى، ورجاله ثقات، ولكن اختلف فى رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس عند الدار قطنى ولفظه «أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبى طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أفطر هذان» ، ثم أرخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد فى الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. ورواته كلهم من رجال البخارى إلا أن فى المتن ما ينكر، لأن فيه أن ذلك كان فى الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك.
ومن أحسن ما ورد فى ذلك، ما رواه عبد الرزاق وأبو داود عن
__________
(1) سورة يوسف: 36.
(2) رواه البزار والطبرانى فى الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح، قاله الهيثمى فى «المجمع» (3/ 170) .(3/413)
عبد الرحمن بن أبى ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
نهى النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة، ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه «1» . وإسناده صحيح، والجهالة بالصحابى لا تضر، ورواه ابن أبى شيبة عن وكيع عن الثورى بلفظ «عن أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- قالوا: إنما نهى النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم وكرهها للضعف» «2» أى لئلا يضعف. انتهى ملخصا من فتح البارى والله أعلم.
وقالت عائشة: (كان- صلى الله عليه وسلم- يقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت» «3» رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود. قالت: (وكان أملككم لإربه) «4» أى لحاجته، تعنى أنه كان غالبا لهواه. قال ابن الأثير: أكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء، يعنون به الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان: أحدهما: أنه الحاجة يقال فيها؛ الأرب، والإرب، والإربة والمأربة، والثانى: أرادت به العضو، وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة، انتهى. فمذهب الشافعى والأصحاب: أن القبلة ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، لكن الأولى تركها، وأما من حركت شهوته فهى حرام فى حقه على الأصح عند أصحابنا.
وقوله: «فضحكت» قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالف هذا، وقيل: تعجبت من نفسها، إذ حدثت بمثل هذا مما يستحى من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة فى تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون ذلك أبلغ فى الثقة بها، أو سرورا بمكانتها من النبى- صلى الله عليه وسلم- ومحبته لها.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2374) فى الصوم، باب: فى الرخصة فى ذلك، عن عبد الرحمن ابن أبى ليلى عن رجل من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) انظره: فى «فتح البارى» (4/ 178) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1927) فى الصوم، باب: المباشرة للصائم، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) تقدم فى الذى قبله.(3/414)
وقد روى ابن أبى شيبة عن شريك عن هشام فى هذا الحديث:
«فضحكت فظننا أنها هى» «1» . وروى النسائى عنها قالت: أهوى إلىّ النبى- صلى الله عليه وسلم- ليقبلنى فقلت: إنى صائمة، فقال: «وأنا صائم فقبلنى» «2» . وقد روى أبو داود عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقبلها ويمص لسانها، يعنى وهو صائم «3» . وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبتلع ريقه الذى خالط ريقها.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يكتحل بالإثمد وهو صائم «4» . رواه البيهقى من رواية محمد بن عبد الله بن أبى رافع عن أبيه عن جده. ثم قال: إن محمدا هذا ليس بالقوى، وثقه الحاكم وأخرج له فى مستدركه. وقالت أم سلمة: كان- صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبا من جماع لا حلم، ثم لا يفطر ولا يقضى «5» . رواه البخارى ومسلم.
قال القرطبى: فى هذا الحديث فائدتان: إحداهما: أنه كان يجامع فى رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز، الثانية: أن ذلك كان من جماع لا من احتلام، لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وقال غيره فى قولها: «من غير الاحتلام» إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان لاستثنائه معنى.
وردّ: بأن الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه. وأجيب: بأن الاحتلام يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شئ فى المنام.
__________
(1) إخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (2/ 314) من الطريق المذكور.
(2) أخرجه أحمد (6/ 269) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (2386) فى الصوم، باب: الصائم يبلغ الريق. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير، والبيهقى فى «السنن» عن أبى رافع، كما فى «ضعيف الجامع» (4599) .
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1930) فى الصوم، باب: اغتسال الصائم، ومسلم (1109) فى الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.(3/415)
وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة فى الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا، يفطر. انتهى. وقال عامر بن ربيعة: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يستاك وهو صائم ما لا أعد ولا أحصى «1» . رواه أبو داود والترمذى.
الفصل الخامس فى وقت إفطاره ص
عن عبد الله بن أبى أوفى قال: (كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فى شهر رمضان، فلما غابت الشمس قال: «يا بلال انزل فاجدح لنا» قال: يا رسول الله، إن عليك نهارا، قال: «انزل فاجدح لنا» ، قال: فنزل فجدح فأتى به فشرب النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم قال بيده: «إذا غابت الشمس من ها هنا، وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم» «2» رواه البخارى ومسلم. والجدح- بجيم ثم حاء مهملة- خلط الشئ بغيره. والمراد: خلط السويق بالماء وتحريكه حتى يستوى.
ومعنى الحديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا صياما، فلما غربت الشمس أمره- صلى الله عليه وسلم- بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التى تبقى معه بعد غروب الشمس، فظن أن الفطر لا يحصل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يردها، فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: إن عليك نهارا، لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذى يجب صومه، وهو معنى قوله فى الرواية الآخرى: «لو أمسيت» وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم الأكل فيه، مع تجويزه أنه
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2364) فى الصوم، باب: السواك والصائم، والترمذى (725) فى الصوم، باب: ما جاء فى السواك للصائم. من حديث عامر بن ربيعة بن كعب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1941) فى الصوم، باب: الصوم فى السفر والإفطار، ومسلم (1101) فى الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، من حديث عبد الله ابن أبى أوفى- رضى الله عنه-.(3/416)
- صلى الله عليه وسلم- لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء والله أعلم. قاله النووى.
الفصل السادس فيما كان ص يفطر عليه
عن أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يصلى على رطبات، فإن لم يجد رطبات فتمرات، فإن لم يجد تمرات حسا حسوات من ماء «1» . رواه أبو داود. وإنما خص- صلى الله عليه وسلم- الفطر بما ذكر لأن إعطاء الطبيعة الشئ الحلو مع خلو المعدة ادعى إلى قبوله وانتفاع القوى به، لا سيما قوة البصر. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمان الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده. قاله ابن القيم.
الفصل السابع فيما كان يقوله ص عند الإفطار
عن معاذ بن زهرة: بلغه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أفطر قال:
«اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» «2» . وهو حديث مرسل، ومعاذ هذا ذكره البخارى فى التابعين لكن قال: معاذ أبو زهرة- وتبعه ابن أبى حاتم وابن حبان- فى الثقات. وذكره يحيى بن يونس الشيرازى فى الصحابة، وغلطه جعفر المستغفرى. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الحديث
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (696) فى الصوم، باب: ما جاء فيما يستحب عليه الإفطار، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (2358) فى الصوم، باب: القول عند الإفطار. من حديث معاذ بن زهرة بلاغا، وانظر «ضعيف الجامع» (4349) .(3/417)
موصولا، ولو كان معاذ تابعيّا، لاحتمال أن يكون الذى بلغه له صحابيّا.
قال: وبهذا الاعتبار أورده أبو داود فى السنن، وبالاعتبار الآخر أورده فى المراسيل.
وخرج ابن السنى والطبرانى فى المعجم الكبير، بسند واه جدّا، عن ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: «اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، فتقبل منى إنك أنت السميع العليم» «1» . وعن ابن عمر: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: «ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» «2» ، رواه أبو داود. وزاد رزين: «الحمد لله» فى أول الحديث.
وفى كتاب ابن السنى، عن معاذ بن زهرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: «الحمد لله الذى أعاننى فصمت ورزقنى فأفطرت» «3» .
الفصل الثامن فى وصاله صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: «إنى لست كهيئتكم، إنى أطعم وأسقى» «4» . رواه البخارى ومسلم.
وللبخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- واصل، فواصل الناس فشق عليهم، فنهاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: «لست كهيئتكم، إنى أظل أطعم وأسقى» . وفى رواية أنس: واصل- صلى الله عليه وسلم- فى آخر شهر
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير، وابن السنى كما فى «ضعيف الجامع» (4350) .
(2) حسن: أخرجه أبو داود (2357) فى الصوم، باب: القول عند الإفطار. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) ضعيف: أخرجه ابن السنى، والبيهقى فى شعب الإيمان عن معاذ، كما فى «ضعيف الجامع» (4348) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1922) فى الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب، أخرجه مسلم (1102) فى الصيام، باب: النهى عن الوصال فى الصوم. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/418)
رمضان، فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال: «لو مدّ لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلى» - أو قال: «لست مثلكم- إنى أظل يطعمنى ربى ويسقينى» . وفى رواية: «لا تواصلوا» ، قالوا: إنك تواصل، قال: «لست كأحد منكم، إنى أطعم وأسقى» «1» . رواه البخارى ومسلم.
والمتعمقون: هم المتشددون فى الأمر، المجاوزون الحدود فى قول أو فعل. وفى رواية سعيد بن منصور وابن أبى شيبة من مرسل الحسن: «إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى» . وعن عائشة قالت: نهاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. فقال: «إنى لست كهيئتكم، إنى يطعمنى ربى ويسقينى» . رواه البخارى ومسلم إلا أن البخارى قال «نهى» ولم يقل: نهاهم. وعن أبى هريرة قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الوصال فى الصوم، فأبوا فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: «لو تأخر لزدتكم» كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا، رواه البخارى.
والوصال: هو عبارة عن صوم يومين فصاعدا من غير أكل وشرب بينهما قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وقد اختلف فى معنى قوله «يطعمنى ربى ويسقينى» . فقيل: هو على حقيقته، وأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له فى ليالى صيامه. وتعقب: بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وبأن قوله: «أظل» يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما.
وأجيب: بأن الراجح من الروايات لفظ «أبيت» دون «أظل» وعلى تقدير ثبوتها فهى محمولة على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ، لأن المتحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا، وأكثر الروايات إنما هو «أبيت» فكأن بعض الرواة عبر عنها ب «أظل» نظرا إلى اشتراكهما فى مطلق الكون. يقولون
__________
(1) تقدم فى الذى قبله.(3/419)
كثيرا: أضحى فلان كذا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا «1» فإن المراد به مطلق الوقت، ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل، وليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى من حمل لفظ «أظل» على المجاز وعلى التنزل فلا يضر شئ من ذلك، لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجرى عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره الشريف فى طست الذهب، مع أن استعمال أوانى الذهب الدنيوية محرمة.
وقال ابن المنير: الذى يفطر شرعا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة فى الجنة، والكرامة لا تبطل العادة.
وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، وأكله وشربه فى الليل لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه لما قيل له: إنك تواصل، قال: «إنى لست فى ذلك كهيئتكم» ، أى على صفتكم فى أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمنى ربى ويسقينى ولا ينقطع بذلك مواصلتى، فطعامى وشرابى على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى.
وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال: يعطينى قوة الآكل والشارب، ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوى على أنواع الطاعة من غير ضعف فى القوة. أو المعنى: أن الله يخلق فيه من الشبع والرى ما يغنيه عن الطعام والشراب، ولا يحس بجوع ولا عطش.
والفرق بينه وبين الأول: أنه على الأول يعطى القوة من غير شبع ولا رى، بل مع الجوع والظمأ، وعلى الثانى: يعطى القوة مع الشبع والرى.
ورجح الأول بأن الثانى ينافى حال الصائم ويفوت المقصود من الصوم
__________
(1) سورة النحل: 58.(3/420)
والوصال، لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبى: ويبعده النظر إلى حاله- صلى الله عليه وسلم- فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجر.
انتهى.
ويحتمل كما قاله ابن القيم فى «الهدى» وابن رجب فى اللطائف- أن يكون المراد به ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، ونعيمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التى هى غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين، وبهجة النفوس، فللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجله وأنفعه، وقد يغنى هذا الغذاء عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشارب وتلهيها عن الزاد
إذا اشتكت من كلال السير أو عدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيوانى، ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذى قد قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه والرضا عنه، وألطاف محبوبه ... مكرم له غاية الإكرام مع الحب التام، أفليس هذا من أعظم غذاء لهذا المحب، فكيف بالحبيب الذى لا شئ أعظم منه ولا أجل ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانا، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا، ولهذا قال: إنى أظل عند ربى يطعمنى ويسقينى. انتهى.
وحكى النووى فى شرح المهذب، كما قاله فى شرح تقريب الأسانيد:
أن معناه أن محبة الله تشغلنى عن الطعام والشراب. قال: والحب البالغ يشغل عنهما. انتهى. فإن قلت: لم آثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة فى قوله: «يطعمنى ربى» دون أن يقول: يطعمنى الله؟ أجيب: بأن التجلى باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الإلهية، لأنه تجلى عظمة لا طاقة للبشر بها، وتجلى الربوبية تجلى رحمة وشفقة.(3/421)
وقد اختلف الناس فى الوصال لنا، هل هو جائز أو محرم أو مكروه؟
فقال طائفة: إنه جائز إن قدر عليه، وهذا يروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، وكان ابن الزبير يواصل الأيام، وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذكر معه من الصحابة أيضا أخت أبى سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبى معمر، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن يزيد التيمى، وأبا الجوزاء، كما نقله أبو نعيم فى الحلية.
ومن حجتهم أنه- صلى الله عليه وسلم- واصل بأصحابه بعد النهى، فلو كان النهى للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهى الرحمة لهم والتخفيف عنهم، كما صرحت به عائشة فى حديثها، فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقته أهل الكتاب فى تأخيرهم الفطر. ولا رغب عن السنة فى تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.
ومن أدلة الجواز أيضا: إقدام الصحابة عليه بعد النهى، فدل على أنهم فهموا أن النهى للتنزيه لا للتحريم، وإلا لما قدموا عليه. وقال الأكثرون: لا يجوز الوصال، وبه قال مالك وأبو حنيفة، ونص الشافعى وأصحابه على كراهته، ولهم فى هذه الكراهة وجهان: أصحهما: أنها كراهة تحريم، والثانى: أنها كراهة تنزيه. واختار ابن وهب وأحمد بن حنبل وإسحاق جواز الوصال إلى السحر، لحديث أبى سعيد عند البخارى: «عنه- صلى الله عليه وسلم-: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر» «1» ، وهذا الوصال لا يترتب عليه شئ مما يترتب على غيره، لأنه فى الحقيقة بمنزلة عشائه، إلا أنه يؤخره، لأن الصائم له فى اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها فى السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه فى قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم، وإلا فلا يكون قربة.
وقد صرح فى الحديث بأن الوصال من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنى
__________
(1) أخرجه الدارمى (1705) فى الصوم، باب: النهى عن الوصال فى الصوم. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.(3/422)
لست كهيئتكم» . وفى الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب قال: قال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» «1» قالوا: فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر، وذلك يحيل الوصال شرعا. واحتج الجمهور للتحريم: بعموم النهى فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تواصلوا» وأجابوا عن قوله «رحمة» بأنه لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم، وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم، وأما الوصال بهم يوما ثم يوما، فاحتمل للمصلحة فى تأكيد زجرهم وبيان الحكمة فى نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال، وهى الملل من العبادة، والتعرض للتقصير فى بعض وظائف الدين، من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها، وسائر الوظائف المشروعة فى نهاره وليله. وأجابوا أيضا بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم» إذ لم يجعل الليل محلّا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالف لوضعه. وروى الطبرانى فى الأوسط من حديث أبى ذر أن جبريل قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قد قبل وصالك، ولا يحل لأحد بعدك» . ولكن إسناده ليس بصحيح ولا حجة فيه.
الفصل التاسع فى سحوره صلى الله عليه وسلم
عن أبى هريرة عن رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحر فقال: «إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه» «2» . رواه النسائى. وعن العرباض بن سارية قال: دعانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السحور فى رمضان قال: «هلم إلى الغداء المبارك» «3» . رواه
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 145) فى الصيام، باب: فضل السحور، من حديث عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2344) فى الصوم، باب: من سمى السحور الغداء، والنسائى (4/ 146) فى الصيام، باب: تسمية السحور غداء. من حديث خالد بن معدان- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/423)
أبو داود والنسائى. وعن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وذلك عند السحور-: «يا أنس إنى أريد الصيام فأطعمنى شيئا» ، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال، قال: «يا أنس انظر رجلا يأكل معى» فدعوت زيد بن ثابت فجاء فقال: إنى أريد شربة سويق وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «وأنا أريد الصيام» فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج إلى الصلاة «1» . رواه النسائى. وعن زر بن حبيش: قلنا لحذيفة: أى ساعة تسحرت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: «هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع» «2» رواه النسائى أيضا. وعن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قمنا إلى الصلاة. قال أنس بن مالك: قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال:
قدر خمسين آية «3» . رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى.
والمراد آية متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة لا سريعة ولا بطيئة. قال ابن أبى جمرة: كان- صلى الله عليه وسلم- ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله، لأنه لو لم يتسحر لا تبعوه فشق على بعضهم، ولو تسحر فى جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضى إلى ترك الصبح، أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر. وقال القرطبى: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر، فهو معارض لقول حذيفة «هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع» . انتهى. وأجاب فى فتح البارى: بأن لا معارضة، بل يحمل على اختلاف الحال، فليس فى رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة.
__________
(1) صحيح الإسناد: أخرجه النسائى (4/ 147) فى الصيام، باب: السحور بالسويق والتمر، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: صحيح الإسناد.
(2) حسن الإسناد: أخرجه النسائى (4/ 142) فى الصيام، باب: تأخير السحور وذكر الاختلاف على زر فيه. من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: حسن الإسناد.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1921) فى الصوم، باب: قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، ومسلم (1097) فى الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره، من حديث أنس عن زيد بن ثابت- رضى الله عنه-.(3/424)
الفصل العاشر فى إفطاره ص فى رمضان فى السفر وصومه
عن جابر أن رسول الله خرج عام الفتح إلى مكة فى رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» . زاد فى رواية: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر. رواه مسلم. وعن ابن عباس قال: سافر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس، وأفطر حتى قدم مكة. وكان ابن عباس يقول صام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر «1» ، رواه البخارى ومسلم.
ولمسلم: أن ابن عباس كان لا يعيب على من صام ولا على من أفطر، قد صام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى السفر وأفطر. قال النووى- رحمه الله-:
اختلف العلماء فى صوم رمضان فى السفر.
فقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان فى السفر، فإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه، لظاهر الآية «2» ولحديث «ليس من البر الصيام فى السفر» «3» . وفى الحديث الآخر «أولئك العصاة» «4» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4279) فى المغازى، باب: غزوة الفتح فى رمضان، ومسلم (1113) فى الصيام، باب: جواز الصوم والفطر فى شهر رمضان للمسافر. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) سورة البقرة: 184.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2407) فى الصوم، باب: اختيار الفطر. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) تقدم.(3/425)
وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه فى السفر، وينعقد ويجزيه، واختلفوا فى أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعى والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل، واحتجوا بصومه- صلى الله عليه وسلم-، ولأنه يحصل به براءة الذمة فى الحال.
وقال سعيد بن المسيب والأوزاعى وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا، وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعى، وهو غريب، واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر، وبقوله- صلى الله عليه وسلم-: «هى رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه» «1» وظاهره ترجيح الفطر.
وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا، أو يجد مشقة، كما هو صريح فى الأحاديث، واعتمدوا حديث أبى سعيد الخدرى قال: «كنا نغزوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، ولا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن» ، وهذا صريح فى ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث.
والصحيح: قول الأكثرين، والله أعلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1121) فى الصيام، باب: التخيير فى الصوم والفطر فى السفر. من حديث حمزة بن عمرو الأسلمى- رضى الله عنه-.(3/426)
القسم الثانى فى صومه ص غير شهر رمضان وفيه فصول
الفصل الأول فى سرده ص صوم أيام من الشهر وفطره أياما
عن أبى أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر، ويفطر فيقال: لا يصوم «1» . رواه النسائى. وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا. وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته. ولا نائما إلا رأيته. وفى رواية: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته، ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته «2» ، رواه البخارى.
ولمسلم: كان يصوم حتى يقال: قد صام صام، ويفطر حتى يقال: أفطر أفطر «3» . وعن ابن عباس: ما صام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهرا كاملا غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله ما يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم «4» . رواه البخارى ومسلم والنسائى وزاد: ما صام شهرا متتابعا غير رمضان منذ قدم المدينة.
__________
(1) حسن صحيح: أخرجه النسائى (4/ 202) فى الصيام، باب: صوم النبى من حديث أسامة بن زيد وليس من حديث أبى أمامة كما ذكر المصنف. وقال الألبانى فى صحيح النسائى: حسن صحيح.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1973) فى الصوم، باب: ما يذكر من صوم النبى وإفطاره، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1158) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(4) تقدم.(3/427)
ففى هذا: أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصم الدهر كله، ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطى من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر، وقام ونام.
الفصل الثانى فى صومه ص عاشوراء
وهو بالمد على المشهور. واختلف فى تعيينه: فعن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس- وهو متوسد رداءه فى زمزم- فقلت له: أخبرنى عن صوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد- صلى الله عليه وسلم- يصومه؟ قال: نعم «1» . رواه مسلم.
قال النووى: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه بأن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من أظمأ الإبل، فإن العرب تسمى اليوم الخامس من أيام الورد ربعا، وكذا باقى الأيام على هذه النسبة، فيكون التاسع عاشرا. انتهى.
لكن قال ابن المنير: قوله: «إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما» يشعر بأنه أراد العاشر، لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهى الليلة العاشرة. انتهى. وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، ومالك وأحمد وإسحاق، وخلائق. وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد، ثم إن حديث ابن عباس يرد عليه معنى قوله: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- صام يوم عاشوراء فقالوا له يا رسول: يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1133) فى الصيام، باب: أى يوم يصام فى عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/428)
التاسع» ، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . وهذا تصريح بأن الذى كان يصومه ليس هو التاسع، فتعين كونه العاشر. قاله النووى.
وقال القرطبى: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم، وهو فى الأصل صفة الليلة العاشرة، لأنه مأخوذ من العشر الذى هو اسم للعقد، واليوم يضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة. وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر. وهذا قول الخليل وغيره. وقال ابن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقال ابن القيم. من تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس، فإنه لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع بل قال للسائل صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذى يعده الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صوم التاسع معه، وأخبر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فعل ذلك وهو الأولى، وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه فى المستقبل، وهو الذى روى «أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر» «2» وكل هذه الآثار يصدق بعضها بعضا. انتهى فليتأمل.
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: كان يوم عاشوراء تصومه قريش فى الجاهلية، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصومه فى الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1134) فى الصيام، باب: أى يوم يصام فى عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (755) فى الصوم، باب: ما جاء فى عاشوراء أى يوم هو. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/429)
ومن شاء تركه «1» . رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى.
واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذى وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء، وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه- صلى الله عليه وسلم- كان فى ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك فى أول السنة الثانية، وفى السنة الثانية فرض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم يوم عاشوراء إلا فى سنة واحدة، ثم فوض الأمر فى صومه إلى رأى المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعى أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة.
وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة، وقد روى عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا فى الجاهلية، فعظم فى صدورهم، فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك. قاله فى فتح البارى. وعن ابن عمر: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه» «2» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود، وفى رواية:
وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وعن سلمة بن الأكوع: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن فى الناس:
من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل «3» . رواه مسلم. قال النووى: اختلفوا فى حكم صوم عاشوراء فى أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبا.
واختلف أصحاب الشافعى فيه على وجهين: أشهرهما: عندهم أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط فى هذه الأمة، ولكنه كان متأكد
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2002) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (1125) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4501) فى تفسير القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ... الآية. ومسلم (1126) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1135) فى الصيام، باب: من أكل فى عاشوراء فليكف بقية يومه. من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.(3/430)
الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبّا دون ذلك الاستحباب، والثانى: كان واجبا كقول أبى حنيفة. وتظهر فائدة الخلاف فى اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يأمروا بقضائه بعد صومه. وأصحاب الشافعى يقولون: كان مستحبّا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله: «أمر بصيامه» والأمر للوجوب، وبقوله: «فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه» . ويحتج الشافعية بقوله: «هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه» ، والشافعية يقولون أيضا: معنى قوله فى حديث سلمة: «فأمره أن يؤذن فى الناس من كان لم يصم فليصم الخ» . أن من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن كان لم ينو الصوم ولم يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم. واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب بنية فى النهار ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا فى النهار وأجزأهم. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث: بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا: أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية فى النهار فى الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل وغيره، انتهى.
وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت فى مسلم: «لما فرض رمضان ترك عاشوراء» «1» مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه، وأما قول بعضهم: «المتروك تأكد استحبابه، والباقى مطلق استمرار الاهتمام به حتى فى عام وفاته- صلى الله عليه وسلم- حيث قال:
«لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر» وترغيبه فى صومه وأنه يكفر السنة، فأى تأكيد أبلغ من هذا. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4503) فى التفسير، باب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، ومسلم (1123) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء.(3/431)
وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: «ما هذا؟» قالوا: يوم صالح نجى الله فيه موسى وبنى إسرائيل من عدوهم، فصامه فقال: «أنا أحق بموسى منكم» ، فصامه وأمر بصيامه.
وفى رواية: فقال لهم: «ما هذا اليوم الذين تصومونه» ؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» ، فصامه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه وفى أخرى: فنحن نصومه تعظيما له «1» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود.
وقد أجاب صاحب «زاد المعاد» وغيره عما استشكله بعضهم فى هذا الحديث- وقال: إن رسول الله إنما قدم المدينة فى شهر ربيع الأول فكيف يقول ابن عباس إنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء؟ - بأنه ليس فى الحديث أن يوم قدومه وجدهم يصومونه، فإنه إنما قدم يوم الاثنين فى ربيع الأول، ثانى عشرة، ولكن أول علمه بذلك ووقوع القصة فى اليوم الذى كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة.
وقال فى الفتح: غايته أن فى الكلام حذفا تقديره: قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صياما. ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذى قدم فيه- صلى الله عليه وسلم- المدينة. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى، لإضلالهم اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الأحاديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول.
انتهى. وقد استشكل أيضا رجوعه- صلى الله عليه وسلم- إلى خبر اليهود، وهو غير مقبول.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2004) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (1130) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وفى الباب عن عائشة.(3/432)
وأجاب المازرى: بأنه يحتمل أنه- صلى الله عليه وسلم- أوحى إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم بذلك. قال القاضى عياض ردّا على المازرى: قد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هى صفة حال، وجواب سؤال، فقوله: «صامه» ليس فيه أن ابتداء صومه حينئذ، ولو كان هذا لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره. قال: وقد قال بعضهم يحتمل أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصومه بمكة ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب منه فصامه، قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث.
قال النووى: المختار قول المازرى، ومختصر ذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كما تصومه قريش فى مكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحى أو تواتر أو اجتهاد، لا بمجرد إخبار آحادهم. انتهى.
وقال القرطبى: لعل قريشا كانوا يستندون فى صومه إليه شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كما فى الحج، وأذن الله له فى صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل أن يكون استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك. وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك فى الوقت الذى يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما فى حديث ابن عباس «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع» ، فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» «1» .
__________
(1) تقدم.(3/433)
وفى رواية: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» . رواه مسلم. وهذا دليل الشافعى وأصحابه وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا، لأنه- صلى الله عليه وسلم- صام العاشر ونوى صوم التاسع. قال النووى:
قال بعض العلماء: ولعل السبب فى صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود فى إفراد العاشر، وفى الحديث إشارة إلى هذا، وقيل للاحتياط فى تحصيل عاشوراء، والأول أولى. انتهى. وفى رواية البزار من حديث ابن عباس، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال- يوم عاشوراء-: «صوموه وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوما وبعده يوما» «1» . ولأحمد نحوه.
فمراتب صومه ثلاثة: أدناها أن يصام وحده، وأكملها أن يصام يوما قبله ويوما بعده، ويلى ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث. وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب فى هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين، إما بنقل العاشر إلى التاسع، وإما بصيامهما معا، والله أعلم. وفى البخارى من حديث أبى موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «فصوموه أنتم» «2» . وهذا ظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود، حتى يصام ما يفطرون فيه، لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى. لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم فى شرعهم أن يصوموه، وقد ورد ذلك صريحا فى مسلم «كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم» «3» وهو بالشين المعجمة أى هيئتهم الحسنة. ومحصل ما ورد فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- عاشوراء أربعة أحوال:
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 241) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (2095) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2005) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (1131) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، من حديث أبى موسى الأشعرى.
(3) تقدم فى الذى قبله.(3/434)
أولها: أنه كان يصومه بمكة، ولا يأمر الناس بصيامه كما تقدم فى حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: «كان عاشوراء يوما تصومه قريش فى الجاهلية وكان- صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه ... » الحديث.
الثانية: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة، ورأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به، صامه وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه، حتى كانوا يصوّمونه أطفالهم، كما تقدم فى حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما.
الثالثة: أنه لما فرض صوم شهر رمضان ترك- صلى الله عليه وسلم- صيامه وقال: «إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه» «1» ويشهد له حديث عائشة السابق.
الحالة الرابعة: أنه- صلى الله عليه وسلم- عزم فى آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر، مخالفة لأهل الكتاب فى صيامه، كما قدمناه.
وقد روى مسلم من حديث أبى قتادة مرفوعا: «أن صوم عاشوراء يكفر سنة وأن صيام يوم عرفة يكفر سنتين» «2» . وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء. وقد قيل: الحكمة فى ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى ويوم عرفة منسوب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلذلك كان أفضل. والله أعلم.
وأما ما ورى: من وسع على عياله فى يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها، فرواه الطبرانى والبيهقى فى «الشعب» وفى «فضائل الأوقات» ، وأبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان فقط عن أبى سعيد، والثانى فقط فى الشعب عن جابر وأبى هريرة، وقال: إن أسانيده كلها ضعيفة، ولكن إذا ضم
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1162) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأبو داود (2425) فى الصوم، باب: فى صوم الدهر تطوعا. من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.(3/435)
بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقى فى أماليه: لحديث أبى هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ. وأورده ابن الجوزى فى الموضوعات من طريق سليمان بن أبى عبد الله، وقال: سليمان مجهول. وسليمان ذكره ابن حبان فى الثقات، فالحديث حسن على رأيه. قال: وله طرق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر فى «الاستذكار» من رواية أبى الزبير عنه، وهى أصح طرقه. ورواه هو والدار قطنى فى «الأفراد» بسند جيد عن عمر موقوفا عليه، والبيهقى فى «الشعب» من جهة محمد بن المنتشر، قال: كان يقال.. وذكره.
الفصل الثالث فى صيامه ص شعبان
عن عائشة- رضى الله عنها-: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته فى شهر أكثر منه صياما فى شعبان «1» . رواه البخارى ومسلم، وفى أخرى لهما: لم يكن يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله «2» . وفى رواية الترمذى: كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله «3» . وفى رواية أبى داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان «4» . وللنسائى: كان يصوم شعبان، أو عامة شعبان «5» . وفى أخرى له: كان يصوم شعبان إلا قليلا «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1156) فى الصيام، باب: صيام النبى من غير رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) تقدم فى الذى قبله.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (736) فى الصوم، باب: ما جاء فى وصال شعبان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (2430) فى الصوم، باب: فى صوم شعبان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(5) حسن صحيح: أخرجه النسائى (1/ 659) فى الصيام، باب: الاختلاف على محمد بن إبراهيم من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى فى صحيح النسائى: حسن صحيح.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1156) وتقدم.(3/436)
وفى أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله «1» . قال الحافظ ابن حجر: أى يصوم معظمه.
ونقل الترمذى عن ابن المبارك أنه قال: جائز فى كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله. ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره، قال الترمذى: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله: أن الرواية الأولى مفسرة للثانية ومخصصة لها، وأن المراد ب «الكل» الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال.
واستبعده الطيبى وقال: يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان. وقال ابن المنير:
إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثانى متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى. ولا يخفى تكلفه، والأول لمحمول على المبالغة هو الصواب.
واختلف فى الحكمة فى إكثاره- صلى الله عليه وسلم- من صوم شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها فى شعبان. أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث أخرجه الطبرانى فى الأوسط من طريق ابن أبى ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان. وابن أبى ليلى ضعيف، وقيل كان يضع الحديث.
وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذى من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: سئل النبى- صلى الله عليه وسلم-: أى الصوم أفضل بعد رمضان قال: «شعبان لتعظيم رمضان» قال الترمذى: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذلك القوى.
__________
(1) تقدم فى الذى قبله.(3/437)
لكن يعارضه ما رواه مسلم من حديث أبى هريرة مرفوعا: «أفضل الصيام بعد رمضان صوم المحرم» «1» . والأولى فى ذلك ما جاء فى حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائى وأبو داود، وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذاك شهر يغافل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترتفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملى وأنا صائم» «2» .
فبين- صلى الله عليه وسلم- وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: «إنه شهر يغافل الناس عنه بين رجب ورمضان» يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما، فصار مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك.
وفى إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها أن يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، ولا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها: أنه أشق على النفوس، لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بنى الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم.
وقد روى فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال، فروى- بإسناد فيه ضعيف- عن عائشة قالت: كان أكثر صيام النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شعبان فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك فى شعبان؟ قال:
«إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض، فأنا أحب أن لا ينسخ اسمى إلا وأنا صائم» وقد روى مرسلا، وقيل إنه أصح.
وقد قيل فى صوم شعبان معنى آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، فلا يدخل فى صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1161) فى الصيام، باب: فضل صوم المحرم، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بلفظ أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم الحديث.
(2) أخرجه أحمد (5/ 201) من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.(3/438)
على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل فى صيام رمضان بقوة ونشاط. واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء فى النهى عن صوم نصف شعبان الثانى، فإن الجمع بينهما ظاهر، بأن يحمل النهى على من لم يدخل تلك الأيام فى صيام اعتاده.
وأجاب النووى عن كونه- صلى الله عليه وسلم- لم يكثر الصوم فى المحرم، مع قوله:
«إن أفضل الصيام ما يقع فيه» ، بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا فى آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم فى المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم فيه.
وأما شهر رجب بخصوصه- وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووى وغيره- فلم يعلم أنه صح أنه- صلى الله عليه وسلم- صامه، بل روى عنه من حديث ابن عباس، مما صح وقفه، أنه نهى عن صيامه، ذكره ابن ماجه لكن فى سنن أبى داود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها. وفى حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «صم من الحرم واترك» ، قالها ثلاثا «1» .
وفى رواية مسلم عن عثمان بن حكيم الأنصارى قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب- ونحن يومئذ فى رجب- فقال: سمعت ابن عباس يقول:
كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم «2» . والظاهر: أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهى عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقى الشهور.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2428) فى الصوم، باب: فى صوم أشهر الحرم. من حديث عجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها. والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1141) فى الجمعة، باب: قيام النبى بالليل من نومه وما نسخ من قيام الليل، ومسلم (1158) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان. من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/439)
وفى «اللطائف» روى عن الكتانى أخبرنا تمام الرازى حدثنا القاضى يوسف حدثنا محمد بن إسحاق السراج حدثنا يوسف بن موسى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حبيب المعلم عن عطاء أن عروة قال لعبد الله بن عمر: هل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم فى رجب؟ قال:
نعم ويشرفه، قالها ثلاثا «1» ، أخرجه أبو داود وغيره. وعن أبى قلابة قال: إن فى الجنة قصرا لصوام رجب «2» . قال البيهقى: أبو قلابة من كبار التابعين لا يقوله إلا عن بلاغ والله أعلم.
الفصل الرابع فى صومه ص عشر ذى الحجة
والمراد بها الأيام التسعة من أول ذى الحجة. عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذى الحجة «3» . رواه أبو داود. وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صائما فى العشر قط «4» . رواه مسلم والترمذى.
وهذا يوهم كراهة صوم العشر، وليس فيها كراهة، بل هى مستحبة استحبابا شديدا لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد ثبت فى صحيح البخارى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من أيام العمل فيها أفضل منه فى هذه» «5» يعنى العشر الأول من ذى الحجة، واستدل به على فضل صيام عشر ذى الحجة لاندراج الصوم فى العمل.
__________
(1) أخرجه أبو الحسن على بن محمد بن شجاع الربعى فى فضل رجب ورجاله كلهم ثقات، كما فى «كنز العمال» (24601) وهو ليس فى «سنن أبى داود» .
(2) أخرجه ابن عساكر، كما فى «كنز العمال» (24581) .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2437) فى الصوم، باب: فى صوم العشر. من حديث هند بنت أبى أمية بن المغيرة. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1176) فى الاعتكاف، باب: صوم عشر ذى الحجة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (969) فى الجمعة، باب: فضل العمل فى أيام التشريق.(3/440)
واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد؟ وأجيب: بأنه محمول على الغالب، والله أعلم. ويتأول قولها- يعنى عائشة-: «لم يصم العشر» أنه لم يصمه لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه فى نفس الأمر، ويدل عليه حديث هنيدة بن خالد الذى ذكرته.
قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع فى رواية القاسم بن أبى أيوب: «ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله فى عشر الأضحى» «1» . وفى حديث جابر فى صحيحى أبى عوانة وابن حبان «ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذى الحجة» «2» . فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر ذى الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك: فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعا بين الحديث السابق وبين حديث أبى هريرة مرفوعا: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة» «3» . رواه مسلم. أشار إلى ذلك النووى فى شرحه، وقال الداودى: لم يرد- صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة، يعنى: فيلزم تفضيل الشئ على نفسه، وتعقب: بأن المراد: كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة فى غيره لاجتماع الفضيلتين فيه. والذى يظهر أن السبب فى امتياز عشر ذى الحجة إمكان اجتماع أمهات العبادات فيه وهى الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك فى غيرها. وعلى هذا: هل يخص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه الدارمى (17774) فى الصوم، باب: فى فضل العمل فى العشر، وأصله فى الصحيح. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (3853) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (854) فى الجمعة، باب: فضل يوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/441)
وقال أبو أمامة بن النقاش: فإن قلت أيما أفضل، عشر ذى الحجة أو العشر الأواخر من رمضان؟ فالجواب: أن أيام عشر ذى الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذى ما رؤى الشيطان فى يوم غير يوم بدر أدحر ولا أغيظ ولا أحقر منه فيه وهو يوم عرفة، ولكون صيامه يكفر سنتين، ولاشتمالها على أعظم الأيام عند الله حرمة وهو يوم النحر الذى سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر، وليالى عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التى هى خير من ألف شهر. ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل فى قوله: «ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذى الحجة» الحديث، فتأمل قوله «ما من أيام» دون أن يقول: ما من عشر ونحوه. ومن أجاب بغير هذا التفضيل لم يدل بحجة صحيحة صريحة قط.
الفصل الخامس فى صومه ص أيام الأسبوع
عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس «1» . رواه الترمذى والنسائى، وعن أبى قتادة قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن صوم الاثنين فقال: «فيه ولدت وفيه أنزل على» «2» . رواه مسلم.
وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم» «3» . رواه الترمذى.
وعن أسامة بن زيد: قلت: يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر،
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (745) فى الصوم، باب: ما جاء فى صيام يوم الاثنين والخميس من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1162) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2565) فى البر والصلة، باب: النهى عن الشحناء والتهاجر. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/442)
وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا فى صيامك وإلا صمتهما، قال: «أى يومين؟» قلت: يوم الاثنين والخميس، قال: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم» «1» .
رواه النسائى.
وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «2» قال: يكتب كل ما يتكلم به من خير وشر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر ما كان فيه مجن خير أو شر، وألقى سائره، وهذا عرض خاص فى هذين اليومين غير العرض العام كل يوم فإن ذلك عرض خاص دائم بكرة وعشيّا. ويدل على ذلك ما فى صحيح مسلم عن أبى موسى الأشعرى قال: قام فينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات فقال: «إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل» «3» الحديث.
وعن أم سلمة كان- صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة «4» . وفى رواية أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذى يليه «5» . رواه النسائى. وعن عائشة:
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 56) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى. من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) سورة ق: 18.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (179) فى الإيمان، باب: فى قوله إن الله لا ينام. من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-.
(4) أخرجه النسائى (2/ 49) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» : حسن ولكن الأصح لفظ وخميس.
(5) ضعيف: أخرجه الترمذى (746) فى الصوم، باب: ما جاء فى صيام يوم الاثنين والخميس من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(3/443)
كان يصوم من شهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس «1» . رواه الترمذى: وعن كريب، مولى ابن عباس، قال:
أرسلنى ابن عباس وناس من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى أم سلمة أسألها: أى الأيام كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أكثرها صياما؟ قالت: السبت والأحد، ويقول: إنهما عيد المشركين، وأنا أحب أن أخالفهما «2» . رواه أحمد والنسائى، وفيه محمد ابن عمر، ولا يعرف حاله، ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد بن عمر ولا يعرف حاله أيضا.
وعن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه» «3» . رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه والدارمى. قال بعضهم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة، فإن النهى عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهى أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد. قالوا:
ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده.
قال النووى: وأما قول مالك فى الموطأ «لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، فقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه» فهذا الذى قاله هو الذى رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهى عن صوم يوم الجمعة فتعين القول به، ومالك معذور فإنه لم يبلغه. قال الداودى من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه.
__________
(1) هو فى الذى قبله.
(2) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (2775 و 2776) من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (744) فى الصوم، باب: ما جاء فى صوم يوم السبت، من حديث الصماء بنت بسر- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/444)
قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة فى الجمعة، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سامة كالحاج بعرفة.
فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهى والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذى قبله أو بعده ما يجبره ما قد يحصل من فتور أو تقصير فى وظائف يوم الجمعة بسبب صومه، والله أعلم.
الفصل السادس فى صومه ص الأيام البيض
وهى التى يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، وهى: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وليس فى الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام، لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض فصح قول من قال: الأيام البيض، على الوصف، واليوم الكامل هو النهار بليلته. وفيه رد لقول الجواليقى: «من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ» والله أعلم.
عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يفطر أيام البيض فى حضر ولا سفر «1» . رواه النسائى. وعن حفصة: أربع لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر «2» ، رواه أحمد.
وعن معاذة العدوية: أنها سألت عائشة: أكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أى أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: ما كان يبالى من أى أيام الشهر يصوم «3» . رواه مسلم. قال
__________
(1) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (4/ 198) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى. وقال الألبانى فى ضعيف النسائى: «ضعيف الإسناد» .
(2) أخرجه أحمد (6/ 287) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1160) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/445)
بعضهم: لعله- صلى الله عليه وسلم- لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعينها. قال:
وقد جعل الله تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر «1» . وقد تحصل أن صيامه- صلى الله عليه وسلم- فى الشهر على أوجه:
الأول: أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذى يليه، رواه النسائى.
الثانى: كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذى.
الثالث: أيام البيض، ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر.
الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم.
الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر، واختار جماعة منهم:
الحسن وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود.
قال القاضى عياض: واختار النخعى صوم ثلاثة أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون: أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل إنه صيام مالك بن أنس. وقال ابن شعبان من المالكية: أول يوم من الشهر والحادى عشر، والحادى والعشرون، ونقل ذلك عن أبى الدرداء، وهو موافق لما رواه النسائى من حديث عبد الله بن عمر «وصم من كل عشرة أيام يوما» «2» وحكى الإسنوى عن الماوردى أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود وهى السابع والعشرون واليومان بعده.
__________
(1) حسن: أخرجه النسائى (4/ 204) فى الصيام، باب: صيام النبى، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1159) فى الصيام، باب: النهى عن صوم الدهر لمن تضرر به، والنسائى (4/ 215) فى الصيام، باب: صيام عشرة أيام من الشهر. من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما-.(3/446)
وتترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشئ أعدله، ولأن الكسوف غالبا يقع فيها وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذى يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها. ورجح بعضهم صيام الثلاثة فى أول الشهر، لأن المرء لا يدرى ما يعرض له من الموانع، والله أعلم.
النوع الخامس فى ذكر اعتكافه ص واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر
اعلم أن الاعتكاف فى اللغة: الحبس والمكث واللزوم. وفى الشرع:
المكث فى المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة. ومقصوده وروحه عكوف القلب على الله، وجمعيته عليه، والفكر فى تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة فى القبر حين لا أنيس له. وليس بواجب إجماعا، إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عن قوم. واختلف فى اشتراط الصوم له:
ومذهب الشافعى: أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر.
وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم، فلا يصح اعتكاف المفطر.
واحتج الشافعى باعتكافه- صلى الله عليه وسلم- فى العشر الأول من شوال «1» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1173) فى الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف معتكفه، من حديث عائشة. ولم يروه البخارى بهذا اللفظ.(3/447)
البخارى ومسلم، وبحديث عمر: أنه قال: يا رسول الله، إنى نذرت أن أعتكف ليلة فى الجاهلية، فقال: «أوف بنذرك» «1» . رواه البخارى ومسلم، والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكى فأجازه فى كل مكان. وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف فى مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه. وفيه قول قديم للشافعى. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التى تقام فيها الصلوات. وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففى كل مسجد.
وقال الجمهور: بعمومه فى كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحبه له الشافعى فى الجامع. وشرطه مالك، لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك. وخصه طائفة من السلف، كالزهرى بالجامع مطلقا، وأومأ إليه الشافعى فى القديم. وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجدى مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة. واتفقوا على أنه لا حد لأكثره، واختلفوا فى أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام فى دون اليوم. حكاه ابن قدامة. وعن مالك: يشترط عشرة أيام، وعنه: يوم أو يومان. ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطلق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود.
واتفقوا على فساده بالجماع.
وقد كان سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان «2» . رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة. وعن أبى هريرة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2043) فى الاعتكاف، باب: إذا نذر فى الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، ومسلم (1656) فى الأيمان، باب: نذر الكافر وما يفعل إذا أسلم. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2025) فى الاعتكاف، باب: الاعتكاف فى العشر الأواخر، ومسلم (1171) فى الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/448)
- رضى الله عنه-: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين فى العام الذى قبض فيه «1» . رواه البخارى. وعن أبى سعيد الخدرى أنه- صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط فى قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال: إنى اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة- يعنى ليلة القدر- ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لى إنها فى العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتنى أسجد فى ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها فى العشر الأواخر والتمسوها فى كل وتر منه، قال: فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فبصرت عيناى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين «2» . رواه الشيخان.
وفى حديث عبادة بن الصامت: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة «3» ، رواه البخارى. ولمسلم من حديث عبد الله بن أنيس: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأرانى فى صبيحتها أسجد فى ماء وطين، قال: فمطرت ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا وأثر الماء والطين فى جبهته وأنفه «4» . وفى سنن أبى داود عن ابن مسعود مرفوعا:
«اطلبوها ليلة سبع عشرة» «5» . وأخرج الطبرانى مرفوعا من حديث أبى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4998) فى فضائل القرآن، باب: كان جبريل يعرض القرآن على النبى- صلى الله عليه وسلم-. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2027) فى الاعتكاف، باب: الاعتكاف فى العشر الأواخر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (49) فى الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. من حديث عبادة بن الصامت- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (2016) فى صلاة التراويح، باب: التماس ليلة القدر فى السبع الأواخر. من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-.
(5) ضعيف: أخرجه أبو داود (1384) فى الصلاة، باب: من روى أنها ليلة سبع عشرة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/449)
هريرة: «التمسوا ليلة القدر فى ليلة سبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين» .
وقد اختلف العلماء فى ليلة القدر اختلافا كثيرا، وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر من كلام العلماء فى ذلك أكثر من أربعين قولا، كساعة الجمعة. ومذهب الشافعى: انحصارها فى العشر الأخير، كما نص عليه الشافعى، فيما حكاه عنه الإسنوى.
وعن المحاملى فى «التجريد» : إنها تلتمس فى جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق فى «التنبيه» فقال: وتطلب ليلة القدر فى جميع شهر رمضان. ثم الغزالى فى كتبه. وتردد صاحب «التقريب» فى جواز كونها فى النصف الأخير، كذا نقله عنه الإمام وضعفه. وحكاه ابن الملقن فى شرح العمدة. وفى المفهم للقرطبى حكاية قول إنها ليلة النصف من شعبان.
ودليل الأول: حديث أبى سعيد الذى قدمناه، قال النووى: وميل الشافعى إلى أنها ليلة الحادى والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادى والعشرون فلقوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى سعيد: «فقد رأيت هذه الليلة، وقد رأيتنى أسجد فى ماء وطين من صبيحتها» «1» ، فبصرت عيناى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد الله بن أنيس المتقدم أيضا. وجزم جماعة من الشافعية: بأنها ليلة الحادى والعشرين، ولكن قال السبكى: إنه ليس مجزوما به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها فى العشر الأخير. وعن ابن خزيمة- من أصحابنا- أنها تنتقل فى كل سنة إلى ليلة من ليالى العشر الأخير.
__________
(1) تقدم.(3/450)
وحاصله: قولان، ووجه، واختار النووى فى الفتاوى وشرح المهذب رأى ابن خزيمة. وجزم ابن حبيب من المالكية، ونقله الجمهور، وحكاه صاحب «العدة» من الشافعية ورجحه: أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة، ولم تكن فى الأمم قبلهم.
وهو معترض: بحديث أبى ذر عند النسائى، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قلت: بل هى باقية. وعمدتهم قول مالك فى «الموطأ» بلغنى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله تعالى ليلة القدر. وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح من حديث أبى ذر كما قاله الحافظان ابن كثير فى تفسيره وابن حجر فى فتح البارى.
قال: وقد ظهر لليلة القدر علامات؛ منها: ما فى صحيح مسلم عن أبى بن كعب أن الشمس تطلع فى صبيحتها لا شعاع لها، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا: «ليلة القدر لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة» «1» ، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا أنها صافية، كأن فيها قمرا ساطعا، ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد ولا يحل لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس فى صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها حينئذ «2» .
وروى البيهقى فى «فضائل الأوقات» أن المياه المالحة تعذب فى تلك الليلة «3» . وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يجتهد فى العشر الأخير من رمضان ما لا يجتهد فى غيره «4» . رواه مسلم من حديث عائشة. وفى البخارى عنها: كان رسول
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة فى «صحيحه» (2190) من حديث جابر، ولم أقف على رواية ابن عباس.
(2) انظر «فتح البارى» لابن حجر (4/ 260) .
(3) ذكره الحافظ ابن حجر فى «المصدر السابق» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1175) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/451)
الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله «1» . وجزم عبد الرزاق بأن «شد مئزره» هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثورى. وقال الخطابى: يحتمل أن يراد به الجد فى العبادة، كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزرى، أى: تشمرت له، ويحتمل أن يراد به التشمير والاعتزال معا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، فيكون المراد: شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة.
وقوله: «وأحيا ليله» أى: سهره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه، لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعا، لأن النائم إذا حيى باليقظة حيى ليله بحياته، وهو نحو قوله: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا» «2» ، أى:
لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور. فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها فى بقية الشهر.
فمنها: إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويشهد له حديث عائشة من وجه ضعيف «وأحيا الليل كله» وفى المسند عنها أيضا، قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر «3» ، وفى حديث ضعيف عن أنس عند أبى نعيم: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل شهر رمضان قام ونام فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا ويحتمل أن تريد بإحياء الليل غالبه، وقد قال الشافعى فى القديم: من شهد العشاء والصبح فى جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. وروى فى حديث مرفوع عن أبى هريرة: «من صلى العشاء الآخرة فى جماعة فى رمضان فقد أدرك ليلة القدر» «4» . رواه أبو الشيخ.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2024) فى صلاة التراويح، باب: العمل فى العشر الأواخر من رمضان. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2042) فى المناسك، باب: زيارة القبور، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) تقدم.
(4) أخرجه البيهقى، كما فى «كنز العمال» (24092) .(3/452)
ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة فى ليالى العشر دون غيره من الليالى.
ومنها: تأخير الفطور إلى السحور، ففى حديث أنس وعائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان فى ليالى العشر يجعل عشاءه سحورا، ولفظ حديث عائشة:
كان- صلى الله عليه وسلم- إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا، أخرجه ابن أبى عاصم. ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحورا «1» . وإسناد الأول مقارب، والثانى فيه حفص بن غياث، وقال فيه ابن عدى: إنه من أنكر ما لقيت له. لكن يشهد له حديث الوصال المخرج فى الصحيح كما قدمته.
ومنها: اغتساله- صلى الله عليه وسلم- بين العشاءين: المغرب والعشاء، روى من حديث على، وفى إسناده ضعف.
النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم
اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود، ووقوف بساحة الجود، ومشاهدة لذلك المشهد العلى الرحمانى، وإلمام بمعهد العهد الربانى، ولا يخفى أن نفس الكون بتلك الأماكن شرف وعلو، وأن التردد فى تلك المواطن فخار وسمو، فإن المحال المحترمة لم تزل تفرع على الحال فيها من سجال وصفها بفيض غامر، وحسبك فى هذا ما يحكى فى أبيات عن مجنون بنى عامر:
رأى المجنون فى البيداء كلبا ... فجر عليه للإحسان ذيلا
فلاموه على ما كان منه ... وقالوا لم منحت الكلب نيلا
فقال دعوا الملام فإن عينى ... رأته مرة فى حى ليلا
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 174) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط وفيه حفص بن واقد البصرى، قال ابن عدى: له أحاديث منكرة.(3/453)
فينبغى للعبد أن يهتم بأمر الحج ويبادر إليه، وينهض فاتر عزمه إنهاضا يحثه عليه، ولا يتوانى فى غسل أدران سيئات العمر بصابون المغفرة، ولا يتكاسل عن البدار، فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة.
وروى ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أراد الحج فليتعجل» «1» . رواه أبو داود. وفى حديث على بن أبى طالب، عنه- صلى الله عليه وسلم-: «من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا» «2» .
الحديث رواه الترمذى. وخطب- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أيها الناس: قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» «3» . رواه مسلم والنسائى من حديث أبى هريرة. وفى رواية النسائى، من حديث ابن عباس مرفوعا: «إن الله كتب عليكم الحج» ، فقال الأقرع بن حابس التميمى: كل عام يا رسول الله؟ فقال: «لو قلت نعم لوجبت» «4» الحديث. فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر. واختلفوا: هل هو على الفور، أو على التراخى؟ فقال الشافعى وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخى، إلى أن ينتهى إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور. واختلفوا أيضا فى وقت ابتداء فرضه، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف فى سنته.
فالجمهور على أنه سنة ست، لأنه نزل فيها قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ «5» ، وهذا ينبنى على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض. ويؤيده
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1732) فى المناسك، باب: التجارة فى الحج، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (812) فى الحج. باب: ما جاء فى التغليظ فى ترك الحج، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1337) فى الحج، باب: فرض الحج مرة فى العمر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه مسلم. وقد تقدم فى الذى قبله.
(5) سورة البقرة: 196.(3/454)
قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعى بلفظ «وأقيموا» رواه الطبرى بأسانيد صحيحة عنهم.
وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضى تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع فى قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدى سنة خمس، وهذا يدل- إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو وقوعه فيها.
وقالت طائفة: إنه تأخر نزول فرضه إلى التاسعة والعاشرة. واحتجوا:
بأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد.
ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا فى أنفسهم بما فاتهم من التجارة مع المشركين لما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «1» الآية، فأعاضهم الله من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآيات والمنادات بها إنما كان سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك فى مكة فى موسم الحج، وأردفه بعلى.
وفى الترمذى من حديث جابر، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة، فساق ثلاث وستين بدنة، ثم جاء على من اليمن ببقيتها، فيها جمل فى أنفه برة من فضة فنحرها «2» ، الحديث. وعن ابن عباس: حج- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر ثلاث حجج «3» . أخرجه الحاكم وابن ماجه. وهو مبنى على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضى نفى الحج قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثورى، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- حج قبل أن يهاجر حججا «4» .
__________
(1) سورة التوبة: 28.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى- صلى الله عليه وسلم-. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 642) و (3/ 56) وفى الموضع الأول رفعه جابر- رضى الله عنه-.(3/455)
وقال ابن الجوزى: حج حججا لا يعلم عددها، وقال ابن الأثير: كان- صلى الله عليه وسلم- يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وقال جابر فى حديثه الطويل- كما فى رواية مسلم-: مكث- صلى الله عليه وسلم- تسع سنين لم يحج ثم أذن فى العاشرة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر، فأرسلت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
كيف أصنع؟ قال: «اغتسلى واستثفرى بثوب وأحرمى» ، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت مدّ بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شئ عملنا به «1» .
وفى رواية عند النسائى: قال جابر: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لخمس بقين من ذى القعدة وخرجنا معه، حتى إذا أتى ذا الحليفة الحديث «2» . وكان خروجه- صلى الله عليه وسلم- من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذى الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر.
وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه، غير غسل الجماع الأول.
وفى الترمذى، عن خارجة بن زيد عن أبيه: تجرد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لإهلاله واغتسل «3» . وفى الصحيحين: أن عائشة طيبته بذريرة «4» ، وفى رواية
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 155) فى مناسك الحج، باب: ترك التسمية عند الإهلال. من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (830) فى الحج، باب: ما جاء فى الاغتسال عند الإحرام. من حديث زيد بن ثابت بن الضحاك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (5930) فى اللباس، باب: الذريرة، ومسلم (1189) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/456)
قالت: كأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفارقه- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم «1» ، وفى رواية قالت: طيبته عند إحرامه، ثم طاف فى نسائه، ثم أصبح محرما «2» ، زاد فى رواية: ينضح طيبا «3» . وفى رواية: طيبته طيبا لا يشبه طيبكم «4» ، تعنى ليس له بقاء. وهذا يدل على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم فى الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأبى يوسف وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابى عن أكثر الصحابة، وحكاه النووى عن جمهور العلماء من السلف والخلف.
وذهب مالك: إلى منع التطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه. وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمى وأشنان «5» ، رواه الدار قطنى. وفى حديث أنس عند أبى داود والترمذى: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل «6» . وفى رواية ابن عمر، عند البخارى ومسلم وغيرهما: ما أهل إلا من عند المسجد «7» ، يعنى مسجد ذى الحليفة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (271) فى الغسل، باب: من تطيب ثم اغتسل وبقى أثر الطيب، ومسلم (1190) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) تقدم فى الذى قبله.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1192) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح الإسناد: أخرجه النسائى (5/ 137) فى مناسك الحج، باب: إباحة الطيب عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. وقال الألبانى: «صحيح الإسناد» .
(5) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 226) .
(6) ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 162) فى مناسك الحج، باب: العمل فى الإهلال. من حديث أنس- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(7) صحيح: أخرجه البخارى (1541) فى الحج، باب: الإهلال عند مسجد ذى الحليفة، ومسلم (1186) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/457)
وفى رواية: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره «1» . وفى رواية: حين وضع رجله فى الغرز، واستوت به راحلته قائما، أهل من عند مسجد ذى الحليفة. وفى رواية جابر- عند أبى داود والترمذى- أنه- صلى الله عليه وسلم- لما أراد الحج أذن فى الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم «2» .
وفى حديث ابن جبير- عند أبى داود- قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى إهلال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أوجب!؟ فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج- صلى الله عليه وسلم- حاجّا فلما صلى فى مسجده بذى الحليفة ركعتيه أوجبه فى مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا إنما أهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم الله لقد أوجب فى مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء.
قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أهل فى مصلاه إذا فرغ من ركعتيه «3» ، وهو مذهب أبى حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته. قال ابن القيم: ولم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1799) فى الحج، باب: القدوم بالغداة، ومسلم (1186) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (817) فى الحج، باب: ما جاء فى أى موضع أحرم، من حديث جابر وقد تقدم. وصححه الألبانى فى صحيح الترمذى.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1770) فى المناسك، باب: فى وقت الإحرام. من حديث ابن عباس وضعفه الألبانى فى «ضعيف أبى داود» .(3/458)
قلت: ثبت فى الصحيحين عن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يركع بذى الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذى الحليفة أهل «1» .
قال النووى: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضى وغيره عن الحسن البصرى أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قل:
لأنه روى أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث.
وقد اختلفت روايات الصحابة فى حجه- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، هل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ وروى كل منها فى البخارى ومسلم وغيرهما.
واختلف الناس فى ذلك على ستة أقوال:
أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه.
الثانى: حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضى أبو يعلى وغيره.
الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدى ولم يكن قارئا.
الرابع: أنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين.
الخامس: أنه حج مفردا، اعتمر بعده من التنعيم.
السادس: أنه- صلى الله عليه وسلم- حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى حل منهما جميعا، وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وساق الهدى.
واختلفوا أيضا فى إحرامه على ستة أقوال:
أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها.
الثانى: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه.
الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة.
__________
(1) تقدم.(3/459)
الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج.
الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه.
السادس: لبى بالحج والعمرة معا.
وقد أطنب أبو جعفر الطحاوى الحنفى فى الكلام على ذلك، فإنه تكلم عليه فى زيادة على ألف ورقة كما ذكره عنه جماعة من العلماء، وبينه ابن حزم فى حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبرى تمهيدا بالغا، وأشار إليه القاضى عياض والنووى فى شرحيهما لمسلم، ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثير من مباحثه استيفاء كافيا.
والذى ذهب إليه الشافعى فى جماعة: أنه- صلى الله عليه وسلم- حج حجّا مفردا لم يعتمر معه، واحتج بما فى الصحيحين أن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا أهلّ بالحج وحده، وأهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج» . فهذا التقسيم والتنويع صريح فى إهلاله بالحج وحده. ولمسلم عنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج وحده «1» . ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج «2» .
ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج «3» . وعن ابن عمر:
أنه- صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج. رواه البخارى.
قالوا: وهؤلاء لهم قرب فى حجة الوداع على غيرهم: فأما جابر، فهو
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2731) فى مناسك الحج، باب: القرآن. من حديث أنس قال: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبى بالعمرة والحج جميعا فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبّى بالحج وحده ... الحديث.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1240) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج، من حديث ابن عباس، وبنحوه عن عائشة.
(3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2966) فى المناسك، باب: الإفراد بالحج، وهو عند مسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/460)
أحسن الصحابة سياقا لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروجه- صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره. وأما ابن عمر، فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقته- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإنى كنت تحت ناقته- صلى الله عليه وسلم- يمسنى لعابها، أسمعه يلبى بالحج، وأما عائشة فقربها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره وظاهره، وفعله فى خلواته وعلانيته، مع كثرة فهمها وعظم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه فى الدين والفهم الثاقب معروف، مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة.
واحتجوا أيضا: بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على «الإفراد» مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، والمقتدى بهم، فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل. وبأنه لم ينقل عن أحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهة التمتع والجمع بينهما، حتى فعله على- رضى الله عنه- لبيان الجواز. وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقران.
وذهب النووى إلى أن الصواب أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ويؤيده أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر فى تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القران أفضل من الإفراد والذى لا يعتمر فى سنته عندنا، ولم يقل أحد إن الحج وحده أفضل من القران. انتهى. وقد صرح القاضى حسين والمتولى بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر فى تلك السنة. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القران بأمور.
منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع. وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه فى ذلك. وأشهر من روى عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته. وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه- صلى الله عليه وسلم- بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. وجابر، وقد روى عنه أنه اعتمر مع حجته أيضا.(3/461)
وبأن القران رواه عنه- صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه.
وبأنه لم يقع فى شئ من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت، ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال: «لولا أن معى الهدى لأحللت» «1» .
وأيضا: فإن من روى القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف، بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وينتفى التعارض، ويؤيده: أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين، ويؤيده: أن من جاء عنه التمتع لما وصفه، وصفه بصورة القران، لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القران.
وأيضا: فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيّا. انتهى.
وعدهم ابن القيم سبعة عشر: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعمر ابن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلى، وعمران ابن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد ابن أبى وقاص، وجابر، وابن عمر، قال: فهؤلاء سبعة عشر صحابيّا، منهم من روى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.
فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا، وعائشة، وابن عباس؟
وعائشة تقول: أهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج، وفى لفظ: أفرد الحج، والأول فى الصحيحين، والثانى فى مسلم. وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخارى، وهذا ابن عباس يقول: أهلّ بالحج، رواه مسلم. وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه.
قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1558) فى الحج، باب: من أهل فى زمن النبى كإهلال النبى. من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/462)
الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها. انتهى.
وهذا يقتضى رفع الشك عنها والمصير إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الثورى «1» وأبو حنيفة وإسحاق بن راهواه واختاره من الشافعية المزنى وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزى، ومن المتأخرين الشيخ تقى الدين السبكى، وبحث مع النووى فى اختياره أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندا إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وتعقب: بأن البيان قد سبق منه- صلى الله عليه وسلم- فى عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها فى ذى القعدة، وهى عمرة الحديبية التى صد عن البيت فيها، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط- مع أن الأفضل خلافه- لاكتفى فى ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى.
ومذهب الشافعى ومالك وكثيرين أن أفضلها: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، فإن قلت: إذا كان الراجح أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عن ذلك النووى فى شرح المهذب:
بأن ترجيح الإفراد لأنه- صلى الله عليه وسلم- اختاره أولا، فأهلّ بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج، وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور كما ذكرته.
وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن التمتع أفضل، وهو مذهب أحمد، لكونه- صلى الله عليه وسلم- تمناه، فقال: «لولا أنى سقت
__________
(1) زيادة من «فتح البارى» المصدر المنقول منه.(3/463)
الهدى لأحللت» «1» ، ولا يتمنى إلا الأفضل. وأجيب: بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله تعالى له، واستمر عليه- صلى الله عليه وسلم-.
وأما القائلون، إنه- صلى الله عليه وسلم- لبى بالعمرة واستمر عليها، فحجتهم حديث ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج «2» . وقال ابن شهاب عن عروة: إن عائشة أخبرته عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذى أخبرنى سالم عن ابن عمر. وقال ابن عباس: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذه عمرة استمتعنا بها» «3» . وقال سعد بن أبى وقاص فى المتعة: صنعها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصنعناها معه «4» .
وأجيب: بأن التمتع عندهم يتناول القران، ويدل له ما فى الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع على وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال على: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إنى لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى على ذلك أهلّ بهما جميعا «5» .
فهذا يبين أن من جمع بينهما كانت متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذى فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ووافقه عثمان على أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله، لكن النزاع بينهما: هل ذلك الأفضل فى حقنا أم لا؟ فقد اتفق على وعثمان على أنه
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1692) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1241) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (822) فى الحج، باب: ما جاء فى التمتع. من حديث سعد بن أبى وقاص والضحاك. وقال الألبانى: ضعيف الإسناد.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1569) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج، ومسلم (1223) فى الحج، باب: جواز التمتع.(3/464)
- صلى الله عليه وسلم- تمتع وأن المراد بالتمتع عندهم القران. وأيضا: فإنه- صلى الله عليه وسلم- قد تمتع تمتع قران باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين. انتهى.
وفى فتح البارى عن أحمد: أن من ساق الهدى فالقران له أفضل ليوافق فعل النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومن لم يسق الهدى فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه. انتهى.
وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- حج مفردا ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره فهو غلط، لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. قاله ابن تيمية.
وأما من قال: إنه حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدى فحجته حديث معاوية أنه قصر عن رأس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمشقص على المروة «1» ، وحديثه فى الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هذا فى غير حجة الوداع، لأن معاوية أسلم بعد الفتح، والنبى- صلى الله عليه وسلم- لم يكن زمن الفتح محرما، ولا يمكن أن يكون فى عمرة الجعرانة لوجهين: أحدهما: أنه فى بعض ألفاظ الحديث الصحيح «وذلك فى حجته» «2» ، الثانى: أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح: «وذلك فى أيام العشر» «3» وهذا إنما كان فى حجته، وهذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر فى قوله: 7 نه اعتمر فى رجب كما سيأتى. وسائر الأحاديث الصحيحة كلها تدل على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: «لولا أن معى الهدى لأحللت» «4» وقوله: «إنى سقت الهدى وقرنت فلا أحل عن حتى
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 244) فى المناسك، باب: أين يقصر المعتمر، وفى الكبرى (3981) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) تقدم.(3/465)
أنحر» «1» . وهذا خبر عنه لا يدخله الوهم ولا الغلاط، بخلاف خبر غيره عنه. قاله فى زاد المعاد.
وأما اختلاف الروايات عنه- صلى الله عليه وسلم- فى إهلاله، هل هو بالحج أو بالعمرة أو القران، والجمع بينها، فكل تأول بما يناسب مذهبه الذى قدمته.
قال البغوى: والذى ذكره الشافعى فى كتاب «اختلاف الأحاديث» كلاما موجزه: «أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان منهم المفرد والقارن والمتمتع، فكل كان يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، ويجوز فى لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد أنه أمر ببنائها، وكما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه، ثم احتج بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابى نحوه.
وقال النووى: كان- صلى الله عليه وسلم- أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج فصار قارنا، فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعنى حمله على ما أهل به فى أول الحال، ومن روى القران أراد ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوى والارتفاق، فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على فعل واحد. وقال غيره: أراد بالتمتع ما أمر به غيره. قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض.
وقالت طائفة: إنما أحرم- صلى الله عليه وسلم- قارنا ابتداء يعنى بالحج والعمرة معا واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس فى صحيح مسلم سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أهل بهما: «لبيك عمرة وحجّا» «2» .
ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إهلالا بحج وعمرة معا.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1566) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج. من حديث حفصة ولفظه إنى لبدت رأسى وقلدت هديى فلا أحل حتى أنحر.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1692) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر. وقد تقدم أكثر من مرة.(3/466)
وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما فى البخارى من حديث ابن عمر قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدى من ذى الحليفة، وبدأ- صلى الله عليه وسلم- فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج.
وقد تقدم فى الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه- صلى الله عليه وسلم- بدأ بالإهلال بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا عكسه. والمشكل فى هذا الحديث قوله:
«بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج» . وأجيب عنه: بأن المراد به صورة الإهلال، أى لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: «لبيك بعمرة وحج معا» «1» ولبعضهم: بدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة «2» ، أى أمرهم بها أولا، أى بتقديمها على الحج.
ومذهب الشافعى: أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح، وصار قارنا، فلو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعى، أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة، لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمى. والضعيف لا يدخل على القوى. انتهى.
وعن ابن عباس قال: صلى- صلى الله عليه وسلم- الظهر بذى الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها فى صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين «3» ، رواه مسلم وأبو داود. وفى رواية الترمذى: قلد نعلين، وأشعر الهدى فى الشق الأيمن، بذى الحليفة، وأماط عنه الدم «4» . وفى رواية لأبى داود بمعناه، وقال: ثم
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1243) فى الحج، باب: تقليد الهدى وإشعاره عند الإحرام، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (906) فى الحج، باب: ما جاء فى إشعار البدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/467)
سلت الدم بيده «1» ، وفى أخرى بأصبعه «2» . وعند النسائى: أشعر بدنه من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين «3» . وفى أخرى: أمر ببدنة فأشعر فى سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين «4» .
وكان حجه- صلى الله عليه وسلم- على رحل رث يساوى أربعة دراهم «5» . رواه الترمذى فى الشمائل وابن ماجه من حديث أنس، والطبرانى فى الأوسط من حديث ابن عباس.
وعن أسماء بنت أبى بكر قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وجلست إلى جنب أبى بكر، وكانت زمالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وزمالة أبى بكر واحدة، مع غلام لأبى بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة. قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ وطفق يضربه ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبتسم ويقول: «انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع» ، وما يزيد على ذلك ويبتسم «6» . رواه أبو داود.
وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- أصحابه لا يعرفون إلا الحج- كما قالت عائشة- فبين لهم- صلى الله عليه وسلم- وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار فى أشهر الحج فقال:
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1752) فى المناسك، باب: فى الإشعار. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) قاله أبو داود عقب الحديث السابق، حيث قال: رواه همام فذكره.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 170) فى مناسك الحج، باب: سلت الدم عن البدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) تقدم فى الذى قبله.
(5) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2890) فى المناسك، باب: الحج على الرحل. من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(6) حسن: أخرجه أبو داود (1818) فى المناسك، باب: المحرم يؤدب غلامه. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/468)
«من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل» «1» . رواه البخارى. ولأحمد: «من شاء فليهل بعمرة» .
ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- الأبواء أو ودان، أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا فرده عليه، فلما رأى ما فى وجهه قال: «7 نا لم نرده عليك إلا أنا حرم» «2» . رواه البخارى ومسلم. وله فى رواية: حمار وحش «3» . وفى أخرى: من لحم حمار وحش «4» ، وفى رواية: عجز حمار وحش يقطر دما «5» ، وفى رواية: شق حمار وحش «6» ، وفى رواية عضو من لحم صيد «7» .
ورواه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.. فذكره. واتفقت الروايات كلها عن أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقى من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- عجز حمار وحش، وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقى: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحى وقبل اللحم.
قال فى فتح البارى: وفى هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق محفوظة فلعله رد حيّا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعى فى «الأم» : إن كان الصعب
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (317) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل الحيض، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1825) فى الحج، باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيّا حيّا لم يقبل، ومسلم (1193) فى الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. من حديث الصعب ابن جثامة الليثى- رضى الله عنه-.
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) تقدم فى الذى قبله.
(5) مسلم (1194) وتقدم فى الذى قبله.
(6) تقدم فى الذى قبله.
(7) أخرجه مسلم (1195) وتقدم فى الذى قبله.(3/469)
أهدى حمارا حيّا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حى، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه. ونقل الترمذى عن الشافعى: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور فى حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه- صلى الله عليه وسلم- من مكة، ويؤيده: أنه جازم فيه بوقوع ذلك فى الجحفة، وفى غيرها من الروايات: بالأبواء أو بودان. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرته- صلى الله عليه وسلم- فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيّا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، قال: ويحتمل أن يكون من قال حمارا، أطلق وأراد بعضه مجازا، قال: ويحتمل أنه أهداه له حيّا، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل. قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة.
قال النووى: قال الشافعى وآخرون: ويحرم تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوها، وفى ملكه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد فإن صاده أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا، سواء صاده، أو صاده غيره له، قصده أو لم يقصده، فيحرم مطلقا. حكاه القاضى عياض عن على وابن عمر وابن عباس لقوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً «1» ، قالوا: والمراد بالصيد المصيد، ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه- صلى الله عليه وسلم- رد وعلل رده بأنه محرم، ولم يقل: بأنك صدته لنا.
واحتج الشافعى وموافقوه: بحديث أبى قتادة المذكور فى صحيح
__________
(1) سورة المائدة: 96.(3/470)
مسلم، فإنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى الصيد الذى صاده أبو قتادة وهو حلال، قال للمحرمين: «هو حلال فكلوه» «1» . وفى الرواية الآخرى قال: «فهل معكم منه شئ؟» قالوا: معنا رجله فأخذها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكلها «2» .
ولما مرّ- صلى الله عليه وسلم- بوادى عسفان قال: «يا أبا بكر، أى واد هذا؟» قال:
وادى عسفان قال: «لقد مرّ به هود وصالح على بكرين أحمرين خطامهما الليف، وأرزهما العباء وأرديتهما النمار يلبون بالحج يحجون البيت العتيق» «3» . رواه أحمد. وفى رواية مسلم من حديث ابن عباس، لما مر بوادى الأزرق قال: «كأنى أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه فى أذنيه مارا بهذا الوادى، وله جؤار إلى الله بالتلبية» «4» .
ووادى الأزرق خلف أمج- بفتح الهمزة والميم والجيم- قرية ذات مزارع، بينه وبين مكة ميل واحد، ولم يعين فى رواية البخارى الوادى، ولفظه: أما موسى كأنى أنظر إليه إذ انحدر من الوادى يلبى. قال المهلب:
هذا وهم من بعض رواته، لأنه لم يأت فى أثر ولا خبر أن موسى حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوى، ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر: «ليهلن ابن مريم بفج الروحاء» «5» انتهى.
وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وقد ذكر البخارى الحديث فى اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاده؟
وفى رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس، أفيقال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاد يونس؟
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1196) وتقدم فى الذى قبله.
(2) تقدم فى الذى قبله.
(3) أخرجه أحمد (1/ 232) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (166) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1252) فى الحج، باب: إهلال النبى وهديه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/471)
وتعقب أيضا: بأن توهيم المهلب للراوى وهم منه، وإلا فأى فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل. وأجيب: بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: «كأنى أنظر إليه» ولهذا استدل المهلب بحديث أبى هريرة الذى فيه «ليهلن ابن مريم بالحج» .
وقد اختلف فى معنى قوله: «كأنى أنظر إليه» . فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحى.
وقيل: هو على الحقيقة، لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا مانع أن يحجوا فى هذه الحالة، كما فى صحيح مسلم عن أنس: أنه رأى موسى- عليه السّلام- قائما فى قبره يصلى.
قال القرطبى: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعى أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ «1» الآية لكن تمام هذا التوجيه أن يقال: المنظور إليه هى أرواحهم، فلعلها مثلت له- صلى الله عليه وسلم- فى الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهى فى القبور.
قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا، ويرى فى اليقظة كما يرى فى النوم. وقيل: كأنه مثلت أحوالهم التى كانت فى الحياة الدنيا، كيف تعبدوا، وكيف حجوا، وكيف لبوا، ولهذا قال: «كأنى» ... وقيل: كأنه أخبر بالوحى عن ذلك، فلشدة قطعه به قال: «كأنى أنظر إليه» . انتهى. وقد ذكرت فى مقصد الإسراء من ذلك ما يكفى والله الموفق.
ولما نزل- صلى الله عليه وسلم- بسرف خرج إلى أصحابه فقال من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدى فلا. وحاضت عائشة فدخل عليها- صلى الله عليه وسلم- وهى تبكى، فقال: «ما يبكيك يا هنتاه» ، قالت:
سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال: «وما شأنك؟» قالت: لا
__________
(1) سورة يونس: 10.(3/472)
أصلى، قال: «فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكونى فى حجك، فعسى الله أن يرزقكها» «1» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى.
وفى رواية قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علىّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكى، فقال: «ما يبكيك» فقلت: والله لوددت أنى لم أكن خرجت العام، فقال: «ما لك، لعلك نفست؟» قلت: نعم، قال: «هذا شئ كتبه الله على بنات آدم، افعلى ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى» «2» . الحديث.
وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، كما اختلف: هل كانت متمتعة أم مفردة؟ وإذا كانت متمتعة فقيل إنها كانت أولا أحرمت بالحج وهو ظاهر هذا الحديث.
وفى حجة الوداع من المغازى عند البخارى، من طريق هشام بن عروة عن أبيه قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة. وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهرى: ولم أسق هديا، وفى رواية الأسود عنها قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نلبى لا نذكر حجّا ولا عمرة.
ويحتمل فى الجمع أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردة، كما صنع غيرها من الصحابة، ثم أمر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتعة، ثم لما دخلت مكة وهى حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج.
وقال القاضى عياض: واختلف فى الكلام على حديث عائشة، فقال:
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1560) فى الحج، باب: قول الله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (305) فى الحيض، باب: تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/473)
ما لك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا. قال ابن عبد البر: يريد ليس العمل عليه فى رفض العمرة وجعلها حجّا، بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة. واختلف فى جوازه من بعدهم، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله: «ارفضى عمرتك» «1» . أى اتركى التحلل منها وأدخلى عليها الحج، فتصير قارنة، ويؤيده قوله فى رواية لمسلم «وامسكى عن العمرة» «2» أى عن أعمالها. وإنما قالت عائشة: «وأرجع بحج» لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين. واستبعد هذا التأويل لقولها فى رواية عطاء عنها «وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة» «3» أخرجه أحمد. وهذا يقوى قول الكوفيين: إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا فى ذلك بقوله لها «دعى عمرتك» «4» ، وفى رواية «اقضى عمرتك» «5» ونحو ذلك.
واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة.
لكن فى رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال فى ذلك: ما رواه مسلم من حديث جابر أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كان بسرف حاضت فقال لها النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أهلى بالحج» حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت، فقال: «قد حللت من حجتك وعمرتك» ، قالت: يا رسول الله إنى أجد نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت، قال: «فأعمرها من التنعيم» «6» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1783) فى الحج، باب: العمرة ليلة الحصبة وغيرها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) هى رواية عند مسلم (1211) (113) وقد تقدمت.
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 165 و 219) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) أخرجه البخارى (317) وقد تقدم.
(5) تقدم.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (1518) فى الحج، باب: الحج على الرحل، من حديث عائشة وقد تقدم.(3/474)
ولمسلم من طريق طاوس عنها: فقال لها النبى- صلى الله عليه وسلم-: «طوافك يسعك لحجك وعمرتك» فهذا صريح فى أنها كانت قارنة، لقوله: «قد حللت من حجك وعمرتك، وإنما أعمرها من التنعيم» «1» تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع فى رواية مسلم: وكان- صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا إذا هويت الشئ تابعها عليه «2» .
ثم قال- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» «3» . وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج، وفى منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف، كما جاء فى رواية عائشة، أو بعد طوافه بالبيت كما جاء فى رواية جابر، ويحتمل تكرار الأمر بذلك فى الموضعين. وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.
وفى رواية قالت عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، حتى قدمنا مكة فقال- صلى الله عليه وسلم-: «من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه» «4» .
وهذا الحديث ظاهر فى الدلالة لأبى حنيفة وأحمد وموافقيهما، فى أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدى لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر.
ومذهب مالك والشافعى وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شئ فى الحال، سواء أكان ساق هديا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدى، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شئ، كما لو تحلل المحرم بالحج.
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1213) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1556) فى الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (319) فى الحيض، باب: كيف تهل الحائض بالحج والعمرة، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/475)
وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التى ذكرها مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» «1» فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التى احتج بها أبو حنيفة وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا بد من هذا التأويل، لأن القصة واحدة، والراوى واحد، فتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكر والله أعلم.
ولما بلغ سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذا طوى- بضم الطاء وبفتحها، وقيدها الأصيلى بالكسر- عند آبار الزاهر، بات بها بى الثنيتين، فلما أصبح صلى الغداة ثم اغتسل «2» رواه البخارى. وللنسائى: كان- صلى الله عليه وسلم- ينزل بذى طوى، يبيت به حتى يصلى صلاة الصبح حين يقدم إلى مكة.
ومصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك، على أكمة خشنة غليظة، ليس فى المسجد الذى بنى ثمّ، ولكن من أسفل ذلك على أكمة خشنة غليظة. وفى الصحيحين: أنه- صلى الله عليه وسلم- دخلها من أعلاها «3» . وفى حديث ابن عمر فى الصحيح: كان- صلى الله عليه وسلم- يدخل من الثنية العليا يعنى أعلى مكة من كداء «4» - بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيد: لا يصرف- وهذه الثنية هى التى ينزل منها إلى المعلاة- مقبرة مكة- وهى التى يقال لها: الحجون- بفتح الحاء المهملة وضم الجيم-.
ولم يقع أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة ليلا إلا فى عمرة الجعرانة، فإنه- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) هو عند مسلم (1211) وقد تقدم.
(2) أخرجه البخارى تعليقا فى الحج، باب: الإهلال مستقبل القبلة.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1577) فى الحج، باب: من أين يخرج من مكة، ومسلم (1258) فى الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1257) فى الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/476)
أحرم من الجعرانة، ودخل مكة ليلا، فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت «1» كما رواه أصحاب السنن الثلاثة، من حديث محرش الكعبى. وعن عطاء قال: إن شئتم فادخلوا ليلا، إنكم لستم كرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إنه كان إماما، فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس. رواه النسائى.
ثم دخل- صلى الله عليه وسلم- مكة لأربع خلون من ذى الحجة. ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بنى عبد مناف، وهو باب بنى شيبة، والمعنى فيه أن باب الكعبة فى جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع، كما قال ابن عبد السلام فى «القواعد» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى البيت قال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرّا» «2» . رواه الثورى عن أبى سعيد الشامى عن مكحول. وروى الطبرانى عن حذيفة بن أسيد: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا نظر إلى البيت قال: «اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرّا ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وبرّا ومهابة» «3» .
ولم يركع- صلى الله عليه وسلم- تحية المسجد، إنما بدأ بالطواف لأنه تحية البيت كما صرح به كثير من أصحابنا، وليس بتحية المسجد. ثم استلم- صلى الله عليه وسلم- الحجر الأسود، وفى رواية جابر عند البخارى: «استلم الركن» ، والاستلام افتعال من السلام، أى التحية، قاله الأزهرى، وقيل من السلام- بالكسر- أى الحجارة، والمعنى: أنه يومئ بعصاه إلى الركن حتى تصيبه، وكانت محنية الرأس، وهى المراد بقوله فى الحديث ب «المحجن» .
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (935) فى الحج، باب: ما جاء فى العمرة من الجعرانة. من حديث محرش الكعبى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) موضوع: أخرجه الطبرانى فى الكبير عن حذيفة بن أسيد، كما فى «ضعيف الجامع» (4456) .
(3) انظر ما قبله.(3/477)
واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم، وللثانى: الثانية فقط، وليس للآخرين شئ منها، فلذلك يقبل الأول، ويستلم الثانى فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان.
وروى الشافعى عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الحجر، فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلا. وكان إذا استلم الركن قال: «بسم الله والله أكبر» ، وكلما أتى الحجر قال: «الله أكبر» ، رواه الطبرانى. وهل كان- صلى الله عليه وسلم- طائفا على بعيره أم على قدميه؟
ففى مسلم عن عائشة: طاف- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع على بعيره. وفيه عن أبى الطفيل: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على بعيره «1» . وقد اختلف فى علة ذلك: فروى أبو داود من حديث ابن عباس: أنه- صلى الله عليه وسلم- قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته «2» ، وفى حديث جابر عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه «3» . فيحتمل أنه فعل ذلك للأمرين.
قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التى يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك، لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب. وتعقب:
بأنه ليس فى الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلوث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته- صلى الله عليه وسلم- كانت منوقة، أى مدربة معلمة، فيأمن معها ما يحذر من التلويث.
قال بعضهم: وهذا كان- والله أعلم- فى طواف الإفاضة، لا فى طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل فى الثلاثة الأول، وذلك لا يكون
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1879) فى المناسك، باب: الطواف واجب. من حديث أبى الطفيل ولفظه رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمعجنه ثم يقبله وصححه الألبانى فى «صحيح أبى داود» .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1881) فى المناسك، باب: الطواف واجب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) تقدم حديث جابر مرارا.(3/478)
إلا مع المشى، ولم يقل أحد رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أى بنفسه.
وقال الشافعى: أما سعيه الذى طاف لمقدمه فعلى قدميه. انتهى.
ولما استلم- صلى الله عليه وسلم- الحجر مضى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعا.
وكان ابتداء الرمل فى عمرة القضية، لما قدم- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلى الحجر، وأمرهم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين ليرى المشركين جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا «1» . رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس.
ولما كان فى حجة الوداع رمل- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فكان سنة مستقلة.
قال الطبرى: قد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعنى فى حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل، بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها، فلا شئ عليه. انتهى. فلو ترك الرمل فى الثلاث لم يقضه فى الأربع، لأن هيئتها السكينة فلا تغير، والله أعلم.
ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم- من طوافه أتى المقام، فقرأ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «2» فصلى ركعتين بينه وبين البيت، قرأ فيهما ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «3» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «4» ثم رجع إلى الركن الذى فيه الحجر فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «5» ، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1266) فى الحج، باب: استحباب الرمل فى الطواف والعمرة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) سورة البقرة: 125.
(3) سورة الكافرون: 1.
(4) سورة الإخلاص: 1.
(5) سورة البقرة: 158.(3/479)
رأى البيت واستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه فى بطن الوادى رمل، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة» «1» .
وفى حديث أبى الطفيل عند مسلم وأبى داود، قال: قلت لابن عباس، أخبرنى عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما قولك صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشى والسعى أفضل. هذا لفظ رواية مسلم. وفى أوله ذكر الرمل فى طواف البيت «2» .
وعند أبى داود أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيؤوا العام المقبل، فيقيموا ثلاثة أيام، فقدم- صلى الله عليه وسلم- فقال لأصحابه: «أرملوا البيت» ، وفيه: طاف- صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة على بعير، لأن الناس كانوا لا يدفعون ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم «3» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقى عليها، واستقبل البيت وكبر الله وحده، وفعل كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال:
«لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة» ، فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك- صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة فى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(2) تقدم.
(3) تقدم.(3/480)
الآخرى وقال: «دخلت العمرة فى الحج هكذا- مرتين-، لا بل لأبد أبد» «1» .
وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة.
قال النووى: وقد اختلف فى هذا الفسخ، هل هو خاص للصحابة تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟
فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصّا، بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدى أن يقلب إحرامه ويتحلل بأعمالها.
وقال مالك والشافعى وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف:
هو مختص بهم فى تلك السنة، لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج.
ومما يستدل به للجماهير، حديث أبى ذر فى مسلم: كانت المتعة فى الحج لأصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- خاصة. يعنى فسخ الحج إلى العمرة «2» . وفى النسائى عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بل لنا خاصة» «3» .
قال: وأما الذى فى حديث سراقة: «ألعامنا هذا أم لأبد؟» فقال: «لا، بل لأبد أبد» «4» فمعناه: جواز الاعتمار فى أشهر الحج، والقران كما سبق تفسيره. فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث: أن العمرة فى أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة، والله أعلم، انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2506) فى الشركة، باب: الاشتراك فى الهدى والبدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) تقدم.
(3) ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 179) فى مناسك الحج، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة ... من حديث بلال بن الحارث- رضى الله عنه-. والحديث ضعف الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(4) تقدم.(3/481)
وفى رواية النسائى أيضا: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة «1» ، يعنى متعة النساء ومتعة الحج، يعنى فسخ إلى العمرة، ومتعة النساء: هى نكاح المرأة إلى أجل، كان ذلك مباحا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم فتح مكة ثم نسخ فى أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف فى العصر الأول، ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه.
وكان- صلى الله عليه وسلم- مدة مقامه بمنزله الذى نزل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، يقصر الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة، لأنه قدم فى الرابع، وخرج فى الثامن، فصلى بها إحدى وعشرين صلاة، من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن، ومن يوم دخوله- صلى الله عليه وسلم- مكة وخروجه يوم النفر الثانى من منى إلى الأبطح عشرة أيام سواء. وقدم على من اليمن على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له: «بما أهللت؟» فقال: بما أهل به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «لولا أن معى الهدى لأحللت» «2» . رواه الشيخان من حديث أنس.
وفى حديث البراء عند الترمذى والنسائى: دخل علىّ على فاطمة- رضى الله عنهما- فوجدها قد نضحت البيت بنضوح فغضب. فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أمر أصحابه فأحلوا، قال: قلت لها إنى أهللت بإهلال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فأتيته فقال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كيف صنعت؟» قال: وقال لى: انحر من البدن سبعا وستين، أو ستّا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين، وأمسك من كل بدنة منها قطعة.
وفى رواية جابر عند مسلم: فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثوبا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبى أمرنى بهذا، فقال: صدقت صدقت، ما قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت اللهم إنى أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معى الهدى فلا تحل. قال: فكان جماعة الهدى الذى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1224) فى الحج، باب: جواز التمتع. من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.
(2) تقدم.(3/482)
قدم به على من اليمن والذى أتى به النبى- صلى الله عليه وسلم- مائة. قال: فحل الناس كلهم كلهم وقصروا إلا النبى- صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدى.
فلما كان يوم التروية، وكان يوم الخميس ضحى، ركب- صلى الله عليه وسلم- وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم، وصلى- صلى الله عليه وسلم- بمنى: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، فسار على طريق ضب، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية، وكان «الحمس» وهم قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن قطين الله، أى جيران بيته فلا نخرج من حرمه، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ «1» .
وعن جبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لى فى الجاهلية، فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت عرفت أن الله وفقه لذلك. وفى رواية: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا، الحديث. ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- عرفة وجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر ب «القصواء» فرحلت له، فركب فأتى بطن الوادى فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمىّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا فى بنى سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن
__________
(1) سورة البقرة: 199.(3/483)
فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عنى، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ويقول: «اللهم اشهد» ثلاث مرات.
ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا «1» . وهذا الجمع مختص بالمسافرين عند الجمهور، وعن مالك والأوزاعى، وهو وجه للشافعية: أن الجمع بعرفة وجمع للنسك، فيجوز لكل أحد. قال الأسنوى: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف. قال الشافعى والأصحاب: إذا خرج الحاج يوم التروية، ونووا الذهاب، إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خروجهم.
ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم- من صلاته ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، وكان أكثر دعائه- صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة فى الموقف: «اللهم لك الحمد كالذى نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، وإليك مابى، ولك رب تراثى، اللهم إنى أعوذبك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إنى أسألك من خير ما تجئ به الرياح وأعوذبك من شر ما تجىء به الريح» «2» . رواه الترمذى من حديث على.
وفى رواية ذكرها رزين: كان أكثر دعائه- صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة بعد قوله؛ لا إله إلا الله وحده لا شريك له: «اللهم لك الحمد كالذى نقول: اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، وإليك مابى، وعليك يا رب ثوابى، اللهم
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 290) فى المواقيت، باب: الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3520) فى الدعوات، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/484)
إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذى شر» .
وفى الترمذى: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» «1» .
وكان من دعائه فى عرفة أيضا- كما فى الطبرانى الصغير- من حديث ابن عباس: «اللهم إنك تسمع كلامى، وترى مكانى، وتعلم سرى وعلانيتى، لا يخفى عليك شئ من أمرى، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته وذل جسده، ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيّا، وكن بى رؤفا رحيما، يا خير المسئولين ويا خير المعطين» «2» .
وأتاه- صلى الله عليه وسلم- ناس من أهل نجد- وهو بعرفة- فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه «3» ، رواه الترمذى. وفى رواية جابر عند أبى داود، قال- صلى الله عليه وسلم- بعرفة: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف» «4» . وهناك أنزلت عليه الْيَوْمَ
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (3585) فى الدعوات، باب: فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3274) .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 252) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والصغير، وفيه يحيى بن صالح الأيلى، قال العقيلى روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (889) فى الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، من حديث عبد الرحمن بن يعمر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (1907) فى المناسك، باب: صفة حجة النبى- صلى الله عليه وسلم- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/485)
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1» الآية «2» ، كما فى الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته- وهو محرم- فمات، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكفن فى ثوبيه ولا يمس بطيب، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبى «3» . رواه البخارى ومسلم. أى يبعث على هيئته التى مات عليها.
واستدل بذلك على بقاء إحرامه، خلافا للمالكية والحنفية، قال النووى: يتأول هذا الحديث على أن النهى عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه، بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة، والله أعلم.
ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا، حين غاب القرص، أفاض- صلى الله عليه وسلم- من عرفة وأردف أسامة خلفه، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده: أيها الناس السكينة السكينة، وكلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد وأفاض من طريق المأزمين. وفى رواية ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- سمع وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل وراءه فأشار بسوطه وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع» «4» ، يعنى بالإسراع.
وفى رواية أبى داود: أفاض من عرفة، وعليه السكينة، ورديفه أسامة،
__________
(1) سورة المائدة: 3.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف، وأبو داود (1907) فى المناسك، باب: صفة حجة النبى، من حديث جابر وقد تقدم.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1849) فى الحج، باب: المحرم يموت يوم عرفة، ومسلم (1206) ى الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: أخرجه السنائى (5/ 257) فى مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد ولفظه فإن البر ليس فى إيضاع الإبل، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(3/486)
فقال: «أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل» ، فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعا «1» . وفى رواية أسامة بن زيد عند الشيخين: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص «2» ، قال هشام: والنص فوق العنق.
وأخرج الطبرانى فى المعجم عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول:
إليك تعدو قلقا وضنيها ... مخالف دين النصارى دينها
قال فى النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله. والقلق:
الانزعاج: والوضين: بالضاد المعجمة، حزام الرحل. ولما كان- صلى الله عليه وسلم- فى أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوآ خفيفا، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله؟ قال: «الصلاة أمامك» «3» .
فركب حتى أتى مزدلفة، وهى المسماة ب «جمع» بفتح الجيم وسكون الميم، وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أى دنى منها، وعن قتادة: إنما سميت جمعا لأنه يجمع فيها بين صلاتين، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها ويزدلفون إلى الله تعالى، أى يتقربون إليه بالوقوف فيها. انتهى.
فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بها المغرب والعشاء، كل واحدة منهما بإقامة، ولا صلى إثر كل واحدة منهما «4» . وفى رواية: فأقام المغرب، ثم
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1920) فى المناسك، باب: الدفعة من عرفة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1666) فى الحج، باب: السير إذا دفع من عرفة، ومسلم (1286) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة. من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (139) فى الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، ومسلم (1280) فى الحج، باب: إدامة الحاج التلبية. من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1673) فى الحج، باب: من جمع بينهما ولم يتطوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/487)
أناخ الناس فى منازلهم ولم يجلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا «1» . وترك- صلى الله عليه وسلم- قيام الليل تلك الليلة، ونام حتى أصبح، لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب، واجتهاده- صلى الله عليه وسلم- فى الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرا، ورقد بقية ليلته مع كونه- صلى الله عليه وسلم- كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم فى عرفة، ولما هو بصدده يوم النحر من كونه ينحر بيده المباركة ثلاثا وستين بدنة، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى، كما نبه عليه فى شرح تقريب الأسانيد.
وعن عباس بن مرداس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب: إنى قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإنى آخذ للمظلوم منه، قال: «أى رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم» ، فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال:
فضحك- صلى الله عليه وسلم-، أو قال: تبسم، فقال أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما-: بأبى أنت وأمى، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذى أضحكك، أضحك الله سنك، قال: «إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائى وغفر لأمتى أخذ التراب فجعل يحثو على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكنى ما رأيت من جزعه» «2» ، رواه ابن ماجه. ورواه أبو داود من الوجه الذى رواه ابن ماجه ولم يضعفه.
وقد جاء فى بعض الروايات عن غير العباس ما يبين أن المراد من «الأمة» من وقف بعرفة. وقال القرطبى: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. وقد رواه البيهقى بنحو رواية ابن ماجه ثم قال:
وله شواهد كثيرة، فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال الله
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1280) وقد تقدم.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3013) فى المناسك، باب: الدعاء بعرفة، من حديث عباس ابن مرداس بن أبى عامر، وضعفه الألبانى.(3/488)
تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» وظلم بعضهم بعضا دون الشرك.
انتهى.
وقال الترمذى فى الحديث الصحيح: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «2» . وهو مخصوص بالمعاصى المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه، لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هى نفسها، فلو أخرها بعده تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق.
وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق كالصلاة يستتاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمى بالحج إجماعا. انتهى والله أعلم.
واستأذنت سودة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة جمع، وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها، فقالت عائشة: فليتنى كنت استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما استأذنته سودة، وفى رواية: فاستأذنته أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها أن تدفع قبل حطمة الناس، قالت عائشة: فلأن أكون استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما استأذنت سودة أحب إلىّ من مفروح به «3» . رواه البخارى: وفى رواية أبى داود والنسائى: أرسل- صلى الله عليه وسلم- بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. فكان ذلك اليوم اليوم الذى يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، تعنى عندها «4» .
__________
(1) سورة النساء: 48.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1521) فى الحج، باب: فضل الحج المبرور، ومسلم (1350) فى الحج، باب: فضل الحج، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1681) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1290) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1942) فى المناسك، باب: التعجيل من جمع، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/489)
وعند مسلم: بعث أم حبيبة من جمع بليل «1» . وفى رواية البخارى ومسلم والنسائى عن ابن عباس قال: أرسلنى- صلى الله عليه وسلم- مع ضعفة أهله فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة «2» . وفى الموطأ والصحيحين والنسائى عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلى ساعة ثم قالت: يا بنى هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم صلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ فقلت:
نعم، قالت: فارتحلوا، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أذن للظعن- بالضم-:
النساء فى الهوادج «3» .
وقد اختلف السلف فى ترك المبيت بالمزدلفة؛ فقال علقمة والنخعى والشعبى: من تركه فاته الحج، وقال عطاء والزهرى وقتادة والشافعى والكوفيون وإسحاق: عليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف.
وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع.
انتهى. ولما طلع الفجر صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- الفجر حين تبين الصبح بأذان وإقامة.
وفى سنن البيهقى والنسائى بإسناد صحيح على شرط مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: «التقط لى حصى» ، فالتقط له حصيات مثل حصى الخذف «4» - وهو بالمعجمتين- ولم يكسرها كما يفعل من لا علم عنده. وفى رواية للنسائى قال- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس، غداة النحر، وهو
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1292) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث أم حبيبة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1677) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1293) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن، والنسائى (5/ 266) فى مناسك الحج، باب: الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر الصبح بمنى. من حديث ابن عباس واللفظ للنسائى.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1679) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1292) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنها-.
(4) لم أقف على رواية الفضل، ولعلها فى الكبرى، وانظر ما بعده.(3/490)
- صلى الله عليه وسلم- على راحلته: «هات القط لى» ، فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن فى يده قال: «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلوّ فى الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فى الدين» «1» .
قال العلماء: فى هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأى البغوى، قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح، نص عليه الشافعى فى «الأم» و «الإملاء» لكن الجمهور كما قال الرافعى: على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه، وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمى به فى الحج، وبه جزم فى «التنبيه» وأقره عليه النووى فى تصحيحه. لكن الأكثرون كما قال الرافعى، على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعى أيضا فى شرح «المهذب» . والاحتياط أن يزيد فربما سقط منها شئ.
انتهى.
ثم ركب النبى- صلى الله عليه وسلم- القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس «2» . وفى رواية غير جابر: وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، فنفر قبل طلوع الشمس.
وفى حديث على عند الطبرى: لما أصبح- صلى الله عليه وسلم- بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: «هذا الموقف وكل المزدلفة موقف» ، حتى إذا أسفر دفع.
وفى رواية جابر: وأردف- صلى الله عليه وسلم- الفضل بن العباس، قال: وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع- صلى الله عليه وسلم- مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل، فحول
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 268) فى مناسك الحج، باب: التقاط الحصى. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى من حديث جابر الطويل.(3/491)
الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر «1» .
وفى رواية: كان الفضل رديف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم» . وذلك فى حجة الوداع، رواه الشيخان وغيرهما. وقد روى أيضا من حديث عبد الله بن عباس، لكن رجح البخارى رواية الفضل لأنه كان رديف النبى- صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وكان عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن الفضل حدث أباه بما شاهد فى تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمى جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده، ويؤيده ما فى الترمذى: أن السؤال المذكور وقع عند المنحر، بعد الفراغ من الرمى، وأن العباس كان شاهدا. وفيه: أنه- صلى الله عليه وسلم- لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال: «رأيت شابّا وشابة فلم آمن عليهما من الشيطان» . وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه.
وفى هذا الحديث دلالة على جواز النيابة فى الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا لمالك فى ذلك، ولمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه فى الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبى حنيفة خلافا للشافعى. وعن أحمد روايتان انتهى.
وفى رواية ابن عباس: أن أسامة قال: كنت ردف النبى- صلى الله عليه وسلم- من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم
__________
(1) تقدم.(3/492)
يزل النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبى حتى رمى جمرة العقبة «1» . رواه الشيخان وغيرهما.
وفى رواية جابر: فلما أتى- صلى الله عليه وسلم- بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير قليلا «2» .
قال الإسنوى: سببه أن النصارى كانت تقف فيه، كما قاله الرافعى، أو العرب، كما قاله فى الوسيط، فأمر بمخالفتهم. قال: وظهر لى فيه معنى آخر، وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستحب فيه الإسراع لما ثبت فى الصحيح: أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك «3» . وقال غيره: وهذه كانت عادته- صلى الله عليه وسلم- فى المواضع التى نزل فيها بأس الله بأعدائه، وسمى وادى محسر لأن الفيل حسر فيه، أى أعيى وانقطع عن الذهاب. انتهى.
ثم سلك- صلى الله عليه وسلم- الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التى عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
رمى من بطن الوادى، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة، وكان رميه- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، كما قاله «4» جابر فى رواية مسلم والترمذى وأبى داود والنسائى.
وفى رواية أم الحصين، عند أبى داود: رأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة «5» . وفى رواية النسائى: ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه، وذكر قولا كثيرا. وعن أم جندب: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يرمى الجمرة من بطن الوادى، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) تقدم.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1834) فى المناسك، باب: فى المحرم يظلل، من حديث أم الحصين- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/493)
فقالوا: الفضل بن العباس. وازدحم الناس فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف» «1» . وفى هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه، وقد مر أنه- صلى الله عليه وسلم- ضربت له قبة من شعر بنمرة.
وفى رواية جابر عند مسلم وأبى داود قال: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يرمى على راحلته يوم النحر، وهو يقول: «خذوا عنى مناسككم لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه» «2» . وفى رواية قدامة عند الترمذى رأيته يرمى الجمار على ناقة له صهباء، ليس ضرب ولا طرد ولا إليك إليك «3» انتهى. ثم انصرف- صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر، وأشركه فى هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت فى قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها «4» . وفى رواية جابر عند مسلم: نحر- صلى الله عليه وسلم- عن نسائه بقرة، وقالت عائشة: نحر- صلى الله عليه وسلم- عن آل محمد فى حجة الوداع بقرة واحدة «5» . رواه أبو داود.
ثم أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منزله بمنى، ثم قال للحلاق: «خذ» ، وأشار بيده إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس «6» . وفى رواية: أنه قال للحلاق: «ها» ، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه أم سليم «7» . وفى
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (9035) فى الحج، باب: ما جاء فى كراهية طرد الناس عند رمى الجمار، من حديث قدامة بن عبد الله- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاءكم كم حج النبى. من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(5) تقدم.
(6) صحيح: أخرجه مسلم (1305) فى الحج، باب: بيان أن السنة يوم النحر أن يرمى ثم ينحر ثم يحلق. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(7) تقدم فى الذى قبله.(3/494)
أخرى: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم قال: ها هنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه «1» . وفى أخرى: رمى جمرة العقبة ثم انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس، وقال بيده على رأسه، فحلق الشق الأيمن فقسمه بين من يليه، ثم قال: احلق الشق الآخر، فقال: أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه «2» . رواه الشيخان.
وعند الإمام أحمد: أنه استدعى الحلاق فقال له وهو قائم على رأسه بالموسى، ونظر فى وجهه وقال: يا معمر، أمكنك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من شحمة أذنه وفى يدك الموسى، قال: فقلت له، أما والله يا رسول الله، إن ذلك لمن نعم الله علىّ ومنّه، قال: «أجل» «3» . وقال البخارى: وزعموا أن الذى حلق للنبى- صلى الله عليه وسلم- معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف. انتهى. وهو عند ابن خزيمة فى صحيحه، وعند الإمام أحمد: وقلم- صلى الله عليه وسلم- أظفاره وقسمها بين الناس.
وعنده أيضا: من حديث محمد بن زياد، أن أباه حدثه، أنه شهد النبى- صلى الله عليه وسلم- عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحى، فلم يصبه شئ ولا صاحبه، فحلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأسه فى ثوبه فأعطاه شعره، فقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه، وكان يخضب بالحناء والكتم.
وعن أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال: «اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال: «اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال: «وللمقصرين» «4» رواه الشيخان. وليس فيه تعيين: هل قاله- صلى الله عليه وسلم- فى الحديبية أو فى حجة الوداع؟
__________
(1) تقدم فى الذى قبله.
(2) تقدم فى الذى قبله.
(3) تقدم فى الذى قبله.
(4) تقدم.(3/495)
قالوا: ولم يقع فى شئ من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولو وقع لقطعنا بأنه كان فى حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية. وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبى قرة فى «السنن» ومن طريقه الطبرانى فى الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق فى المغازى. وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبى مريم السلولى عند أحمد وابن أبى شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم ومن حديث قارب بن الأسود الثقفى عند أحمد وابن أبى شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث.
والأحاديث التى فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا، وأصح إسنادا، ولهذا قال النوى عقب أحاديث ابن عمر وأبى هريرة وأم الحصين: هذه أحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت فى حجة الوداع. قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت فى الحديبية، وجزم إمام الحرمين فى النهاية أن ذلك كان فى الحديبية، ثم قال النووى: ولا يبعد أن يكون وقع ذلك فى الموضعين. انتهى. وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب.
قال فى فتح البارى: بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك فى الموضعين، إلا أن السبب فى الموضعين مختلف، فالذى فى الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن، لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم فى أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبى- صلى الله عليه وسلم- وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو- صلى الله عليه وسلم- قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعضهم وقص بعضهم، فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر، ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب فى حديث ابن عباس، فإن فى آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: «لأنهم لم يشكوا» .
وأما السبب فى تكرير الدعاء للمحلقين فى حجة الوداع، فقال ابن(3/496)
الأثير فى «النهاية» : كان أكثر من حج معه- صلى الله عليه وسلم- لم يسق الهدى، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤسهم، شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير فى أنفسهم أخف من الحلق، ففعله أكثرهم، فرجح- صلى الله عليه وسلم- فعل من حلق لكونه أبين فى امتثال الأمر. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب فى حقه أن يقصر فى العمرة ويحلق فى الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك فى حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابى وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن فعل الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى.
وفى رواية عبد الله بن عمرو بن العاص: وقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: «اذبح ولا حرج» ، ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمى؟ فقال: «ارم ولا حرج» . قال: فما سئل عن شئ قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج «1» . رواه مسلم.
وفى رواية: حلقت قبل أن أرمى «2» ، وفى رواية: وقف- صلى الله عليه وسلم- على راحلته فطفق الناس يسألونه فيقول القائل منهم: يا رسول الله إنى لم أكن أشعر أن الرمى قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فارم ولا حرج» ، قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال- صلى الله عليه وسلم-: «افعلوا ذلك ولا حرج» «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (83) فى العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، ومسلم (1306) فى الحج، باب: من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمى. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) تقدم فى الذى قبله.
(3) تقدم فى الذى قبله.(3/497)
وفى رواية: أنه- صلى الله عليه وسلم- بينا هو قائم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب أن كذا وكذا، قبل كذا وكذا، وفى رواية: حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمى وأشباه ذلك. وفى رواية: حلقت قبل أن أذبح، ذبحت قبل أن أرمى.
ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدى أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعى بعده، وقد تقدم أنه- صلى الله عليه وسلم- رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق.
وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض، إلا أنهم اختلفوا فى وجوب الدم فى بعض المواضع. ومذهب الشافعى وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث: الجواز وعدم وجوب الدم لقوله- صلى الله عليه وسلم- للسائل: «لا حرج» ، وهو ظاهر فى رفع الإثم والفدية معا، لأن اسم الضيق يشملهما.
وقال الطحاوى: ظاهر الحديث يدل على التوسعة فى تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله «لا حرج» أى لا إثم فى ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية.
وتعقب: بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه- صلى الله عليه وسلم- حينئذ لأنه وقت الحاجة فلا يجوز تأخير عنه. وتمسك الإمام أحمد بقوله فى الحديث «لم أشعر» وبما فى رواية يونس عند مسلم، وصالح عند أحمد فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال: «افعل ولا حرج» بأنه إذا كان ناسيا أو جاهلا فلا شئ عليه وإن كان عالما فلا.
قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوى من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول فى الحج لقوله «خذوا عنى مناسككم» وهذه الأحاديث(3/498)
المرخصة فى تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل «لم أشعر» فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع فى الحج. انتهى.
وعن أبى بكرة قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر قال:
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان» . وقال: «أى شهر هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:
«أليس ذا الحجة؟» قلنا: بلى، قال: «أى بلد هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس البلد الحرام؟» قلنا:
بلى، قال: «فأى يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعن بعدى كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» «1» .
رواه الشيخان. وفى رواية للبخارى: «فودع الناس» .
ووقع فى طريق ضعيفة عند البيهقى من حديث ابن عمر سبب ذلك، ولفظه: أنزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب ووقف بالعقبة واجتمع إليه الناس فقال: يا أيها الناس فذكر الحديث.
وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه أخذ الشافعى ومن تبعه.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1741) فى الحج، باب: الخطبة أيام منى، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-.
(2) سورة النصر: 1.(3/499)
وخالف فى ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة: سابع ذى الحجة، ويوم عرفة، وثانى يوم النحر بمنى. ووافقهم الشافعى إلا أنه قال:
بدل ثانى النحر ثالثه، لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهى يوم النحر، قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمى والذبح والحلق والطواف.
وتعقبه الطحاوى: بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج، لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذى يتعلق بيوم النحر، فعلمنا أنها لم تقصد لأجل الحج.
وقال ابن بطال: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذى اجتمع من أقاصى الدنيا، فظن الذى رآه أنه خطب. قال: وأما ما ذكره الشافعى: أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين، لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة: انتهى.
وأجيب: بأنه- صلى الله عليه وسلم- نبه فى الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم ذى الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة، فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة، يعكر عليه فى كونه يرى مشروعية الخطبة ثانى يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن لما كان فى كل يوم أعمال ليست فى غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب. وأما قول الطحاوى: «إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل» فلا ينفى وقوع ذلك أو شئ منه فى نفس الأمر، بل قد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شهد النبى- صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوى هذا النفى المطلق. انتهى.
وقد روى أبو داود والنسائى عن عبد الرحمن بن معاذ التيمى قال:(3/500)
خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن فى منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال: «بحصى الخذف» ، ثم أمر المهاجرين فنزلوا فى مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك «1» .
وفى رواية عن عبد الرحمن بن معاذ عن رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: خطب النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس بمنى ونزلهم منازلهم فقال: «لينزلن المهاجرون هاهنا» ، وأشار إلى ميمنة القبلة، «والأنصار هاهنا» ، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال: «لينزل الناس حولهم» «2» .
وعن ابن أبى نجيح عن أبيه عن رجلين من بنى بكر قالا: رأينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهى خطبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى خطب بمنى، رواه أبو داود. وعن رافع بن عمرو المزنى قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحاء على بغلة شهباء، وعلى يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود أيضا.
وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن قال: حدثتنى جدتى سراء بنت نبهان، وكانت ربة بيت فى الجاهلية، قالت خطبنا النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الرؤس فقال: «أى يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «أليس أوسط أيام التشريق» «3» . وفى رواية: أنه خطب أوسط أيام التشريق. رواه أبو داود أيضا.
ثم ركب- صلى الله عليه وسلم- قبل الظهر فأفاض إلى البيت فطاف طواف الإفاضة،
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1951) فى المناسك، باب: النزول بمنى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) تقدم.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1953) فى المناسك، باب: أى يوم يخطب بمنى، من حديث سراء بنت نبهان، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/501)
وهو طواف الزيارة والركن والصدر «1» . وفى البخارى: ويذكر عن أبى حسان عن ابن عباس، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت أيام منى «2» . وقد وصله الطبرانى من طريق قتادة عنه. وقال ابن المدينى فى «العلل» : روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام. فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام، ولم أسمعه منه، عن أبيه عن قتادة حدثنى جدى حدثنى أبو حسان عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى الحديث.
وأتى- صلى الله عليه وسلم- زمزم، وبنو عبد المطلب يسقون عليها، فقال: «انزعوا بنى عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» ، فناولوه دلوا فشرب منه «3» . وفى رواية ابن عباس: فشرب وهو قائم «4» ، وفى رواية: فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير «5» ، لكن لم يعين فيها حجة الوداع ولا غيرها، إنما التعيين فى رواية جابر عند مسلم. واختلف أين صلى- صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ، ففى رواية جابر عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى بمكة «6» ، وكذلك قالت عائشة. وفى حديث ابن عمر- فى الصحيحين- أنه- صلى الله عليه وسلم- أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى «7» .
فرجح ابن حزم فى كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر، وتبعه على ذلك جماعة، لأنهما اثنان، وهما أولى من الواحد، ولأن عائشة أخص
__________
(1) تقدم من حديث ابن عمر أخرجه مسلم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى فى الحج، باب: الزيارة يوم النحر، تعليقا عن ابن عباس.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2027) فى الأشربة، باب: فى الشرب من زمزم قائما. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1637) فى الحج، باب: ما جاء فى زمزم. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(6) تقدم.
(7) تقدم.(3/502)
الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، ولأن سياق جابر لحجته- صلى الله عليه وسلم- من أولها إلى آخرها أتم سياق، وأحفظ للقصة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتى أقرّ منها ما لا يتعلق بالمناسك، وهو نزوله- صلى الله عليه وسلم- فى الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوآ خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو لضبط مكان صلاته الظهر يوم النحر أولى، وأيضا: فإن حجة الوداع كانت فى «آذار» وهو تساوى الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس، ونحر بدنة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض، وطاف وشرب من ماء زمزم، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضى فى مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك الظهر فى فصل آذار.
ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر: بأنه لا يحفظ عنه فى حجته- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلى بمنزله بالمسلمين مدة مقامه، وبأن حديث ابن عمر متفق عليه، وحديث جابر من إفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، فإن رواته أحفظ وأشهر، وبأن حديث عائشة قد اضطرب فى وقت طوافه، فروى عنها أنه طاف نهارا، وفى رواية عنها: أنه أخر الطواف إلى الليل، وفى رواية عنها: أنه أفاض من آخر يومه، فلم تضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة. وأيضا: فإن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع، لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق مختلف فى الاحتجاج به، ولم يصرح بالسماع، بل عنعنه، فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر، انتهى.
ثم رجع- صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فمكث بها ليالى أيام التشريق، يرمى الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمى الثالثة فلا يقف عندها «1» .
رواه أبو داود من حديث عائشة. وعن ابن عمر- عند الترمذى-: كان
__________
(1) أخرجه أبو داود (1973) فى المناسك، باب: فى رمى الجمار. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. قال الألبانى: صحيح إلا قوله حين صلى الظهر فهو منكر.(3/503)
- صلى الله عليه وسلم- إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا «1» . وفى رواية أبى داود:
وكان يستقبل القبلة فى الجمرتين الدنيا والوسطى، ويرمى جمرة العقبة من بطن الوادى «2» الحديث.
واستأذنه- صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالى منى، من أجل السقاية فأذن له «3» ، رواه البخارى ومسلم من رواية ابن عمر، وفى رواية الإسماعيلى: رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالى منى من أجل سقايته. وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير ب «الرخصة» يقتضى أن يقابلها: العزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما فى معناها لم يحصل الإذن. وبالوجوب قال الجمهور. وفى قول للشافعى، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة.
ووجوب الدم بتركه مبنى على هذا الخلاف. ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية، وبالعباس؟ الصحيح العموم، والعلة فى ذلك إعداد الماء للشاربين.
وجزم الشافعى، بإلحاق من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعهده، بأهل السقاية، كما جزم الجمهور: بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد. قالوا: ومن ترك المبيت لغير عذر وجب عليه دم عن كل ليلة.
ثم أفاض- صلى الله عليه وسلم- بعد الظهر يوم الثلاثاء- بعد أن أكمل رمى أيام التشريق، ولم يتعجل فى يومين- إلى المحصب، وهو الأبطح، وحده: ما بين
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (900) فى الحج، باب: ما جاء فى رمى الجمار راكبا وماشيا. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1751) فى الحج، باب: 7 ذا رمى الجمرتين يقوم ويهل مستقبل القبلة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1745) فى الحج، باب: هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالى منى. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/504)
الجبلين إلى المقبرة، وهو خيف بنى كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك، وكان على ثقله، قال أبو رافع: لم يأمرنى- صلى الله عليه وسلم- أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكنى جئت فضربت فيه قبته فجاء فنزل «1» . رواه مسلم.
وفيه وفى البخارى، عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح «2» . وفيهما من حديث أبى هريرة: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال- من الغد يوم النحر، وهو بمنى-: «نحن نازلون غدا بخيف بنى كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» «3» ، يعنى بذلك المحصب. وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بنى هاشم وبنى المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم-. وعن ابن عباس، ليس التحصيب بشئ، إنما هو منزل نزله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «4» ، أى: ليس التحصيب من أمر المناسك الذى يلزم فعله، لكن لما نزل به- صلى الله عليه وسلم- كان النزول به مستحبّا اتباعا له، لتقريره على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده «5» ، كما فى مسلم.
وعن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به «6» ، رواه البخارى. وهذا
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1313) فى الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة. من حديث أبى رافع- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1653) فى الحج، باب: أين يصلى الظهر يوم التروية. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1589) فى الحج، باب: نزول النبى بمكة. من حديث أبى هريرة.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1766) فى الحج، باب: المحصب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1310) فى الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. ولفظه حصب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والخلفاء بعده.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (1756) فى الحج، باب: طواف الوداع. من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/505)
هو طواف الوداع، ومذهب الشافعى أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح:
وهو قول أكثر العلماء. وقال مالك وداود: هو سنة لا شئ بتركه.
واختلف فى المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة، هل عليها طواف الوداع أم لا؟ وكان ابن عباس يرخص لها أن تنفر إذا أفاضت وكان ابن عمر يقول فى أول أمره: إنها لا تنفر، ثم قال فى آخر أمره: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رخص لهن «1» . رواه الشيخان. وعن عائشة: أن صفية بنت حيى حاضت، فذكر ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أحابستنا هى؟» قالوا: إنها قد أفاضت، قال: «فلا إذن» «2» . ومعنى أحابستنا هى؟ أى أمانعتنا من التوجه من مكة فى الوقت الذى أردنا التوجه فيه؟ ظنا منه- صلى الله عليه وسلم- أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجه ولا يأمرها بالتوجه معه وهى باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثانى.
وفى رواية: فحاضت صفية، فأراد النبى- صلى الله عليه وسلم- منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت يا رسول الله إنها حائض. قال: «أحابستنا هى؟» «3» الحديث. وهذا مشكل، لأنه- صلى الله عليه وسلم- إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول: «أحابستنا هى؟» وإن كان ما علم، فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثانى؟
ويجاب عنه: بأنه- صلى الله عليه وسلم- ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه فى طواف الإفاضة فأذن لهن، فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له إنها حائض جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (330) فى الحيض، باب: المرأة تحيض بعد الإفاضة، ومسلم (1328) فى الحج، باب: طواف الوداع وسقوطه على الحائض. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1211) فى الحج، باب: وجوب طواف الوداع وسقوط الحائض. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) تقدم.(3/506)
فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهن فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى.
وقالت عائشة: يا رسول الله، ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبى بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج «1» .
رواه الشيخان. وفى رواية لمسلم أنها وقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال لها- يعنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» ، فقالت: يا رسول الله، إنى أجد فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت، قال: «فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» ، وذلك ليلة الحصبة. زاد فى رواية: وكان- صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا، إذا هويت شيئا تابعها عليه «2» .
وقد كانت عائشة قارنة، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة، فحاضت فأمرها فأدخلت عليها الحج، وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها، فوجدت فى نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلتين، فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرنّ، وترجع هى بعمرة فى ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها.
ثم ارتحل- صلى الله عليه وسلم- راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى «3» - بضم الكاف مقصورا- وهى عند باب شبيكة، بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان.
واختلف فى المعنى الذى لأجله خالف- صلى الله عليه وسلم- بين طريقيه، فقيل: ليتبرك به كل من فى طريقه، وقيل: الحكمة فى ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لما دخل مكة دخل منها: وقيل غير ذلك.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (317) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض، ومسلم وقد تقدم. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) تقدم.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1868) فى المناسك، باب: دخول مكة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(3/507)
وفى صحيح مسلم وغيره، من حديث ابن عباس: أنه- صلى الله عليه وسلم- لقى ركبا بالروحاء، فقال: «من القوم؟» فقالوا: المسلمون يا رسول الله، فرفعت امرأة صبيا لها فى محفة فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر» . ولما وصل- صلى الله عليه وسلم- لذى الحليفة بات بها. قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدا، وإنما كان اتفاقا، حكاه القاضى إسماعيل فى أحكامه عن محمد ابن الحسن وتعقبه. والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا.
فلما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . ثم دخل المدينة نهارا من طريق المعرّس- بفتح الراء المشددة وبالمهملتين- وهو مكان معروف، فكل من المعرس والشجرة التى بات بها- صلى الله عليه وسلم- فى ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة. انتهى ملخصا من فتح البارى وغيره، والله أعلم.
وأما عمره- صلى الله عليه وسلم-، فالعمرة فى اللغة: الزيارة. ومذهب الشافعى وأحمد وغيرهما: أنها واجبة كالحج، والمشهور عن المالكية أنها تطوع وهو قول الحنفية. وقد اعتمر- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر، ففى الصحيحين وسنن الترمذى وأبى داود عن قتادة قال: سألت أنسا: كم حج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرة فى ذى القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين «1» ، هذا لفظ رواية الترمذى وقال: حسن صحيح.
وفى رواية الصحيحين: اعتمر أربع عمر، كلهن فى ذى القعدة إلا التى مع حجته: عمرة الحديبية- أو زمن الحديبية- فى ذى القعدة، وعمرة من العام
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/508)
المقبل فى ذى القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين فى ذى القعدة، وعمرة فى حجته «1» .
وعن محرش الكعبى: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، فدخل مكة ليلا، فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد، خرج من بطن سرف، حتى جاء مع الطريق طريق جمع ببطن سرف، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس «2» . رواه الترمذى وقال: حديث غريب. وعن ابن عمر قال: اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج «3» ، رواه أبو داود.
وعن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع صوتها بالسواك تستن، قال: فقلت يا أبا عبد الرحمن، اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أى أمتاه، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى رجب، فقالت: يغفر الله لأبى عبد الرحمن، لعمرى ما اعتمر فى رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وأنا معه. قال عروة: وابن عمر يسمع، فما قال: لا ولا نعم، سكت «4» .
وفى رواية أبى داود عن عروة عن عائشة قالت: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرتين فى ذى القعدة، وعمرة فى شوال «5» . وفى رواية له عن مجاهد
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1780) فى الحج، باب: كم اعتمر النبى. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (935) فى الحج، باب: ما جاء فى العمرة من الجعرانة. من حديث محرش الكعبى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1986) فى المناسك، باب: العمرة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1255) فى الحج، باب: بيان عدد عمر النبى وزمانهن، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) أخرجه أبو داود (1991) فى المناسك، باب: العمرة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى: صحيح لكن قوله فى شوال يعنى ابتداء وإلا فهى كانت فى ذى القعدة أيضا.(3/509)
قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: عمرتين، فبلغ عائشة فقالت: لقد علم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التى قرنها بحجة الوداع.
وقد ذكرت الاختلاف فيما كان- صلى الله عليه وسلم- محرما به فى حجة الوداع.
والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك. والمشهور عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان مفردا، وحديثها هذا يشعر بأنه كان قارنا، وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه قال: «إنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا» مع أن حديثه هذا المتقدم يدل على أنه كان قارنا، لأنه لم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعا لأنه- صلى الله عليه وسلم- اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدى.
واحتاج بعضهم إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه- صلى الله عليه وسلم- باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمرها بنفسه. وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة فى حجته- صلى الله عليه وسلم- من الجمع استغنيت عن هذا التأويل المتعسف.
قال بعض العلماء المحققين: وفى عدهم عمرة الحديبية التى صدّ عنها- صلى الله عليه وسلم- ما يدل على أنها عمرة تامة. وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور: أنه لا يجب القضاء على من صدّ عن البيت خلافا للحنفية، ولو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- قاضى قريشا فيها، لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التى صدّ عنها، إذ لو كان كذلك لكانت عمرة واحدة. وأما حديث أبى داود عن عائشة: أنه اعتمر فى شوال، فإن كان محفوظا فلعله يريد عمرة الجعرانة حين خرج فى شوال، ولكن إنما أحرم فى ذى القعدة.
وأنكر ابن القيم أن يكون- صلى الله عليه وسلم- اعتمر فى رمضان، نعم قد أخرج الدار قطنى من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عمرة رمضان فأفطر(3/510)
وصمت وقصر وأتممت «1» ، وقال: إن إسناده حسن. لكن يمكن حمله على أن قولها: «فى رمضان» متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان فى رمضان، واعتمر- صلى الله عليه وسلم- فى تلك السنة من الجعرانة، لكن فى ذى القعدة كما تقدم.
وأما قول ابن القيم- فى الهدى أيضا-: ولم يكن فى عمره- صلى الله عليه وسلم- عمرة واحدة خارجا من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة. وقد أقام بمكة بعد الوحى ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أحد أنه اعتمر خارجا من مكة فى تلك المدة أصلا، فالعمرة التى فعلها وشرعها هى عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها، فيخرج إلى الحل ليعتمر. ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها. انتهى.
فيقال عليه: بعد أن فعلته عائشة بأمره، فدل على مشروعيته. وروى الفاكهى وغيره من طريق محمد بن سيرين قال: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم. ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها.
فثبت بذلك أن ميقات العمرة الحل وأن التنعيم وغيره فى ذلك سواء والله أعلم.
النوع السابع من عبادته ص فى ذكر نبذة من أدعيته وأذكاره وقراءته
اختلف هل الدعاء أفضل أم تركه والاستسلام للقضاء أفضل؟ فقال الجمهور: الدعاء أفضل، وهو من أعظم العبادة، ويؤيده ما أخرجه الترمذى من حديث أنس رفعه: «الدعاء مخ العبادة» «2» . وقد تواترت الأخبار عنه- صلى الله عليه وسلم- بالترغيب فى الدعاء والحث عليه. وأخرج الترمذى وصححه ابن
__________
(1) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 188) .
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3371) فى الدعوات، باب: ما جاء فى فضل الدعاء، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/511)
حبان والحاكم عنه- صلى الله عليه وسلم- «من لم يسأل الله يغضب عليه» «1» . وقال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-: إنى لا أحمل همّ الإجابة ولكن هم الدعاء، فإذا أتممت الدعاء علمت أن الإجابة معه. وفى هذا يقول القائل:
لو لم ترد نيل ما أرجو وآمله ... من جود كفك ما عودتنى الطلبا
فإنه سبحانه وتعالى يحب تذلل عبيده بين يديه، وسؤالهم إياه، وطلبهم حوائجهم منه، وشكواهم منه إليه، وعياذتهم به منه، وفرارهم منه إليه. كما قيل:
قالوا أتشكو إليه ... ما ليس يخفى عليه
فقلت ربى يرضى ... ذل العبيد لديه
وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء، والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء هو العبادة «3» .
قال الشيخ تقى الدين السبكى: الأولى حمل الدعاء فى الآية على ظاهره. وأما قوله تعالى بعد ذلك عَنْ عِبادَتِي «4» فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا:
فالوعيد إنما هو فى حق ترك الدعاء استكبارا، ومن فعل ذلك كفر، وأما تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة فيه.
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (3373) فى الدعوات، باب: ما جاء فى فضل الدعاء، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) سورة غافر: 60.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3477) فى الدعوات، باب: ما جاء فى جامع الدعوات عن النبى من حديث فضالة بن عبيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) سورة غافر: 60.(3/512)
وقال القشيرى فى «الرسالة» : اختلف أى الأمرين أولى، الدعاء أو السكوت والرضاء؟ فقيل الدعاء، وهو الذى ينبغى ترجيحه لكثرة الأدلة، ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار، وقيل: السكوت والرضى أولى لما فى التسليم من الفضل. انتهى.
وشبهتهم: أن الداعى لا يعرف ما قدر له، فدعاؤه إن كان على وفق القدرة فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاند.
وأجيب: بأنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء، لأن الله تعالى خلق الأسباب ومسبباتها. انتهى.
وقد أرشد- صلى الله عليه وسلم- أمته لكيفية الدعاء فقال: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم ليدع بما شاء» ، رواه الترمذى من حديث فضالة بن عبيد. وقال- صلى الله عليه وسلم- فى رجل يدعو: «أوجب إن ختم بامين» «1» . رواه أبو داود. وقال: «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لى إن شئت، اللهم ارحمنى إن شئت، ولكن ليعزم على المسألة فإن الله لا مكره له» «2» ، رواه البخارى وغيره.
ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه، ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى، وإن كان مأمورا فى جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى، وقيل معنى العزم أن يحسن الظن بالله فى الإجابة، فإنه يدعو كريما، وقد قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه، يعنى التقصير، فإن الله تعالى قد استجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «3» . وقال- صلى الله عليه وسلم-: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول:
دعوت فلم يستجب لى» رواه الشيخان وغيرهما.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (938) فى الصلاة، باب: التأمين وراء الإمام، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6339) فى الدعوات، باب: ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) سورة الأعراف: 14.(3/513)
وكان- صلى الله عليه وسلم- يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك «1» ، رواه أبو داود من حديث عائشة: والجوامع: التى تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة، أو تجمع الثناء على الله تعالى وآداب المسألة.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى دعائه: «اللهم أصلح لى دينى الذى هو عصمة أمرى، وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى، وأصلح لى آخرتى التى إليها معادى، واجعل الحياة زيادة لى فى كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر» «2» . رواه مسلم من حديث أبى هريرة.
وكان يقول: «اللهم انفعنى بما علمتنى، وعلمنى ما ينفعنى، وزدنى علما، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» «3» . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة.
وكان يقول: «اللهم متعنى بسمعى وبصرى. واجعلهما الوارث منى، وانصرنى على من ظلمنى، وخذ منه بثأرى» «4» . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة أيضا.
وكان أكثر دعائه: «ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» «5» . رواه الشيخان من حديث أنس.
وكان يقول: «ربّ أعنى ولا تعن على، وانصرنى ولا تنصر على، وامكر
__________
(1) تقدم تخريجه فى الذى قبله.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2720) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه الترمذى (3599) فى الدعوات، باب: فى العفو والعافية. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: صحيح دون قوله والحمد لله.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3973) فى الدعوات، باب: متعنى بسمعى وبصرى، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(5) صحيح: أخرجه البخارى (4522) فى تفسير القرآن، باب: ومنهم من يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة، ومسلم (2688) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة فى الدنيا. من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/514)
لى ولا تمكر على، واهدنى وانصرى على من بغى على، رب اجعلنى لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، مطواعا لك، مخبتا إليك، أواها منيبا، رب تقبل توبتى، واغسل حوبتى، وأجب دعوتى، وثبت حجتى، وسدد لسانى، واهد قلبى، واسلل سخيمة صدرى» «1» رواه الترمذى.
وكان يقول: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إنى أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تضلنى، أنت الحى الذى لا تموت، والجن والإنس يموتون» «2» رواه الشيخان عن ابن عباس.
وكان يقول: «اللهم إنى أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى» «3» .
رواه مسلم والترمذى من حديث ابن مسعود.
وكان يقول: «اللهم اغفر لى خطيئتى وجهلى، وإسرافى فى أمرى، وما أنت أعلم به منى، اللهم اغفر لى جدى وهزلى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندى، اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شئ قدير» «4» رواه الشيخان من حديث أبى موسى.
وكان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك» «5» . رواه الترمذى من حديث أم سلمة.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3551) فى الدعوات، باب: فى دعاء النبى. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2717) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2721) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (6398) فى الدعوات، باب: قول النبى اللهم اغفر لى ما قدمت. من حديث عبد الله بن قيس- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه الترمذى (2140) فى القدر، باب: ما جاء فى أن القلوب بين أصبعى الرحمن، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/515)
وكان يقول: «اللهم عافنى فى جسدى، وعافنى فى سمعى وبصرى، واجعلهما الوارث منى، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين» «1» رواه الترمذى.
وكان يقول: «اللهم اغسل خطاياى بماء الثلج والبرد، ونق قلبى من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس» «2» رواه النسائى.
وكان يقول: «اللهم إنى أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون» «3» . رواه فى الموطأ.
وكان يدعو: «اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، اقض عنى الدين وأغننى من الفقر، وأمتعنى بسمعى وبصرى وقوتى، وتوفنى فى سبيلك» «4» رواه فى الموطأ.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ فيقول: «اللهم إنى أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذبك من فتنة المحيا والممات» «5» . رواه الشيخان من حديث أنس. وفى رواية أبى داود «اللهم إنى أعوذبك من الهم والحزن وضلع الدين وغلبة الرجال» «6» .
__________
(1) ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (3480) فى الدعوات، باب: ما جاء فى جامع الدعوات. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى: ضعيف الإسناد.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 51) فى الطهارة، باب: الوضوء بماء الثلج. من حديث عائشة وأصله فى الصحيح، وقال الألبانى: صحيح الإسناد.
(3) أخرجه مالك فى الموطأ فى النداء، باب: عن الدعاء فى الصلاة المكتوبة، عن مالك أنه بلغه، والترمذى (3233) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة ص. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) أخرجه مالك فى الموطأ (493) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى الدعاء، عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه ... الحديث.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (2823) فى الجهاد والسير، باب: ما يتعوذ من الجبن، ومسلم (2706) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من العجز والكسل. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(6) ضعيف: أخرجه أبو داود (1555) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/516)
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الجذام والبرص والجنون، ومن سيئ الأسقام» «1» رواه أبو داود والنسائى، من حديث أنس.
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من شر ما علمت، ومن شر ما لم أعلم» «2» . رواه مسلم من حديث عائشة.
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذبك من هذه الأربع» «3» رواه الترمذى والنسائى من حديث ابن عمرو بن العاص.
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك» «4» ، رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن عمرو بن العاص أيضا.
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم» «5» ، رواه أبو داود من حديث أبى هريرة.
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق» «6» ، رواه أبو داود من حديث أبى هريرة أيضا.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1554) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والنسائى (5493) فى الاستعاذة، باب الاستعاذة من الجنون، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) تقدم.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (8/ 263) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2739) فى الذكر والدعاء، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1544) في الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) ضعيف: أخرجه أبو داود (1546) فى الصلاة، باب: الاستعاذة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/517)
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» «1» . رواه أبو داود والنسائى من حديث أبى هريرة أيضا.
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو، وشماتة الأعداء» «2» . رواه النسائى.
وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردى ومن الغرق والحرق والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبطنى الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت فى سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا» «3» . رواه أبو داود والنسائى من حديث أبى اليسر.
وكان يتعوذ من عين الجن والإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك «4» . رواه النسائى.
وكان إذا خاف قوما قال: «اللهم إنا نجعلك فى نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم» «5» . رواه أبو داود.
وكان يعوذ الحسن والحسين ويقول- «إن أبا كما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق» - «أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة» «6» . رواه البخارى والترمذى.
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1547) فى الصلاة، باب: الاستعاذة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1555) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى، فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1552) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى اليسر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه النسائى (8/ 271) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة، من عين الجان، من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1537) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا خاف قوما، من حديث عبد الله بن قيس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(6) صحيح: أخرجه البخارى (3371) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: «واتخذ الله إبراهيم خليلا» . من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/518)
وقد استشكل صدور هذه الأدعية ونحوها منه- صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» ووجوب عصمته، وأجيب:
بأنه امتثل ما أمره الله به من تسبيحه وسؤاله المغفرة فى قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» . ويحتمل أن يكون قاله على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع والشكر لربه تعالى، لما علم أنه قد غفر له، ويحتمل أن يكون سؤاله ذلك لأمته وللتشريع، والله أعلم.
وكان- صلى الله عليه وسلم- عند الكرب- وهو ما يهجم على الإنسان مما يأخذ بنفسه ويحزنه ويغمه. - يدعو: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرضين ورب العرش العظيم» «3» رواه البخارى. وفى رواية:
«لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرضين ورب العرش الكريم» .
قال الطيبى: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية، ومنه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التى تدل على تمام القدرة، والحلم الذى يدل على العلم.
إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية.
انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا همه أمر رفع رأسه إلى السماء وقال: «سبحان الله العظيم» . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة. فإن قلت: هذا ذكر ليس فيه دعاء. فالجواب: إن التعرض للطلب تارة يكون بذكر أوصاف العبد من فقره وحاجته، وتارة بذكر أوصاف السيد من وحدانيته والثناء عليه. وقد قال أمية ابن أبى الصلت فى مدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء
__________
(1) سورة الفتح: 2.
(2) سورة النصر: 1.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6345) فى الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/519)
قال سفيان الثورى: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء، فكيف بالخالق.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا كربه أمر قال: «يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث» «1» رواه أبو داود من حديث أنس.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «ما كربنى أمر إلا تمثل لى جبريل فقال: يا محمد قل:
توكلت على الحى الذى لا يموت، والحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا» «2» رواه الطبرانى عن أبى هريرة. وتقدم فى المقصد الثامن مزيد لذلك.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى الضالة: «اللهم رادّ الضالة وهادى الضالة أنت تهدى من الضلالة، اردد علىّ ضالتى بعزتك وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك» «3» . رواه الطبرانى فى الصغير من حديث ابن عمر.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما «4» . رواه أبو داود عن أنس: وقال أبو موسى الأشعرى- كما عند البخارى- دعا النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه «5» . وعنده أيضا من حديث ابن عمر: رفع- صلى الله عليه وسلم- يديه فقال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد» «6» .
__________
(1) أخرجه الترمذى (3524) فى الدعوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وقال الترمذى: حديث غريب.
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (7/ 52) و (10/ 258) وقال: رواه أبو يعلى وفيه موسى بن عبيدة الربذى وهو ضعيف.
(3) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 133) وقال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، وفيه عبد الرحمن بن أبى عباد المكى، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
(4) أخرجه أبو داود (1487) فى الصلاة، باب: الدعاء، وقال الشيخ الألبانى: صحيح بلفظ جعل ظاهر كفيه مما يلى وجهه وباطنهما مما يلى الأرض.
(5) أخرجه البخارى (تعليقا) فى الدعوات، باب: رفع الأيدى فى الدعاء.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (4339) فى المغازى، باب: بعث النبى خالد بن الوليد إلى بنى خزيمة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(3/520)
لكن فى حديث أنس «لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه فى شئ من دعائه إلا فى الاستسقاء» «1» وهو حديث صحيح. ويجمع بينه وبين ما تقدم:
بأن الرفع فى الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان فى حذو الوجه مثلا، وفى الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت فى كل منهما «حتى يرى بياض إبطيه» بل يجمع: بأن تكون رؤية البياض فى الاستسقاء أبلغ منها فى غيره، وإما أن الكفين فى الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء. قال الحافظ عبد العظيم المنذرى: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح. انتهى.
وروى الإمام أحمد والحاكم وأبو داود أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه إذا دعا حذو منكبيه. وفى رواية ابن ماجه: وبسطهما. وهذا يقتضى أن تكونا متفرقتين مبسوطتين، لا كهيئة الاغتراف. قال الحافظ ابن حجر: غالب الأحاديث التى وردت فى رفع اليدين فى الدعاء إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء. وروى ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلى وجهه. رواه الطبرانى فى الكبير بسند ضعيف.
وهل يمسح بهما وجهه؟ أما فى القنوت فى الصلاة فالأصح، لا، لعدم وروده فيه، قال البيهقى: لا أحفظ فيه عن أحد من السلف شيئا، وإن روى عن بعضهم فى الدعاء خارج الصلاة، وقد روى فيه عن النبى- صلى الله عليه وسلم- خبر ضعيف مستعمل عند بعضهم فى الدعاء خارجها، فأما فيها فعمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس، والأولى أن لا يفعله.
وقد دعا- صلى الله عليه وسلم- لأنس فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته» «2» . رواه البخارى. وفى «الأدب المفرد» له، عن أنس قال: قالت أم
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1031) فى الجمعة، باب: رفع الإمام يده فى الاستسقاء، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6334) فى الدعوات، باب: قول الله تعالى وصل عليهم.. من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/521)
سليم- وهى أم أنس-: خويدمك ألا تدعو له؟ فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته، واغفر له» «1» .
وفى الصحيح: إن أنسا كان فى الهجرة ابن تسع سنين، وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل- وقيل- سنة ثلاث- وله مائة وثلاث سنين. قاله خليفة وهو المعتمد. وأكثر ما قيل فى سنه: أنه بلغ مائة سنة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه بلغ تسعا وتسعين سنة. وأما كثرة ولده، فروي مسلم قال أنس: «فو الله إن مالى لكثير، وإن ولدى وولد ولدى ليعادون على نحو المائة اليوم» «2» . وورد فى حديث رواه الشيخان «أن أنسا قال: أخبرتنى ابنتى أمينة- بضم الهمزة وفتح الميم، وسكون المثناة التحتية، بعدها نون- أنه دفن من صلبى إلى مقدم الحجاج البصرة مائة وعشرون» .
وقال ابن قتيبة فى «المعارف» : كان بالبصرة ثلاث ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة، وخليفة بن بدر، وأنس، وزاد غيره رابعا: وهو المهلب بن أبى صفرة.
وأخرج ابن سعد عن أنس قال: دعا لى النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، واغفر له» ، فقد دفنت من صلبى مائة واثنين، وإن ثمرتى لتحمل فى السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة، وأرجو الرابعة «3» . وأخرج الترمذى عن أبى العالية فى ذكر أنس: وكان له بستان يؤتى فى كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان تفوح منه رائحة المسك «4» .
ورجاله ثقات.
ودعا- صلى الله عليه وسلم- لمالك بن ربيعة السلولى أن يبارك له فى ولده، فولد له
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2481) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أنس. من حديث أنس بن مالك.
(3) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (7/ 20) .
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3833) فى المناقب، باب: مناقب أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/522)
ثمانون ذكرا، رواه ابن عساكر. وأرسل- صلى الله عليه وسلم- إلى على يوم خيبر، وكان أرمد، فتفل فى عينيه وقال: «اللهم أذهب عنه الحر والبرد» ، قال: فما وجدت حرّا ولا بردا منذ ذلك اليوم، ولا رمدت عيناى «1» .
وبعث- صلى الله عليه وسلم- عليّا إلى اليمن قاضيا فقال: يا رسول الله، لا علم لى بالقضاء، فقال: «ادن منى» ، فدنا منه، فضرب يده على صدره وقال: «اللهم اهد قلبه وثبت لسانه» ، قال على: فو الله ما شككت فى قضاء بين اثنين «2» ، رواه أبو داود وغيره.
وعاد- صلى الله عليه وسلم- عليّا من مرض فقال: «اللهم اشفه اللهم عافه» ، ثم قال:
«قم» ، قال على: فما عاد لى ذلك الوجع بعد «3» . رواه الحاكم وصححه البيهقى وأبو نعيم. ومرض أبو طالب، فعاده النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا ابن أخى ادع ربك الذى تعبد أن يعافينى، فقال: «اللهم اشف عمى» ، فقام أبو طالب كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخى، إن ربك الذى تعبد ليطيعك، فقال: «وأنت يا عماه لئن أطعت الله ليطيعنك» . رواه ابن عدى والبيهقى وأبو نعيم من حديث أنس. وتفرد به الهيثمى، وهو ضعيف. ودعا- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: «اللهم فقهه فى الدين، اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل» «4» . رواه البغوى وابن سعد. وفى البخارى: «اللهم علمه الكتاب» «5» فكان عالما بالكتاب، حبر الأمة، بحر العلم، رئيس المفسرين، ترجمان القرآن، وكونه فى الدرجة العليا والمحل الأقصى لا يخفى. وقال للنابغة الجعدى لما قال:
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 122) وعزاه للطبرانى فى الأوسط.
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2310) فى الأحكام، باب: ذكر القضاة. من حديث على ابن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(3) أخرجه الترمذى (3564) فى الدعوات عن رسول الله، باب: فى دعاء المريض، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، ولفظه.. اللهم عافه أو اشفه- شكية الشاك- فما اشتكيت وجعى بعد قال الترمذى: وهذا حديث حسن صحيح. وقال الألبانى: ضعيف.
(4) صحيح: بمعناه، وانظر ما بعده.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (75) فى العلم، باب: قول النبى اللهم علمه الكتاب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(3/523)
ولا خير فى حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدرا
ولا خير فى علم إذا لم يكن له ... حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا
«لا يفضض الله فاك» «1» أى لا يسقط الله أسنانك، وتقديره: لا يسقط الله أسنان فيك، فحذف المضاف: قال: فأتى عليه أكثر من مائة سنة وكان من أحسن الناس ثغرا. رواه البيهقى. وقال فيه: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن، وفى رواية ابن أبى أسامة: وكان من أحسن الناس ثغرا وإذا سقطت له سن، نبتت له أخرى، وعند ابن السكن: فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد لدعوته- صلى الله عليه وسلم-.
وسقاه- صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أحطب ماء فى قدح قوارير، فرأى فيه شعرة بيضاء فأخذها، فقال: «اللهم جمله» ، فبلغ ثلاثا وتسعين سنة وما فى لحيته ورأسه شعرة بيضاء «2» ، رواه الإمام أحمد من طريق أبى نهيك. قال أبو نهيك: فرأيته ابن أربع وتسعين سنة وليس فى لحيته شعرة بيضاء «3» .
وصححه ابن حبان والحاكم.
وأخرج البيهقى عن أنس أن يهوديّا أخذ من لحية النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال:
«اللهم جمله» . فاسودت لحيته بعد أن كانت بيضاء. وقال عبد الرزاق:
أخبرنا معمر عن قتادة قال: حلب يهودى للنبى- صلى الله عليه وسلم- ناقة، فقال: «اللهم جمله» ، فاسود شعره، حتى صار أشد سوادا من كذا وكذا. قال معمر:
وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش تسعين سنة فلم يشب. أخرجه ابن أبى شيبة وأبو داود فى المراسيل والبيهقى وقال: مرسل شاهد لما قبله. وقال- صلى الله عليه وسلم- لابن الحمق الخزاعى، وقد سقاه- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم متعه بشبابه» ، فمرت عليه ثمانون سنة ولم ير شعرة بيضاء، رواه أبو نعيم وغيره.
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 126) ، وقال: رواه البزار، وفيه يعلى بن الأشدق، وهو ضعيف.
(2) أخرجه أحمد (5/ 340) من حديث أبى زيد الأنصارى- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه أحمد (5/ 340) من حديث أبى زيد الأنصارى- رضى الله عنه-.(3/524)
وجاءته فاطمة وقد علاها الصفرة من الجوع، فنظر إليها- صلى الله عليه وسلم- ووضع يده على صدرها ثم قال: «اللهم مشبع الجاعة لا تجع فاطمة بنت محمد» قال عمران بن حصين: فنظرت إليها وقد علاها الدم على الصفرة فى وجهها، ولقيتها بعد فقالت: ما جعت يا عمران، ذكره يعقوب بن سليمان الأسفراينى فى دلائل الإعجاز. ودعا- صلى الله عليه وسلم- لعروة بن الجعد البارقى فقال: «اللهم بارك فى صفقة يمينه» قال فما اشتريت شيئا قط إلا وربحت فيه.
وقال لجرير وكان لا يثبت عل الخيل، وضرب فى صدره: «اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا» . قال فما وقعت عن فرسى بعد «1» . وقال لسعد بن أبى وقاص: «اللهم أجب دعوته» . فكان مجاب الدعوة. رواه البيهقى والطبرانى فى الأوسط. ودعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة. رواه الشيخان عن أنس، زاد البيهقى من وجه آخر، قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة «2» . الحديث.
قال القاضى عياض: وقد فتح الله عليه ومات فحفر الذهب فى تركته بالفؤوس حتى مجلت فيه الأيدى، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفا، وكن أربعا، وقيل: مائة ألف، وقيل: بل صولحت إحداهن لأنه طلقها فى مرض موته على ثمانين ألفا. وأوصى بخمسين ألفا بعد صدقاته الفاشية فى حياته، وعوارفه العظيمة، أعتق يوما ثلاثين عبدا، وتصدق مرة بعير فيها سبعمائة بعير، وردت عليه تحمل من كل شئ فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها.
وذكر المحب الطبرى، مما عزاه للصفوة عن الزهرى: أنه تصدق بشطر ماله: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس فى سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة فى سبيل الله،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3020) فى الجهاد والسير، باب: حرق الدور والنخيل. من حديث جرير- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه أحمد (3/ 271) من حديث عبد الرحمن بن عوف- رضى الله عنه-.(3/525)
وكان عامة ماله من التجارة. ودعا على مضر فأقحطوا حتى أكلوا العلهز- وهو الدم بالوبر- حتى استعطفته قريش.
ولما تلى- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «1» قال عتيبة بن أبى لهب.
كفرت برب النجم، «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» . فخرج عتيبة مع أصحابه فى عير إلى الشام حتى إذا كانوا بالشام زأر أسد، فجعلت فرائصه ترعد، فقيل له: من أى شئ ترتعد؟ فو الله ما نحن وأنت فى هذا إلا سواء، فقال: إن محمدا دعا على، ولا والله ما أظلت هذه السماء من ذى لهجة أصدق من محمد. ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يديه فيه حتى جاء النوم، فأحاطوا به وأحاطوا أنفسهم بمتاعهم، ووسطوه بينهم وناموا، فجاء الأسد يستنشق رؤسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فمضغه مضغة، وهو يقول: ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس، ومات. ذكره يعقوب الأسفراينى: وتقدم فى ذكره أولاده- صلى الله عليه وسلم- قصة بنحو هذه.
وعن مازن الطائى، وكان بأرض عمان، قلت: يا رسول الله، إنى امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر والنساء، وألحت علينا السنون، فأذهبن الأموال وأهزلن الذرارى والرجال، وليس لى ولد، فادع الله أن يذهب عنى ما أجد ويأتينى بالحياء ويهب لى ولدا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وائته بالحياء، وهب له ولدا» قال مازن: فأذهب الله عنى كل ما كنت أجد، وأخصبت عمان وتزوجت أربع حرائر، ووهب الله لى حيان بن مازن. رواه البيهقى.
ولما نزل- صلى الله عليه وسلم- بتبوك صلى إلى نخلة فمر رجل بينه وبينها فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قطع صلاتنا قطع الله أثره فأقعد فلم يقم» «2» . رواه أبو داود والبيهقى، لكن سنده ضعيف.
__________
(1) سورة النجم: 1.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (706) فى الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(3/526)
وأكل رجل عنده بشماله فقال: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع، قال:
«لا استطعت» فما رفعها إلى فيه بعد «1» . والرجل هو بسر- بضم الموحدة وسكون المهملة- ابن راعى العير، بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية.
وطلب- صلى الله عليه وسلم- معاوية، فقيل له إنه يأكل، فقال فى الثانية: «لا أشبع الله بطنه» ، فما شبع بطنه أبدا «2» ، رواه البيهقى من حديث ابن عباس، وكان معاوية رديفه يوما فقال: «يا معاوية، ما يلينى منك؟» قال: بطنى؟ قال:
«اللهم املأه علما وحلما» . رواه البخارى فى تاريخه. وقال لابن ثروان:
«اللهم أطل شقاءه وبقاءه» فأدرك شيخا كبيرا شقيّا يتمنى الموت.
وكم له- صلى الله عليه وسلم- من دعوات مستجابات، وقد أفرد القاضى عياض بابا فى الشفاء ذكر فيه طرفا منها، وكذا الإمام يوسف بن يعقوب الإسفراينى فى كتابه «دلائل الإعجاز» فكم أجابه الله تعالى إلى مسئوله، وأجناه من شجرة دعائه ثمرة سؤله.
وأما حديث أبى هريرة عند البخارى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى فى الآخرة» «3» فقد استشكل ظاهره بما ذكرته، وبما وقع لنبينا ولكثير من الأنبياء- صلى الله عليهم وسلم- من الدعوات المجابة، فإن ظاهره أن لكل نبى دعوة مجابة فقط.
وأجيب: بأن المراد بالإجابة فى الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهم على رجاء الإجابة. وقيل: معنى قوله «لكل نبى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2021) فى الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامها، من حديث سلمة بن عمرو بن الأكوع- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أصله فى مسلم (2604) فى البر والصلة، باب: من لعنه النبى أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6304) فى الدعوات، باب: لكل نبى دعوة مستجابة، ومسلم (199) فى الإيمان، باب: اختباء النبى دعوة الشفاعة لأمته. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/527)
دعوة» أى أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة فى أمته، إما بإهلاكهم، وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة:
فمنها ما يستجاب ومنها لا يستجاب. وقيل: لكل نبى منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» وقول زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي «2» ، وقول سليمان: رب هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إشارة إلى قوله: قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إنك أنت الوهاب.
وأما قول الكرمانى فى شرحه على البخارى: فإن قلت: هل جاز أن لا يستجاب دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: لكل نبى دعوة مستجابة، وإجابة الباقى فى مشيئة الله تعالى، فقال العينى: هذا السؤال لا يعجبنى، فإن فيه بشاعة، وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبى- صلى الله عليه وسلم- مستجابة. وقوله: «لكل نبى دعوة مستجابة» لا ينفى ذلك، لأنه ليس بمحصور. انتهى. ولم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- دعا بشئ فلم يستجب.
وفى هذا الحديث بيان فضيلة نبينا- صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء، حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره، - صلوات الله وسلامه عليهم-.
وظاهر الحديث يقتضى أنه- صلى الله عليه وسلم- أخر الدعاء والشفاعة ليوم القيامة، فذلك اليوم يدعو ويشفع، ويحتمل أن يكون المؤخر ليوم القيامة ثمرة تلك الدعوة ومنفعتها، وأما طلبها فحصل من النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الدنيا حكاه صاحب مزيد الفتح.
وقد أمر الله النبى- صلى الله عليه وسلم- بالترقى فى مراتب التوحيد بقوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «3» فإنه ليس أمرا بتحصيل ذلك العلم، لأنه عالم بذلك،
__________
(1) سورة نوح: 26.
(2) سورة مريم: 5، 6.
(3) سورة محمد: 19.(3/528)
ولا بالثبات، لأنه معصوم، فتعين أن يكون للترقى فى مراتبه ومقاماته، إشارة إلى أن العلم به تعالى والسير إليه لا نهاية له أبدا، فجميع العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية فى العالم منتظم فى سلك تحقيقها، وستثمر من أفنان طواياها، ولذا اكتفى بعلمها له- صلى الله عليه وسلم- فى الآية فالشأن كله فى تصحيح التوحيد وتجريده وتكميله، وقد قال تعالى له- صلى الله عليه وسلم-: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ «1» وقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً «2» ، لأنه لا بد فى أول السلوك من الذكر باللسان مدة، ثم يزول الاسم ويبقى المسمى، فالدرجة الأولى هى المرادة بقوله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ «3» ، والمرتبة الثانية هى المرادة بقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً «4» وفى استيفاء مباحث ذلك طول، يخرج عن الغرض، وقد تقدم جملة من أذكاره- صلى الله عليه وسلم- مفرقة فى الوضوء والصلاة والحج وغير ذلك.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يستغفر الله ويتوب إليه فى اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة «5» . كما رواه عنه أبو هريرة عند البخارى. وظاهره أنه يطلب المغفرة، ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد: أنه- صلى الله عليه وسلم- يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجح الثانى ما أخرجه النسائى بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر: أنه سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه» فى المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. وله: من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: إن كنا لنعد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المجلس: «رب اغفر لى وتب على إنك أنت التواب الغفور» ، مائة مرة «6» . ويحتمل أن يريد بقوله فى حديث أبى هريرة «أكثر من سبعين
__________
(1) سورة المزمل: 8.
(2) سورة الأعراف: 205.
(3) سورة المزمل: 8.
(4) سورة الأعراف: 205.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (6307) فى الدعوات، باب: استغفار النبى فى اليوم والليلة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(6) صحيح: أخرجه الترمذى (3434) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا قام من المجلس، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/529)
مرة» المبالغة. ويحتمل أن يريد العدد بعينه، ولفظ «أكثر» مبهم، فيمكن أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور، وأنه يبلغ المائة. وقد وقع فى طريق أخرى عن أبى هريرة، من رواية معمر عن الزهرى بلفظ «إنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة» لكن خالف معمر أصحاب الزهرى فى ذلك.
نعم أخرج النسائى أيضا من رواية محمد بن عمرو عن أبى سلمة بلفظ: «إنى لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة» «1» . وأخرج النسائى أيضا من طريق عطاء، عن أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جمع الناس فقال: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإنى أتوب إليه فى اليوم مائة مرة» «2» .
واستغفاره- صلى الله عليه وسلم- تشريع لأمته، أو من ذنوبهم، وقيل غير ذلك، وتقدم ما ينتظم فى سلك ذلك. فإن قلت: ما كيفية استغفاره- صلى الله عليه وسلم-؟.
فالجواب: أنه ورد فى حديث شداد بن أوس، عند البخارى: رفعه «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . قال:
«من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسى فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل موقنا بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» «3» فتعين أن هذه الكيفية هى الأفضل، وهو- صلى الله عليه وسلم- لا يترك الأفضل.
وأما قراءته- صلى الله عليه وسلم- وصفتها، فكانت مدّا، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم «4» . رواه البخارى عن أنس: ونعتتها أم سلمة: قراءة
__________
(1) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10268) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2702) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6306) فى الدعوات، باب: أفضل الاستغفار. من حديث شداد بن أوس- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (5046) فى فضائل القرآن، باب: مد القراءة. من حديث أنس- رضى الله عنه-.(3/530)
مفسرة حرفا حرفا «1» . رواه أبو داود والنسائى والترمذى. وقالت أيضا: كان- صلى الله عليه وسلم- يقطع قراءته، يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» ثم يقف، ثم يقول: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «3» ثم يقف «4» . رواه الترمذى: وقالت حفصة:
كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها «5» . رواه مسلم. وقال البراء: كان يقرأ فى العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ «6» فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه- صلى الله عليه وسلم- «7» . رواه الشيخان.
فقد كانت قراءته- صلى الله عليه وسلم- ترتيلا لا هذا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفا حرفا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد، وكان يتغنى بقراءته، ويرجع صوته بها أحيانا، كما رجع يوم الفتح فى قراءة إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «8» . وحكى عبد الله بن مغافل ترجيعه: ثلاث مرات «9» ، ذكره البخارى.
وإذا جمعت هذا الحديث إلى قوله: «زينوا القرآن بأصواتكم» «10» ،
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (2923) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبى، والنسائى (1022) فى الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت. من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) سورة الفاتحة: 1.
(3) سورة الفاتحة: 2.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (2927) فى القراآت، باب: فى فاتحة الكتاب. من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(5) صحيح: أخرجه مسلم (733) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا.
(6) سورة التين: 1.
(7) صحيح: أخرجه البخارى (769) فى الأذان، باب: القراءة فى العشاء، ومسلم (464) فى الصلاة، باب: القراءة فى العشاء. من حديث البراء- رضى الله عنه-.
(8) سورة الفتح: 1.
(9) صحيح: أخرجه البخارى (4281) فى المغازى، باب: أين ركز النبى الراية يوم الفتح، من حديث عبد الله بن مغافل- رضى الله عنه-.
(10) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 179) فى الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت. من حديث البراء- رضى الله عنه-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(3/531)
وقوله: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» «1» . وقوله: «ما أذن الله لشئ كإذنه لنبى حسن الصوت يتغنى القرآن» «2» . أى ما استمع الله لشئ كاستماعه لنبى يتغنى بالقرآن يتلوه يجهر به، يقال منه: أذن يأذن أذنا بالتحريك. علمت أن هذا الترجيع منه- صلى الله عليه وسلم- كان اختيارا، لا اضطرارا لهز الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلا تحت الاختيار، فلم يكن عبد الله بن مغافل يحكيه ويفعله اختيارا ليتأسى به وهو يرى هذا من هز الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: «كان يرجع فى قراءته» فنسب الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا.
وقد استمع- صلى الله عليه وسلم- ليلة لقراءة أبى موسى الأشعرى، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا. أى حسنته وزينته بصوتى تزيينا. وهذا الحديث يرد على من قال: إن قوله «زينوا القرآن بأصواتكم» من باب القلب، أى: زينوا أصواتكم بالقرآن، فإن القلب لا وجه له. قال ابن الأثير: ويؤيد ذلك تأييدا لا شبهة فيه حديث ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لكل شئ حلية، وحلية القرآن حسن الصوت» «3» . والله أعلم. وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة اختلافا كثيرا يطول ذكره، وفصل النزاع فى ذلك أن يقال: إن التطريب والتغنى على وجهين.
أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خلا فى ذلك وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فهذا جائز وإن أعانته طبيعته على فضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى للنبى- صلى الله عليه وسلم-: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7527) فى التوحيد، باب: قول الله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (7482) فى التوحيد، باب: قول الله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده ... من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق فى الجامع، والضياء عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (4722) .(3/532)
والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التخزين والتطريب فى القراءة. ولكن النفوس تستجلبه وتستملحه لموافقة الطبع وعدم التكلف والتصنع، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذى كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغنى المحمود، وهو الذى يتأثر به التالى والسامع.
والوجه الثانى: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، ليس فى الطبائع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعليم والتكلف، فهذه هى التى كرهها السلف وعابوها وأنكروا القراءة بها.
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التى هى على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم اتقى لله من أن يقرؤا بها ويسوغوها، ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرؤن بالتخزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقراءة، ويقرؤنه بسجاياهم تارة، وتطريبا أخرى، وهذا أمر فى الطباع، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضى الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه- صلى الله عليه وسلم-، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال:
«ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وليس المراد الاستغناء به عن غيره كما ظنه بعضهم، ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى.
والمعروف فى كلام العرب أن التغنى إنما هو الغناء الذى هو حسن الصوت بالترجيع، كما قال الشاعر:
تغن بالشعر إذا ما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
وروى ابن أبى شيبة عن عقبة بن عامر مرفوعا: «تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه» «1» . الحديث والله أعلم. وقد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- سمع أبا موسى
__________
(1) ذكره الحافظ فى «الفتح» (9/ 71) .(3/533)
الأشعرى يقرأ فقال: «لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود» «1» . يعنى من مزامير داود نفسه، كما ذكره أهل المعانى. وفى طريق آخر- كما تقدم- أن أبا موسى قال: يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا «2» . قال ابن المنير: فهذا يدل على أنه كان يستطيع أن يتلو أشجى من المزامير عند المبالغة فى التحبير، لأنه قد تلا مثلها وما بلغ الحد، فكيف لو بلغ حد استطاعته.
وقد كان داود- عليه السّلام- إذا أراد أن يتكلم على بنى إسرائيل يجوع سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يأتى النساء، ثم يأمر سليمان فينادى فى الضواحى والنواحى والآكام والأودية والجبال: إن داود يجلس يوم كذا، ثم يخرج له منبرا إلى الصحراء، فيجلس عليه، وسليمان قائم على رأسه، فتأتى الإنس والجن والطير والوحش والهوام والعذارى والمخدرات يسمعون الذكر، فيأخذ فى الثناء على الله بما هو أهله، فتموت طائفة من المستمعين، ثم يأخذ فى النياحة على المذنبين فتموت طائفة، فإذا استجر الموت بالخلق قال له سليمان: يا نبى الله، قد استجر الموت بالناس، وقد مزقت المستمعين كل ممزق، فيخر داود مغشيّا عليه، فيحمل على سريره إلى بيته، وينادى منادى سليمان: أيها الناس، من كان له مع داود قريب أو حميم فليخرج لافتقاده، فكانت المرأة تأتى فتقف على زوجها أو ابنها أو أخيها، فتدخل به المدينة، فإذا أفاق داود فى اليوم الثانى قال: يا سليمان، ما فعل عباد بنى إسرائيل؟ فيقول له سليمان: قد مات فلان وفلان وهلم جرا. فيضع داود يده على رأسه وينوح ويقول: يا ربّ داود، أغضبان أنت على داود حتى إنه لم يمت فيمن مات خوفا منك أو شوقا إليك؟ فلا يزال ذلك دأبه إلى المجلس الآخر، وأقام داود- عليه السّلام- على ذلك ما شاء الله تعالى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5048) فى فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ومسلم (793) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن. من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: وقد تقدم.(3/534)
ولا تظن بما ذكرته من حال بنى إسرائيل أنهم فى ذلك أعلى من هذه الأمة، فأما المزامير فحسبك ما ذكر من حال أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-، وأما الموت من الموعظة شوقا أو خوفا فلنا فيه طريقان:
أحدهما: أن نقول إن القوة التى أوتيتها هذه الأمة تقاوم الأحوال الواردة عليها فتتماسك الحياة، فلا تفنى القوة الجسمانية بل القوة الروحانية، والتأييدات الإلهية. فلفرط قوة هذه الأمة- إن شاء الله تعالى- تقارب عند سلفها الصالح ما بين حال سماع الموعظة وحال عدم سماعها، لتوالى أحوال الذكر وأطوار اليقين. وقد قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
فتماسك قوة السلف عند واردات الأحوال هو الذى فرق بينهم وبين من قبلهم. ألا ترى أن داود وسليمان- عليهما السلام- وهما أصحاب المزامير- لم يتفق لهما الموت كما اتفق لمن مات، وما ذلك من تقصيرهما فى الخوف والشوق، ولكن من القوة الربانية التى أمدهما بها. ولا خلاف بأن داود- عليه السّلام- وإن لم يمت من الذكر أفضل ممن مات من أمته، وأما نواحه على كونه لم يمت فذلك من التواضع الذى يزيده شرفا، لا من التقصير عن آحاد أمته، بل لارتفاعه عنهم درجات وزلفى، وإلى هذه القوة الإلهية أشار أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقد رأى إنسانا يبكى من الموعظة فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. عبر عن القوة بالقسوة تواضعا، ومرتبته بحمد الله محفوظة ومنزلته مرفوعة.
والطريق الثانى: أن نقول: قد روي ما لا يحصى كثرة عن هذه الأمة مثل ما اتفق فى مجلس داود- عليه السّلام- من موت المستمعين للذكر فى مجلس السماع قديما وحديثا، ولأبى إسحاق الثعلبى جزء فى قتلى القرآن رويناه، وعندى من ذلك جملة أرجو تدوينها، بل قد روي عن كثير من المريدين أنهم ماتوا بمجرد النظر إلى المشايخ، كما حكى أن مريدا لأبى تراب النخشبى كان يتجلى له الحق تعالى فى كل يوم مرات، فقال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد لرأيت أمرا عظيما، فلما ارتحل المريد مع شيخه أبى تراب النخشبى لأبى يزيد(3/535)
ووقع بصر المريد عليه وقع ميتا، فقال له أبو تراب يا أبا يزيد نظرة منك قتلته، وقد كان يدعى رؤية الحق فقال له أبو يزيد قد كان صاحبك صادقا، وكان الحق يتجلى له على قدر مقامه، فلما رآنى تجلى له على قدر ما رأى، فلم يطق فمات. واصطلاح أهل الطريق فى التجلى معروف، وحاصله: رتبة من المعرفة جلية علية ولم يكونوا يعنون بالتجلى رؤية البصر التى قيل فيها لموسى- عليه السّلام- على خصوصيته- لَنْ تَرانِي «1» والتى قيل فيها على العموم لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2» . وإذا فهمت أن مرادهم الذى أثبتوه غير المعنى الذى حصل منه الناس على اليأس فى الدنيا، ووعد الخواص به فى الآخرى، فلا ضير بعد ذلك عليك. ولا طريق لسوء الظن بالقوم إليك، والله متولى السرائر. انتهى ملخصا.
وإذا علمت هذا فاعلم أن السماع فى طريق القوم معروف، وفى الجواذب إلى المحبة معدود وموصوف، وقد نقل إباحته أبو طالب فى «القوت» عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن جعفر، وابن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية، وكذا الجنيد، والسرى وذى النون، واحتج له الغزالى فى «الإحياء» بما يطول ذكره، خصوصا فى أوقات السرور المباحة، تأكيدا له وتهييجا، كعرس وقدوم غائب، ووليمة وعقيقة وحفظ قرآن، وختم درس أو كتاب أو تأليف.
وفى الصحيحين من حديث عائشة: أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان فى أيام منى تدففان وتضربان، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف- صلى الله عليه وسلم- عن وجهه وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد» «3» . وفى رواية: دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعندى جاريتان
__________
(1) سورة الأعراف: 143.
(2) سورة الأنعام: 103.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (988) فى الجمعة، باب: إذا فاته العيد يصلى ركعتين، ومسلم (892) فى صلاة العيدين، باب: الرخصة فى اللعب الذى لا معصية فيه فى أيام العيد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/536)
تغنيان بغناء يوم بعاث- بضم الموحدة والعين المهملة آخره مثلاثة- اسم حصن للأوس، وبالمعجمة تصحيف، أى تنشدان الأشعار التى قيلت يوم بعاث، وهو حرب كان بين الأنصار، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرنى وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل عليه- صلى الله عليه وسلم- وقال: «دعهما» . واستدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بالة وبغير آلة.
وتعقب: بأن فى الحديث الآخر عند البخارى عن عائشة: «وليستا بمغنيتين» «1» فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنيا، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق لما فيه من تعريض بالفواحش أو تصريح.
قال القرطبى: قولها- يعنى عائشة-: «ليستا بمغنيتين» أى ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك. قال: وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين، وهو الذى يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا إذا كان فى شعر فيه وصف محاسن النساء أو الخمر أو غيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف فى تحريمه. قال: وأما ما ابتدعته الصوفية فى ذلك فمن قبيل ما لا يختلف فى تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت فى كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأن ذلك يثمر سنىّ الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة. انتهى.
والحق: أن السماع إذا وقع بصوت حسن، بشعر متضمن للصفات العلية، أو النعوت النبوية المحمدية، عريّا عن الآلات المحرمة، والحظوظ
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (952) فى الجمعة، باب: سنة العيدين لأهل الإسلام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/537)
الخسيسة الغبية، والشبه الدنية، وآثار كامن المحبة الشريفة العلية، وضبط السامع نفسه ما أمكنه، بحيث لا يرفع صوته بالبكاء، ولا يظهر التواجد وهو يقدر على ضبط نفسه ما أمكنه مع العلم بما يجب لله ورسوله ويستحيل، لئلا ينزل ما يسمعه على ما لا يليق، كان من الحسن فى غاية، ولتمام تزكية النفس نهاية. نعم تركه والاشتغال بما هو أعلى أسلم لخوف الشبهة، وللخروج من الخلاف، إلا نادرا.
وقد نقل عن الإمام الشافعى ومالك وأبى حنيفة وجماعة من العلماء ألفاظ تدل على التحريم، ولعل مرادهم ما كان فيه تهييج شيطانى، وإذا كان النظر فى السماع باعتبار تأثيره فى القلوب، لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأشخاص، واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما فى القلب، وهو لمن يرتقى لربه ترقية مثير للكامن فى النفوس من الأزل، حين خاطبنا الحق تعالى بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» فما كان فى القلب من رقة ووجد وحقيقة فهو من حلاوة ذلك الخطاب، والأعضاء كلها ناطقة بذكره، مستطيبة لاسمه، فالسماع من أكبر مصايد النفوس، وإذا اقترن بألحانه المناسبة، وكان الشعر متضمنا لذكر المحبوب الحق، برز الكامن وذاعت الأسرار سيما فى أرباب البدايات.
وقد شوهد تأثير السماع حتى فى الحيوانات الغير الناطقة من الطيور والبهائم، فقد شوهد تدلى الطيور من الأغصان على أولى النغمات الفائقة، والألحان الرائقة، وهذا الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيرا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه فى سماعه المسافة الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراه إذا طالت عليه البوادى، وأعياه الإعياء تحت الحمل إذا سمع منادى الحداء يمد عنقه ويصغى إلى الحادى، ويسرع فى سيره، وربما أتلف نفسه فى شدة السير وثقل الحمل، وهو لا يشعر بذلك لنشاطه.
__________
(1) سورة الأعراف: 172.(3/538)
وقد حكى مما ذكره فى «الإحياء» عن أبى بكر الدينورى: أن عبدا أسود قتل جمالا كثيرة بطيب نغمته إذا حداها، وكانت محملة أحمالا ثقيلة، فقطعت مسيرة ثلاثة أيام فى ليلة واحدة، وأنه حدا على جمل غيرها بحضرته، فهام الجمل وقطع حباله وحصل له ما غيبه عن حسه، حتى خر لوجهه. فتأثير السماع محسوس، ومن لم يحركه فهو فاسد المزاج، بعيد العلاج، زائد فى غلظ الطبع وكثافته على الجمال. وإذا كانت هذا البهائم تتأثر بالنغمات، فتأثير النفوس الإنسانية أولى. وقد قال:
نعم لولاه ما ذكر العقيق ... ولا جابت له الفلوات نوق
نعم أسعى إليك على جفونى ... تدانى الحى أو بعد الطريق
إذا كانت تحن لك المطايا ... فماذا يفعل الصب المشوق
فزبدة السماع تلطيف السر، ومن ثم وضع العارف الكبير سيدى على الوفوى حزبه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة، تنشيطا لقلوب المريدين وترويحا لأسرار السالكين، فإن النفوس- كما قدمناه- لها حظ من الألحان، فإذا قيلت هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمدية بهذه النغمات الفائقة والأوزان الرائقة، تشربتها العروق، وأخذ كل عضو نصيبه من ذلك المدد الوفوى المحمدى، فأثمرت شجرة خطاب الأزل بما سقيته من موارد هذه اللطائف عوارف المعارف.
تنبيه: زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد من التلاوة وأظهر تأثيرا.
والحجة عن ذلك: أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة، ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدعت وتحيرت، والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان والأصوات بما فى الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل بعضها بعضا فكان أقرب إلى الحظوظ وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق. قاله أبو نصر السراج «1» .
__________
(1) هو عبد الله بن على الطوسى أبو نصر السراج زاهد صوفى على طريقة السنة. توفى سنة (378 هـ) . الأعلام (4/ 104) ، شذرات الذهب (3/ 91) ، معجم المطبوعات (1017) .(3/539)
المقصد العاشر
الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه ص
اعلم- وصلنى الله وإياك بحبل تأييده، وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أن هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوى الإيمان. واعلم أنه لما كان الموت مكروها بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة، لم يمت نبى من الأنبياء حتى يخير.
وأول ما أعلم النبى- صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» ، فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس فى دينك الذى دعوتهم إليه أفواجا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعد للنقلة إلينا.
وقد قيل إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو- صلى الله عليه وسلم- بمنى فى حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبى حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل: سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا.
ولأبى يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة فى أوسط أيام التشريق فى حجة الوداع، فعرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع.
__________
(1) سورة النصر: 1.(3/540)
وفى حديث ابن عباس، عند الدارمى: لما نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال: «نعيت إلى نفسى» فبكت قال: «لا تبكى، فإنك أول أهلى لحوقا بى» ، فضحكت «2» . الحديث.
وروى الطبرانى من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «3» نعيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا فى أمر الآخرة. وللطبرانى أيضا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة قال النبى- صلى الله عليه وسلم- لجبريل: «نعيت إلى نفسى» . فقال له جبريل:
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى «4» . وروى فى حديث ذكره ابن رجب فى «اللطائف» : أنه تعبد حتى صار كالشن البالى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان- صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فى ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار.
وقالت أم سلمة: كان- صلى الله عليه وسلم- فى آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجئ إلا قال: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» ، فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم، فقال: «إن ربى أخبرنى أنى سأرى علما فى أمتى، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره» ، ثم تلا هذه السورة «5» . رواه ابن جرير وابن خزيمة. وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه.
وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء وللأموات، ثم طلع
__________
(1) سورة النصر: 1.
(2) أخرجه الدارمى (79) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) سورة النصر: 1.
(4) سورة الضحى: 4.
(5) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 184) .(3/541)
المنبر فقال: «إنى بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه وأنا فى مقامى هذا، وإنى قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدى، ولكنى أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها» . وزاد بعضهم: «فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم» «1» .
وعن أبى سعيد الخدرى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال:
«إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده» ، فبكى أبو بكر- رضى الله عنه- وقال: يا رسول الله، فديناك بابائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر- رضى الله عنه-» «2» . رواه البخارى ومسلم.
ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليال «إنى أبرأ إلى الله أن يكون لى منكم خليل» «3» . وكأن أبا بكر- رضى الله عنه- فهم الرمز الذى أشار به النبى- صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك فى مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ومسلم (2296) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا وصفاته، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (496) فى الصلاة، باب: الخوخة والممر فى المسجد، ومسلم (2382) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(3) تقدم فى الذى قبله.(3/542)
وما زال- صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله فى آخر عمره، فإنه لما خطب فى حجة الوداع قال للناس: «خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا» وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع «1» .
فلما رجع- صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى «خما» فى طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: «أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب» ، ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته «2» .
قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه- صلى الله عليه وسلم- فى أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما فى المشهور. وكانت خطبته التى خطب بها المذكورة فى حديث أبى سعيد الذى قدمته فى ابتداء مرضه الذى مات فيه، فإنه خرج- كما رواه الدارمى- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر فاستوى عليه فقال: «والذى نفسى بيده، إنى لأنظر إلى الحوض من مقامى هذا، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا» .. إلخ، ثم هبط عنه فما رؤى عليه حتى الساعة.
فلما عرّض- صلى الله عليه وسلم- على المنبر باختياره اللقاء على البقاء، ولم يصرح، خفى المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ «3» ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكّن الرسول- صلى الله عليه وسلم- جزعه، وأخذ فى مدحه والثناء عليه على المنبر، ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف فى خلافته فقال:
«إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر- رضى الله عنه-» ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) سورة التوبة: 40.(3/543)
الإسلام» «1» ، لما كان- صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أن يخالل مخلوقا، فإن الخليل من جرت صحبة خليله منه مجرى الروح ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح منى ... وبذا سمى الخليل خليلا
أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر» «2» ، إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكن المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلى بالناس أبو بكر- رضى الله عنه-، فروجع فى ذلك وهو يقول: «مروا أبا بكر أن يصلى بالناس» ، فولاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبى بكر- رضى الله عنه-:
رضيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لديننا أفلا نرضاه لدنيانا.
وكان ابتداء مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت ميمونة، كما ثبت فى رواية معمر عن الزهرى، وفى سيرة أبى معشر: كان فى بيت زينب بنت جحش، وفى سيرة سليمان التيمى كان فى بيت ريحانة، والأول هو المعتمد.
وذكر الخطابى، أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف فى مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يوما، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما فى الروضة، وصدر بالثانى، وقيل عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمى فى مغازيه، وأخرجه البيهقى بإسناد صحيح.
وفى البخارى: قالت عائشة: لما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتى فأذنّ له، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه فى الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله فأخبرت عبد الله بالذى قالت عائشة فقال لى عبد الله بن عباس: هل تدرى
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.(3/544)
من الرجل الآخر الذى لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو على بن أبى طالب «1» . الحديث.
وفى رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس ورجل آخر «2» . وفى أخرى لغير مسلم: رجلين أحدهما أسامة. وعند الدار قطنى:
أسامة والفضل، وعند ابن حبان فى أخرى: بريرة ونوبة- بضم النون وسكون الواو ثم موحدة- قيل وهو اسم أمه، وقيل: عبد. وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان. وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد، فتعدد من اتكأ عليه.
وعن عائشة- رضى الله عنها- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: «إنى لا أستطيع أن أدور فى بيوتكن، فإن شئتن أذنتن لى» . رواه أحمد. وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «أين أنا غدا، أين أنا غدا؟» «3» يريد يوم عائشة. وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهرى: أن فاطمة هى التى خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: إنه يشق عليه الاختلاف. وفى رواية ابن أبى مليكة عن عائشة أن دخوله- صلى الله عليه وسلم- بيتها كان يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين الذى يليه.
وفى مرسل أبى جعفر عند ابن أبى شيبة: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أين أكون أنا غدا» ، كررها مرتين، فعرف أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة «4» . وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام ... وتقدم فى الذى قبله.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1389) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر، ومسلم (1443) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) أصله فى البخارى وقد تقدم.(3/545)
- عند الإسماعيلى- كان يقول: «أين أنا غدا» حرصا على بيت عائشة، فلما كان يومى أذن له نساؤه أن يمرض فى بيتى «1» .
وعن عائشة: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وارأساه، فقال: «بل أنا وارأساه» ، ثم قال: «ما ضرك لو مت قبلى فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك» ، فقالت: لكأنى بك والله لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم- صلى الله عليه وسلم-، ثم بدأ فى وجعه الذى مات فيه «2» . رواه أحمد والنسائى.
وفى البخارى، قالت عائشة: وارأساه فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ذاك لو كان وأنا حى فأستغفر لك وأدعو لك» ، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إنى لأظنك تحب موتى، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «بل أنا وارأساه» ، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون «3» .
وقوله: «بل أنا وارأساه» إضراب، يعنى: دعى ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلى بى. فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد فى الزهد عن طاووس أنه قال: «أنين المريض شكوى» ، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن تأوه المريض مكروه.
قلت: تعقبه النووى فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهى مخصوص، وهو لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة هذا،
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الدارمى (80) فى المقدمة، باب: وفاة النبى، وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5666) فى المرضى، باب: قول المريض إنى وجع أو وارأساه. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/546)
ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى.
قال فى فتح البارى: ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا، فليس ذكر الوجع شكاية. فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعوّل فى ذلك على عمل القلب اتفاقا لا على نطق اللسان.
وقد تبين- كما نبه عليه فى «اللطائف» - أن أول مرضه- صلى الله عليه وسلم- كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمى اشتدت به فى مرضه، فكان يجلس فى مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، يتبرد بذلك.
وفى البخارى قالت عائشة: لما دخل بيتى واشتد وجعه قال: «أهريقوا علىّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلى أعهد إلى الناس» ، فأجلسناه فى مخضب لحفصة- زوج النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن «1» . الحديث.
وقد قيل فى الحكمة فى هذا العدد: أن له خاصية فى دفع ضرر السم والسحر، وسيأتى- إن شاء الله تعالى- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «هذا أوان انقطاع أبهرى» «2» ، أى من ذلك السم. وتمسك بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب به، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا إنما هو لدفع السمية التى فى ريقه.
وكانت عليه- صلى الله عليه وسلم- قطيفة، فكانت الحمى تصيب من يضع يده عليه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (تعليقا) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة، وأبو داود (4512) فى الديات، باب: فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيضا منه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(3/547)
من فوقها فقيل له فى ذلك فقال: «إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر» «1» ، رواه ابن ماجه وابن أبى الدنيا، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبى سعيد الخدرى. وقالت عائشة: ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» .
وعن عبد الله قال: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكا شديدا، قال: «أجل، أنى أوعك كما يوعك رجلان منكم» ، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: «أجل، ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» «3» . رواه البخارى.
والوعك- بفتح الواو وسكون العين المهملة، وقد تفتح-: الحمى، وقيل: ألم الحمى، وقيل: إرعادها الموعك وتحريكها إياه. وعن الأصمعى:
الوعك: الحر، فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها. قال أبو هريرة: ما من وجع يصيا بنى أحب إلىّ من الحمى، إنها تدخل فى كل مفصل من ابن آدم، وإن الله يعطى كل مفصل قسطا من الأجر.
وأخرج النسائى، وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان- أخت حذيفة- قالت: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى نساء نعوده: فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال: «إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم» «4» .
وفى حديث عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه علبة أو ركوة فيها ماء،
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (4024) فى الفتن، باب: الصبر على البلاء. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5646) فى المرضى، باب: شدة المرض، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5640) فى المرضى، باب: ما جاء فى كفارة المرض. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (7482 و 7496 و 7613) .(3/548)
فجعل يدخل يديه فى الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» «1» الحديث رواه الشيخان. وروى أيضا عن عروة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم» «2» .
وفى رواية: «ما زالت أكلة خيبر تعادّنى» «3» .
والأكلة: بالضم، اللقمة التى أكل من الشاة. وبعض الرواة يفتح الألف، وهو خطأ لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير. ومعنى الحديث: أنه نقض عليه سم الشاة التى أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانا. والأبهر: عرق مستبطن بالصلب يتصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه- صلى الله عليه وسلم- مات شهيدا من السم.
وعند البخارى أيضا قالت: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده، فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التى كان ينفث وأمسح بيد النبى- صلى الله عليه وسلم- عنه «4» . وفى رواية مالك: وأمسح بيده رجاء بركتها «5» . ولمسلم فلما مرض مرضه الذى مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدى. وأطلقت على السور الثلاث: المعوذات، تغليبا.
وفى البخارى عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنا مسندته إلى صدرى، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4449) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2192) فى السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) أخرجه مالك (1755) فى الجامع، باب: التعوذ والرقية من المرض.(3/549)
فأبده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فاستن به، فما رأيته استن استنانا قط أحسن منه «1» .
الحديث.
قولها: «فأبده» بتشديد الدال المهملة أى: مد نظره إليه. وقولها:
«فقضمته» - بكسر الضاد المعجمة- أى: لطوله ولإزالة المكان الذى تسوك به عبد الرحمن. «ثم طيبته» : أى لينته بالماء. وفى رواية له أيضا: قالت: إن من نعم الله تعالى علىّ أن جمع الله بين ريقى وريقه عند موته، دخل علىّ عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم «2» .
وفى رواية: مر عبد الرحمن وفى يده جريدة رطبة، فنظر إليه- صلى الله عليه وسلم- فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ودفعتها إليه فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقى وريقه فى آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة «3» .
وفى حديث خرجه العقيلى، أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لها فى مرضه: «ائتينى بسواك رطب فامضغيه ثم ائتينى به أمضغه لكى يختلط ريقى بريقك لكى يهون على عند الموت» .
قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم ذلك بلقاء الله، وبكلما أحبوا من تحفة أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك، لما قد مثل له.
وفى المسند عن عائشة أيضا: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنه ليهون على
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (890) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2449) وتقدم قريبا.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4451) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/550)
الموت لأنى رأيت بياض كف عائشة فى الجنة» . وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لقد رأيتها فى الجنة، حتى ليهون علىّ بذلك موتى، كأنى أرى كفيها» ، يعنى عائشة.
فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يحب عائشة حبّا شديدا، حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت له بين يديه فى الجنة ليهون عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة، وقد سأله- صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: «أى الناس أحب إليك؟» فقال:
«عائشة» فقال: من الرجال: قال: «أبوها» «1» ، ولهذا قال لها فى ابتداء مرضه لما قالت: وارأساه: «وددت أن ذلك كان وأنا حى فأصلى عليك وأدفنك» «2» فعظم ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما- صلى الله عليه وسلم- يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما.
ويروى أنه كان عنده- صلى الله عليه وسلم- فى مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها فى كفه فقال: «ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه؟» ثم تصدق بها كلها. رواه البيهقى.
انظر إذا كان هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف حال من لقى الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة، وما ظنه بربه تعالى.
وفى البخارى من طريق عروة عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: دعا النبى- صلى الله عليه وسلم- فاطمة فى شكواه الذى قبض فيه، فسارّها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارّها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارّنى النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه فبكيت، ثم سارّنى فأخبرنى أنى أول أهله يتبعه فضحكت «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3662) فى المناقب، باب: قول النبى لو كنت متخذا خليلا. من حديث عمرو بن العاص- رضى الله عنه-.
(2) تقدم.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2626) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام. من حديث عروة عن عائشة- رضى الله عنها-.(3/551)
وفى رواية مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشى كأن مشيتها مشية النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «مرحبا بابنتى» ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها «1» .
ولأبى داود والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى قيامها وقعودها من فاطمة. وكانت إذا دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- قام إليها وقبلها وأجلسها فى مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه فقبلته «2» .
واتفقت الروايتان: على أن الذى سارّها به أولا فبكت، هو إعلامه إياها أنه ميت فى مرضه ذلك، واختلفتا فيما سارّها به فضحكت، ففى رواية عروة أنه: إخباره إياها بأنها أول أهله لحوقا به «3» ، وفى رواية مسروق أنه: إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة «4» . وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست فى حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين.
فمما زاده مسروق: قول عائشة فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشى سر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، حتى توفى النبى- صلى الله عليه وسلم- فسألتها فقالت: أسر إلىّ أن جبريل كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضنى العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى، وأنك أول أهل بيتى لحاقا بى «5» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2450) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى. من حديث مسروق عن عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (5217) فى الأدب، باب: ما جاء فى القيام، والترمذى (3872) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو فى صحيح البخارى بنحوه، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3781) فى المناقب، باب: من مناقب الحسن والحسين، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) تقدم.
(5) تقدم.(3/552)
وفى رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: أن عائشة لما رأت بكاها وضحكها قالت: إن كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء، فإذا هى من النساء. ويحتمل تعدد القصة. وفى رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق ففيها أنه ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن.
وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أول أهله لحوقا به سببا لبكائها ولضحكها باعتبارين، فذكر كل من الراويين ما لم يذكره الآخر. وقد روى النسائى من طريق أبى سلمة عن عائشة فى سبب البكاء أنه ميت، وفى سبب الضحك الأمرين الآخرين.
ولابن سعد من رواية أبى سلمة عنها: أن سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به. وعند الطبرانى- من وجه آخر- عن عائشة أنه قال لفاطمة: «إن جبريل أخبرنى أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكونى أدنى امرأة منهن صبرا» . وفى الحديث: إخباره- صلى الله عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال- صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة- رضى الله عنها- كانت أول من مات من أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بعده، حتى من أزواجه- عليه الصلاة والسلام-.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- من شدة وجعه يغمى عليه فى مرضه ثم يفيق، وأغمى عليه مرة فظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه، فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه، فقالوا: كراهية للدواء، فلما أفاق قال: «ألم أنهكم أن تلدونى؟» فقالوا: كراهية المريض للدواء، فقال: «لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم» «1» . رواه البخارى. واللدود، هو ما يجعل فى جانب الفم من الدواء، فأما ما يصب فى الحلق فيقال له: الوجور.
وفى الطبرانى من حديث العباس: أنهم أذابوا قسطا بزيت ولدوه به.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4458) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/553)
وفى قوله «لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ، إلخ» مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان، وفيه نظر: لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عما نهاهم عنه. قال ابن العربى: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا فى خطيئة عظيمة. وتعقب: بأنه كان يمكن أن يقع العفو، ولأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذى يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبا لا اقتصاصا ولا انتقاما. قيل: وإنما كره اللدود مع أنه كان يتداوى، لأنه تحقق أنه يموت فى مرضه، ومن تحقق ذلك كره له التداوى.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذى يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقيق، وإنما أنكر التداوى لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك، كما هو ظاهر فى سياق الخبر.
وعند ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخاصرة، فاشتدت فأغمى عليه، فلدوه، فلما أفاق قال: «كنتم ترون أن الله يسلط علىّ ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها على سلطانا، والله لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ» ، فما بقى أحد فى البيت إلا لدّ، ولددنا ميمونة وهى صائمة.
وروى أبو يعلى- بسند ضعيف فيه ابن لهيعة- من وجه آخر عن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- مات من ذات الجنب. وجمع بينهما: بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: أحدهما: ورم حار يعرض فى الغشاء المستبطن، والآخر:
ريح محتقن بين الأضلاع، فالأول هو المنفى هنا. وقد وقع فى رواية الحاكم فى المستدرك: ذات الجنب من الشيطان، والثانى هو الذى أثبت هنا وليس فيه محذور كالأول.
وفى حديث ابن عباس عند البخارى: لما حضر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفى البيت رجال، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» ، فقال بعضهم: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا(3/554)
كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قوموا» . قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم «1» .
قال المازرى: إنما جاز للصحابة الاختلاف فى هذا الكتاب: مع صريح أمره لهم بذلك. لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم.
وقال النووى: اتفق العلماء على أن قول عمر: «حسبنا كتاب الله» «2» من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشى أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء، وفى تركه- صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه، وأشار بقوله: «حسبنا كتاب الله» إلى قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «3» ، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: «إن الرزية إلخ» لأن عمر كان أفقه منه قطعا، ولا يقال إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسفا على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه، لكونه أولى من الاستنباط، والله أعلم.
ولما اشتد به- صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (114) فى العلم، باب: كتابة العلم. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4432) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما.
(3) سورة الأنعام: 38.(3/555)
له عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فعادوته بمثل مقالتها، فقال: «إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» «1» . رواه الشيخان وأبو حاتم واللفظ له. وفى رواية: إن أبا بكر رجل أسيف «2» .
وفى حديث عروة عن عائشة عند البخارى: فمر عمر فليصل بالناس، قالت: قلت لحفصة قولى له إن أبا بكر إذا قام فى مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا «3» .
والأسيف: بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل، من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا، رقيق القلب. ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عائشة فى هذا الحديث: قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد: أنهن مثل صواحب يوسف فى إظهار ما فى الباطن. ثم إن هذا الخطاب، وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهى عائشة- رضى الله عنها-. ووجه المشابهة بينهما فى ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها الزيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها فى محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن لا يتشاءم الناس به. وقد صرحت هى بذلك، كما عند البخارى فى باب وفاته- صلى الله عليه وسلم- فقالت: لقد راجعته وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع فى قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا. وأن لا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (664) فى الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) تقدم فى الذى قبله.
(3) تقدم.(3/556)
وقد نقل الدمياطى: أن الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة. وقد ذكر الفاكهى فى «الفجر المنير» مما عزاه لسيف الدين بن عمر فى كتاب «الفتوح» أن الأنصار لما رأوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يزداد وجعا، أطافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلمه- صلى الله عليه وسلم- بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه على بن أبى طالب كذلك. فخر- صلى الله عليه وسلم- متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبى- صلى الله عليه وسلم- معصوب الرأس يخط برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس، بلغنى أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبى قبلى فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا إنى لاحق بربى، وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1» إلى آخرها، وإن الأمور تجرى بإذن الله تعالى، ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ «2» ، وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم فى الثمار؟ ألم يوسعوا لكم فى الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولى أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، إلا وإنى فرط لكم، وأنتم لا حقون بى، إلا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده علىّ غدا فليكفف يده ولسانه، إلا فيما ينبغى، يا أيها الناس، إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، فإذا برّ الناس، برّهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوهم.
وفى حديث أنس عند البخارى: قال: مرّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبى
__________
(1) سورة العصر: 1، 2.
(2) سورة محمد: 22.(3/557)
- صلى الله عليه وسلم- منا، فدخل أحدهما على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر- ولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشى وعيبتى، وقد قضوا الذى عليهم، وبقى الذى لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» «1» .
وقوله «كرشى وعيبتى» أى موضع سرى أراد أنهم بطانته وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم فى أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك. لأن المجتر يجمع علفه فى كرشه، والرجل يجمع ثيابه فى عيبته، وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أى جماعتى وصحابتى يقال: عليه كرش من الناس، أى جماعة، قاله فى النهاية.
وذكر الواحدى بسند وصله بعبد الله بن مسعود قال: نعى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت عائشة فقال:
«حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، آواكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله، إنى لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله فى بلاده وعباده، فإنه قال لى ولكم:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «3» » ، قلنا: يا رسول الله، متى أجلك؟ قال: «دنا الفراق، والمنقلب إلى الله وإلى جنة المأوى» ، قلنا: يا رسول الله، من يغسلك؟ قال: «رجال من أهل بيتى الأدنى فالأدنى» ، قلنا: يا رسول الله، فيم نكفنك؟ قال: «فى ثيابى هذه وإن شئتم فى بياض ثياب مصر، أو حلة يمنية» ، قلنا: يا رسول الله، من يصلى عليك؟
قال: «إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على سريرى هذا على شفير
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3799) فى المناقب، باب: قول النبى اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن سيئاتهم. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) سورة القصص: 83.
(3) سورة الزمر: 60.(3/558)
قبرى، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى على جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا على فوجا فوجا، فصلوا علىّ وسلموا تسليما، وليبدأ بالصلاة علىّ رجال أهل بيتى، ثم نساؤهم، ثم أنتم، واقرؤا السلام على من غاب من أصحابى ومن تبعنى على دينى، من يومى هذا إلى يوم القيامة» ، قلنا: يا رسول الله، من يدخلك قبرك؟
قال: «أهلى مع ملائكة ربى» . وكذا رواه الطبرانى فى «الدعاء» وهو واه جدّا.
وقالت عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول: «إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير» . فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذى غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: «اللهم فى الرفيق الأعلى» ، فقلت: إذا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذى كان يحدثنا وهو صحيح «1» . وفى رواية: أنها أصغت إليه قبل أن يموت، وهو مستند إلىّ ظهره يقول: «اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى» «2» . رواه البخارى من طريق الزهرى عن عروة.
وما فهمته عائشة من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم فى الرفيق الأعلى» أنه خير، نظير فهم أبيها- رضى الله عنه- من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن عبدا خيره الله ما بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» أن العبد المراد هو النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى بكى كما قدمته. ذكره الحافظ ابن حجر.
وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد المطلب بن عبد الله عن عائشة:
أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «ما من نبى يقبض إلا يرى الثواب ثم
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4437) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3496) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/559)
يخير» «1» . ولأحمد أيضا، من حديث أبى مويهة قال: قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة، فخيرات بين ذلك وبين لقاء ربى فاخترت لقاء ربى والجنة» «2» . وعند عبد الرزاق من مرسل طاووس، رفعه: «خيرات بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتى، وبين التعجيل فاخترت التعجيل» ، وفى رواية أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه عند النسائى، وصححه ابن حبان: فقال اسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل. وظاهره: أن الرفيق الأعلى، المكان الذى تحصل المرافقة فيه مع المذكورين، وقال ابن الأثير فى «النهاية» الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وقيل: المراد به الله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة، انتهى، وقيل: المراد حظيرة القدس.
وفى كتاب «روضة التعريف بالحب الشريف» : لما تجلى له الحق ضعفت العلائق بينه وبين المحسوسات والحظوظ الضرورية من أوانى معانى الترقيات البشرية، فكانت أحواله فى زيادة الترقى، ولذلك روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «كل يوم لا أزداد فيه قربا من الله فلا بورك لى فى طلوع شمسه» . وكلما فارق مقاما واتصل بما هو أعلى منه لمح الأول بعين النقص، وسار على ظهر المحبة، ونعمت المطية لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال، والسفر إلى حضرة ذى الجلال، والاتصال بالمحبوب الذى كل شئ هالك إلا وجهه.
وقال السهيلى: الحكمة فى اختتام كلامه- صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة، كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان، لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره إذا كان قلبه عامرا بالذكر. انتهى ملخصا.
قال الحافظ ابن رجب: وقد روى ما يدل على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير. ففى المسند قالت- يعنى عائشة- كان
__________
(1) أخرجه البخارى، وقد تقدم.
(2) تقدم.(3/560)
النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من نبى إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه إلى أن يلحق» «1» ، فكنت قد حفظت ذلك عنه، فإنى لمسندته إلى صدرى، فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت: قضى، قالت:
فعرفت الذى قال، فنظرت إليه حين ارتفع ونظر، فقلت: إذا والله لا يختارنا، فقال: مع الرفيق الأعلى فى الجنة، مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وفى البخارى من حديث عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح- يقول: «إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير» ، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: «اللهم فى الرفيق الأعلى» «2» . ونبه السهيلى على أنه النكتة فى الإتيان بهذه الكملة بالإفراد، الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد. وفى صحيح ابن حبان عنها قالت: أغمى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورأسه فى حجرى. فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلما أفاق قال: «أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» «3» .
ولما احتضر- صلى الله عليه وسلم-، اشتد به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبى- صلى الله عليه وسلم-، قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: «اللهم أعنى على سكرات الموت» «4» . وفى رواية: فجعل يقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات» «5» .
قال بعض العلماء: فيه أن ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) تقدم.
(5) تقدم.(3/561)
وقال الشيخ أبو محمد المرجانى: تلك السكرات سكرات الطرب، ألا ترى إلى قول بلال حين قال له أهله وهو فى السياق: واكرباه، ففتح عينيه وقال:
واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فإذا كان هذا طربه وهو فى هذا الحال بلقاء محبوبه وهو النبى- صلى الله عليه وسلم- وحزبه، فما بالك بلقاء النبى- صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه.
وفى حديث مرسل ذكره الحافظ ابن رجب: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل، فأعنى عليه وهونه على» . وعند الإمام أحمد والترمذى من طريق القاسم عنها قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: «اللهم أعنى على سكرات الموت» «2» .
ولما تغشاه الكرب، قالت فاطمة- رضى الله عنها-: واكرب أبتاه، فقال لها: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» «3» ، رواه البخارى. قال الخطابى: زعم من لا يعد من أهل العلم: أن المراد بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» أن كربه كان شفقة على أمته، لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشئ، لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة، لأنه مبعوث إلى من جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وإن المراد بالكرب ما كان يجده- صلى الله عليه وسلم- من شدة الموت، وكان- صلى الله عليه وسلم- فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر ليتضاعف له الأجر، انتهى.
وروى ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: «إنه حضر من أبيك ما الله تعالى بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة» «4» .
__________
(1) سورة السجدة: 17.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) حسن: أخرجه ابن ماجه (1629) ، فيما جاء فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، وقال الألبانى فى صحيح ابن ماجه: حسن صحيح.(3/562)
وفى البخارى من حديث أنس بن مالك: أن المسلمين بينما هم فى صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلى لهم لم يفجأهم إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم فى صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة، قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا فى صلاتهم فرحا برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأشار إليهم بيده- صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر «1» .
وفى رواية أبى اليمان عن شعيب، عند البخارى، فى «الصلاة» : فتوفى من يومه «2» . وفى رواية معمر عنده أيضا. وكلها من حديث أنس: لم يخرج إلينا- صلى الله عليه وسلم- ثلاثا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم، فقام نبى الله- صلى الله عليه وسلم- بالحجاب فرفعه، فلما وضح لنا وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين وضح لنا، قال:
فأومأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أبى بكر أن يتقدم وأرخى الحجاب «3» . الحديث رواه الشيخان.
وعنه أن أبا بكر كان يصلى بهم فى وجع النبى- صلى الله عليه وسلم- الذى توفى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف فى الصلاة، كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة، فنظرنا إليه وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضاحكا «4» . الحديث رواه مسلم. وقد جزم موسى ابن عقبة عن ابن شهاب، أنه- صلى الله عليه وسلم- مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبى الأسود عن عروة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (680) فى الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(2) تقدم.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (681) فى الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (419) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.(3/563)
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما بقى من أجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث، نزل عليه جبريل، فقال: يا محمد إن الله قد أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ فقال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» ثم أتاه فى اليوم الثانى فقال له مثل ذلك، ثم جاءه فى اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل: يا محمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يأذن على نبى قبلك، ولا يستأذن على آدمى بعدك، قال:
«ائذن له» ، فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل أرسلنى إليك وأمرنى أن أطيعك فى كل ما تأمر، إن أمرتنى أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتنى أن أتركها تركتها، فقال جبريل: يا محمد، إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فامض يا ملك الموت لما أمرت به» ، فقال جبريل: يا رسول الله، هذا آخر موطئى من الأرض، إنما كنت حاجتى من الدنيا. فقبض روحه، فلما توفى- صلى الله عليه وسلم-، وجاءت التعزية سمعوا صوتا من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال على: أتدرون من هذا؟ هو الخضر- عليه السّلام-. رواه البيهقى فى دلائل النبوة.
وفى تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقى: وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر، مما ذكره فى الإحياء وأن النووى أنكر وجود الحديث المذكور فى كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب ثم قال العراقى: قد رواه الحاكم فى المستدرك من حديث أنس ولم يصححه، ولا يصح.
ورواه ابن أبى الدنيا عن أنس أيضا قال: لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اجتمع أصحابه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين فى إزار ورداء، يتخطى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أخذ بعضادتى باب البيت(3/564)
فبكى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فان. الحديث. وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر: علىّ بالرجل، فنظروا يمينا وشمالا فلم يروا أحدا، فقال أبو بكر لعلى: هذا الخضر، جاء يعزينا. ورواه ابن أبى الدنيا أيضا من حديث على ابن أبى طالب، وفيه محمد بن جعفر الصادق، تكلم فيه، وفيه انقطاع بين على بن الحسين وبين جده على، والمعروف عن على بن الحسين مرسلا من غير ذكر على، كما رواه الشافعى فى الأم وليس فيه ذكر للخضر- عليه السّلام- «1» .
قال البيهقى: قوله: «إن الله اشتاق إلى لقائك» معناه: قد أراد لقاءك بأن يردك من دنياك إلى معادك زيادة فى قربك وكرامتك. وأخرج الطبرانى من حديث ابن عباس قال: جاء ملك الموت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى مرضه ورأسه فى حجر على، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له على: ارجع فإنا مشاغيل عنك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «هذا ملك الموت، ادخل راشدا» ، فلما دخل قال: إن ربك يقرئك السلام. فبلغنى أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده.
وقالت عائشة: توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيتى، فى يومى، وبين سحرى ونحرى «2» ، وفى رواية: بين حاقنتى وذاقنتى «3» . رواه البخارى.
والحاقنة: بالمهملة والقاف والنون، أسفل من الذقن. والذاقنة: طرف الحلقوم.
والسحر: بفتح السين وسكون الحاء المهملتين، هو الصدر. والنحر: بفتح
__________
(1) قلت: أحاديث الخضر ضعيفة، ولم تثبت، بل وجوده يخالف عمومات كثيرة من الشريعة كعموم بعثته- صلى الله عليه وسلم- لأهل الأرض جميعا فلو كان حيّا ووسعه لقائه لالتقى به وآمن به وجاهد معه، ولكن لم يحدث شئ من ذلك، فينتظر حتى وفاته حتى يجئ لأصحابه ليعزيهم ثم ينصرف!.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1389) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) تقدم.(3/565)
النون وسكون الحاء المهملة. والمراد: أنه- صلى الله عليه وسلم- توفى ورأسه بين عنقها وصدرها.
وهذا لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق: أنه- صلى الله عليه وسلم- مات ورأسه فى حجر على، لأن كل طريق منها- كما قاله الحافظ ابن حجر- لا تخلو من شئ، فلا يلتفت لذلك والله أعلم.
قال السهيلى: وجدت فى بعض كتب الواقدى: أن أول كلمة تكلم بها النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو مسترضع عند حليمة: الله أكبر، وآخر كلمة تكلم بها:
الرفيق الأعلى.
وروى الحاكم من حديث أنس: أن آخر ما تكلم به- صلى الله عليه وسلم-: «جلال ربى الرفيع» .
ولما توفى- صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر غائبا بالسنح- يعنى العالية، عند زوجته بنت خارجة- وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أذن له فى الذهاب إليها، فسل عمر بن الخطاب سيفه وتوعد من يقول: مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى- عليه السّلام-، فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إنى لأرجو أن يقطع أيدى رجال وأرجلهم. فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فدخل، فكشف عن وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجثا يقبله ويبكى ويقول: توفى والذى نفسى بيده، صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيّا وميتا، ذكره الطبرى فى «الرياض» .
وقالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة، فبصر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله ثم بكى وقال: بأبى أنت وأمى، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها «1» . رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1242) فى الجنائز، باب: الدخول على الميت بعد الموت. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(3/566)
واختلف فى قول أبى بكر- رضى الله عنه-: «لا يجمع الله عليك موتتين» .
فقيل هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدى رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وكالذى مر على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها.
وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى فى القبر كغيره، إذ يحيا ليسئل ثم يموت، وهذا جواب الداودى. وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك. وقيل: كنى بالموت الثانى عن الكرب، أى لا يلقى بعد كرب الموت كربا آخر. قاله فى فتح البارى.
وعنها: أن عمر قام يقول: والله ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقبله وقال: بأبى أنت وأمى، طبت حيّا وميتا، والذى نفسى بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» وقال:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «2» الآية، قال: فنشج الناس يبكون «3» ، رواه البخارى.
يقال: نشج الباكى، إذا غص بالبكاء فى حلقه من غير انتحاب.
وعن سالم بن عبيد الأشجعى قال: لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، فأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحدا يقول: مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفى هذا، قال: فقال
__________
(1) سورة الزمر: 30.
(2) سورة آل عمران: 144.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1242) وقد تقدم.(3/567)
الناس يا سالم، أطلب صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: فخرجت إلى المسجد، فإذا بأبى بكر، فلما رأيته أجهشت بالبكاء، فقال: يا سالم أمات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدا يقول مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفى هذا، قال: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى، فرفع البرد عن وجهه، ووضع فاه على فيه واستنشى الريح، ثم سجاه والتفت إلينا فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «1» الآية، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» يا أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت. قال عمر: فو الله لكأنى لم أتل هذه الآيات قط، خرجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبرى فى «الرياض» له، وقال: خرج الترمذى معناه بتمامه. واستنشى الريح: شمها، أى شم ريح الموت.
وعند أحمد: عن عائشة قالت: سجيت النبى- صلى الله عليه وسلم- ثوبا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، ثم قاما، فقال المغيرة: يا عمر، مات، قال: كذبت، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يفنى الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر، فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» .
وفى حديث ابن عباس عند البخارى: إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «4» قال: والله لكأن
__________
(1) سورة آل عمران: 144.
(2) سورة الزمر: 30.
(3) تقدم.
(4) سورة آل عمران: 144.(3/568)
الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها «1» .
وفى حديث ابن عمر عند ابن أبى شيبة أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول:
ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين. قال:
وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رؤسهم، فقال: أيها الرجل، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد مات: ألم تسمع الله تعالى يقول: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» وقال: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ «3» ثم أتى المنبر. الحديث.
قال القرطبى أبو عبد الله المفسر: وفى هذا أدل دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدها: ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبى- صلى الله عليه وسلم-. فظهر عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية، فرجع عمر عن مقالته التى قالها.
كما ذكر الوائلى أبو نصر عبد الله فى كتاب «الإنابة» عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واستوى على منبره- صلى الله عليه وسلم-، تشهد ثم قال: أما بعد، فإنى قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإنى والله ما وجدت المقالة التى قلت لكم فى كتاب الله، ولا فى عهد عهده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكنى كنت أرجو أن يعيش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى يدبرنا- أى يكون آخرنا موتا، أو كما قال- فاختار الله عز وجل لرسوله الذى عنده على الذى عندكم، وهذا الكتاب الذى هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسوله- صلى الله عليه وسلم-.
قال أبو نصر: المقالة التى قالها ثم رجع عنها: هى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدى وأرجل، وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه
__________
(1) تقدم.
(2) سورة الزمر: 30.
(3) سورة الأنبياء: 34.(3/569)
وخشى الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر وتفوهه بقول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «1» وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» وخرج الناس يتلونها فى سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم انتهى.
وقال ابن المنير: لما مات- صلى الله عليه وسلم- طاشت العقول، فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس، يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاما، وكان على ممن أقعد فلم يستطع حراكا، وأضنى عبد الله ابن أنيس فمات كمدا. وكان أثبتهم أبو بكر الصديق- رضى الله عنه-، جاء وعيناه تهملان وزفراته تتردد وغصصه تتصاعد وتترفع، فدخل على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأكب عليه وكشف الثوب عن وجهه وقال: طبت حيّا وميتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس. اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك.
ووقع فى حديث ابن عباس وعائشة عند البخارى: أن أبا بكر قبل النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد ما مات، كما قدمنا. وكذا وقع فى رواية غيره.
وفى رواية يزيد بن بابنوس عنها، عند أحمد، أنه أتاه من قبل رأسه، فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته وقال: واخليلاه.
وعند ابن أبى شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل يقبله ويبكى ويقول: بأبى أنت وأمى، طبت حيّا وميتا.
وعن عائشة: أن أبا بكر دخل على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فوضع فاه
__________
(1) سورة آل عمران: 185.
(2) سورة الزمر: 30.(3/570)
بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه. أخرجه ابن عرفة العبدى كما ذكره الطبرى. قال: ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدم مما تضمن ثباته، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتا به صوته، ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال.
وأخرج البيهقى وأبو نعيم من طريق الواقدى عن شيوخه: أنهم شكوا فى موته- صلى الله عليه وسلم-، قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه- صلى الله عليه وسلم- فقالت: قد توفى، قد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان هذا الذى قد عرف به موته. وأخرجه ابن سعد عن الواقدى أيضا.
ولما توفى- صلى الله عليه وسلم- قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربّا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه «1» . رواه البخارى.
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: وقد قيل الصواب: إلىّ جبريل نعاه. جزم بذلك سبط ابن الجوزى فى مرآة الزمان. قال: والأول متوجه فلا معنى لتغليط الرواة بالظن. وزاد الطبرانى: يا أبتاه، من ربه ما أدناه. وقد عاشت فاطمة- رضى الله عنها- بعده- صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر فما ضحكت تلك المدة، وحق لها ذلك.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويا
وأخرج أبو نعيم عن على قال: لما قبض- صلى الله عليه وسلم- صعد ملك الموت باكيا إلى السماء، والذى بعثه بالحق نبيّا لقد سمعت صوتا من السماء ينادى:
وا محمداه. الحديث. كل المصائب تهون عند هذه المصيبة.
وفى سنن ابن ماجه: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى مرضه: «أيها الناس، إن أحد من الناس، أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بى عن المصيبة التى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4462) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.(3/571)
تصيبه بغيرى، فإن أحدا من أمتى لن يصاب بمصيبة بعدى أشد عليه من مصيبتى» «1» . وقال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله، اتق الله، فإن فى رسول الله أسوة حسنة. ويعجبنى قول القائل:
اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف فى غد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبى محمد
ويرحم الله القائل:
تذكرت لما فرق الدهر بيننا ... فعزيت نفسى بالنبى محمد
وقلت لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت فى يومه مات فى غد
كادت الجمادات تتصدع من ألم فراقه- صلى الله عليه وسلم-، فكيف بقلوب المؤمنين؟
لما فقده الجذع الذى كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حنّ إليه وصاح. كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
وروى أن بلالا لما كان يؤذن بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم-، وقبل دفنه، فإذا قال:
أشهد أن محمدا رسول الله، ارتج المسجد بالبكاء والنحيب. فلما دفن ترك بلال الأذان. ما أمرّ عيش من فارق الأحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب.
لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكان من وجده يميد
قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1599) فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصبر على المصيبة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(3/572)
وقد كانت وفاته- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين بلا خلاف، وقت دخول المدينة فى هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء.
فعند ابن سعد فى الطبقات، عن على: توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء. وعنده أيضا عن عكرمة، توفى يوم الاثنين، فحبس بقية يومه وليلته، ومن الغد حتى دفن من الليل، وعنده أيضا: عن عثمان بن محمد الأخنس: توفى يوم الاثنين حين زاغت الشمس ودفن يوم الأربعاء. وروى أيضا عن أبىّ بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده: توفى يوم الاثنين، فمكث بقية يوم الاثنين والثلاثاء حتى دفن يوم الأربعاء. وعنده أيضا: عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب: توفى يوم الاثنين حين زاغت الشمس «1» .
ورثته عمته صفية بمراثى كثيرة منها قولها:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برّا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكى النبى لفقده ... ولكن لما أخشى من الهجر آتيا
كأن على قلبى لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبى المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمى وخالتى ... وعمى وخالى ثم نفسى وماليا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكّى ويدعو جده اليوم نائيا
ورثاه أبو سفيان بن الحارث فقال:
أرقت فبت ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول
وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 272) .(3/573)
لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرائيل
وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل
نبى كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول
ويهديناا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول
ورثاه الصديق بقوله:
لما رأيت نبينا متجندلا ... ضاقت على بعرضهن الدور
فارتاع قلبى عند ذاك لهلكه ... والعظم منى ما حييت كسير
أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى ... فالصبر عنك لما لقيت يسير
يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى ... غيبت فى جدث على صخور
فلتحدثن بدائع من بعده ... يعيى بهن جوارح وصدور
ورثاه الصديق أيضا بقوله:
ودعنا الوحى إذا وليت عنا ... فودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا ... تضمنه القراطيس الكرام
ولقد أحسن حسان بقوله يرثيه- صلى الله عليه وسلم-:
كنت السواد لناظرى ... فعمى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
ورثاه حسان بقوله أيضا:
بطيبة رسم للرسول ومعهد ... مبين وقد تعفو الرسوم وتهمد(3/574)
ولا تنمحى الآيات من دار حرمه ... بها منبر الهادى الذى كان يصعد
وأوضح آيات وباقى معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البلى فالآى منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده ... وقبرا بها واراه فى الترب ملحد
أطالت وقوفا تذرف العين دمعها ... على طلل القبر الذى فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبا ... عليه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب أيد وأعين ... تباكت وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية عالوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكى السماوات موته ... ومن قد بكته الأرض والناس وأكمد
وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد
ولما تحقق عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- موته- صلى الله عليه وسلم- بقول أبى بكر، ورجع إلى قوله، قال وهو يبكى: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلما كثروا اتخذت منبرا لتسمعهم، فحن الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه فسكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك فى أولهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «1» الآية، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم فى أطباقها يعذبون، يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول. الخبر ذكره أبو العباس القصار فى شرحه لبردة الأبوصيرى،
__________
(1) سورة الأحزاب: 7.(3/575)
ونقله عنه الرشاطى فى كتابه «اقتباس الأنوار والتماس الأزهار» وذكره ابن الحاج فى المدخل وساقه بتمامه، والقاضى عياض فى «الشفاء» لكنه ذكر بعضه، ويقع فى كثير من نسخ الشفاء: روى عن عمر بن الخطاب-- رضى الله عنه- أنه قال فى كلام بكى به النبى- صلى الله عليه وسلم-، بتشديد الكاف من بكى، والصواب فيها التخفيف، لأن هذا الكلام إنما سمع من عمر- رضى الله عنه- بعد موته- صلى الله عليه وسلم- كما تقدم، ونبهت عليه فى حاشية الشفاء والله أعلم. ويؤيد هذا قوله فى الخبر نفسه: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد اتبعك فى قصر عمرك ما لم يتبع نوحا فى كثرة سنه وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل.
وأخرج ابن عساكر عن أبى ذؤيب الهذلى قال: بلغنا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- عليل، فأوجس الحى خيفه، وبث بليلة طويلة حتى إذا كان السحر نمت فهتف بى هاتف وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام
قبض النبى محمد فعيوننا ... تبدى الدموع عليه بالتسجام
فوثبت من نومى فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح فعلمت أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قبض!! أو هو ميت، فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
ومن عجيب ما اتفق ما روى عن عائشة: أنهم لما أرادوا غسل النبى- صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا ندرى، أنجرد النبى- صلى الله عليه وسلم- من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه فى صدره، ثم كلهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو، اغسلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه، فقاموا وغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص «1» . رواه البيهقى فى دلائل النبوة.
__________
(1) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (7/ 242) .(3/576)
وروى ابن ماجه بسند جيد عن على يرفعه: «إذا أنا مت فاغسلونى بسبع قرب من بئرى بئر غرس» «1» . قال فى النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملتين.
وقد روى ابن النجار: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت الليلة أنى أصبحت على بئر من الجنة» ، فأصبح على بئر غرس فتوضأ منها وبزق فيها.
وغسّل- صلى الله عليه وسلم- ثلاث غسلات، الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وغسله على، والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران مولاه- صلى الله عليه وسلم- يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر. لحديث على: «لا يغسلنى إلا أنت فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه» «2» رواه البزار والبيهقى.
وأخرج البيهقى عن الشعبى قال: غسل على النبى- صلى الله عليه وسلم- فكان يقول وهو يغسله- صلى الله عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى طبت حيّا وميتا.
أخرج أبو داود، وصححه الحاكم عن على قال: غسلته- صلى الله عليه وسلم- فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئا، وكان طيبا حيّا وميتا.
وفى رواية ابن سعد: وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط «3» .
قيل: وجعل على على يده خرقة وأدخلها تحت القميص ثم اعتصروا قميصه، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه وجمروه عودا وندّا «4» .
وذكر ابن الجوزى أنه روى عن جعفر بن محمد قال: كان الماء يستنقع
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1468) فى الجنائز، باب: ما جاء فى غسل النبى. من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 36) وقال: رواه البزار وفيه يزيد بن بلال، قال البخارى: فيه نظر وبقية رجاله وثقوا وفيهم خلاف.
(3) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات الكبرى» (2/ 281) ، وهو ليس عند أبى داود كما قال المصنف.
(4) انظر ما قبله.(3/577)
فى جفون النبى- صلى الله عليه وسلم- فكان على يحسوه. وأما ما روى أن عليّا لما غسله- صلى الله عليه وسلم- امتص ماء محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووى: ليس بصحيح.
وفى حديث عروة عن عائشة قالت: كفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب سحولية بيض «1» ، أخرجه النسائى من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن عروة. واتفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة بزيادة: من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة «2» . وليس قوله «من كرسف» عند الترمذى ولا ابن ماجه.
زاد مسلم: أما الحلة فإنما شبّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها، فتركت الحلة وكفن فى ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبى بكر فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسى، ثم قال: لو رضيها الله عز وجل لنبيه لكفنه فيها فباعها وتصدق بثمنها «3» .
وفى رواية له: أدرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حلة يمانية كانت لعبد الله ابن أبى بكر ثم نزعت عنه «4» ، وذكر الحديث بطوله.
وفى رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم كفن فى ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه «5» . قال الترمذى: حسن صحيح.
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 35) فى الجنائز، باب: كفن النبى. من حديث عائشة وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1264) فى الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (941) فى الجنائز، باب: فى كفن الميت. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) تقدم فى الذى قبله.
(5) صحيح: أخرجه الترمذى (996) فى الجنائز، باب: ما جاء فى كفن النبى. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الترمذى: حسن صحيح. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/578)
وفى رواية البيهقى: فى ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد «1» .
والسحولية: بفتح السين وضمها، قال النووى: والفتح أشهر، وهو رواية الأكثرين، وفى النهاية تبعا للهروى، فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار، لأنه يسحلها، أى يغسلها، أو إلى سحول وهى قرية باليمن، وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقى، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شذوذ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضا.
والكرسف: بضم الكاف وإسكان الراء، وضم السين المهملتين والفاء:
القطن.
وقال الترمذى: روى فى كفن النبى- صلى الله عليه وسلم- روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث فى ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
وقال البيهقى فى «الخلافيات» : قال أبو عبد الله- يعنى الحاكم-:
تواترت الأخبار عن على بن أبى طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر، وجابر وعبد الله بن مغافل، فى تكفين النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة.
وعن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن على: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفن فى سبعة أثواب «2» ، وقد روى هذا الحديث أحمد فى مسنده، وذكر ابن حزم: أن الوهم فيه من ابن عقيل أو ممن بعده.
وقد اختلف فى معنى قوله: «ليس فيها قميص ولا عمامة» . فالصحيح أن معناه: أنه ليس فى الكفن قميص ولا عمامة أصلا. والثانى: أن معناه أنه كفن فى ثلاثة أثواب خارج عن القميص والعمامة.
قال الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر فى المراد، وذكر
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 246) .
(2) أخرجه أحمد (1/ 94 و 102) من حديث على بن أبى طالب.(3/579)
النووى فى شرح مسلم أن الأول تفسير الشافعى وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذى يقتضيه ظاهر الحديث، وقال: إن الثانى ضعيف، فلم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كفن فى قميص وعمامة، انتهى.
وترتب على اختلافهم: فى أنه هل يستحب أن يكون فى الكفن قميص وعمامة أم لا؟
فقال مالك والشافعى وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص ولا عمامة، واختلفوا فى زيادة القميص والعمامة أو غيرها على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز غير مستحب، وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء، وهو فى حق النساء آكد. قال: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الأثواب الثلاثة، إزار وقميص ولفافة. وقد أجمع المسلمون على وجوبه، وهو فرض كفاية فيجب فى ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.
واختلف أصحابنا فى المتزوجة إذا كان لها مال، هل يجب تكفينها من مالها، أو هو على زوجها، فذهب إلى الأول الرافعى فى «الشرح الصغير» و «المحرر» والنووى فى «المنهاج» . وذهب إلى الثانى: الرافعى فى «الشرح الكبير» والنووى فى «الروضة» و «شرح المهذب» وقال فيه: قيد الغزالى وجوب التكفين على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه، انتهى.
ومتى كانت معسرة فتكفينها على زوجها قطعا، ثم إن الواجب ثوب واحد، وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه بخلاف الثانى والثالث فإنه حق للميت، تنفذ وصيته بإسقاطهما.
وفى هذا الحديث أيضا دلالة على أن القميص الذى غسل فيه النبى- صلى الله عليه وسلم- نزع عنه عند تكفينه. قال النووى فى شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذى لا يتجه غيره، لأنه لو بقى مع رطوبته لأفسد الأكفان. قال: وأما الحديث الذى فى سنن أبى داود عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كفن فى(3/580)
ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان وقميصه الذى توفى فيه، فحديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به، لأن يزيد بن زياد، أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات.
وفى حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه- صلى الله عليه وسلم- يوم الثلاثاء، وضع على سريره فى بيته ثم دخل الناس عليه- صلى الله عليه وسلم- أرسالا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحد «1» .
وفى رواية: إن أول من صلى عليه- صلى الله عليه وسلم- الملائكة أفواجا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجا فوجا، ثم نساؤه آخرا.
وروى أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليّا فقال لهم قولوا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» الآية، لبيك اللهم ربنا وسعديك، صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين، والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شئ يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين ورسول رب العالمين، الشاهد البشير الداعى إليك بإذنك السراج المنير، وعليه السلام، ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغى فى كتابه تحقيق النصرة.
ثم قالوا: أين تدفنونه؟ فقال أبو بكر- رضى الله عنه-: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما هلك نبى قط إلا يدفن حيث تقبض روحه» ، وقال على:
وأنا أيضا سمعته «3» .
وحفر أبو طلحة لحد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى موضع فراشه حيث قبض.
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1628) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى: ضعيف ولكن قصة الشقاق واللحد ثابتة.
(2) سورة الأحزاب: 56.
(3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 260- 261) .(3/581)
وقد اختلف فيمن أدخله قبره، وأصح ما روى: أنه نزل فى قبره عمه العباس وعلى وقثم بن العباس والفضل بن العباس، وكان آخر الناس عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قثم بن العباس «1» .
وروى أنه بنى فى قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطى بها، فرشها شقران فى القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك «2» .
قال النووى: وقد نص الشافعى وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت فى القبر.
وشذ البغوى من أصحابنا فقال فى كتابه «التهذيب» : لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهية ذلك كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهيته أن يلبسها أحد بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
وفى كتاب «تحقيق النصرة» : قال ابن عبد البر: ثم أخرجت، يعنى القطيفة من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع. حكاه ابن زبالة.
ولما دفن- صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة- رضى الله عنها- فقالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التراب؟ وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علىّ مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا
قال رزين: ورش قبره- صلى الله عليه وسلم-، رشه بلال بن رباح بقرية، بدأ من قبل
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 100) من حديث على بن أبى طالب، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 257) .
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1628) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الألبانى وتقدم.(3/582)
رأسه. حكاه ابن عساكر. وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء.
ورفع قبره من الأرض قدر شبر.
وفى حديث عائشة عند البخارى قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى مرضه الذى لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» لولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشى أو خشى أن يتخذ مسجدا «1» .
كذا فى رواية أبى عوانة عن هلال «خشى أو خشى» على الشك.
فرواية «الضم» مبهمة يمكن أن تفسر بأنها هى التى منعت من إبرازه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك. وهذا يقتضى أنهم فعلوه باجتهاد بخلاف رواية الفتح فإنها تقتضى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- هو الذى أمرهم بذلك.
وقوله: «لأبرز قبره» أى: لكشف قبره- صلى الله عليه وسلم- ولم يتخذ عليه حائل.
والمراد: الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة- رضى الله عنها- قبل أن يوسع المسجد، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلاثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلى إلى جهة القبر الكريم مع استقبال القبلة.
وفى البخارى أيضا من حديث أبى بكر بن عياش عن سفيان التمار: أنه حدثه أنه رأى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- مسنما أى مرتفعا «2» . زاد أبو نعيم فى «المستخرج» : وقبر أبى بكر وعمر كذلك.
واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبى حنيفة ومالك وأحمد والمزنى وكثير من الشافعية، وادعى القاضى حسين اتفاق الأصحاب عليه. وتعقب: بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعى. وبه جزم الماوردى وآخرون.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1330) فى الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ومسلم (529) فى المساجد، باب: النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1390) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-.(3/583)
وقول سفيان التمار لا حجة فيه، كما قال البيهقى لاحتمال أن قبره- صلى الله عليه وسلم- فى الأول لم يكن مسنما. فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبى بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفى لى عن قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فكشفت لى عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء «1» . زاد الحاكم: فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقدما وأبو بكر رأسه بين كتفى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعمر رأسه عند رجلى النبى- صلى الله عليه وسلم-. وهذا كان فى خلافة معاوية. فكأنها كانت فى الأول مسطحة، ثم لما بنى جدار القبور فى إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة.
وقد روى أبو بكر الآجرى فى كتاب «صفة قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-» من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبى هند، عن عثيم بن نسطاس المدنى قال: رأيت قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى إمارة عمر بن عبد العزيز: رأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبى بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبى بكر أسفل منه.
ثم الاختلاف فى ذلك فى أنهما أفضل، لا فى أصل الجواز، ورجح المزنى التسنيم من حيث المعنى، بأن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس، بخلاف المسنم. ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوى ثم قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها.
وعن هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عليهم الحائط، يعنى حائط حجرة النبى- صلى الله عليه وسلم- فى زمان الوليد بن عبد الملك، أخذوا فى بنائه، فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة، والله ما هى قدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، والله ما هى إلا قدم عمر «2» ، رواه البخارى أيضا.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3220) فى الجنائز، باب: فى تسوية القبر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1390) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر. من حديث عروة بن الزبير بن العوام- رضى الله عنهما-.(3/584)
والسبب فى ذلك ما رواه الآجرى من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرنى أبى قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلى إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة فقال: هذا ساق عمر وركبته فسري عن عمر بن عبد العزيز.
وروى الآجرى قال رجاء بن حيوة: قبر أبى بكر عند وسط النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعمر خلف أبى بكر، رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع، وإلا فحديث القاسم أصح.
وأما ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره فسنده ضعيف. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وقد اختلف أهل السير وغيرهم فى صفة القبور المقدسة على سبع روايات، أوردها ابن عساكر فى «تحفة الزائر» ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب قال: بقى فى البيت موضع قبر فى السهوة الشرقية يدفن فيه عيسى ابن مريم- عليهما السلام-، ويكون قبره. الرابع.
وفى «المنتظم» لابن الجوزى: عن ابن عمر، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«ينزل عيسى ابن مريم فى الأرض، فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبى بكر وعمر» . كذا ذكره فى «تحقيق النصرة» والله أعلم.
فإن قلت: تقدم أنه- صلى الله عليه وسلم- توفى يوم الاثنين، ودفن يوم الأربعاء، فلم أخر دفنه- صلى الله عليه وسلم-؟ وقد قال- صلى الله عليه وسلم- لأهل بيت أخروا دفن ميتهم: «عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروا» .
فالجواب: لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته، أو لأنهم كانوا لا يعلمون. حيث يدفن، قال قوم فى البقيع، وقال آخرون: فى المسجد، وقال قوم: يحمل إلى إبراهيم حتى يدفن عنده، حتى قال العالم الأكبر صديق(3/585)
الأمة: سمعته يقول: «ما دفن نبى إلا حيث يموت» «1» . ذكره ابن ماجه والموطأ كما تقدم. وفى رواية الترمذى: «ما قبض الله نبيّا إلا فى الموضع الذى يحب أن يدفن فيه، ادفنوه فى موضع فراشه» «2» .
ولأنهم اشتغلوا فى الخلاف الذى وقع بين المهاجرين والأنصار فى البيعة، فنظروا فيها حتى استقر الأمر فى الخلافة ونظامها، فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملأ منهم، وكشف الله به الكربة من أهل الردة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فنظروا فى دفنه فغسلوه وكفنوه ودفنوه.
ولما قبض- صلى الله عليه وسلم- تزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة، لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك. إذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه فرحا واستبشارا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح.
ولما قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه. كما رواه أبو داود من حديث أنس، وفى رواية الدارمى قال أنس: ما رأيت يوما كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» .
وفى رواية الترمذى: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شئ، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شئ، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفى دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا «4» .
ومن آياته- صلى الله عليه وسلم- ما ذكر من بعد موته، من حزن حماره عليه حتى
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) أخرجه الدارمى (88) فى المقدمة، باب: فى وفاة النبى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3618) فى المناقب، باب: فى فضل النبى. من حديث أنس ابن مالك- رضى الله عنه-، قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(3/586)
تردى فى بئر وكذا ناقته فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت. ومن ذلك:
ظهور ما أخبر أنه كائن بعد موته، مما لا نهاية له ولا عد يحصيه، مما ذكرت بعضه فى المقصد الثامن.
وفى حديث أبى موسى عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله إذا أراد بأمة خيرا قبض نبيها قبلها، فجعله فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حى، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره» «1» .
وإنما كان قبض النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل أمته خيرا، لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد الله بهم خيرا جعل خيرهم مستمرا ببقائهم محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات نسلا وعقبا بعد عقب.
الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف
اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام.
وقد أطلق بعض المالكية، وهو أبو عمران الفاسى، كما ذكره فى المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق، أنها واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة، وقال القاضى عياض: إنها سنة من سنن المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها.
وروى الدار قطنى من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (3288) فى الفضائل، باب: إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها. من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-.(3/587)
قال: «من زار قبرى وجبت له شفاعتى» «1» . ورواه عبد الحق فى أحكامه الوسطى، وفى الصغرى وسكت عنه، وسكوته عن الحديث فيهما دليل على صحته.
وفى المعجم الكبير للطبرانى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «من جاءنى زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتى، كان حقّا علىّ أن أكون شفيعا له يوم القيامة» «2» .
وصححه ابن السكن.
وروى عنه- صلى الله عليه وسلم-: «من وجد سعة ولم يفد إلىّ فقد جفانى» «3» . ذكره ابن فرحون فى مناسكه، والغزالى فى الإحياء، ولم يخرجه العراقى، بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار فى تاريخ المدينة مما هو فى معناه عن أنس بلفظ: «ما من أحد من أمتى له سعة ثم لم يزرنى إلا وليس له عذر» «4» .
ولابن عدى فى «الكامل» وابن حبان فى «الضعفاء» ، والدار قطنى فى «العلل» و «غرائب مالك» وآخرين كلهم عن ابن عمر مرفوعا: «من حج ولم يزرنى فقد جفانى» «5» . ولا يصح.
وعلى تقدير ثبوته، فليتأمل قوله «فقد جفانى» فإنه ظاهره فى حرمة ترك الزيارة لأن الجفاء أذى، والأذى حرام بالإجماع فتجب الزيارة، إذ إزالة الجفاء واجبة، حينئذ، فمن تمكن من زيارته ولم يزره فقد جفاه، وليس من حقه علينا ذلك.
وعن حاطب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من زارنى بعد موتى فكأنما
__________
(1) موضوع: أخرجه ابن عدى فى الكامل، والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى «ضعيف الجامع» (5607) .
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 2) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير، وفيه سلمة بن سالم، وهو ضعيف.
(3) ضعيف: ذكره الغزالى فى «الإحياء» وقال الحافظ العراقى: أخرجه ابن عدى والدار قطنى فى غرائب مالك. وابن حبان فى «الضعفاء» والخطيب فى «الرواة» عن مالك وذكره ابن الجوزى فى الموضوعات.
(4) ضعيف: أخرجه ابن النجار فى «تاريخ المدينة» ، قاله العراقى فى الموضع السابق.
(5) ضعيف أو موضوع: انظر ما قبلهما.(3/588)