وقد كان هذا من خصائصه- صلوات الله وسلامه عليه- أن يكلم كل ذى لغة بليغة بلغته على اختلاف لغة العرب وتركيب ألفاظها وأساليب كلمها، وكان أحدهم لا يتجاوز لغته، وإن سمع لغة غيره فكالعجمية يسمعها العربى، وما ذلك منه- صلى الله عليه وسلم- إلا بقوة إلهية وموهبة ربانية، لأنه بعث إلى الكافة طرا، وإلى الخليقة سودا وحمرا، والكلام باللسان يقع فى غاية البيان، ولا يوجد غالبا متكلم بغير لغته إلا قاصرا فى الترجمة نازلا عن صاحب الأصالة فى تلك اللغة، إلا نبينا وسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- كما تقدم، فإنه زاده الله تكريما وشرفا تكلم فى كل لغة من لغة العرب أفصح وأنصع بلغاتها منها بلغة نفسها، وجدير به ذلك فقد أوتى فى سائر القوى البشرية المحمودة زيادة ومزية على الناس، مع اختلاف الأصناف والأجناس ما لا يضبطه قياس ولا يدخل فى تحقيقه إلباس. انتهى.
وأما صوته الشريف، فعن أنس قال: ما بعث الله نبيّا قط إلا بعثه حسن الوجه حسن الصوت، حتى بعث الله نبيكم- صلى الله عليه وسلم- فبعثه حسن الوجه حسن الصوت، رواه ابن عساكر، وروى نحوه من حديث على بن أبى طالب، وروى أنه كان إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه «1» . وقد كان صوته- صلى الله عليه وسلم- يبلغ حيث لا يبلغه صوت غيره. فعن البراء قال: «خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أسمع العواتق فى خدورهن» «2» رواه البيهقى.
وقالت عائشة- رضى الله عنها- جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة على المنبر فقال للناس: «اجلسوا» ، فسمعه عبد الله بن رواحة وهو فى بنى غنم فجلس فى مكانه «3» رواه أبو نعيم.
وقال عبد الرحمن بن معاذ التيمى: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمنى، ففتحت أسماعنا- وفى لفظ ففتح الله أسماعنا- حتى إن كنا لنسمع ما يقول ونحن فى منازلنا. رواه ابن سعد «4» .
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 256) .
(3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 256) .
(4) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 175) .(2/61)
وعن أم هانئ قالت كنا نسمع قراءة النبى- صلى الله عليه وسلم- فى جوف الليل عند الكعبة، وأنا على عريشى «1» ، رواه ابن ماجه.
وأما ضحكه- صلى الله عليه وسلم-، ففى البخارى عن عائشة: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى لهواته، إنما كان يتبسّم «2» ، أى: ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك. واللهوات: بفتح اللام، جمع لهاة، وهى اللحمة التى بأعلى الحنجرة من أقصى الفم. وهذا لا ينافيه ما فى حديث أبى هريرة فى قصة المواقع أهله فى رمضان، فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه «3» .
رواه البخارى: وهى بالجيم والذال المعجمة: الأضراس. ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة فى الضحك. لأن عائشة إنما نفت رؤيتها، وأبو هريرة أخبر بما شاهده، والمثبت مقدم على النافى.
وقد قال أهل اللغة: التبسم: مبادىء الضحك، والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فالضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم. وقال ابن أبى هالة: جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام، أى يبدى أسنانه ضاحكا، وحب الغمام: البرد. وقال الحافظ ابن حجر: والذى يظهر من مجموع الأحاديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان فى معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك. قال: والمكروه إنما هو الإكثار منه والإفراط فيه لأنه يذهب الوقار. وقال ابن بطال: والذى ينبغى أن يقتدى به من أفعاله ما واظب عليه من ذلك.
وقد روى البخارى فى الأدب المفرد وابن ماجه عن أبى هريرة رفعه:
__________
(1) حسن: أخرجه النسائى (2/ 178) فى الافتتاح، باب: رفع الصوت بالقرآن، وابن ماجه (1349) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى صلاة الليل، وأحمد فى «المسند» (6/ 341 و 424) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6092) فى الأدب، باب: التبسم والضحك.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6087) فى الأدب، باب: التبسم والضحك.(2/62)
«لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» «1» . وقال أبو هريرة: وإذا ضحك- صلى الله عليه وسلم- يتلألأ فى الجدر «2» رواه البزار والبيهقى، أى يضىء فى الجدر- بضم الجيم والدال، جمع جدار وهو الحائط- أى يشرق نوره عليها إشراقا كإشراق الشمس عليها.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسّم ضاحكا حتى يرتفع عنه، بل كان إذا خطب أو ذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته كأنه منذر جيش، صبحكم ومساكم «3»
. رواه مسلم.
وكان بكاؤه- صلى الله عليه وسلم- من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة ولكن تدمع عيناه حتى تهملان، ويسمع لصدره أزيز، يبكى رحمة لميت خوفا على أمته وشفقة، ومن خشية الله، وعند سماع القرآن، وأحيانا فى صلاة الليل، قاله فى الهدى النبوى. وقد حفظه الله تعالى من التثاؤب، ففى تاريخ البخارى ومصنف ابن أبى شيبة عن يزيد بن الأصم: «ما تثاءب النبى قط» «4» لكن فى رواية عند ابن أبى شيبة: «ما تثاءب نبى قط» .
وأما يده الشريفة- صلى الله عليه وسلم-، فقد وصفه غير واحد بأنه كان شثن الكفين كما سيأتى، أى غليظ أصابعهما، وبأنه عبل الذراعين رحب الكفين. وقد
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى فى «الأدب المفرد» (252 و 253) ، والترمذى (2305) فى الزهد، باب: من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، وابن ماجه (4193) فى الزهد، باب: الحزن والبكاء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (7435) .
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 227) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (867) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(4) ذكره الحافظ فى «الفتح» (10/ 613) وقال: أخرجه ابن أبى شيبة والبخارى فى التاريخ من مرسل يزيد بن الأصم، والرواية الثانية أخرجها الخطابى من طريق مسلمة بن عبد الملك، ومسلمة أدرك بعض الصحابة، وهو صدوق، ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان. اه.(2/63)
مسح- صلى الله عليه وسلم- خد جابر بن سمرة قال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجها من جونة عطار «1» ، رواه مسلم.
وفى حديث وائل بن حجر عند الطبرانى والبيهقى: لقد كنت أصافح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو يمس جلدى جلده، فأتعرفه بعد فى يدى، وإنه لأطيب رائحة من المسك. وقال يزيد بن الأسود: ناولنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده فإذا هى أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك «2» ، رواه البيهقى. وعن المستورد ابن شداد عن أبيه قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخذت بيده فإذا هى ألين من الحرير وأبرد من الثلج «3» ، رواه الطبرانى. ودخل- صلى الله عليه وسلم- على سعد بن أبى وقاص بمكة يعوده وقد اشتكى، قال: فوضع يده على جبهتى فمسح وجهى وصدرى وبطنى، فما زلت يخيل إلى أنى أجد برد يده على كبدى حتى الساعة «4» .
وفى البخارى من حديث أنس: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «5» . وهو من باب عطف الخاص على العام، لأن الديباج نوع من الحرير. قيل: وهذا الوصف فى هذا الحديث يخالف ما وقع فى حديث ابن أبى هالة عند الترمذى فى صفته- صلى الله عليه وسلم-، فأن فيه- كما تقدم- كان شثن الكفين والقدمين، أى غليظهما فى خشونة، وهكذا وصفه علىّ من عدة طرق عند الترمذى والحاكم وغيرهما، وكذا وصف عائشة له عند ابن أبى خيثمة. والجمع بينهما: أن المراد اللين فى الجلد. والغلظ فى العظام، فيجتمع له نعومة البدن وقوته. وقال ابن بطال: كانت كفه- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2329) فى الفضائل، باب: طيب رائحة النبى- صلى الله عليه وسلم- ولين مسكه.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 256) .
(3) إسناده قوى: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 282) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط ورجال الكبير رجال الصحيح غير موسى بن أيوب النصيبى، وهو ثقة.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (5659) فى المرضى، باب: وضع اليد على المريض.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (3561) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-.(2/64)
ممتلئة لحما، غير أنها مع ضخامتها كانت لينة، كما فى حديث أنس، قال:
وأما قول الأصمعى: الشثن: غلظ الكف فى خشونة، فلم يوافق على تفسيره بالخشونة، والذى فسر به الخليل أولى، قال: وعلى تسليم ما فسر به الأصمعى الشثن: يحتمل أن يكون أنس وصف حالتى كف النبى- صلى الله عليه وسلم- فكان إذا عمل بكفه فى الجهاد، أو فى مهنة أهله، صار كفه خشنا للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجع كفه إلى أصل جبلته من النعومة.
وقال القاضى عياض: فسر أبو عبيدة الشثن بالغلظ مع القصر.
وتعقب: بأنه ثبت فى وصفه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان سائل الأطراف. انتهى. ويؤيد كونها كانت لينة قوله فى رواية النعمان: كان سبط الكفين. بتقديم المهملة على الموحدة، فإنه موافق لوصفها باللين. والتحقيق فى الشثن أنه الغلظ من غير قصر ولا خشونة. وقد نقل ابن خالويه: أن الأصمعى لما فسر الشثن بما مضى، قيل له إنه ورد فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه لين الكفين، فالى على نفسه أن لا يفسر شيئا فى الحديث. انتهى. وفى حديث معاذ عند الطبرانى والبزار: أردفنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه فى سفر، فما مسست شيئا قط ألين من جلده- صلى الله عليه وسلم-.
وأصيب عائذ بن عمرو فى وجهه يوم حنين، فسال الدم على وجهه وصدره، فسلت النبى- صلى الله عليه وسلم- الدم بيده عن وجهه وصدره، ثم دعا له، فكان أثر يده- صلى الله عليه وسلم- إلى منتهى ما مسح من صدره غرة سائلة كغرة الفرس «1» رواه الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر. وأخرج البخارى فى تاريخ والبغوى وابن منده فى الصحابة من طريق صاعد بن العلاء بن بشر عن أبيه عن جده بشر بن معاوية: أنه قدم مع أبيه معاوية بن ثور على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمسح رأسه ودعا له بالبركة فكانت فى وجهه مسحة النبى- صلى الله عليه وسلم- كالغرة وكان لا يمسح شيئا إلا برئ.
ومسح- صلى الله عليه وسلم- رأس مدلوك أبى سفيان فكان ما مرت يده عليه أسود،
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 677) ، والطبرانى فى «الكبير» (18/ 20) .(2/65)
وشاب ما سوى ذلك. رواه البخارى فى تاريخه والبيهقى. وكذا وقع له- صلى الله عليه وسلم- فى رأس السائب «1» . رواه البغوى والبيهقى وابن منده. وأخرج البيهقى وصححه، والترمذى وحسنه، عن أبى زيد الأنصارى قال: مسح- صلى الله عليه وسلم- بيده على رأسى ولحيتى ثم قال: «اللهم جمله» ، قال: فبلغ بضعا ومائة سنة وما فى لحيته بياض. ولقد كان منبسط الوجه ولم ينقبض وجهه حتى مات «2» . ومسح- صلى الله عليه وسلم- رأس حنظلة بن حذيم بيده وقال له: «بورك فيك» فكان يؤتى بالشاة الوارم ضرعها والبعير والإنسان به الورم، فيتفل فى يده ويمسح بصلعته ويقول بسم الله على أثر يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيمسحه ثم يمسح موضع الورم فيذهب الورم «3» . رواه أحمد والبخارى فى التاريخ وأبو يعلى وغيرهم.
وقد جاء فى عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة بياض إبطيه. فعن أنس قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه فى الدعاء حتى رأيت بياض إبطيه «4» . وقال الطبرى: ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم- أن الإبط من جميع الناس متغير اللون غيره، أى إلا هو- صلى الله عليه وسلم-، ومثله للقرطبى وزاد: أنه لا شعر عليه، لكن نازع فيه صاحب شرح تقريب الأسانيد، وقال: إنه لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، قال: والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر. وقد قال عبد الله بن أقرم الخزاعى- وقد صلى معه- صلى الله عليه وسلم- كنت أنظر إلى عفرة إبطيه «5» . حسنه
__________
(1) ذكر القصة الحافظ ابن حجر فى «الإصابة» (6/ 62) .
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3629) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (5/ 77 و 340 و 341) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) رجاله ثقات: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 67) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 214) بسند رجاله ثقات.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1031) فى الاستسقاء، باب: رفع الإمام يده فى الاستسقاء، ومسلم (895) فى صلاة الاستسقاء، باب: رفع اليدين بالدعاء فى الاستسقاء.
(5) قلت: ثبت ذلك فى حديث صحيح عند البخارى (2597) فى «الهبة» ، باب: من لم يقبل الهدية لعلة، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-.(2/66)
الترمذى. والعفرة: بياض ليس بالناصع كما قاله الهروى وغيره، وسيأتى مزيد لذلك فى الخصائص- إن شاء الله تعالى-.
وعن رجل من بنى حريش قال: ضمنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسال علىّ من عرق إبطيه مثل ريح المسك. رواه البزار. ووصفه علىّ فقال: ذو مسربة «1» ، وفسر بخيط من الشعر بين الصدر والسرة. وقال ابن أبى هالة:
دقيق المسربة. وعند ابن سعد عن على: طويل المسربة. وعند البيهقى: له شعرات من لبته إلى سرته تجرى كالقضيب. ليس على صدره ولا على بطنه غيره.
ووصفت بطنه أم هانئ فقالت: ما رأيت بطن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ذكرت القراطيس المثنى بعضها على بعضها «2» . رواه الطيالسى والطبرانى.
وقال أبو هريرة: كان- صلى الله عليه وسلم- أبيض كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر «3» ، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين.
وتقدم أن المشاش: رؤوس العظام كالركبتين، ومفاض: أى واسع البطن، وقيل: مستوى البطن مع الصدر. وخرج الإمام أحمد عن محرش الكعبى قال: اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- من الجعرانه ليلا، فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة «4» .
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3637) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 280) وقال: رواه الطبرانى، وفيه جابر الجعفى، وهو ضعيف.
(3) حسن: أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (11) ، والبيهقى فى «الدلائل» (1/ 188) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4619) .
(4) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 200) فى الحج، باب: دخول مكة ليلا، وأحمد فى «المسند» (3/ 426) و (4/ 69) و (5/ 380) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(2/67)
وكان- صلى الله عليه وسلم- بعيد ما بين المنكبين «1» رواه البخارى. أى عريض الصدر، ووقع عند ابن سعد من حديث أبى هريرة: رحب الصدر.
وأما قلبه الشريف- صلى الله عليه وسلم-، فاعلم أن القلب مضغة فى الفؤاد معلقة بالنياط، فهو أخص من الفؤاد. قاله الواحدى، وسمى به لتقلبه بالخواطر والعزوم، قال الشاعر:
وما سمى الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب
وقال الزمخشرى: مشتق من التقلب الذى هو المصدر لفرط تقلبه، ألا ترى إلى ما روى أبو موسى الأشعرى عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: ومثل هذا القلب كمثل ريشة ملقاة بفلاة يقلبها الريح بطنا لظهر. قال: والفرق بينه وبين الفؤاد، أن الفؤاد وسط القلب، سمى به لتفؤده، أى توقده. وفسر الجوهرى القلب بالفؤاد ثم فسر الفؤاد بالقلب. قال الزركشى: والأحسن قول غيره:
الفؤاد غشاء القلب، والقلب حبته وسويداؤه، ويؤيد الفرق قوله- صلى الله عليه وسلم-:
«ألين قلوبا وأرق أفئدة» ، وهو أولى من قول بعضهم: إنه كرر لاختلاف اللفظ.
وقال الراغب: يعبر بالقلب عن المعانى التى تختص به كالعلم والشجاعة. وقيل: حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم، كقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «2» ، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى من الشهوة والغضب ونحوهما. انتهى.
قال بعض العلماء: وقد خلق الله تعالى الإنسان، وجعل له قلبا يعقل عنه، وهو أصل وجوده، إذا صلح قلبه صلح سائره، وإذا فسد قلبه فسد سائره، وجعل سبحانه القلوب محل السر والإخلاص، الذى هو سر الله
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3551) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2337) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-.
(2) سورة ق: 37.(2/68)
يودعه قلب من شاء من عباده، فأول قلب أودعه قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- لأنه أول خلق وصورته- صلى الله عليه وسلم- آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء، فهو أولهم وآخرهم.
وقد جعل سبحانه وتعالى أخلاق القلوب للنفوس أعلاما على أسرار القلوب، فمن تحقق قلبه بسر الله اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله، ولذلك جعل الله تعالى لمحمد- صلى الله عليه وسلم- جثمانية اختص بها من بين سائر العالمين، فتكون علامات اختصاص جثمانيته آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة وعظيم خلقه، وتكون علامات عظيم أخلاقه آيات على سر قلبه المقدس. ولما كان قلبه- صلى الله عليه وسلم- أوسع قلب اطلع الله عليه- كما ورد فى الخبر- كان هو الأولى أن يكون هو قلب العبد الذى يقول فيه الله تعالى: ما وسعنى أرضى ولا سمائى ووسعنى قلب عبدى المؤمن «1» .
ولما كان كماله قبل الإسراء بمنزلة سائر النبيين كان صدره يضيق، فاتسع قلبه لما انشرح صدره، ووضع عنه وزره ورفع له ذكره. وقد صح أن جبريل- عليه الصلاة والسلام- شقه واستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه فأعاده فى مكانه.
قال أنس فلقد كنت أرى أثر المخيط فى صدره «2» . رواه مسلم.
وإنما خلقت هذه العلقة فى ذاته الكريمة ثم استخرجت منه لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقها تكملة للخلق الإنسانى فلا بد منها، ونزعها أمر ربانى طرأ بعد ذلك، قاله السبكى.
وعند أحمد وصححه الحاكم: ثم استخرجا قلبى فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين فقال أحدهما لصاحبه ائتنى بماء وثلج فغسلا به جوفى ثم
__________
(1) موضوع: ذكره الغزالى فى «الإحياء» وقال الحافظ العراقى. لم أر له أصلا.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (161) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/69)
قال: ائتنى بماء برد فغسلا به قلبى ثم قال: ائتنى بالسكينة فذراها فى قلبى ثم قال أحدهما لصاحبه حصه فحاصه وختم عليه بخاتم النبوة «1» .
وفى رواية البيهقى أن ملكين جاآنى فى صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد فشرح أحدهما صدرى، ومج الآخر بمنقاره فيه.
وعن أبى هريرة قال: يا رسول الله، ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة. قال: «إنى لفى صحراء أمشى ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسى يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأخذانى فألصقانى لحلاوة القفا ثم شقا بطنى، وكان أحدهما يختلف بالماء فى طست من ذهب والآخر يغسل جوفى، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فإذا صدرى- فيما أرى- مفلوق لا أجد له وجعا، ثم قال: اشقق قلبه فشق قلبى، فقال أخرج الغل والحسد منه، فأخرج شبه العلقة فنبذ به ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة قلبه، فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذر عليه، ثم نقر إبهامى، ثم قال: اغد فرجعت بما لم أغد به من رحمتى للصغير ورأفتى على الكبير» «2» . رواه عبد الله بن الإمام أحمد فى زوائد المسند وأبو نعيم وقال:
تفرد به معاذ عن أبيه، وتفرد بذكر السن.
وعند أبى نعيم فى حديث يونس بن ميسرة: فاستخرج حشوة جوفى فغسلها ثم ذر عليه ذرورا ثم قال: قلب وكيع يعى ما وقع فيه، عينان تبصران وأذنان تسمعان وأنت محمد رسول الله المقفى الحاشر قلبك سليم ولسانك صادق ونفسك مطمئنة وخلقك قيم وأنت قثم. وهذا الشق روى أنه وقع له- صلى الله عليه وسلم- مرات فى حال طفوليته إرهاصا. وتقديم المعجزة على زمان البعثة جائز للإرهاص، ومثل هذا فى حق الرسول- صلى الله عليه وسلم- كثير. وبه يجاب عن استشكال وقوع ذلك فى حال طفولتيه لأنه من المعجزات، ولا يجوز أن تتقدم على النبوة، قاله الرازى.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 184) ، والدارمى فى «سننه» (13) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 673) ، من حديث عتبة بن عبد- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه عبد الله بن أحمد فى «زوائد المسند» (5/ 139) .(2/70)
والذى عليه أكثر أهل الأصول: اشتراط اقتران المعجزة بالدعوى كما نبهت عليه فى أوائل الكتاب، ويأتى تحقيقه- إن شاء الله تعالى- فى المقصد الرابع. وهو المراد بقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» وقد قيل المراد بالشرح فى الآية ما يرجع إلى المعرفة والطاعة. ثم ذكروا فى ذلك وجوها منها أنه لما بعث إلى الأحمر والأسود من جنى وإنسى أخرج تعالى عن قلبه جميع الهموم، وانفسح صدره حتى اتسع لجميع المهمات، فلا يقلق ولا يضجر بل هو حالتى البؤس والفرج منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف. فإن قلت: لم قال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ولم يقل: قلبك. أجيب: بأن محل الوسوسة الصدر، كما قال تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ «2» فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعى الخير هى الشرح، لا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب.
وقد قال محمد بن على الترمذى: القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذى يقصد الشيطان، يجىء إلى الصدر الذى هو حصن القلب فإذا دخل مسلكا أغار فيه وأنزل جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة، وإذا طرد العدو فى الابتداء حصل الأمن وزال الضيق وانشرح الصدر وتيسر له القيام بأداء العبودية.
وهاهنا دقيقة: «قال الله تعالى حكاية عن موسى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي «3» وقال لنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «4» أعطى بلا سؤال، ثم إنه تعالى نعته- عليه السّلام- فقال وَسِراجاً مُنِيراً «5» فانظر إلى
__________
(1) سورة الشرح: 1.
(2) سورة الناس: 5.
(3) سورة طه: 25.
(4) سورة الشرح: 1.
(5) سورة الأحزاب: 46.(2/71)
التفاوت، فإن شرح الصدر هو أن يصير قابلا للنور، والسراج المنير هو الذى يقتبس منه النور، والفرق واضح. قال الدقاق: كان موسى- عليه السّلام- مريدا إذ قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي «1» ونبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- مراد إذ قال الله له:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ والله أعلم» .
وأما جماعه- صلى الله عليه وسلم- فقد كان يدور على نسائه فى الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة، قال الراوى قلت لأنس: أو كان يطيقه؟
قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين «2» . رواه البخارى. وعند الإسماعيلى عن معاذ: قوة أربعين زاد أبو نعيم عن مجاهد: كل رجل من رجال أهل الجنة. وعن أنس مرفوعا: «يعطى المؤمن فى الجنة قوة كذا وكذا فى الجماع» قلت: يا رسول الله، أو يطيق ذلك؟ قال: «يعطى قوة مائة» «3» .
قال الترمذى: صحيح غريب لا نعرفه عن حديث قتادة إلا من حديث عمران القطان. فإذا ضربنا أربعين فى مائة بلغت أربعة آلاف، فبهذا يندفع ما استشكل من كونه- صلى الله عليه وسلم- أوتى قوة أربعين فقط وسليمان- عليه الصلاة والسلام- قوة مائة رجل أو ألف على ما ورد.
وذكر ابن العربى: أنه كان له- صلى الله عليه وسلم- القوة الظاهرة على الخلق فى الوطء، وكان له فى الأكل القناعة، ليجمع الله له الفضيلتين فى الأمور الاعتيادية كما جمع له الفضيلتين فى الأمور الشرعية، حتى يكون حاله كاملا فى الدارين. انتهى. وطاف- صلى الله عليه وسلم- على نسائه التسع فى ليلة. رواه ابن سعد.
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أتانى جبريل بقدر فأكلت منها فأعطيت قوة
__________
(1) سورة طه: 25.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (268) فى الغسل، باب: إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه فى غسل واحد.
(3) حسن: أخرجه الترمذى (2536) فى صفة الجنة، باب: ما جاء فى صفة جماع أهل الجنة، وابن حبان فى «صحيحه» (7400) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث حسن.(2/72)
أربعين رجلا فى الجماع» «1» رواه ابن سعد: حدثنا عبد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن صفوان بن سليم مرسلا من حديث أبى هريرة: شكا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل قلة الجماع فتبسم جبريل حتى تلألأ مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بريق ثنايا جبريل فقال له: أين أنت من أكل الهريسة فإن فيه قوة أربعين رجلا. ومن حديث حذيفة بلفظ «أطعمنى جبريل الهريسة أشد بها ظهرى وأتقوى بها على الصلاة» «2» رواه الدار قطنى. ومن حديث جابر بن سمرة وابن عباس وغيرهم.
وكلها أحاديث واهية. بل صرح الحافظ ابن ناصر الدين فى جزء له سماه رفع الدسيسة بوضع حديث الهريسة أنه موضوع. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- أعطى قوة بضع وأربعين رجلا كل رجل من أهل الجنة، رواه الحارث بن أبى أسامة. وقد حفظه الله من الاحتلام، فعن ابن عباس قال: ما احتلم نبى قط، وإنما الاحتلام من الشيطان «3» ، رواه الطبرانى.
وأما قدمه الشريف- صلى الله عليه وسلم- فقد وصفه غير واحد بأنه كان شثن القدمين «4» ، أى غليظ أصابعهما. رواه الترمذى وغيره. وعن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما نسيت طول أصبع قدميه السبابة على سائر أصابعه «5» ، رواه أحمد والطبرانى. وعن جابر بن سمرة: كانت خنصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من رجله متظاهرة، رواه البيهقى. وقد اشتهر على الألسنة أن سبابة النبى- صلى الله عليه وسلم- كانت أطول من الوسطى «6» . قال الحافظ ابن حجر: وهو غلط ممن قاله، وإنما ذلك فى أصابع رجليه. انتهى.
__________
(1) مرسل: أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 373) ، عن صفوان بن سليم مرسلا.
(2) موضوع: ذكره الحافظ ابن حجر فى «اللسان» (5/ 116) فى ترجمة محمد بن الحجاج اللخمى، وحكم عليه بالوضع به.
(3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 267) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عبد الكريم بن أبى ثابت، وهو مجمع على ضعفه.
(4) تقدم من حديث على قريبا.
(5) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (7/ 145) ، والحديث عند أحمد والطبرانى، إلا أنه ليست فيها هذه اللفظة.
(6) انظر فى ذلك «كشف الخفاء» (1457) .(2/73)
وقال شيخنا- فى المقاصد الحسنة-: وسلف جمهورهم الكمال الدميرى. هو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة. وعبارته: «كذا رواه ابن هارون عن عبد الله بن مقسم عن سارة ابنة مقسم أنها سمعت ميمونة ابنة كردم تخير أنها رأت أصابع النبى- صلى الله عليه وسلم- كذلك» . فضم ما وقع فيها من إطلاق الأصابع إلى كون الوسطى من كل أطول من السبابة، وعين اليد منه- صلى الله عليه وسلم- لذلك بناء على أن القصد ذكر وصف اختص به- صلى الله عليه وسلم- عن غيره.
ولكن الحديث فى مسند الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون المذكور مقيد بالرجل، ولفظه- كما قدمته- فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
وهو عند البيهقى أيضا فى الدلائل «1» من طريق يزيد بن هارون ولفظها: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة وهو على ناقته وأنا مع أبى، فدنا منه أبى فأخذ بقدمه فأقر له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
وعن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا وطئ بقدمه بكلها ليس له أخمص «2» . رواه البيهقى: وعن أبى أمامة الباهلى قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- لا أخمص له يطأ على قدمه كلها رواه ابن عساكر. وقال ابن أبى هالة: خمصان الأخمصين، مسيح القدمين.
وقال ابن الأثير: الأخمص من القدم الموضع الذى لا يلصق بالأرض منها عند الوطء. والخمصان: البالغ منه، أى إن ذلك الموضع من أسفل قدمه شديد التجافى عن الأرض. وسئل ابن الأعرابى عنه فقال: إذا كان خمص الأخمص بقدر لا يرتفع جدّا، لم يستو أسفل القدم جدّا فهو أحسن ما يكون، وإذا استوى أو ارتفع جدّا فهو ذم، فيكون بمعنى أن أخمصه معتدل الخمص بخلاف الأول. ووقع فى حديث أبى هريرة إذا وطئ بقدمه وطئ
__________
(1) (1/ 246) .
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 245) .(2/74)
بكلها ليس له أخمص. وقوله: مسيح القدمين أى ملساوتان لينتان ليس فيهما تكسر ولا شقاق، فإذا أصابهما الماء نبا عنهما كما قال ابن أبى هالة: ينبو عنهما الماء، وهو معنى حديث أبى هريرة. وعن عبد الله بن بريدة قال: كان- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس قدما. رواه ابن سعد.
وأما طوله- صلى الله عليه وسلم- فقال على: كان- صلى الله عليه وسلم- لا قصير ولا طويل، وهو إلى الطول أقرب «1» . رواه البيهقى. وعنه: كان- صلى الله عليه وسلم- ليس بالذاهب طولا، وفوق الربعة إذا جامع القوم غمرهم. رواه عبد الله بن الإمام أحمد.
وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ربعة وهو إلى الطول أقرب «2» . رواه البزار.
وقوله: ربعة، أى مربوعا، والتأنيث باعتبار النفس. وقد فسر فى الحديث الآتى بأنه ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، والمراد بالطويل البائن:
المفرط فى الطول مع اضطراب القامة.
وقال ابن أبى هالة: أطول من المربوع وأقصر من المشذب- وهو بمعجمتين مفتوحتين ثانيهما مشدد، أى البائن الطول فى نحافة، وهو مثل قوله فى الحديث الآخر لم يكن بالطويل الممغط- وهو بتشديد الميم الثانية- المتناهى الطول. وأمغط النهار إذا امتد، ومغطت الحبل إذا مددته، وأصله منمغط والنون للمطاوعة فقلبت ميما وأدغمت فى الميم، ويقال بالعين المهملة بمعناه.
وعن عائشة قالت: لم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله- صلى الله عليه وسلم- ولربما اكتنفه الرجلان
__________
(1) تقدم حديث على.
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 280) وقال: رواه البزار، ورجاله وثقوا. اه. قلت: هو فى صحيح البخارى (3547) ، من حديث أنس بلفظ: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل لا بالقصير.(2/75)
الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الربعة، رواه ابن عساكر والبيهقى. وزاد ابن سبع فى الخصائص: أنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين. ووصفه ابن أبى هالة بأنه بادن متماسك، أى معتدل الخلق، كأن أعضاءه يمسك بعضها بعضا.
وأما شعره الشريف- صلى الله عليه وسلم-، فعن قتادة قال: سألت أنسا عن شعر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: شعر بين شعرين، لا رجل ولا سبط ولا جعد قطط كان بين أذنيه وعاتقه. وفى رواية للشيخين قال: كان رجلا ليس بالسبط ولا الجعد بين أذنه وعاتقه «1» . وفى أخرى: إلى أنصاف أذنيه «2» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. وعن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبى- صلى الله عليه وسلم- عن إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة «3» .
رواه الترمذى وأبو داود. والوفرة: الشعر الواصل إلى شحمة الأذن. وقال ابن أبى هالة أيضا: كان رجل الشعر- وهو بفتح الراء وكسر الجيم، أى يتكسر قليلا، بخلاف السبط والجعد- إن انفرقت عقيقته فرق وإلا فلا، يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره. والعقيقة بالقافين، شعر رأسه الشريف، يعنى إن انفرقت بنفسها فرقها وإلا تركها معقوصة، ويروى: إن انفرقت عقيصته- بالصاد المهملة- وهى الشعر المعقوص.
وعن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان يحب
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5905) فى اللباس، باب: الجعد، ومسلم (2338) فى الفضائل، باب: صفة شعر النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2338) (96) فيما سبق.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (4187) فى الترجل، باب: ما جاء فى الشعر، والترمذى (1775) فى اللباس، باب: ما جاء فى الجمة واتخاذ الشعر، وابن ماجه (3635) فى اللباس، باب: اتخاذ الجمة والذوائب، وأحمد فى «المسند» (6/ 108 و 118) من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/76)
موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشىء، ثم فرق- صلى الله عليه وسلم- رأسه «1» . رواه الترمذى فى الشمائل. وفى صحيح مسلم نحوه.
وسدل الشعر إرساله، والمراد هنا إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة.
وأما الفرق: فهو فرق الشعر بعضه من بعض، قال العلماء: والفرق سنة، لأنه الذى رجع إليه- صلى الله عليه وسلم-، والصحيح جواز الفرق والسدل، لكن الفرق أفضل. وعن عائشة: كان له- صلى الله عليه وسلم- شعر فوق الجمة ودون الوفرة «2» . رواه الترمذى. وفى حديث أنس كان إلى أذنيه «3» ، وفى حديث البراء: يضرب منكبيه «4» . وفى حديث أبى رمثة: يبلغ إلى كتفيه أو منكبيه «5» . وفى رواية:
ما رأيت من ذى لمة أحسن منه. والجمة: هى الشعر الذى نزل إلى المنكبين.
والوفرة: ما نزل إلى شحمة الأذنين، واللمة: التى لمت بين المنكبين. قال القاضى عياض: والجمع بين هذه الروايات: أن مايلى الأذن هو الذى يبلغ شحمة أذنيه، وما خلفه هو الذى يضرب منكبيه. قال: وقيل: بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك.
وعن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علينا مكة قدمة وله أربع غدائر «6» . رواه الترمذى فى الشمائل. والغدائر: - بالغين
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3558) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2336) فى الفضائل، باب: فى سدل النبى- صلى الله عليه وسلم- شعر رأسه إلى جانبيه.
(2) صحيح: وقد تقدم قبل حديث.
(3) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(4) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(5) صحيح: وحديث أبى رمثة أخرجه البخارى (3551) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2337) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان أحسن الناس وجها.
(6) صحيح: أخرجه أبو داود (4191) فى الترجل، باب: فى الرجل يعقص شعره، والترمذى (1781) فى اللباس، باب: رقم (38) ، وابن ماجه (3631) فى اللباس، باب: اتخاذ الجمة والذوائب، وأحمد فى «المسند» (6/ 341 و 425) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى صحيح «سنن أبى داود» .(2/77)
المعجمة والدال المهملة- هى الذوائب، واحدتها غديرة. وفى مسلم عن أنس، كان فى لحيته- صلى الله عليه وسلم- شعرات بيض «1» . وفى رواية عنده: لم ير من الشيب إلا قليلا، وفى أخرى له أيضا: لو شئت أن أعد شمطات كن فى رأسه ولم يخضب. وعنده أيضا: لم يخضب- صلى الله عليه وسلم- إنما كان البياض فى عنفقته وفى الصدغين وفى الرأس نبذ- بضم النون وفتح الباء الموحدة، وبفتح النون وإسكان الموحدة- أى شعرات متفرقة. وفى رواية أخرى: ما شانه الله ببيضاء.
قال الشيخ عبد الجليل فى شعب الإيمان، فيما حكاه عنه الفاكهانى: إنما كان كذلك لأن النساء يكرهن الشيب غالبا، ومن كره من النبى- صلى الله عليه وسلم- شيئا كفر. وقال فى النهاية: قد تكرر فى الحديث جعل الشيب هاهنا عيبا وليس بعيب، فإنه قد جاء فى الحديث: أنه وقار وأنه نور، والشيب ممدوح، وذلك عجيب منه لا سيما فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم-. ويمكن الجمع بينهما: ووجه الجمع أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رأى أبا قحافة ورأسه كالثغامة «2» أمرهم بتغييره وكرهه، ولذلك قال: «غيروا الشيب» «3» ، فلما علم أنس ذلك من عادته قال: ما شانه الله ببيضاء بناء على هذا القول وحملا له على هذا الرأى. ولم يسمع الحديث الآخر، ولعل أحدهما ناسخ للآخر انتهى. وفى رواية أبى جحيفة عنده، رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهذه منه بيضاء. ووضع الراوى بعض أصابعه على عنفقته. وفى حديث أنس عند البيهقى: ما شانه الله بالشيب، ما كان فى رأسه ولحيته إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة يعنى شعرة بيضاء. وعن أبى جحيفة كان أبيض قد شمط «4» . ورواه البخارى. وفى الصحيحين: أن
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2341) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم-.
(2) الثغامة: نبت أبيض الزهر والثمر يشبه به الشيب، وقيل: هى شجرة تبيض كأنها الثلج.
(3) صحيح: والخبر أخرجه مسلم (2102) فى اللباس والزينة، باب: استحباب خضاب الشيب بصفرة، أو حمرة وتحريمه بالسواد، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3044) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-.(2/78)
ابن عمر رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يصبغ بالصفرة «1» . وعن ابن عمر: إنما كان شيبه- صلى الله عليه وسلم- نحوا من عشرين شعرة بيضاء «2» رواه الترمذى. وروى أيضا عن ابن عباس قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال: «شيبتنى هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» «3» . وفى حديث جابر عنده: لم يكن فى رأسه- صلى الله عليه وسلم- شيب إلا شعرات فى مفرق رأسه إذا ادهن واراهن الدهن. وفى رواية البيهقى: كان أسود اللحية حسن الشعر. واختلف العلماء: هل خضب- صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ قال القاضى عياض: منعه الأكثرون وهو مذهب مالك. وقال النووى: المختار أنه صبغ فى وقت وترك فى معظم الأوقات، فأخبر كل بما رأى وهو صادق، قال: وهذا التأويل كالمتعين، فحديث ابن عمر فى الصحيحين ولا يمكن تركه ولا تأويل له. وأما اختلاف الرواية فى قدر شيبه فالجمع بينهما أنه رأى شيبا يسيرا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير ومن نفاه أراد لم يكثر فيه، كما قال فى الرواية الآخرى: لم ير الشيب إلا قليلا، انتهى.
وعن جابر بن سمرة قال: كان- صلى الله عليه وسلم- قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، فإذا شعث رأسه تبين وكان كثير شعر اللحية «4» .
رواه مسلم والنسائى. وعن أنس كان- صلى الله عليه وسلم- يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته «5» . رواه البغوى فى شرح السنة. وقد وصفه- صلى الله عليه وسلم- ابن أبى هالة بأنه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (166) فى الوضوء، باب: غسل الرجلين فى النعلين، ومسلم (1187) فى الحج، باب: الإهلال من حيث تنبعث الراحلة.
(2) قلت: هو فى صحيح البخارى (3547) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2347) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم- ومبعثه وسنه، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3297) فى التفسير، باب: سورة الواقعة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3723) .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2344) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم-.
(5) ضعيف: أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (ص 32) ، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4602) بعد أن عزاه للبيهقى فى الشعب.(2/79)
كان موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجرى كالخط عارى الثديين مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر. وعن أنس قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا فى يد رجل «1» . رواه مسلم. وسيأتى إن شاء الله تعالى قصة حلق رأسه الشريف فى حجة الوداع.
ولم يرو أنه- صلى الله عليه وسلم- حلق رأسه الشريف فى غير نسك حج أو عمرة فيما علمته، فتبقية الشعر فى الرأس سنة ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية فيباح له إزالته. وقد رأيت بمكة المشرفة فى ذى القعدة سنة سبع وتسعين وثمانمائة شعرة عند الشيخ أبى حامد المرشدى، شاع وذاع أنها من شعره- صلى الله عليه وسلم-، زرتها صحبة المقام المقرى خليل العباسى والى الله إحسانه عليه. وعن محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة، عندنا من شعر النبى- صلى الله عليه وسلم- أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس، قال: لأن تكون عندى شعرة منه أحب إلى من الدنيا وما فيها «2» . رواه البخارى. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها «3» . رواه الترمذى وقال: حديث غريب.
وأخرج الترمذى عن ابن عباس وحسنه قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يقص شاربه «4» . وعنده من حديث زيد بن أرقم قال- صلى الله عليه وسلم-: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» «5» . وفى الصحيحين: «خالفوا المشركين وفروا اللحى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2325) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس وتبركهم به.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (170) فى الوضوء، باب: الماء الذى يغسل به شعر الإنسان.
(3) موضوع: أخرجه الترمذى (2762) فى الأدب، باب: ما جاء فى الأخذ من اللحية، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4517) ، موضوع.
(4) ضعيف: أخرجه الترمذى (2760) فى الأدب، باب: ما جاء فى قص الشارب، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(5) صحيح: أخرجه الترمذى (2761) فى الأدب، باب: ما جاء فى قص الشارب، والنسائى (8/ 129) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 366 و 368) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6533) .(2/80)
وأحفوا الشوارب» «1» . واختلف فى قص الشارب وحلقه أيهما أفضل: ففى الموطأ يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وعن ابن عبد الحكم عن مالك قال: ويحفى الشارب ويعفى اللحية، وليس إحفاء الشارب حلقه، وأرى تأديب من حلق شاربه. وعن أشهب أن حلقه بدعة قال: وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال النووى: المختار أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله. وقال الطحاوى: لم نجد عن الشافعى شيئا منصوصا فى هذا، وكان المزنى والربيع يحفيان شاربهما. وأما أبو حنيفة وصاحباه فمذهبهم فى شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير. وأما أحمد، فقال الأثرم رأيته يحفى شاربه شديدا. وقد اختلفوا فى كيفية قص الشارب، هل يقص طرفاه أيضا، وهم المسميان بالسبالين أم تترك السبالان كما يفعله كثير من الناس؟
قال الغزالى فى الإحياء: لا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب. فعل ذلك عمر- رضى الله عنه- وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمرة الطعام إذ لا يصل إليه انتهى. وروى أبو داود عن جابر قال: كنا [نعفى] السبال إلا فى حج أو عمرة «2» . وكره بعضهم إبقاءه لما فيه من التشبه بالأعاجم بل بالمجوس وأهل الكتاب، وهذا أولى بالصواب لما رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث ابن عمر قال: ذكر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- المجوس فقال: «إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم» «3» ، فكان يجز سباله كما يجز الشاة أو البعير. وروى أحمد فى مسنده فى أثناء حديث لأبى أمامة. فقلنا: يا رسول الله، فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم فقال: «قصوا
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5892) فى اللباس، باب: تقليم الأظفار، ومسلم (259) فى الطهارة، باب: خصال الفطرة، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) أخرجه أبو داود (4201) فى الترجل، باب: فى أخذ الشارب.
(3) حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (5476) من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.(2/81)
سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب» «1» ، والعثانين- بالعين المهملة والثاء المثلاثة وتكرار النون- جمع عثنون وهو اللحية قاله فى شرح تقريب الأسانيد. وأما العانة ففى حديث أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان لا يتنور، وكان إذا كثر شعره حلقه «2» ولكن سنده ضعيف. وروى ابن ماجه والبيهقى، ورجاله ثقات، ولكن أعل بالإرسال. وأنكر الإمام أحمد صحته من حديث أم سلمة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا طلى بدأ بعانته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله.
وأما الحديث الذى يروى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل حمام الجحفة، فموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث كما قاله الحافظ ابن كثير، بل ولم تعرف العرب الحمام ببلادهم إلا بعد موته- صلى الله عليه وسلم-. وأخرج البيهقى من مرسل أبى جعفر الباقر قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة «3» . وله شاهد موصول من حديث أبى هريرة ولكن سنده ضعيف أخرجه البيهقى أيضا فى الشعب. وسئل عنه أحمد فقال يسن يوم الجمعة قبل الزوال. وعنه: يوم الخميس، وعنه يتخير. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهذا هو المعتمد، أنه يستحب كيفما احتاج إليه، قال:
ولم يثبت فى استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وكذا لم يثبت فى كيفيته شىء، ولا فى تعيين يوم له عن النبى- صلى الله عليه وسلم-. وما يعزى من النظم فى ذلك لعلى- رضى الله عنه- ثم لشيخ الإسلام ابن حجر قال شيخنا: إنه باطل.
والمراد: إزالة ما يزيد على ما يلامس رأس الأصبع من الظفر، لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهى إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 264) ، والطبرانى فى «الكبير» (8/ 236) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 131) وقال: رواه أحمد والطبرانى، ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر.
(2) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (1/ 152) بسند ضعيف، وهو عنده من حديث أم سلمة (1/ 152) أيضا.
(3) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (3/ 244) عن أبى جعفر مرسلا، وذكر بسند صحيح عن ابن عمر من فعله.(2/82)
غسله فى الطهارة. وقد حكى أصحاب الشافعى فيه وجهين: فقطع المتولى بأن الوضوء حينئذ لا يصح، وقطع الغزالى فى الإحياء بأنه يعفى عن مثل ذلك.
وأخرج الطبرانى فى الأوسط عن عائشة: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- لا يفارق سواكه ومشطه وكان ينظر فى المرآة إذا سرح لحيته «1» . وعن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة فى هذه وثلاثة فى هذه «2» . رواه ابن ماجه والترمذى وأحمد ولفظه: كان يكتحل بالإثمد كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل فى كل عين ثلاثة أميال. وروى النسائى والبخارى فى تاريخه عن محمد بن على قال سألت عائشة: أكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يتطيب؟ قالت: نعم، بذكارة الطيب، المسك والعنبر «3» .
وأما مشيه- صلى الله عليه وسلم- فعن على قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تكفأ تكفيا، كأنما ينحط من صبب «4» ، رواه الترمذى وصححه البيهقى.
والتكفؤ: الميل إلى سنن المشى. وعند البزار من حديث أبى هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها «5» . وعند الترمذى فى الشمائل من حديثه: وما رأيت أحدا أسرع فى مشيه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: كأنما الأرض تطوى له، إنا
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 171) وقال: رواه الطبرانى فى «الأوسط» ، وفيه سليمان بن أرقم الزهرى، وهو ضعيف.
(2) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (1757) فى اللباس، باب: ما جاء فى الاكتحال، وابن ماجه (3499) فى الطب، باب: من اكتحل وترا، وأحمد فى «المسند» (1/ 354) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4486) .
(3) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (8/ 150) فى الزينة، باب: العنبر، وفى «الكبرى» (9407) ، والبخارى فى «التاريخ الكبير» (2/ 88) ، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3637) فى المناقب، باب: رقم (37) ، وهو عند مسلم (2330) من حديث أنس بنحوه.
(5) حسن: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 227) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4633) .(2/83)
لنجهد أنفسنا وهو غير مكترث «1» . وعن يزيد بن مرثد قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مشى أسرع، حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه «2» . رواه ابن سعد: ويروى أنه كان إذا مشى مشى مجتمعا أى قوى الأعضاء غير مسترخ فى المشى. وقال على- رضى الله عنه- كان إذا مشى تقلع «3» .
وقال ابن أبى هالة: إذا زال زال تقلعا، يخطو تكفيا، ويمشى هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وفى رواية إذا زال زال قلعا- بالفتح والضم، فبالفتح هو مصدر بمعنى الفاعل أى لا يزول قالعا لرجله من الأرض، وهو بالضم إما مصدر أو اسم وهو بمعنى الفتح.
وقال الهروى: «قرأت هذا الحرف فى كتاب غريب الحديث لابن الأنبارى: قلعا: بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهرى، وهو كما جاء فى حديث آخر كأنما ينحط من صبب، والانحدار من الصبب والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض. أراد: أنه كان يستعمل التثبت ولا يتبين منه فى هذه الحال استعجال ومبادرة شديدة» . وذريع المشية: أى واسع الخطوة قاله ابن الأثير.
وقال ابن القيم: التقلع الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحط من الصبب، وهى مشية أولى العزم والهمة والشجاعة، وهى أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، فكثير من الناس يمشى قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة، فهى مذمومة، وإما أن يمشى بانزعاج مشى الجمل الأهوج وهى مشية مذمومة، وهى علامة خفة عقل صاحبها ولا سيما إن أكثر الالتفات حال مشيه يمينا وشمالا. وفى بعض المسانيد: أن المشاة شكوا إلى رسول الله
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3648) فى المناقب، باب: رقم (45) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بسند فيه ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ.
(2) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 379) .
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3638) فى المناقب، باب: رقم (38) ، وفى «الشمائل» له (60) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 252) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(2/84)
- صلى الله عليه وسلم- من المشى فى حجة الوداع فقال: «استعينوا بالنسلان» «1» وهو العدو الخفيف الذى لا يزعج الماشى.
وأما مشيه- صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: «خلوا ظهرى للملائكة» «2» ، وهو معنى قول القائل: وكان يسوق أصحابه ويماشيهم فرادى وجماعة. ومشى- صلى الله عليه وسلم- فى بعض غزواته مرة فجرحت أصبعه وسال منها الدم فقال: «هل أنت إلا أصبع دميت وفى سبيل الله ما لقيت» «3» . رواه أبو داود. ولم يكن له- صلى الله عليه وسلم- ظل فى شمس ولا قمر رواه الترمذى الحكيم عن ذكوان. وقال ابن سبع كان- صلى الله عليه وسلم- نورا.
فكان إذا مشى فى الشمس أو القمر لا يظهر له ظل. قال غيره: ويشهد له قوله- صلى الله عليه وسلم- فى دعائه: «واجعلنى نورا» .
وأما لونه الشريف الأزهر- صلى الله عليه وسلم- فقد وصفه- عليه السّلام- جمهور أصحابه بالبياض، منهم: أبو بكر وعمر وعلى وأبو جحيفة وابن عمر وابن عباس وابن أبى هالة والحسن بن على وأبو الطفيل ومحرش الكعبى وابن مسعود والبراء وأنس فى إحدى الروايتين عنه.
فأما أبو جحيفة فقال: كان أبيض «4» . رواه البخارى. وأما أبو الطفيل فقال: كان أبيض مليحا «5» . رواه الترمذى فى الشمائل، وفى رواية مسلم:
أبيض مليح الوجه. وفى رواية عنه للطبرانى: ما أنسى شدة بياض وجهه مع شدة سواد شعره. وفى شعر أبى طالب:
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 267) عن جابر، ولم يعزه لأحد!.
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 398) من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1389) ولكن عزاه لابن سعد.
(3) قلت: بل هو عند البخارى (2802) فى الجهاد والسير، باب: من ينكب فى سبيل الله، ومسلم (1796) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين، من حديث جندب بن سفيان- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: وقد تقدم.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2340) فى الفضائل، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- مليح الوجه.(2/85)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال على: أبيض مشرب، والمشرب: هو الذى فى بياضه حمرة، كما فى الرواية الآخرى: أبيض مشرب بحمرة، وبهذا فسر قول أنس فى صحيح مسلم: أزهر اللون. وفى النسائى من حديث أبى هريرة: بينا النبى- صلى الله عليه وسلم- جالس بين أصحابه جاء رجل فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذه الأمغر المرتفق «1» . والأمغر: المشرب بحمرة. المرتفق: المتكئ على مرفقه.
وفى البخارى من حديث أنس: ليس بأبيض أمهق «2» . قال الحافظ ابن حجر:
ووقع عند الداودى تبعا لرواية المروزى: أمهق ليس بأبيض، وفى رواية عند أبى حاتم وغيره أسمر. واستشكله بعضهم وقال: إن غالب هذه الروايات متدافع، وبعضها ممكن الجمع كالأبيض مع رواية مشرب بالحمرة والأزهر، وبعضها غير ممكن الجمع كالأبيض الشديد الوضح مع الأسمر. واعترض الداودى رواية أمهق ليس بأبيض. وهى التى وقعت عنده تبعا لرواية المروزى.
وقال القاضى عياض: إنها وهم، وقال: وكذلك رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا الآدم، ليس بصواب. قال الحافظ ابن حجر: هذا ليس يجيد لأن المراد أنه ليس بالأبيض الشديد البياض ولا بالآدم الشديد الأدمة، وإنما يخالط بياضه الحمرة، والعرب قد تطلق على كل من كان كذلك أسمر، ولهذا جاء فى حديث أنس عند أحمد والبزار وابن منده بإسناد صحيح أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان أسمر، وأخرجه البيهقى فى الدلائل من وجه آخر عن أنس، فذكر الصفة النبوية فقال: كان- صلى الله عليه وسلم- أبيض بياضه إلى السمرة. وفى حديث ابن عباس فى صفته- صلى الله عليه وسلم-: رجل بين رجلين جسمه ولحمه، أحمر إلى البياض، أخرجه أحمد. وقد تبين من مجموع الروايات: أن المراد بالسمرة؛ الحمرة التى تخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما تخالطه
__________
(1) أخرجه ابن عساكر كما فى «كنز العمال» (18533) ، ولم أقف عليه فى النسائى، ولعله وهم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3547 و 3548) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2347) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم- ومبعثه وسنه.(2/86)
الحمرة، والمنفى ما لا تخالطه، وهو الذى تكره العرب لونه وتسميه أمهق، وبهذا تبين أن رواية المروزى أمهق ليس بأبيض مقلوبة، على أنه يمكن توجيهها بأن المراد بالأمهق الأخضر اللون الذى ليس بياضه فى الغاية، ولا سمرته ولا حمرته، فقد نقل عن رؤبة: أن المهق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتم على تقدير ثبوت الرواية، وقد تقدم فى حديث أبى جحيفة إطلاق كونه كان أبيض، وكذا فى حديث أبى الطفيل عند مسلم والترمذى.
وفى حديث سراقة عند ابن إسحاق فجعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة، ولأحمد من حديث محرش الكعبى فى عمرة الجعرانة قال: فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة «1» . وعن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصفه- صلى الله عليه وسلم- فقال: كان شديد البياض «2» أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوى. ويجمع بينهما بما تقدم. وقال البيهقى: يقال: إن المشرب منه بحمرة وإلى السمرة منه ما ضحى للشمس والريح أى كالوجه والعنق وأما ما تحت الثياب فهو الأزهر الأبيض انتهى. وهذا ذكره ابن أبى خيثمة عقب حديث عائشة فى صفته- صلى الله عليه وسلم- بأبسط من هذا وزاد: ولونه الذى لا يشك فيه الأبيض الأزهر. انتهى والله أعلم.
وقد ضعف بعضهم قول من قال: إنما وصف بالسمرة ما كانت الشمس تصيب منه، بأن أنسا لا يخفى عليه أمره حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه، ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- ملازما للشمس، نعم لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه فى وقت غيرته الشمس لأمكن، فالأولى حمل السمرة فى رواية أنس على الحمرة التى تخالط البياض كما قدمناه.
تنبيه: فى الشفاء حكاية عن أحمد بن سليمان صاحب سحنون: من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- أسود يقتل. انتهى. وهذا يقتضى أن مجرد الكذب عليه فى صفة من صفاته كفر يوجب القتل. وليس كذلك، بل لابد من ضميمة ما يشعر بنقص فى ذلك. كما فى مسألتنا هذه فإن الأسود لون مفضول.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.(2/87)
وأما طيب ريحه- صلى الله عليه وسلم- وعرقه وفضلاته، فقد كانت الرائحة الطيبة صفته- صلى الله عليه وسلم- وإن لم يمس طيبا. وروينا عن أنس قال: ما شممت ريحا قط ولا مسكا ولا عنبرا أطيب من ريح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . لحديث رواه الإمام أحمد. وفى البخارى: ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة النبى- صلى الله عليه وسلم-. وفى رواية الترمذى: ولا شممت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقوله: شممت: بكسر الميم الأولى وسكون الثانية. وعن أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد السلمى قالت: كنا عند عتبة أربع نسوة، فما منا امرأة إلا وهى تجتهد فى الطيب لتكون أطيب ريحا منا، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنا لنجتهد فى الطيب، ولأنت أطيب ريحا منا فمم ذلك؟
فقال: أخذنى الشرى على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأتيته فشكوت ذلك إليه، فأمرنى أن أتجرد، فتجردت وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبى على فرجى، فنفث فى يده ثم مسح ظهرى وبطنى بيده، فعبق بى هذا الطيب من يومئذ «2» رواه الطبرانى فى معجمه الصغير.
وروى أبو يعلى والطبرانى قصة الذى استعان به- صلى الله عليه وسلم- على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شىء، فاستدعاه بقارورة فسلت له فيها من عرقه، وقال: «مرها فلتطيب به» ، فكانت إذا تطيبت به شم أهل المدينة ذلك الطيب فسموا بيت المطيبين. وقال جابر بن عبد الله: كان فى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خصال: لم يكن فى طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرقه وعرفه «3» ، ولم يكن يمر بحجر إلا سجد له. رواه الدارمى والبيهقى وأبو نعيم. ولله در القائل:
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3561) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2330) فى الفضائل، باب: طيب رائحة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (3/ 107 و 200 و 222 و 227 و 228 و 265 و 270) .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 282) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، ورجال الأوسط رجال الصحيح. غير أم عاصم فإنى لم أعرفها.
(3) أخرجه الدارمى فى «سننه» . (66) .(2/88)
فلو أن ركبا يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل به الركب
وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مر فى طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب وقالوا: مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هذا الطريق «1» . رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. وما أحسن قول القائل:
يروح على غير الطريق التى غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته
تنفسه فى الوقت أنفاس عطره ... فمن طيبه طابت له طرقاته
تروح له الأرواح حيث تنسمت ... لها سحرا من حيه نسماته
وعن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجها وأنورهم لونا، لم يصفه واصف قط إلا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر. وكان عرقه فى وجهه مثل اللؤلؤ، أطيب من المسك الإذفر. رواه أبو نعيم. وعن أنس قال:
دخل علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال عندنا، فعرق وجاءت أمى بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أم سليم ما هذا الذى تصنعين؟» قالت: هذا عرقك نجعله لطيبنا، وهو أطيب الطيب «2» . رواه مسلم.
وفى رواية له: كان- صلى الله عليه وسلم- يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه. قال فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت فقيل لها هذا النبى نائم فى بيتك على فراشك قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره فى قواريرها، ففزع- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما تصنعين يا أم سليم» فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: «أصبت» والعتيدة: كالصندوق الصغير الذى تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها.
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 282) وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبرانى فى الأوسط، ورجال أبى يعلى وثقوا.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2331) فى الفضائل، باب: طيب عرق النبى- صلى الله عليه وسلم- والتبرك به.(2/89)
وأما ما روى أن الورد خلق من عرقه- صلى الله عليه وسلم- أو من عرق البراق فقال شيخنا فى الأحاديث المشتهرة: قال النووى: لا يصح. وقال شيخ الإسلام ابن حجر: إنه موضوع، وسبقه لذلك ابن عساكر، وهو فى مسند الفردوس بلفظ: «الورد الأبيض خلق من عرقى ليلة المعراج، والورد الأحمر خلق من عرق جبريل، والورد الأصفر خلق من عرق البراق» «1» . رواه من طريق مكى ابن بندار الزنجانى. حدثنا الحسن بن على بن عبد الواحد القرشى، حدثنا هشام بن عمار عن الزهرى عن أنس به مرفوعا ثم قال: قال أبو مسعود حدث به أبو عبد الله الحاكم عن رجل عن مكى. ومكى تفرد به انتهى.
ورواه أبو الحسين بن فارس اللغوى فى «الريحان والراح» له عن مكى به.
ومكى ممن اتهمه الدارقطنى بالوضع، وله طريق أخرى رواه أبو الفرج النهروانى فى الخامس والتسعين من «الجليس الصالح» له من طريق محمد بن عنبسة بن حماد، حدثنا أبى عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار عن أنس رفعه: «لما عرج بى إلى السماء بكت الأرض من بعدى فنبت اللصف من نباتها، فلما أن رجعت قطر من عرقى على الأرض فنبت ورد أحمر، ألا من أراد أن يشم رائحتى فليشم الورد الأحمر» «2» . ثم قال أبو الفرج:
اللصف: الكبر، وقال: وما أتى به هذا الخبر فهو اليسير من كثير مما أكرم الله به نبيه ودل على فضله ورفيع منزلته. انتهى. وإنما ذكرته ليعلم «3» .
وعن جابر بن سمرة أنه- صلى الله عليه وسلم- مسح خده، وقال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار «4» . قال غيره: مسها بطيب أو لم يمسها يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبى فيعرف من بين الصبيان ريحها. وجؤنة العطار: بضم الجيم وهمزة بعدها، ويجوز تخفيفها واوا: سلسلة مستديرة مغشاة أدما.
__________
(1) موضوع: ذكره الحافظ ابن حجر فى اللسان (2/ 219) فى ترجمة الحسن بن عبد الواحد القزوينى، وقال: هذا حديث موضوع، وضعه من لا علم له.
(2) موضوع: أخرجه ابن عدى فى «الكامل» (2/ 342) .
(3) أى: يعلم أنه موضوع.
(4) صحيح: وقد تقدم.(2/90)
وقد ورد مما عزاه القاضى عياض للأخباريين ومن ألف فى الشمائل الكريمة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض وابتلعت بوله وغائطه وفاحت لذلك رائحة طيبة. قال غيره: ولم يطلع على ما يخرج منه بشر قط. وأسند محمد بن سعد كاتب الواقدى- كما هو فى بعض نسخ الشفاء، وقالوا: إنه ليس من الرواية ولا من حواشى أصل ابن جبير بل من حواشى غيره- عن عائشة- رضى الله عنها- قالت للنبى- صلى الله عليه وسلم-: إنك تأتى الخلا فلا نرى منك شيئا من الأذى فقال: «يا عائشة أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شىء» «1» انتهى.
وفى الشفاء لابن سبع عن بعض الصحابة قال: صحبته- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فلما أراد قضاء الحاجة تأملته وقد دخل مكانا فقضى حاجته، فدخلت الموضع الذى خرج منه فلم ير له أثر غائط ولا بول، ورأيت فى ذلك الموضع ثلاثة أحجار فأخذتهن فوجدت لهن رائحة طيبة وعطرا. قلت: وقد سئل الحافظ عبد الغنى المقدسى: هل روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟ فقال: قد روى ذلك من وجه غريب، والظاهر يؤيده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنه رآه ولا ذكره، وأما البول فقد شاهده غير واحد.
وشربته أم أيمن والله أعلم انتهى. لكن قال البيهقى: وأما الحديث الذى أخبرنا به أبو الحسين بن بشر أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ حدثنا حسين بن علوان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الغائط دخلت فى أثره فلا أرى شيئا إلا أنى كنت أشم رائحة الطيب، فذكرت ذلك له فقال: «يا عائشة أما علمت أن أجسادنا تنبت على أرواح أهل الجنة وما خرج منها ابتلعته الأرض» «2» فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغى ذكره إلا لبيان أنه موضوع
__________
(1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى الأفراد، وابن الجوزى فى الواجبات، كما فى «كنز العمال» (32253) .
(2) موضوع: أخرجه البيهقى فى «الدلائل» ، وابن عساكر عن عائشة، وقال: هذا من موضوعات حسين بن علوان، كما فى «كنز العمال» (32255) .(2/91)
ففى الأحاديث الصحيحة المشهورة فى معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان انتهى.
لكن للحديث طرق غير طريق ابن علون: فعند الدار قطنى فى الأفراد:
حدثنا محمد بن سليمان الباهلى حدثنا محمد بن حسان الأموى، أنبأنا عبدة ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: يا رسول الله، إنى أراك تدخل الخلاء ثم يأتى الذى بعدك فلا يرى لما يخرج منك أثرا، فقال:
«يا عائشة أما علمت أن الله أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء» «1» ، ومحمد بن حسان بغدادى ثقة، وعبدة من رجال الصحيح. وله طريق أخرى عند ابن سعد، وأخرى عند الحاكم فى مستدركه. وروى أنه كان يتبرك ببوله ودمه- صلى الله عليه وسلم-. فروى ابن حبان فى «الضعفاء» عن ابن عباس قال: حجم النبى- صلى الله عليه وسلم- غلام لبعض قريش، فلما فرغ من حجامته أخذ الدم فذهب به من وراء الحائط، فنظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا، فحسا دمه حتى فرغ ثم أقبل فنظر فى وجهه فقال: «ويحك ما صنعت بالدم» قلت غيبته من وراء الحائط، قال أين غيبته؟ قلت: يا رسول الله نفست على دمك أن أهريقه فى الأرض فهو فى بطنى فقال: «اذهب فقد أحرزت نفسك من النار» .
وفى سنن سعيد بن منصور من طريق عمرو بن السائب أنه بلغه أن مالكا والد أبى سعيد الخدرى لما جرح النبى- صلى الله عليه وسلم- مص جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل: مجه، فقال: لا والله لا أمجه أبدا، ثم ازدرده فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» «2» .
فاستشهد.
وأخرج البزار والطبرانى والحاكم والبيهقى وأبو نعيم فى الحلية، من حديث عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: احتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعطانى الدم فقال: «اذهب فغيبه» فذهب فشربته فأتيته- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما
__________
(1) ضعيف: وانظر ما قبلهما.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (3/ 266) .(2/92)
صنعت» قلت: غيبته، قال: «لعلك شربته» قلت: شربته، وفى رواية قلت:
جعلته فى أخفى مكان ظننت أنه خاف عن الناس، قال: «لعلك شربته؟» قلت: شربته، فقال: «ويل لك من الناس وويل للناس منك» . وفى رواية فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فما حملك على ذلك» قال: علمت أن دمك لا تصيبه نار جهنم فشربته لذلك، فقال: «ويل لك من الناس» «1» .
وعند الدار قطنى من حديث أسماء بنت أبى بكر نحوه، وفيه: ولا تمسك النار، وفى كتاب الجوهر المكنون فى ذكر القبائل والبطون: أنه لما شرب- أى عبد الله بن الزبير- دمه تضوع فمه مسكا، وبقيت رائحته موجودة فى فمه إلى أن صلب- رضى الله عنه-. وأخرج الحسن بن سفيان فى مسنده والحاكم والدار قطنى والطبرانى وأبو نعيم من حديث أبى مالك النخعى عن الأسود بن قيس عن نبيح عن أم أيمن قالت: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل إلى فخارة فى جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أم أيمن قومى فأهريقى ما فى تلك الفخارة» ، فقلت: قد والله شربت ما فيها قالت: فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: «أما والله لا يبجعن بطنك أبدا» «2» .
وعن ابن جريج قال: أخبرت أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يبول فى قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره فجاء فإذا القدح ليس فيه شىء فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة «أين البول الذى فى القدح» قالت: شربته قال: «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط حتى كان مرضها الذى ماتت فيه. ورواه أبو داود عن ابن جريج عن حكيمة عن أمها أميمة بنت رقيقة.
وصحح ابن دحية أنهما قصتان وقعتا لامرأتين وقد وضح أن بركة أم يوسف غير بركة أم أيمن، وهو الذى ذهب إليه شيخ الإسلام البلقينى.
وفى هذه الأحاديث دلالة على طهارة بوله ودمه- صلى الله عليه وسلم-. قال النووى
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 638) .
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 70) ، والطبرانى فى «الكبير» (25/ 89) .(2/93)
فى شرح المهذب: واستدل من قال بطهارتهما بالحديثين المعروفين: أن أبا طيبة الحجام حجمه- صلى الله عليه وسلم- وشرب دمه ولم ينكر عليه، وأن امرأة شربت بوله- صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليها. وحديث أبى طيبة ضعيف، وحديث شرب البول صحيح رواه الدار قطنى وقال: هو حديث حسن صحيح، وذلك كاف فى الاحتجاج لكل الفضلات قياسا، ثم إن القاضى حسينا قال: الأصح القطع بطهارة الجميع انتهى. وبهذا قال أبو حنيفة، كما قاله العينى. وأبو طيبة؛ بفتح الطاء المهملة وسكون الياء المثناة تحت وبالموحدة، نافع الحجام مولى محيصة- بضم الميم وفتح المهملة وتشديد المثناة تحت وكسرها- هو أبو مسعود الأنصارى.
وقال شيخ الإسلام ابن حجر قد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته- صلى الله عليه وسلم- وعدّ الأئمة ذلك فى خصائصه. انتهى. قال بعضهم: وكأن السر فى ذلك ما روى من صنيع الملكين حين غسلا جوفه والله أعلم.
وأما سيرته- صلى الله عليه وسلم- فى البراز، ففى حديث عائشة عند أبى عوانة فى صحيحه والحاكم: ما بال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائما منذ أنزل عليه القرآن «1» .
وفى حديث عبد الرحمن بن حسنة عند النسائى وابن ماجه: أنه بال جالسا، فقالوا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة «2» . وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائما، ويؤيده ما فى حديث عبد الرحمن هذا. وفيه دلالة على أنه كان يخالفهم فى ذلك فيقعد لكونه أستر
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (12) فى الطهارة، باب: ما جاء فى النهى عن البول قائما، والنسائى (1/ 26) فى الطهارة، باب: البول فى البيت جالسا، وابن ماجه (307) فى الطهارة، باب: فى البول قاعدا، وأحمد فى «المسند» (6/ 136 و 192 و 213) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (22) فى الطهارة، باب: الاستبراء من البول، والنسائى (1/ 26) فى الطهارة، باب: البول إلى السترة يستتر بها، وابن ماجه (346) فى الطهارة وسننها، باب: التشديد فى البول، وأحمد فى «المسند» (4/ 196) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/94)
وأبعد عن مماسة البول. وقال حذيفة: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ «1» . رواه البخارى. وفى رواية غيره: بال قائما ففجع رجليه، أى: فرقهما وباعد ما بينهما.
والسباطة- بضم المهملة وبعدها موحدة- هى المزبلة والكناسة تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها، وتكون فى الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك لأنها لا تخلو عن النجاسة. وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهى الجدار ففيه إضرار، أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا فى أصل الجدار، وهو صريح فى رواية أبى عوانة فى صحيحه. وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم فى ذلك بالتصريح أو غيره أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف فى مال أمته دون غيره لأنه أولى بالمؤمنين عن أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى لكن لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه- صلى الله عليه وسلم-. قال الحافظ ابن حجر: وأما مخالفته- صلى الله عليه وسلم- لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظار، فقد قيل فيه إنه- صلى الله عليه وسلم- كان مشغولا بمصالح المسلمين، ولعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول فلو أبعد لتضرر، واستدنى حذيفة ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يراه، أو لعله فعله لبيان الجواز. ثم هو فى البول أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، والغرض من الإبعاد التستر وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر.
وروى الطبرانى من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بعض سكك المدينة فانتهى إلى سباطة قوم فقال: يا حذيفة استرنى فذكر الحديث «2» . وظهر منه الحكمة فى إدنائه حذيفة فى تلك الحالة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (224) فى الوضوء، باب: البول قائما وقاعدا، ومسلم (273) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.
(2) انظر «فتح البارى» (1/ 329) .(2/95)
وقيل: إنما بال قائما لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر- رضى الله عنه- قال: البول قائما أحصن للدبر «1» .
وقيل السبب فى ذلك ما روى الشافعى وأحمد: أن العرب كانت تستشفى لوجع الصلب بذلك فلعله كان به. وروى الحاكم والبيهقى من حديث أبى هريرة قال: إنما بال- صلى الله عليه وسلم- قائما لجرح كان بمأبضه «2» .
والمأبض: بهمزة ساكنة بعدها موحدة ثم معجمة: باطن الركبة.
فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود، ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم ولكن ضعفه الدار قطنى والبيهقى، والأظهر: أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول من قعود.
وقيل إن البول عن قيام منسوخ واستدل عليه بحديث عائشة المتقدم.
والصواب: أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه فى البيوت، وأما غير البيوت فلم تطلع عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وهو جائز من غير كراهة إذا أمن الرشاش.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: «اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث» «3» . رواه البخارى من حديث أنس. والخبث: - بضم المعجمة والموحدة- ومراده: ذكران الشياطين وإناثهم. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يستعيذ إظهارا للعبودية، ويجهر بذلك للتعليم. وهل يختص هذا الذكر بالأبنية المعدة لذلك لكونه حضرة الشياطين، أو يعم؟ الأصح الثانى. ويقول
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 257) وقال: رواه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه الفضل بن المختار، وهو منكر الحديث يحدث بالأباطيل.
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 290) ، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 101) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (142) فى الوضوء، باب: ما يقال عند الخلاء، ومسلم (375) فى الحيض، باب: ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.(2/96)
ذلك قبيل الدخول فى الأمكنة، وأما فى غيرها فيقول فى أول الشروع كتشمير ثيابه مثلا، وهذا مذهب الجمهور، فلو نسى يستعيذ بقلبه لا بلسانه.
وعن أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض «1» . رواه الترمذى وأبو داود والدارمى. وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك» «2» رواه الترمذى وابن ماجه.
وعن أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذى أذهب عنى الأذى وعافانى» «3» . رواه ابن ماجه. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا» «4» ، رواه البخارى من حديث أبى أيوب الأنصارى. وهذا فى الصحراء، أما فى البنيان فلا، لما روى عن ابن عمر: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتى، فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقضى حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام «5» . رواه الشيخان.
وأما حديث جابر: عند أبى داود وابن خزيمة، ولفظه عند أحمد: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (14) فى الطهارة، باب: كيف التكشف عند الحاجة، والترمذى (14) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الاستتار عند الحاجة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4652) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (30) فى الطهارة، باب: ما يقول: الرجل إذا خرج من الخلاء، والترمذى (7) فى الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وابن ماجه (300) فى الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، وأحمد فى «المسند» (6/ 155) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (52) .
(3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (301) فى الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، بسند فيه إسماعيل بن مسلم المكى، متفق على تضعيفه، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (53) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (144) فى الوضوء، باب: لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء، ومسلم (264) فى الطهارة، باب: الاستطابة.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (148) فى الوضوء، باب: التبرز فى البيوت، ومسلم (266) فى الطهارة، باب: الاستطابة.(2/97)
الماء «1» . قال: ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة. فقال فى فتح البارى:
الحق أنه ليس بناسخ لحديث النهى خلافا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه فى بناء أو نحوه، لأن ذلك هو المعهود من حاله- صلى الله عليه وسلم- لمبالغته فى التستر. ودعوى خصوصية ذلك بالنبى- صلى الله عليه وسلم- لا دليل عليها، إذا الخصائص لا تثبت بالاحتمال.
ومذهب الجمهور وهو مذهب مالك والشافعى وإسحاق: التفريق بين البنيان والصحراء، وهذا أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة. وقال قوم بالتحريم مطلقا، وهو المشهور عن أبى حنيفة وأحمد، ورجحه من المالكية ابن العربى وحجتهم: أن النهى مقدم على الإباحة، ولم يصححوا حديث جابر المتقدم. وقال قوم بالجواز مطلقا، وهو قول عائشة وعروة وربيعة، محتجين بأن الأحاديث تعارضت فلنرجع إلى أصل الإباحة.
وفى البخارى عن أنس كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج لحاجته أجىء أنا وغلام، معنا إداوة من ماء، يعنى ليستنجى به «2» . وفى رواية مسلم عنه: فخرج علينا وقد استنجى بالماء. وعن أبى هريرة قال: اتبعت النبى- صلى الله عليه وسلم- وخرج لحاجته فقال: «ابغنى أحجارا أستنفض بها ولا تأتنى بعظم ولا روث» ، فأتيته بأحجار بطرف ثيابى فوضعتها إلى جنبه فلما قضى حاجته أتبعه بهن «3» . وعن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- الغائط فأمرنى أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (13) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، والترمذى (9) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الرخصة فى ذلك، وابن ماجه (325) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، وأحمد فى «المسند» (3/ 360) ، وابن حبان فى «صحيحه» (1420) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (58) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (151) فى الوضوء، باب: من حمل معه الماء لطهوره، ومسلم (271) فى الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء من التبرز.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (155) فى الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة.(2/98)
الحجرين وألقى الروثة «1» . رواه البخارى. وفى حديث سلمان عند مسلم مرفوعا: «لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار» «2» .
وقد أخذ الشافعى وأحمد وأصحاب الحديث بهذا، فاشترطوا أن لا ينقص عن الثلاثة مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فتزاد حتى ينقى.
ويستحب حينئذ الإيتار، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «ومن استجمر فليوتر» «3» . وليس بواجب لزيادة فى أبى داود حسنة الإسناد، قال: ومن لا، فلا حرج، قال الخطابى: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظا وعلم الإنقاء فيه معنى دل على إيجاب الأمرين، ونظيره:
العدة بالإقراء، فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد. وقال الطحاوى: لو كان العدد مشترطا لطلب- عليه السّلام- حجرا ثالثا. وغفل- رحمه الله- عما أخرجه أحمد فى مسنده من طريق معمر عن ابن مسعود فى هذا الحديث، فإن فيه: فألقى الروثة وقال: «إنها ركس، ائتنى بحجر» ورجاله ثقات أثبات. واستدلال الطحاوى فيه نظر، لاحتمال أن يكون اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث، لأن المقصود بالثلاثة: أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد. انتهى ملخصا من فتح البارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (156) فى الوضوء، باب: لا يستنجى بروث.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (262) فى الطهارة، باب: الاستطابة.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (161) فى الوضوء، باب: الاستنثار فى الوضوء، ومسلم (237) فى الطهارة، باب: الإيتار فى الاستنثار والاستجمار، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/99)
الفصل الثانى فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية
اعلم أن الأخلاق جمع خلق. بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها. قال الراغب: الخلق- بالفتح وبالضم- فى الأصل بمعنى واحد، كالشرب والشرب لكن خص الخلق الذى بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذى بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. انتهى. وقد اختلف: هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم» «1» الحديث رواه البخارى. وقد قال القرطبى: الخلق جبلة فى نوع الإنسان. وهم فى ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شىء منها كان محمودا وإلا فهو المأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض حتى يقوى.
وقد وقع فى حديث الأشج أنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» ، قال: يا رسول الله قديما كانا أو حديثا؟ قال:
«قديما» ، قال: الحمد لله الذى جبلنى على خلتين يحبهما الله «2» . رواه أحمد والنسائى وصححه ابن حبان. فترديد السؤال وتقريره عليه بأن فى الخلق ما هو جبلى وما هو مكتسب. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم كما حسنت
__________
(1) صحيح موقوفا: أخرجه البخارى فى «التاريخ الكبير» (4/ 313) ، وليس فى الصحيح كما يوهم صنيع المؤلف.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (18) فى الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم-، وابن ماجه (4187) فى الزهد، باب: الحلم، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.(2/100)
خلقى فحسن خلقى» «1» . أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وعند مسلم فى حديث دعاء الافتتاح: «واهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت» «2» . ولما اجتمع فيه- صلى الله عليه وسلم- من خصال الكمال ما لا يحيط به حد، ولا يحصره عد، أثنى الله تعالى عليه فى كتابه الكريم فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «3» ، وكلمة «على» للاستعلاء فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاق ومستول عليها.
والخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، وقد وصف الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم فقال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
«4» ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «5» . فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة. قال الحليمى: وإنما وصف خلقه بالعظم، مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خلقه- صلى الله عليه وسلم- مقصورا على ذلك، بل كان رحيما بالمؤمنين، رفيقا بهم، شديدا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبا فى صدور الأعداء، منصورا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصف خلقه بالعظيم أولى ليشمل الإنعام والانتقام.
وقال الجنيد: وإنما كان خلقه- صلى الله عليه وسلم- عظيما لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى. وقيل: لأنه- صلى الله عليه وسلم- عاشر الخلق بخلقه، وباينهم بقلبه. وقيل:
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى المسند عن ابن مسعود، كما فى «صحيح الجامع» (1307) إلا أنى لم أقف عليه فى المسند.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (771) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث على- رضى الله عنه-.
(3) سورة القلم: 4.
(4) سورة النساء: 113.
(5) سورة القلم: 4.(2/101)
لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال- صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الطبرانى فى الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسى وهو ضعيف- عن جابر: «إن الله بعثنى بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال» «1» ، وفى رواية مالك فى الموطأ بلاغا: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «2» . فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه- صلى الله عليه وسلم-، فإنه أدب بالقرآن، كما قالت عائشة- رضى الله عنها-: (كان خلقه القرآن) «3» .
قال بعض العارفين: وقد علم أن القرآن فيه المتشابه الذى لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به، أى أقررناه فى نصابه، وأقررنا به من خلف حجابه، وتقلدنا سيف الحجة به ولكن فى قرابه.
وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل
وقال صاحب عوارف المعارف: ولا يبعد أن قول عائشة- رضى الله عنها-: (كان خلقه القرآن) فيه رمز غامض، وإيماء خفى إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقا بأخلاق الله تعالى فعبرت عن المعنى بقولها: (كان خلقه القرآن) استحياء من سبحات الجلال وسترا للحال بلطف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها. انتهى.
فكما أن معانى القرآن لا تتناهى فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى إذ فى كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى. فإذا التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته.
قال الحرالى- وهو كما فى القاموس: بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة
__________
(1) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 188) عن جابر وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عمر بن إبراهيم القرشى، وهو ضعيف.
(2) ضعيف: أخرجه مالك فى «الموطأ» (2/ 904) بلاغا.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل.(2/102)
بالبربر، واسمه: على بن أحمد بن الحسين، ذو التصانيف المشهورة-: ولما كان عرفان قلبه- صلى الله عليه وسلم- بربه عز وجل كما قال- عليه السّلام-: «بربى عرفت كل شىء» «1» كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذلك بعثه إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الإنس حتى عمت الجن، ولم يقصرها على الثقلين حتى عمت جميع العالمين: فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، وكما أن الربوبية تعم العالمين فالخلق المحمدى يشمل جميع العالمين. انتهى. وهذا مصير منه إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضا، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى وهو المستعان.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- مجبولا على الأخلاق الكريمة فى أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له ذلك برياضة نفس، بل بجود إلهى، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف فى قلبه حتى وصل إلى الغاية العليا والمقام الأسنى.
وأصل هذه الخصال الحميدة، والمواهب المجيدة، كمال العقل، لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل، فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان، قال بعضهم: لكل شىء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر. وأما ما روى «أن الله لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتى وجلالى ما خلقت خلقا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطى» . فقال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع باتفاق. انتهى. وفى زوائد عبد الله ابن الإمام أحمد على «الزهد» لأبيه عن على بن مسلم عن سيار بن حاتم- وهو ممن ضعفه غير واحد وكان جماعا للرقائق، وقال القواريرى: إنه لم يكن له عقل- قال:
حدثنا جعفر بن سليمان الضبعى، حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصرى، مرسلا: «لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقا أحب إلى منك، بك آخذ وبك أعطى» .
وأخرجه داود بن المحبر فى كتاب العقل له، وابن المحبر كذاب. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: والوارد فى أول ما خلق الله، حديث أول ما
__________
(1) لم أقف على هذه العبارة.(2/103)
خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل. ولأبى الشيخ عن قرة بن إياس المزنى رفعه: «الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم» «1» .
وقد اختلف فى ماهية العقل اختلافا طويلا يطول استقصاؤه. وفى القاموس ومن خط مؤلفه نقلت: العقل العلم، أو بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، أو يطلق لأمور لقوة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعان مجتمعة فى الذهن تكون بمقدمات يستثبت بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان فى حركاته وكلماته، والحق أنه روحانى به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. انتهى.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- من كمال العقل فى الغاية القصوى التى لم يبلغها بشر سواه، ولهذا كانت معارفه عظيمة وخصائصه جسيمة، حارت العقول فى بعض فيض ما أفاضه من غيبه لديه، وكلّت الأفكار فى معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرم ما وهبه من أسرار إلهيته ومعرفة ربوبيته وتحقق عبوديته. قال وهب بن منبه: قرأت فى أحد وسبعين كتابا، فوجدت فى جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل فى جنب عقله- صلى الله عليه وسلم- إلا كحبة رمل بين رمل من جميع رمال الدنيا، وإن محمدا أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا. رواه أبو نعيم فى الحلية وابن عساكر.
وعن بعضهم مما هو فى عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون فى النبى- صلى الله عليه وسلم- وجزء فى سائر المؤمنين، ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشادر، والطبع المتنافر والمتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه،
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو الشيخ، كما فى «كنز العمال» (7052) .(2/104)
وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروا على أنفسهم، وهجروا فى رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله- صلى الله عليه وسلم- أوسع العقول لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعا لا يضيق عن شىء. فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم فى الحلم والعفو مع القدرة وصبره- صلى الله عليه وسلم- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه- عليه السّلام- عن الكافرين به المقاتلين المحاربين له فى أشد ما نالوه به من الجراح بحيث كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شق ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إنى لم أبعث لعانا، ولكنى بعثت داعيا ورحمة، اللهم اغفر لقومى، أو اهد قومى فإنهم لا يعلمون» «1» .
قال ابن حبان: أى اغفر لهم ذنبهم فى شج وجهى لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقا، إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم.
كذا قال- رحمه الله-. وقد روى عن عمر أنه قال فى بعض كلامه: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «2» الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» .
وهاهنا دقيقة؛ وهى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما شج عفا وقال «اللهم اهد قومى» ، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق قال: «اللهم املأ بطونهم نارا» «3» فتحمل الشجة الحاصلة فى وجه جسده الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة فى وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجح حتى خالقه على حقه.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2599) فى البر والصلة، باب: النهى عن لعن الدواب وغيرها، مقتصرا على طرفه الأول، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) سورة نوح: 26.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (627) فى المساجد، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر، من حديث على- رضى الله عنه-.(2/105)
واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله تعالى النفس على التألم بما يفعل بها، ولهذا شق عليه- صلى الله عليه وسلم- نسبتهم له إلى الجور فى القسمة، لكنه- عليه السّلام- حلم على القائل وصبر، لما علم من جزيل ثواب الصابر وأن الله يأجره بغير حساب. وصبره- صلى الله عليه وسلم- على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان الله فإنه يمتثل فيه أمر الله تعالى من الشدة كما قال له تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «1» وقد وقع له- صلى الله عليه وسلم- أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان فى أمر الله، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد فى الزجر. فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة- صلى الله عليه وسلم-.
وقد روى الطبرانى وابن حبان والحاكم والبيهقى عن زيد بن سعنة- بالمهملة والنون المفتوحتين، كما قيده به عبد الغنى وذكره الدار قطنى: وبالمثناة التحتية، ثبت فى الشفاء وصحح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذى ذكره ابن إسحاق، وهو كما قاله النووى: أجل أحبار اليهود الذين أسلموا- أنه قال:
لم يبق من علامات النبوة شىء إلا وقد عرفته فى وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل فأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت:
ألا تقضينى يا محمد حقى، فو الله إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فقال عمر:
أى عدو الله، أتقول لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أسمع فو الله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفى رأسك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة وتبسم ثم قال: «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا مكان ما رعته» ، ففعل، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد
__________
(1) سورة التوبة: 73.(2/106)
عرفتها فى وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما:
يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد اختبرتهما، فأشهدك أنى قد رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا «1» .
وعن أبى هريرة قال حدثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوما ثم قام، فقمنا حين قام فنظرنا إلى أعرابى قد أدركه فجبذه بردائه فحمر رقبته، وكان رداء خشنا، فالتفت إليه فقال له الأعرابى: احملنى على بعيرى هذين، فإنك لا تحملنى من مالك ولا من مال أبيك، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «لا، وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا أحملك حتى تقيدنى من جبذتك التى جبذتنى» ، فكل ذلك يقول له الأعرابى: والله لا أقيدكها، فذكر الحديث، قال: ثم دعا رجلا فقال له: «احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرا وعلى الآخر شعيرا» «2» رواه أبو داود.
ورواه البخارى من حديث أنس بلفظ: كنت أمشى مع النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية فأدركه أعرابى فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتقه وقد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لى من مال الله الذى عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء «3» .
وفى هذا بيان حلمه- صلى الله عليه وسلم- وصبره على الأذى فى النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وعن عائشة لم يكن النبى
__________
(1) أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (288) ، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 700) ، والطبرانى فى «الكبير» (5/ 222) .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4775) فى الأدب، باب: فى الحلم وأخلاق النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (8/ 33) فى القسامة، باب: القود من الجبذة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3149) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس وغيره، ومسلم (1057) فى الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة.(2/107)
- صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح «1» . رواه الترمذى، أى لم يكن له الفحش خلقا ولا مكتسبا. وروى البخارى من حديث ابن عمرو: ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفاحشا «2» ، وفى روايته أيضا من حديث أنس بن مالك: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- سبابا ولا فاحشا ولا لعانا «3» . والفحش: كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل فى القول والفعل والصفة، لكن استعماله فى القول أكثر: والمتفحش:
بالتشديد، الذى يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه.
وعن عائشة أن رجلا استأذن على النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، أو بئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبى- صلى الله عليه وسلم- فى وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت فى وجهه وانبسطت إليه. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة، متى عهدتينى فاحشا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» «4» ، رواه البخارى. قال ابن بطال: هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى، وكان يقال له الأحمق المطاع. وكذا فسره به القاضى عياض والقرطبى والنووى.
وأخرج عبد الغنى من طريق أبى عامر الخزاعى، عن عائشة قالت: جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- صوته قال: «بئس أخو العشيرة» . الحديث. والمراد بالعشيرة: الجماعة أو القبيلة، وإنما تطلق- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (2016) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى خلق النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (6/ 236) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3760) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6031) فى الأدب، باب: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (6023) فى الأدب، باب: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا، ومسلم (2591) فى البر والآداب، باب: مداراة من يتقى فحشه.(2/108)
فى وجهه تألفا له ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم. وقد جمع هذا الحديث كما قال الخطابى علما وأدبا، وليس قوله- صلى الله عليه وسلم- فى أمته بالأمور التى يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم فى بعض، بل الواجب عليه- صلى الله عليه وسلم- أن يبن ذلك ويفصح به، ويعرف الناس أمرهم فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة. ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدى به أمته فى اتقاء شر من هذا سبيله وفى مداراته ليسلموا من شره وغائلته. وقال القرطبى: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة فى دين الله.
ثم قال تبعا للقاضى حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهو مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبى- صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق فى مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقدير الإشكال ولله الحمد. وقال القاضى عياض: لم يكن عينية- والله أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا، فأراد النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه فى حياة النبى- صلى الله عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به- صلى الله عليه وسلم- من علامات النبوة، وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الائتلاف وفى فتح البارى: أن عيينة ارتد فى زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح فى عهد عمر. انتهى.
«وما انتقم- صلى الله عليه وسلم- لنفسه» «1» . رواه البخارى. فإن قلت: قد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل عقبة بن أبى معيط وعبد الله بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه- صلى الله عليه وسلم- وهذا ينافى قوله: «وما انتقم لنفسه» . فالجواب: أنهم كانوا مع
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3560) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2327) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى الله عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله.(2/109)
ذلك ينتهكون حرمات الله. وقيل: أراد أنه لا ينتقم إذا أوذى فى غير السبب الذى يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابى الذى جفا فى رفع صوته عليه، وعن الآخر الذى جبذ بردائه حتى أثر فى كتفه. وحمل الداودى عدم الانتقام على ما يختص بالمال، وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه.
وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهرى مطولا، وأوله: ما لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسلما بذكر- أى بصريح اسمه- وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يضرب فى سبيل الله، ولا سئل شيئا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما، ولا انتقم لنفسه من شىء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون لله ينتقم «1» . الحديث. ومما روى من اتساع خلقه وحلمه- صلى الله عليه وسلم-، اتساع خلقه لطائفة المنافقين، الذين كانوا يؤذونه إذا غاب ويتملقون له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية حتى تؤيدها العناية الربانية.
وكان- صلى الله عليه وسلم- كلما أذن له فى التشديد عليهم فتح لهم- صلى الله عليه وسلم- بابا من الرحمة، فكان يستغفر لهم ويدعو لهم، حتى أنزل الله عليه اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «2» ، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «خيرنى ربى فاخترت أن أستغفر لهم» ولما قال تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «3» ، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لأزيدن على السبعين» «4» وأمر ولد الذى تولى كبر النفاق والأذى منهم ببر أبيه، ولما مات كفنه فى ثوبه خلعه عن بدنه وصلى عليه، هذا وعمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- يجذبه بثوبه ويقول: يا رسول الله أتصلى على رأس المنافقين؟ فنتر ثوبه من عمر وقال: «إليك عنى يا عمر» «5» . فخالف مؤمنا وليّا فى حق منافق عدو، وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحرالى.
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 670) ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) سورة التوبة: 80.
(3) سورة التوبة: 80.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (4670) فى التفسير، باب: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، ومسلم (2400) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- بنحوه.
(5) انظر ما قبله.(2/110)
وقال النووى: قيل إنما أعطاه قميصه وكفنه فيه تطييبا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيّا صالحا وقد سأل ذلك فأجابه إليه، وقيل مكافأة لعبد الله المنافق الميت، لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا. وفى ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاق النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء، وقابله بالحسنى فألبسه قميصه كفنا وصلى عليه واستغفر له، قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» .
ومن ذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره. وعفا عن اليهودية التى سمته فى الشاة على الصحيح من الرواية. والله تعالى يرحم القائل:
وما الفضل إلا خاتم أنت فصه ... وعفوك نقش الفص فاختم به عذرى
ومن ذلك إشفاقه- صلى الله عليه وسلم- على أهل الكبائر من أمته، وأمره إياهم بالستر، فقال: «من بلى بهذه القاذورات» يعنى المحرمات «فليستتر» «2» .
وأمر أمته أن يستغفروا للمحدود ويترحموا عليه لما حنقوا عليه فسبوه ولعنوه، فقال: «قولوا اللهم اغفر له، اللهم ارحمه» «3» وقال لهم فى رجل كان كثيرا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة فقال: «لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله» «4» . فأظهر لهم مكتوم قلبه لما رفضوه بظاهر فعله، وإنما ينظر الله إلى القلوب، طهر الله قلوبنا وغفر عظيم ذنوبنا. ومن ذلك ما رواه الدار قطنى من حديث عائشة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصغى إلى الهرة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها «5» .
__________
(1) سورة القلم: 4.
(2) ضعيف: أخرجه مالك فى «الموطأ» (2/ 825) عن زيد بن أسلم مرسلا.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (4477) فى الحدود، باب: الحد فى الخمر، وأحمد فى «المسند» (2/ 299) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (6780) فى الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
(5) إسناده ضعيف: أخرجه الدار قطنى (1/ 66) بسند فيه عبد الله بن سعيد المقبرى، ضعيف.(2/111)
ومن ذلك اتساع خلقه فى شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه. وقال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان نور المشاهدة فى قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفى ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتنطبع للحق والخلق بمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها. وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- فى أوطان القرب وحسبك من تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أن خيره ربه تعالى بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، فاختار أن يكون نبيّا عبدا، فأعطاه الله تعالى بتواضعه أن جعله أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، وأول مشفع، فلم يأكل متكئا بعد ذلك حتى فارق الدنيا. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله» «1» رواه الترمذى.
ومن تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أنه لا ينهر خادما، روينا فى كتاب الترمذى عن أنس قال: خدمت النبى- صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لى أف قط ولا قال لشىء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشىء تركته لم تركته؟ «2» وكذلك كان- صلى الله عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحدا قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربانية.
وفى رواية مسلم: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . وقالت عائشة: ما ضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا قط بيده، ولا
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3445) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، وأحمد فى «المسند» (1/ 23 و 24 و 47) ، من حديث عمر- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6038) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (2309) فى الفضائل، باب: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2316) فى الفضائل، باب: رحمته- صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/112)
امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد فى سبيل الله، وما نيل منه شىء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شىء من محارم الله فينتقم لله «1» . رواه مسلم.
وسئلت عائشة: كيف كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا خلا فى بيته؟ قالت:
ألين الناس، بساما ضحاكا «2» ، لم ير قط مادّا رجليه بين أصحابه. وعنها: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما دعاه أحد من أصحابه إلا قال لبيك.
وعند أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان عنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يخيط ثوبه ويخصف نعله «3» ، وفى رواية لأحمد: ويرفع دلوه، وعنده أيضا: يفلى ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وهذا يتعين حمله على أوقات فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة. وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، وركب يوم بنى قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف «4» رواه الترمذى.
وعن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما أراد الانصراف قرب له سعد حمارا وطأ عليه بقطيفة، وركب- صلى الله عليه وسلم- ثم قال سعد: يا قيس، اصحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال قيس: فقال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«اركب» فأبيت، فقال: «إما أن تركب وإما أن تنصرف» . وفى رواية أخرى:
«اركب أمامى فصاحب الدابة أولى بمقدمها» «5» رواه أبو داود وغيره. وفى
__________
(1) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(2) إسناده ضعيف: أخرجه ابن سعد وابن عساكر، كما فى «ضعيف الجامع» (4386) .
(3) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 121 و 256 و 260) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5677 و 6440 و 5675) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4937) .
(4) ضعيف: أخرجه الترمذى (1017) فى الجنائز، باب: آخر، وقال الترمذى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس، ومسلم الأعور يضعف، هو مسلم بن كيسان الملائى.
(5) ضعيف الإسناد: أخرجه أبو داود (5185) فى الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل فى الاستئذان، وأحمد فى «المسند» (3/ 421) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(2/113)
البخارى من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من خيبر، وإنى لرديف أبى طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رديف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنها أمكم» ، فشددت الرحل، وركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، الحديث «1» . والمرأة: صفية، والردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه.
وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبى- صلى الله عليه وسلم- ليس بينى وبينه إلا آخرة الرحل. وقد ركب- صلى الله عليه وسلم- على حمار على إكاف عليه قطيفة فدكية أردف أسامة وراءه.
ولما قدم- صلى الله عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بنى عبد المطلب، فحمل واحدا بين يديه، وآخر خلفه. وقال ابن عباس: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه «2» ، رواه البخارى. وذكر المحب الطبرى فى مختصر السيرة النبوية له، أنه- صلى الله عليه وسلم- ركب حمارا عريا إلى قباء وأبو هريرة معه، قال: «يا أبا هريرة أأحملك» فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر فاستمسك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعا. ثم ركب- صلى الله عليه وسلم- ثم قال:
«يا أبا هريرة أأحملك» ؟ فقال: ما شئت يا رسول الله فقال: «اركب» فلم يقدر فتعلق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعا، ثم قال: «يا أبا هريرة أأحملك» فقال: لا والذى بعثك بالحق لا رميتك ثالثا «3» .
وذكر المحب الطبرى أيضا: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان فى سفر، وأمر أصحابه بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله على ذبحها، وقال الآخر: يا رسول الله، على سلخها، وقال آخر: يا رسول الله، على طبخها فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «علىّ جمع الحطب» فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال:
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5968) فى اللباس، باب: إرداف المرأة خلف الرجل.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5966) فى اللباس، باب: حمل صاحب الدابة غيره بين يديه.
(3) تقدم.(2/114)
«قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» انتهى. ولم أر هذا لغير الطبرى بعد التتبع نعم رأيت فى جزء تمثال النعل الشريف لأبى اليمن بن عساكر بعد أن روى حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الطواف فانقطعت شسعه فقلت: يا رسول الله ناولنى أصلحه، فقال: «أثرة ولا أحب الأثرة» «1» والأثرة: بفتح الهمزة والثاء، الاسم من آثر يؤثر إذا أعطى، والأثرة: الاستئثار وهو الانفراد بالشىء. قال: وكأنه كره- صلى الله عليه وسلم- أن ينفرد أحد بإصلاح نعله، فيحوز فضيلة الخدم فيكون له بمثابة الخادم ويكون له- صلى الله عليه وسلم- ترفع المخدوم على خادمه، كره ذلك- صلى الله عليه وسلم- لتواضعه وعدم ترفعه على من يصحبه.
ويؤيده ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- أراد أن يمتهن نفسه فى شىء فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: «قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» انتهى. ثم رأيت شيخنا فى الأحاديث المشتهرة حكى ذلك والله الموفق.
وعن أبى قتادة: وقد وفد النجاشى، فقام النبى- صلى الله عليه وسلم- يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، قال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم» «2» ذكره فى الشفاء.
وفى البخارى: عن أنس: كان الرجل يجعل للنبى- صلى الله عليه وسلم- النخلات حتى افتتح قريظة والنضير، وإن أهلى أمرونى أن آتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأسأله الذى كانوا أعطوه أو بعضه، وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب فى عنقى تقول: كلا والذى لا إله غيره لا نعطيكم وقد
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 244) وقال: رواه أبو يعلى والطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف، وفى (9/ 21) وقال: رواه البزار وفيه من لم أعرفه.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 307) .(2/115)
أعطانيها- أو كما قال- والنبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لك كذا» وتقول كلا والله، حتى أعطاها- حسبت أنه قال- عشرة أمثاله «1» أو كما قال.
وإنما فعلت هذا أم أيمن لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤبدة وتمليكا لأصل الرقبة، وأراد النبى- صلى الله عليه وسلم- استطابة قلبها فى استرداد ذلك فلاطفها وما زال يزيدها فى العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه- صلى الله عليه وسلم- وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ولا يخفى ما فى هذا من فرط جوده وكثرة حلمه وبره- صلى الله عليه وسلم-.
وجاءته- صلى الله عليه وسلم- امرأة كان فى عقلها شىء، فقالت: إن لى إليك حاجة، فقال: «اجلسى فى أى سكك المدينة شئت أجلس إليك» ، وفى رواية مسلم: «حتى أقضى حاجتك» ، فخلا معها فى بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها «2» . ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه- صلى الله عليه وسلم-.
وقال عبد الله بن أبى الحمساء- بالحاء المهملة المفتوحة والميم الساكنة والسين المهملة وفى آخره همزة ممدودة- بايعت النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه، فنسيت فذكرت بعد ثلاث فإذا هو فى مكانه فقال: «لقد شققت على، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» «3» . رواه أبو داود.
وقال ابن أبى أوفى: كان- عليه السّلام- لا يأنف أن يمشى مع الأرملة والمسكين فيقضى له الحاجة «4» . رواه النسائى. وفى رواية البخارى: إن كانت
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4120) فى المغازى، باب: مرجع النبى- صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، ومسلم (1771) فى الجهاد والسير، باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2326) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (4996) فى الأدب، باب: فى العدة، والبيهقى فى «الكبرى» (10/ 198) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 108) فى السهو، باب: ما يستحب من تقصير الخطبة، والدارمى فى «سننه» (74) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5005) .(2/116)
الأمة لتأخذ بيد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت «1» ، وفى رواية أحمد: فتنطلق به فى حاجتها، وعنده أيضا إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجىء فتأخذ بيد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.
والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الانقياد.
وقد اشتمل على أنواع من المبالغة فى التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء، أى: أى أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت، أى من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها فى تلك الحالة لساعدها على ذلك. وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر- صلى الله عليه وسلم-.
ودخل الحسن وهو يصلى قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ فى سجوده حتى نزل الحسن، فلما فرغ قال له بعض أصحابه: يا رسول الله قد أطلت سجودك. قال: «إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعجله» «2» . أى جعلنى كالراحلة فركب على ظهرى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يعود المرضى، ويشهد الجنازة.
أخرجه الترمذى فى الشمائل. وحج- صلى الله عليه وسلم- على رحل رث وعليه قطيفة لا تساوى أربعة دراهم. فقال: «اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» «3» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بانيتهم فيها الماء، فما
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6072) فى الأدب، باب: الكبر، وابن ماجه (4177) فى الزهد، باب: البراءة من الكبر والتواضع، وأحمد فى «المسند» (3/ 98 و 174 و 215) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (2/ 263) ، وهو فى الصحيحين بنحوه، ولكن مع أمامة ابنة زينب- رضى الله عنها-.
(3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 221) عن ابن عباس وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أحمد بن محمد بن القاسم بن أبى بزة ولم أعرفه.(2/117)
يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاؤوه فى الغداة الباردة فيغمس يده فيها «1» . رواه مسلم والترمذى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- حسن العشرة مع أزواجه، وكان- صلى الله عليه وسلم- ينام مع أزواجه. قال النووى: وهو ظاهر فعله الذى واظب عليه مع مواظبته- صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، فينام مع إحداهن، فإذا أراد القيام لوظيفته قام وتركها، فيجمع بين وظيفته وأداء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف. وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته فى فراش واحد أفضل، لا سيما إذا عرف من حالها حرصها على هذا، ولا يلزم من نومه معها الجماع والله أعلم.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها «2» . رواه الشيخان. وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فمها وشرب رواه مسلم. وإذا تعرقت عرقا- وهو العظم الذى عليه اللحم- أخذه فوضع فمه على موضع فمها «3» . رواه مسلم أيضا. وكان يتكئ فى حجرها، ويقبلها وهو صائم «4» . رواه الشيخان.
وكان يريها الحبشة وهم يلعبون فى المسجد وهى متكئة على منكبه «5» .
رواه الشيخان. ورواه الترمذى بلفظ: قام- صلى الله عليه وسلم- فإذا حبشة تزفن والصبيان
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2324) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6130) فى الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (2440) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة- رضى الله تعالى عنها-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (300) فى الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (300) فى الحيض، باب: النوم مع الحائض وهى فى ثيابها، ومسلم (1106) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (455) فى المساجد، باب: أصحاب الحراب فى المسجد، ومسلم (892) فى صلاة العيدين، باب: الرخصة فى اللعب الذى لا معصية فيه، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(2/118)
حولها، فقال: «يا عائشة تعالى فانظرى» فجئت فوضعت لحيى على منكب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لى:
«أما شبعت أما شبعت» فجعلت أقول: لا، لا «1» . وقال: حسن صحيح غريب.
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- سابقها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، قال:
«هذه بتلك» «2» . رواه أبو داود بلفظ: سابقته فى سفر فسبقته على رجلى، فلما حملت اللحم سابقته فسبقنى فقال: «هذه بتلك السبقة» .
وعن أنس بن مالك: أنهم كانوا يوما عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت عائشة- رضى الله عنها-، إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ضعوا أيديكم» فوضع نبى الله يده ووضعنا أيدينا فأكلنا، وعائشة تصنع طعاما عجلته قد رأت الصحفة التى أتى بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كلوا بسم الله، غارت أمكم» ثم أعطى صحفتها أم سلمة فقال: «طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء» «3» . رواه الطبرانى فى الصغير.
وهو عند البخارى بلفظ: كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التى النبى فى بيتها يد الخادم فسقطت
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3691) فى المناقب، باب: رقم (17) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2578) فى الجهاد، باب: فى السبق على الرجل، وابن ماجه (1979) فى النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، وأحمد فى «المسند» (6/ 39 و 264) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: وأصل الحديث عند البخارى (2481) فى المظالم والغضب، باب: إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره، وأبو داود (3567) فى البيوع، باب: فيمن أفسد شيئا يغرم مثله، والترمذى (1359) فى الأحكام، باب: ما جاء فيمن يكسر له الشىء ما يحكم له من مال الكاسر، والنسائى (7/ 70) فى عشرة النساء، باب: الغيرة، وابن ماجه (2334) فى الأحكام، باب: الحكم فيمن كسر شيئا، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/119)
الصحفة وانفلقت، فجمع النبى- صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذى كان فى الصحفة ويقول: «غارت أمكم» ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التى هو فى بيتها، فدفع الصحفة إلى التى كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة فى بيت التى كسرت.
وعند أحمد وأبى داود والنسائى، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- إناء من طعام، فما ملكت نفسى أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: «إناء كإناء وطعام كطعام» وعند غيرهم: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام- صلى الله عليه وسلم- يلتقط اللحم والطعام وهو يقول: «غارت أمكم» فلم يثرب عليها.
فوسع خلقه الكريم آثار طفحات آثار غيرتها، ولم يتأثر، وقضى عليها بحكم الله فى القصاص. وهكذا كانت أحواله- صلى الله عليه وسلم- مع أزواجه، لا يأخذ عليهن ويعذرهن، وإن أقام عليهن قسطاس عدل أقامه بغير قلق ولا غضب، بل رؤوف رحيم، حريص عليهن وعلى غيرهن، عزيز عليه ما يعنتهم.
قيل: وفى هذا الحديث إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيرى فيما يصدر منها، لأنها فى تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذى أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعا، «إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادى من أعلاه» «1» انتهى.
وعن عائشة- رضى الله عنها-: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة- والنبى- صلى الله عليه وسلم- بينى وبينها-: كلى، فأبت، فقلت لها: كلى، فأبت، فقلت لها: لتأكلين أو لألطخن بها وجهك، فأبت فوضعت يدى فى الخزيرة فلطخت بها وجهها فضحك النبى- صلى الله عليه وسلم- فوضع فخذه لها وقال لسودة:
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 322) وقال: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وسلمة بن الفضل، وقد وثقه جماعة، ابن معين وابن حبان وأبو حاتم، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد رواه أبو الشيخ فى كتاب الأمثال، وليس فيه غير أسامة بن زيد الليثى، وهو من رجال الصحيح وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.(2/120)
«الطخى وجهها» فلطخت بها وجهى فضحك- صلى الله عليه وسلم- الحديث رواه ابن غيلان من حديث الهاشمى وخرجه الملاء فى سيرته. والخزيرة: لحم يقطع صغارا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق.
وبالجملة؛ فمن تأمل سيرته- صلى الله عليه وسلم- مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والأضياف والمساكين، علم أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه الغاية التى لا مرمى وراءها لمخلوق. وإن كان يشتد فى حدود الله وحقوقه ودينه، حتى قطع يد السارق، إلى غير ذلك.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يباسط أصحابه بما يولج حبه فى القلوب، كان له رجل من البادية يسمى زهيرا، وكان يهادى النبى- صلى الله عليه وسلم- بموجود البادية بما يستطرف منها، وكان- صلى الله عليه وسلم- يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول: «زهير باديتنا، ونحن حاضرته» وكان- صلى الله عليه وسلم- يحبه، فمشى- صلى الله عليه وسلم- يوما إلى السوق فوجده قائما، فجاء من قبل ظهره وضمه بيده إلى صدره فأحس زهير أنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: فجعلت أمسح ظهرى فى صدره رجاء بركته.
وفى رواية الترمذى فى الشمائل: فاحتضنه من خلفه ولا يبصره، فقال أرسلنى، من هذا؟ فالتفت فعرف النبى- صلى الله عليه وسلم- فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبى- صلى الله عليه وسلم- حين عرفه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من يشترى العبد» فقال له زهير: يا رسول الله، إذن تجدنى كاسدا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أنت عند الله غال» ، وفى رواية للترمذى أيضا: «لكن عند الله لست بكاسد» ، أو قال: «أنت عند الله غال» «1» .
وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم أن رجلا كان يهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- العكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (121) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 161) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5790) ، والبيهقى فى «الكبرى» (6/ 169) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/121)
فقال: أعط هذا حق متاعه، فما يزيد النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يتبسم، ويأمر به فيعطى «1» .
ووقع فى حديث محمد بن عمرو بن حزم: وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله، هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول: «ألم تهده لى» فيقول ليس عندى، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقّا، كما روى أبو هريرة، وقد قال له رجل كان فيه بله: يا رسول الله احملنى، فباسطه- صلى الله عليه وسلم- من القول بما عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك، فقال: «أحملك على ابن الناقة» فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه البنوة فقال: يا رسول الله، ما عسى يغنى عنى ابن الناقة، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «ويحك وهل يلد الجمل إلا الناقة» «2» روى حديثه الترمذى وأبو داود.
وباسط عمته صفية وهى عجوز فقال لها: «إن الجنة لا تدخلها عجوز» ، فلما جزعت قال لها: «إنك تعودين إلى صورة الشباب فى الجنة» وفى رواية الترمذى عن الحسن: أتته- صلى الله عليه وسلم- عجوز فقالت: يا رسول الله، ادع الله لى أن يدخلنى الجنة، فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز» قال فولت تبكى فقال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز» إن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً «3» «4» وذكره رزين.
__________
(1) مرسل: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 148) وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4998) فى الأدب، باب: ما جاء فى المزاح، والترمذى (1991) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى المزاح، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) سورة الواقعة: 35، 36.
(4) ضعيف: أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (122) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 419) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف.(2/122)
وكان- صلى الله عليه وسلم- يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويؤنسهم. ويأخذ معهم فى تدبير أمورهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم فى حجره، ومع ذلك سره فى الملكوت يجول حيث أراد الله به. والدعابة: - بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد الألف موحدة- هى الملاطفة فى القول بالمزاح وغيره.
وقد أخرج الترمذى وحسنه من حديث أبى هريرة؛ قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: «إنى لا أقول إلا حقّا» «1» .
وما ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- فى النهى عن المداعبة محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر فى مهمات الدين وغير ذلك. والذى يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب- كما كان هو فعله- صلى الله عليه وسلم- فهو مستحب. وقال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا، وكان لى أخ يقال له: أبو عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل على النبى- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فرآه حزينا فقال: «ما شأنه» قالوا:
مات نغره، فقال: «يا أبا عمير ما فعل النغير» «2» . رواه البخارى ومسلم.
وفى رواية الترمذى قال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لى صغير «يا أبا عمير ما فعل النغير» . قال الجوهرى: النغير: تصغير نغر، والنغر جمع النغرة وهو طائر صغير كالعصفور، والجمع نغران مثل صرد وصردان.
وكان قد ألقى عليه مع الدعابة المهابة، ولقد جاء إليه- صلى الله عليه وسلم- رجل فقام بين يديه فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له: «هون عليك، فإنى لست بملك ولا جبار إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة» فنطق الرجل بحاجته، فقام- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أيها الناس إنى أوحى إلى أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (1990) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى المزاح، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2509) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6129) فى الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (2150) فى الأداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/123)
الله إخوانا» «1» . فسكن- صلى الله عليه وسلم- روعه شفقة، لأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية بقوله: «فإنى لست بملك» لما يلزمها من الجبروتية، وقال: «إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد» «2» تواضعا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة. ولما رأته- صلى الله عليه وسلم- قيلة بنت مخرمة فى المسجد، وهو قاعد القرفصاء، ارتعدت من الفرق «3» رواه أبو داود. وروى مسلم عن عمرو بن العاصى قال: صحبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ما ملأت عينى منه قط حياء منه وتعظيما له، ولو قيل لى صفه لما قدرت «4» ، أو كما قال.
وإذا كان هذا قوله وهو من أجلة الصحابة، ولولا أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يباسطهم ويتواضع لهم ويؤنسهم لما قدر أحد منهم أن يقعد معه ولا أن يسمع كلامه- عليه الصلاة والسلام- لما رزقه الله تعالى من المهابة والجلالة. يبين ذلك ويوضحه ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا فرغ من ركوع الفجر حدث عائشة إن كانت مستيقظة، وإلا اضطجع بالأرض ثم خرج بعد ذلك إلى الصلاة، وما ذاك إلا أنه- صلى الله عليه وسلم- لو خرج على تلك الحالة التى كان عليها، وما حصل له من القرب والتدانى فى مناجاته وسماع كلام ربه وغير ذلك من الأحوال التى يكل اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه ولا يباشره، فكان- صلى الله عليه وسلم- يتحدث مع عائشة أو يضطجع بالأرض حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة، أو جنس أصل الخلقة التى هى الأرض.
ثم يخرج إليهم، وما ذاك إلا رفقا بهم، وكان بالمؤمنين رحيما. قاله ابن الحاج فى المدخل.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2865) فى الجنة وصفة نعيمها، باب: الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، من حديث عياض بن حمار المجاشعى- رضى الله عنه-، بدون ذكر قصة الحديث.
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجة (2312) فى الأطعمة، باب: القديد، من حديث أبى مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(3) حسن: أخرجه أبو داود (4847) فى الأدب، باب: فى جلوس الرجل، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (121) فى الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج.(2/124)
وقد جاء فى الحديث أنه لما خير بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا نظر- صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل كالمستشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، فاختار- صلى الله عليه وسلم- العبودية «1» ، فلما كان تواضعه- صلى الله عليه وسلم- إلى الأرض حيث أشار جبريل أورثه الله تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفرف الأعلى، إلى حضرة قاب قوسين أو أدنى، ووقف بين يديه محمود بن الربيع، وهو صغير ابن خمس سنين، فمج- صلى الله عليه وسلم- فى وجهه مجة من ماء من دلو يمازحه بها، فكان فى ذلك من البركة أنه لما كبر لم يبق فى ذهنه من ذكر رؤية النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا تلك المجة «2» ، فعد بها من الصحابة وحديثه مذكور فى البخارى.
ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة وهو فى مغتسله، فنضح الماء فى وجهها، فكان فى ذلك من البركة فى وجهها أنه لم يتغير، فكان ماء الشباب ثابتا فى وجهها ظاهرا فى رونقها وهى عجوز كبيرة «3» . وحديثها مذكور فى البخارى. فقد علمت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان مع أصحابه وأهله، ومع الغريب والقريب من سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه والمزح بالحق مع الصغير والكبير أحيانا، وإجابة الداعى ولين الجانب حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه.
وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبا أو مستحبا أو مباحا، فكان يباسط الخلق ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته فى ظلمات دياجى الجهل، ويقتدوا بهديه- صلى الله عليه وسلم-.
وقد كانت مجالسه مع أصحابه- رضى الله عنهم- عامتها مجالس تذكير بالله،
__________
(1) هذه القصة ذكرها الهيثمى فى «المجمع» (9/ 18- 19) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- وقال: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال الأوليين رجال الصحيح.
(2) صحيح: والحديث عند البخارى (189) فى الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس.
(3) القصة ذكرها الحافظ فى الإصابة، أما حديثها فى البخارى فهو ليس سماعا، حيث ليس لها حديث مرفوع، بل كل أحاديثها بواسطة لصغر سنها.(2/125)
وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما نفع فى الدين، كما أمره الله تعالى أن يذكر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر، فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقة القلوب، والزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة، كما ذكره أبو هريرة فيما رواه أحمد والترمذى وابن حبان فى صحيحه قال: قلنا: يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا وزهدنا فى الدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهلنا وشممنا أولادنا وأنكرنا أنفسنا. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لو أنكم إذا خرجتم من عندى كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة فى بيوتكم» «1» الحديث.
وقوله: عافسنا: - بالعين المهملة بعد الألف فاء فسين مهملة ساكنة- أى: عالجنا أهلنا ولاعبناهم.
ومن تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أنه ما عاب ذواقا قط، ولا عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه «2» رواه الشيخان. وهذا إن كان الطعام مباحا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأن صنعة الله تعالى لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب. قال فى فتح البارى: والذى يظهر:
التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع. قال النووى: ومن آداب الطعام المتأكدة:
أن لا يعاب، كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ، رقيق، غير ناضج ونحو ذلك.
ومن تواضعه: أن هذه الدنيا شاع سبها فى العالمين، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا الدنيا» «3» ، ثم مدحها فقال: «نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير،
__________
(1) قلت: هو فى صحيح مسلم (2750) فى التوبة، باب: فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة، من حديث حنظلة الأسيدى- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3563) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2064) فى الأشربة، باب: لا يعيب الطعام، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه الديلمى وابن النجار عن ابن مسعود، كما فى «كنز العمال» (3029 و 6343) .(2/126)
وبها ينجو من الشر» «1» . وقال: «لا تسبوا الدهر» ، رواه البخارى من حديث أبى هريرة بلفظ: «ولا تقولوا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر» «2» . وفى لفظ له: «يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر، بيدى الليل والنهار» وعند مسلم فى حديث بلفظ «لا يسب أحدكم الدهر» . ومحصل ما قيل فى تأويله، ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المراد بقوله: إن الله هو الدهر، أى: المدبر للأمور.
ثانيها: أنه على حذف مضاف. أى: صاحب الدهر.
ثالثها: التقدير: مقلب الدهر. ولذلك عقبه بقوله فى رواية البخارى:
بيدى الليل والنهار.
وقال المحققون: من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكن يكره ذلك لتشبهه بأهل الكفر فى الإطلاق. وما خير- صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه «3» . رواه البخارى. أى بين أمرين من أمور الدنيا لا إثم فيهما، وأبهم «فاعل» خير ليكون أعم، من قبل الله أو من قبل المخلوقين. وقوله: إلا اختار أيسرهما وقوله: ما لم يكن إثما:
أى لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم فإنه حينئذ يختار الأشد. وفى حديث أنس عند الطبرانى فى الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط.
ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح.
ومن تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن له بواب راتب، كما جاء عن أنس أنه قال: مر النبى- صلى الله عليه وسلم- بامرأة وهى تبكى عند قبر، فقال: «اتقى الله
__________
(1) هو تتمة ما قبله.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6181 و 6182) فى الأدب، باب: لا تسبوا الدهر، ومسلم (2246) فى الألفاظ من الأدب، باب: النهى عن سب الدهر.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3560) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2327) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى الله عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(2/127)
واصبرى» ، فقالت: إليك عنى فإنك خلو من مصيبتى، قال فجاوزها ومضى. فمر بها رجل فقال لها؛ ما قال لك رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: ما عرفته. قال: إنه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا «1» . الحديث رواه البخارى. لكن فى حديث أبى موسى: أنه كان بوابا للنبى- صلى الله عليه وسلم- لما جلس على القف «2» . وجمع بينهما: بأنه- صلى الله عليه وسلم- إذا لم يكن فى شغل من أهله ولا انفراد من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة إليه. وفى حديث عمر حين استأذن له الأسود فى قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا، ففيه: أنه كان فى وقت خلوته بنفسه يتخذ بوابا، ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه ولم يحتج إلى قوله يا رباح استأذن لى. لكن يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشى أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلما أذن له اطمأن.
وقد اختلف فى مشروعية الحجاب للحاكم. فقال الشافعى وجماعة:
ينبغى أن يكون للحاكم أن لا يتخذ حاجبا. وذهب آخرون: إلى جوازه.
وحمل الأول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم، وقال آخرون: بل يستحب ذلك حينئذ ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل، ويدفع الشرير، والله أعلم.
وأما ما روى من حيائه- صلى الله عليه وسلم-؛ فحسبك ما فى البخارى من حديث أبى سعيد: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء فى خدرها «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1283) فى الجنائز، باب: زيارة القبور، ومسلم (926) فى الجنائز، باب: فى الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3693) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى الله عنه-، ومسلم (2403) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان- رضى الله عنه-. وقف البئر: هو الدكة التى تجعل حولها.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3562) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2320) فى الفضائل، باب: كثرة حيائه- صلى الله عليه وسلم-.(2/128)
والعذراء: هى البكر. والخدر: - بكسر الخاء المعجمة- أى فى سترها. وهو من باب التتميم، لأن العذراء فى الخدر يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجة عنه، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل بها. فالظاهر: أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها فى خدرها لا حيث تكون منفردة فيه. والحياء- بالمد- وهو من الحياء، ومنه: الحيا للمطر، لكن هو مقصور. وعلى حسب حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وكلما كان القلب حيّا كان الحياء أتم. وهو فى اللغة: تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشىء بسبب. والترك إنما هو من لوازمه. وفى الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير فى حق ذى الحق.
وقال ذو النون: «الحياء وجود الهيبة فى القلب، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق والحياء يسكت، والخوف يقلق» .
وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعا استخيا منه وهو مذنب. وهذا الكلام يحتاج إلى شرح ومعناه: أن من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى فى حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستحى خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحيا الله من نظره إليه فى تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحى أن يرى من وليه ما يشينه عنده. وفى الشاهد. شاهد بذلك، فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه، من صاحب أو ولد أو من يحبه، وهو يخونه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب حتى كأنه هو الجانى. وهذا غاية الكرم. وللحياء أقسام ثمانية يطول استقصاؤها.
منها: حياء الكرم، كحيائه- صلى الله عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحيا أن يقول لهم انصرفوا «1» .
__________
(1) القصة أخرجها البخارى (4793) فى التفسير، باب: قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ... ، ومسلم (1428) فى النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش- رضى الله عنها-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/129)
ومنها: حياء المحب من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه فى حال غيبته هاج الحياء من قلبه وأحس به فى وجهه، فلا يدرى ما سببه.
ومنها: حياء العبودية، وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استيحاءه منه لا محالة.
ومنها: حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون، فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كأن له نفسين، يستحى بإحداهما من الآخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحى من غيره أجدر.
والحياء- كما قال- صلى الله عليه وسلم- «لا يأتى إلا بخير» «1» ، «وهو من الإيمان» «2» ، كما رواهما البخارى. قال القاضى عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان- وإن كان غريزة- لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم. وقال القرطبى: الحياء المكتسب هو الذى جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزى. غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، حتى يكاد يكون غريزيّا، وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- قد جمع له النوعان، فكان فى الغريزى أشد حياء من العذراء فى خدرها.
وقال القاضى عياض: وروى عنه- صلى الله عليه وسلم-: كان من حيائه لا يثبت بصره فى وجه أحد.
وأما خوفه- صلى الله عليه وسلم- ربه جل وعلا، فاعلم أن الخوف والوجل والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة. قال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجارى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6117) فى الأدب، باب: الحياء، ومسلم (37) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: وهو يشير إلى حديث «الإيمان بضع وسبعون شعبة..» ، والحديث أخرجه البخارى (9) فى الإيمان، باب: أمور الإيمان، ومسلم (35) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/130)
الأنفاس. وقيل الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. وقيل الخوف: قوة العلم بمجارى الأحكام، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه.
وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره. والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى: قال الله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «1» ، فهو خوف مقرون بمعرفة. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أتقاكم لله وأشدكم له خشية» «2» فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذى يرى العدو والسيل ونحوهما له حالتان: إحداهما حركة للهرب منه وهى حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره فى مكان لا يصل إليه وهى الخشية.
وأما الرهبة: فهى الإمعان فى الهرب من المكروه، وهى ضد الرغبة التى هى سفر القلب فى طلب المرغوب فيه. وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته. وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما تكون مع المعرفة والمحبة. والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.
فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» «3» رواه البخارى، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» «4» رواه البخارى
__________
(1) سورة فاطر: 28.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (20) فى الإيمان، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أعلمكم بالله» ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وأخرجه مسلم (1108) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: وقد تقدم تخريجه فى الحديث السابق.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1044) فى الكسوف، باب: الصدقة فى الكسوف، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها- وأخرجه البخارى (6485) فى الرقاق، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو تعلمون ما أعلم» من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/131)
من حديث أبى هريرة، وفيه دلالة على اختصاصه- صلى الله عليه وسلم- بمعارف بصرية وقلبية. وقد يطلع الله تعالى عليها غيره من المخلصين من أمته لكن بطريق الإجمال، وأما تفصيلها فاختص بها- صلى الله عليه وسلم-.
وفى صحيح مسلم من حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «والذى نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» قالوا: وما رأيت يا رسول الله قال: «رأيت الجنة والنار» «1» .
فقد جمع الله له بين علم اليقين وعين اليقين مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا قال: «إن أتقاك وأعلمكم بالله أنا» «2» وهو فى الصحيح من حديث عائشة: وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء «3» رواه النسائى وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحه بلفظ: كأزيز الرحا، أى خنين من الخوف- بالخاء المعجمة- وهو صوت البكاء. وقيل: وهو أن يجيش جوفه ويغلى بالبكاء.
وأما ما روى من شجاعته- صلى الله عليه وسلم- ونجدته وقوته فى الله وشدته، فعن أنس: (كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس) ، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبى طلحة عرى والسيف فى عنقه وهو يقول: «لن تراعوا» .
وفى رواية: كان فزع بالمدينة فاستعار النبى- صلى الله عليه وسلم- فرسا من أبى طلحة يقال له المندوب، فركب فلما رجع قال: «ما رأينا من شىء، وإن وجدناه
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (426) فى الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود.
(2) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (904) فى الصلاة، باب: البكاء فى الصلاة، والنسائى (3/ 13) فى السهو، باب: البكاء فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 25) ، وابن حبان فى «صحيحه» (665 و 753) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (900) من حديث عبد الله بن الشخير- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/132)
لبحرا، أو إنه لبحر» . قال وكان فرسا يبطؤ «1» رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى.
وللبخارى: إن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبى- صلى الله عليه وسلم- فرسا لأبى طلحة كان يقطف، أو فيه قطاف، فلما رجع قال: «وجدنا فرسكم ها بحرا» فكان بعد لا يجارى. وفى أخرى له: ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: «لن تراعوا إنه لبحر، فما سبق بعد ذلك اليوم» .
قوله لن تراعوا: أى روعا مستقرا، أو روعا يضربكم.
وفى هذا الحديث بيان شجاعته- صلى الله عليه وسلم- من شدة عجلته فى الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس. وفيه:
بيان عظيم بركته ومعجزته فى انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان بطيئا وهو معنى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وجدناه بحرا» أى واسع الجرى. وكان فيه قطاف:
يقال: قطف الفرس فى مشيه إذا تضايق خطوه وأسرع مشيه.
قال القاضى عياض: وقد كان فى أفراسه- صلى الله عليه وسلم- فرس يقال له:
مندوب، فلعله صار إليه بعد أبى طلحة. وقال النووى: يحتمل أنهما فرسان اتفقا فى الاسم. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» . وذكر ابن إسحاق فى كتابه وغيره: أنه كان بمكة رجل شديد القوة يحسن الصراع وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم. فبينا هو ذات يوم فى شعب من شعاب مكة إذ لقيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له:
«يا ركانة ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه» - أو كما قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له ركانة: يا محمد، هل من شاهد يدل على صدقك؟ قال:
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3908) فى الجهاد والسير، باب: الحمائل وتعليق السيف بالعنق، ومسلم (2307) فى الفضائل، باب: فى شجاعة النبى- عليه السّلام- وتقدمه للحرب، وأبو داود (4988) فى الأدب، باب: ما روى فى الرخصة فى ذلك، والترمذى (1687) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الخروج عند الفزع، وابن ماجه (2772) في الجهاد، باب: الخروج فى النفير.
(2) صحيح: أخرجه الدارمى فى «سننه» (59) بسند صحيح.(2/133)
«أرأيت إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟» قال: نعم يا محمد، فقال له:
«تهيأ للمصارعة» قال: تهيأت، فدنا منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذه ثم صرعه، قال فتعجب ركانة من ذلك، ثم سأله الإقالة والعودة، ففعل به ذلك ثانيا وثالثا. فوقف ركانة متعجبا وقال: إن شأنك لعجيب «1» . رواه الحاكم فى مستدركه عن أبى جعفر محمد بن ركانة المصارع، ورواه أبو داود والترمذى وكذا البيهقى من رواية سعيد بن جبير.
وقد صارع- صلى الله عليه وسلم- جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحى، كما قاله السهيلى. ورواه البيهقى، وكان شديدا بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة، ويجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المصارعة وقال: إن صرعتنى آمنت بك، فصرعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن وفى قصته طول.
وفى البخارى من حديث البراء، وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ فقال: فأكببنا على المغانم فاستقبلنا بالسهام.
ولقد رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» «2» .
وهذا فى غاية ما يكون من الشجاعة التامة، لأنه فى مثل هذا اليوم فى حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة ليست بسريعة الجرى، ولا تصلح لكر ولا فر ولا هرب، ومع ذلك يركضها إلى وجوههم، وينوه باسمه ليعرفه من ليس يعرفه- صلوات الله وسلامه عليه-. وفى حديث البراء: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أى جعلناه قدامنا واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه.
__________
(1) أخرجه أبو داود (4078) فى اللباس، باب: فى العمائم، والترمذى (1784) فى اللباس، باب: العمائم على القلانس، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 511) وأبو يعلى فى «مسنده» (1412) ، والطبرانى فى «الكبير» (5/ 71) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2864) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (1776) فى الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.(2/134)
وأما ما ذكر من سخائه وجوده وكرمه، فاعلم أن السخاء صفة غريزية، وفى مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» فحكم بالفلاح لمن وقى الشح، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل فقال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «2» أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «3» والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين. وليس الشح من الآدمى بعجيب، لأنه جبلى فيه، وإنما العجب وجود السخاء فى الغريزة، والسخاء أتم وأكمل من الجود، وفى مقابلته البخل، وفى مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق انتهى الاكتساب بطريق العادة بخلاف الشح والسخاء إذ كان ذلك من ضرورة الغريزة، فكل سخى جواد وليس كل جواد سخيّا. والجود يتطرق إليه الرياء، ويأتى به الإنسان متطلعا لغرض من الخلق أو الحق بمقابلة من الثناء أو غير ذلك من الخلق والثواب من الله تعالى، ولا يتطرق الرياء إلى السخاء لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض. أشار إليه فى عوارف المعارف.
وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس «4» رواه البخارى ومسلم من حديث أنس. وأجود: أفعل تفضيل، من الجود وهو إعطاء ما ينبغى لمن ينبغى، ومعناه: هو أسخى الناس، ولما كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة لابد أن يكون فعله أحسن الأفعال، وشكله أملح الأشكال، وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شك يكون أجود الناس، وكيف لا وهو مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكلم، لأنها أمهات
__________
(1) سورة الحشر: 9.
(2) سورة البقرة: 3، وسورة الأنفال: 3، وسورة الحج: 35، وسورة القصص: 54، وسورة السجدة: 16، وسورة الشورى: 38.
(3) سورة البقرة: 5.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (2820) فى الجهاد والسير، باب: الشجاعة فى الحرب والجبن، ومسلم (2307) فى الفضائل، باب: فى شجاعة النبى- صلى الله عليه وسلم- وتقدمه للحرب.(2/135)
الأخلاق، فإن فى كل إنسان ثلاث قوى: إحداها الغضبية، وكمالها الشجاعة، وثانيها، الشهوانية وكمالها الجود، وثالثها العقلية وكمالها النطق بالحكمة.
وفى رواية لمسلم عنه: ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخاف الفقر «1» . وعنده أيضا عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أعطانى وإنه لمن أبغض الناس إلى، فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلى «2» . قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة. وفى مغازى الواقدى: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- أعطى صفوان يومئذ واديا مملوآ إبلا ونعما، فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبى. ويرحم الله ابن جابر حيث قال:
هذا الذى لا يتقى فقرا إذا ... يعطى ولو كثر الأنام وداموا
واد من الأنعام أعطى آملا ... فتحيرت لعطائه الأوهام
وإنما أعطاه ذلك لأنه- صلى الله عليه وسلم- علم أن داءه لا يزول إلا بهذا الدواء وهو الإحسان فعالجه به حتى برئ من داء الكفر وأسلم، وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته- صلى الله عليه وسلم- إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حر النيران إلى برد لطف الجنان. وكان على إذا وصفه- صلى الله عليه وسلم- قال: كان أجود الناس كفّا، وأصدق الناس لهجة. وخرج ابن عدى- بإسناد فيه ضعف- من حديث أنس مرفوعا: «أنا أجود بنى آدم» «3» .
فهو- صلى الله عليه وسلم- بلا ريب أجود بنى آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم فى جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2312) فى الفضائل، باب: ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا قط فقال: لا، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2313) فيما سبق.
(3) إسناده ضعيف: أخرجه ابن عدى فى «الكامل» (1/ 357) .(2/136)
بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله فى إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولقد أحسن ابن جابر حيث قال:
يروى حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومنسجم
من وجه أحمد لى بدر ومن يده ... بحر ومن فمه در لمنتظم
يمم نبيّا تبارى الريح أنمله ... والمزن من كل هام الودق مرتكم
لو عامت الفلك فيما فاض من يده ... لم تلق أعظم بحر منه إن تعم
تحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودع كل طامى الموج ملتطم
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وروت قلب كل ظمى
فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحاب من غمائم يمينه. روى البخارى من حديث جابر: (ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن شىء قط فقال: لا) «1» وكذا عند مسلم، أى ما طلب منه شىء من أمر الدنيا فمنعه: قال الفرزدق:
ما قال لا قط إلا فى تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم
لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل ابن حجر: ليس المراد أنه يعطى ما يطلب منه جزما، بل المراد: أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت. قال: وقد ورد بيان ذلك فى حديث مرسل لابن الحنيفة عند ابن سعد ولفظه: إذا سئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت. وهو قريب من حديث أبى هريرة؛ ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه: لم يقل: لا، منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما فى قوله تعالى: قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ «2» ، ولا يخفى الفرق بين
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6034) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (2311) فى الفضائل، باب: ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا قط فقال: لا.
(2) سورة التوبة: 92.(2/137)
قوله: لا أجد ما أحملكم وبين لا أحملكم انتهى. وهو نظير ما فى حديث أبى موسى الأشعرى: لما سأله الأشعريون الحملان فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ما عندى ما أحملكم» «1» .
لكن يشكل عليه أنه- صلى الله عليه وسلم- حلف لا يحملهم فقال: «والله لا أحملكم» «2» فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر، ما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضى الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة، فلو اقتصر فى جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا، ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر فى الجمع بين قوله: «لا أجد ما أحملكم» وقوله: «والله لا أحملكم» أن الأول لبيان أن الذى سئله لم يكن موجودا عنده، والثانى أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب، إذ لا اضطرار حينئذ، وروى الترمذى أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منها.
قال: وجاءه رجل فقال ما عندى شىء ولكن ابتع على، فإذا جاءنا شىء قضيناه، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر، فكره النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالا، فتبسم- صلى الله عليه وسلم- وعرف البشر فى وجهه. وقال: «بهذا أمرت» «3» .
وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك كالاستئلاف ونحوه.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3133) فى الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ومسلم (1649) فى الإيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها.
(2) صحيح: وهو جزء مما قبله.
(3) أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (281) .(2/138)
وذكر ابن فارس فى كتابه «فى أسماء النبى- صلى الله عليه وسلم-» أنه فى يوم حنين جاءت امرأة فأنشدت شعرا تذكره أيام رضاعته فى هوازن فرد عليهم ما أخذ وأعطاهم عطاء كثيرا حتى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذى لم يسمع بمثله فى الوجود.
وفى البخارى من حديث أنس: أنه أتى بمال من البحرين فقال:
«انثروه» - يعنى صبوه- فى المسجد، وكان أكثر مال أتى به النبى- صلى الله عليه وسلم-، فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فقال: أعطنى، فإنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فقال له «خذ» ، فحثا فى ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلى، قال: لا، قال: فارفعه أنت على، قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه على، قال: لا، قال: فارفعه أنت قال: لا، ثم نثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله فانطلق، فما زال النبى- صلى الله عليه وسلم- يتبعه بصره حتى خفى علينا من حرصه، فما قام- صلى الله عليه وسلم- وثم منها درهم «1» .
وفى رواية ابن أبى شيبة من طريق حميد بن هلال مرسلا: كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمى من خراج البحرين، قال: وهو أول مال حمل إليه- صلى الله عليه وسلم-.
وسايره جابر على حمل له، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «بعنى جملك» فقال:
هو لك يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، فقال: «بل بعنيه» فباعه إياه وأمر بلالا أن ينقده ثمنه فنقده، ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «اذهب بالثمن والجمل بارك الله فيهما» «2» . مكافأة لقوله: هو لك، فأعطاه الثمن ورد عليه الجمل وزاده الدعاء بالبركة فيهما. وحديثه فى البخارى ومسلم وغيرهما.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى فى المساجد، باب: القسمة وتعليق القنو فى المسجد تعليقا.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2718) فى الشروط، باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، ومسلم (715) فى المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه.(2/139)
وقد كان جوده- صلى الله عليه وسلم- كله لله وفى ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج وتارة ينفقه فى سبيل الله، وتارة يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه. وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطى عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش فى نفسه عيش الفقراء، فيأتى عليه الشهر والشهران لا توقد فى بيته تار، وربما ربط الحجر على بطنه الشريفة من الجوع.
وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أتاه سبى، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد، وقال: «لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع» «1» . وأتته امرأة ببردة فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه، فأخذها- صلى الله عليه وسلم- محتاجا إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها فقال: «نعم» فلما قام- صلى الله عليه وسلم- لامه أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- أخذها محتاجا إليها ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل فيمنعه «2» . رواه البخارى من حديث سهل بن سعد. وفى رواية ابن ماجه والطبرانى قال: نعم، فلما دخل طواها وأرسل بها إليه. وأفاد الطبرانى فى رواية زمعة بن صالح أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر أن يصنع له غيرها فمات قبل أن يفرغ منها. وفى هذا الحديث من الفوائد: حسن خلقه- صلى الله عليه وسلم- وسعة جوده.
واستنبط منه السادة الصوفية: جواز استدعاء المريد خرقة التصوف من المشايخ تبركا بهم وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- ألبس أم خالد خميصة سوداء ذات علم «3» رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: وأصل القصة عند البخارى (3113) فى الخمس، باب: الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمساكين، ومسلم (2727) فى الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6036) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء.
(3) صحيح: حديث أم خالد أخرجه البخارى (5823) فى اللباس، باب: الخميصة السوداء.(2/140)
لكن قال شيخنا: ما يذكرونه من أن الحسن البصرى لبسها من على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، فقال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر ليس فى شىء من طرقها ما يثبت، ولم يرد فى خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أنه- صلى الله عليه وسلم- ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحا فى ذلك فباطل. قال: ثم إن من الكذب المفترى قول من قال:
إن عليّا ألبس الخرقة الحسن البصرى، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من على سماعا فضلا عن أن يلبسه الخرقة.
وكذا قال الدمياطى والذهبى والعلاء ومغلطاى والعراقى والأبناسى والحلبى وغيرهم مع كون جماعة منهم لبسوها وألبسوها تشبها بالقوم، نعم ورد لبسهم لها مع الصحبة له المتصلة إلى كميل بن زياد، وهو صحب على ابن أبى طالب- رضى الله عنه- من غير خلف فى صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل.
وفى بعض الطرق اتصالها بأويس القرنى، وهو اجتمع بعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب- رضى الله عنهما-. وهذه صحبة لا مطعن فيها، وكثير من السادة يكتفى بمجرد الصحبة كالشاذلية وشيخنا أبى إسحاق المتبولى.
وكان الشيخ يوسف العجمى يجمع بين تلقين الذكر وأخذ العهد واللبس وله فى ذلك رسالته «ريحان القلوب» قرأتها على ولد ولده العارف المسلك سيدى على، مع إلباسه لى الخرقة والتلقين والعهد.
وللشيخ قطب الدين القسطلانى «ارتقاء الرتبة فى اللباس والصحبة» والله يهديناا إلى سواء السبيل.(2/141)
الفصل الثالث فيما تدعو ضرورته إليه صلى الله عليه وسلم من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق بذلك
وفيه أربعة أنواع:
النوع الأول فى عيشه صلى الله عليه وسلم فى المأكل والمشرب
اعلم أن تناول الطعام أصل كبير، يحتاج إلى علوم كثيرة، لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية، وتعلق أثره بالقلب والقالب، وبه قوام البدن بإجراء سنة الله تعالى بذلك، والقالب مركب القلب، وبهما عمارة الدنيا والآخرة، والقالب بمفرده على طبيعة الحيوان يستعان به على عمارة الدنيا، والروح والقلب على طبيعة الملائكة يستعان بهما على عمارة الآخرة، وباجتماعهما يصلحان لعمارة الدارين.
قال الغزالى: ولا طريق إلى الوصول إلى اللقاء إلا بالعلم والعمل، ولا يمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجات، على تكرار الأوقات. فمن هذا الوجه، قال بعض السلف الصالحين: إن الأكل من الدين، وعليه نبه رب العالمين بقوله، وهو أصدق القائلين: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً «1» ، فمن تناول الأكل ليستعين به على العلم والعمل، ويقوى به على التقوى فلا ينبغى أن يترك نفسه سدى يسترسل فى الأكل استرسال البهائم فى المرعى، فإنما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه، ينبغى أن تظهر أنوار الدين عليه، وإنما
__________
(1) سورة المؤمنون: 51.(2/142)
نور الدين وآدابه وسننه، التى يزم العبد بزمامها، ويلجم المتقى بلجامها، حتى يزن بميزان الشرع، شهوة الطعام فى إقدامها وإحجامها، فيصير بسببها مدفعة للوزر ومجلبة للأجر.
واعلم أن الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول، وقد روى النسائى وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معدى كرب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه، حسب الآدمى لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمى نفسه فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» «1» .
قال القرطبى فى شرح «الأسماء» كما نقله شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر: لو سمع بقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. وقال غيره: إنما خص الثلاثة بالذكر لأنها أسباب حياة الحيوان، ولأنه لا يدخل البطن سواها.
وهل المراد بالثلث التساوى على ظاهر الخبر، أو التقسيم على ثلاثة أقسام متقاربة؟ محل احتمال. وقد صح، (المؤمن يأكل فى معى واحد- وهى بكسر الميم مقصور: المصارين- والكافر يأكل فى سبعة أمعاء) «2» وليست حقيقة العدد مرادة، وتخصيص السبعة للمبالغة فى التكثير، والمعنى: أن المؤمن من شأنه التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما سد الجوع، ويعين على العبادة، ولخشيته أيضا من حساب من زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك.
وعند أهل التشريح أن أمعاء الإنسان سبعة؛ المعدة ثم ثلاثة أمعاء بعدها
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (2380) فى الزهد، باب: ما جاء فى كراهية كثرة الأكل، وابن ماجه (3349) فى الأطعمة، باب: الاقتصاد فى الأكل وكراهة الشبع، وأحمد فى «المسند» (4/ 132) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5236) ، والحاكم فى «مستدركه» (4/ 367) ، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5674) : صحيح.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5393- 5395) فى الأطعمة، باب: المؤمن يأكل فى معى واحد، ومسلم (2060 و 2061) فى الأشربة، باب: المؤمن يأكل فى معى واحد، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(2/143)
متصلة بها: البواب ثم الصائم ثم الرقيق، والثلاثة رقاق. ثم الأعور والقولون والمستقيم وطرفه الدبر، وكلها غلاظ، وقد نظمها زين الدين العراقى فى قوله:
سبعة أمعاء لكل آدمى ... معدة بوابها مع صائم
ثم الرقيق أعور قولون مع ... المستقيم مسلك المطاعم
فيكون المعنى: أن الكافر لكونه يأكل بشراهة لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معى واحد.
ولا يلزم من هذا الحديث اطراده فى حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون فى المؤمنين من يأكل كثيرا، إما بحسب العادة أو لعارض له من مرض باطن أو لغير ذلك. ويكون فى الكفار من يأكل قليلا إما لمراعاة الصحة على رأى الأطباء، وإنما للرياضة على رأى الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة.
ومحصل القول إن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والاقتناع بالبلغة، بخلاف الكافر. وقيل: المراد أن المؤمن يسمى الله عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل بخلاف الكافر. وقيل: المراد بالمؤمن- فى هذا الحديث- التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده، فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته كما ورد فى حديث لأبى أمامة رفعه: «من كثر تفكره قل مطعمه، ومن قل تفكره كثر مطعمه، وقسا قلبه» وقالوا: لا تدخل الحكمة معدة ملئت طعاما، ومن قل طعامه قل شربه وخف منامه، ومن خف منامه ظهرت بركة عمره، ومن امتلأ بطنه كثر شربه، ومن كثر شربه ثقل نومه، ومن ثقل نومه محقت بركة عمره، فإذا اكتفى بدون الشبع حسن اغتذاء بدنه، وصلح حال نفسه وقلبه، ومن تملأ من الطعام ساء غذاء بدنه وأشرت نفسه وقسا قلبه.(2/144)
وعن ابن عباس قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن أهل الشبع فى الدنيا هم أهل الجوع غدا فى الآخرة» «1» رواه الطبرانى.
وعن سلمان وأبى جحيفة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أكثر الناس شبعا فى الدنيا أطولهم جوعا فى الآخرة» «2» .
وقالت عائشة: لم يمتلئ جوف النبى- صلى الله عليه وسلم- شبعا قط. وإنه كان فى أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب.
وقولها: لم يمتلئ جوف النبى- صلى الله عليه وسلم- شبعا قط، محمول على الشبع الذى يثقل المعدة ويثبط صاحبه عن القيام بالعبادة، ويفضى إلى البطر والأشر والنوم والكسل، وقد تنتهى كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة، وليس المراد بالشبع النسبى المعتاد فى الجملة، ففى صحيح مسلم:
خروجه- صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه من الجوع، وذهابهم إلى بيت الأنصارى، وذبحه الشاة «3» . وفيه: فلما أن شبعوا ورووا. قال النووى: فيه جواز الشبع، وما جاء فى كراهته محمول على المداومة عليه.
وعن أبى هريرة قال: ما شبع آل محمد- صلى الله عليه وسلم- من طعام ثلاثة أيام تباعا حتى قبض «4» . رواه الشيخان.
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (11/ 267) وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 250، 251) وقال: فيه يحيى بن سليمان الحفرى، وقد تقدم الكلام عليه، وبقية رجاله ثقات. اه. قلت: وقال فى (10/ 249) : أما يحيى فقد ذكر الذهبى فى الميزان فى آخر ترجمة يحيى ابن سليمان الجعفى فقال: فأما سميه يحيى بن سليمان الحفرى فما علمت به بأسا، ثم ذكر بعده يحيى بن سليمان القرشى، قال أبو نعيم: فيه مقال، وذكره ابن الجوزى، فإن كانا اثنين فالحفرى ثقة.
(2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 236 و 268) من حديث سلمان- رضى الله عنه- و (22/ 126 و 132) من حديث أبى جحيفة- رضى الله عنه-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 31) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بأسانيد وفى أحد أسانيد الكبير محمد بن خالد الكوفى ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
(3) صحيح: وسيأتى بتمامه بعد قليل.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (5374) فى الأطعمة، باب: قول الله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، ومسلم (2976) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) .(2/145)
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبيت الليالى المتتابعة وأهله طاويا لا يجدون عشاء، وإنما كان خبزهم الشعير «1» . رواه الترمذى وصححه.
وفى حديث مسعر عند مسلم: «ما شبع آل محمد يومين من خبز البر، إلا وأحدهما تمر» «2» .
وأخرج ابن سعد من طريق عمران بن زيد المدنى: حدثنى والدى قال:
دخلنا على عائشة فقالت: خرج- تعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- من الدنيا ولم يملأ بطنه فى يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير، وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر «3» .
وليس فى هذا ما يدل على ترك الجمع بين لونين، فقد جمع- صلى الله عليه وسلم- القثاء والرطب كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.
وعن الحسن قال: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «والله ما أمسى فى آل محمد صاع من طعام، وإنها لتسعة أبيات» والله ما قالها استقلالا لرزق الله ولكن أراد أن تتأسى به أمته. رواه الدمياطى فى السيرة له.
وعن عائشة قالت: كان يعجب نبى الله- صلى الله عليه وسلم- من الدنيا ثلاثة أشياء:
الطيب والنساء والطعام، فأصاب اثنتين ولم يصب واحدة، أصاب النساء والطيب، ولم يصب الطعام. ذكره الدمياطى أيضا.
وفى رواية مسلم: «يظل اليوم يلتوى ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه» «4» .
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (2360) فى الزهد، باب: ما جاء فى معيشة النبى- صلى الله عليه وسلم- وأهله، وابن ماجه (3347) فى الأطعمة، باب: خبز الشعير، والطبرانى فى «الكبير» (11/ 328) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4895) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2971) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، ومسعر هذا أحد رواته.
(3) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 405) .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2977) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) ، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-.(2/146)
وقالت عائشة: إن كنا آل محمد نمكث شهرا ما نستوقد بنار، إن هو إلا الماء والتمر «1» .
وقال عتبة بن غزوان: لقد رأيتنى- وإنى لسابع سبعة- مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما لنا طعام إلا ورق السمر حتى تقرحت أشداقنا «2» .
وفى البخارى ومسلم: كانت عائشة تقول لعروة: والله يا ابن أختى، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة فى شهرين وما أوقد فى أبيات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نار، قال: قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟
قالت: الأسودان، التمر والماء، إلا أنه كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ألبانها فيسقيناه «3» .
ولمسلم أيضا: قالت: لقد مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما شبع من خبز وزيت فى يوم واحد مرتين «4» .
وقال أنس: ما أعلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه حتى لحق بالله «5» . رواه البخارى.
والمرقق: الملين المحسن كخبز الحوارى وشبهه، والترقيق: التليين، ولم يكن عندهم مناخل، وقد يكون المرقق: الرقيق الموسع، قاله القاضى عياض.
وجزم به ابن الأثير فقال: وهو السميد وما يصنع من كعك وغيره، وقال ابن الجوزى: هو الخفيف. كأنه أخذه من الرقاق وهى الخشبة التى يرقق بها.
والحوارى: - بضم المهملة وتشديد الواو وفتح الراء- الخالص الذى ينخل مرة بعد أخرى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2972) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2967) فى كتاب الزهد والرقائق، باب: رقم (1) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2567) فى الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، ومسلم (2972) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2974) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) .
(5) صحيح: أخرجه البخارى (5421) فى الأطعمة، باب: شاة مسموطة.(2/147)
وقوله: ولا شاة سميطا: هو الذى أزيل شعره بالماء السخن وشوى بجلده، وإنما يصنع ذلك فى الصغير السن، وهو من فعل المترفهين من وجهين: أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقى لازداد ثمنه، وثانيهما: أن المسلوخ ينتفع بجلده فى اللبس وغيره. والسمط يفسده، وقد جرى ابن بطال وابن الأثير على أن المسموط هو المشوى، لكن الثانى ذكر أن أصله نزع صوفه بالماء الحار كما تقدم، قال: وإنما يفعل ذلك فى الغالب ليشوى.
ولعله يعنى: أنه لم يرد السميط فى مأكوله، وإلا فإن لم يكن معهودا فلا تمدح.
وعن أبى حازم أنه سأل سهلا: هل رأيتم فى زمان النبى- صلى الله عليه وسلم- النقى؟ قال: لا، فقلت: كنتم تنخلون الشعير؟ قال: لا، ولكن كنا ننفخه «1» . رواه البخارى.
وفى رواية له: هل كانت لكم فى عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مناخل؟
فقال: ما رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- منخلا من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله «2» .
قال شيخ الإسلام ابن حجر: أظنه احترز عما قبل البعثة، لكونه- صلى الله عليه وسلم- كان يسافر فى تلك المدة إلى الشام تاجرا، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم، والخبز النقى عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه، ولا ريب أنه رأى ذلك عندهم، وأما بعد البعثة فلم يكن إلا بمكة والطائف والمدينة، ووصل إلى تبوك وهى من أطراف الشام لكن لم يفتحها ولا طالت إقامته بها. انتهى.
وقد تتبعت هل كانت أقراص خبزه صغارا أم كبارا؟ فلم أجد فى ذلك
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5410) فى الأطعمة، باب: النفخ فى الشعير.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5413) فى الأطعمة، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يأكلون.(2/148)
شيئا بعد التفتيش. نعم روى أمره بتصغيرها فى حديث عند الديلمى عن عائشة رفعته بلفظ: «صغروا الخبز وأكثروا عدده يبارك لكم فيه» «1» ، وهو واه، بحيث ذكره ابن الجوزى فى الموضوعات وقال: إن المتهم به جابر بن سليم. وروى عن ابن عمر مرفوعا: «البركة فى صغر القرص» «2» ، ونقل عن النسائى أنه كذب. لكن روى البزار بسند ضعيف عن أبى الدرداء مرفوعا.
«قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه» «3» قال فى النهاية: وحكى عن الأوزاعى أنه تصغير الأرغفة، كذا حكى البزار عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن بعض أهل العلم: أنه تصغير الأرغفة. أشار إلى ذلك شيخنا فى المقاصد الحسنة.
ولعل هذا سند شيخى وقدوتى وإنسان عين بصيرتى العارف الربانى رهان العارفين أبى إسحاق إبراهيم المتبولى فى تصغير أرغفة سماطه كالشيخ أبى العباس أحمد البدوى «4» والسادات إكسير معارف السعادات أولى المواهب
__________
(1) موضوع: أخرجه الأزدى فى الضعفاء والإسماعيلى فى معجمه، كما فى «الجامع الصغير» (4998) ، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (3472) : موضوع.
(2) موضوع: أخرجه أبو الشيخ ابن حبان فى الثواب عن ابن عباس، والسلفى فى الطوريات عن ابن عمر، كما فى «الجامع الصغير» (3203) ، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2372) : موضوع.
(3) ضعيف: أخرجه الطبرانى عن أبى الدرداء، كما فى «ضعيف الجامع» (4117) .
(4) قلت: الثابت عنه من كتب السير أنه كان يأتى بأفعال المجاذيب، ومما يؤسف له أن كل من أتى بفعل من أفعال المجاذيب، اعتبره الناس وليّا، وأقاموا له ضريحا بعد وفاته، يطوفون به، وينذرون له، ويستغيثون به، وكلها أفعال شركية، لا يصح للمسلم الإتيان بها، ومن أراد معرفة الولاية الحقيقية فلينظر فى سيرة أنبياء الله، فى خلق الله، الذين أمرنا باتباعهم، والهدى على سيرهم، وكذلك صحابتهم الكرام والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، ويكفى أن يعرف عن هؤلاء المجاذيب أنه لم يعرف لهم صلاة ولا صيام ولا حج ولا درس علم ولا فقه عنهم منتشر كالأئمة الأربعة مثلا، ولا أعلم على أى شىء اعتبرهم الناس أولياء، أو عارفين بالله، وهل العارف بالله من يترك الصلاة، أو الصيام أو غيرها من العبادات، بل والنكاح الذى هو من سنن المرسلين، سبحانك ما هذا إلا بهتان عظيم، بل ومما يؤسف له أن بعضهم كأحمد البدوى مثلا ترك الجهاد فى سبيل-(2/149)
العلية والحقائق المحمدية بنى الوفاء أعاد الله من بركاتهم وواصل إمداداتهم إلينا.
وعن عائشة قالت: توفى- صلى الله عليه وسلم- وليس عندى شىء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير فى رف لى، فأكلت منه حتى طال على فكلته ففنى «1» رواه البخارى ومسلم.
وعندهما أيضا قالت: توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودى فى ثلاثين صاعا من شعير «2» .
وقال ابن عباس: ودرعه مرهونة بعشرين صاعا من طعام أخذه لأهله.
رواه الترمذى «3» .
وعن أبى هريرة قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فإذا هو بأبى بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: «وأنا والذى نفسى بيده لآخرجنى الذى أخرجكما» فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس فى بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها- صلى الله عليه وسلم-: «أين فلان؟» قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، إذ جاء الأنصارى، فنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى. قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر
__________
- الله ضد أعداء الله حينما أغاروا على بلاد المسلمين واستباحوا بيضتهم ولم يحرك ساكنا، بل دعا الناس إلى ترك جهادهم!! بحجة أنهم قدر الله، ولو عرف هذا قدر الله حقّا لأمر بمدافعة قدر الله بالأسباب المشروعة، ورحم الله عمر حينما أراد دخول الشام، فعلم أن فيها وباء فامتنع عن الدخول، فقيل له: أتفر من قدر الله، فقال: بل نفر من قدر الله إلى قدر الله، وما هذا منه إلا أخذا بالأسباب المشروعة، وغير ذلك كثير، والله المستعان.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3097) فى الخمس، باب: نفقة نساء النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، ومسلم (2973) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2916) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى- صلى الله عليه وسلم-. ومسلم (1603) فى الجهاد والسير.
(3) أخرجه الترمذى (1214) فى البيوع، باب: ما جاء فى الرخصة فى الشراء إلى أجل.(2/150)
ورطب، فقال: كلوا، وأخذ المدية فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إياك والحلوب» فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال- صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر وعمر: «والذى نفسى بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم» «1» رواه مسلم وغيره. وهذا السؤال سؤال تشريف وإنعام وتعديد فضل وإكرام.
وعن طلحة بن نافع أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيدى ذات يوم إلى منزله فأخرج إليه فلق من خبز، فقال: «ما من أدم؟» فقالوا: لا، إلا شىء من خل، قال: «نعم الأدم الخل» . قال جابر:
فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبى الله- صلى الله عليه وسلم- وقال طلحة: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر «2» . رواه مسلم.
وروى عن ابن بجير قال: أصاب النبى- صلى الله عليه وسلم- جوع يوما، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال: «ألا رب نفس الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم» «3» رواه ابن أبى الدنيا.
وعن أنس عن أبى طلحة قال: شكونا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن بطنه عن حجرين «4» ، قال الترمذى: هذا حديث غريب من حديث أبى طلحة لا نعرفه
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2038) فى الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2052) فى الأشربة، باب: فضيلة الخل.
(3) ضعيف جدّا: أخرجه ابن سعد والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى «ضعيف الجامع» (2181) .
(4) ضعيف: أخرجه الترمذى (2371) فى الزهد، باب: ما جاء فى معيشة أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(2/151)
إلا من هذا الوجه. ومعنى قوله: ورفعنا عن بطوننا عن حجر. قال: كان أحدهم يشد فى بطنه الحجر من الجهد والضعف الذى به من الجوع.
وقصة جابر- يوم الخندق- حين رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق، وقد قام إلى الكدية وبطنه معصوب بحجر. وتقدمت، وما أحسن قول الأبوصيرى:
وشد من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الأدم
والكشح: كما ذكرته فى شرح هذه القصيدة، ما بين خاصرته الشريفة وأقصر ضلع من جنبه الشريف، وإنما فعل هذا- صلى الله عليه وسلم- ليسكن بعض ألم الجوع، وإنما كان هذا الفعل مسكنا لأن كلب الجوع من شدة حرارة المعدة الغريزية، فهى إذا امتلأت من الطعام اشتغلت تلك الحرارة بالطعام، فإذا لم يكن فيها طعام طلبت رطوبات الجسم وجواهره، فيتألم الإنسان بتلك الحرارة فتتعلق بكثير من جواهر البدن، فإذا انضمت على المعدة الأحشاء والجلد خمدت نارها بعض الخمود فقل الألم.
وإنما تألمه بالجوع ليحصل به تضعيف الأجر مع حفظ قوته ونضارة جسمه، حتى إن من رآه لا يظن أن به جوعا، لأن جسمه- صلى الله عليه وسلم- إنما كان يرى أشد نضارة من أجسام المترفين بالنعم فى الدنيا. وهذا المعنى هو الذى قصده الناظم بقوله «مترف الأدم» وهو من باب الاحتراس والتكميل، لأنه لما ذكر أنه شد من سغب. خاف أن يتوهم أن جسمه الشريف حينئذ يظهر فيه أثر الجوع فاحترس ورفع ذلك الإبهام بقوله: مترف الأدم.
وقد أنكر أبو حاتم بن حبان أحاديث وضع الحجر على بطنه الشريف من الجوع، وقال: إنها باطلة، متمسكا بحديث الوصال «لست كأحدكم إنى(2/152)
أطعم وأسقى» «1» قال: وإنما معناه: الحجز، بالزاى وهو طرف الإزار، لأن الله تعالى قد كان يطعم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويسقيه إذا واصل، فكيف يحتاج إلى شد الحجر على بطنه؟ وما يغنى الحجر عن الجوع. انتهى.
وقال بعضهم: يجوز أن يكون عصب الحجر لعادة العرب أو أهل المدينة أنهم يفعلون ذلك إذا خلت أجوافهم وغارت بطونهم يشدون عليها حجرا ففعل- صلى الله عليه وسلم- ذلك ليعلم أصحابه أنه ليس عنده ما يستأثر به عليهم.
والصواب: صحة الأحاديث، وأنه- صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك اختيارا للثواب.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1961) فى الصوم، باب: الوصال، ومسلم (1104) فى الصيام، باب: النهى عن الوصال فى الصوم، وابن حبان فى «صحيحه» (3579) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وقال ابن حبان هذا الكلام عقب الحديث السابق.(2/153)
وقد استشكل كونه- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعا، مع ما ثبت أنه كان يرفع لأهله قوت سنة، وأنه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير مما أفاء الله عليه، وأنه ساق فى عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه أمر لأعرابى بقطيع من الغنم، وغير ذلك، مع من كان معه من أصحاب الأموال كأبى بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه. وقد أمر بالصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه، وحث على تجهيز جيش العسرة فجهزهم عثمان بألف بعير إلى غير ذلك.
وأجاب عنه الطبرى- كما حكاه فى فتح البارى- أن ذلك كان منهم فى حالة دون حالة لا لعوز وضيق، بل تارة للإيثار وتارة لكراهة الشبع وكثرة الأكل، انتهى. وتعقب: بأن ما نفاه مطلقا فيه نظر لما تقدم من الأحاديث وأخرج ابن حبان فى صحيحه عن عائشة: «من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم» «1» ، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئا من التمر والودك إلى غير ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: والحق أن الكثير منهم كانوا فى حال ضيق قبل الهجرة، حيث كانوا بمكة ثم لما هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح، فلما فتحت لهم النضير وما بعدها ردوا عليهم منائحهم كما تقدم.
وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «لقد أخفت فى الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت على ثلاثون من يوم وليلة ما لى ولبلال طعام يأكله أحد إلا شىء يواريه إبط بلال» «2» . رواه الترمذى وصححه.
__________
(1) إسناده قوى: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (684) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (2472) فى صفة القيامة والرقائق والورع، وابن ماجه (151) فى المقدمة، باب: فى فضائل أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/154)
نعم كان- صلى الله عليه وسلم- يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط فى الدنيا له، كما أخرج الترمذى من حديث أبى أمامة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عرض على ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا، يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» «1» وحكمة هذا التفصيل الاستلذاذ بالخطاب، وإلا فالله تعالى عالم بالأشياء جملة وتفصيلا.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وجبريل على الصفا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا جبريل والذى بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق، ولا كف من سويق» ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل فقال: إن الله سمع ما ذكرت فبعثنى إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرنى أن أعرض عليك أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فإن رضيت فعلت، فإن شئت نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا، فأومأ إليه جبريل أن تواضع فقال: بل نبيّا عبدا ثلاثا» «2» ، رواه الطبرانى بإسناد حسن.
فانظر إلى همته العلية كيف عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، ومعلوم أنه لو أخذها لأنفقها فى طاعة ربه، فأبى ذلك واختار العبودية المحضة، فيا لها من همة شريفة رفيعة ما أسناها ونفس زكية كريمة ما أبهاها، ولله در صاحب بردة المديح حيث قال:
وراودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراه أيما شمم
وأكدت زهده فيها ضرورته ... إن الضرورة لا تعدو على العصم
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (2347) فى الزهد، باب: ما جاء فى الكفاف والصبر عليه، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) قلت: انظر «مجمع الزوائد» (9/ 19، 20) .(2/155)
أى كيف تدعو ضرورة سيد المعصومين إلى زخرف الدنيا، وهى وما فيها إنما برزت لأجله، فكيف يضطر إليها. لكن فى كلامه شىء، فإنه فى مقام المديح فلا يليق منه الوصف بالزهد ولا بالضرورة.
قال الحليمى فى شعب الإيمان: من تعظيم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن لا يوصف بما هو عند الناس من أوصاف الضعة، فلا يقال كان فقيرا.
وأنكر بعضهم إطلاق الزهد فى حقه- صلى الله عليه وسلم-. وقد حكى صاحب «نثر الدر» عن محمد بن واسع أنه قيل له: فلان زاهد، قال: وما قدر الدنيا حتى يزهد فيها. وقد ذكر القاضى عياض فى الشفاء، ونقله عنه الشيخ تقى الدين السبكى فى كتابه «السيف المسلول» أن فقهاء الأندلس أفتوا بقتل حاتم المتفقه الطليطلى وصلبه لاستخفافه بحق النبى- صلى الله عليه وسلم- وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا، ولو قدر على الطيبات لأكلها.
انتهى.
وقد ذكر الشيخ بدر الدين الزركشى عن بعض الفقهاء المتأخرين أنه كان يقول: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- فقيرا من المال قط، ولا حاله حال فقير، بل كان أغنى الناس بالله، قد كفى أمر دنياه فى نفسه وعياله، وكان يقول فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أحينى مسكينا» «1» إن المراد به استكانة القلب لا المسكنة التى هى أن لا يجد ما يقع موقعا من كفايته. وكان يشدد النكير على من يعتقد خلاف ذلك انتهى. وأما ما يروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «الفقر فخرى وبه أفتخر» «2» فقال شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر: هو باطل موضوع.
واعلم أنه لم يكن من عادته الكريمة- صلى الله عليه وسلم- حبس نفسه الشريفة على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى سواه، فإن ذلك يضر بالطبيعة جدّا، ولو
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (2352) فى الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، من حديث أنس- رضى الله عنه- وأخرجه ابن ماجه (4126) فى الزهد، باب: مجالسة الفقراء، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1261) .
(2) باطل موضوع: قاله الحافظ ابن حجر كما فى «كشف الخفاء» (1835) للعجلونى.(2/156)
أنه أفضل الأغذية، بل كان- صلى الله عليه وسلم- يأكل مما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره مما سيأتى، فأكل- صلى الله عليه وسلم- الحلوى والعسل وكان يحبهما «1» ، رواه البخارى والترمذى، والحلوى: بالقصر والمد، كل حلو، وقال الخطابى: اسم الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، وقال ابن سيدة: ما عولج من الطعام بحلو، وقد يطلق على الفاكهة.
قال الخطابى: ولم يكن حبه- صلى الله عليه وسلم- لها على معنى كثرة التشهى لها، وشدة نزاع النفس إليها، وإنما كان ينال منها إذا أحضرت إليه نيلا صالحا فيعلم بذلك أنها تعجبه، ووقع فى كتاب فقه اللغة للثعالبى: أن حلوى النبى- صلى الله عليه وسلم- التى كان يحبها هى المجيع- بالميم والجيم، بوزن عظيم- وهو تمر يعجن بلبن، حكاه فى فتح البارى.
ولم يصح ورود أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب السكر ولا أنه تصدق به ولا أنه رآه. لكن أخرج أبو جعفر الطحاوى والبيهقى فى سننه من حديث لمازة عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حضر ملاك رجل من الأنصار، فجاءت الجوارى معهن الأطباق عليها اللوز والسكر فأمسك القوم أيديهم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ألا تنتهبون؟» قالوا: إنك نهيت عن النهبة، قال: «أما العرسان فلا» «2» ، قال: فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يجاذبهم ويجاذبونه.
واحتج به الطحاوى على أن النثار غير مكروه، كما ذهب إليه أبو حنيفة، وقضى به على الأحاديث الصحيحة التى فيها النهى عن النهبة. لكن
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5599) فى الأشربة، باب: الباذق، والترمذى (1831) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى حب النبى- صلى الله عليه وسلم- الحلواء والعسل، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (20/ 97) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 56، 290) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه حازم مولى بنى هاشم عن لمازة، وليس ابن زبار، هذا متأخر، ولم أجد من ترجمها وبقية رجاله ثقات، ورواه الطبرانى فى الأوسط أتم من هذا، بإسناد فيه بشر بن إبراهيم وهو وضاع، وهو غير هذا الإسناد.(2/157)
قال البيهقى بعد رواية الحديث: وهذا لا يثبت، ثم قال: وروى من حديث عائشة عنه- صلى الله عليه وسلم-، ولا يثبت فى هذا المعنى شىء، وشنع على الطحاوى القول فى ذلك جدّا فى كتاب المعرفة وقال: الحديث إنما يروى عن عون بن عمارة وعصمة بن سليمان وكلاهما لا يحتج به، وشيخهما لمازة بن المغيرة مجهول، فهاتان علتان كل منهما منفردة توجب ضعف الحديث فكيف بهما مجتمعتان؟! هذا وخالد بن معدان منقطع ولا حجة فى منقطع. فهذه علل ثلاث يضعف الحديث بدونها. وقد أفرد الكلام على ذلك ابن مفلح اليوسفى والله أعلم.
وعن ليث بن أبى سالم قال: أول من خبص فى الإسلام عثمان بن عفان، قدمت عليه عير تحمل الدقيق والعسل فخلط بينهما وبعث به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكل فاستطابه. قال الطبرى فى الرياض: رواه خيثمة فى فضائل عثمان. وعن عبد الله بن سلام قال: قدمت عير فيها جمل لعثمان بن عفان عليه دقيق حوارى وسمن وعسل، فأتى بها النبى- صلى الله عليه وسلم- فدعا فيها بالبركة ثم دعا ببرمة فنصبت على النار وجعل فيها من العسل والدقيق والسمن ثم عصد حتى نضج أو كاد ينضج ثم أنزل فقال- صلى الله عليه وسلم-: «كلوا هذا شىء تسميه فارس الخبيص» «1» قال الطبرى: خرجه تمام فى فوائده والطبرانى فى معجمه ورجاله ثقات. وأكل- صلى الله عليه وسلم- لحم الضأن. وهذه الثلاثة- أعنى:
الحلوى والعسل واللحم. من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء، ولا ينفر منها إلا من به علة وآفة.
«واللحم سيد طعام أهل الجنة» ، وفى رواية «هو سيد الطعام لأهل الدنيا والآخرة» «2» ، رواه ابن ماجة وابن أبى الدنيا من حديث أبى الدرداء مرفوعا. وسنده ضعيف وله شواهد منها:
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 112) ، والطبرانى فى «الصغير» (833) ، من حديث عبد الله بن سلام- رضى الله عنه-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 37، 38) وقال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، ورجال الصغير والأوسط ثقات.
(2) ضعيف جدّا: أخرجه ابن ماجه (3305) فى الأطعمة، باب: اللحم، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» ، وانظر «ضعيف الجامع» (3327) .(2/158)
عن على رفعه: سيد طعام الدنيا اللحم ثم الأرز، أخرجه أبو نعيم فى الطب النبوى. وأكل اللحم يزيد سبعين قوة. قاله الزهرى.
وعن على: أنه يصفى اللون ويحسن الخلق ومن تركه أربعين ليلة ساء خلقه. ولأبى الشيخ ابن حيان من رواية ابن سمعان قال: سمعت من علمائنا يقولون: كان أحب الطعام إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اللحم، وهو يزيد فى السمع، وهو سيد الطعام فى الدنيا والآخرة، ولو سألت ربى أن يعطمنيه كل يوم لفعل. وقال الإمام الشافعى: إن أكله يزيد فى العقل.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يعجبه الذراع ولذلك سم فيه، وعن أبى رافع أنه أهديت له شاة فجعلها فى قدر، فدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما هذا يا أبا رافع؟» فقال: شاة أهديت لنا يا رسول الله فطبختها فى القدر. قال: «ناولنى الذراع يا أبا رافع» ، فناولته الذراع، ثم قال: «ناولنى الذراع الآخر» ، فناولته الذراع الآخر، فقال: «ناولنى الذراع الآخر» فقال: يا رسول الله، إنما للشاة ذراعان فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنك لو سكت لناولتنى ذراعا فذراعا ما سكت» ، ثم دعا بماء فمضمض فاه وغسل أطراف أصابعه ثم قام فصلى «1» . الحديث رواه أحمد.
ورواه الدارمى والترمذى عن أبى عبيد بلفظ: طبخت له- صلى الله عليه وسلم- قدرا، وكان يعجبه الذراع، فناولته الذراع، ثم قال: «ناولنى الذراع» ، فقلت: يا رسول الله وكم للشاة من ذراع؟ فقال: «والذى نفسى بيده لو سكت لناولتنى الذراع ما دعوت» .
وقالت عائشة: وكان الذراع أحب إليه، وكان لا يأكل اللحم إلا غبّا، وكان يعجل إليها لأنه أعجل نضجا «2» ، رواه الترمذى.
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 8 و 392) ، والطبرانى فى «الكبير» (1/ 324 و 325) والحديث ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 311) وقال: رواه أحمد والطبرانى، ورواه فى الأوسط باختصار، وأحد إسنادى أحمد حسن.
(2) منكر: أخرجه الترمذى (1838) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أى اللحم كان أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» منكر.(2/159)
وكذلك كان يحب لحم الرقبة. فعن ضباعة بنت الزبير أنها ذبحت فى بيتها شاة، فأرسل إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن أطعمينا من شاتكم» ، فقالت: ما بقى عندنا إلا الرقبة، وإنى لأستحى أن أرسل بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فرجع الرسول فأخبره، فقال: «ارجع إليها فقل لها: أرسلى بها فإنها هاربة الشاة وأقرب الشاة إلى الخير وأبعدها من الأذى» «1» .
ولا ريب أن أخف لحم الشاة لحم الرقبة ولحم الذراع والعضد، وهو أخف على المعدة وأسرع انهضاما، وفى هذا أنه ينبغى مراعاة الأغذية التى تجمع ثلاث خواص: أحدها: كثرة نفعها وتأثيرها فى القوى، الثانى: خفتها على المعدة وسرعة انحدارها عنها، الثالث: سرعة هضمها، وهذا أفضل ما يكون من الغذاء.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «أطيب اللحم لحم الظهر» «2» ، رواه الترمذى.
وأما الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يكره الكليتين لمكانهما من البول، فقال الحافظ العراقى رويناه فى جزء من حديث أبى بكر محمد بن عبد الله بن الشخير من حديث ابن عباس بإسناد فيه ضعف. انتهى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- ينتهش اللحم، أى يقبض عليه بفمه ويزيله من العظم أو غيره، وينتشله أى يقتلعه من المرق. والنهش بعد الانتشال.
وفى البخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- احتز من كتف شاة فى يده، فدعى إلى الصلاة، فألقاها والسكين التى يحتز بها، ثم قال إلى الصلاة، ولم يتوضأ «3» .
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 360) ، والنسائى فى «الكبرى» (6658) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 337) .
(2) أخرجه ابن ماجه (3308) فى الأطعمة، باب: أطايب اللحم، وأحمد فى «المسند» (1/ 204) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 124) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (207) فى الوضوء، باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ومسلم (254) فى الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(2/160)
قال ابن بطال: هذا الحديث يرد حديث أبى معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رفعته: «لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهشوا فإنه أهنأ وأمرأ» «1» قال أبو داود وهو حديث ليس بالقوى.
قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى- رحمه الله-، له شاهد من حديث صفوان بن أمية. أخرجه الترمذى بلفظ: «انهشوا اللحم نهشا، فإنه أهنأ وأمرأ» «2» وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد الكريم انتهى. قال: وعبد الكريم هو أبو أمية بن أبى المخارق، ضعيف، لكن أخرجه ابن أبى عاصم من وجه آخر عن صفوان بن أمية فهو حسن لكن ليس فيه ما زاده أبو معشر من التصريح بالنهى عن قطع اللحم بالسكين. وأكثر ما فى حديث صفوان أن النهش أولى. انتهى.
ويمكن الجمع: بأن النهش مما على العظم الصغير، والاحتزاز مما على الكبير. وأكل- صلى الله عليه وسلم- الشواء، فعن أم سلمة أنها قربت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- جنبا مشويّا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة وما توضأ «3» ، قال الترمذى: حسن صحيح. وأكل- صلى الله عليه وسلم- القديد، كما فى حديث فى السنن عن رجل قال:
ذبحت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاة ونحن مسافرون. فقال: «أصلح لحمها» ، فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة «4» وأكل- صلى الله عليه وسلم- من الكبد المشوية. وأكل لحم الدجاج «5» رواه الشيخان والترمذى وغيرهم. وأكل لحم حمار
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (3778) فى الأطعمة، باب: فى أكل اللحم، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وأخرجه الترمذى (1835) فى الأطعمة، باب: ما جاء أنه قال: انهشوا اللحم نهشا، وأحمد فى «المسند» من حديث صفوان بن أمية- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) ضعيف: وقد تقدم فيما قبله.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (1829) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أكل الشواء، والنسائى فى «الكبرى» (189) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1975) فى الأضاحى، باب: بيان ما كان من النهى عن أكل لحوم الأضاحى بعد ثلاث فى أول الإسلام.
(5) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (5517) فى الذبائح والصيد، -(2/161)
الوحش «1» رواه الشيخان، وأكل لحم الجمل سفرا وحضرا. وأكل لحم الأرنب «2» رواه الشيخان. وأكل من دواب البحر «3» رواه مسلم.
وأكل الثريد- وهو بفتح المثلاثة- أن يثرد الخبز بمرق اللحم، وقد يكون معه اللحم. ومن أمثالهم: الثريد أحد اللحمين. وروى أبو داود من حديث ابن عباس قال: أحب الطعام إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الثريد من الخبز والثريد من الحيس «4» . وأكله- صلى الله عليه وسلم- بالسمن، وأكل الخبز بالزيت.
وعن حذيفة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن جبريل أطعمنى الهريسة، يشد بها ظهرى لقيام الليل» «5» ، رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه محمد بن الحجاج اللخمى، وهو الذى وضع هذا الحديث.
وأكل- صلى الله عليه وسلم- الدباء وكانت تعجبه، وكان يتتبعها من حوالى القصعة، قال أنس فلم أزل أحب الدباء من يومئذ «6» . رواه مسلم. وقال النووى: فيه
__________
- باب: لحم الدجاج، ومسلم (1649) فى الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتى الذى هو خير، ويكفر عن يمينه، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-.
(1) قلت: الذى فى الصحيحين، أنه لم يأكل لأنه كان حرم، وهو يدل على إباحته، لأن رده- صلى الله عليه وسلم- لم يكن لحرمته، كما أنه قد أكل أمامه بأمره فى قصة أخرى، وكلتاهما فى الصحيحين، انظر صحيح البخارى (1821) ، ومسلم (1196) من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-، والبخارى (2596) ، ومسلم (1193) من حديث الصعب بن جثامة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (2572) فى الهبة، باب: قبول هدية الصيد، ومسلم (1953) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة الأرنب، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (1935) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3783) فى الأطعمة، باب: فى أكل الثريد، والحديث ضعفه أبو داود والشيخ الألبانى.
(5) موضوع: ذكره الحافظ ابن حجر فى «اللسان» (5/ 116) فى ترجمة محمد بن الحجاج اللخمى، وحكم عليه بالوضع به.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (2092) فى البيوع، باب: السهولة والسماحة فى الشراء والبيع، ومسلم (2041) فى الأشربة، باب: جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين.(2/162)
أنه يستحب أن تحب الدباء وكذلك كل شىء كان يحبه- صلى الله عليه وسلم-. وكذلك أكل- صلى الله عليه وسلم- السلق مطبوخا بالشعير قال الترمذى: حديث حسن غريب.
وأتى الحسن بن على وابن عباس وابن جعفر إلى سلمى فقالوا: اصنعى لنا طعاما مما كان يعجب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحسن أكله: فقالت: يا بنى لا تشتهيه اليوم فقال: بلى اصنعيه لنا، فقامت فأخذت شيئا من الشعير فطحنته ثم جعلته فى قدر وصبت عليه شيئا من زيت ودقت الفلفل والتوابل فقربته إليهم فقالت: هذا مما كان يعجبه- صلى الله عليه وسلم- ويحسن أكله. رواه الترمذى.
وأكل- صلى الله عليه وسلم- الخزيرة- وهى بخاء معجمة مفتوحة ثم زاى مكسورة، وبعد التحتانية الساكنة راء- ما يتخذ من الدقيق على هيئة العصيدة، لكن أرق منها، قاله الطبرى. وقال ابن فارس: دقيق يخلط بشحم، وقال القتبى وتبعه الجوهرى: أن يؤخذ اللحم فيقطع صغارا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهى عصيدة. وقيل: مرقة تصفى من بلالة النخالة ثم تطبخ، وقيل: الخزيرة بالإعجام من النخالة، والحريرة- يعنى بالإهمال- من اللبن.
وقال عتبان: غدا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر حين ارتفع النهار، وحبسناه على خزير صنعناه «1» وأكل- صلى الله عليه وسلم- الأقط «2» ، قاله ابن عباس فيما رواه وهو جبن اللبن المستخرج زبده، أكلته وهو كثير بمكة والمدينة زادهما الله شرفا، وهو أشبه شىء بالكشك. وأكل- صلى الله عليه وسلم- الرطب والتمر والبسر. رواه مسلم والترمذى وغيرهما.
وأكل الكباث «3» . رواه مسلم، وهو بفتح الكاف وتخفيف الموحدة وبعد
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1186) فى التطوع، باب: صلاة النوافل جماعة، ومسلم (263) فى المساجد، باب: الرخصة فى التخلف عن الجماعة بعذر.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2575) فى الهبة، باب: قبول الهدية، ومسلم (1947) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة العنب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-:
(3) قلت: هو فى الصحيحين الأمر بأكل الأسود منه لأنه أطيبه، والحديث أخرجه البخارى (3406) فى أحاديث الأنبياء، باب: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، ومسلم (2050) فى الأشربة، باب: فضيلة الأسود من الكباث، من حديث جابر- رضى الله عنه- و (الكباث) شىء يشبه التين.(2/163)
الألف مثلاثة، النضيج من تمر الأراك. وقيل ورق الأراك، وتعقبه الإسماعيلى فقال: إنما هو تمر الأراك وهو البرير- بموحدة بوزن الحرير- فإذا اسود فهو الكباث. وفى النهاية لابن الأثير؛ أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب الجذب- بالجيم والذال المعجمة المفتوحتين- أى الجمار، وهو شحم النخل واحدتها جذبة.
وأما الجبن، ففى السنن من حديث ابن عمر قال: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- بجبنة فى تبوك فدعا بسكين فسمى وقطع «1» رواه أبو داود.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يراعى صفات الأطعمة وطبائعها واستعمالها على قاعدة الطب، فإذا كان فى أحد الطعامين ما يحتاج إلى كسر وتعديل كسره وعدله بضده إن أمكن، كتعديله حرارة الرطب بالبطيخ. وهذا أصل كبير فى المركبات من الأدوية، وإن لم يجد ذلك تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف. وروى أبو داود من حديث أبى أسامة عن هشام أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يأكل البطيخ بالرطب، ويقول يكسر حر هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحر هذا «2» . ورواه يزيد بن رومان عن الزهرى عن عروة بتقديم «الطاء» كما للنوقانى، وبتأخيرها كما للنسائى فى الوليمة، فكأنه عند هشام باللفظين.
وكذا رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث محمد بن عبد الرحمن عن الإمام أحمد بن حنبل عن وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبى، سمعت حميدا يحدث عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يأكل الطبيخ أو البطيخ بالرطب، وقال عقبة: الشك من أحمد «3» . وتقديم الطاء لغة حكاها صاحب المحكم.
وقد كان محمد بن أسلم لا يأكل البطيخ لأنه لم ينقل كيفية أكل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- له. وروى الطبرانى فى الأوسط من حديث عبد الله بن جعفر
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (3819) فى الأطعمة باب: أكل الجبن، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) حسن: أخرجه أبو داود (3836) فى الأطعمة، باب: فى الجمع بين لونين فى الأكل، والترمذى (1843) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أكل البطيخ بالرطب من حديث عائشة- رضى الله عنها- والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: وهو عند ابن حبان فى «صحيحه» (5248) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط، إسناده صحيح على شرط الشيخين.(2/164)
قال: رأيت فى يمين النبى- صلى الله عليه وسلم- قثاء وفى شماله رطبا وهو يأكل من ذا مرة، ومن ذا مرة «1» ، وفى سنده ضعف. وأخرج فيه، وفى الطب لأبى نعيم من حديث أنس. كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه. وسنده ضعيف أيضا.
وأخرج النسائى بسند صحيح عن حميد عن أنس: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الرطب والخربز- «2» وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاى- نوع من البطيخ الأصفر. وفى هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ فى الحديث الأخضر، واعتلوا بأن الأصفر فيه حرارة كما فى الرطب، وقد ورد التعليل بأن أحدهما يطفئ الآخر. والجواب عن ذلك بأن فى الأصفر بالنسبة للرطب برودة، وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة، والله أعلم.
وفى رواية النسائى أيضا، بسند صحيح عن عائشة أن نبى الله- صلى الله عليه وسلم- أكل البطيخ والرطب جميعا «3» . وأخرج ابن ماجه عن عائشة: أرادت أمى معالجتى للسمنة لتدخلنى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء، فسمنت كأحسن سمنة «4» . ورواه النسائى وقال:
بالتمر، مكان الرطب. وأما فضائل البطيخ فأحاديثه باطلة، وإن أفرده النوقاتى فى جزء كما قال الحافظ والله أعلم.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يأكل التمر بالزبد ويعجبه. فعن عبد الله وعطية ابنى بسر، قالا: دخل علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقدمنا له زبدا وتمرا، وكان يحب
__________
(1) ضعيف جدّا: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 170) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أصرم بن حوشب، وهو متروك.
(2) صحيح: أخرجه البغدادى فى «تاريخ بغداد» (3/ 40) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4916) وعزاه فيه لأحمد والترمذى فى الشمائل والنسائى.
(3) حسن: وقد تقدم قريبا.
(4) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (3903) فى الطب، باب: فى السمنة، والنسائى فى «الكبرى» (6725) ، وابن ماجه (3324) فى الأطعمة، باب: القثاء والرطب يجمعان، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/165)
الزبد والتمر»
. رواه أبو داود وابن ماجه. وسمى النبى- صلى الله عليه وسلم- اللبن والتمر الأطيبين «2» . رواه أحمد. وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما، فتارة يأدمه باللحم ويقول: هو سيد الطعام لأهل الدنيا والآخرة، وتارة بالبطيخ، وتارة بالتمر، فإنه وضع تمرة على كسرة من خبز الشعير، وقال: «هذه إدام هذه» «3» ، رواه أبو داود والترمذى بسند حسن من حديث يوسف بن عبد الله ابن سلام قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- أخذ ... فذكره. قال ابن القيم: وهذا من تدبير الغذاء، فإن الشعير بارد يابس، والتمر حار رطب- على أصح القولين- فإدام خبز الشعير به من أحسن التدبير. وتارة بالخل، ويقول: نعم الأدم الخل «4» رواه مسلم، وتقدم.
قال الخطابى والقاضى عياض: معناه مدح الاقتصاد فى المأكل، ومنع النفس من ملاذ الأطعمة، تقديره: ائتدموا بالخل وما فى معناه مما تخفف مؤنته ولا يعز وجوده، ولا تنافسوا فى الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن.
وتعقبه النووى فقال: الذى ينبغى أن يجزم به، أنه مدح للخل نفسه، وأما الاقتصاد فى المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر. انتهى. وقال ابن القيم: هذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر، لا تفضيله على غيره كما ظنه بعضهم، قال: وسبب الحديث أنه دخل على أهله يوما فقدموا له خبزا فقال: «ما من أدم؟» فقالوا: ما عندنا إلا الخل، فقال: «نعم الأدم الخل» والمقصود أن أكل الخبز مع الأدم من أسباب حفظ الصحة بخلاف الاقتصار على أحدهما، وسمى الأدم أدما لإصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة،
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3837) فى الأطعمة، باب: فى الجمع بين لونين فى الأكل، وابن ماجه (3334) فى الأطعمة، باب: التمر بالزبد، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4921) .
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 474) عن رجل من الصحابة.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3259 و 3260) فى الأيمان والنذور، باب: الرجل يحلف أن لا يتأدم، و (3830) فى الأطعمة، باب: فى التمر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) صحيح: وقد تقدم.(2/166)
وليس فى هذا تفضيل له على اللبن واللحم والعسل والمرق، ولو حضر لحم أو لبن لكان أولى بالمدح منه، فقال هذا جبرا وتطييبا لقلب من قدمه له، لا تفضيلا له على سائر أنواع الأدم.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يحتمى عنها.
وهذا من أكبر أسباب الصحة، فإن الله سبحانه بحكمته جعل فى كل بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها فى وقته، فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم، ويغنى عن كثير من الأدوية، وقل من احتمى عن فاكهة بلدة خشية السقم إلا وهو من أسقم الناس جسما وأبعدهم من الصحة والقوة، فمن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى، على الوجه الذى ينبغى كان له دواء نافعا.
وقد روى ابن عباس قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأكل العنب خرطا «1» . رويناه فى الغيلانيات. لكن قال أبو جعفر العقيلى- كما حكاه فى الهدى- لا أصل لهذا الحديث. قال ابن الأثير: يقال خرط العنقود واخترطه إذا وضعه فى فيه ثم يأخذ حبه ويخرج عرجونه عاريا منه. قال: وجاء فى بعض الروايات خرصا- بالصاد بدل الطاء-.
وأما البصل فروى أبو داود فى سننه عن عائشة أنها سئلت عن البصل فقالت: إن آخر طعام أكله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه بصل «2» . وثبت عنه فى الصحيحين أنه منع آكله من دخول المسجد «3» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يترك الثوم دائما
__________
(1) موضوع: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 38) وقال: رواه الطبرانى، وفيه زياد بن المنذر، وهو كذاب. اه. قلت: وانظر «ضعيف الجامع» (4520) .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3829) فى الأطعمة، باب: فى أكل الثوم، وأحمد فى «المسند» (6/ 89) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (854) فى الأذان، باب: ما جاء فى الثوم النىء والبصل والكراث، ومسلم (564) فى المساجد، باب: نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها مما له رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح، من حديث جابر- رضى الله عنه-، وفى الباب عن غيره من الصحابة.(2/167)
لأنه يتوقع مجىء الملائكة والوحى كل ساعة. قال النووى: واختلف أصحابنا فى حكم الثوم فى حقه- صلى الله عليه وسلم- وكذلك البصل والكراث ونحوها، فقال بعض أصحابنا: هى محرمة عليه، والأصح عندهم أنها مكروهة كراهة تنزيه وليست محرمة لعموم قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا» فى جواب: أحرام هى؟ «1» ومن قال بالأول يقول: معنى الحديث: ليس بحرام فى حقكم. انتهى. فينبغى لمحبه موافقته- صلى الله عليه وسلم- فى ترك الثوم ونحوه، وكراهة ما كان يكرهه- صلى الله عليه وسلم-، فإن من أوصاف المحب الصادق أن يحب ما أحب محبوبه ويكره ما يكرهه.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث «2» . رواه الترمذى فى الشمائل وهذا- كما فى الهدى- أنفع ما يكون من الأكلات، فإن الأكل بأصبع أكل المتكبر، ولا يستلذ به الآكل ولا يمريه ولا يشبعه إلا بعد طول، ولا يفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها فى كل أكلة فيأخذها على إغماض كما يأخذ الرجل حقه حبة حبة أو نحو ذلك، فلا يلتذ بأخذه، والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على الآلة وعلى المعدة، وربما استدت الآلات فمات، وتغصب الآلات على دفعه، والمعدة على احتماله، ولا يجد له لذة ولا استمراء، فأنفع الأكل أكله- صلى الله عليه وسلم-، وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاثة.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يلعق أصابعه إذا فرغ ثلاثا: رواه الترمذى فى الشمائل.
وفى رواية مسلم ويلعق يده قبل أن يمسحها. وفى رواية أنه أمر بلعق الأصابع والصحفة «3» . وقد روى الترمذى عن أم عاصم قالت: دخل علينا نبيشة الخير، ونحن نأكل فى قصعة فحدثنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أكل
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (565) فيما سبق، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2032) فى الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأبو داود (3848) فى الأطعمة، باب: فى المنديل، من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: وهو إحدى روايات حديث مسلم السابق.(2/168)
فى قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة» «1» ، وكذا أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن شاهين والدارمى وغيرهم. وقال الترمذى: إنه حديث غريب. وأورده بعضهم بلفظ: تستغفر الصحفة للاحسها. وفى حديث جابر مرفوعا عن أبى الشيخ فى الثواب: «من أكل ما يسقط من الخوان أو القصعة أمن من الفقر والبرص والجذام وصرف عن ولده الحمق» «2» . وللديلمى من طريق الرشيد عن آبائه عن ابن عباس رفعه؛ «من أكل ما يسقط من المائدة خرج ولده صباح الوجوه، ونفى عنه الفقر» «3» .
وأورده الغزالى فى الإحياء بلفظ: «عاش فى سعة وعوفى فى ولده» وكلها مناكير.
لكن فى مسلم عن جابر وأنس مرفوعا: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه لأنه لا يدرى فى أى طعامه البركة» «4» . وفى حديث كعب بن عجرة عند الطبرانى فى الأوسط صفة لعق الأصابع، ولفظه:
رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث، بالإبهام والتى تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، الوسطى ثم التى تليها ثم الإبهام «5» . قال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى: كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثا لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما ينزل الطعام. وقد وقع فى مرسل ابن شهاب
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (1804) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى اللقمة تسقط، وابن ماجه (3271 و 3272) فى الأطعمة، باب: تنقية الصحفة، وأحمد فى «المسند» (5/ 76) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) ضعيف: أخرجه الحسن بن معروف فى فضائل بنى هاشم، والخطيب وابن النجار عن ابن عباس، كما فى «كنز العمال» (40823) ، وانظر «كشف الخفاء» (2393) .
(3) تقدم فيما قبله.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2033) فى الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة من حديث جابر- رضى الله عنه-، وأخرجه مسلم (2034) من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(5) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 28) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه الحسن بن إبراهيم الأوبى، ومحمد بن كعب بن عجرة ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات.(2/169)
عند سعيد بن منصور أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أكل أكل بخمس. فيجمع بينه وبين ما تقدم باختلاف الحال. وقد جاءت علة اللعق مبينة- فى بعض الروايات- أنه لا يدرى أحدكم فى أى طعامه البركة. وفى الحديث رد على من كره لعق الأصابع استقذارا ممن ينسب للرياسة والإمرة فى الدنيا. نعم، يحصل ذلك لو فعله أثناء الأكل لأنه يعيد أصابعه فى الطعام، وعليها أثر ريقه.
قال الخطابى: عاب قوم أفسد عقلهم الترفه لعق الأصابع، وزعموا أنه مستقبح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذى علق بالأصابع والصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذرا لم يكن الجزء اليسير منه مستقذرا، وليس فى ذلك أكثر من مصه أصابعه بباطن شفتيه، ولا يشك عاقل أن لا بأس بذلك، فقد يتمضمض الإنسان فيدخل أصبعه فى فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه، ثم لم يقل أحد إن ذلك قذارة وسوء أدب، انتهى. ولا ريب أن من استقذر ما نسب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيىء الأدب، يخشى عليه أمر عظيم، فنسأل الله بوجاهة وجهه الكريم أن لا يسلك بنا غير حلاوة سبيل سنته وأن يديم لنا محبته. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- لا يأكل متكئا، لما صح أنه قال «لا آكل متكئا» «1» . رواه البخارى. وقال: «إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد» «2» . وروى ابن ماجه والطبرانى بإسناد حسن قال: أهديت للنبى- صلى الله عليه وسلم- شاة، فجثا على ركبتيه يأكل فقال له أعرابى: ما هذه الجلسة؟ فقال: «إن الله جعلنى كريما ولم يجعلنى جبارا عنيدا» «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5398 و 5399) فى الأطعمة، باب: الأكل متكئا، من حديث أبى جحيفة- رضى الله عنه-.
(2) تقدم.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (3773) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الأكل من أعلى الصحفة، وابن ماجه (3263) فى الأطعمة، باب: الأكل متكئا، من حديث عبد الله بن بسر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(2/170)
قال ابن بطال: إنما فعل ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- تواضعا لله، ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهرى قال: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- ملك لم يأته قبلها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون نبيّا ملكا أو نبيّا عبدا، فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أن تواضع، فقال: «بل عبدا نبيّا» قال فما أكل متكئا «1» .
وهذا مرسل أو معضل، وقد وصله النسائى من طريق الزبيدى عن الزهرى عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصى قال: ما رؤى النبى- صلى الله عليه وسلم- يأكل متكئا قط. وأخرج ابن أبى شيبة عن مجاهد قال: ما أكل النبى- صلى الله عليه وسلم- متكئا إلا مرة واحدة. ويمكن الجمع بأن تلك المرة التى فى أثر مجاهد لم يطلع عليها عبد الله بن عمرو. فقد أخرج ابن شاهين «فى ناسخه» من مرسل عطاء بن يسار: أن جبريل رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يأكل متكئا فنهاه، وروى ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم- نهى أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه «2» . وقد فسر القاضى عياض فى الشفاء الاتكاء بالتمكن للأكل والتقعدد للجلوس له كالمتربع وشبهه من تمكن الجلسات التى يعتمد فيها الجالس على ما تحته. قال:
والجالس على هذه الهيئة يستدعى الأكل ويستكثر منه. والنبى- صلى الله عليه وسلم- إنما كان جلوسه للأكل المستوفز مقعيا. قال: وليس معنى الحديث فى الاتكاء الميل على شق عند المحققين انتهى. والإقعاء: أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويتساند إلى ظهره، وهو المنهى عنه فى الصلاة.
وتفسير القاضى عياض الاتكاء بما فسره به حكاه فى الإكمال عن الخطابى، وقال: إن الخطابى خالف فى هذا التأويل أكثر الناس، وأنهم إنما حملوا الاتكاء على أنه الميل على أحد الجانبين. انتهى. والذى رأيته يعزى للخطابى: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك،
__________
(1) تقدم.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (3774) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الجلوس على مائدة عليها بعض ما يكره، وابن ماجه (3370) فى الأطعمة، باب: النهى عن الأكل منبطحا، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(2/171)
بل هو المعتمد على الوطاء الذى تحته. انتهى. وقد فسر أيضا بالميل على أحد الشقين، وبه فسر ابن الجوزى: وقيل هو الاعتماد على الشىء، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض. وقد أخرج ابن عدى بسند ضعيف: زجر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل. قال الإمام مالك: هو نوع من الاتكاء، قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: وفى هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئا، ولا يختص بصفة بعينها، وحكى ابن الأثير فى النهاية أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب. وقال ابن القيم: إنه يضر بالآكل، فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعى عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء.
وأما الاعتماد على الشىء فهو جلوس الجبابرة المنافى للعبودية، ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم-: «آكل كما يأكل العبد» «1» . وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائل والوطاء الذى تحت الجالس- كما ذكرته عن الخطابى- فيكون المعنى: أنى إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطئة والوسائد كفعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام، لكنى آكل بلغة من الزاد، فلذلك أقعد مستوفزا.
وفى حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- أكل تمرا وهو مقع «2» ، من الجوع. وفى رواية: وهو محتفز. والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن. واختلف السلف فى حكم الأكل متكئا، فزعم ابن القاص: أن ذلك من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-.
وتعقبه السهيلى فقال: قد يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين، وأصله مأخوذ من ملوك العجم، قال: فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئا لم يكن فى ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة.
__________
(1) تقدم.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3771) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الأكل متكئا، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/172)
قال فى فتح البارى: وفى الحمل نظر، وقد أخرج ابن أبى شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار وغيرهم جواز ذلك مطلقا، وإذا ثبت كونه مكروها أو خلاف الأولى، فالمستحب فى صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى. انتهى.
وقال ابن القيم: ويذكر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يجلس للأكل متوركا على ركبتيه ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى تواضعا- صلى الله عليه وسلم- لله عز وجل وأدبا بين يديه. قال وهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى خلقها الله تعالى عليه.
انتهى. وأخرج ابن أبى شيبة من طريق إبراهيم النخعى قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاة مخافة أن تعظم بطونهم.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا وضع يده فى الطعام يسمى الله تعالى «1» . وأما قول النووى فى آداب الأكل من الأذكار: والأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: بسم الله كفاه وحصلت السنة. فقال فى فتح البارى: لم أر لما أدعاه من الأفضلية دليلا خاصا. وكان- صلى الله عليه وسلم- يحمد فى آخره فيقول:
«الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه غير مودع ولا مستغنى عنه ربنا» «2» رواه الترمذى. وقوله: «غير مودع» بفتح الدال الثقيلة- أى غير متروك. ولا مستغنى: بفتح النون. وربنا: بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى: هو ربنا؛ ويجوز النصب على المدح، أو الاختصاص، أو إضمار أعنى. وقال ابن الجوزى: بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء.
وفى رواية: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 337) عن رجل خدم النبى- صلى الله عليه وسلم- ثمان سنين، وله شاهد صحيح من أمره لغلام وسيأتى.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5458 و 5459) فى الأطعمة، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه أبو داود (3850) فى الأطعمة، باب: ما يقول الرجل إذا طعم، والترمذى (3457) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا فرغ من الطعام، وابن ماجه (3283) فى-(2/173)
وللنسائى من طريق عبد الرحمن بن جبير المصرى أنه حدثه رجل خدم النبى- صلى الله عليه وسلم- ثمان سنين له كان يسمع النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا قرب إليه طعام يقول:
«بسم الله» ، فإذا فرغ قال: «اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت فلك الحمد على ما أعطيت» «1» وسنده صحيح.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يحب التيامن من شأنه كله «2» ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» «3» . قال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى: حمله أكثر الشافعية على الندب، وبه جزم الغزالى ثم النووى. لكن نص الشافعى فى الرسالة وفى موضع آخر من الأم على الوجوب، كذا ذكر عنه الصيرفى فى شرح الرسالة. ونقل البويطى فى مختصره: أن الأكل من رأس الثريد، والتعريس على الطريق، والقران فى التمر حرام. ومثل البيضاوى فى منهاجه للندب بقوله: «كل مما يليك» وتعقبه الشيخ تاج الدين بن السبكى فى شرحه: بأن الشافعى نص فى غير هذا الموضع على أن من أكل مما لا يليه عالما بالنهى كان عاصيا آثما، قال: وقد جمع والدى نظائر هذه المسألة فى كتاب له سماه «كشف اللبس عن المسائل الخمس» ونصر القول بأن الأمر فيها للوجوب.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: بعد أن ذكر ذلك: ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد فى الأكل بالشمال، ففى صحيح مسلم أن النبى
__________
- الأطعمة، باب: ما يقال إذا فرغ من الطعام، وأحمد فى «المسند» (3/ 32 و 98 و 253) من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4436) .
(1) تقدم قريبا.
(2) قلت: ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (426) فى الصلاة، باب: التيمن فى دخول المسجد وغيره، ومسلم (268) فى الطهارة، باب: التيمن فى الطهور وغيره، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5376) فى الأطعمة، باب: التسمية على الطعام، والأكل باليمين، ومسلم (2022) فى الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، من حديث عمر بن أبى سلمة- رضى الله عنهما-.(2/174)
- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا يأكل بشماله فقال: «كل بيمينك» فقال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت» «1» فما رفعها إلى فيه بعد فإن قلت: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يتتبع الدباء من حوالى القصعة وهو يعارض الأكل مما يلى: فالجواب: أنه يحمل الجواز على ما إذا علم رضى من يأكل معه، فإذا علم كراهة من يأكل معه لذلك لم يأكل إلا مما يليه. قال ابن بطال: وإنما جالت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الطعام، لأنه علم أن أحدا لا يتكره ذلك منه ولا يتقذره، بل كانوا يتبركون بريقه وبما مسه بيده، بل كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها. وقال غيره: إنما فعل ذلك لأنه كان يأكل وحده. وهو غير مسلّم، لأن أنسا أكل معه- صلى الله عليه وسلم-. وحديث عكراش عند الترمذى: الذى فيه التفصيل بين ما إذا كان لونا واحدا فلا يتعدى ما يليه، أو أكثر من لون فيجوز، ضعيف والله أعلم.
وقرب إليه- صلى الله عليه وسلم- طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ قال: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» «2» رواه الترمذى. وفى رواية له: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده» «3» . فيحمل الوضوء الأول على الشرعى والثانى على اللغوى. وروى أبو يعلى بإسناد ضعيف من حديث ابن عمر: من أكل من هذه اللحوم شيئا فليغسل يده من ريح وضره، ولا يؤذى من حذاءه.
ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يأكل طعاما حارا، فروى الطبرانى فى الصغير والأوسط من حديث بلال بن أبى هريرة عن أبيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أتى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2021) فيما سبق، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (374) فى الحيض، باب: جواز أكل المحدث الطعام، وأنه لا كراهة فى ذلك، وأبو داود (3760) فى الأطعمة، باب: فى غسل اليدين عند الطعام، والترمذى (1847) فى الأطعمة، باب: فى ترك الوضوء قبل الطعام، والنسائى (1/ 85) فى الطهارة، باب: الوضوء لكل صلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3761) فى الأطعمة، باب: فى غسل اليد قبل الطعام، والترمذى (1846) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الوضوء قبل الطعام وبعده، من حديث سلمان- رضى الله عنه-، وقال أبو داود عقبه: وهو ضعيف.(2/175)
بصحفة تفور، فقال: «إن الله لم يطعمنا نارا» «1» قال: وبلال قليل الرواية عن أبيه. انتهى. وعند أبى نعيم فى الحلية، من حديث أنس مرفوعا: كان يكره الكى والطعام الحار ويقول: «عليكم بالبارد فإنه ذو بركة، ألا وإن الحار لا بركة له» «2» الحديث. ولأحمد وأبى نعيم من حديث أسماء أنها كانت إذا ثردت غطته بشىء حتى يذهب فوره ثم تقول: إنى سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «هو أعظم بركة» «3» . لكن عند البيهقى- بسند صحيح- عن أبى هريرة قال: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- بطعام سخن فقال: «ما دخل بطنى طعام سخن منذ كذا وكذا قبل اليوم» «4» .
وكان له- صلى الله عليه وسلم- قدح من خشب مضبب بحديد، قال أنس لقد سقيته- صلى الله عليه وسلم- بهذا القدح الشراب كله: الماء والنبيذ والعسل. وفى البخارى عن سهل بن سعد قال: أقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى جلس فى سقيفة بنى ساعدة هو وأصحابه، ثم قال «اسقنا يا سهل» فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه «5» ، فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له. الحديث. وكان عمر بن عبد العزيز قد ولى حينئذ إمرة المدينة.
وعند البخارى من حديث عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبى- صلى الله عليه وسلم- عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة. قال: وهو قدح جيد عريض من نضار، وقال: قال أنس: لقد سقيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى هذا القدح أكثر من كذا وكذا «6» ، قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 20) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط، وفيه عبد الله بن يزيد البكرى، ضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات.
(2) ضعيف جدّا: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (8/ 252) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4606) .
(3) ضعيف: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (8/ 177) ، وانظر «كشف الخفاء» للعجلونى (36) .
(4) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (7/ 280) .
(5) صحيح: أخرجه البخارى (5637) فى الأشربة، باب: الشرب من قدح النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2007) فى الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذى لم يشتد ولم يصر مسكرا.
(6) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5638) فى الأشربة، باب: الشرب من قدح النبى- صلى الله عليه وسلم- وآنيته.(2/176)
من حديث فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال أبو طلحة: لا تغيرن شيئا صنعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتركه.
وعنده: فى فرض الخمس من طريق أبى حمزة السكرى عن عاصم قال: رأيت القدح وشربت منه. وأخرجه أبو نعيم من طريق على بن الحسن ابن شقيق عن أبى حمزة، ثم قال: قال على بن الحسن وأنا رأيت القدح وشربت منه. وذكر القرطبى فى مختصر البخارى أنه رأى فى بعض النسخ القديمة من البخارى: قال أبو عبد الله البخارى: - رأيت هذا القدح بالبصرة وشربت فيه، وكان اشترى من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف. ووقع عند أحمد من طريق شريك عن عاصم: رأيت عند أنس قدح النبى- صلى الله عليه وسلم- فيه ضبة من فضة. وقوله من نضار- بضم النون وبالضاد المعجمة- الخالص من العود ومن كل شىء ويقال: أصله من شجر النبع، وقيل: من الأثل ولونه يميل إلى الصفرة. ولم يأكل- صلى الله عليه وسلم- على خوان ولا أكل خبزا مرققا «1» ، رواه الترمذى. والخوان- بكسر المعجمة ويجوز ضمها- المائدة ما لم يكن عليها طعام، وأما السفرة: فاشتهرت لما يوضع عليه الطعام. وكان- صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النوم على الأكل، ويذكر أنه يقسى القلب، ذكره أبو نعيم، ولذا قال الأطباء- كما فى الهدى «2» - من أراد حفظ الصحة فليمش بعد العشاء ولو مائة خطوة ولا ينام عقبه فإنه يضر جدّا، والصلاة بعد الأكل تسهل هضمه.
وأما شربه- صلى الله عليه وسلم- فقد كان يستعذب له الماء، أى يطلب له الماء الحلو.
قالت عائشة: كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا «3» . رواه أبو داود. وهى- بضم المهملة وبالقاف- وهى عين بينها وبين المدينة يومان.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) هو كتاب «زاد المعاد فى هدى خير العباد» لابن القيم- رحمه الله-، وهو كتاب مشهور فى بابه.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (3735) فى الأشربة، باب: فى إسكاء الآنية، وأحمد فى «المسند» (6/ 108) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5332) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.(2/177)
قال ابن بطال: واستعذاب الماء لا ينافى الزهد، ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك لما فيه من السرف. وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح قد فعله الصالحون. وليس فى شرب الماء المالح فضيلة. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يشرب العسل الممزوج بالماء البارد.
قال ابن القيم: وفى هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدى إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء، فإن شرب العسل ولعقه على الريق يزيل البلغم ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها ويدفع عنها الفضلات، ويسخنها باعتدال ويفتح سددها، والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ البدن. وقالت عائشة: كان أحب الشراب إليه- صلى الله عليه وسلم- الحلو البارد «1» . رواه الترمذى. ويحتمل أن تريد به الماء الممزوج بالعسل أو الذى نقع فيه التمر والزبيب. وكان ينبذ له أول الليل ويشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التى تجىء، والغد إلى العصر، فإن بقى شىء سقاه الخدام أو أمر به فصب «2» . رواه مسلم.
وهذا النبيذ: هو ماء يطرح فيه تمر يحليه، وله نفع عظيم فى زيادة القوة، ولم يكن يشربه بعد ثلاث خوفا من تغيره إلى الإسكار. وكان- صلى الله عليه وسلم- يشرب اللبن خالصا تارة، وتارة مشوبا بالماء البارد، لأن اللبن عند الحلب يكون حارا، وتلك البلاد فى الغالب حارة، فكان يكسر حر اللبن بالماء البارد. وعن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل على رجل من الأنصار، ومعه صاحب له، فسلم فرد الرجل وهو يحول الماء فى حائطه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن كان عندك ماء بات فى شنه وإلا كرعنا» فقال: عندى ماء بات فى شن، فانطلق إلى العريش فسكب فى قدح ثم حلب عليه من لبن داجن، فشرب- صلى الله عليه وسلم- «3» الحديث. رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (1895) فى الأشربة، باب: ما جاء أى الشراب كان أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (6/ 38 و 40) ، والحديث أعله الترمذى بالإرسال، وصححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2004) فى الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذى لم يشتد ولم يصر مسكرا، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5613) فى الأشربة، باب: شرب اللبن بالماء.(2/178)
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليس يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن» «1» قال الترمذى: حديث حسن.
وللترمذى أيضا: عن ابن عمر مرفوعا: «ثلاثة لا ترد: اللبن والوسادة والدهن» «2» وأنشد بعضهم:
قد كان من سيرة خير الورى ... صلى عليه الله طول الزمن
أن لا يرد الطيب والمتكا ... واللحم أيضا يا أخى واللبن
قال ابن القيم: ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يشرب على طعامه لئلا يفسده، ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا إنه ردىء جدّا. انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يشرب قاعدا وكان ذلك عادته. رواه مسلم. وفى رواية له أيضا: أنه نهى عن الشرب قائما «3» وفى رواية له أيضا عن أبى هريرة: «لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسى فليستقىء» «4» . وفى الصحيحين من حديث ابن عباس قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بدلو من ماء زمزم فشرب وهو قائم «5» . وفى حديث على عند البخارى: أنه شرب وهو قائم، ثم قال: «إن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن النبى- صلى الله عليه وسلم- صنع مثل ما صنعت» «6» .
وكل هذه الأحاديث صحيحة ولا إشكال فيها ولا تعارض، وغلط من
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (3730) فى الأشربة، باب: ما يقول إذا شرب اللبن، والترمذى (3455) في الدعوات، باب: ما يقول إذا أكل طعاما، وأحمد فى «المسند» (1/ 225) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (381) .
(2) حسن: أخرجه الترمذى (2790) فى الأدب، باب: ما جاء فى كراهية رد الطيب، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3046) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2025) فى الأشربة، باب: كراهية الشرب قائما، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2026) فيما سبق، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1637) فى الحج، باب: ما جاء فى زمزم، ومسلم (2027) فى الأشربة، باب: فى الشرب من زمزم قائما.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (5615 و 5616) فى الأشربة، باب: الشرب قائما.(2/179)
زعم أن فيها نسخا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث، والصواب: أن النهى محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه- صلى الله عليه وسلم- قائما فلبيان الجواز. فإن قلت: كيف يكون الشرب قائما مكروها، وقد فعله- صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب: أن فعله- صلى الله عليه وسلم- إذا بيانا للجواز لا يكون مكروها، بل البيان واجب عليه- صلى الله عليه وسلم-. وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فمن نسى فليستقىء» فمحمول على الاستحباب والندب، فيستحب لمن شرب قائما أن يتقيأ لهذا الحديث الصحيح الصريح سواء كان ناسيا أو لا، قاله النووى.
وقال المالكية: لا بأس بالشرب قائما، واستدلوا لذلك بحديث جبير بن مطعم قال: رأيت أبا بكر الصديق يشرب قائما. ويقول مالك إنه بلغه عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلى أنهم كانوا يشربون قياما. وأجابوا عن حديث أبى هريرة «لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسى فليستقىء» بأن عبد الحق قال:
فى إسناده عمر بن حمزة العمرى، وهو ضعيف. انتهى. وقال المازرى: قال بعض شيوخنا لعل النهى ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به، وخروجا عن كون ساقى القوم آخرهم شربا.
وقال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبى هريرة: قال:
والأظهر لى أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهى تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل، لأن فى الشرب قائما ضرّا ما، فكره من أجله، وفعله هو لأمنه منه، قال: وعلى هذا الثانى يحمل قوله: «فمن شرب فليستقىء» على أن ذلك يحرك خلطا يكون القىء دواءه، ويؤيده قول النخعى: إنما نهى عن ذلك لداء البطن. انتهى. وقال ابن القيم:
للشرب قائما آفات عديدة منها: أنه لا يحصل به الرى التام، ولا يستقر فى المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء وينزل بسرعة إلى المعدة فيخشى منه أن تبرد حرارتها، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج، وكل هذا يضر بالشارب قائما، فإذا فعله نادرا لم يضره.
وعند أحمد عن أبى هريرة أنه رأى رجلا يشرب قائما، فقال له قئه،(2/180)
فقال: لم؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر قال: لا، قال: قد شرب معك من هو شر منه: الشيطان «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يتنفس فى الشراب ثلاثا ويقول:
«إنه أروى وأمرأ وأبرأ» «2» رواه مسلم. ومعنى تنفسه: إبانة القدح عن فيه، وتنفسه خارجه، ثم يعود إلى الشرب. وأخرج الطبرانى فى الأوسط بسند حسن عن أبى هريرة: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يشرب فى ثلاثة أنفاس «3» : إذا أدنى الإناء إلى فيه سمى الله، فإذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثا.
وفى هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة، نبه- صلى الله عليه وسلم- على مجامعها بقوله «إنه أروى وأمرأ وأبرأ» فأروى: من الرى- بكسر الراء من غير همز- أشد ريّا وأبلغه وأنفعه. وأبرأ، أفعل من البرء- بالهمز- وهو الشفاء، أى يبرئ من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات، تسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه، والثالثة ما عجزت عنه الثانية. وأيضا:
فإنه أسلم لحرارة المعدة، وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ونهلة واحدة، فإنه أسلم عاقبة وآمن غائلة من تناول جميع ما يروى دفعة واحدة، فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية لشدة برده وكثرة كميته، أو يضعفها فيؤدى ذلك إلى فساد المعدة والكبد، وإلى أمراض رديئة، خصوصا فى سكان البلاد الحارة، وفى الأزمنة الحارة، فإن الشرب فيهما وهلة واحدة مخوف عليهم جدّا.
وقوله: أمرأ: بالهمز، أفعل من مرؤ الطعام والشراب فى بدنه إذا داخله وخالطه بسهولة ولذة ونفع. انتهى. وقال بعضهم: والمعنى أنه يصير هنيئا مريئا. أى: سالما أو مبرئا من مرض أو عطش أو أذى. ويؤخذ من ذلك:
أنه أقمع للعطش وأقوى على الهضم. ومن آفات الشرب نهلة واحدة، أنه
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 301) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2028) فى الأشربة، باب: كراهة التنفس فى نفس الإناء، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 82) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه اليمان بن المغيرة، وهو ضعيف.(2/181)
يخاف منه الشرق، بأن ينسد مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه، فإذا تنفس رويدا ثم شرب أمن من ذلك. وقد روى عبد الله بن المبارك والبيهقى وغيرهما عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصّا، ولا يعب عبّا فإنه يورث الكباد «1» . والكباد: - بضم الكاف وتخفيف الباء- وجع الكبد.
ولا معارضة بين التنفس هنا وبين النهى عن التنفس فى الإناء الوارد فى الحديث، لأن المنهى عنه التنفس داخل الإناء، فإنه ربما حصل للماء تغير من النفس، إما لكون المتنفس كان متغير الفم لمأكول مثلا، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة، وهاهنا التنفس خارج الإناء فلا تعارض، فلو لم يتنفس جاز الشرب بنفس واحد، وقيل يمنع مطلقا لأنه شرب الشيطان.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا دعى لطعام وتبعه أحد أعلم به رب المنزل، فيقول:
«إن هذا تبعنا فإن شئت رجع» «2» . وكان يكرر على أضيافه ويعرض عليهم الأكل مرارا، وفى حديث أبى هريرة فى قصة شرب اللبن، وقوله مرارا:
«اشرب» فما زال يقول: اشرب حتى قال: والذى بعثك بالحق لا أجد له مسلكا «3» . رواه البخارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أكل مع قوم كان آخرهم أكلا.
رواه البيهقى فى الشعب عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا. وفى حديث ابن عمر مرفوعا عند ابن ماجه والبيهقى: «إذا وضعت المائدة فلا يقوم الرجل
__________
(1) ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور فى سننه وابن السنى، وأبو نعيم فى الطب، والبيهقى فى شعب الإيمان عن ابن أبى حسين مرسلا، كما فى «ضعيف الجامع» (561) .
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2081) فى البيوع، باب: السهولة والسماحة فى الشراء والبيع، ومسلم (2036) فى الأشربة، باب: ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه، من حديث أبى مسعود- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (6452) فى الرقاق، باب: كيف كان عيش النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتخليهم من الدنيا.(2/182)
وإن شبع حتى يفرغ القوم، فإن ذلك يخجل جليسه وعسى أن يكون له فى الطعام حاجة» «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم. فدعا فى منزل عبد الله بن بسر فقال: «اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم» «2» رواه مسلم، ودعا فى منزل سعد فقال: «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة» «3» رواه أبو داود، وسقاه آخر لبنا فقال: «اللهم أمتعه بشبابه» «4» فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء، رواه ابن السنى.
النوع الثانى فى لباسه صلى الله عليه وسلم وفراشه
قال البخارى: باب ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يتجوز من اللباس. يعنى يتوسع فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه، أو لا يضيق بطلب النفيس الغالى، بل يستعمل ما تيسر.
وقال القاضى عياض: كان- صلى الله عليه وسلم- قد اقتصر منه على ما تدعوه ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس- فى غالب أحواله- الشملة والكساء الخشن والأردية والأزر، ويقسم على من حضره أقبية
__________
(1) ضعيف جدّا: أخرجه ابن ماجه (3295) فى الأطعمة، باب: النهى أن يقام عن الطعام حتى يرفع، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2042) فى الأشربة، باب: استحباب وضع النوى خارج التمر، واستحباب دعاء الضيف لأهل الطعام.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (3854) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الدعاء لرب الطعام إذا أكل عنده، والدارمى فى «سننه» (1772) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 118 و 201) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1226) .
(4) أخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (6/ 322) من حديث عمرو بن الحمق- رضى الله عنه-.(2/183)
الديباج المخوصة بالذهب، ويرفع لمن لم يحضر. إذ المباهاة فى الملابس والتزين بها ليست من خصال الشرف والجلالة، وهى من سمات النساء، والمحمود منها نقاوة الثوب، والتوسط فى جنسه، وكونه ليس مثله، غير مسقط لمروءة جنسه. انتهى.
وقد روى أبو نعيم فى الحلية عن ابن عمر مرفوعا: «أن من كرامة المؤمن على الله عز وجل نقاء ثوبه ورضاه باليسير» «1» .
وله أيضا من حديث جابر: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا وسخة ثيابه فقال: «أما وجد هذا شيئا ينقى به ثيابه؟» «2» .
فقد كانت سيرته- صلى الله عليه وسلم- فى ملبسه أتم وأنفع للبدن وأخفه عليه، فإنه لم تكن عمامته بالكبيرة التى يؤذى حملها ويضعفه ويجعله عرضة للآفات، كما يشاهد من حال أصحابها ولا بالصغيرة التى تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد بل وسطا بين ذلك، وكان يدخلها تحت حنكه، فإنها تقى العنق من الحر والبرد، وهو أثبت لها عند ركوب الخيل والإبل، والكر والفر، وكذلك الأردية والأزر أخف على البدن من غيرها.
وقد أطنب ابن الحاج فى المدخل فى الاستدلال لاستحباب التحنيك، ثم قال: وإذا كانت العمامة من باب المباح فلابد فيها من فعل سنن تتعلق بها، من تناولها باليمين والتسمية والذكر الوارد، إن كانت مما ليس جديدا، وامتثال السنة فى صفة التعميم، من فعل التحنيك والعذبة. وتصغير العمامة يعنى سبعة أذرع أو نحوها، يخرجون منها التحنيك والعذبة، فإن زاد فى العمامة قليلا لأجل حر أو برد فيسامح فيه. ثم قال بعد أن ذكر قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «3» ، فعليك بأن تتسرول قاعدا وتتعمم قائما. انتهى.
__________
(1) ضعيف جدّا: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 132) وقال: رواه الطبرانى، وفيه عباد بن كثير، وثقه ابن معين، وضعفه غيره، وحرول بن حنفل ثقة، وقال ابن المدينى: له مناكير، وبقية رجاله ثقات. اه، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (5309) .
(2) رواه الطبرانى وأبو نعيم، كما فى «كشف الخفاء» للعجلونى (922) .
(3) سورة الحشر: 7.(2/184)
ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يطول أكمامه ويوسعها، بل كان كم قميصه إلى الرسغ، وهو منتهى الكف عند المفصل، لا يجاوز اليد فيشق على لابسه ويمنعه سرعة الحركة والبطش، ولا يقصره- صلى الله عليه وسلم- عن هذا فتبرز للحر والبرد، وقد روى عن أسماء بنت يزيد قالت: كان كم قميص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الرسغ. رواه الترمذى.
وكان ذيل قميصه وردائه إلى أنصاف الساقين، لم يتجاوز الكعبين، فيؤذى الماشى ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقيه، فيتأذى بالحر والبرد. أشار إليه فى زاد المعاد.
وأخرج الترمذى عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتى تحدث عن عمها قال: بينا أنا أمشى بالمدينة إذا إنسان خلفى يقول: «ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى» ، فإذا هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله إنما هى بردة قال: «أما لك فى أسوة؟» فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه «1» .
وأخرج الطبرانى من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر قال: رآنى النبى- صلى الله عليه وسلم- أسبلت إزارى، فقال: «يا ابن عمر كل شىء لمس الأرض من الثياب فهو فى النار» «2» . وفى البخارى من حديث أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فى النار» «3» .
قال الخطابى: يريد أن الموضع الذى يناله الإزار من أسفل الكعبين فى النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه: أن الذى دون الكعبين من القدم يعذب بالنار عقوبة. وحاصله أنه من باب تسمية الشىء باسم ما جاوره أو حل فيه، وتكون «من» بيانية.
__________
(1) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (9682 و 9683) ، وأحمد فى «المسند» (5/ 364) .
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 98) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 387) ، وانظر ما بعده.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5787) فى اللباس، باب: ما أسفل من الكعبين فهو فى النار.(2/185)
وللطبرانى من حديث عبد الله بن مغافل، رفعه: (إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففى النار) «1» والإزرة: - بالكسر- الحالة وهيئة الائتزار مثل الركبة والجلسة.
واعلم طهر الله ثوبى وثوبك، ونزه سرى وسرك- أن هذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الذى ورد فيه الوعيد بالاتفاق.
وقد أخرج أصحاب السنن إلا الترمذى- واستغربه- وابن أبى شيبة من طريق عبد العزيز بن أبى رواد عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الإسبال فى الإزار والقميص والعمامة، من جر شيئا منها خيلاء» «2» الحديث، فبين فى هذه الرواية أن الحكم ليس خاصّا بالإزار، وإن جاء فى أكثر طرق الأحاديث بلفظ الإزار. قال الطبرى: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار، لأن أكثر الناس فى عهده كانوا يلبسون الأزر والأردية، فلما لبس الناس القمص والدراريع كان حكمها حكم الإزار فى النهى.
قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب فإنه يشمل جميع ذلك، وفى تصوير جر العمامة نظر إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة فى ذلك كان من الإسبال.
وهل يدخل فى الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر. والذى يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل فى ذلك. قال ابن القيم: وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال، التى هى كالآخراج، وعمائم كالأبراج، فلم يلبسها- صلى الله عليه وسلم- هو ولا أحد من أصحابه، وهى مخالفة لسنته، وفى جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء، انتهى. وقال صاحب «المدخل» : ولا يخفى على ذى بصيرة أن كم بعض من
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 126) عن عبد الله بن مغافل وقال: رواه الطبرانى وفيه الحكم بن عبد الملك القرشى، وهو ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4094) فى اللباس، باب: فى قدر موضع الإزار، والنسائى (8/ 208) فى الزينة، باب: إسبال الإزار، وابن ماجه (3576) فى اللباس، باب: طول القميص كم هو؟، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2770) .(2/186)
ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة المال المنهى عنها، لأنه قد يفضل من ذلك الكم ثوب لغيره. انتهى. لكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك فى تحريمه، وما كان على طريق العادة، فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع منه. ونقل القاضى عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد فى اللباس من الطول والسعة.
وفى حديث أبى هريرة عند البخارى مرفوعا «بينما رجل يمشى تعجبه [نفسه] مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة» «1» . وفى الطبرانى وأبى داود «إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها، فنظر الله إليه فمقته، فأمر الأرض فأخذته» «2» .
وهذا الوعيد المذكور يتناول الرجال والنساء على هذا الفعل المخصوص، وقد فهمت ذلك أم سلمة- رضى الله عنها-، فأخرج النسائى والترمذى- وصححه- من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر: فقالت أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن فقال: يرخين شبرا فقالت: إذا تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه «3» . وحاصل ما ذكر فى ذلك: أن للرجال حالين، حال استحباب: وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال جواز: وهو إلى الكعبين، وكذلك للنساء حالان: حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، وأن الإسبال يكون فى الإزار والقميص والعمامة، وأنه لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5789) فى اللباس، باب: من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم (2088) فى اللباس، باب: تحريم التبختر فى المشى مع إعجابه بثيابه.
(2) أخرجه الطبرانى فى الكبير عن أبى جوى الجهنى، كما فى «كنز العمال» (7788) .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (4117) فى اللباس، باب: فى قدر الذيل، والترمذى (1731) فى اللباس، باب: ما جاء فى ذيول النساء، والنسائى (8/ 209) فى الزينة، باب: ذيول النساء، وأحمد فى «المسند» (2/ 5) و (6/ 213 و 309) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/187)
للخيلاء، وإن كان لغيرها فهو مكروه للتنزيه. قال النووى: وظواهر الأحاديث فى تقييدها بالخيلاء يدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، قال:
وهذا نص الشافعى على الفرق كما ذكرنا انتهى.
تنبيه: قال العراقى فى شرح الترمذى: الذراع الذى رخص للنساء فيه، هل ابتداؤه من الحد الممنوع منه الرجال، وهو من الكعبين، أو من الحد المستحب وهو أنصاف الساقين، أو حده من أول ما يمس الأرض؟ الظاهر أن المراد الثالث: بدليل حديث أم سلمة الذى رواه أبو داود والنسائى- واللفظ له- وابن ماجه، قالت: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كم تجر المرأة من ذيلها؟ قال «شبرا» قالت: إذا ينكشف عنها، قال: «فذراع لا تزيد عليه» «1» فظاهره: أن لها أن تجر على الأرض منه ذراعا. قال: والظاهر أن المراد بالذراع ذراع اليد وهو شبران، لما فى سنن ابن ماجه عن ابن عمر قال: رخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأمهات المؤمنين شبرا، ثم استزدنه فزادهن شبرا. فدل على أن الذراع المأذون فيه شبران وهو الذراع الذى يقاس به الحصر اليوم. وإنما جاز ذلك للنساء لأجل الستر لأن المرأة كلها عورة إلا ما استثنى.
وقد كان له- صلى الله عليه وسلم- عمامة تسمى السحاب، ويلبس تحتها القلانس اللاطئة. والقلانس: جمع قلنسوة- بفتح القاف وسكون النون وضم المهملة وفتح الواو، وقد تبدل ياء تحتية، وقد تبدل ألفا وتفتح السين، يقال: قلنساة، وقد تحذف النون من هذه بعدها هاء تأنيث- غشاء مبطن يستر به الرأس، قاله الفراء فى شرح «الفصيح» . وقال ابن هشام: هى التى يقول لها العامة الشاشية، وفى «المحكم» : هى ملابس الرؤوس، معروفة، قال أبو هلال العسكرى: هى التى تغطى بها العمائم وتستر من الشمس والمطر، كأنها عنده رأس البرنس. انتهى.
وروى الترمذى عن جابر- رضى الله عنه- قال: (دخل النبى- صلى الله عليه وسلم- مكة يوم
__________
(1) صحيح: وهو ما قبله.(2/188)
الفتح وعليه عمامة سوداء) «1» ، وفى رواية لأنس عند البخارى (دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر) «2» وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء، زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس. ويجمع بينهما: بأن العمامة السوداء كانت فوق المغفر.
وجمع بينهما القاضى عياض: بأن أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر، بدليل قوله فى حديث عمرو بن حريث عن أبيه (خطب الناس وعليه عمامة سوداء) «3» لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة. قال الولى بن العراقى: وهو أولى وأظهر فى الجمع من الأول. وقد تقدم نحو ذلك فى غزوة فتح مكة.
وعن ابن عمر قال: (كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا اعتم سدل) «4» رواه الترمذى فى الشمائل، زاد مسلم (وقد أرخى طرفها بين كتفيه) . وقد روى أبو محمد ابن حيان «5» فى كتاب «أخلاق النبى- صلى الله عليه وسلم-» من حديث ابن عمر: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتم قال: يدير كور العمامة على رأسه ويغرسها من ورائه ويرخى لها ذؤابة بين كتفيه. وروى مسلم من حديث عمرو بن حريث قال:
(رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه) «6» وعنده أيضا عن جابر، وقال: «دخل مكة وعليه عمامة سوداء» «7» ولم يذكر فيه ذؤابة، فدل على أنه لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه. لكن قد يقال: إن دخوله مكة كان وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه، فلبس فى كل موطن ما يناسبه.
وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1358) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1359) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1846) فى الحج، باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (1736) فى اللباس، باب: فى سدل العمامة بين الكتفين، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4676) .
(5) صحيح: أخرجه مسلم (1359) من حديث عمرو بن الحريث المتقدم قبل حديث.
(6) قلت: هو الحديث السابق.
(7) صحيح: وقد تقدم قريبا.(2/189)
فى سبب الذؤابة شيئا بديعا: وهو أن النبى- صلى الله عليه وسلم- إنما اتخذها صبيحة المنام الذى رآه بالمدينة لما رأى رب العزة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟
قلت: لا أدرى، فوضع يده بين كتفى فعلمت ما بين السماء والأرض «1» .
الحديث وهو فى الترمذى، وسئل عنه البخارى فقال: صحيح. قال: فمن تلك الغداة أرخى الذؤابة بين كتفيه. قال: وهذا من العلم الذى تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم، قال: ولم أر هذه الفائدة فى شأن الذؤابة لغيره. انتهى.
وعبارة غير الهدى: وذكر ابن تيمية أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رأى ربه واضعا يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة. انتهى لكن قال العراقى بعد أن ذكره:
لم نجد لذلك أصلا. انتهى. وروى ابن أبى شيبة عن على قال: عممنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعمامة سدل طرفها على منكبى وقال: «إن الله أمدنى يوم بدر ويوم حنين بملائكة معممين هذه العمة» وقال: «إن العمامة حاجز بين المسلمين وبين المشركين» «2» .
قال عبد الحق الإشبيلى: وسنة العمامة- بعد فعلها- أن يرخى طرفها ويتحنك به، فإن كانت بغير طرف ولا تحنيك فذلك يكره عند العلماء، واختلف فى وجه الكراهة، فقيل لمخالفة السنة فيها، وقيل: لأنها كذلك عمائم الشياطين. وجاءت الأحاديث فى إرسال طرفها على أنواع: منها ما تقدم أنه أرسل طرفها على منكب على، ومنها: أن عبد الرحمن بن عوف قال: عممنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسدلها بين يدى ومن خلفى «3» . ذكره أبو داود. وعن ابن عباس أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه عمامة دسماء أى سوداء.
رواه الترمذى.
وفى حديث ركانة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن فرق ما بيننا وبين المشركين
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3233) فى التفسير، باب: ومن سورة ص، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (10/ 14) ، من حديث على- رضى الله عنه-.
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (4079) فى اللباس، باب: فى العمائم، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(2/190)
العمائم على القلانس» «1» . رواه الترمذى أيضا. وعن أبى كبشة الأنمارى قال: كانت كمام أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- بطحا. رواه الترمذى أيضا. وفى رواية أكمة، وهما جمع كثرة وقلة، الكمة: القلنسوة، يعنى أنها كانت منبطحة غير منتصبة، وعن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانت له كمة بيضاء، رواه الدمياطى. وكان أحب الثياب إليه- صلى الله عليه وسلم- القميص، كما فى الشمائل للترمذى، من حديث أم سلمة قالت: (كان أحب الثياب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القميص) «2» . وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رهط من مزينة لنبايعه وإن قميصه لمطلق الأزرار- أو قال: زر قميصه مطلق- قال: فأدخلت يدى فى جيب قميصه فمسست الخاتم «3» . رواه الترمذى.
وعن أنس قال: كان قميص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قطنا قصير الطول والكمين، رواه الدمياطى. وعن أنس بن مالك قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبسه الحبرة «4» . رواه الترمذى. والحبرة: ضرب من البرود فيه حمرة. وعن أبى رمثة قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه بردان أخضران «5» رواه الترمذى. وعن عطاء عن أبى يعلى عن أبيه قال: رأيت
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4078) فى اللباس، باب: العمائم، والترمذى (1784) فى اللباس، باب: رقم (41) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (3959) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4025) فى اللباس، باب: ما جاء فى القميص، والترمذى (1762) فى اللباس، باب: ما جاء فى القميص، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4625) .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (4082) فى اللباس، باب: فى حل الأزرار، وأحمد فى «المسند» (3/ 434) و (4/ 19) و (5/ 35) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (5812 و 5813) فى اللباس، باب: البرود والحبرة والشملة، ومسلم (2079) فى اللباس والزينة، باب: فضل لباس ثياب الحبرة.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (4206) فى الترجل، باب: فى الخضاب، والترمذى (2812) فى الأدب، باب: ما جاء فى الثوب الأخضر، والنسائى (3/ 185) فى صلاة العيدين، باب: الزينة للخطبة للعيدين، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/191)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت مضطبعا ببرد أخضر «1» . رواه أبو داود.
وعن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لبس جبة رومية ضيقة الكمين «2» . رواه الترمذى. وعن أبى ذر: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه ثوب أبيض «3» . رواه البخارى: وعن عائشة قالت: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات غداة وعليه مرط شعر أسود «4» . رواه الترمذى. وعن أنس قال كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبس الصوف، وكان له- صلى الله عليه وسلم- كساء ملبد يلبسه ويقول:
«إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد» «5» رواه الشيخان.
فإن قلت قد علم من هذا، ومن سيرة السلف الصالح، بذاذة الهيئة ورثاثة الملابس، فما بال الشاذلية من الصوفية يجملون هياتهم وملابسهم، وطريقهم الاقتداء بالسنة الشريفة والسلف الصالح.
أجاب العارف الربانى على الوفائى، أذاقنا الله حلاوة مشربه، ومن خطه الكريم نقلت بما لفظه: ذلك لأنهم نظروا إلى المعانى والحكم. فوجدوا السلف الصالح لما وجدوا أهل الغافلة والشغل لدنياهم منهمكين على الزينة الظاهرة، تفاخرا بدنياهم واطمئنانا إليها وإشعارا بأنهم من أهلها، خالفوهم إظهارا لحقارة ما حقره الحق مما عظمه الغافلون بالغنى عما اطمأن إليه الغافلون؛ فكأن أطمارهم يومئذ تقول الحمد لله الذى أغنانا به عما أفقر نفسه إليه من همه دنياه. فلما طال الأمد وقست القلوب بنسيان ذلك المعنى، واتخذ الغافلون رثاثة الأطمار وبذاذة الهيئة حيلة على جلب دنياهم انعكس
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1883) فى المناسك، باب: الاضطباع فى الطواف، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (5/ 79) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (1768) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الجبة والخفين، والنسائى (1/ 83) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين فى السفر، وابن ماجه (3563) فى اللباس، باب: لبس الصوف، والحديث أصله عند مسلم (274) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5827) فى اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (94) فى الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2081) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس.
(5) قلت: هو ليس فيهما، ولم أجده.(2/192)
الأمر، فصار مخالفة هؤلاء فى ذلك لله هو قول السلف وطريقتهم كما تقدم.
قال وقد أرشد الأستاذ أبو الحسن الشاذلى. قدس الله سره العزيز، إلى ذلك بقوله لبعض من أنكر عليه جمال هيئته من أصحاب الرثاثة: يا هذا هيئتى هذه تقول: الحمد لله، وهيئتك هذه تقول: أعطونى شيئا من دنياكم. والقوم أفعالهم دائرة مع الحكمة الربانية مرادهم مرضاة ربهم. انتهى ما قاله سيدى على وفا.
وقد ورد فى الحديث الصحيح عنه- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله جميل يحب الجمال» «1» وفى الحديث الآخر «إن الله نظيف يحب النظافة» «2» وفى السنن عن أبى الأحوص الجشمى عن أبيه قال: رآنى النبى- صلى الله عليه وسلم- وعلى أطمار- وفى رواية النسائى: وعلى ثوب دون- فقال: «هل لك من مال؟» قلت:
نعم، قال: «من أى المال؟» قلت: من كل ما آتى الله من الإبل والشاء، قال:
«فكثر نعمته وكرامته عليك» «3» ، وفى رواية النسائى قال: «فإذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته» وفى حديث جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا شعثا قد تفرق شعره فقال: «ما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه» ، ورأى رجلا عليه ثياب وسخة فقال: «ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه» «4» رواه أحمد.
وفى السنن: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» «5» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (91) فى الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، من حديث عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2799) فى الأدب، باب: ما جاء فى النظافة، من حديث سعد- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1616) .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (4063) فى اللباس، باب: فى غسل الثوب، والنسائى (8/ 180) فى الزينة، باب: الجلاجل، وأحمد فى «المسند» (3/ 473) و (4/ 137) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (254) .
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4062) فى اللباس، باب: فى غسل الثوب، وأحمد فى «المسند» (3/ 357) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5483) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(5) صحيح: وقد تقدم قبل حديث.(2/193)
فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذى يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن، فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها، ولأجل محبته تعالى للجمال أنزل على عباده لباسا يجمل ظواهرهم، وتقوى تجمل بواطنهم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ «1» . وقال فى أهل الجنة: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً «2» .
وهو سبحانه كما يحب الجمال فى الأقوال والأفعال واللباس والهيئة، يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والهيئة، فيبغض القبيح وأهله ويحب الجمال وأهله. ولكن ضل فى هذا الموضع فريقان:
فريق قالوا: كل ما خلق الله تعالى جميل، فهو يحب كل ما خلقه، ونحن نحب جميع ما خلقه فلا نبغض منه شيئا، قالوا: ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة، واحتجوا بقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «3» . وهؤلاء قد عدموا الغيرة لله من قلوبهم، والبغض فى الله، والمعاداة فيه، وإنكار المنكر وإقامة الحدود.
والفريق الثانى، قالوا: قد ذم الله جمال الصور، وتمام القامة والخلقة، فقال عن المنافقين وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ «4» . وفى صحيح مسلم مرفوعا «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «5» ، قالوا: وقد حرم الله علينا لباس الحرير والذهب، وآنية الذهب والفضة، وذلك من أعظم جمال الدنيا. وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَ
__________
(1) سورة الأعراف: 26.
(2) سورة الإنسان: 11، 12.
(3) سورة السجدة: 7.
(4) سورة المنافقون: 4.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2564) فى البر والصلة، باب: تحريم ظلم الإنسان وخذله واحتقاره، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/194)
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ «1» . وفى الحديث «البذاذة من الإيمان» «2» وقد ذم الله المسرفين، والسرف كما يكون فى الطعام والشراب يكون فى اللباس.
وفصل النزاع أن يقال: الجمال فى الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع:
منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم.
فالمحمود منه، ما كان لله وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير فى الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه.
والمذموم منه: ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء، وأن يكون من هو غاية العبد وأقصى مطلبه، فإن كثيرا من الناس ليس له همة فى سوى ذلك.
وأما ما لا يحمد ولا يذم فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين. والمقصود من هذا الحديث أن الله تعالى يحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه فى لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والشعور المكروهة، والختان وتقليم الأظافر وغير ذلك مما وردت به السنة، والله أعلم.
وعن جابر بن سمرة قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ليلة مقمرة أضحيان، فجعلت أنظر إليه- صلى الله عليه وسلم- وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو أحسن عندى من القمر «3» . رواه الدارمى والترمذى: وعن عون بن أبى جحيفة عن
__________
(1) سورة طه: 131.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4161) فى الترجل، باب: رقم (1) ، وابن ماجه (4118) فى الزهد، باب: من لا يؤبه له، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 51) ، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2879) .
(3) صحيح: وقد تقدم.(2/195)
أبيه قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه حلة حمراء كأننى أنظر إلى بريق ساقيه «1» . قال سفيان: أراه حبرة. وعن البراء بن عازب قال: ما رأيت أحدا من الناس أحسن فى حلة حمراء من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» . رواهما الترمذى.
وفى البخارى ومسلم: رأيته فى حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه.
وفى رواية لأبى داود ما رأيت من ذى لمة فى حلة حمراء أحسن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . وقوله: من ذى لمة: - بكسر اللام- أى شعر الرأس، دون الجمة، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا زادت فهى الجمة.
وفى النسائى: ما رأيت رجلا أحسن فى حلة حمراء من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال فى القاموس: الحلة- بالضم- إزار ورداء، برد أو غيره، ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة.
قال ابن القيم: وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتا، ولا يخالطها غيرها، وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، كسائر البرود اليمانية، وهى معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط، وإلا فالأحمر البحت ينهى عنه أشد النهى، وفى صحيح البخارى: (أنه- صلى الله عليه وسلم- نهى عن المياثر الحمر) «4» وفى صحيح مسلم عن ابن عمر قال: (رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- على ثوبين معصفرين فقال: «إن هذا لباس الكفار فلا تلبسهما» «5» ومعلوم أن ذلك إنما يصبغ صباغا أحمر. قال: وفى جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرهما نظر، وأما كراهته فشديدة، فكيف يظن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه لبس الأحمر القانى، كلا لقد أعاذه الله منه، وإنما وقعت الشبهة من لفظ الحلة الحمراء والله أعلم. انتهى.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (5849) فى اللباس، باب: الميثرة الحمراء، من حديث البراء- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (2077) فى اللباس، باب: النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر.(2/196)
وقال النووى: اختلف العلماء فى الثياب المعصفرة، وهى المصبوغة بعصفر فأباحها جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الإمام الشافعى وأبو حنيفة ومالك، ولكنه قال: غيرها أفضل منها. وفى رواية عنه أنه أجاز لبسها فى البيوت وأفنية الدور وكرهه فى المحافل والأسواق وغيرها.
وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهى على هذا، لأنه ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- لبس حلة حمراء، وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- صبغ بالصفرة، وحمل بعضهم النهى على المحرم بالحج أو العمرة.
وقد أتقن البيهقى المسألة فى «معرفة السنن» فقال: نهى الشافعى الرجل عن المزعفر، وأباح له المعصفر، قال الشافعى: وإنما رخصت فى المعصفر لأنى لم أجد أحدا يحكى عنه- صلى الله عليه وسلم- النهى عنه، إلا ما قال على- رضى الله عنه- أنه- صلى الله عليه وسلم- نهانى ولا أقول نهاكم. قال البيهقى: وقد جاءت أحاديث تدل على أن النهى على العموم، ثم ذكر حديث مسلم «أن هذه من لباس الكفار» وأحاديث غيرها، ثم قال: ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعى لقال بها إن شاء الله تعالى، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعى أنه قال: إذا صح الحديث بخلاف قولى فاعملوا بالحديث ودعوا قولى. وفى رواية: مذهبى.
قال البيهقى: قال الشافعى: وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وآمره إذا تزعفر أن يغسله، قال البيهقى: فتبع السنة فى المزعفر فمتابعتها فى المعصفر أولى به، انتهى.
ورأيت فى فتاوى شيخنا العلامة قاسم أحد أئمة الحنفية ومحققيها كراهته للتحريم مع صحة الصلاة فيه، واستدل له بما ذكرته، وبما فى حديث طاووس عند الحاكم وقال على شرطهما عن ابن عمرو بن العاص قال:
دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وعلى ثوب معصفر، قال: «من أين لك هذا؟» قال: صنعته لى أهلى فقال- صلى الله عليه وسلم-: «احرقه» «1» انتهى.
__________
(1) قلت: هو عند أبى داود (4068) فى اللباس، باب: فى الحمرة، ولكن الحرق من فعل عبد الله بن عمرو لا من قوله- صلى الله عليه وسلم-، بل قال له لما علم بفعله: «أفلا كسوته بعض أهلك» .(2/197)
وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبس برده الأحمر فى العيدين والجمعة «1» ، وعن يحيى بن عبد الله بن مالك قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصبغ ثيابه بالزعفران قميصه ورداءه وعمامته. رواهما الدمياطى.
وهو عند أبى داود بلفظ: يصبغ بالورس والزعفران ثيابه حتى عمامته «2» ، وكذا رواه من حديث زيد بن أسلم وأم سلمة وابن عمر، لكن يعارضه ما فى الصحيح أنه- صلى الله عليه وسلم- نهى عن التزعفر والله أعلم.
وأما صفة إزاره- صلى الله عليه وسلم-، فعن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرى قال:
أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى هذين «3» ، رواه البخارى، وفى رواية: إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه التى تدعونها الملبدة، وفى رواية: كساء ملبدا. قال ابن الأثير: أى مرقعا، يقال: لبدت القميص ألبده، ولبدته، ويقال للخرقة التى يرقع بها صدر القميص. اللبدة: وقيل الملبد: الذى ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبد.
وروى مسلم من حديث عائشة قالت: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود «4» والمرط: - بكسر الميم وإسكان الراء- كساء من صوف أو خز، يؤتزر به. والمرحل: بتشديد الحاء المهملة المفتوحة، كمعظم، هو الذى فيه صور الرحال، قال فى القاموس فى مادة ر ح ل: وك «معظم» : برد فيه تصاوير رحل، قال: وتفسير الجوهرى إياه بإزار خز فيه علم، غير جيد، إنما ذلك تفسير المرجل- بالجيم-، وقال فى مادة ر ج ل- يعنى الجيم-: وبرد مرجل كمعظم، فيه صور الرجال، انتهى.
__________
(1) ضعيف: أخرجه البيهقى، كما فى «ضعيف الجامع» (4620) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4064) فى اللباس، باب: فى المصبوغ بالصفرة، والنسائى (8/ 140) فى الزينة، باب: الخضاب بالصفرة، والحديث صحح إسناده الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5818) فى اللباس، باب: الأكسية والخمائص، ومسلم (2080) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس.
(4) صحيح: وقد تقدم.(2/198)
وقال النووى: والصواب الذى رواه الجمهور، وضبطه المتقنون: بالحاء المهملة، أى عليه صور رحال الإبل، ولا بأس بهذه الصورة، وإنما يحرم تصوير الحيوان. وقال الخطابى، المرحل، الذى فيه خطوط والله أعلم.
وعن عروة: أن طول رداء النبى- صلى الله عليه وسلم- أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر وعن عروة أيضا: أن ثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى كان يخرج فيه إلى الوفد رداء أخضر فى طول أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر. وعن معن بن عيسى قال: حدثنا محمد بن هلال قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبى- صلى الله عليه وسلم- من حبرة له حاشيتان. وعن ابن عمر قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه إزار يتقعقع. وعن يزيد بن أبى حبيب أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرخى الإزار بين يديه ويرفعه من ورائه. وعن ابن عباس قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأتزر تحت سرته وتبدو سرته، ورأيت عمر يأتزر فوق سرته، رواها كلها الدمياطى.
(فصل) وعن أسماء بنت أبى بكر، أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالديباج، وقالت: هذه جبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كانت عند عائشة، فلما قبضت قبضتها، وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبسها فنحن نغسلها للمرضى نستشفى بها «1» . رواه مسلم. وقوله:
جبة طيالسة: بإضافة جبة إلى طيالسة. وكسروانية: بكسر الكاف وفتحها، والسين ساكنة والراء مفتوحة، نسبة إلى كسرى ملك الفرس. ولبنة: بكسر اللام وإسكان الباء، رقعة فى جيب القميص.
وفيه: جواز لبس ما له فرجان وأنه لا كراهة فيه، وأن المراد بالنهى عن الحرير المتحمض منه، أو ما أكثره منه، وأنه ليس المراد تحريم كل جزء منه، بخلاف الخمر والذهب فإنه يحرم كل جزء منهما، قاله النووى.
(لطيفة) قيل: لما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يبدو منه إلا طيب، كان آية
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2069) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.(2/199)
ذلك فى بدنه الشريف أنه لا يتسخ له ثوب، فما اتسخ له ثوب قط، وقال ابن سبع فى «الشفاء» والسبتى فى «أعذب الموارد وأطيب الموالد» : لم يكن القمل يؤذيه تعظيما له وتكريما- صلى الله عليه وسلم- لكن يشكل عليه ما رواه أحمد والترمذى فى الشمائل عن عائشة- رضى الله عنها-: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفلى ثوبه ويحلب شاته «1» ، ومن لازم التفلى وجود شىء يؤذى فى الجملة، إما قملا أو برغوثا أو نحو ذلك. ويمكن أن يجاب: بأن التفلى لاستقذار وجود ما علق بثوبه الشريف من غيره، ولو لم يحصل منه أذى فى حقه- صلى الله عليه وسلم-، وهذا فيه بحث، لأن أذى القمل هو غذاؤه من البدن على ما أجرى الله العادة، وإذا امتنع الغذاء لا يعيش الحيوان عادة. ونقل الفخر الرازى: أن الذباب لا يقع على ثيابه قط، وأنه لا يمتص دمه البعوض.
وأما الطيلسان- وهو بفتح اللام، واحدة الطيالسة، والهاء فى الجمع للعجمة لأنه فارسى معرب، وهو الساج أيضا، وقال ابن خالويه فى شرح «الفصيح» يقال للطيلسان الأخضر: الساج، وفى «المجمل» لابن فارس:
الطاق الطيلسان- فقال ابن القيم: لم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه لبسه، ولا أحد من أصحابه، بل ثبت فى صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الدجال فقال: «يخرج معه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة» «2» ورأى أنس جماعة عليهم الطيالسة فقال: ما أشبههم بيهود خيبر.
قال: ومن هاهنا كرهه جماعة من السلف والخلف، لما روى أبو داود والحاكم فى المستدرك أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» «3» وفى الترمذى:
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو نعيم فى الحلية، كما فى «صحيح الجامع» (4996) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2944) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: فى بقية من أحاديث الدجال، من حديث أنس، وليس عن النواس بن سمعان- رضى الله عنهم-.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (4031) فى اللباس، باب: فى لبس الشهرة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6149) .(2/200)
«ليس منا من تشبه بغيرنا» «1» وأما ما جاء فى حديث الهجرة أنه- صلى الله عليه وسلم- جاء إلى أبى بكر- رضى الله عنه- متقنعا بالهاجرة، فإنما فعله- صلى الله عليه وسلم- تلك الساعة ليختفى بذلك للحاجة، ولم يكن عادته التقنع. وقد ذكر أنس عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يكثر القناع «2» . وهذا إنما كان يفعله للحاجة من الحر ونحوه. قال شيخ الإسلام الولى بن العراقى فى شرح تقريب [الأسانيد:] التقنع معروف وهو تغطية الرأس بطرف العمامة أو برداء أو نحو ذلك. انتهى. وقال ابن الحاج فى «المدخل» : وأما قناع الرجل فهو أن يغطى رأسه بردائه ويرد طرفه على أحد كتفيه. انتهى.
وأما قول ابن القيم: إنه- صلى الله عليه وسلم- إنما فعل ذلك للحاجة، فيرد عليه حديث سهل بن سعد أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يكثر القناع. رواه البيهقى فى الشعب والترمذى. وللبيهقى فى الشعب أيضا وابن سعد فى طبقاته من حديث أنس بلفظ: يكثر التقنع، فهذا وما أشبهه يرد قول ابن القيم: أنه لم ينقل عنه أنه- صلى الله عليه وسلم- لبسه.
وأما قوله: ولا أحد من أصحابه، فيرده ما أخرجه الحاكم فى المستدرك، بسند على شرط الشيخين عن مرة بن كعب قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يذكر فتنة فقربها، فمر رجل مقنع فى ثوب، فقال: «هذا يومئذ على الهدى» ، فقمت فإذا هو عثمان بن عفان- رضى الله عنه- «3» . وأخرج سعيد بن منصور فى سننه عن أبى العلاء قال: رأيت الحسن بن على يصلى وهو مقنع
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (2695) فى الاستئذان، باب: فى كراهية إشارة اليد فى السلام، من حديث ابن عمرو- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (50434) .
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (ص 32) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4601) .
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3704) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-، وابن ماجه (111) فى المقدمة، باب: فضل عثمان- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/201)
رأسه، وأخرج ابن سعد عن سليمان بن المغيرة قال: رأيت الحسن يلبس الطيالسة، وأخرج عن عمارة بن زاذان قال: رأيت على الحسن طيلسانا أندقيّا.
وأما ما ذكره ابن القيم من قصة اليهود، فقال الحافظ ابن حجر: إنما يصلح الاستدلال به فى الوقت الذى تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك فى هذه الأزمنة فصار ذلك داخلا فى عموم المباح، وقد ذكره ابن عبد السلام فى أمثلة البدعة المباحة. وقد يصير من شعار قوم فيكون تركه من الإخلال بالمروءة. وقيل: إنما أنكر أنس ألوان الطيالسة لأنها كانت صفراء.
والله أعلم.
وأما الخاتم ففى الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من ورق، فكان فى يده، ثم كان فى يد أبى بكر، ثم كان فى يد عمر، ثم كان فى يد عثمان حتى وقع فى بئر أريس «1» . وفيهما أيضا عن أنس بن مالك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لبس خاتم فضة فيه فص حبشى، وكان يجعل فصه مما يلى كفه. وأخرج أحمد والنسائى والترمذى والبزار فى مسنده عن بريدة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- رأى فى يد رجل خاتما من حديد، فقال: «ما لى أجد منك ريح الأصنام» ، ثم قال له: «اتخذه من فضة ولا تزد على مثقال» «2» .
وقد اختلف العلماء فى لبسه فى الجملة، فأباحه كثير من أهل العلم من غير كراهة، ومنهم من كرهه إذا قصد به الزينة، ومنهم من كرهه إلا لذى سلطان، لحديث أبى داود والنسائى عن أبى ريحانة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبس الخاتم إلا لذى سلطان. ولأنه- صلى الله عليه وسلم- إنما اتخذه لحاجة ختم الكتب التى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5866) فى اللباس، باب: خاتم الفضة، ومسلم (2091) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4223) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الحديد، والترمذى (1785) فى اللباس، باب: ما جاء فى الخاتم الحديد، والنسائى (8/ 172) فى الزينة، باب: مقدار ما يجعل فى الخاتم من الفضة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(2/202)
يبعثها إلى الملوك، كما فى حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا بختم فصاغ خاتما ونقش فيه:
محمد رسول الله، وإنما لبسه أبو بكر- رضى الله عنه- لأجل ولايته، فإنه كان يحتاج إليه كما كان- صلى الله عليه وسلم- يحتاج إليه وكذلك عمر وعثمان.
وحكى ابن عبد البر عن طائفة من العلماء كراهة لبسه مطلقا، احتجاجا بحديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- نبذه ولم يلبسه. وفى الشمائل للترمذى عن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من فضة فكان يختم به ولا يلبسه. وفى الصحيحين من حديث أنس أنه رأى فى يده- صلى الله عليه وسلم- خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاتمه فطرح الناس خواتيمهم.
والصواب: القول الأول، فإن لبس النبى- صلى الله عليه وسلم- الخاتم إنما كان فى الأصل لأجل المصلحة لختم الكتب التى يرسلها إلى الملوك، ثم استدام لبسه ولبسه أصحابه معه، ولم ينكره عليهم، بل أقرهم عليه، فدل ذلك على الإباحة المجردة. وأما حديث النهى عن الخاتم إلا لذى سلطان فقال ابن رجب: ذكر بعض أصحابنا أن أحمد ضعفه. وأما ما جاء فى حديث الزهرى عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- لبسه يوما واحدا ثم ألقاه. فقد أجيب عنه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه وهم من الزهرى، وسهو جرى على لسانه لفظ الورق، وإنما الذى لبسه يوما واحدا ثم ألقاه كان من ذهب، كما ثبت ذلك من غير وجه فى حديث ابن عمر وأنس أيضا.
الثانى: أن الخاتم الذى رمى به- صلى الله عليه وسلم- لم يكن كله فضة، وإنما كان حديدا عليه فضة، وروى أبو داود عن معيقيب الصحابى- وكان على خاتم النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: كان خاتم النبى- صلى الله عليه وسلم- من حديد ملوى عليه فضة.
فلعل هذا هو الذى لبسه يوما واحدا ثم طرحه، ولعله هو الذى كان يختم به ولا يلبسه.(2/203)
الثالث: إن طرحه إنما كان لئلا يظن أنه سنة مسنونة، فإنهم اتخذوا الخواتيم لما رأوه قد لبسه فتبين بطرحه أنه ليس بمشروع ولا سنة.
ثم إن الخاتم قد يكون تارة من ذهب، وتارة من فضة، وتارة يكون من حديد، وتارة من صفر أو رصاص أو نحوها، وتارة من عقيق.
* فأما الذهب ففى الصحيحين عن البراء بن عازب قال: (نهانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن خاتم الذهب وآنية الفضة) «1» . وفيهما عن أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: (أنه نهى عن خاتم الذهب) «2» ، وفيهما أيضا عن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من ذهب فجعله فى يمينه وجعل فصه مما يلى باطن كفه، فاتخذ الناس خواتيم الذهب. قال: فصعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المنبر فألقاه ونهى عن التختم بالذهب) «3» .
وهو مذهب الأئمة الأربعة: مالك والشافعى وأبى حنيفة وأحمد وأكثر العلماء.
ورخصت فيه طائفة منهم إسحاق بن راهواه وقال: مات خمسة من أصحابه- صلى الله عليه وسلم- خواتيمهم من ذهب. قال مصعب بن سعد: رأيت على طلحة وسعد وصهيب خواتيم من ذهب. وعن حمزة بن أبى أسيد والزبير بن المنذر بن أبى أسيد أنهما نزعا من يد أبى أسيد خاتما من ذهب حين مات، وكان بدريّا، رواهما البخارى فى تاريخه. وروى النسائى عن سعيد بن المسيب قال: قال عثمان لصهيب ما لى أرى عليك خاتم الذهب فقال: قد رآه من هو خير منك فلم يعبه، قال: من هو؟ قال: رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5175) فى النكاح، باب: حق إجابة الوليمة، ومسلم (2066) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5864) فى اللباس، باب: خواتيم الذهب، ومسلم (2089) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5866) فى اللباس، باب: خاتم الفضة، ومسلم (2091) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال.(2/204)
* وأما خاتم الفضة، فأباحه كثير من العلماء، ولبسه- صلى الله عليه وسلم- وجماعة من أصحابه. قال الرافعى: يجوز للرجل التختم بالفضة، وكذا قال النووى فى الروضة وغيرها، وكتب أصحابنا طافحة بجوازه. وروى أبو داود وصححه ابن حبان، من حديث بريدة بن الحصيب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال للابس خاتم الحديد: «ما لى أرى عليك حلية أهل النار» ، فطرحه وقال: يا رسول الله، من أى شىء أتخذه؟ قال: «من ورق ولا تتمه مثقالا» «1» .
وأخرجه أيضا النسائى والترمذى وقال: غريب. وأخرجه أحمد وأبو يعلى فى مسنديهما والضياء فى المختارة مما ليس فى الصحيحين ورجاله رجال الصحيحين إلا عبد الله بن مسلم المعروف بأبى طيبة، وهو محدث مشهور، وتصحيح ابن حبان لحديثه دال على قبوله، فأقل أحواله أن يكون من درجة الحسن.
والأصل فى النهى كونه للتحريم، ولأن الأصل فى استعمال الفضة للرجال التحريم إلا ما رخص فيه، فإذا حد فيه حد وجب الوقوف عنده، وبقى ما عداه على الأصل. وقد قال ابن الرفعة فى باب ما يكره لبسه فى «الكفاية» : وينبغى أن ينقص وزنه عن مثقال. لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا، وساق الحديث. وقوله ينبغى، يصلح للوجوب وغيره، وحمله عليه أولى، لأنه ساق الحديث مساق الاحتجاج لهذا الحكم، فلا يصرف النهى عن حقيقته إلا بصارف.
وظاهر صنيع ابن الملقن فى شرح منهاج النووى يقتضيه، فإنه قال فى زكاة النقد: فرع فى أبى داود وصحيح ابن حبان من حديث بريدة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لذلك الرجل: فذكر الحديث فساقه سوق الفروع التى لا خلاف فيها بين الأصحاب، وظاهر ذلك تحريم المثقال.
وفى «القوت» للأذرعى: لم يتعرض أصحابنا لمقدار الخاتم ولعلهم
__________
(1) ضعيف: وقد تقدم قريبا من حديث بريدة قبل حديثين.(2/205)
اكتفوا بالعرف، فما خرج عنه كان إسرافا كما قالوا فى الخلخال للمرأة ونحوه، والصواب الضبط بما نص عليه فى الحديث وليس فى كلامهم ما يخالفه، هذا لفظه. وهو يشير إلى هذا الحديث.
وكذا مشى عليه ابن العماد فى التعقيبات وعبارته: وإذا جاز لبس الخاتم فشرطه أن لا يبلغ به مثقالا للحديث. انتهى. لكن قال الحافظ العراقى فى شرح الترمذى: إن النهى فى قوله: «ولا تتمه مثقالا» محمول على التنزيه، فيكره أن يبلغ به وزن مثقال. قال: وفى رواية لأبى داود، فى رواية صاحب المعالم: «ولا تتمه مثقالا ولا قيمة مثقال» وليست هذه الزيادة فى رواية اللؤلؤى. ومعنى هذه الزيادة أنه ربما وصل الخاتم بالنفاسة فى صنعته إلى أن يكون قيمة مثقال فهو داخل فى النهى أيضا. انتهى. وقد أفتى العلامة السراج العبادى بأنه يجوز أن يبلغ به مثقالا وأن ما زاد عليه حرام.
* وأما خاتم الحديد، فأخرج أبو داود فى الخاتم من سننه، والبيهقى في شعب الإيمان والأدب وغيرهما من تصانيفه من طريقه، والنسائى فى الزينة من سننه، وابن حبان فى صحيحه: أن رجلا جاء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه خاتم من شبه- وهو بفتح المعجمة والموحدة، وبإسكانها وكسر المعجمة، نوع من النحاس كانت الأصنام تتخذ منه، وسمى بذلك لشبهه بالذهب لونا- فقال: «ما لى أجد منك ريح الأصنام» ، فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد، فقال: «ما لى أرى عليك حلية أهل النار فطرحه» «1» وأخرجه الترمذى لكنه قال: من صفر بدل من شبه، وهما بمعنى. قال النووى فى شرح المهذب: قال صاحب الإبانة: يكره الخاتم من حديد أو شبه، وتابعه صاحب البيان فقال: يكره الخاتم من حديد أو نحاس أو رصاص لحديث بريدة.
وقال صاحب التتمة: لا يكره الخاتم من حديد أو رصاص لحديث
__________
(1) ضعيف: وهو الحديث السابق.(2/206)
الصحيحين: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال للذى خطب الواهبة نفسها: «اطلب ولو خاتما من حديد» «1» قال: ولو كان فيه كراهة لم يأذن فيه.
وفى سنن أبى داود بإسناد جيد عن معيقيب الصحابى: كان خاتمه- صلى الله عليه وسلم- من حديد ملوى عليه فضة «2» . والمختار: أنه لا يكره لهذين الحديثين. وقال فى شرح مسلم فى الكلام على حديث المرأة الواهبة نفسها:
وفى هذا الحديث جواز اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف حكاه القاضى، ولأصحابنا فى كراهته وجهان أصحهما لا يكره لأن الحديث فى النهى عنه ضعيف. انتهى. ولعل تضعيف النووى للحديث إنما هو بالنسبة إلى مقاومة حديث سهل بن سعد فى الصحيحين وغيرهما فى قصة الواهبة نفسها لا مطلقا، كيف وله فى ذلك شواهد عدة، إن لم ترقه إلى درجة الصحة لم تدعه ينزل عن درجة الحسن.
* وأما خاتم العقيق: فعن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «تختموا بالعقيق، واليمين أحق بالزينة» «3» وفى سنده مجهول، وروى بلفظ تختموا بالعقيق فإنه ينفى الفقر. وروى يعقوب بن إبراهيم عن عائشة مرفوعا:
«تختموا بالعقيق فإنه مبارك» «4» ويعقوب متروك. وروى أبو بكر بن شعيب عن فاطمة- رضى الله عنها- مرفوعا: «من تختم بالعقيق لم يزل يرى خيرا» «5» وهذا أيضا لا يثبت.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5029) فى فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ومسلم (1425) فى النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4224) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الحديد، والنسائى (8/ 175) فى الزينة، باب: لبس خاتم حديد ملوى عليه بفضة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .
(3) موضوع: أخرجه ابن عدى عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (2411) .
(4) موضوع: أخرجه العقيلى فى الضعفاء، وابن لال فى مكارم الأخلاق، والحاكم فى تاريخه، والبيهقى فى «شعب الإيمان» ، والخطيب فى التاريخ، وابن عساكر، والديلمى فى مسند الفردوس عن عائشة، كما فى «ضعيف الجامع» (2410) .
(5) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 154) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وعمرو بن الشريد لم يسمع من فاطمة، وزهير بن عباد الرواسى وثقه أبو حاتم، وبقية رجاله رجال الصحيح.(2/207)
وكذا ورد فيه أحاديث غير هذه، وكلها كما قال الحافظ ابن رجب لا تثبت، وقال العقيلى: لا يصح فى التختم بالعقيق عن النبى- صلى الله عليه وسلم- شىء.
وروى ابن فنجويه فى كتاب الخواتيم له بإسناد ضعيف عن على مرفوعا: «من تختم بالياقوت الأصفر منع الطاعون» «1» ، وإسناده ضعيف.
وأما فص خاتمه- صلى الله عليه وسلم-، فروى أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من فضة، فصه منه «2» . أخرجه البخارى وغيره. وفى صحيح مسلم أن خاتمه- صلى الله عليه وسلم- كان فصه حبشيّا «3» . قال النووى: قال العلماء: يعنى حجرا حبشيّا، أى فصا من جزع أو عقيق، فإن معدنهما بالحبشة واليمن. انتهى، فإن صح أنهم كانوا يعنون بالحبشى العقيق فيكون له خاتمان: أحدهما فصه عقيق، والآخر فصه فضة، وفى شرح مسلم للنووى حكاية أنه- صلى الله عليه وسلم- كان له فى وقت خاتم فصه منه، قال: وفى حديث آخر فصه من عقيق، انتهى.
لكن لم يرو عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه لبس خاتما كله عقيقا.
وأما نقش خاتمه- صلى الله عليه وسلم-، ففى صحيح مسلم (عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صنع خاتما من ورق نقش فيه: محمد رسول الله. وقال للناس: «إنى اتخذت خاتما من فضة ونقشت فيه: محمد رسول الله، فلا ينقش أحد على نقشه» «4» .
قال الترمذى: معنى قوله: «لا تنقشوا عليه» نهى أن ينقش أحد على خاتمه: محمد رسول الله. وفى رواية للنسائى: (اتخذ خاتما من ورق فصه
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن زنجويه فى كتاب الخواتيم عن على وسنده ضعيف، كما فى «كنز العمال» (17298) .
(2) لم أقف على رواية «فصه منه» وهى عند الترمذى (1740) فى اللباس.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2094) فى اللباس والزينة، باب: فى خاتم الورق فصه حبشى.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (5877) فى اللباس، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينقش على نقش خاتمه» ، ومسلم (2092) فى اللباس والزينة، باب: لبس النبى- صلى الله عليه وسلم- خاتما من ورق نقشه محمد رسول الله.(2/208)
حبشى، ونقش فيه: محمد رسول الله) «1» . وفى رواية البخارى والترمذى (وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر) «2» .
قال فى فتح البارى: ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، وأنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على الترتيب العادى، فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به تقتضى أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا، وأما قول بعض الشيوخ أن كتابته كانت من فوق يعنى الجلالة أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد أسفلها، فلم أر التصريح بذلك فى شىء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلى يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال: محمد سطر، والسطر الثانى رسول، والسطر الثالث: الله.
وعن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يلبس خاتمه فى يمينه، فلما قبض صار فى يد أبى بكر فى يمينه، فلما قبض صار فى يد عمر فى يمينه، ثم صار فى يد عثمان فى يمينه، ثم ذهب يوم الدار عليه: «لا إله إلا الله» . رواه بركة بن محمد الحلبى، كما حكاه ابن رجب فى كتاب الخواتيم، ثم قال: وهى رواية ساقطة جدّا، فإن بركة مذكور بالكذب، وفى لفظه ما يدل على بطلانه، وهو قوله: ذهب يوم الدار عليه: لا إله إلا الله، فإنه إنما سقط فى بئر أريس قبل يوم الدار، وقد عاش عثمان بعده مدة واتخذ له خاتما عوضه، وإنما كان نقشه، محمد رسول الله لا كلمة الإخلاص. انتهى.
تنبيه: قال شيخ الإسلام الشرف المناوى: وتحصل السنة بلبس الخاتم مطلقا، ولو مستعارا أو مستأجرا، لكن الأوفق للسنة لبسه بالملك، والاستدامة على ذلك، ويجوز تعداد الخواتيم اتخاذا، وأما الاستعمال فمفهوم كلام الرافعى عدم الجواز، وبه صرح المحب الطبرى فقال: المتجه أنه لا يجوز
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (8/ 172) فى الزينة، باب: صفة خاتم النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3106) فى الخمس، باب: ما ذكر فى درع النبى- صلى الله عليه وسلم- وعصاه وقدحه وخاتمه، والترمذى (1747 و 1748) فى اللباس، باب: ما جاء فى نقش الخاتم.(2/209)
للرجل أن يلبس خاتمين من فضة فى يديه أو فى إحداهما، لأن استعمال الفضة حرام إلا ما وردت به الرخصة، ولم ترد إلا فى خاتم واحد، لكن ذكر الخوارزمى فى الكافى أنه لا يجوز له أن يلبس زوجا فى يد وفرادى فى الآخرى، فإن لبس فى كل واحدة زوجا فقال الصيدلانى فى الفتاوى لا يجوز. وقال الدارمى فى الاستذكار يكره للرجل لبس فوق خاتمين، فاقتصاره على الكراهة يدل على عدم الحرمة، وإذا تقرر ذلك فالمسألة ذات خلاف، والذى يظهر كلام المحب الطبرى، فإن تسامحنا اعتمدنا على ما أفتى به الصيدلانى. انتهى.
ويجوز التختم فى اليمين واليسار، واختلف الناس فى أفضلهما، فقيل:
اليسار، وهو نص الإمام أحمد، فى رواية صالح قال: التختم فى اليسار أحب إلى، وهو مذهب الإمام مالك، ويروى أنه كان يلبسه فى يساره، وكذلك الإمام الشافعى. وفى صحيح مسلم عن أنس قال: (كان خاتم النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذه وأشار إلى الخنصر فى يده اليسرى) «1» . وفى سنن أبو داود (عن ابن عمر أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يتختم فى يساره) «2» وروى إسماعيل بن مسلم عن السليطى قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ليلة قمراء، وكأنى أنظر إلى عكن بطنه، وكأنها القباطى وإلى وبيص خاتمه فى يساره. وإسماعيل هذا قال البخارى: تركه ابن المبارك، وربما روى عنه. وقد ذكر بعض الحفاظ- كما أفاده الحافظ ابن رجب- أن التختم فى اليسار مروى عن عامة الصحابة والتابعين.
ورجحت طائفة التختم فى اليمين، وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن جعفر، وروى حماد بن سلمة قال: رأيت ابن أبى رافع يتختم فى يمينه فسألته عن ذلك فقال: رأيت عبد الله بن جعفر يتختم فى يمينه، وقال: كان- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2095) فى اللباس والزينة، باب: فى لبس الخاتم فى الخنصر من اليد.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (4227) فى الخاتم، باب: ما جاء فى التختم فى اليمين أو اليسار؟، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4899) .(2/210)
يتختم فى يمينه «1» ، رواه أحمد والنسائى وابن ماجه والترمذى وقال: قال محمد- يعنى البخارى- هذا أصح شىء روى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الباب.
وفى الشمائل للترمذى عن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه. وهذا فيه ضعف، لحال عبد الله بن ميمون. ويروى من حديث عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والخاتم فى يمينه، وعباد بن صهيب متروك أيضا. وروى البزار فى مسنده من حديث عبيد بن القاسم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه، وقبض والخاتم فى يمينه. وعبيد هذا كذاب. قال الحافظ ابن رجب: وقد جاء التصريح بأن تختمه- صلى الله عليه وسلم- فى يساره كان آخر الأمرين فى حديث رواه سليمان بن محمد عن عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه ثم إنه حوله إلى يساره «2» .
وقال وكيع: التختم فى اليمين ليس بسنة.
ونص أحمد: أنه يكره التختم فى السبابة والوسطى. وروى عن على أنه قال: (نهانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أتختم فى هذه أو هذه وأومأ إلى السبابة والوسطى) «3» والله أعلم. وفى اللباب: وكان- صلى الله عليه وسلم- يتختم، وربما خرج وفى خاتمه خيط مربوط يستذكر به الشىء، ورواه ابن عدى بسند ضعيف من حديث واثلة بلفظ: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد حاجة أوثق فى خاتمه
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (1744) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الخاتم فى اليمين، والنسائى (8/ 175) ، فى الزينة، باب: موضع الخاتم من اليد، وابن ماجه (3647) فى اللباس، باب: التختم باليمين، وأحمد فى «المسند» (1/ 205) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4900) .
(2) ضعيف: أخرجه ابن عدى فى الكامل عن ابن عمر، وابن عساكر عن عائشة، كما فى «ضعيف الجامع» (4532) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2078) فى اللباس والزينة، باب: النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر.(2/211)
خيطا. وروى أبو يعلى عن ابن عمر أنه إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط فى أصبعه خيطا ليذكرها. وكذا هو فى رابع الخلعيات. لكن فيه سالم بن عبد الأعلى أبو الفيض، رماه ابن حبان بالوضع بل اتهمه أبو حاتم بهذا الحديث.
وأما السراويل فاختلف هل لبسها النبى- صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فجزم بعض العلماء بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يلبسه، ويستأنس له بما جزم به النووى فى ترجمة عثمان بن عفان- رضى الله عنه- من كتاب تهذيب الأسماء واللغات: أنه- رضى الله عنه- لم يلبس السراويل فى جاهلية ولا إسلام إلا يوم قتله. فإنهم كانوا أحرص شىء على اتباعه- صلى الله عليه وسلم-.
لكن قد ورد فى حديث عند أبى يعلى الموصلى فى مسنده بسند ضعيف جدّا عن أبى هريرة قال: دخلت السوق يوما مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزان يزن فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اتزن وأرجح» ، فقال الوزان إن هذه الكلمة ما سمعتها من أحد، فقال أبو هريرة فقلت له: كفى بك من الوهن والجفاء فى دينك ألا تعرف نبيك، فطرح الميزان، ووثب إلى يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يقبلها فجذب يده- صلى الله عليه وسلم- منه وقال: «يا هذا إنما تفعل هذا الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم» ، فوزن فأرجح وأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السراويل. قال أبو هريرة: فذهبت لأحمله عنه فقال: «صاحب الشىء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم» ، قال: قلت يا رسول الله، وإنك لتلبس السراويل؟ قال: «أجل، فى السفر والحضر، وبالليل والنهار، فإنى أمرت بالستر، فلم أجد شيئا أستر منه» «1» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3336) فى البيوع، باب: فى الرجحان فى الوزن والوزن بالأجر، والترمذى (1305) فى البيوع، باب: ما جاء فى الرجحان فى الوزن، والنسائى (7/ 284) فى البيوع، باب: الرجحان فى الوزن، وابن ماجة (2220) فى التجارات، باب: الرجحان فى الوزن، والدارمى فى «سننه» (2585) ، وأحمد فى «المسند» -(2/212)
وكذا أخرجه ابن حبان فى الضعفاء عن أبى يعلى، ورواه الطبرانى فى الأوسط، والدار قطنى فى الأفراد، والعقيلى فى الضعفاء، ومداره على يوسف ابن زياد الواسطى. لكن قد صح شراء النبى- صلى الله عليه وسلم- له. وفى الهدى:
والظاهر أنه- صلى الله عليه وسلم- إنما اشتراه ليلبسه. وقد روى أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسونه فى زمانه وبإذنه. قال أبو عبد الله الحجازى فى حاشيته على «الشفاء» : وما قاله فى الهدى من أنه- صلى الله عليه وسلم- لبس السراويل، قالوا: سبق قلم والله أعلم. وقد أورد أبو سعيد النيسابورى ذكر الحديث فى تجارته- صلى الله عليه وسلم- من كتابه «شرف المصطفى» . وقد ترجم البخارى فى اللباس من صحيحه: باب السراويل، وأورد فيه حديث المحرم لكونه لم يرد فيه شىء على شرطه.
وأما الخف: فروى الترمذى عن بريدة أن النجاشى أهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- خفين أسودين ساذجين، فلبسهما ثم توضأ ومسح عليهما «1» .
وعن المغيرة بن شعبة قال: أهدى دحية للنبى- صلى الله عليه وسلم- خفين فلبسهما.
وقال إسرائيل عن جابر عن عامر: وجبة فلبسهما حتى تخرقا، لا يدرى النبى- صلى الله عليه وسلم- أذكيان هما أم لا «2» . رواه الطبرانى.
وأما نعله- صلى الله عليه وسلم-، والنعل- كما قال صاحب المحكم- ما وقيت به القدم، ففى البخارى عن قتادة عن أنس (أن نعل النبى- صلى الله عليه وسلم- كان لها
__________
- (4/ 352) ، وابن حبان فى «صحيحه» (2147) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 35) و (4/ 213) ، من حديث سويد بن قيس- رضى الله عنه-، مختصرا، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» وانظر «كشف الخفاء» (1582) .
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (155) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين، والترمذى (2820) فى الأدب، باب: ما جاء فى الخف الأسود، وابن ماجه (549) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على الخفين، و (3620) فى اللباس، باب: الخفاف السود، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (1769) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الجبة والخفين، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/213)
قبالان) «1» . والقبالان: تثنية القبال، وهو زمام النعل، وهو السير الذى يكون بين الأصبعين. وعن ابن عباس قال: كان لنعل النبى- صلى الله عليه وسلم- قبالان مثنى شراكهما، رواه الترمذى فى الشمائل، وفيها أيضا عن أبى هريرة قال: كان لنعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبالان. وعن عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس ابن مالك نعلين جرداوين لهما قبالان، فحدثنى ثابت بعد عن أنس: أنهما كانتا نعلى النبى «2» . وعن عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر: رأيتك تلبس النعال السبتية، قال: إنى رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبس النعال التى ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها «3» . وعن عمرو بن حريث قال:
رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى فى نعلين مخصوفتين «4» . وعن عائشة كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحب التيمن ما استطاع فى ترجله وتنعله وطهوره «5» رواه الترمذى.
وعن أبى هريرة، قال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا تنعل أحدكم فليبدأ باليمين، فإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمين أولهما تنعل وآخرهما تنزع» «6» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- ينهى أن ينتعل الرجل قائما «7» . رواه أبو داود والترمذى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5857 و 5858) فى اللباس، باب: قبالان في نعل.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3107) فى فرض الخمس، باب: ما ذكر من درع النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5851) فى اللباس، باب: النعال السبتية وغيرها، ومسلم (1187) فى الحج، باب: الإحلال من حيث تنبعث الراحلة.
(4) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (9803 و 9804) ، وأحمد فى «المسند» (5/ 58) .
(5) صحيح: أخرجه البخارى (168) فى الوضوء، باب: التيمن فى الوضوء والغسل، ومسلم (268) فى الطهارة، باب: التيمن فى الطهور وغيره.
(6) صحيح: أخرجه البخارى (5856) في اللباس، باب: ينزع نعله اليسرى، ومسلم (2097) فى اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل فى اليمنى أولا.
(7) صحيح: أخرجه أبو داود (4135) في اللباس، باب: فى الانتعال، من حديث جابر- رضى الله عنه-، وأخرجه الترمذى (1775) فى اللباس، باب ما جاء فى كراهية أن ينتعل الرجل وهو قائم، وابن ماجه (3618) فى اللباس، باب: الانتعال قائما، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وأخرجه الترمذى (1776) من حديث أنس- رضى الله عنه-، وأخرجه ابن ماجه (3619) من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(2/214)
وقد ذكر أبو اليمن بن عساكر تمثال نعله الكريمة- عليه أفضل الصلاة والسلام- فى جزء مفرد رويته قراءة وسماعا. وكذا أفرده بالتأليف أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن خلف السلمى المشهور بابن الحاج من أهل المرية بالأندلس وكذا غيرهما. ولم أثبتها هنا اتكالا على شهرتها وصعوبة ضبط تسطيرها إلا على حاذق.
ومن بعض ما ذكر من فضلها وجرب من نفعها وبركتها، ما ذكره أبو جعفر أحمد بن عبد المجيد، وكان شيخا صالحا قال: حذوت هذا المثال لبعض الطلبة فجاءنى يوما فقال لى رأيت البارحة من بركة هذا النعل عجبا.
أصاب زوجى وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النعل على موضع الوجع وقلت: اللهم أرنى بركة صاحب هذا النعل، فشفاها الله للحين.
وقال أبو إسحاق: قال أبو القاسم بن محمد: ومما جرب من بركته أن من أمسكه عنده متبركا به كان له أمانا من بغى البغاة وغلبة العداة وحرزا من كل شيطان مارد وعين كل حاسد، وإن أمسكته المرأة الحامل بيمينها وقد اشتد عليها الطلق تيسر أمرها بحول الله وقوته، ولله در أبى اليمن بن عساكر حيث قال:
يا منشدا فى رسم ربع خال ... ومناشدا لدوارس الأطلال
دع ندب آثار وذكر ماثر ... لأحبة بانوا وعصر خال
والثم ثرى الأثر الكريم فحبذا ... إن فزت منه بلثم ذا التمثال
أثر له بقلوبنا أثر لها ... شغل الخلى بحب ذات الخال
قبّل لك الإقبال نعلى أخمص ... حل الهلال بها محل قبال
ألصق بها قلبا يقلبه الهوى ... وجلا على الأوصاب والأوجال
صافح بها خدّا وعفر وجنة ... فى تربها وجدا وفرط فعال
سيبل حر جوى ثوى بجوانح ... فى الحب ما جنحت إلى الإبلال
يا شبه نعل المصطفى روحى الفدا ... لمحلك الأسمى الشريف العال
هملت لمرآك العيون وقد نأى ... مرمى العيان بغير ما إهمال(2/215)
وتذكرت عهد العقيق فتأثرت ... شوقا عقيق المدمع الهطال
وصبت فواصلت الحنين إلى الذى ... ما زال بالى منه فى بلبال
أذكرتنى قدما لها قدم العلا ... والجود والمعروف والإفضال
أذكرتنى من لم يزل ذكرى له ... يعتاد فى الأبكار والآصال
ولها المفاخر والماثر فى الدنا ... والدين والأقوال والأفعال
لو أن خدى يحتذى نعلا لها ... لبلغت من نيل المنى آمال
أو أن أجفانى لوطء نعالها ... أرض سمت عزا بذا الإذلال
وما أحسن قول أبى الحكم بن المرحل فى قصيدة ذكرها أبو إسحاق بن الحاج:
بوصف حبيبى طرز الشعر ناظمه ... ونمنم خد الطرس بالنقش راقمه
رؤوف عطوف أوسع الناس رحمة ... وجادت عليهم بالنوال غمائمه
له الحسن والإحسان فى كل مذهب ... فاثاره محبوبة ومعالمه
به ختم الله النبيين كلهم ... وكل فعال صالح فهو خاتمه
أحب رسول الله حبّا لو أنه ... تقاسمه قومى كفتهم قسائمه
كأن فؤادى كلما مرّ ذكره ... من الورق خفاق أصيبت قوادمه
أهيم إذا هبت نواسم أرضه ... ومن لفؤادى أن تهب نواسمه
فأنشق مسكا طيبا فكأنما ... نوافجه جاءت به ولطائمه
ومما دعانى والدعاوى كثيرة ... إلى الشوق أن الشوق مما أكاتمه
مثال لنعلى من أحب هويته ... فها أنا فى يومى وليلى ألاثمه
أجر على رأسى ووجهى أديمه ... وألثمه طورا وطورا ألازمه
أمثله فى رجل أكرم من مشى ... فتبصره عينى وما أنا حالمه
أحرك خدى ثم أحسب وقعه ... على وجنتى خطوا هناك يداومه
ومن لى بوقع النعل فى حر وجنتى ... لماش علت فوق النجوم براجمه
سأجعله فوق الترائب عوذة ... لقلبى لعل القلب يبرد حاجمه
وأربطة فوق الشؤون تميمة ... لجفنى لعل الجفن يرقأ ساجمه(2/216)
ألا بأبى تمثال نعل محمد ... لطاب لحاذيه وقدس خادمه
يود هلال الأفق لو أنه هوى ... يزاحمنا في لثمه ونزاحمه
وما ذاك إلا أن حب نبينا ... يقوم بأجسام الخليقة لازمه
سلام عليه كلما هبت الصبا ... وغنت بأغصان الأراك حمائمه
ولأبى بكر أحمد بن الإمام أبى محمد عبد الله بن الحسين القرطبى- رحمه الله-:
ونعل خضعنا هيبة لبهائها ... وإنا متى نخضع لها أبدا نعلو
فضعها على أعلى المفارق إنها ... حقيقتها تاج وصورتها نعل
بأخمص خير الخلق حازت مزية ... على التاج حتى باهت المفرق الرجل
طريق الهدى عنها استنارت لمبصر ... وإن بحار الجود من فيضها حلوا
سلونا ولكن عن سواها وإنما ... نهيم بمغناها الغريب وما نسلوا
فما شاقنا مذ راقنا رسم عزها ... حميم ولا مال كريم ولا نسل
شفاء لذى سقم رجاء لبائس ... أمان لذى خوف كذا يحسب الفضل
وأما فراشه- صلى الله عليه وسلم-، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- آخذا من ذلك بما تدعو ضرورته إليه، وترك ما سوى ذلك.
وفى صحيح مسلم قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف، والرابع للشيطان» «1» .
قال العلماء: معناه ما زاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة والاختيال، والالتهاء بزينة الدنيا، وما كان بهذه الصفة فهو مذموم، وكل مذموم يضاف للشيطان لأنه يرتضيه ويوسوس به ويحسنه، وقيل: إنه على ظاهره، وإنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مبيت ومقيل، وأما تعداد الفراش للزوج والزوجة فلا بأس به لأنه قد يحتاج كل واحد منهما إلى فراش عند المرض ونحوه.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2084) فى اللباس والزينة، باب: كراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس، من حديث جابر- رضى الله عنه-.(2/217)
وعن عائشة: «إنما كان فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى ينام عليه أدما حشوه الليف» «1» رواه الشيخان.
وروى البيهقى من حديثها، قالت: دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قطيفة مثنية، فبعثت إلى بفراش حشوه الصوف، فدخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قلت: يا رسول الله، فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فبعثت إلى بهذا، فقال: «رديه يا عائشة فو الله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة» «2» .
وعند عبد الله بن مسعود: نام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حصير، فقام وقد أثر فى جنبه «3» . الحديث رواه ابن ماجه والترمذى وقال: حسن صحيح.
والطبرانى ولفظه: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو فى غرفة كأنها حمام. وهو نائم على حصير، وقد أثر فى جنبه فبكيت، فقال: «ما يبكيك يا عبد الله؟» قلت: يا رسول الله كسرى وقيصر يطؤون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثر بجنبك، فقال: «فلا تبك يا عبد الله، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة» «4» .
وقوله: كأنها بيت حمام- بتشديد الميم- أى أن فيها من الحر والكرب كما فى بيت الحمام. وعن ابن عباس قال: حدثنى عمر بن الخطاب قال:
دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على حصير، قال: فجلست، فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر فى جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وإذا إهاب معلق، فابتدرت عيناى، فقال: «ما يبكيك يا ابن
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6456) فى الرقاق، باب: كيف كان عيش النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومسلم (2082) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 345) .
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (2377) فى الزهد، باب: رقم (31) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (2292) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) حسن: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (10/ 162) وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 326) وقال: رواه الطبرانى، وفيه عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش، وقد وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.(2/218)
الخطاب» ، فقال: يا نبى الله، وما لى لا أبكى وهذا الحصير قد أثر فى جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر فى الثمار والأنهار، وأنت نبى الله وصفوته، وهذه خزائنك. قال: «يا ابن الخطاب، أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا» «1» . رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولفظه.
قال عمر- رضى الله عنه-: استأذنت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدخلت عليه فى مشربة، وإنه لمضطجع على خصفة وإن بعضه لعلى التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، وإن فوق رأسه لإهاب عطين، وفى ناحية المشربة قرظ، فسلمت عليه وجلست فقلت: أنت نبى الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير، فقال: «أولئك عجلت لهم طيباتهم وهى وشيكة الانقطاع وإنا قوم أخرت لنا طيباتنا فى آخرتنا» «2» .
وعن عائشة، كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- سرير مرمّل بالبردى، عليه كساء أسود، وقد حشوناه بالبردى، فدخل أبو بكر وعمر عليه فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم- نائم عليه، فلما رآهما استوى جالسا، فنظرا فإذا أثر السرير فى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالا: يا رسول الله ما يؤذيك خشونة ما نرى من فراشك وسريرك، وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تقولا هذا، فإن فراشى كسرى وقيصر فى النار، وإن فراشى وسريرى هذا عاقبته إلى الجنة» «3» . رواه ابن حبان فى صحيحه. ويروى أنه- صلى الله عليه وسلم- ما عاب مضجعا قط، إن فرش له اضطجع، وإلا اضطجع على الأرض. وتغطى- صلى الله عليه وسلم- باللحاف، قال- صلى الله عليه وسلم-: «ما أتانى جبريل وأنا فى لحاف امرأة منكن غير عائشة» «4» .
__________
(1) حسن: أخرجه ابن ماجه (4153) فى الزهد، باب: ضجاع آل محمد- صلى الله عليه وسلم-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 117) ، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(3) أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (704) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3775) فى المناقب، باب: فضل عائشة- رضى الله عنها-، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.(2/219)
النوع الثالث فى سيرته صلى الله عليه وسلم فى نكاحه
قد كان- صلى الله عليه وسلم- يأخذ من الجماع بالأكمل، مما تحفظ به الصحة، وتتم به اللذة وسرور النفس، وتحصل به مقاصده التى وضع لأجلها. فإن الجماع فى الأصل وضع لثلاثة أشياء، هى مقاصده الأصلية:
أحدها: حفظ النفس ودوام النوع الإنسانى إلى أن تتكامل العدة التى قدر الله تعالى بروزها إلى هذا العالم.
الثانى: إخراج الماء الذى يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.
الثالث: قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة، وهذه هى الفائدة التى فى الجنة، إذ لا تناسل هناك، ولا احتقان يستفرغه الإنزال، وفضلاء الأطباء يرون أن الجماع من أسباب حفظ الصحة. لكن لا ينبغى إخراج المنى إلا فى طلب النسل، وإخراج ما احتقن منه، فإنه إذا دام احتقانه أحدث أمراضا رديئة، منها الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك، وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا، فإنه إذا طال احتباسه فسد واستحال إلى كيفية سمية توجب أمراضا رديئة.
قال محمد بن زكريا: من ترك الجماع مدة طويلة ضعفت قوى أعضائه وانسدت مجاريها، وتقلص ذكره، وقد رأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف فبردت أبدانهم وعسرت حركاتهم ووقعت عليهم كابة بلا سبب، وقلت شهواتهم وهضمهم. أشار إليه فى زاد المعاد.
ومن منافعه: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه فى دنياه وآخرته، وينفع المرأة، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة، والتمادح به سيرة ماضية، ولذلك كان- صلى الله عليه وسلم- يتعاهده ويقول كما فى حديث أنس عند الطبرانى فى الأوسط،(2/220)
والنسائى فى سننه: «حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عينى فى الصلاة» «1» أى لمناجاته فيها ربه، زاد الإمام أحمد فى الزهد: وأصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن.
فمحبة النساء والنكاح من كمال الإنسان، هذا خليل الله إبراهيم، إمام الحنفاء، كان عنده سارة أجمل نساء العالمين، أحب هاجر وتسرى بها. وذكر سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه قال: كان الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- يزور هاجر فى كل يوم من الشام على البراق شغفا بها وقلة صبر عنها. وهذا داود- عليه الصلاة والسلام- كان عنده تسع وتسعون امرأة فأحب تلك المرأة وتزوج بها فكمل المائة وهذا سليمان ابنه كان يطوف فى الليلة على تسعين امرأة.
تنبيه: قد وقع فى الإحياء للغزالى، وتفسير آل عمران من الكشاف، وكثير من كتب الفقهاء: «حبب إلى من دنياكم ثلاث» «2» . وقالوا: إنه- عليه الصلاة والسلام- قال «ثلاث» ولم يذكر إلا اثنتين: الطيب والنساء. قالوا:
ومنه قول الشاعر:
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالى وكنت بهن قدما مولعا
الخمر والماء القراح وأطلى ... بالزعفران فلا أزال مولعا
وذكرها ابن فورك فى جزء مفرد ووجهها وأطنب فى ذلك، وهذا عندهم يسمى «طيا» وهو أن يذكر جمع ثم يؤتى ببعضه ويسكت عن ذكر باقيه لغرض للمتكلم، وأنشد الزمخشرى عليه:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
وفائدة الطى عندهم تكثير ذلك الشىء: لكن قال ابن القيم وغيره: من
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 61) فى عشرة النساء، باب: حب النساء، وأحمد فى «مسنده» (3/ 128 و 199 و 285) من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3124) .
(2) انظر فى ذلك «كشف الخفاء» للعجلونى (1089) .(2/221)
رواه «حبب إلى من دنياكم ثلاث» فقد وهم، ولم يقل- صلى الله عليه وسلم-: ثلاث، والصلاة ليست من أمور الدنيا التى تضاف إليها. انتهى، نعم تضاف إليها لكونها ظرفا لوقوعها فقط، فهى عبادة محضة. وقال شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر فى تاريخ الكشاف: إن لفظ «ثلاث» لم تقع فى شىء من طرقه، وزيادته مفسدة للمعنى. وكذا قال شيخ الإسلام الولى ابن العراقى فى أماليه، وعبارته: ليست هذه اللفظة وهى «ثلاث» فى شىء من كتب الحديث، وهى مفسدة للمعنى، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا. وكذا صرح به الزركشى وغيره، كما حكاه شيخنا فى المقاصد الحسنة وأقره.
وقال ابن الحاج فى المدخل: انظر إلى حكمة قوله- صلى الله عليه وسلم- «حبب» ولم يقل: أحببت، وقال: «من دنياكم» فأضافها إليهم دونه- عليه الصلاة والسلام-، فدل على أن حبه كان خاصا بمولاه تعالى، وجعلت قرة عينه فى الصلاة، فكان- صلى الله عليه وسلم- بشرىّ الظاهر، ملكوتى الباطن. وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يأتى إلى شىء من أحوال البشرية إلا تأنيسا لأمته وتشريعا لها، لا أنه محتاج إلى شىء من ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «1» فقال: «لكم» ولم يقل: إنى ملك، فلم ينف الملكية عنه إلا بالنسبة إليهم، أعنى فى معانيه- صلى الله عليه وسلم- لا فى ذاته الكريمة، إذ إنه- صلى الله عليه وسلم- يلحق بشريته ما يلحق البشر، ولهذا قال سيدى أبو الحسن الشاذلى فى صفته- صلى الله عليه وسلم-: هو بشر ليس كالأبشار، كما أن الياقوت حجر ليس كالأحجار. وهذا منه- رحمه الله- على سبيل التقريب للفهوم، فدل على أنه- صلى الله عليه وسلم- ملكى الباطن، ومن كان ملكى الباطن ملك نفسه.
انتهى.
وهاهنا لطيفة: روى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما قال: «حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عينى فى الصلاة» ، قال أبو بكر: وأنا يا رسول الله حبب إلى من الدنيا: النظر إلى وجهك، وجمع المال للإنفاق عليك،
__________
(1) سورة الأنعام: 50.(2/222)
والتوسل بقرابتك إليك. وقال عمر: وأنا يا رسول الله حبب إلى من الدنيا:
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والقيام بأمر الله، وقال عثمان: وأنا يا رسول الله حبب إلى من الدنيا إشباع الجائع وإرواء الظمان وكسوة العارى، وقال على بن أبى طالب: وأنا يا رسول الله حبب إلى من الدنيا الصوم فى الصيف، وإقراء الضيف والضرب بين يديك بالسيف. قال الطبرى: خرجه الجندى. كذا قال والعهدة عليه.
وعن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «فضلت على الناس بأربع بالسماحة والشجاعة وكثرة الجماع وشدة البطش» «1» . رواه الطبرانى. وقال أنس: (كان- صلى الله عليه وسلم- يدور على نسائه فى الساعة الواحدة من الليل، وهن إحدى عشرة، قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين) «2» رواه البخارى من طريق قتادة. قال ابن خزيمة: تفرد بذلك معاذ بن هشام عن أبيه. ورواه سعيد بن أبى عروبة وغيره عن قتادة فقال: (تسع نسوة) «3» انتهى. وكذا رواه البخارى من طريق سعيد بن أبى عروبة أيضا بلفظ (وله يومئذ تسع نسوة) . وقد جمع بينهما ابن حبان فى صحيحه بأن حمل ذلك على حالتين، لكنه وهم فى قوله: إن الأولى كانت فى أول قدومه المدينة، حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية فى آخر الأمر، حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة.
وموضع هذا الوهم منه: إنه- صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة لم يكن تحته سوى سودة ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة وحفصة وزينب بنت خزيمة فى السنة الرابعة، ثم زينب بنت جحش فى الخامسة، ثم جويرية فى السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة فى السابعة، هؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور ... لكن تحمل رواية هشام على
__________
(1) موضوع: أخرجه الطبرانى فى الكبير، والإسماعيلى فى معجمه، كما فى «ضعيف الجامع» (3985) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (268) فى الغسل، باب: إذا جامع ثم عاد.
(3) هو تتمة ما قبله.(2/223)
أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهن لفظ «نسائه» تغليبا. فإن قلت:
وطء المرأة فى يوم الآخرى ممنوع، والقسم وإن لم يكن واجبا عليه- صلى الله عليه وسلم- لكنه التزمه تطييبا لنفوسهن. أجيب: باحتمال إذن صاحبة اليوم له، أو أنه فى يوم لم يثبت فيه قسم بعد، كيوم قدومه من سفر، أو اليوم الذى بعد كمال الدورة، لأنه يستأنف القسم فيما بعد، أو أنه من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-، وقد اختص فى باب النساء بأشياء، كما سيأتى إن شاء الله تعالى.
وعن طاووس ومجاهد: أعطى- صلى الله عليه وسلم- قوة أربعين رجلا فى الجماع «1» . رواه ابن سعد. وفى رواية عن مجاهد: قوة بضع وأربعين رجلا كل رجل من أهل الجنة. رواه الحارث بن أبى أسامة. وعند أحمد والنسائى، وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه: «إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة فى الأكل والشرب والجماع والشهوة» «2» . وعن صفوان بن سليم مرفوعا: «أتانى جبريل بقدر، فأكلت منها فأعطيت قوة أربعين رجلا فى الجماع» «3» . رواه ابن سعد.
ولما كان- صلى الله عليه وسلم- ممن أقدر على القوة فى الجماع وأعطى الكثير منه، أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره. قال ابن عباس: تزوجوا فإن أفضل هذه الأمة أكثرها نساء. يشير إليه- صلى الله عليه وسلم-، وقيد بهذه الأمة ليخرج مثل سليمان- عليه السّلام- فإنه كان أكثر نساء.
ووقع عند الطبرانى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: تزوجوا فإن خيرنا أكثرنا نساء، قيل المعنى: خير أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل.
قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: والذى يظهر أن مراد ابن عباس ب «الخير» النبى- صلى الله عليه وسلم- وب «الأمة» أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك
__________
(1) تقدم فى حديث الهريسة، وهو ضعيف.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 371) ، والدارمى فى «سننه» (2825) ، والطبرانى فى «الكبير» (5/ 177 و 178) .
(3) تقدم.(2/224)
التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحا ما آثر النبى- صلى الله عليه وسلم- غيره، وكان- مع كونه أخشى الناس لله وأعلمهم به- يكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التى لا يطلع عليها الرجال، ولإظهار المعجزة البالغة فى خرق العادة لكونه كان لا يجد ما يستمتع به من القوت غالبا، وإن وجد فكان يؤثر بأكثره، ويصوم كثيرا ويواصل، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه فى الليلة الواحدة، ولا يطاق ذلك إلا مع قوة البدن، وقوة البدن تابعة لما يقوم به من استعمال المقويات من مأكول ومشروب، وهى عنده- صلى الله عليه وسلم- نادرة أو معدومة.
وقال بعض العلماء: لما كان الحر لفضله على العبد يستبيح من النساء أكثر مما يستبيح العبد، وجب أن يكون النبى- صلى الله عليه وسلم- لفضله على جميع الأمة يستبيح من النساء أكثر مما تستبيحه الأمة. قالوا: ومن فوائد ذلك، زيادة التكليف بهن مع تحمل أعباء الرسالة، فيكون ذلك أعظم لمشاقه وأكثر لأجره، ومنها: أن النكاح فى حقه عبادة، ومنها: نقل محاسنه الباطنة، وقد تزوج- صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة وكان أبوها فى ذلك الوقت عدوه، وصفية وقد قتل أباها وعمها وزوجها، فلو لم يطلعن من باطن أحواله على أنه أكمل خلق الله لكانت الطباع البشرية تقتضى ميلهن إلى آبائهن وقرابتهن، فكان فى كثرة النساء عنده بيان لمعجزاته وكماله باطنا، كما عرف الرجال منه الظاهر.
وقد رغب- صلى الله عليه وسلم- فى النكاح. فروى أبو داود والنسائى من حديث معقل بن يسار مرفوعا: «تزوجوا الولود الودود فإنى مكاثر بكم الأمم» «1» وفى ابن ماجه عن أبى هريرة رفعه: «انكحوا فإنى مكاثر بكم الأمم» . وهو معنى ما اشتهر على الألسنة: «تناكحوا تناسلوا فإنى أباهى بكم الأمم» «2» ، ولم أقف عليه بهذا اللفظ.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2050) فى النكاح، باب: من تزوج الولود، والنسائى (6/ 65) فى النكاح، باب: كراهية تزويج العقيم، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 176) ، من حديث معقل بن يسار- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2940) .
(2) انظر هذه الرواية فى «كشف الخفاء» للعجلونى (1021) .(2/225)
وأرشد- صلى الله عليه وسلم- من لم يستطع الباءة إلى الصوم، لأن كثرته تقلل مادة النكاح، وتضعف ما يجده المرء من الحرارة القوية التى تبعثه على النكاح، وخص الشباب فى قوله: «يا معشر الشباب» «1» لأن للشباب من شهوة النكاح ما ليس لغيرهم. وقد ظهر لك أن النكاح أعظم فى الأجر والثواب من الصيام، فإنه- صلى الله عليه وسلم- لم يأمر أولا بالصوم إنما أمر به عند عدم الطول إلى النكاح، وإذا كان النكاح ينوى به التناسل لتكثير هذه الأمة المحمدية فهو بلا شك أفضل.
قال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-: إنى لأطأ النساء وما لى إليهن حاجة، رجاء أن يخرج الله من ظهرى من يكاثر به محمد- صلى الله عليه وسلم- الأمم يوم القيامة.
ذكره ابن أبى جمرة.
وانظر كون نبينا- صلى الله عليه وسلم- بالإجماع- أعبد الناس، مع ما طبعت عليه بشريته من حب الجماع، وكيف لم يخل بعبادته شيئا، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يأتيها إلا على مشروعيتها، وهذا هو غاية الكمال فى البشرية، لأنه يرجع ما طبع عليه تابعا لما أمر به.
وقد روى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا رهبانية فى الإسلام» «2» . وهى ترك النساء، ولو كان تركهن أفضل لشرع ذلك فى ديننا، إذ هو خير الأديان. وقد قال سليمان- عليه السّلام-: لأطوفن الليلة على مائة امرأة «3» . رواه البخارى.
وهذا فيه معجزة لسليمان- عليه السّلام-، إذ البشر عاجز عن الطواف على مائة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5065) فى النكاح، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» ، ومسلم (1400) فى النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-.
(2) لم أره بهذا اللفظ: قاله الحافظ ابن حجر، لكن فى حديث سعد بن أبى وقاص عند البيهقى «أن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة» ، نقلا عن «كشف الخفاء» (3154) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3424) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، ومسلم (1654) فى الأيمان، باب: الاستثناء، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/226)
امرأة فى ليلة واحدة، فأظهر الله تعالى قدرته بأن أعطى لسليمان- عليه السّلام- القوة على ذلك فكان فيها معجزة وإظهار قدرة وإبداء حكمة، ردّا على من ربط الأشياء بالعوائذ فيقول: لا يكون كذا إلا من كذا، ولا يتولد كذا إلا من كذا، فألقى الله فى صلب سليمان ماء مائة رجل.
وكان له ثلاثمائة زوجة وألف سرية وهذا لا يعطى تفضيل سليمان- عليه السّلام- على نبينا- صلى الله عليه وسلم-، إذ سيدنا محمد لم يعط إلا ماء أربعين رجلا، ولم يكن له غير عشر نسوة، لأن مرتبة نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى الأفضلية لا يساويه فيها أحد، وسليمان تمنى أن يكون ملكا فأعطى ذلك، وأعطى هذه القوة فى الجماع لكى يتم له الملك على خرق العادة من كل الجهات ليمتاز بذلك.
فكان نساؤه من جنس ملكه الذى لا ينبغى لأحد من بعده كما طلب.
ونبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- لما خير بين أن يكون نبيّا ملكا أبى ذلك، واختار أن يكون نبيّا عبدا، فأعطى من الخصوصية ذلك القدر لكونه- صلى الله عليه وسلم- اختار الفقر والعبودية فأعطى الزائد لخرق العادة فى النوع الذى اختار وهو الفقر والعبودية، فكان- صلى الله عليه وسلم- يربط على بطنه الأحجار من شدة الجوع والمجاهدة، وهو على حاله فى الجماع لم ينقصه شيئا، والناس أبدا إذا أخذهم الجوع والمجاهدة لا يستطيعون ذلك، فهو أبلغ فى المعجزة، قاله فى بهجة النفوس، والله أعلم.
النوع الرابع فى نومه صلى الله عليه وسلم
كان- صلى الله عليه وسلم- ينام أول الليل ويستيقظ فى أول النصف الثانى، فيقوم فيستاك ويتوضأ، ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان ينام على جانبه الأيمن، ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه، غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب التيامن فى شأنه كله، وليرشد أمته، لأن فى الاضطجاع على الشق الأيمن سرّا، وهو(2/227)
أن القلب معلق فى الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجانب الأيسر استثقل نوما، لأنه يكون فى دعة واستراحة فيثقل نومه، فإذا نام على الشق الأيمن فإنه يقلق ولا يستغرق فى النوم لقلق القلب، وطلبه مستقره وميله إليه.
قالوا: وكثرة النوم على الجانب الأيسر- وإن كان أهنأ- مضر بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصب المواد فيه. وأما قول القاضى عياض فى الشفاء: وكان نومه على جانبه الأيمن استظهارا على قلة النوم.. إلخ، ففيه شىء، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لا ينام قلبه، فسواء كان نومه على الجانب الأيمن أو الأيسر فهذا الحكم ثابت له، وما علله به إنما تستقيم فى حق من ينام قلبه، وحينئذ فالأحسن تعليله بحب التيامن، أو بقصده التعليم، كما مر. وأردأ النوم، النوم على الظهر، ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم، وأردأ منه أن ينام منبطحا على وجهه، وفى سنن ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم- مر برجل فى المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله وقال: «قم، أو اقعد، فإنها نومة جهنمية» «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- ينام على النطع تارة، وعلى الفراش تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة. وكان فراشه أدما حشوه ليف. وكان له مسح ينام عليه. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه وضع كفه تحت خده الأيمن وقال:
«رب قنى عذابك يوم تبعث عبادك» «2» وفى رواية: «يوم تجمع عبادك» .
وقال أبو قتادة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا عرّس بليل اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه «3» . وقال ابن
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3735) فى الأدب، باب: النهى عن الاضطجاع على الوجه، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (5045) فى الأدب، باب: ما يقول عند النوم، من حديث حفصة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (683) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، وأحمد فى «المسند» (5/ 298) .(2/228)
عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا نام نفخ «1» . وعن حذيفة كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: «باسمك اللهم أموت وأحيا» «2» . وقالت عائشة: كان يجمع كفيه فينفث فيهما ويقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «3» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «4» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «5» ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده. يصنع ذلك ثلاث مرات «6» . وقال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، وكم ممن لا كافى له ولا مؤوى» «7» . روى ذلك الترمذى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- تنام عينه ولا ينام قلبه «8» ، رواه البخارى من حديث عائشة، قاله لها- عليه الصلاة والسلام- لما قالت له: أتنام قبل أن توتر، وإنما كان- صلى الله عليه وسلم- لا ينام قلبه لأن القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن، وكمال هذه الحالة لنبينا- صلى الله عليه وسلم-، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسوله من ذلك جزء، بحسب نصيبه منها، فمستيقظ القلب وغافله، كمستيقظ البدن ونائمه، وإلى هذا الذى ذكرته أشار صاحب المعارف العلية والحقائق السنية سيدى على ابن سيدى محمد وفا:
عينى تنام لكن قلبى والله ما ينام
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (698) فى الأذان، باب: إذا قام الرجل عن يسار الإمام، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6312) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا نام. (3) سورة الإخلاص: 1. (4) سورة الفلق: 1. (5) سورة الناس: 1. (6) صحيح: أخرجه البخارى (8/ 50) فى فضائل القرآن، باب: فضل المعوذات. (7) صحيح: أخرجه مسلم (5/ 27) فى الذكر والدعاء، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع. (8) صحيح: أخرجه البخارى (3569) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه.(2/229)
وكيف ينام عاشق مسبى فى الحب مستهام
ناظر إلى وجه الحبيب شاخص على الدوام ... أتاه فى المعنى مرسوم أن يمحى الرسوم
فقال بالحى القيوم يا سعد من يقوم
وقد جمع العلماء بين هذا الحديث وبين حديث نومه- صلى الله عليه وسلم- فى الوادى عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس وحميت حتى أيقظه عمر- رضى الله عنه- بالتكبير «1» .
فقال النووى: له جوابان، أحدهما: أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة والقلب يقظان، والثانى: أنه كان له حالان، حال كان قلبه لا ينام وهو الأغلب، وحال ينام فيه قلبه وهو نادر، فصادف هذا، أى قصة النوم عن الصلاة. قال: والصحيح المعتمد هو الأول والثانى ضعيف.
قال فى فتح البارى: وهو كما قال، ولا يقال: القلب- وإن كان لا يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلا- لكنه يدرك إذا كان يقظانا مرور الوقت الطويل، فإن من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حميت الشمس مدة طويلة، لا تخفى على من لم يكن مستغرقا، لأنا نقول: يحتمل أن يقال:
كان قلبه- صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك مستغرقا بالوحى، ولا يلزم من ذلك وصفه بالنوم، كما كان يستغرق- صلى الله عليه وسلم- حالة إلقاء الوحى فى اليقظة، وتكون الحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل، لأنه أوقع فى النفس، كما فى قصة سهوه فى الصلاة، وقريب من هذا جواب ابن المنير: أن القلب يحصل له السهو فى اليقظة لمصلحة التشريع، ففى النوم بطريق الأولى، أو على السواء.
وقال ابن العربى فى القبس: النبى- صلى الله عليه وسلم- كيفما اختلف حاله من نوم أو يقظة فى حق وتحقيق، ومع الملائكة فى كل طريق، إن نسى فباكد من
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (344) فى التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، ومسلم (682) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيلها، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.(2/230)
المنسى اشتغل، وإن نام فبقلبه ونفسه على الله أقبل، ولهذا قالت الصحابة كان- صلى الله عليه وسلم- إذا نام لا نوقظه حتى يستيقظ، لأنا لا ندرى ما هو فيه، فنومه عن الصلاة أو نسيانه لشىء منها لم يكن عن آفة، وإنما كان بالتصرف من حالة إلى حالة مثلها لتكون لنا سنة. انتهى.
وقد أجيب عن أصل الإشكال بأجوبة أخرى ضعيفة منها: أن معنى قوله: «لا ينام قلبى» أى لا يخفى عليه حالة انتقاض وضوئه، ومنها: أن معناه لا يستغرقه النوم حتى يوجد منه الحدث، وهذا قريب من الذى قبله.
قال ابن دقيق العيد، كأن قائل هذا أراد تخصيص يقظة القلب بإدراك حالة الانتقاض، وذلك بعيد، وذلك أن قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن عينى تنامان ولا ينام قلبى» «1» خرج جوابا عن قول عائشة: أتنام قبل أن توتر؟ وهذا كلام لا تعلق له بانتقاض الطهارة الذى تكلموا فيه. وإنما هو جواب يتعلق بأمر الوتر، فتحمل يقظته على تعلق القلب باليقظة للوتر، وفرق بين من شرع فى النوم مطمئن القلب به، وبين من شرع فيه متعلقا باليقظة.
قال: وعلى هذا فلا تعارض ولا إشكال فى حديث النوم حتى طلعت الشمس، لأنه يحتمل أنه اطمأن فى نومه لما أوجبه تعب السير معتمدا على من وكله بكلاءة الفجر، انتهى.
ومحصله تخصيص اليقظة المفهومة من قوله «ولا ينام قلبى» بإدراكه وقت الوتر إدراكا معنويّا لتعلقه به، وأن نومه فى حديث الباب كان نوما مستغرقا، ويؤيده قول بلال: أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك، كما فى حديث أبى هريرة عند مسلم، ولم ينكر عليه، ومعلوم أن نوم بلال كان مستغرقا، وقد اعترض عليه: بأن ما قاله يقتضى اعتبار خصوص السبب، وأجاب، بأنه يعتبر إذا قامت عليه قرينة، وأرشد إليها السياق، وهو هنا كذلك.
ومن الأجوبة الضعيفة أيضا: قول من قال: كان قلبه يقظانا وعلم بخروج الوقت، لكن ترك إعلامهم بذلك لمصلحة التشريع، والله أعلم انتهى.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم قبل حديث.(2/231)
المقصد الرابع وفيه فصلان:
* فى معجزاته الدالة على ثبوت نبوته وصدق رسالته.
* وما خص به من خصائص آياته وبدائع كراماته.(2/233)
الفصل الأول فى معجزاته ص
تعريف المعجزة بالدليل:
اعلم أيها المحب لهذا النبى الكريم، والرسول العظيم- سلك الله بى وبك مناهج سنته، وأماتنا على محبته، بمنه ورحمته- أن المعجزة هى الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدى الدال على صدق الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، فعلم أن لها شروطا:
[شروط المعجزة]
* أحدها: أن تكون خارقة للعادة
، كانشقاق القمر، وانفجار الماء من بين الأصابع، وقلب العصا حية، وإخراج ناقة من صخرة، وإعدام جبل.
فخرج غير الخارق للعادة، كطلوع الشمس كل يوم.
* الثانى: أن تكون مقرونة بالتحدى،
وهو طلب المعارضة والمقابلة. قال الجوهرى: يقال: تحديث فلانا، إذا باريته فى فعل ونازعته للغلبة. وفى القاموس: نحوه. وفى الأساس: حدا، يحدو، وهو حادى الإبل، واحتدى بها حداء إذا غنى، ومن المجاز: تحدى أقرانه إذا باراهم ونازعهم للغلبة.
وأصله: الحداء، يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان، فيتحدى كل واحد منهما صاحبه، أى يطلب حداءه. كما يقال: توفاه بمعنى استوفاه، وفى بعض الحواشى الموثوق بها، كانوا عند الحدو يقوم حاد عن يمين القطار وحاد عن يساره، يتحدى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أى يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه حتى استعمل فى كل مباراة. انتهى من حاشية الطيبى على الكشاف. وقال المحققون: التحدى، الدعوى للرسالة. انتهى.
* والشرط الثالث من شروط المعجزة:
أن لا يأتى أحد بمثل ما أتى به(2/235)
المتحدى على وجه المعارضة. وعبر عنه بعضهم بقوله: دعوى الرسالة مع أمن المعارضة وهو أحسن من التعبير: بعدم المعارضة، لأنه لا يلزم من عدم المعارضة امتناعها. والشرط إنما هو عدم إمكانها. وقد خرج بقيد «التحدى» الخارق من غير تحد، وهو الكرامة للولى. وب «المقارنة» الخارق المتقدم على التحدى، كإظلال الغمام، وشق الصدر، الواقعين لنبينا- صلى الله عليه وسلم- قبل دعوى الرسالة، وكلام عيسى فى المهد، وما شابه ذلك مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة، فإنها ليست معجزات إنما هى كرامات، ظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء فيجوز ظهورها عليهم أيضا، وحينئذ يسمى «إرهاصا» أى تأسيسا للنبوة كما صرح به العلامة السيد الجرجانى فى شرح المواقف، وغيره، وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم.
وخرج أيضا بقيد «المقارنة» المتأخر عن التحدى، بما يخرجه عن المقارنة العرفية، نحو ما روى بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم- من نطق بعض الموتى بالشهادتين وشبهه، مما تواترت به الأخبار. وخرج أيضا ب «أمن المعارضة» السحر المقرون بالتحدى، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم. واختلف: هل السحر قلب الأعيان وإحالة الطبائع أم لا؟ فقال بالأول قائلون، حتى جوزوا للساحر أن يقلب الإنسان حمارا. وذهب آخرون: إلى أن أحدا لا يقدر على قلب عين ولا إحالة طبيعة إلا الله تعالى لأنبيائه، وأن الساحر والصالح لا يقلبان عينا. قالوا: ولو جوزنا للساحر ما جاز على النبى فأى فرق عندكم بينهما؟ فإن لجأتم إلى ما ذكره القاضى أبو بكر الباقلانى من الفرق بالتحدى فقط قيل لكم هذا باطل من وجوه:
[وجوه بطلان دعوى اشتراط التحدي بالمعجزة]
أحدها: أن اشتراط التحدى قول لا دليل عليه
، لا من كتاب ولا من سنة، ولا من قول صاحب ولا إجماع، وما تعرى من البرهان فهو باطل.
الثانى: أن أكثر آياته- صلى الله عليه وسلم- وأعمها وأبلغها كانت بلا تحد
، كنطق الحصى، ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله فى العين،(2/236)
وتكليم الذراع، وشكوى البعير، وكذا سائر معجزاته العظام، ولعله لم يتحد بغير القرآن، وتمنى الموت. قالوا: فأف لقول لا يبقى من الآيات ما يسمى معجزة إلا هذين الشيئين، ويلقى معجزات كالبحر المتقاذف بالأمواج، ومن قال: إن هذه ليست بمعجزات ولا آيات فهو إلى الكفر أقرب منه إلى البدعة.
قالوا: وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يقول عند ورود آية من هذه الآيات: «أشهد أنى رسول الله» «1» ، كما قال ذلك عند تحققهم مصداق قوله فى الإخبار عن الذى أنكى فى المشركين قتلا فى المعركة: إنه من أهل النار، فقتل نفسه بمحضر ذلك الذى اتبعه من المسلمين. قالوا:
والوجه الثالث:
وهو الدافع لهذا القول، قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «2» ، وقال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «3» فسمى الله تلك المعجزات المطلوبات من الأنبياء آيات، ولم يشترط تحديا من غيره. فصح أن اشتراط التحدى باطل محض، انتهى ملخصا من تفسير الشيخ أبى أمامة بن النقاش. وأجيب: بأنه ليس الشرط الاقتران بالتحدى بمعنى طلب الإتيان بالمثل الذى هو فى المعنى الأصلى للتحدى، بل يكفى للتحدى دعوى الرسالة والله أعلم.
الرابع من شروط المعجزة: أن تقع على وفق دعوى المتحدى بها
، فلو قال مدعى الرسالة: آية نبوتى أن تنطق يدى، أو هذه الدابة، فنطقت يده أو الدابة بكذبه فقالت: كذب وليس هو نبى، فإن الكلام الذى خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعى، لأن ما فعله الله تعالى لم يقع على وفق دعواه.
كما يروى أن مسيلمة الكذاب- لعنه الله- تفل فى بئر ليكثر ماؤها فغارت
__________
(1) ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (5443) فى الأطعمة، باب: الرطب والتمر، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.
(2) سورة الأنعام: 109.
(3) سورة الإسراء: 59.(2/237)
وذهب ما فيها من الماء. فمتى اختل شرط من هذه لم تكن معجزة. ولا يقال: قضية ما قلتم: إن ما توفرت فيه الشروط الأربعة من المعجزات لا يظهر إلا على أيدى الصادقين، وليس كذلك، لأن المسيح الدجال يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحيحة، لأن ما ذكر فيمن يدعى الرسالة وهذا فيمن يدعى الربوبية.
وقد قام الدليل العقلى على أن بعثة بعض الخلق غير مستحيلة، فلم يبعد أن يقيم الله الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة، ودلت القواطع على كذب المسيح الدجال فيما يدعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التى تليق بالمحدثات ويتعالى عنها رب البريات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1» .
فإن قلت أى الاسمين أحق وأولى بما أتت به الأنبياء، هل لفظ «المعجزة» أو لفظ «الآية» أو «الدليل» ؟.
فالجواب: إن كبار الأئمة يسمون معجزات الأنبياء: دلائل النبوة، وآيات النبوة، ولم يرد أيضا فى القرآن لفظ «المعجزة» بل ولا فى السنة أيضا، وإنما فيهما لفظ «الآية» و «البينة» و «البرهان» . كما فى قصة موسى فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ «2» ، فى العصا واليد، وفى حق نبينا- صلى الله عليه وسلم- قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ «3» . وأما لفظ الآيات فكثير. بل هو أكثر من أن نسرده هنا، كقوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ «4» وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ «5» . وأما لفظ المعجز إذ أطلق فإنه لا يدل على كون ذلك آية إلا إذا فسر المراد به، وذكرت شرائطه، وقد كان كثير من أهل الكلام لا يسمى معجزا إلا ما كان للأنبياء
__________
(1) سورة الشورى: 11.
(2) سورة القصص: 32.
(3) سورة النساء: 174.
(4) سورة الأنعام: 124.
(5) سورة الرعد: 3.(2/238)
فقط، ومن أثبت للأولياء خوارق عادات سماها: كرامات، والسلف كانوا يسمون هذا وهذا معجزا كالإمام أحمد وغيره، بخلاف ما كان آية وبرهانا على نبوة النبى فإن هذا يجب اختصاصه به. وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه ذلك الولى، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فلذلك كان آية وبرهانا، انتهى.
وإذا علمت هذا، فاعلم أن دلائل نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم- كثيرة، والأخبار بظهور معجزاته شهيرة. فمن دلائل نبوته: ما وجد فى التوراة والإنجيل وسائر كتب الله المنزلة من ذكره ونعته، وخروجه بأرض العرب، وما خرج بين يدى أيام مولده ومبعثه من الأمور العجيبة الغريبة القادحة فى سلطان الكفر، الموهنة لكلمتهم المؤيدة لشأن العرب. المنوهة لذكرهم، كقصة الفيل، وما أحل الله تعالى بأصحابه من العقوبات والنكال، وخمود نار فارس وسقوط شرفات إيوان كسرى، وغيض ماء بحيرة ساوة، ورؤيا الموبذان «1» ، وما سمع من الهواتف الصارخة بنعوته وأوصافه، وانتكاس الأصنام المعبودة وخرورها لوجهها من غير دافع لها من أمكنتها، إلى سائر ما روى وما نقل فى الأخبار المشهورة من ظهور العجائب فى ولادته وأيام حضانته وبعدها إلى أن بعثه الله نبيّا.
ولم يكن له- صلى الله عليه وسلم- ما يستميل به القلوب من مال فيطمع فيه، ولا قوة فيقهر بها الرجال، ولا أعوان على الرأى الذى أظهره، والدين الذى دعا إليه، وكانوا يجتمعون على عبادة الأصنام، وتعظيم الأزلام، مقيمين على عادة الجاهلية فى العصبة والحمية، والتعادى والتباغى وسفك الدماء، وشن الغارة ولا تجمعهم ألفة دين، ولا يمنعهم عن سوء أفعالهم نظر فى عاقبة، ولا خوف عقوبة ولائمة، فألف- صلى الله عليه وسلم- بين قلوبهم وجمع كلمتهم، حتى اتفقت الآراء وتناصرت القلوب، وترادفت الأيدى، فصاروا إلبا واحدا فى نصرته، وعنقا واحدا إلى طلعته، وهجروا بلادهم وأوطانهم، وجفوا قومهم وعشائرهم فى
__________
(1) اسم حاكم المجوس، حيث قد رأى رؤية ليلة مولده الشريفة، أن إبلا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادها، نقلا عن بعض كتب التاريخ.(2/239)
محبته، وبذلوا مهجهم وأرواحهم فى نصرته، ونصبوا وجوههم لوقع السيوف فى إعزاز كلمته، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا عوض فى العاجل أطمعهم فى نيله يرجونه، أو ملك أو شرف فى الدنيا يحوزونه، بل كان من شأنه- صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الغنى فقيرا، والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور، أو يتفق مجموعها لأحد هذا سبيله، من قبيل الاختيار العقلى والتدبير الفكرى، لا والذى بعثه بالحق، وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب عاقل فى شىء من ذلك، وإنما هو أمر إلهى، وشىء غالب سماوى، ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلا من له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم- أنه كان أميّا، لا يخط كتابا بيده ولا يقرؤه، ولد فى قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم فى بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضين، ولم يخرج فى سفر ضاربا إلى عالم فيعكف عليه، فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية، وقد كان ذهبت معالم تلك الكتب، ودرست وحرفت عن مواضعها، ولم يبق من المتمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها وسقيمها إلا القليل، ثم حاجّ كل فريق من أهل الملل المخالفة له بما لو احتشد له حذاق المتكلمين وجهابذة النقاد المتفننين لم يتهيأ لهم نقض ذلك. وهذا أدلّ شىء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى.
ومن ذلك، القرآن العظيم، فقد تحدى بما فيه من الإعجاز، ودعاهم إلى معارضته والإتيان بسورة من مثله، فنكلوا عنه وعجزوا عن الإتيان بشىء منه.
قال بعض العلماء: إن الذى أورده- صلى الله عليه وسلم- على العرب من الكلام أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب فى الآية، وأوضح فى الدلالة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين فى اللسن بكلام مفهوم المعنى عندهم، فكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى، لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه، ولا إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام(2/240)
الفصيح والبلاغة والخطابة، فدل على أن العجز عنه إنما كان ليصير علما على رسالته، وصحة نبوته، وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح.
وقال أبو سليمان الخطابى: وقد كان- صلى الله عليه وسلم- من عقلاء الرجال عند أهل زمانه، بل هو أعقل خلق الله على الإطلاق. وقد قطع القول فيما أخبر به عن ربه تعالى بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «1» فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علام الغيوب، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلا لم يأذن له عقله أن يقطع القول فى شىء، بأنه لا يكون وهو يكون. انتهى.
وهذا أحسن ما يقال فى هذا المجال وأبدعه وأكمله وأبينه، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة، وبالتقصير عن بلوغ الغرض فى المناقضة، صارخا بهم على رؤوس الأشهاد، فلم يستطع أحد منهم الإلمام به مع توفر الدواعى وتظاهر الاجتهاد، فقال- وكان بما ألقى إليهم من الأخبار عليما خبيرا-: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «2» فرضيت هممهم السرية وأنفسهم الشريفة الأبية بسفك الدماء وهتك الحرم.
وقد ورد من الأخبار فى قراءة النبى- صلى الله عليه وسلم- بعض ما نزل عليه على المشركين الذين كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة، وإقرارهم بإعجازه جمل كثيرة: فمنها ما روى عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم- وهو جالس فى نادى قريش، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس وحده فى المسجد-: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضها ويكف عنا. قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث- فيما قاله عتبة وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك- فلما فرغ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أفرغت يا أبا الوليد؟»
__________
(1) سورة البقرة: 24.
(2) سورة الإسراء: 88.(2/241)
قال: نعم، قال: «فاسمع منى» . قال: أفعل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ حتى بلغ قُرْآناً عَرَبِيًّا «1» » فمضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه حتى انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة «2» فسجد فيها ثم قال:
«سمعت يا أبا الوليد؟» قال: سمعت قال: «فأنت وذاك» ، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: والله إنى قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ. قال: فأجابنى بشىء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة. قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حتى بلغ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «3» » فأمسكت فمه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب «4» . رواه البيهقى وغيره.
وفى حديث إسلام أبى ذر، ووصف أخاه أنيسا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخى أنيس، وقد ناقض اثنى عشر شاعرا فى الجاهلية أنا أحدهم، وأنه انطلق وجاء إلى أبى ذر بخبر النبى- صلى الله عليه وسلم-، قلت: فما يقول الناس؟
قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم، ولا يلتئم على لسان أحد بعدى أنه شعر، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون «5» . رواه مسلم والبيهقى.
__________
(1) سورة فصلت: 1- 3.
(2) سورة فصلت: 37.
(3) سورة فصلت: 1- 13.
(4) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 204، 205) .
(5) صحيح: والخبر أخرجه مسلم (2473 و 2474) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى ذر- رضى الله عنه-.(2/242)
وعن عكرمة فى قصة الوليد بن المغيرة، وكان زعيم قريش فى الفصاحة: أنه قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: اقرأ على، فقرأ عليه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى «1» إلى أخر الآية. قال: أعد، فأعاد- صلى الله عليه وسلم-، فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر، ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منى، ولا أعلم برجزه ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذى يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى.
وفى خبره الآخر: حين جمع قريشا عند حضورهم الموسم وقال: إن وفود العرب تردنا، فأجمعوا فيه رأيا، لا يكذب بعضكم بعضا، فقالوا: نقول هو كاهن، قال: والله ما هو بزمزمته ولا سجعه، قالوا: مجنون. قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا بوسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر. قد عرفنا الشعر كله. رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم قائلون من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل، رواه ابن إسحاق والبيهقى.
وأخرج أبو نعيم من طريق ابن إسحاق، حدثنى إسحاق بن يسار عن رجل من بنى سلمة قال: لما أسلم فتيان بنى سلمة قال عمرو بن الجموح لابنه: أخبرنى ما سمعت من كلام هذا الرجل؟ فقرأ عليه الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى قوله الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «2» فقال: ما أحسن هذا وأجمله، أو كل كلامه مثل هذا؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا.
وقال بعض العلماء: إن هذا القرآن لو وجد مكتوبا فى مصحف فى فلاة من الأرض، ولم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منزل
__________
(1) سورة النحل: 90.
(2) سورة الفاتحة: 1- 6.(2/243)
من عند الله، وأن البشر لا قدرة لهم على تأليف مثل ذلك، فكيف إذا جاء على يد أصدق الخلق وأبرهم وأتقاهم وقال: إنه كلام الله، وتحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكيف يبقى مع هذا شك. انتهى.
[وجوه إعجاز القرآن الكريم]
واعلم أن وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر، لكن قال بعضهم: قد اختلف العلماء فى إعجازه على ستة أوجه:
* أحدها: أن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة
، مثل قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «1» فجمع فى كلمتين عدد حروفهما عشرة أحرف معانى كلام كثير. وحكى أبو عبيد: أن أعرابيّا سمع رجلا يقرأ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «2» فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقرأ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا «3» قال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وحكى الأصمعى: أنه رأى جارية خماسية أو سداسية وهى تقول: أستغفر الله من ذنوبى كلها، فقلت لها: مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت:
أستغفر الله لذنبى كله ... قتلت إنسانا بغير حله
مثل غزال ناعم فى دله ... انتصف الليل ولم أصله
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: أو تعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «4» فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
وحكى أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- كان يوما نائما فى المسجد، فإذا هو برجل قائم على رأسه، يتشهد شهادة الحق، فأعلمه أنه من بطارقة الروم، ممن
__________
(1) سورة البقرة: 179.
(2) سورة الحجر: 94.
(3) سورة يوسف: 80.
(4) سورة القصص: 7.(2/244)
يحسن كلام العرب وغيرها، وأنه سمع رجلا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملتها فإذا قد جمع الله فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة. وهى قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ «1» الآية.
وقد رام قوم من أهل الزيغ والإلحاد، أوتوا طرفا من البلاغة، وحظّا من البيان، أن يضعوا شيئا يلبسون به، فلما وجدوه مكان النجم من يد المتناول، مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما، لوقوع الشبهة على الجهال فيما قل عدد حروفه، لأن العجز إنما يقع فى التأليف والاتصال.
وممن رام ذلك من العرب فى التشبث بالسور القصار، مسيلمة الكذاب فقال: يا ضفدع نقى كم تنقين، أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين. فلما سمع أبو بكر- رضى الله عنه- هذا قال: إنه كلام لم يخرج من إل. قال ابن الأثير: أى من ربوبية، و «الإل» بالكسر هو الله تعالى. وقيل: الإل الأصل الجيد، أى لم يجئ من الأصل الذى جاء منه القرآن.
ولما سمع مسيلمة الكذاب- لعنه الله- و «النازعات» قال: والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والحافرات حفرا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر. إلى غير ذلك من الهذيان، مما ذكرت فى الوفود من المقصد الثانى بعضه والله أعلم.
وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين شراسيف «2» وأحشى وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، ومشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل.
__________
(1) سورة النور: 52.
(2) الشرسوف: غضروف على طرف كل ضلع.(2/245)
ففى هذا الكلام مع قلة حروفه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم، فضلا عمن يعلم.
* والثانى: أن إعجازه هو الوصف الذى صار به خارجا عن جنس كلام العرب
من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع، فلا يدخل فى شىء منها ولا يختلط بها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة فى نظمهم ونثرهم، ولذلك تحيرت عقولهم، وتدلهت «1» أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله فى حسن كلامهم، فلا ريب أنه فى فصاحته قد قرع القلوب ببديع نظمه، وفى بلاغته قد أصاب المعانى بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقى إلا تهافت تهافت الفراش فى الشهاب، وذل ذل النقد حول الليوث الغضاب.
وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك، كما حكى عن يحيى بن حكيم الغزال- بتخفيف الزاى وقد تشدد- وكان بليغ الأندلس فى زمانه أنه قد رام شيئا من هذا، فنظر فى سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته خشية ورقة، حملته على التوبة والإنابة.
وحكى أيضا أن ابن المقفع- وكان أفصح أهل وقته- طلب ذلك ورامه، ونظم كلاما وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبى يقرأ فى مكتب قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ... «2» الآية، فرجع ومحى ما عمل وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا، وما هو من كلام البشر.
ولله در العارف سيدى محمد وفا حيث قال، يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- والقرآن المعظم:
__________
(1) دله فلان: أى حيره وأدهشه.
(2) سورة هود: 44.(2/246)
له آية الفرقان فى عين جمعه ... جوامع آيات بها اتضح الرشد
حديث نزيه عن حدوث منزه ... قديم صفات الذات ليس له ضد
بلاغ بليغ للبلاغة معجز ... له معجزات لا يعد لها عد
تحلت بروح الوحى حلة نسجه ... عقود اعتقاد لا يحل لها عقد
وغاية أرباب البلاغة عجزهم ... لديه وإن كانوا هم الألسن اللد
فأفاكهم بالإفك أعياه غيه ... تصدى وللأسماع عن غيه صد
قلى الله أقوالا يهاجر هجرها ... هوانا بها الورهاء والبهم البلد «1»
تلاها فتلّ الفحش فى القبح وجهها ... وعن ريبها الألباب نزهها الزهد
لقد فرق الفرقان شمل فريقه ... بجمع رسول الله واستعلن الرشد
أتى بالهدى صلى عليه إلهه ... ولم يله بالأهواء إذ جاءه الجد
* والثالث: أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يمله
، وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة وطلاوة، لا يزال غضّا طريّا، وغيره من الكلام ولو بلغ فى الحسن والبلاغة ما بلغ يمل مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، وكتابنا يستلذ به فى الخلوات، ويؤنس بتلاوته فى الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث أصحابها لها لحونا وطرقا، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف- صلى الله عليه وسلم- القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضى عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذى لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فامنا به «2» أشار إليه القاضى عياض.
* والرابع: أن وجه إعجازه هو ما فيه من الإخبار بما كان
، مما علموه
__________
(1) الورهاء: الحمقاء، والبهم: أولاد الضأن المعز والبقر، والبلد جمع بليد، وهو معروف.
(2) قلت: ورد بذلك فى حديث عند الترمذى (2906) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء فى فضل القرآن، والدارمى فى «سننه» (3331) من حديث على- رضى الله عنه-، بسند فيه الحارث والأعور، وهو ضعيف.(2/247)
وما لم يعلموه، فإذا سألوا عنه عرفوا صحته وتحققوا صدقه كالذى حكاه من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر- عليهما الصلاة والسلام-، وحال ذى القرنين، وقصص الأنبياء مع أممها، والقرون الماضية فى دهرها.
* والخامس: أن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب،
والإخبار بما يكون، فيوجد على صدقه وصحته، مثل قوله تعالى لليهود: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «1» فما تمناه أحد منهم.
ومثل قوله تعالى لقريش: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «2» فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا. وتعقب: بأن الغيوب التى اشتمل عليها القرآن وقع بعضها فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، كقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «3» وبعضها بعد مدة كقوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ «4» فلو كان كما قالوا لنازعوا وقع المتوقع، وبأن الإخبار عن الغيب جاء فى بعض سور القرآن واكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة، فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها.
* السادس: أن وجه إعجازه هو كونه جامعا لعلوم كثيرة، لم تتعاط العرب فيها الكلام،
ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب، بين الله فيه خبر الأولين والآخرين وحكم المتخلفين وثواب المطيعين وعقاب العاصين.
فهذه ستة أوجه، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا، فإذا جمعها القرآن فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها. وقد قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «5» فلم يقدر أحد أن يأتى بمثل هذا القرآن
__________
(1) سورة البقرة: 94، 95.
(2) سورة البقرة: 24.
(3) سورة الفتح: 1.
(4) سورة الروم: 1.
(5) سورة الإسراء: 88.(2/248)
فى زمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا بعده على نظمه وتأليفه وعذوبة منطقه وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال والأشياء التى دلت على البعث وآياته، والإنباء بما كان وبما يكون، وبما فيه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وصلة الأرحام، إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد وقد عجزت عنه العرب الفصحاء والخطباء البلغاء، والشعراء الفهماء، من قريش وغيرها، وهو- صلى الله عليه وسلم- فى مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة لا يحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب، ولا يتعلم سحرا، ولا ينشد شعرا، ولا يحفظ خبرا، ولا يروى أثرا، حتى أكرمه الله بالوحى المنزل، والكتاب المفصل، فدعاهم إليه وحاجهم به، قال الله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ «1» ، وشهد له فى كتابه بذلك فقال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ «2» .
وأما ما عدا القرآن من معجزاته- صلى الله عليه وسلم-، كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدى به، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده- صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شىء كثير- كما يقطع بجود حاتم، وشجاعة على- وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت موارد الآحاد مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر ورواه العدد الكثير، والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم بذلك.
فلو ادعى مدع أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظرى لما كان مستبعدا، وذلك أنه لا مرية أن رواة الأخبار فى كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار فى الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة مخالفة الراوى فيما حكاه من ذلك. ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم
__________
(1) سورة يونس: 16.
(2) سورة العنكبوت: 48.(2/249)
كالناطق، لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء على الباطل، وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئا من ذلك فإنما هو من جهة توقف فى صدق الراوى أو تهمته بكذب، أو توقف فى ضبطه أو نسبته إلى سوء الحفظ، أو جواز الغلط، ولا يوجد أحد منهم طعن فى المروى، كما وجد منهم فى غير هذا الفن من الأحكام وحروف القرآن ونحو ذلك والله أعلم.
وأنت إذا تأملت معجزاته وباهر آياته وكراماته- صلى الله عليه وسلم- وجدتها شاملة للعلوى والسفلى، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمائع والجامد، والسابق واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل، إلى غير ذلك، مما لو عد لطال، كالرمى بالشهب الثواقب، ومنع الشياطين من استراق السمع فى الغياهب، وتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتها له بالرسالة بين يديه، ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع، ونبع الماء من كفه فى الميضأة والتور والمزادة، وانشقاق القمر، ورد العين من العور، ونطق البعير والذئب والجمل، وكالنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التى تداولتها الحملة، ونقلتها عن الألسنة الأول النقلة، مما لو أعملنا أنفسنا فى حصرها لفنى المداد فى ذكرها. ولو بالغ الأولون والآخرون فى إحصاء مناقبه لعجزوا عن استقصاء ما حباه الكريم به من مواهبه، ولكن الملم بساحل بحرها مقصرا عن- حصر بعض فخرها، ولقد صح لبعض محبيه أن ينشدوا فيه:
وعلى تفنن واصفيه لنعته ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وأنه لخليق بمن ينشد:
فما بلغت كف امرئ متناولا ... من المجد إلا والذى نال أطول
ولا بلغ المهدون فى القول مدحه ... ولو حذقوا إلا الذى فيه أفضل
ولله در إمام العارفين سيدى محمد وفا فلقد كفى وشفى بقوله:(2/250)
ما شئت قل فيه فأنت مصدق ... فالحب يقضى والمحاسن تشهد
ولقد أبدع الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيرى حيث قال:
دع ما ادعته النصارى فى نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم
يعنى أن المداح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه، إذ لا حدّ له، ويحكى أنه رؤى الشيخ عمر بن الفارض السعدى فى النوم فقيل له: لم لا مدحت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال:
أرى كل مدح فى النبى مقصرا ... وإن بالغ المثنى عليه وأكثرا
إذا الله أثنى بالذى هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى
قال الشيخ بدر الدين الزركشى: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين- كأبى تمام والبحترى وابن الرومى- مدحه- صلى الله عليه وسلم-، وكان مدحه عندهم من أصعب ما يحاولونه، فإن المعانى دون مرتبته، والأوصاف دون وصفه، وكل غلو فى حقه تقصير، فيضيق على البليغ بحال النظم، وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التى فيها غلو بالنسبة إلى من قرضت له وجدتها صادقة فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم-، حتى كأن الشعراء على صفاته كانوا يعتمدون وإلى أمداحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيرى بقوله: «دع ما ادعته النصارى فى نبيهم» إلى ما أطرت النصارى به عيسى ابن مريم من اتخاذه إلها. قال النيسابورى: إنهم صحفوا فى الإنجيل «عيسى نبى وأنا ولدته» فحرفوا الأول بتقديم الباء الموحدة وخففوا اللام فى الثانى، فلعنة الله على الكافرين. فإن قلت: هل ادعى أحد فى نبينا- صلى الله عليه وسلم- ما ادعى فى عيسى؟ أجيب: بأنهم قد كادوا أن يفعلوا نحو ذلك حين قالوا له- صلى الله عليه وسلم-:
أفلا نسجد لك؟ قال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» «1» فنهاهم عما عساه يبلغ بهم من العبادة.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (2140) فى النكاح، باب: فى حق الزوج على-(2/251)
وقد جاء فى صفته فى حديث ابن أبى هالة: ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، أى: مقارب فى مدحه غير مفرط فيه. وقال ابن قتيبة معناه؛ إلا أن يكون ممن له عليه منة، فيكافئه الآخر، وغلطه ابن الأنبارى: بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لأن الله بعثه رحمة للعالمين، فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتم الإسلام إلا به. قال: وإنما المعنى: لا يقبل الثناء إلا من رجل عرف حقيقة إسلامه.
[أقسام معجزاته ص]
ثم إن حاصل معجزاته وباهر آياته وكراماته- صلى الله عليه وسلم- كما نبه عليه القطب القسطلانى يرجع إلى ثلاثة أقسام:
ماض: وجد قبل كونه، فقضى بمجده.
ومستقبل: وقع بعد مواراته فى لحده.
وكائن معه من حين حمله ووضعه إلى أن نقله الله إلى محل فضله وموطن جمعه.
[القسم الأول ما كان قبل ظهوره]
فأما القسم الأول الماضى وهو ما كان قبل ظهوره إلى هذا الوجود، فقد ذكرت منه جملة فى المقصد الأول، كقصة الفيل وغير ذلك، مما هو تأسيس لنبوته وإرهاص لرسالته، قال الإمام فخر الدين الرازى: ومذهبنا: أنه يجوز تقديم المعجزة تأسيسا وإرهاصا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله، يعنى فى سفره قبل النبوة، خلافا للمعتزلة القائلين بأنه لا يجوز أن تكون المعجزة قبل الإرسال. انتهى.
وقد تقدم أول هذا المقصد: أن الذى عليه جمهور أئمة الأصول وغيرهم: أن هذا ونحوه مما هو متقدم على الدعوى لا يسمى معجزة، بل تأسيسا للرسالة وكرامة للرسول- صلى الله عليه وسلم-.
وأما القسم الثانى ما وقع بعد وفاته- ص:
وهو ما وقع بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم- فكثير جدّا، إذ فى
__________
- المرأة، والدارمى فى «سننه» (1463) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 204) من حديث قيس بن سعد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/252)
كل حين يقع لخواص أمته من خوارق العادات بسببه مما يدل على تعظيم قدره الكريم ما لا يحصى كالاستغاثة به وغير ذلك مما يأتى فى المقصد الأخير، فى أثناء الكلام على زيارة قبره الشريف المنير.
وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته،
فكالنور الذى خرج معه حتى أضاء له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى، ومسح الطائر على فؤاد أمه حتى لم تجد ألما لولادته، والطواف به فى الآفاق، إلى غير ذلك. وكانشقاق القمر عند اقتراحه عليه، وانضمام الشجرتين لما دعاهما إليه، وكإطعام الجيش الكثير من النزر اليسير، فى عدة من المواضع واستيلاء الفجائع، وغير ذلك مما أمده الله تعالى به من المعجزات، وأكرمه به خوارق العادات تأييدا لإقامة حجته، وتمهيدا لهداية محجته، وتأييدا لسيادته فى كل أمة، وتسديدا لمن ادكر بعد أمة، مما تتبعه يخرج عن مقصود الاختصار، إذ هو باب فسيح المجال منيع المنال، لكنى أنبه من ذلك على نبذة يسيرة، وأنوه فى أثنائها بجملة خطيرة، فأقول وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
أما معجزة انشقاق القمر، فقد قال تعالى فى كتابه العزيز: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «1» . الآية، والمراد وقوع انشقاقه، ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2» . فإن ذلك ظاهر فى أن المراد بقوله: «انشق» وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، وإذا تبين أن قولهم إنما هو فى الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالآية التى زعموا أنها سحر، وسيأتى ذلك صريحا فى حديث ابن مسعود وغيره.
واعلم أن القمر لم ينشق لأحد غير نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وهو من أمهات معجزاته- صلى الله عليه وسلم-. وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجله
__________
(1) سورة القمر: 1.
(2) سورة القمر: 2.(2/253)
- صلى الله عليه وسلم-، فإن كفار قريش لما كذبوه ولم يصدقوه طلبوا منه آية تدل على صدقه على دعواه، فأعطاه الله هذه الآية العظيمة، التى لا قدرة لبشر على إيجادها، دلالة على صدقه- صلى الله عليه وسلم- فى دعواه الوحدانية لله تعالى، وأنه منفرد بالربوبية، وأن هذه الآلهة التى يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضر، وأن العبادة إنما تكون لله وحده لا شريك له.
قال الخطابى: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شىء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر فى ملكوت السماوات خارجا عن جملة طباع ما فى هذا العالم المركب من الطبائع، فليس فيما يطمع فى الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. انتهى.
وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث- يعنى حديث انشقاق القمر- جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا. وتأيد بالآية الكريمة. انتهى.
وقال العلامة ابن السبكى فى شرحه لمختصر ابن الحاجب: والصحيح عندى أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه فى القرآن، مروى فى الصحيحين وغيرهما من طرق من حديث شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن أبى معمر عن ابن مسعود، ثم قال: وله طرق أخر شتى، بحيث لا يمترى فى تواتره. انتهى.
وقد جاءت أحاديث الانشقاق فى روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم: أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وعلى، وحذيفة، وجبير ابن مطعم، وابن عمر، وغيرهم. فأما أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك، لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأما أنس فكان ابن أربع سنين أو خمس بالمدينة، وأما غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك.
ففى الصحيحين: من حديث أنس- رضى الله عنه-: أن أهل مكة سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء(2/254)
بينهما، وقوله: شقتين- بكسر الشين المعجمة- أى نصفين «1» . ومن حديث ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «اشهدوا» «2» . وفى الترمذى من حديث ابن عمر، فى قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «3» قال:
قد كان ذلك على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، انشق فلقتين، فلقة دون الجبل، وفلقة فوق الجبل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اشهدوا» «4» . وعند الإمام أحمد، من حديث جبير بن مطعم قال: انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا:
سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس «5» .
وعن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبى كبشة، قال: فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السفار فأخبروهم بذلك «6» رواه أبو داود الطيالسى.
ورواه البيهقى بلفظ: انشق القمر بمكة فقالوا: سحركم ابن أبى كبشة، فاسألوا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم فهو سحر، فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (36367) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى الله عليه وسلم- آية فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (2802) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: انشقاق القمر.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3636) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى الله عليه وسلم- آية فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (2800) فى صفة القيامة والجنة، باب: انشقاق القمر.
(3) سورة القمر: 1.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2801) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: انشقاق القمر، والترمذى (3288) فى التفسير، باب: ومن سورة القمر.
(5) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 81) ، وهو عند الترمذى (3289) .
(6) أخرجه أبو داود الطيالسى فى «مسنده» (295) .(2/255)
وعند أبى نعيم فى الدلائل من حديث ضعيف عن ابن عباس قال:
اجتمع المشركون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاصى بن وائل، والأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبى- صلى الله عليه وسلم-: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق.
وعند البخارى مختصرا من حديث ابن عباس بلفظ: إن القمر انشق على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» ، وابن عباس وإن كان لم يشاهد القصة كما قدمته، ففى بعض طرقه أنه حمل الحديث عن ابن مسعود «2» . وعند مسلم من حديث شعبة عن قتادة بلفظ فأراهم انشقاق القمر مرتين «3» .
وكذا فى مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ مرتين أيضا. واتفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: فرقتين، كما فى حديث جبير عند أحمد. وفى حديث ابن عمر فلقتين- باللام- كما قدمته. وفى لفظ من حديث جبير: فانشق باثنتين. وفى رواية عن ابن عباس عند أبى نعيم فى الدلائل: فصار قمرين. ووقع فى نظم السيرة للحافظ أبى الفضل العراقى:
وانشق مرتين بالإجماع. قال الحافظ ابن حجر: وأظن قوله: «بالإجماع» يتعلق ب «انشق» لا ب «مرتين» ، فإنى لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-. ولعل قائل «مرتين» أراد: فرقتين. وهذا الذى لا يتجه غيره جمعا بين الروايات. وقد وقع فى رواية البخارى من حديث ابن مسعود: ونحن بمنى، وهذا لا يعارض قول أنس: إن ذلك كان بمكة، لأنه لم يصرح بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان ليلتئذ بمكة. فالمراد أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة والله أعلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3638) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى الله عليه وسلم- آية، فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (2803) فى صفات المنافقين وأحكامهم، باب: انشقاق القمر.
(2) صحيح: وقد تقدم حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2802) (47) فى صفة المنافقين وأحكامهم، باب: انشقاق القمر.(2/256)
وقد أنكر هذه المعجزة جماعة من المبتدعة، كجمهور الفلاسفة، متمسكين بأن الأجرام العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام، وكذا قالوا فى فتح أبواب السماء ليلة الإسراء، إلى غير ذلك. وجواب هؤلاء: إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام، فإذا تمت اشتركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلّم المسلم بعض ذلك دون بعض لزم التناقض. وأيضا لا سبيل إلى إنكار ما ثبت فى القرآن من الانخراق والالتئام فى القيامة، وإذا ثبت هذا استلزم الجواز، ووقوعه معجزة للنبى- صلى الله عليه وسلم-. وقد أجاب القدماء عن ذلك، فقال أبو إسحاق الزجاج فى «معانى القرآن» : أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفى الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء كما يكوره يوم القيامة ويفنيه. انتهى.
وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا النقل جاء متواترا واشترك أهل الأرض كلهم فى معرفته، ولم يختص بها أهل مكة، لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعى متوفرة على رواية كل غريب، ونقل ما لم يعهد، ولو كان لذلك أصل لخلد فى كتب التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره.
فأجاب عنه الخطابى وغيره: بأن هذه القصة خرجت عن الأمور التى ذكروها، لأنه شىء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلا، لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نياما ومستكنين فى الأبنية، والبارز منهم فى الصحراء إذا كان يقظانا يحتمل أن يتفق أنه كان فى ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراكز القمر ناظرين إليه ولا يغافلوا عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان فى قدر اللحظة التى هى مدرك البصر، وقد يكون القمر حينئذ فى بعض المنازل التى تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عند قوم، وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد آخر.(2/257)
وقد أبدى الخطابى حكمة بالغة فى كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شىء منها مبلغ التواتر الذى لا نزاع فيه كالقرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبى كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب بها من قومه، والنبى- صلى الله عليه وسلم- بعث رحمة للعالمين، فكانت معجزته التى تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم، لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عامّا لعوجل من كذب بها كما عوجل من قبلهم. انتهى. وكذا أجاب ابن عبد البر بنحوه.
تنبيه: ما يذكره بعض القصاص: أن القمر دخل فى جيب النبى- صلى الله عليه وسلم- وخرج من كمه، فليس له أصل، كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشى عن شيخه العماد بن كثير.
وأما رد الشمس له- صلى الله عليه وسلم-، فروى عن أسماء بنت عميس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يوحى إليه ورأسه فى حجر على- رضى الله عنه-، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أصليت يا على؟» فقال:
لا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس» ، قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقعت على الجبال والأرض، وذلك فى الصهباء فى خيبر «1» ، رواه الطحاوى فى مشكل الحديث، كما حكاه القاضى عياض فى الشفاء وقال:
قال الطحاوى: إن أحمد بن صالح كان يقول: لا ينبغى لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة. انتهى.
قال بعضهم: هذا الحديث ليس بصحيح، وإن أوهم تخريج القاضى عياض له فى الشفاء عن الطحاوى من طريقين، فقد ذكره ابن الجوزى فى الموضوعات وقال: إنه موضوع بلا شك وفى سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذاب، كما قال الدار قطنى. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
قال ابن الجوزى: وقد روى هذا الحديث ابن شاهين فذكره ثم قال:
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطحاوى فى مشكل الآثار: (2/ 9) و (4/ 388) ، بسند فيه متروك.(2/258)
وهذا حديث باطل، قال: ومن تغافل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة، ولم يلمح عدم الفائدة فيها، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء، ورجوع الشمس لا يعيدها أداء. انتهى.
وقد أفرد ابن تيمية تصنيفا مفردا فى الرد على الروافض ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع، والعجب من القاضى مع جلالة قدره وعلو خطره فى علوم الحديث كيف سكت عنه موهما صحته، ناقلا ثبوته، موثقا رجاله. انتهى.
وقال شيخنا: قال أحمد: لا أصل له، وتبعه ابن الجوزى فأورده فى الموضوعات. ولكن قد صححه الطحاوى والقاضى عياض، وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن مردويه من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- انتهى.
ورواه الطبرانى فى معجمه الكبير بإسناد حسن كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقى فى شرح التقريب عن أسماء بنت عميس ولفظه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليّا فى حاجة فرجع وقد صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- العصر، فوضع- صلى الله عليه وسلم- رأسه فى حجر على ونام، فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إن عبدك عليّا احتبس بنفسه على نبيه فرد عليه الشمس» قالت أسماء: فطلعت عليه الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، وقام على فتوضأ وصلى العصر ثم غابت وذلك بالصهباء «1» .
وفى لفظ آخر: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحى يغشى عليه، فأنزل الله عليه يوما وهو فى حجر على، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «صليت العصر يا على؟» فقال: لا، يا رسول الله، فدعا الله فرد عليه الشمس حتى صلى العصر قالت أسماء: فرأيت الشمس طلعت بعد ما غابت حين ردت حتى صلى العصر «2» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (24/ 144) .
(2) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (24/ 152) .(2/259)
قال: وروى الطبرانى أيضا فى معجمه الأوسط بإسناد حسن عن جابر:
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار.
وروى يونس بن بكير فى زيادة المغازى فى روايته عن ابن إسحاق، مما ذكره القاضى عياض: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التى فى العير، قالوا: متى تجىء؟ قال: «يوم الأربعاء» ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون، وقد ولى النهار، ولم تجئ، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزيد له فى النهار ساعة وحبست عليه الشمس «1» . انتهى.
وهذا يعارضه قوله فى الحديث: لم تحبس الشمس على أحد إلا ليوشع ابن نون، يعنى حين قاتل الجبارين يوم الجمعة، فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحل له قتالهم، فدعا الله تعالى فرد عليه الشمس حتى فرغ من قتالهم.
قال الحافظ ابن كثير: فيه أن هذا كان من خصائص يوشع، فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى على بن أبى طالب، وقد صححه أحمد بن صالح المصرى، ولكنه منكر، ليس فى شىء من الصحاح والحسان، وهو مما تتوفر الدواعى على نقله، وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها. انتهى. ويحتمل الجمع: بأن المعنى لم تحبس الشمس على أحد من الأنبياء غيرى إلا ليوشع، والله أعلم.
وكذا روى حبس الشمس لنبينا- صلى الله عليه وسلم- أيضا يوم الخندق، حين شغل عن صلاة العصر، فيكون حبس الشمس مخصوصا بنبينا- صلى الله عليه وسلم- وبيوشع، كما ذكره القاضى عياض فى الإكمال، وعزاه لمشكل الآثار، ونقله النووى فى شرح مسلم فى باب حل الغنائم عن عياض وكذا الحافظ ابن حجر فى باب الأذان فى تخريج أحاديث الرافعى ومغلطاى فى الزهر الباسم، وأقروه.
وتعقب: بأن الثابت فى الصحيح وغيره: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى العصر فى وقعة الخندق بعد ما غربت الشمس. كما سبق فى غزوتها. وذكر البغوى فى
__________
(1) انظر «الشفا» للقاضى عياض (1/ 284) .(2/260)
تفسيره: أنها حبست لسليمان- عليه السّلام- أيضا، لقوله: رُدُّوها عَلَيَّ «1» .
ونوزع فيه بعدم ذكر الشمس فى الآية، فالمراد: الصافنات الجياد والله أعلم.
قال القاضى عياض: واختلف فى حبس الشمس المذكور هنا، فقيل:
ردت على أدراجها وقيل: وقفت ولم ترد، وقيل: بطء حركتها. قال: وكل ذلك من معجزات النبوة. انتهى.
وأما ما روى من طاعات الجمادات وتكليمها له بالتسبيح والسلام ونحو ذلك مما وردت به الأخبار، فمنها تسبيح الطعام والحصى فى كفه الشريف- صلى الله عليه وسلم- «2» . فخرج محمد بن يحيى الذهلى فى الزهريات قال:
أخبرنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب عن الزهرى قال: ذكر الوليد بن سويدان رجلا من بنى سليم كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة: عن أبى ذر قال:
هجرت يوما من الأيام، فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم- قد خرج من بيته فسألت عنه الخادم فأخبرنى أنه ببيت عائشة، فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكأنى حينئذ أرى أنه فى وحى، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال:
«ما جاء بك؟» قلت: الله ورسوله، فأمرنى أن أجلس فجلست إلى جنبه، لا أسأله عن شىء ولا يذكره لى، فمكثت غير كثير، فجاء أبو بكر يمشى مسرعا فسلم عليه، فرد عليه السلام، ثم قال: «ما جاء بك؟» قال: جاء بى الله ورسوله، فأشار بيده أن اجلس، فجلس إلى ربوة مقابل النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك، ثم قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبى بكر، ثم جاء عثمان كذلك وجلس إلى جنب عمر، ثم قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حصيات سبع أو تسع أو ما قرب من ذلك، فسبحان فى يده، حتى سمع لهن حنين كحنين النحل فى كف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم ناولهن أبا بكر، وجاوزنى، فسبحان فى كف أبى بكر، ثم أخذهن منه فوضعهن فى الأرض فخرسن وصرن حصى، ثم ناولهن عمر، فسبحان فى
__________
(1) سورة ص: 33.
(2) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (6/ 64) .(2/261)
كفه، كما سبحان فى كف أبى بكر، ثم أخذهن منه فوضعهن فى الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان فسبحان فى كفه، كما سبحان فى كف أبى بكر وعمر، ثم أخذهن فوضعهن فى الأرض فخرسن «1» .
وقال الحافظ ابن حجر: قد اشتهر على الألسنة تسبيح الحصى. ففى حديث أبى ذر قال: تناول النبى- صلى الله عليه وسلم- سبع حصيات فسبحان فى يده حتى سمعت لهن حنينا، ثم وضعهن فى يد أبى بكر فسبحان، ثم وضعهن فى يد عمر فسبحان، ثم وضعهن فى يد عثمان فسبحان «2» ، أخرجه البزار، والطبرانى فى الأوسط.
وفى رواية الطبرانى: فسمع تسبيحهن من فى الحلقة، ثم دفعهن إلينا فلم يسبحان مع أحد منا، قال البيهقى فى «الدلائل» «3» : كذا رواه صالح بن أبى الأخضر- ولم يكن بالحافظ- عن الزهرى عن سويد بن يزيد السلمى عن أبى ذر. والمحفوظ ما رواه شعيب عن أبى حمزة عن الزهرى قال: ذكر الوليد ابن سويد أن رجلا من بنى سليم كان كبير السن، انتهى. وليس لحديث تسبيح الحصى إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها، لكنه مشهور عند الناس.
وما أحسن قول سيدى محمد وفا- رحمه الله تعالى- حيث قال:
لسبحة ذاك الوجه قد سبح الحصا ... ومن سح سحب الكف قد سبح الرعد
وقال الآخر:
يا حبذا لو لثمت كفا ... قد سبحت وسطها الحصاء
وقد أخرج البخارى من حديث ابن مسعود: كنا نأكل مع النبى- صلى الله عليه وسلم- الطعام، ونحن نسمع تسبيح الطعام «4» . وعن جعفر بن محمد عن أبيه
__________
(1) ذكره ابن عساكر فى «تهذيب تاريخ دمشق» (2/ 108) ، والقاضى عياض فى «الشفا» له (1/ 306) .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 299) وقال: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات، وفى بعضهم ضعف.
(3) (6/ 65) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3579) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام.(2/262)
قال: مرض النبى- صلى الله عليه وسلم- فأتاه جبريل بطبق فيه رمان وعنب فأكل منه النبى- صلى الله عليه وسلم- فسبح «1» . رواه القاضى عياض فى «الشفاء» ونقله عنه الحافظ أبو الفضل فى فتح البارى.
واعلم أن التسبيح من قبيل الألفاظ الدالة على معنى التنزيه. واللفظ يوجد حقيقة ممن قام به اللفظ، فيكون فى غير من قام به مجازا، فالطعام والحصا والشجر ونحو ذلك، كل منها متكلم باعتبار خلق الكلام فيها حقيقة، وهذا من قبيل خرق العادة. وفى قوله: «ونحن نسمع تسبيحه» تصريح بكرامة الصحابة لسماع هذا التسبيح وفهمه وذلك ببركته- صلى الله عليه وسلم-.
ومن ذلك تسليم الحجر عليه- صلى الله عليه وسلم-: خرج مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث، إنى لأعرفه الآن» «2» . وقد اختلف فى هذا الحجر، فقيل: هو الحجر الأسود، وقيل: حجر غيره بزقاق يعرف به بمكة، والناس يتبركون بلمسه، ويقولون: إنه هو الذى كان يسلم على النبى- صلى الله عليه وسلم- متى اجتاز به.
وقد ذكر الإمام أبو عبد الله، محمد بن رشيد- بضم الراء- فى رحلته مما ذكره فى «شفاء الغرام» عن علم الدين أحمد بن أبى بكر بن خليل قال:
أخبرنى عمى سليمان قال: أخبرنى محمد بن إسماعيل بن أبى الصيف قال:
أخبرنى أبو حفص الميانشى قال: أخبرنى كل من لقيته بمكة أن هذا الحجر- يعنى المذكور- هو الذى كلم النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وروى الترمذى والدارمى والحاكم وصححه، عن على بن أبى طالب قال: كنت أمشى مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة فخرجنا فى بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله «3» . وعن عائشة
__________
(1) لا أصل له: والحديث ذكره القاضى عياض فى «الشفا» (1/ 307) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2277) فى الفضائل، باب: فضل نسب النبى- صلى الله عليه وسلم- وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.
(3) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (3626) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والدارمى فى «سننه» (21) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 677) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(2/263)
قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما استقبلنى جبريل بالرسالة جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله» «1» رواه البزار وأبو نعيم. وعن جابر بن عبد الله قال: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له «2» .
ومن ذلك: تأمين أسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه- صلى الله عليه وسلم-، عن أبى أسيد الساعدى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للعباس بن عبد المطلب: «يا أبا الفضل، لا ترم منزلك أنت وبنوك غدا حتى آتيكم، فإن لى فيكم حاجة» .
فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى، فدخل عليهم فقال: «السلام عليكم» ، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: «كيف أصبحتم؟» قالوا:
أصبحنا بخير بحمد الله، فقال لهم: «تقاربوا» فتقاربوا يزحف بعضهم إلى بعض، حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته فقال: «يا رب، هذا عمى، وصنو أبى، وهؤلاء أهل بيتى فاسترهم من النار كسترى إياهم بملاءتى هذه، قال: فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقال: آمين آمين آمين» «3» رواه البيهقى فى الدلائل وابن ماجه مختصرا.
ومن ذلك كلامه للجبل وكلام الجبل له- صلى الله عليه وسلم-، عن أنس قال: صعد النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان أحدا، فرجف بهم، فضربه النبى- صلى الله عليه وسلم- برجله وقال: «اثبت أحد، فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان» «4» رواه أحمد والبخارى والترمذى وأبو حاتم. قال ابن المنير: قيل الحكمة فى ذلك أنه لما رجف أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يبين أن هذه الرجفة ليست من جنس
__________
(1) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 260) وقال: رواه البزار عن شيخه عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 69) .
(3) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (19/ 263) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3686) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى الله عنه-، وأبو داود (4651) فى السنة، باب: فى الخلفاء، والترمذى (3697) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-.(2/264)
رجفة الجبل بقوم موسى لما حرفوا الكلم، وأن تلك رجفة الغضب، وهذه هزة الطرب، ولهذا نص على مقام النبوة والصديقية والشهادة التى توجب سرور ما اتصلت به لا رجفانه، فأقر الجبل بذلك فاستقر، انتهى.
وأحد: جبل بالمدينة، وهو الذى قال فيه: «أحد جبل يحبنا ونحبه» «1» .
رواه البخارى ومسلم. واختلف فى المراد بذلك، فقيل: أراد به أهل المدينة، كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» . أى أهلها، قاله الخطابى، وقال البغوى فيما حكاه الحافظ المنذرى: الأولى إجراؤه على ظاهره، ولا ينكر وصف الجمادات بحب الأنبياء والأولياء، وأهل الطاعة، كما حنت الأسطوانة على مفارقته- صلى الله عليه وسلم- حتى سمع الناس حنينها إلى أن سكنها، وكما أخبر أن حجرا كان يسلم عليه قبل الوحى، فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه وتحن إلى لقائه حالة مفارقته إياها. انتهى.
وقال الحافظ المنذرى: هذا الذى قاله البغوى جيد. وعن ثمامة عن عثمان بن عفان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان على ثبير مكة، ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، فركله برجله وقال: «اسكن ثبير، فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان» «3» . خرجه النسائى والترمذى والدارقطنى.
والحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل. وركله برجله: أى ضربه بها. وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال- صلى الله عليه وسلم-:
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2889) فى الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة فى الغزو، ومسلم (1365) فى الحج، باب: فضل المدينة، و (1393) فى الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) سورة يوسف: 82.
(3) حسن: أخرجه الترمذى (3703) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-، والنسائى (6/ 236) فى الأحباس، باب: وقف المساجد، وفى «الكبرى» (6435) ، والدار قطنى فى «سننه» (4/ 196 و 197) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/265)
«اسكن حراء، فما عليك إلا نبى أو صديق أو شهيد» «1» . وفى رواية: وسعد ابن أبى وقاص، ولم يذكر عليّا. خرجهما مسلم وانفرد بذلك. وخرجه الترمذى فى مناقب عثمان، ولم يذكر «سعدا» وقال: «اهدأ» مكان «اسكن» وقال: حديث صحيح. وخرجه الترمذى أيضا عن سعيد بن زيد وذكر أنه كان عليه العشرة إلا أبا عبيدة «2» . وقال: اثبت حراء. وكذا رواه الخلعى عنه بنحوه، ولم يذكر أبا عبيدة بن الجراح. ورواه أيضا إسحاق البغدادى فيما رواه الكبار عن الصغار، والآباء عن الأبناء، ولله در القائل:
ومال حراء من تحته فرحا به ... لولا مقال «اسكن» تضعضع وانقضا
وحراء وثبير: جبلان متقابلان معروفان بمكة. واختلاف الروايات تحمل على أنها قضايا تكررت. قاله الطبرى وغيره. لكن صحح الحافظ ابن حجر:
أنه «أحد» قال: ولولا اتحاد المخرج لجوزت تعدد القصة، ثم ظهر لى أن الاختلاف فيه من سعيد، فإنى وجدته فى مسند الحارث بن أبى أسامة عن روح بن عبادة فقال فيه: «أحد» أو «حراء» بالشك. وقد أخرجه أحمد من حديث بريدة «3» بلفظ حراء وإسناده صحيح. وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ «أحد» وإسناده صحيح فقوى احتمال تعدد القصة.
وأخرج مسلم «4» من حديث أبى هريرة ما يؤيد تعدد القصة، فذكر أنه كان على حراء ومعه المذكورون هنا وزاد معهم غيرهم. ولما طلبته- صلى الله عليه وسلم- قريش قال له ثبير: اهبط يا رسول الله فإنى أخاف أن يقتلوك على ظهرى فيعذبنى الله، فقال له حراء: إلى يا رسول الله رواه فى «الشفاء» وهو حديث مروى فى الهجرة من السيرة. وحراء مقابل لثبير، والوادى بينها، وهو على يسار السالك إلى منى، وحراء قبلى ثبير مما يلى شمال الشمس. وهذه الواقعة غير واقعة ثور فى خبر الهجرة. هذا هو الظاهر والله أعلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2417) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل طلحة والزبير- رضى الله عنهما-.
(2) قلت: هو عند أحمد فى «مسنده» (1/ 187 و 188) .
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 346) .
(4) صحيح: وقد تقدم حديث مسلم قبل حديثين.(2/266)
قال السهيلى فى حديث الهجرة: وأحسب فى الحديث أن ثورا ناداه أيضا، لما قال له ثبير: اهبط عنى. ومن ذلك كلام الشجر له وسلامها عليه وطواعيتها له، وشهادتها له بالرسالة- صلى الله عليه وسلم-. أخرج البزار وأبو نعيم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما أوحى إلى جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله» «1» .
وأخرج الإمام أحمد عن أبى سفيان طلحة بن نافع عن جابر قال: جاء جبريل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وهو جالس حزين، قد خضب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، فقال له: ما لك؟ فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فعل بى هؤلاء وفعلوا» ، فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟
فقال: «نعم» ، قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادى فقال: ادع تلك الشجرة فدعاها، قال فجاءت تمشى حتى قامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع إلى مكانها، فأمرها فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «حسبى حسبى» «2» ، ورواه الدارمى من حديث أنس.
وعن على قال: كنت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة، فخرجنا فى بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله «3» ، رواه الترمذى وقال: حديث حسن غريب.
وخرج الحاكم فى مستدركه بإسناد جيد عن ابن عمر قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فأقبل أعرابى، فلما دنا منه قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أين تريد» قال: إلى أهلى، قال: «هل لك إلى خير» ، قال: وما هو؟ قال:
«تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» قال:
هل لك من شاهد على ما تقول؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذه الشجرة»
__________
(1) تقدم.
(2) قلت: هو عند ابن ماجه (4028) فى الفتن، باب: الصبر على البلاء، والدارمى فى «سننه» (23) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 113) من حديث أنس- رضى الله عنه-، ولم أقف عليه من حديث جابر كما قال المصنف، ولعله وهم. وإسناده صحيح.
(3) ضعيف: وقد تقدم قريبا.(2/267)
فدعاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهى على شاطئ الوادى فأقبلت تخد الأرض خدا، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت، ثم رجعت إلى منبتها «1» ، الحديث. ورواه الدارمى أيضا بنحوه.
وقوله: تخد- بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة- أى تشق الأرض. وعن بريدة: سأل أعرابى النبى- صلى الله عليه وسلم- آية، فقال له: «قل لتلك الشجر رسول الله يدعوك» ، قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها، وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقها ثم جاءت تخد الأرض تجر عروقها مغيرة حتى وقفت بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقال الأعرابى: مرها فلترجع إلى منبتها، فرجعت فدلت عروقها فى ذلك الموضع فاستقرت. فقال الأعرابى: ائذن لى أن أسجد لك، قال: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» رواه البزار فى الشفاء.
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: جاء أعرابى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟ قال: «إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أنى رسول الله؟» قال: نعم فدعاه رسول الله فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: «ارجع» فعاد، فأسلم الأعرابى «2» ، رواه الترمذى وصححه.
وفى حديث يعلى بن مرة الثقفى: ثم سرنا حتى نزلنا منزلا فنام النبى- صلى الله عليه وسلم-، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذكرت له، فقال: «هى شجرة استأذنت ربها أن تسلم على فأذن لها» «3» الحديث رواه البغوى فى شرح السنة.
__________
(1) رجاله ثقات: أخرجه الدارمى فى «سننه» (16) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6505) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 431) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (5662) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: رجاله ثقات.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3628) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 676) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 110) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 173) ، وعبد بن حميد فى «منتخبه» (405) .(2/268)
وفى حديث جابر بن عبد الله: سرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقضى حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان فى شاطئ الوادى فانطلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انقادى على بإذن الله» فانقادت معه كالبعير المخشوش «1» الذى يصانع قائده، ثم فعل بالآخرى كذلك، حتى إذا كان بالمنصب بينهما قال: «التئما على بإذن الله فالتأمتا» «2» الحديث رواه مسلم. والمنصف: - بفتح الميم- الموضع الوسط بين الموضعين. والتلاؤم: الاجتماع. ولله در الأبوصيرى حيث قال:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشى إليه على ساق بلا قدم
كأنما سطرت سطرا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط فى اللقم
فشبه آثار مشى الشجر لما جاءت إليه- صلى الله عليه وسلم- بكتابة كاتب أوقعها على نسبة معلومة فى أسطر منظومة.
وإذا كانت الأشجار تبادر لامتثال أمره- صلى الله عليه وسلم- حتى تخر ساجدة بين يديه، فنحن أولى بالمبادرة لامتثال ما دعا إليه زاده الله شرفا لديه.
وتأمل قول الأعرابى: «ائذن لى أن أسجد لك» لما رأى من سجود الشجرة، فرأى أنه أحرى بذلك، حتى أعلمه- صلى الله عليه وسلم- أن ذلك لا يكون إلا لله، فحق على كل مؤمن أن يلازم السجود للحق المعبود، ويقوم على ساق العبودية، وإن لم يكن له قدم كما قامت الشجرة.
ومن ذلك: حنين الجذع شوقا إليه «3» . اعلم أن «الحنين» مصدر مضاف
__________
(1) البعير المخشوش: هو الذى وضع فى أنفه عود خشاش من خشب لينقاد بسهولة.
(2) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (3012) فى الزهد والرقائق باب: حديث جابر الطويل.
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3583) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.(2/269)
إلى الفاعل. والمراد: شوقه وانعطافه إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، والذى فى الأحاديث المسوقة هنا أنه صوت، ولعل المراد منه الدلالة على الشوق، أى الصوت الدال على شوقه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. والجذع: واحد جذوع النخل، وهو بالذال المعجمة. وقد روى حديث حنين الجذع عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة تفيد القطع بوقوع ذلك.
قال العلامة التاج ابن السبكى فى شرحه لمختصر ابن الحاجب:
والصحيح عندى أن حنين الجذع متواتر: رواه البخارى عن نافع عن ابن عمر. ورواه أحمد من رواية أبى جناب عن أبيه عن ابن عمر.
ورواه ابن ماجه وأبو يعلى الموصلى وغيرهما من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس، وإسناده على شرط مسلم. ورواه الترمذى وصححه، وأبو يعلى وابن خزيمة والطبرانى والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم، يلزمه إخراجه من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس. ورواه الطبرانى من رواية الحسن عن أنس. ورواه أحمد وابن منيع والطبرانى وغيرهم من رواية حماد بن سلمة عن عمار بن أبى عامر عن ابن عباس.
ورواه أحمد والدارمى وأبو يعلى وابن ماجه وغيرهم من رواية الطفيل بن أبى كعب عن أبيه. ورواه الدارمى من رواية أبى حازم عن سهل بن سعد.
ورواه أبو محمد الجوهرى من رواية عبد العزيز أبى رواد عن نافع عن تميم الدارى.
ثم قال: ولست أدعى أن التواتر حاصل بما عددت من الطريق، بل من طرق أخرى كثيرة يجدها المحدث ضمن المسانيد والأجزاء وغيرها، وإنما ذكرت فى المشاهد منها أو فى بعضها، ورب متواتر عند قوم غير متواتر عند آخرين. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: فى فتح البارى، حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له فى ذلك، والله أعلم، انتهى.(2/270)
وقال البيهقى: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التى حملها الخلف عن السلف، انتهى. وهذه الآية من أكبر الآيات والمعجزات الدالة على نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم-. قال الشافعى- فيما نقله ابن أبى حاتم عنه، فى مناقبه-: ما أعطى الله نبيّا ما أعطى نبينا محمدا- صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمد حنين الجذع حتى سمع صوته، فهو أكبر من ذلك. وقال القاضى عياض: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: أبى ابن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وأبو سعيد الخدرى، وبريدة، وأم سلمة، والمطلب بن أبى وداعة، انتهى.
فأما حديث أبى، فرواه الشافعى من حديث الطفيل بن أبى بن كعب عن أبيه، قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة، وتسمع الناس خطبتك؟ قال: «نعم» فصنع له ثلاث درجات، هى التى على المنبر، فلما صنع وضعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- موضعه الذى هو فيه، فكان إذا بدا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يخطب عليه، تجاوز الجذع الذى كان يخطب عليه، خار حتى تصدع وانشق، فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر، الحديث.
وأما حديث جابر، فرواه البخارى من طرق، وفى لفظ له: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل من الأنصار: ألا نجعل لك منبرا؟ قال: «إن شئتم» فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر، فصاحت النخلة فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبى الذى يسكن، قال: «كانت تبكى على ما كانت تسمع من الذكر عندها» «1» .
__________
(1) صحيح: والحديث عند البخارى (3584 و 3585) فيما سبق، من حديث جابر- رضى الله عنه-.(2/271)
وفى لفظ: قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار- وهو بكسر العين: النوق الحوامل- وفى حديث أبى الزبير عن جابر- عند النسائى فى الكبرى-: اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج. انتهى. والخلوج: - بفتح الخاء المعجمة، وضم اللام الخفيفة وآخره جيم- الناقة التى انتزع منها ولدها. والحنين: صوت المتألم المشتاق عند الفراق.
وإنما يشتاق إلى بركة الرسول ويتأسف على مفارقته أعقل العقلاء.
والعقل والحنين بهذا الاعتبار يستدعى الحياة، وهذا يدل على أن الله عز وجل خلق فيه الحياة والعقل والشوق ولهذا حنّ وأنّ. فإن قيل: مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى: أن الأصوات لا يستلزم خلقها فى المحل خلق الحياة ولا العقل.
أجيب: بأنه كذلك، ونحن لم نجعل الحياة لازمة، إلا أن الشوق إلى الحق شوقا معنويّا عقليّا لا طبيعيا بهيميّا. ومذهب الشيخ أبى الحسن أن الذكر المعنوى والكلام النفسى يستلزمان الحياة استلزام العلم لها. وقد بينا أن هذه المعانى وجدت فى الجذع، وأطلق الحاضرون حينئذ على صوته أنه حنين، وفهموا أنه شوق إلى الذكر وإلى مقام الحبيب عنده، وقد عامله النبى- صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة، فالتزمه كما يلتزم الغائب أهله وأعزته يبرد غليل شوقهم إليه وأسفهم عليه، ولله در القائل:
وحن إليه الجذع شوقا ورقة ... ورجع صوتا كالعشار مرددا
فبادره ضما فقر لوقته ... لكل امرئ من دهره ما تعودا
وأما حديث أنس، فرواه أبو يعلى الموصلى بلفظ: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب فى المسجد يخطب الناس، فجاءه رومى فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا له درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر(2/272)
جأر الجذع كجؤر الثور، حتى ارتج المسجد لجؤاره حزنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنزل إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المنبر فالتزمه وهو يجأر، فلما التزمه سكت. ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «والذى نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى تقوم الساعة حزنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأمر به- صلى الله عليه وسلم- فدفن» «1» ورواه الترمذى وقال: صحيح غريب.
وكذا رواه ابن ماجه والإمام أحمد من طريق الحسن عن أنس ولفظه:
كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: «ابنوا لى منبرا» أراد أن يسمعهم، فبنوا له عتبتين، فتحول من الخشبة إلى المنبر، قال: فأخبر أنس بن مالك أنه سمع الخشبة تحن حنين الواله، قال: فما زالت تحن حتى نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المنبر فمشى إليها فاحتضنها فسكتت.
ورواه أبو القاسم البغوى وزاد فيه: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شوقا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
ولله در القائل:
وألقى حتى فى الجمادات حبه ... فكانت لإهداء السلام له تهدى
وفارق جذعا كان يخطب عنده ... فأنّ أنين الأم إذ تجد الفقدا
يحن إليه الجذع يا قوم هكذا ... أما نحن أولى أن نحنّ له وجدا
إذا كان جذع لم يطق بعد ساعة ... فليس وفاء أن نطيق له بعدا
وأما حديث سهل بن سعد، ففى الصحيحين من طرق. وأما حديث
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3627) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وابن ماجه (1415) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى بدء شأن المنبر، وأحمد فى «المسند» (1/ 266 و 363) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (3384) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/273)
ابن عباس فعند الإمام أحمد بإسناد على شرط مسلم، ورواه ابن ماجه. وأما حديث ابن عمر، ففى البخارى. وأما حديث أبى سعيد الخدرى، فعند عبد ابن حميد. وأما حديث عائشة، فعند البيهقى وفى آخره: أنه خير الجذع بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة. وأما حديث بريدة، فعند الدارمى وفيه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن شئت أردك إلى الحائط الذى كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك فى الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك؟» ثم أصغى له النبى- صلى الله عليه وسلم- ليسمع ما يقول، فقال: بل تغرسنى فى الجنة فيأكل منى أولياء الله وأكون فى مكان لا أبلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «قد فعلت» ثم قال: «اختار دار البقاء على دار الفناء» «1» . وأما حديث أم سلمة، فعند أبى نعيم فى الدلائل. والقصة واحدة، وما فى ألفاظها مما ظاهره التغاير هو من الرواة.
وعند التحقيق ترجع إلى معنى واحد، فلا نطيل بذكر ذلك والله أعلم.
وأما كلام الحيوانات وطاعتها له- صلى الله عليه وسلم-:
فمنها: سجود الجمل وشكواه إليه- صلى الله عليه وسلم- «2» . عن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاؤا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنه كان لنا جمل نسنى عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش النخل والزرع، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «قوموا» فقاموا فدخل الحائط، والجمل فى ناحية فمشى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، قد صار مثل الكلب الكلب، وإنا نخاف عليك صولته، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليس على منه بأس» فلما نظر الجمل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بناصيته أذل ما كان قط، حتى أدخله فى العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد
__________
(1) تقدمت هذه الأحاديث.
(2) أخرجها البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 28) .(2/274)
لك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، لو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» «1» ، رواه أحمد والنسائى. والحائط: هو البستان. وقوله: نسنى عليه: - بالنون والسين المهملة- أى نستقى عليه. وفى حديث يعلى بن مرة الثقفى: بينا نحن نسير مع النبى- صلى الله عليه وسلم- إذ مررنا ببعير يسنى عليه، فلما رآه البعير جرجر، فوضع جرانه، فوقف عليه النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أين صاحب هذا البعير» ، فجاءه، فقال: «بعنيه» ، فقال: بل نهبه لك يا رسول الله، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال: «أما إذ ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرة العمل، وقلة العلف، فأحسنوا إليه» «2» رواه البغوى فى شرح السنة.
والجران: بكسر الجيم، قال ابن فارس: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره. وروى الإمام أحمد قصة أخرى نحو ما تقدم من حديث جابر ضعيفة السند، والبيهقى بإسناد جيد. وكذا روى الطبرانى قصة أخرى عن عكرمة عن ابن عباس: لكن بإسناد ضعيف. والإمام أحمد أيضا من حديث يعلى بن مرة.
وأخرج ابن شاهين فى الدلائل عن عبد الله بن جعفر- رضى الله عنهما- قال:
أردفنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه فأسر إلى حديثا لا أحدث به أحدا من الناس، قال: وكان أحب ما استتر به النبى- صلى الله عليه وسلم- لحاجته هدف أو حائش نخل، فدخل حائط رجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- حنّ فذرفت عيناه، فأتاه النبى- صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه، وفى رواية فسكن، ثم قال: «من رب هذا الجمل؟» فجاء فتى من الأنصار فقال: هذا لى يا رسول الله، فقال: «ألا تتقى الله فى هذه البهيمة التى ملكك الله إياها،
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 158) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 4) وقال: رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخى أنس، وهو ثقة.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 170 و 173) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 5، 6) وقال: رواه أحمد بإسنادين والطبرانى بنحوه، وأحد إسنادى أحمد رجاله رجال الصحيح.(2/275)
فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه» «1» قال فى المصابيح: وهو حديث صحيح، قال: ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن مهدى بن ميمون.
والحائش: - بالحاء المهملة وبالشين المعجمة ممدودا- هو جماعة النخل، لا واحد له من لفظه. وقوله: ذفران: تثنية ذفرا، بكسر الذال المعجمة مقصور، وهو الموضع الذى يعرف من قفا البعير عند أذنه.
ومنها: سجود الغنم له- صلى الله عليه وسلم-، عن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حائطا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار، وفى الحائط غنم فسجدت له، فقال أبو بكر: يا رسول الله، نحن أحق بالسجود لك من هذه الغنم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينبغى لأحد أن يسجد لأحد» «2» رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه فى كتاب دلائل النبوة بإسناد ضعيف. وذكره القاضى عياض فى الشفاء وذكر أيضا عن جابر عن عبد الله عن رجل أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- وآمن به وهو على بعض حصون خيبر، وكان من غنم يرعاها لهم، فقال: يا رسول الله، كيف لى بالغنم، قال:
«احصب وجوهها فإن الله سيؤدى عنك أمانتك ويردها إلى أهلها» ففعل فسارت كل شاة حتى دخلت إلى أهلها «3» . ومنها: قصة كلام الذئب وشهادته له بالرسالة «4» . اعلم أنه قد جاء حديث قصة كلام الذئب فى عدة طرق من حديث أبى هريرة وأنس وابن عمر وأبى سعيد الخدرى. فأما حديث أبى سعيد، فرواه الإمام أحمد بإسناد جيد ولفظه: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعى فانتزعها منه فأقعى الذئب على ذنبه وقال: ألا تتقى الله؟ تنزع منى رزقا ساقه الله إلى، فقال الراعى: يا عجبا، ذئب مقع على ذنبه يكلمنى بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك:
__________
(1) أخرجه أبو داود (2549) فى الجهاد، باب: ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، وأحمد فى «المسند» (1/ 204 و 205) ، وطرفه الأول عند مسلم (342) فى الحيض.
(2) ذكره ابن كثير فى «البداية والنهاية» له (6/ 150) .
(3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 148) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 143) .
(4) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 39 و 41) .(2/276)
محمد بيثرب يخبر الناس بأنباء ما سبق قال: فأقبل الراعى يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زواياها، ثم أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنودى بالصلاة جامعة، ثم خرج فقال للأعرابى:
«أخبرهم» «1» فأخبرهم.
وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو سعد المالينى والبيهقى. وأما حديث أنس فأخرجه أبو نعيم فى الدلائل. وأما حديث أبى هريرة، فرواه سعيد بن منصور فى سننه قال: جاء الذئب فأقعى بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعل يبصبص بذنبه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا وافد الذئاب جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئا» قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرا رماه به، فأدبر الذئب وله عواء، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الذئب وما الذئب» «2» .
وروى البغوى فى شرح السنة وأحمد وأبو نعيم بسند صحيح عن أبى هريرة أيضا قال: جاء ذئب إلى راعى غنم فأخذ منه شاة، فطلبه الراعى حتى انتزعها منه، قال فصعد الذئب على تل فأقعى واستثفر وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته ثم انتزعته منى فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئب يتكلم، فقال الذئب: أعجب من هذا رجل فى النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم، ولا تتبعونه، قال: وكان الرجل يهوديّا فجاء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره وأسلم فصدقه النبى ثم قال: «إنها أمارات بين يدى الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 83 و 88) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6494) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 514) ، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال.
(2) حديث أبى هريرة أصله عند البخارى (3663) فى المناقب، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2388) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، وهو بلفظه عند البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 40) .(2/277)
أحدث أهله بعده» «1» . واستثفر: - بالسين والمثناة ثم المثلاثة والفاء آخره راء- كاستفعل، أى جعل ذنبه بين رجليه كما يفعل الكلب.
قال القاضى عياض: وفى بعض الطرق عن أبى هريرة: فقال الذئب أنت أعجب منى واقفا على غنمك وتركت نبيّا لم يبعث الله قط أعظم منه عنده قدرا، وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم وما بينك وبينه إلا هذا الشعب، فتصير من جنود الله. قال الراعى:
من لى بغنمى؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبى- صلى الله عليه وسلم- يقاتل، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها» فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها.
وقد روى ابن وهب مثل هذا أنه جرى لأبى سفيان بن حرب وصفوان ابن أمية مع ذئب وجداه أخذ ظبيا، فدخل الظبى الحرم فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار، فقال أبو سفيان: واللات والعزى، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفا- بضم الخاء المعجمة- أى فاسدة متغيرة، بمعنى: يقع الفساد والتغير فى أهلها.
ومن ذلك حديث الحمار: أخرج ابن عساكر عن أبى منظور قال: لما فتح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيبر أصاب حمارا أسود، فكلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الحمار، فكلمه الحمار، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما اسمك» قال: يزيد ابن شهاب، أخرج الله من نسل جدى ستين حمارا كلهم لا يركبه إلا نبى، وقد كنت أتوقعك أن تركبنى، لم يبق من نسل جدى غيرى ولا من الأنبياء غيرك وقد كنت قبلك لرجل يهودى وكنت أتعثر به عمدا، وكان يجيع بطنى ويضرب ظهرى، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «فأنت يعفور» فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبعثه إلى باب الرجل فيأتى الباب فيقرعه برأسه فإذا خرج إليه
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 41- 43) ، ولكنه فيه من حديث أبى سعيد.(2/278)
صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء إلى بئر كانت لأبى الهيثم بن التهيان فتردى فيها جزعا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . ورواه أبو نعيم بنحوه من حديث معاذ بن جبل، لكن الحديث مطعون فيه. وذكره ابن الجوزى فى الموضوعات.
وفى معجزاته- صلى الله عليه وسلم- ما هو أعظم من كلام الحمار وغيره. ومن ذلك:
من حديث الضب، وهو مشهور على الألسنة، ورواه البيهقى «2» فى أحاديث كثيرة، لكنه حديث غريب ضعيف. قال المزى: لا يصح إسنادا ولا متنا، وذكره القاضى عياض فى الشفاء، وقد روى من حديث عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فى محفل عن أصحابه، إذ جاء أعرابى من بنى سليم قد صاد ضبا جعله فى كمه ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله، فلما رأى الجماعة قال من هذا؟ قالوا: نبى الله، فأخرج الضب من كمه وقال: واللات والعزى لا آمنت بك أو يؤمن هذا الضب. وطرحه بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا ضب» فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، قال: «من تعبد؟» قال: الذى فى السماء عرشه وفى الأرض سلطانه وفى البحر سبيله وفى الجنة رحمته وفى النار عقابه، قال: «فمن أنا؟» قال: رسول رب العالمين وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبك فأسلم الأعرابى الحديث بطوله، وهو مطعون فيه وقيل إنه موضوع. لكن معجزاته- صلى الله عليه وسلم- فيها ما هو أبلغ من هذا وليس فيه ما ينكر شرعا خصوصا وقد رواه الأئمة فنهايته الضعف لا الوضع، والله أعلم.
ومن ذلك: حديث الغزالة. روى حديثها البيهقى من طرق، وضعفه جماعة من الأئمة، لكن طرقه يقوى بعضها بعضا. وذكره القاضى عياض فى الشفاء، ورواه أبو نعيم فى الدلائل بإسناد فيه مجاهيل، عن حبيب بن محصن عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى صحراء من
__________
(1) ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» له (1/ 314) .
(2) ذكره فى «دلائل النبوة» له (6/ 36) .(2/279)
الأرض، إذا هاتف يهتف: يا رسول الله ثلاث مرات فالتفت فإذا ظبية مشدودة فى وثاق، وأعرابى منجدل فى شملة نائم فى الشمس، فقال: «ما حاجتك؟» قالت: صادنى هذا الأعرابى، ولى خشفان فى ذلك الجبل فأطلقنى حتى أذهب فأرضعهما وأرجع، قال: «وتفعلين؟» فقالت: عذبنى الله عذاب العشار إن لم أعد، فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها النبى- صلى الله عليه وسلم- فانتبه الأعرابى وقال: يا رسول الله ألك حاجة؟ قال: «تطلق هذه الظبية» فأطلقها فخرجت تعدو فى الصحراء فرحا وهى تضرب برجليها الأرض وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله «1» .
وكذا رواه الطبرانى بنحوه، وساق الحافظ المنذرى حديثه فى الترغيب والترهيب من باب الزكاة: ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوى عن ابن كثير: أنه لا أصل له، وأن من نسبه إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ثم قال:
شيخنا: لكن ورد فى الجملة فى عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض أوردها شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فى المجلس الحادى والستين من تخريج أحاديث المختصر والله أعلم. انتهى.
وفى شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن السبكى، وتسبيح الحصى رواه الطبرانى وابن أبى عاصم من حديث أبى ذر، وتسليم الغزالة رواه أبو نعيم الأصبهانى والبيهقى فى دلائل النبوة، ونحن نقول فيهما: وإن لم يكونا متواترين فلعلهما استغنى عنهما بنقل غيرهما، أو لعلهما تواترا إذ ذاك، انتهى.
ومن ذلك، داجن البيوت، وهو ما ألفها من الحيوان، كالطير والشاة وغيرهما، روى قاسم بن ثابت عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: كان عندنا داجن، فإذا كان عندنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قر وثبت مكانه، فلم يجئ ولم يذهب، وإذا خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء وذهب، وذكره القاضى عياض بسنده.
وأما نبع الماء الطهور من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم-، وهو أشرف المياه، فقال
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 34) .(2/280)
القرطبى: قصة نبع الماء من بين أصابعه قد تكررت منه- صلى الله عليه وسلم- فى عدة مواطن فى مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعى المستفاد من التواتر المعنوى، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا- صلى الله عليه وسلم-، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البر عن المزنى أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم- أبلغ فى المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم. انتهى.
وقد روى حديث نبع الماء جماعة من الصحابة، منهم أنس وجابر وابن مسعود. فأما حديث أنس ففى الصحيحين قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بوضوء فوضع يده فى ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم وفى لفظ البخارى: كانوا ثمانين رجلا، وفى لفظ له: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم، قال: فقلنا لأنس كم كنتم قال:
كنا ثلاثمائة «1» .
قوله: «حتى توضؤوا من عند آخرهم» قال الكرمانى: حتى للتدريج، ومن للبيان، أى: توضأ الناس حتى توضأ الذين هم عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، و «عند» بمعنى «فى» لأن «عند» وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضى أن تكون لمطلق الظرفية، فكأنه قال: الذين هم فى آخرهم.
وقال التيمى: المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر، وقال النووى: «من» هنا بمعنى «إلى» وهى لغة، وتعقبه الكرمانى بأنها شاذة، قال:
ثم إن «إلى» لا يجوز أن تدخل على «عند» ويلزم عليه وعلى ما قاله التيمى أن لا يدخل إلا خبر، لكن ما قاله الكرمانى من أن «إلى» لا تدخل على عند
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (169) فى الوضوء، باب: التماس الوضوء إذا حانت الصلاة، وأطرافه (195 و 200 و 3572 و 3573 و 3574 و 3575) ، ومسلم (2279) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-.(2/281)
لا يلزم مثله فى «من» إذا وقعت بمعنى «إلى» وعلى توجيه النووى يمكن أن يقال عند زائدة. قاله فى فتح البارى.
وروى هذا الحديث أيضا عن أنس، ابن شاهين، ولفظه: قال كنت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك، فقال المسلمون: يا رسول الله، عطشت دوابنا وإبلنا، فقال: «هل من فضلة ماء» فجاء رجل فى شن بشىء، فقال: «هاتوا صحيفة» فصب الماء ثم وضع راحته فى الماء، قال: فرأيتها تخلل عيونا بين أصابعه، قال: فسقينا إبلنا ودوابنا وتزودنا، فقال: «اكتفيتم؟» فقالوا: نعم اكتفينا يا نبى الله، فرفع يده فارتفع الماء «1» .
وأخرج البيهقى عن أنس أيضا، قال: خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى قباء فأتى من بعض بيوتهم بقدح صغير، فأدخل يده فلم يسعه القدح، فأدخل أصابعه الأربعة ولم يستطع أن يدخل إبهامه، ثم قال للقوم: «هلموا إلى الشراب» قال أنس: بصر عينى ينبع الماء من بين أصابعه فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا منه جميعا «2» .
وأما حديث جابر: ففى الصحيحين، قال: عطش الناس يوم الحديبية، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين يديه ركوة يتوضأ منها، وجهش الناس نحوه، فقال: «ما لكم؟» فقالوا يا رسول الله ما عندنا ماء نتوضأ به ولا نشربه إلا ما بين يديك، فوضع يده فى الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة «3» . وقوله: «يفور» ، أى يغلى ويظهر متدفقا.
وفى رواية الوليد بن عبادة بن الصامت عنه فى حديث مسلم الطويل فى ذكر غزوة بواط، قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا جابر ناد: الوضوء» وذكر الحديث بطوله، وأنه لم يجد إلا قطرة فى عزلاء شجب فأتى به النبى
__________
(1) أخرجه البخارى (3579) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، بنحوه.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (4/ 123) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3576) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام.(2/282)
- صلى الله عليه وسلم- فغمزه وتكلم بشىء لا أدرى ما هو، وقال: «ناد بجفنة الركب» فأتيت بها فوضعتها بين يديه، وذكر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- بسط يده فى الجفنة وفرق أصابعه وصب عليه جابر، فقال: «بسم الله» ، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا، فقلت: هل بقى من أحد له حاجة؟ فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده من الجفنة وهى ملأى «1» .
وروى حديث جابر أيضا الإمام أحمد فى مسنده بلفظ: اشتكى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليه العطش، فدعا بعس فصب فيه شيئا من الماء، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه يده، وقال: «استقوا» فاستقى الناس، فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابعه «2» .
وفى لفظ من حديث له أيضا: فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفه فى الإناء ثم قال: «بسم الله» ثم قال: «أسبغوا الوضوء» قال جابر: فو الذى ابتلانى ببصرى، لقد رأيت العيون، عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم- فما رفعها حتى توضؤوا أجمعون «3» .
ورواه أيضا عند البيهقى فى الدلائل قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر، فأصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «فوضع يده فى تور من ماء بين يديه، قال: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنه العيون قال:
خذوا بسم الله» ، فشربنا، فوسعنا وكفانا، ولو كنا مائة ألف لكفانا، قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: ألفا وخمسمائة «4» .
وأخرجه ابن شاهين من حديث جابر أيضا، وقال: أصابنا عطش بالحديبية فجهشنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، الحديث: وأخرجه أيضا- عن
__________
(1) صحيح: والحديث عند مسلم (3013) في الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل، وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 343) .
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 292) ، والبيهقى فى «الدلائل» (4/ 117- 118) .
(4) تقدم فيما قبله.(2/283)
جابر- أحمد من طريق نبيح العنزى عنه، وفيه: فجاء رجل بإداوة فيها شىء من ماء ليس فى القوم ماء غيره، فصبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى قدح ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، قال: «فتزاحم الناس على القدح» فقال: «على رسلكم» ، فوضع كفه فى القدح ثم قال: «أسبغوا الوضوء» قال: فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه.
وأما حديث ابن مسعود، ففى الصحيح من رواية علقمة: بينما نحن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اطلبوا من معه فضل ماء» ، فأتى بما فصبه فى إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» .
وظاهر هذا أن الماء ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائى، وهو فى نفس الأمر- للبركة الحاصلة فيه- يفور ويكثر، وكفه- صلى الله عليه وسلم- فى الإناء، فيراه الرائى نابعا من بين أصابعه.
وظاهر كلام القرطبى: أنه نبع من نفس اللحم الكائن فى الأصابع، وبه صرح النووى فى شرح مسلم، ويؤيده قول جابر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، وفى رواية: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، وهذا هو الصحيح، وكلاهما معجزة له- صلى الله عليه وسلم-.
وإنما فعل ذلك ولم يخرجه من غير ملامسة ماء ولا وضع إناء تأدبا مع الله تعالى، إذ هو المنفرد بابتداع المعدومات وإيجادها من غير أصل.
وروى ابن عباس قال: دعا النبى- صلى الله عليه وسلم- بلالا فطلب الماء، فقال: لا والله ما وجدت الماء، قال: «فهل من شن؟» فأتاه بشن فبسط كفه فيه فانبعث تحت يده عين، فكان ابن مسعود يشرب وغيره يتوضأ «2» ، رواه الدارمى وأبو نعيم، وكذا رواه الطبرانى وأبو نعيم من حديث أبى ليلى الأنصارى وأبو نعيم من طريق القاسم بن عبد الله بن أبى رافع عن أبيه عن جده.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3579) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام.
(2) أخرجه الدارمى فى «سننه» (25) .(2/284)
ومن ذلك تفجير الماء ببركته، وانبعاثه بمسه ودعوته. روى مسلم فى صحيحه عن معاذ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لهم: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتى» قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشىء من ماء «1» ، فسألهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هل مسستما من مائها شيئا؟» قالا: نعم، فسبهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع فى شىء، ثم غسل- صلى الله عليه وسلم- به وجهه ويديه ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «يا معاذ، يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملىء جنانا» «2» . أى بساتين وعمرانا، وهذا أيضا من معجزاته- صلى الله عليه وسلم-.
ورواه القاضى عياض فى الشفاء بنحوه من طريق مالك فى الموطأ، وزاد فقال: قال فى حديث ابن إسحاق: فانخرق من الماء ما له حس كحس الصواعق.
وفى البخارى، فى غزوة الحديبية، من حديث المسور بن مخرمة ومروان ابن الحكم: أنهم نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالرى حتى صدروا عنه «3» . والثمد: - بالمثلاثة والتحريك- الماء القليل.
وقوله: «يتبرضه الناس تبرضا» - بالضاد المعجمة- أى يأخذونه قليلا قليلا، والبرض: الشىء القليل. وقوله: «فما زال يجيش» - بفتح المثناة التحتية، وبالجيم آخره شين- أى: يفور ماؤه ويرتفع. وفى رواية: أنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ فتمضمض ودعا ومج فى بئر الحديبية من فمه، فجاشت بالماء كذلك.
__________
(1) يقصد: أن الماء قليل جدّا.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (706) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2731 و 2732) فى الشروط، باب: الشروط فى الجهاد.(2/285)
وفى مغازى أبى الأسود عن عروة: أنه توضأ فى الدلو، ومضمض فاه ثم مج فيه، وأمر أن يصب فى البئر، ونزع سهما من كنانته وألقاه فى البئر ودعا الله تعالى، ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتيها، فجمع بين الأمرين.
وكذا رواه الواقدى من طريق أوس بن خولى. وهذه القصة غير القصة السابقة فى ذكر نبع الماء من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم- مما رواه البخارى فى المغازى من حديث جابر: عطش الناس بالحديبية وبين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركوة فوضع يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه. الحديث «1» . فبين القصتين مغايرة، وجمع ابن حبان بينهما: بأن ذلك وقع فى وقتين، انتهى.
فحديث جابر فى نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك. ويحتمل أن يكون الماء لما تفجر من أصابعه ويده فى الركوة، وتوضؤوا كلهم وشربوا أمر حينئذ بصب الماء الذى بقى فى الركوة فى البئر فتكاثر الماء فيها. انتهى.
وفى حديث البراء وسلمة بن الأكوع مما رواه البخارى فى قصة الحديبية وهم أربع عشرة مائة، وبئرها لا تروى خمسين شاة، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فقعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جباها، قال البراء: وأتى بدلو منها فبصق ودعا، وقال سلمة: فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت فأرووا أنفسهم وركابهم، وقال فى رواية البراء: ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها ثم قال:
«دعوها ساعة» «2» . قوله: «على جباها» - بفتح الجيم والموحدة والقصر- ما حول البئر، وبالكسر: ما جمعت فيها من الماء. وقوله: «وركابهم» أى الإبل التى يسار عليها.
وفى الصحيحين عن عمران بن الحصين قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانا- كان يسميه أبو
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4152) فى المغازى، باب: غزوة الحديبية.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4151) فيما سبق.(2/286)
رجاء ونسبه عوف- ودعا عليّا، وقال: «اذهبا فابتغيا الماء» فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء فجاآ بها إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبى- صلى الله عليه وسلم- بإناء ففرّغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق العزالى، ونودى فى الناس: «اسقوا واستقوا» فسقى من سقى، واستقى من شاء، وهى قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اجمعوا لها» فجمعوا لها من بين عجوة ورقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعاما، فجعلوه فى ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها قال لها: «تعلمين ما رزأنا من مائك شيئا ولكن الله هو الذى سقانا» فأتت أهلها فقالت: العجب، لقينى رجلان فذهبا بى إلى الرجل الذى يقال له الصابئ ففعل كذا وكذا، فو الله إنه لأسحر الناس كلهم أو إنه لرسول الله حقّا، فقالت لقومها: ما أرى أن هؤلاء يدعونكم عمدا فهل لكم فى الإسلام «1» . الحديث.
وعن أبى قتادة قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء غدا إن شاء الله» فانطلق الناس لا يلوى أحد على أحد، فبينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسير حتى ابهارّ الليل- أى ابيض- فمال عن الطريق فوضع رأسه ثم قال: «احافظوا علينا صلاتنا» فكان أول من استيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والشمس فى ظهره، ثم قال: «اركبوا» ، فركبنا فسرنا، حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معى فيها شىء من ماء، فتوضأ منها وضوآ، قال: «وبقى شىء من ماء» ، ثم قال: «احفظ علينا ميضأتك» فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين ثم صلى الغداة، وركب وركبنا معه، فانتهينا إلى الناس حين اشتد النهار وحمى كل شىء، وهم يقولون: يا رسول الله هلكنا وعطشنا، فقال: «لا هلك عليكم» ودعا بالميضأة فجعل يصب وأبو قتادة يسقيهم فلم
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (344) فى التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، ومسلم (682) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة.(2/287)
يعد أن رأى الناس ماء فى الميضأة فتكابوا عليها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«أحسنوا الملأ «1» كلكم سيروى» ، قال: ففعلوا، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصب وأسقيهم، حتى ما بقى غيرى وغير رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم صب فقال لى: «اشرب» فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، فقال: «إن ساقى القوم آخرهم» قال: فشربت وشرب «2» ، الحديث رواه مسلم.
وعن أنس قال: أصاب الناس سنة «3» على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فبينما النبى- صلى الله عليه وسلم- يخطب فى يوم الجمعة، قام أعرابى فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى فى السماء قزعة «4» ، «فو الذى نفسى بيده» ما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد، حتى الجمعة الآخرى، وقام ذلك الأعرابى أو غيره وقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال:
«اللهم حوالينا ولا علينا» ، فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادى قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود. وفى رواية قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» فأقلعت وخرجنا نمشى فى الشمس «5» . رواه البخارى ومسلم.
و «الجوبة» - بفتح الجيم والموحدة بينهما واو ساكنة- الحفرة المستديرة الواسعة، وكل منفتق بلا بناء جوبة، أى حتى صار الغيم والسحاب محيطا بافاق المدينة. و «الجود» : - بفتح الجيم وإسكان الواو- المطر الواسع الغزير.
وعن عبد الله بن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- حدثنا عن
__________
(1) أى: الملء لأوانيكم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (681) في المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة.
(3) السنة: القحط والجدب.
(4) القزعة: القطعة من السحاب.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1013) فى الاستسقاء، باب: الاستسقاء فى المسجد الجامع.(2/288)
ساعة العسرة فقال عمر: خرجنا إلى تبوك فى قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقى على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك فى الدعاء خيرا، فادع الله لنا، قال: «أتحبون ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت، فملؤوا ما معهم من آنية، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها تجاوز العسكر «1» ، قال الحافظ المنذرى: أخرجه البيهقى فى الدلائل، وشيخه ابن بشران ثقة، ودعلج ثقة، وابن خزيمة أحد الأئمة، ويونس احتج به مسلم فى صحيحه وابن وهب وعمرو بن الحارث ونافع بن جبير احتج بهم البخارى ومسلم، وعتبة فيه مقال. وقد رواه القاضى عياض فى الشفاء مختصرا وروى ابن إسحاق فى مغازيه نحوه.
وروى صاحب «مصباح الظلام» عن عمرو بن شعيب: أن أبا طالب قال: كنت مع ابن أخى- يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- بذى المجاز، فأدركنى العطش، فشكوت إليه فقلت: يا ابن أخى عطشت، وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئا إلا الجزع، فثنى وركه ثم نزل وقال: «يا عم، أعطشت؟» فقلت: نعم، فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال: «اشرب يا عم فشربت» وكذا رواه ابن سعد وابن عساكر.
ومن ذلك: تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه- صلى الله عليه وسلم-. عن جابر، فى غزوة الخندق قال: فانكفأت إلى امرأتى، فقلت هل عندك شىء، فإنى رأيت بالنبى- صلى الله عليه وسلم- خمصا «2» شديدا، فأخرجت جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن «3» فذبحتها وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم فى البرمة ثم
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 231) .
(2) الخمص: الجوع.
(3) الداجن: الشاة التى يعلفها الناس فى منازلهم فيقال: شاة داجن.(2/289)
جئت النبى- صلى الله عليه وسلم- فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير. فتعال أنت ونفر معك. فصاح النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا أهل الخندق، إن جابرا صنع سورا، فحى هلا بكم» فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجىء برجال» فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال: «ادع خابزة فلتخبز معك، واقدحى من برمتكم ولا تنزلوها» وهم ألف. فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هى، وإن عجيننا ليخبز كما هو «1» ، رواه البخارى ومسلم. وقوله: «فانكفأت» أى: انقلبت. وقوله: «داجن» يعنى سمينة. وقوله: «فذبحتها» بسكون الحاء، و «طحنت» بسكون التاء، يعنى إن الذى ذبح هو جابر، والتى طحنت هى امرأته سهيلة بنت معوذ الأنصارية. وقوله: «سورا» بضم المهملة وسكون الواو بغير همز. قال ابن الأثير: أى طعاما يدعو إليه الناس. قال: اللفظة فارسية. وقوله: «فحى هلا بكم» كلمة استدعاء فيه حث، أى هلموا مسرعين. وقوله: «واقدحى» أى:
اغرفى. وقوله: «إن برمتنا لتغط» بالغين المعجمة والطاء المهملة، أى: تغلى ويسمع غطيطها.
وعن أنس قال: قال أبو طلحة لأم سليم، لقد سمعت صوت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضعيفا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شىء، فقالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا، فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدى ولاثتنى ببعضه- أى أدارت بعض الخمار على رأسى مرتين كالعمائم- ثم أرسلتنى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فذهبت به فوجدت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد ومعه الناس، فسلمت عليه، فقال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أرسلك أبو طلحة؟» فقلت: نعم، قال: «لطعام؟» قلت:
نعم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمن معه: «قوموا» فانطلق وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4102) فى المغازى، باب: غزوة الخندق، ومسلم (2039) فى الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك.(2/290)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو طلحة معه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هلمى يا أم سليم ما عندك» فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ففت، وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: «ائذن لعشرة» فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال:
«ائذن لعشرة» ثم لعشرة، فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا «1» . رواه البخارى ومسلم.
والمراد بالمسجد- هنا- الموضع الذى أعده النبى- صلى الله عليه وسلم- للصلاة فيه حين محاصرة الأحزاب للمدينة فى غزوة الخندق. وفى رواية لمسلم: أنه قال:
«ائذن لعشرة» فدخلوا فقال: «كلوا وسموا الله» ، فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلا، ثم أكل النبى- صلى الله عليه وسلم- وأهل البيت وترك سؤرا. أى بقية وهو بالهمز. وفى رواية للبخارى: قال: «أدخل على عشرة» ، حتى عد أربعين، ثم أكل النبى- صلى الله عليه وسلم-، فجعلت أنظر هل نقص منها شىء؟. وفى رواية يعقوب: أدخل على ثمانية ثمانية، فما زال حتى دخل عليها ثمانون، ثم دعانى ودعا أمى وأبا طلحة فأكلنا حتى شبعنا. انتهى.
وهذا يدل على تعدد القصة، فإن أكثر الروايات فيها أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه، قاله الحافظ ابن حجر، قال: وظاهره أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل لمنزل أبى طلحة وحده، وصرح بذلك فى رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى ولفظه: فلما انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الباب قال لهم: «اقعدوا» ودخل.
وفى رواية يعقوب عن أنس: فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، وفى رواية عمرو بن عبد الله عن أنس: فقال أبو طلحة: إنما هو قرص، فقال: «إن الله سيبارك فيه» «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3578) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2040) فى الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى من يثق برضاه بذلك.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5450) فى الأطعمة، باب: من أدخل الضيفان عشرة عشرة.(2/291)
قال العلماء: وإنما أدخلهم عشرة عشرة- والله أعلم- لأنها كانت قصعة واحدة، لا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة الطعام، فجعلهم عشرة عشرة لينالوا من الأكل ولا يزدحموا.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أرسلك أبو طلحة؟» قلت: نعم، قال: «لطعام؟» قلت: نعم، فقال لمن معه: «قوموا» فظاهره: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، فلذلك قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضى أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس؟!.
فيجمع: بأنهما أرادا الخبز مع أنس «1» أن يأخذه النبى- صلى الله عليه وسلم- فيأكله، فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حول النبى- صلى الله عليه وسلم- استحيى، وظهر له أن يدعو النبى- صلى الله عليه وسلم- ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من إطعامه.
ويحتمل أن يكون ذلك عن رأى من أرسله، عهد إليه أنه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعى النبى- صلى الله عليه وسلم- وحده، خشية أن لا يكفى ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- هو ومن معه، وقد عرفوا إيثاره- صلى الله عليه وسلم-، وأنه لا يأكل وحده.
ووقع فى رواية يعقوب بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس- عند أبى نعيم وأصله عند مسلم- فقال لى أبو طلحة: يا أنس اذهب فقم قريبا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فإذا قام فدعه حتى يتفرق عنه أصحابه، ثم اتبعه حتى إذا قام على عتبة بابه فقل له: إن أبى يدعوك، وفيه: فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، فقال: «ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك» .
وفى رواية مبارك بن فضالة: فقال: هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان فى العكة شىء فجاء بها، فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القرص فانتفخ، وقال: «بسم الله» فلم يزل يصنع ذلك والقرص
__________
(1) زيادة من فتح البارى (6/ 730) .(2/292)
ينتفخ حتى رأيت القرص فى الجفنة يتسع «1» . وفى رواية النضر بن أنس:
فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: «بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة» «2» وعرف بهذا المراد بقوله فى رواية الصحيحين: «فقال فيها ما شاء الله أن يقول» . وفى رواية أنس عند أحمد: أن أبا طلحة رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طاويا. وعند أبى يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس: أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طعام فاجر نفسه بصاع من شعير فعمل بقية يومه ذلك ثم جاء به الحديث.
وفى رواية عمرو بن عبد الله بن أبى طلحة عند مسلم وأبى يعلى قال:
رأى أبو طلحة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مضطجعا ينقلب ظهرا لبطن. وفى رواية يعقوب بن عبد الله بن أبى طلحة عند مسلم أيضا عن أنس قال: جئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقال من الجوع، فذهبت إلى أبى طلحة فأخبرته، فدخل على أم سليم فقال: هل من شىء؟.
وفى رواية محمد بن كعب عن أنس عند أبى نعيم قال: جاء أبو طلحة إلى أم سليم فقال: «أعندك شىء؟ فإنى مررت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرا» .
وعن أبى هريرة قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: يا رسول الله ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، فقال: «نعم» فدعا بنطع فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجىء بكف ذرة، ويجىء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شىء يسير، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالبركة ثم قال: «خذوا فى أوعيتكم» فأخذوا فى أوعيتهم، حتى ما تركوا فى العسكر وعاء إلا ملئوه. قال: فأكلوا حتى شبعوا
__________
(1) حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (5285) وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 342) .(2/293)
وفضلت فضلة فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجز عن الجنة» «1» رواه مسلم.
وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عروسا بزينب، فعمدت أمى أم سليم إلى تمر وسمن وأقط فصنعت حيسا، فجعلته فى تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقل: بعثت بهذا إليك أمى، وهى تقرئك السلام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ضعه» ثم قال: «اذهب فادع لى فلانا وفلانا» رجالا سماهم، «وادع لى من لقيت» فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله، قيل لأنس: عددكم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: «اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه» قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة بعد طائفة حتى أكلوا كلهم، قال لى: «يا أنس ارفع فرفعت، فما أدرى حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت» «2» رواه البخارى ومسلم.
وعن جابر أن أم مالك كانت تهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- فى عكة لها سمنا، فيأتيها فيسألونها الأدم، وليس عندهم شىء، فتعمد إلى الذى كانت تهدى فيها للنبى- صلى الله عليه وسلم- فتجد فيه سمنا، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته، فأتت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أعصرتيها؟» قالت: نعم، قال: «لو تركتيها ما زال قائما» «3» رواه مسلم.
وعنه أن رجلا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- يستطعمه، فأطعمه شطر وسق من شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فقال: «لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم» «4» . رواه مسلم أيضا.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (27) فى الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5163) فى النكاح، باب: الهدية للعروس تعليقا، ووصله مسلم (1428) فى النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2280) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2281) فيما سبق.(2/294)
والحكمة فى ذهاب بركة السمن حين عصرت العكة، وإعدام بركة الشعير حين كاله، أن عصرها وكيله مضاد للتسليم على رزق الله تعالى، يتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة، وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله تعالى وفضله، فعوقب فاعله بزواله، قاله النووى.
حديث القصعة
: وعن أبى العلاء سمرة بن جندب قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- نتداول من قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة ويقعد عشرة، قلنا: فما كانت تمد؟
قال: «من أى شىء تعجب، ما كانت تمد إلا من هاهنا» وأشار بيده إلى السماء «1» ، رواه الترمذى والدارمى.
وعنه: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- بقصعة فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل، يقوم قوم ويقعد آخرون، فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء «2» . رواه الدارمى وابن أبى شيبة والترمذى والبيهقى والحاكم وصححوه وأبو نعيم.
وفى حديث عبد الرحمن بن أبى بكر: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ثلاثين ومائة، وذكر الحديث أنه عجن صاع، وصنعت شاة فشوى سواد بطنها، قال:
وايم الله، ما من الثلاثين ومائة إلا وقد حزّ له حزة من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فأكلنا أجمعون وفضل فى القصعتين فحملته على البعير «3» .
رواه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3625) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (5/ 18) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه الدارمى (56) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6529) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 675) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2618) فى الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (2056) فى الأشربة، باب: إكرام الضيف وفضل إيثاره.(2/295)
وعن أبى هريرة قال: أمرنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أدعو أهل الصفة، فتتبعتهم حتى جمعتهم، فوضعت بين أيدينا صحفة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهى مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع «1» . رواه ابن أبى شيبة والطبرانى وأبو نعيم.
وعن على بن أبى طالب: جمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بنى عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قوم يأكلون الجذعة ويشربون الفرق، فصنع لهم مدا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، وبقى كما هو، ثم دعا بعس فشربوا حتى رووا، وبقى كأنه لم يشرب منه، رواه فى الشفاء.
ومن ذلك: إبراء ذوى العاهات، وإحياء الموتى، وكلامهم، وكلام الصبيان وشهادتهم له- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة.
روى البيهقى فى الدلائل: أنه- صلى الله عليه وسلم- دعا رجلا إلى الإسلام، فقال:
لا أؤمن بك حتى تحيى لى ابنتى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أرنى قبرها» فأراه إياه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا فلانة» ، فقالت: لبيك وسعديك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أتحبين أن ترجعى إلى الدنيا؟» فقالت: لا والله يا رسول الله، إنى وجدت الله خيرا لى من أبوى، ورأيت الآخرة خيرا لى من الدنيا.
وروى الطبرى عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نزل الحجون كئيبا حزينا، فأقام به ما شاء الله عز وجل ثم رجع مسرورا قال: «سألت ربى عز وجل فأحيا لى أمى فامنت بى ثم ردها» .
وكذا روى من حديث عائشة أيضا إحياء أبويه- صلى الله عليه وسلم- حتى آمنا به، أورده السهيلى وكذا الخطيب فى السابق واللاحق، لكن قال السهيلى: إن فى إسناده مجاهيل، وقال ابن كثير: إنه منكر جدّا، وتقدم البحث فى ذلك فى أوائل المقصد الأول.
__________
(1) رجاله ثقات: أخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (6/ 315) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 315) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 308) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، ورجاله ثقات.(2/296)
وعن أنس أن شابا من الأنصار توفى وله أم عجوز عمياء، فسجيناه وعزيناها، فقالت: مات ابنى؟ قلنا: نعم، قالت: اللهم إن كنت تعلم أنى هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعيننى على كل شدة فلا تحملن على هذه المصيبة، فما برحنا أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا «1» . رواه ابن عدى وابن أبى الدنيا والبيهقى وأبو نعيم.
وعن النعمان بن بشير قال: كان زيد بن خارجة من سروات الأنصار، فبينما هو يمشى فى طريق من طرق المدينة بين الظهر والعصر إذ خرّ فتوفى، فأعلمت به الأنصار، فأتوه فاحتملوه إلى بيته فسجوه كساء وبردين، وفى البيت نساء من نساء الأنصار يبكين عليه، ورجال من رجالهم، فمكث على حاله حتى إذا كان بين المغرب والعشاء الآخرة سمعوا صوت قائل يقول:
انصتوا انصتوا، فنظروا فإذا الصوت من تحت الثياب، فحسروا عن وجهه وصدره، فإذا القائل يقول على لسانه: محمد رسول الله النبى الأمى خاتم النبيين، لا نبى بعده، كان ذلك فى الكتاب الأول، ثم قال: صدق صدق، ثم قال: هذا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب من عاش بعد الموت.
وعن سعيد بن المسيب أن رجلا من الأنصار توفى، فلما كفن أتاه القوم يحملونه تكلم فقال: محمد رسول الله، أخرجه أبو بكر بن الضحاك.
وأخرج أبو نعيم: أن جابرا ذبح شاة وطبخها، وثرد فى الجفنة، وأتى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكل القوم، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: «كلوا ولا تكسروا عظاما» ثم إنه- صلى الله عليه وسلم- جمع العظام ووضع يده عليها ثم تكلم بكلام فإذا بالشاة قد قامت تنفض أذنيها، كذا رواه والله أعلم؟!.
وعن معرض بن معيقيب اليمانى قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارا بمكة، فرأيت فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ورأيت منه عجبا، جاء رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا غلام، من أنا»
__________
(1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «الدلائل» (6/ 50) .(2/297)
قال: أنت رسول الله، قال: «صدقت بارك الله فيك» ، ثم إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب، فكنا نسميه مبارك اليمامة «1» . رواه البيهقى من حديث معرض- بالضاد المعجمة-.
وعن فهد بن عطية، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أتى بصبى قد شب لم يتكلم قط فقال: «من أنا؟» قال: أنت رسول الله، رواه البيهقى.
وعن ابن عباس قال: إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن ابنى به جنون، وإنه ليأخذه عند غدائنا وعشائنا، فمسح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صدره فثع ثعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى «2» . رواه الدارمى. وقوله «ثع» يعنى قاء.
وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن لى امرأة أحبها أخشى إن رأتنى تقذرنى فأخذها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده وردها إلى موضعها وقال:
«بسم الله اللهم اكسه جمالا» فكانت أحسن عينيه وأحدّهما نظرا، وكانت لا ترمد إذا رمدت الآخرى «3» .
وقد وفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذريته فسأله عمر: من أنت؟ فقال:
أبونا الذى سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أيما رد
فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
فوصله عمر وأحسن جائزته. قال السهيلى: ورواه محمد بن أبى عثمان عن عمار بن نصر عن مالك بن أنس عن محمد بن عبد الله بن أبى صعصعة
__________
(1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 59) بسند فيه وضاع.
(2) أخرجه الدارمى فى «سننه» (19) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 254 و 268) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 57) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 20) وقال: رواه أحمد والطبرانى، وفيه فرقد السبخى، وثقه ابن معين، والعجلى، وضعفه غيرهما.
(3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (3/ 252) .(2/298)
عن أبيه عن أبى سعيد عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناى يوم أحد فسقطتا على وجنتى، فأتيت بهما النبى- صلى الله عليه وسلم- فأعادهما مكانهما وبصق فيهما فعادتا تبرقان، قال الدار قطنى: هذا حديث غريب تفرد به عمار بن نصر وهو ثقة، ورواه الدار قطنى عن إبراهيم الحربى عن عمار بن نصر.
وأخرج الطبرانى وأبو نعيم عن قتادة قال: كنت يوم أحد أتقى السهام بوجهى دون وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتى فأخذتها بيدى وسعيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما رآها فى كفى دمعت عيناه فقال: «اللهم ق قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرا» «1» .
وفى البخارى فى غزوة خيبر أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أين على بن أبى طالب» فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأتى به، فبصق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع «2» . وعند الطبرانى من حديث على قال: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الراية يوم خيبر «3» . وفى رواية مسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: فأرسلنى النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى على فجئت به أقوده أرمد، فبصق فى عينيه فبرأ «4» . وعند الحاكم من حديث على قال: فوضع- صلى الله عليه وسلم- رأسى فى حجره ثم بصق فى راحته فدلك بها عينى «5» . وعند الطبرانى: فما اشتكيتهما حتى الساعة، ودعا لى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم أذهب عنه الحر والقر» ، قال: فما اشتكيتهما حتى يومى هذا «6» .
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (19/ 8) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4210) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2406) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 123) وقال: رواه أبو يعلى وأحمد باختصار، ورجالهما رجال الصحيح غير أم موسى، وحديثها مستقيم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (1807) فى الجهاد والسير، باب: غزوة ذى قرد وغيرها.
(5) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 41) .
(6) حسن: أخرجه ابن ماجه (117) فى المقدمة، باب: فضل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(2/299)
وأصيب سلمة يوم خيبر أيضا بضربة فى ساقه، فنفث فيها- صلى الله عليه وسلم- ثلاث نفثات فما اشتكاها قط «1» . رواه البخارى. ونفث فى عينى فديك وكانتا مبيضتين لا يبصر بهما شيئا، وكان وقع على بيض حية، فكان يدخل الخيط فى الإبرة وإنه لابن ثمانين سنة وإن عينيه لمبيضتان «2» ، رواه ابن أبى شيبة والبغوى والبيهقى والطبرانى وأبو نعيم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4206) فى المغازى، باب: غزوة خيبر.
(2) أخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (6/ 328) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 296) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط والبزار، وفى أحد أسانيده على بن عروة وهو ضعيف متروك، وفى الآخر النضر أبو عمر، وحديثه حسن.(2/300)
الفصل الثانى فيما خصّه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البيّنات
اعلم نور الله قلبى وقلبك، وقدس سرى وسرك، أن الله تعالى قد خص نبينا- صلى الله عليه وسلم- بأشياء لم يعطها لنبى قبله، وما خص نبى بشىء إلا وكان لسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- مثله، فإنه أوتى جوامع الكلم، وكان نبيّا وآدم بين الروح والجسد، وغيره من الأنبياء لم يكن نبيّا إلا فى حال نبوته وزمان رسالته.
ولما أعطى هذه المنزلة علمنا أنه- صلى الله عليه وسلم- الممد لكل إنسان كامل مبعوث ويرحم الله الأديب شرف الدين الأبوصيرى فلقد أحسن حيث قال:
وكل آى أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس فى الظلم
قال العلامة ابن مرزوق: يعنى أن كل معجزة أتى بها كل واحد من الرسل فإنما اتصلت بكل واحد منهم من نور محمد- صلى الله عليه وسلم- وما أحسن قوله:
فإنما اتصلت من نوره بهم فإنه يعطى أن نوره- صلى الله عليه وسلم- لم يزل قائما به ولم ينقص منه شىء، ولو قال: فإنما هى من نوره لتوهم أنه وزع عليهم وقد لا يبقى له منه شىء. وإنما كانت آيات كل واحد من نوره- صلى الله عليه وسلم- لأنه شمس فضل هم كواكب تلك الشمس يظهرن- أى تلك الكواكب- أنوار تلك الشمس للناس فى الظلم. فالكواكب ليست مضيئة بالذات وإنما هى مستمدة من الشمس فهى عند غيبة الشمس تظهر نور الشمس. فكذلك الأنبياء قبل وجوده- صلى الله عليه وسلم- كانوا يظهرون فضله فجميع ما ظهر على أيدى الرسل- عليهم(2/301)
الصلاة والسلام- سواه من الأنوار فإنما هو من نوره الفائض ومدده الواسع من غير أن ينقص منه شىء.
وأول ما ظهر ذلك فى آدم- عليه السّلام-، حيث جعله الله خليفة وأمده بالأسماء كلها من مقام جوامع الكلم التى لمحمد- صلى الله عليه وسلم- فظهر بعلم الأسماء كلها على الملائكة القائلين: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «1» ، ثم توالت الخلائف فى الأرض إلى أن وصل زمان وجود صورة جسم نبينا- صلى الله عليه وسلم- الشريف لإظهار حكم منزلته، فلما برز كان كالشمس اندرج فى نوره كل نور، وانطوى تحت منشور آياته كل آية لغيره من الأنبياء، ودخلت الرسالات كلها فى صلب نبوته، والنبوات كلها تحت لواء رسالته، فلم يعط أحد منهم كرامة أو فضيلة إلا وقد أعطى- صلى الله عليه وسلم- مثلها.
فادم- عليه الصلاة والسلام- أعطى أن الله تعالى خلقه بيده، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- شرح صدره، وتولى الله تعالى شرح صدره بنفسه، وخلق فيه الإيمان والحكمة، وهو الخلق النبوى، فتولى من آدم الخلق الوجودى ومن سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- الخلق النبوى، مع أن المقصود- كما مر- من خلق آدم خلق نبينا فى صلبه، فسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- المقصود وآدم الوسيلة، والمقصود سابق على الوسيلة «2» .
وأما سجود الملائكة لآدم، فقال فخر الدين الرازي فى تفسيره: إن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد- صلى الله عليه وسلم- كان فى جبهته «3» ، ولله در القائل:
__________
(1) سورة البقرة: 30.
(2) قلت: الحديث الوارد فى ذلك، ضعيف جدّا، ولا حجة فيه، أما غاية الخلق، فهى كما ذكرها الله حيث قال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات: 56] .
(3) قلت: وهذا أيضا لا حجة فيه، ولم يذكر أئمة التفاسير المسندة هذه الروايات بأسانيد صحيحة أو ضعيفة، بل هى من شطحات الصوفية التى تغالى فى شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى قال عن نفسه «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» صحيح أخرجه مسلم.(2/302)
تجليت جل الله فى وجه آدم ... فصلى له الأملاك حين توسلوا
وعن أبى عثمان الواعظ، فيما حكاه الفاكهانى قال: سمعت الإمام سهل بن محمد يقول: هذا التشريف الذى شرف الله تعالى به محمدا بقوله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «1» الآية، أتم وأجمع من تشريف آدم- عليه السّلام- بأمر الملائكة له بالسجود، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة فى ذلك التشريف، فتشريف يصدر عنه تعالى وعن الملائكة والمؤمنين أبلغ من تشريف تختص به الملائكة، انتهى.
قال بعضهم: وأما تعليم آدم أسماء كل شىء، فأخرج الديلمى فى مسند الفردوس من حديث أبى رافع قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مثلت لى أمتى فى الماء والطين، وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها» «2» فكما أن آدم علم أسماء العلوم كلها كذلك نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وزاد عليه- واصل الله صلاته وسلامه عليه- بعلم ذواتها. ولله در الأبوصيرى حيث قال:
لك ذات العلوم من عالم الغي ... ب ومنها لآدم الأسماء
ولا ريب أن المسميات أعلى رتبة من الأسماء، لأن الأسماء يؤتى بها لتبين المسميات، فهى المقصودة بالذات، وإليه الإيماء بقوله: «ذات العلوم» ، والأسماء مقصودة لغيرها فهى دونها، ففضل العالم بحسب فضل معلومه.
* وأما إدريس- عليه السّلام-، فرفعه الله مكانا عليّا، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- المعراج، ورفع إلى مكان لم يرفع إليه غيره.
* وأما نوح- عليه السّلام- فنجاه الله تعالى ومن آمن معه من الغرق ونجاه من الخسف، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه لم تهلك أمته بعذاب من السماء، قال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «3» .
وأما قول الفخر الرازى فى تفسيره: «أكرم الله نوحا بأن أمسك سفينته
__________
(1) سورة الأحزاب: 56.
(2) ضعيف: أخرجه الديلمى، كما فى «كنز العمال» (34588) .
(3) سورة الأنفال: 33.(2/303)
على الماء وفعل بمحمد- صلى الله عليه وسلم- أعظم منه. روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان على شط ماء وقعد عكرمة بن أبى جهل فقال: إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر الذى فى الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار إليه- صلى الله عليه وسلم- فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وشهد له بالرسالة، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يكفيك هذا؟» فقال: حتى يرجع إلى مكانه» فلم أره لغيره والله أعلم بحاله.
* وأما إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- فكانت عليه نار نمروذ بردا وسلاما، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- نظير ذلك، إطفاء نار الحرب عنه- صلى الله عليه وسلم- وناهيك بنار حطبها السيوف ووهجها الحتوف وموقدها الحسد ومطلبها الروح والجسد، قال الله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «1» .
فكم أرادوا أن يطفئوا النور بالنار، وأبى الجبار إلا أن يتم نوره وأن يخمد شرورهم ويحمد لمحمد- صلى الله عليه وسلم- سروره وظهوره.
ويذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- مر ليلة المعراج على بحر النار الذى دون سماء الدنيا مع سلامته منه، كما روى مما رأيته فى بعض الكتب. وروى النسائى أن محمد بن حاطب قال: كنت طفلا فانصب القدر على واحترق جلدى كله، فحملنى أبى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتفل- صلى الله عليه وسلم- فى جلدى ومسح بيده على المحترق وقال: «أذهب البأس رب الناس» ، فصرت صحيحا لا بأس بى «2» .
وأما ما أعطيه إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- من مقام الخلة فقد أعطيه نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وزاد بمقام المحبة. وقد روى فى حديث الشفاعة أن الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- إذا قيل له: اتخذك الله خليلا فاشفع لنا قال:
«إنما كنت خليلا من وراء وراء» اذهبوا إلى غيرى إلى أن تنتهى الشفاعة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فيقول: «أنا لها، أنا لها» «3» وهذا يدل على أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- كان
__________
(1) سورة المائدة: 64.
(2) لم أقف عليه.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (195) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.(2/304)
خليلا مع رفع الحجاب وكشف الغطاء ولو كان خليلا من وراء وراء لاعتذر كما اعتذر إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-. وفيه تنبيه ظاهر على أنه- صلى الله عليه وسلم- فاز برؤية الحق سبحانه وكشف له الغطاء حتى رأى الحق بعينى رأسه «1» ، كما سيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى المقصد الخامس.
والملخص من هذا: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نال درجة الخلة التى اشتهرت لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام- على وجه نطق إبراهيم بأن نصيب سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- منه الأعلى، بمفهوم قوله عن نفسه: «إنما كنت خليلا من وراء وراء» فلم يشفع، ففيه دليل على أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء بل مع الكشف والعيان وقرب المكانة من حظيرة القدس، لا المكان، وذلك مقام محمد- صلى الله عليه وسلم- بالدليل والبرهان.
ومما أعطيه إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- انفراده فى أهل الأرض بعبادة الله تعالى وتوحيده، والانتصاب للأصنام بالكسر والقسر، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- كسرها بأسرها بمحضر من أولى نصرها بقضيب ليس مما يكسر إلا بقوة ربانية ومادة إلهية، اجتزأ فيها بالأنفاس عن الفاس، وما عول على المعول، ولا عرض فى القول ولا تمرض من الصول بل قال جهرا بغير سر:
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «2» .
ومما أعطيه الخليل- عليه الصلاة والسلام- بناء البيت الحرام، ولا خفاء أن البيت جسد وروحه الحجر الأسود بل هو سويداء القلب، بل جاء «أنه يمين الرب» «3» كناية عن استلامه كما تستلم الأيمان عند عقد العهود والأيمان، وقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أن قريشا لما بنت البيت بعد تهدمه ولم يبق إلا وضع الحجر تنافسوا على الفخر الفخم والمجد الضخم، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل، فاتفق دخول سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذا الأمين،
__________
(1) قلت: جمهور السلف على استحالة رؤية الله عز وجل فى الحياة الدنيا، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يره فى الحياة الدنيا، وإن كان سيراه هو والمؤمنون فى الآخرة- إن شاء الله-.
(2) سورة الإسراء: 81.
(3) ضعيف: أخرجه الخطيب، وابن عساكر، كما فى: «ضعيف الجامع» (2772) .(2/305)
فحكموه فى ذلك فأمر ببسط ثوب ووضع الحجر فيه ثم قال: «يرفع كل بطن بطرف» فرفعوه جميعا، ثم أخذه سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- فوضعه فى موضعه «1» ، فادخر الله تعالى له ذلك المقام ليكون منقبة له على مدى الأيام.
* وأما ما أعطيه موسى- عليه الصلاة والسلام- من قلب العصا حية غير ناطقة، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- حنين الجذع «2» ، وقد مرت قصته.
وحكى الإمام الرازى- فى تفسيره- وغيره: أنه لما أراد أبو جهل أن يرميه- صلى الله عليه وسلم- بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوبا.
وأما ما أعطيه موسى- عليه السّلام- أيضا من اليد البيضاء، وكان بياضها يغشى البصر، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يزل نورا ينتقل فى أصلاب الآباء وبطون الأمهات من لدن آدم إلى أن انتقل إلى عبد الله أبيه.
وأعطى- صلى الله عليه وسلم- قتادة بن النعمان وقد صلى معه العشاء فى ليلة مظلمة مطيرة عرجونا وقال: «انطلق به فإنه سيضىء لك من بين يديك عشرا، ومن خلفك عشرا، فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه حتى يخرج فإنه شيطان» «3» فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ووجد السواد وضربه حتى خرج.
رواه أبو نعيم.
وأخرج البيهقى، وصححه الحاكم عن أنس قال: كان عباد بن بشر وأسيد بن حضير عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حاجة: حتى ذهب من الليل ساعة، وهى ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عصا، فأضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا فى ضوئها، حتى إذا افترقت بهم الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما فى ضوء عصاه حتى بلغ هديه «4» ، ورواه البخارى بنحوه فى الصحيح.
__________
(1) القصة مشهورة، وقد ذكرت فى «كتب السير» ، انظر سيرة ابن هشام (1/ 208) .
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (465) فى الصلاة، باب: إدخال البعير فى المسجد لعلة، وأطرافه (3639 و 3805) .(2/306)
وأخرج البخارى فى تاريخه والبيهقى وأبو نعيم عن حمزة الأسلمى قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فتفرقنا فى ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعى حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم وإن أصابعى لتنير «1» .
ومما أعطيه موسى- عليه السّلام- أيضا انفلاق البحر له، أعطى نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- انشقاق القمر- كما مر- فموسى تصرف فى عالم الأرض وسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- تصرف فى عالم السماء، والفرق بينهما واضح، قاله ابن المنير.
وذكر ابن حبيب أن بين السماء والأرض بحرا يسمى المكفوف «2» ، يكون بحر الأرض بالنسبة إليه كالقطرة من البحر المحيط، قال: فعلى هذا يكون ذلك البحر انفلق لنبينا- صلى الله عليه وسلم- حتى جاوزه- يعنى ليلة الإسراء- وهو أعظم من انفلاق البحر لموسى- عليه الصلاة والسلام-.
ومما أعطيه موسى- عليه السّلام- إجابة دعائه، أعطى نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما لا يحصى. ومما أعطيه موسى- عليه السّلام- تفجير الماء له من الحجارة، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أن الماء تفجر من بين أصابعه «3» ، وهذا أبلغ لأن الحجر من جنس الأرض التى ينبع منها الماء، ولم تجر العادة ينبع الماء من اللحم، ويرحم الله القائل:
وكل معجزة للرسل قد سلفت ... وافى بأعجب منها عند إظهار
فما العصا حية تسعى بأعجب من ... شكوى البعير ولا من مشى أشجار
ولا انفجار معين الماء من حجر ... أشد من سلسل من كفه جار
ومما أعطيه موسى- عليه السّلام- الكلام، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- مثله ليلة الإسراء وزيادة الدنو والتدلى، وأيضا كان مقام المناجاة فى حق نبينا
__________
(1) أخرجه البخارى فى «تاريخه الكبير» (3/ 46) .
(2) قلت: لا أعلم من أين أتى بهذه المعلومة، أمن وحى فلا يوجد دليل، أمن من تجربة، وأين الدليل؟!
(3) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.(2/307)
- صلى الله عليه وسلم- فوق السماوات العلى وسدرة المنتهى، والمستوى وحجب النور والرفرف، ومقام المناجاة لموسى- عليه السّلام- طور سيناء.
* وأما ما أعطيه هارون- عليه الصلاة والسلام- من فصاحة اللسان، فقد كان نبينا- صلى الله عليه وسلم- من الفصاحة والبلاغة بالمحل الأفضل والموضع الذى لا يجهل. ولقد قال له بعض أصحابه: ما رأينا الذى هو أفصح منك فقال:
«وما يمنعنى وإنما نزل القرآن بلسانى، لسان عربى مبين» «1» .
وقد كانت فصاحة هارون غايتها فى العبرانية، والعربية أفصح منها.
وهل كانت فصاحة هارون معجزة أم لا؟ قال ابن المنير: الظاهر أنها لم تكن معجزة، ولكن فضيلة ولم يتحد نبى من الأنبياء بالفصاحة إلا نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، لأن هذه الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز، وهل فصاحته- صلى الله عليه وسلم- فى جوامع الكلم التى ليست من التلاوة ولكنها معدودة من السنة، هل تحدى بها أم لا؟ فظاهر قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أوتيت جوامع الكلم» «2» أنه من التحدث بنعمة الله عليه وخصائصه، ولا خلاف أنها باعتبار ما اشتملت عليه من الإخبار بالمغيبات ونحوها معجزة.
* وأما ما أعطيه يوسف- عليه الصلاة والسلام- من شطر الحسن، فأعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- الحسن كله، وستأتى الإشارة إلى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد الإسراء. ومن تأمل ما نقلته فى صفته تبين له من ذلك التفصيل التفضيل على كل مشهور بالحسن فى كل جيل.
وأما ما أعطيه يوسف- عليه السّلام- أيضا من تعبير الرؤيا، فالذى نقل عنه من ذلك ثلاث منامات، أحدها: حين رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر، والثانى: منام صاحبى السجن، والثالث: منام الملك، وقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما لا يدخله الحصر، ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار وجد من ذلك العجب العجاب، وستأتى نبذة من ذلك- إن شاء الله تعالى-.
__________
(1) ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» له (1/ 80) .
(2) قلت: هو فى الصحيح بلفظ: «بعثت بجوامع الكلم» أخرجه البخارى (7013) فى التعبير، باب: المفاتيح فى اليد، وبلفظ «أوتيت جوامع الكلم» عند مسلم (523) في المساجد، باب: رقم (1) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/308)
* وأما ما أعطيه داود- عليه الصلاة والسلام- من تليين الحديد له، فكان إذا مسح الحديد لان، فأعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- أن العود اليابس اخضر فى يده وأورق، ومسح- صلى الله عليه وسلم- شاة أم معبد الجرباء، فبرئت ودرت.
* وأما ما أعطيه سليمان- عليه الصلاة والسلام- من كلام الطير وتسخير الشياطين والريح، والملك الذى لم يعطه أحد من بعده، فقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك وزيادة.
أما كلام الطير والوحش فنبينا- صلى الله عليه وسلم- كلمه الحجر، وسبح فى كفه الحصى، وهو جماد، وكلمه ذراع الشاة المسمومة- كما تقدم فى غزوة خيبر- وكذلك كلمه الظبى وشكا إليه البعير- كما مر-. وروى أن طيرا فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فيقول: أيكم فجع هذا بولده، فقال رجل أنا فقال: «اردد ولده» ذكره الرازى ورواه أبو داود بلفظ: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش- أى تدنو- من الأرض، فجاء النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها» «1» الحديث. وقصة كلام الذئب مشهورة.
وأما الريح التى كانت غدوها شهر ورواحها شهر، تحمله أين أراد من أقطار الأرض، فقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- البراق الذى هو أسرع من الريح، بل أسرع من البرق الخاطف، فحمله من الفرش إلى العرش فى ساعة زمانية، وأقل مسافة ذلك سبعة آلاف سنة، وتلك مسافة السماوات، وأما إلى المستوى وإلى الرفرف فذلك ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وأيضا: فالريح سخرت لسليمان لتحمله إلى نواحى الأرض، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- زويت له الأرض
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2675) فى الجهاد، باب: فى كراهية حرق العدو بالنار، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 267) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 177) ، والطيالسى فى «مسنده» (336) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/309)
- أى جمعت- حتى رأى مشارقها ومغاربها، وفرق بين من يسعى إلى الأرض، وبين من تسعى له الأرض.
وأما ما أعطيه من تسخير الشياطين فقد روى أن أبا الشياطين إبليس اعترض سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- وهو فى الصلاة فأمكنه الله منه وربطه بسارية من سوارى المسجد «1» وخير مما أوتيه سليمان من ذلك إيمان الجن بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، فسليمان استخدمهم ومحمد استسلمهم.
وأما عد الجن من جنود سليمان فى قوله تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ «2» . فخير منه عد الملائكة، جبريل ومن معه من جملة أجناده- صلى الله عليه وسلم-، باعتبار الجهاد وباعتبار تكثير السواد على طريقة الأجناد.
وأما عد الطير من جملة أجناده، فأعجب منه حمامة الغار «3» وتوكيرها فى الساعة الواحدة وحمايتها له من عدوه، والغرض من استكثار الجند إنما هو الحماية، وقد حصلت من أعظم شىء بأيسر شىء. وأما ما أعطيه من الملك، فنبينا- صلى الله عليه وسلم- خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا ونبيّا عبدا، فاختار- صلى الله عليه وسلم- أن يكون نبيّا عبدا. ولله در القائل:
يا خير عبد على كل الملوك ولى
* وأما ما أعطيه عيسى- عليه الصلاة والسلام- من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه رد العين إلى مكانها بعد ما سقطت فعادت أحسن ما كانت «4» ، وفى دلائل البيهقى قصة الرجل الذى قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- لا أؤمن بك حتى تحيى لى ابنتى، وفيه أنه- صلى الله عليه وسلم- أتى قبرها فقال: «يا فلانة» ، فقالت: لبيك وسعديك يا رسول الله، الحديث «5» ، وقد مر. وروى أن امرأة معاذ بن عفراء- وكانت برصاء-
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (461) فى الصلاة، باب: الأسير أو الغريم يربط فى المسجد، ومسلم (541) فى المساجد، باب: جواز لعن الشيطان فى أثناء الصلاة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) سورة النحل: 17.
(3) قلت: حديث الحمامة ضعيف كما بين ذلك الأئمة الحفاظ.
(4) تقدم.
(5) تقدم.(2/310)
فشكت ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمسح عليها بعصا فأذهب الله البرص منها، ذكره الرازى، وأيضا قد سبح الحصى فى كفه- صلى الله عليه وسلم-، وسلم عليه الحجر، وحن لفراقه الجذع، وذلك أبلغ من تكليم الموتى لأن هذا من جنس من لا يتكلم.
وأما ما أعطيه عيسى أيضا من أنه كان يعرف ما تخفيه الناس فى بيوتهم، فقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما لا يحصى، وسيأتى من ذلك- إن شاء الله تعالى- ما يكفى ويشفى.
وأما ما أعطيه عيسى أيضا من رفعه إلى السماء، فقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- ذلك ليلة المعراج، وزاد فى الترقى لمزيد الدرجات وسماع المناجاة والحظوة فى الحضرة المقدسة بالمشاهدات.
وبالجملة: فقد خص الله تعالى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من خصائص التكريم بما لم يعطه أحدا من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
وقد روى جابر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى، كان كل نبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل حيث كان، ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة» «1» رواه البخارى. وفى رواية: «وبعثت إلى الناس كافة» . وزاد البخارى فى روايته- فى الصلاة- عن محمد بن سنان (من الأنبياء) .
وعند الإمام أحمد: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبى قبلى، ولا أقوله فخرا» وفيه: «وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتى، فهى لمن لا يشرك بالله شيئا» وإسناده كما قال ابن كثير جيد.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (335) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، وأطرافه (438 و 3122) ، ومسلم (521) فى المساجد.(2/311)
وليس المراد حصر خصائصه- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الخمسة المذكورة. فقد روى مسلم من حديث أبى هريرة مرفوعا: «فضلت على الأنبياء بست:
أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون» «1» فذكر الخمسة المذكورة فى حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: أعطيت جوامع الكلم وختم بى النبيون، فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» «2» وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى. وهذه الخصلة المبهمة قد بينها ابن خزيمة والنسائى، وهى:
وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، يشير إلى ما حطه الله تعالى عن أمته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعا.
ولأحمد من حديث على «أعطيت أربعا لم يعطهن أحد من أنبياء الله تعالى قبلى أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتى خير الأمم، وذكر خصلة التراب، فصارت الخصال ثنتى عشرة خصلة» «3» .
وعند البزار من وجه آخر عن أبى هريرة رفعه: «فضلت على الأنبياء، وغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر، وجعلت أمتى خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه» «4» وذكر ثنتين مما تقدم.
وله من حديث ابن عباس رفعه: «فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطانى كافرا فأعاننى الله عليه فأسلم. قال: ونسيت الآخرى» «5» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (523) فى المساجد، باب: رقم (1) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (522) فيما سبق.
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 158) .
(4) إسناده جيد: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 369) وقال: رواه البزار وإسناده جيد.
(5) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 225) من حديث أبى هريرة وليس ابن عباس، وقال: رواه البزار وفيه إبراهيم بن صرمة، وهو ضعيف.(2/312)
فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابورى فى كتاب «شرف المصطفى» أن عدد الذى خص به- صلى الله عليه وسلم- ستون خصلة. وطريق الجمع أن يقال: لعله- صلى الله عليه وسلم- اطلع أولا على بعض ما اختص له، ثم اطلع على الباقى. ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله. وقد ذكر بعض العلماء أنه- صلى الله عليه وسلم- أوتى ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية.
وقد اختلف فى العلم بخصائصه- صلى الله عليه وسلم-، فقال الصيمرى من الشافعية: منع أبو على بن خيران الكلام فيها، لأنه أمر انقضى فلا معنى للكلام فيه.
وقال إمام الحرمين: قال المحققون ذكر الاختلاف فى مسائل الخصائص خبط غير مفيد، فإنه لا يتعلق به حكم ناجز تمس إليه حاجة، وإنما يجرى الخلاف فيما لا يوجد بد من إثبات حكم فيه، فإن الأقيسة لا مجال لها، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، وما لا نص فيه فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة.
وقال النووى- فى الروضة والتهذيب- بعد نقله هذين الكلامين: وقال سائر الأصحاب لا بأس به، وهو الصحيح، لما فيه من زيادة العلم، فهذا كلام الأصحاب، والصواب الجزم بجواز ذلك، بل استحبابه، ولو قيل وجوبه لم يكن بعيدا، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتا فى الحديث الصحيح فعمل به أخذا بأصل التأسى، فوجب بيانها لتعرف، فلا يعمل بها، فأى فائدة أهم من هذه الفائدة، وأما ما يقع فى ضمن الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم فقليل لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدريب ومعرفة الأدلة، وتحقيق الشىء على ما هو عليه. انتهى كلام النووى.
وقد تتبعت ما شرف الله تعالى به نبينا- صلى الله عليه وسلم- من الخصائص والآيات،(2/313)
وأكرمه به من الفضائل والكرامات من كتب العلماء، كالخصائص لابن سبع، وخصائص الروضة للنووى، ومختصرها للحجازى، وشرح الحاوى لابن الملقن، وشرح البهجة لشيخ الإسلام زكريا الأنصارى، واللفظ المكرم فى خصائص النبى- صلى الله عليه وسلم- للشيخ قطب الدين الخيضرى، واستفدت منه كثيرا فى فصل المعجزات، مع ما رأيته أثناء مطالعتى لفتح البارى، وشرح مسلم للنووى، وشرح تقريب الأسانيد للعراقى وغير ذلك مما يطول ذكره، فتحصل لى من ذلك جملة. وقد قسمها غير واحد من الأئمة أربعة أقسام:
[خصائص النبي ص من الفضائل والكرامات]
القسم الأول: ما اختص به- صلى الله عليه وسلم- من الواجبات والحكمة
فى ذلك زيادة الزلفى والدرجات، فإنه لن يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل أداء ما افترض عليهم. قال بعضهم: خص الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- بواجبات عليه لعلمه بأنه أقوم بها منهم، وقيل ليجعل أجره بها أعظم.
* فاختص- صلى الله عليه وسلم- بوجوب الضحى على المذهب
، لكن قول عائشة فى الصحيح: (ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسبح سبحة الضحى) «1» يدل على ضعف أنها كانت واجبة عليه. قال الحافظ ابن حجر: ولم يثبت ذلك فى خبر صحيح. انتهى. وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى ذكر صلاة الضحى فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-. وهل كان الواجب عليه أقل الضحى أو أكثرها، أو أدنى الكمال؟ قال الحجازى: لا نقل فيه، لكن فى مسند أحمد: «أمرت بركعتى الضحى ولم تؤمروا بهما» «2» .
* ومنها الوتر وركعتا الفجر
، كما رواه الحاكم فى المستدرك وغيره، ولفظ أحمد والطبرانى: «ثلاث على فريضة وهن لكم تطوع، الوتر وركعتا
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1128) فى التهجد، باب: تحريض النبى- صلى الله عليه وسلم- على صلاة الليل والنوافل من غيره إيجاب، ومسلم (718) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 232 و 317) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 264) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(2/314)
الفجر وركعتا الضحى» «1» . قال بعضهم: وقد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الوتر على الراحلة. قال: ولو كان واجبا لما جاز فعله على الراحلة. وتعقب: بأن فعله على الراحلة من الخصائص أيضا كما سيأتى فيما اختص به- صلى الله عليه وسلم- من المباحات، - إن شاء الله تعالى-. وأجيب بأنه يحتاج إلى دليل. وهل كان الواجب عليه أقل الوتر أم أكثره؟ أم أدنى الكمال؟ قال الحجازى: لم أر فيه نقلا.
* ومنها صلاة الليل،
قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «2» .
أى فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك، وهذا ما صححه الرافعى ونقله النووى عن الجمهور، ثم قال:
وحكى الشيخ أبو حامد أن الشافعى نص على أنه نسخ وجوبه فى حقه، كما نسخ فى حق غيره.
* ومنها السواك،
واستدلوا له بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أبى حنظلة بن أبى عامر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق عليه ذلك أمر بالسواك لكل صلاة «3» . وفى إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس.
وحجة من لم يجعله واجبا عليه، ما رواه ابن ماجه فى سننه من حديث أبى أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما جاءنى جبريل إلا أوصانى بالسواك
__________
(1) موضوع: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 231) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 441) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 264) وقال: رواه أحمد بأسانيد والبزار بنحوه والطبرانى فى الكبير والأوسط وفى إسناد أحمد أبو خباب الكلبى وهو مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح، وفى بقية أسانيدها جابر الجعفى، وهو ضعيف. اه، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2561) : موضوع.
(2) سورة الإسراء: 79.
(3) حسن أخرجه أبو داود (48) فى الطهارة، باب: السواك، والدارمى فى «سننه» (658) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 258) ، والحديث أصله فى الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهنى.(2/315)
حتى خشيت أن يفرض على وعلى أمتى» «1» ، وإسناده ضعيف. وروى أحمد فى مسنده من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على» «2» ، وإسناده حسن. والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح، قاله فى شرح تقريب الأسانيد.
* ومنها الأضحية،
قال الله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «3» ، وروى الدارقطنى والحاكم عن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث هن على فرائض، وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر» «4» .
* ومنها المشاورة،
قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «5» . فظاهره الإيجاب، ويقال إنه استحباب، استمالة للقلوب، ومعناه: استخراج آرائهم، ونقل البيهقى فى «معرفة السنن والآثار» عن النص: أن المشورة غير واجبة عليه، كما نبه عليه الحجازى وغيره.
واختلف فى المعنى الذى لأجله أمر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحى عليه، ووجوب طاعته على أمته. فقال بعضهم: هو خاص فى المعنى، وإن كان عاما فى اللفظ، أى: وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد، يدل عليه قراءة ابن عباس: وشاورهم فى بعض الأمر. وقال الكلبى: يعنى ناظرهم فى لقاء العدو، ومكائد الحرب عند الغزو.
وقال قتادة ومقاتل: كانت سادات العرب إذا لم تشاور فى الأمر شق عليهم، فأمر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يشاورهم، فإن ذلك أعطف لهم
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (289) فى الطهارة، باب: السواك، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 490) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 68) وقال: رواه أحمد والطبرانى فى الكبير، وفيه ليث بن أبى سليم، وهو ثقة وقد عنعنه.
(3) سورة الكوثر: 2.
(4) ضعيف: وقد تقدم.
(5) سورة آل عمران: 159.(2/316)
وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. وقال الحسن: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وحكى القاضى أبو يعلى، فى الذى أمر بالمشاورة فيه قولين: أحدهما: فى أمر الدنيا خاصة، والثانى: فى الدين والدنيا وهو الأصح، قاله المعافى بن زكريا فى تفسيره.
والحكمة فى المشاورة فى الدين التنبيه لهم على علل الأحكام، وطريق الاجتهاد. وأخرج ابن عدى والبيهقى فى الشعب عن ابن عباس قال: لما نزلت وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتى» «1» .
وعند الترمذى الحكيم من حديث عائشة، رفعته: «إن الله أمرنى بمداراة الناس، كما أمرنى بإقامة الفرائض» «2» .
* ومنها مصابرة العدو
وإن كثر عددهم.
* ومنها تغيير المنكر إذا رآه،
لكن قد يقال: كل مكلف تمكن من تغييره يلزمه، فيقال: المراد أنه لا يسقط عنه- صلى الله عليه وسلم- بالخوف بخلاف غيره.
* ومنها قضاء دين من مات مسلما معسرا،
روى مسلم حديث: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى وعليه دين فعلى قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته» «3» .
قال النووى: كان هذا القضاء واجبا عليه- صلى الله عليه وسلم-، وقيل: تبرع منه، والخلاف وجهان لأصحابنا وغيرهم، قال: ومعنى الحديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال:
«أنا قائم بمصالحكم فى حياة أحدكم أو موته، أنا وليه فى الحالين، فإن كان
__________
(1) ذكره السيوطى فى «الدر المنثور» (2/ 359) وعزاه لابن عدى والبيهقى فى الشعب.
(2) ضعيف: أخرجه الحكيم الترمذى وابن عدى بسند فيه متروك، قاله السيوطى فى «الدر المنثور» (2/ 358) .
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2297) فى الحوالة، باب: من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، ومسلم (1619) فى الفرائض، باب: من ترك مالا فلورثته، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/317)
عليه دين قضيته من عندى إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فلورثته، لا آخذ منه شيئا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلى فعلى نفقتهم ومؤنتهم» . انتهى.
وفى وجوب قضائه على الإمام من مال المصالح وجهان، لكن قال الإمام: من استدان وبقى معسرا إلى أن مات لم يقض دينه من بيت المال، فإن كان ظلم بالمطل ففيه احتمال، والأولى: لا، والله أعلم.
* ومنها تخيير نسائه- صلى الله عليه وسلم- فى فراقه،
وإمساكهن بعد أن اخترنه فى أحد الوجهين، وترك التزوج عليهن والتبدل بهن مكافأة لهن، ثم نسخ ذلك، لتكون المنة له- صلى الله عليه وسلم- عليهن، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها «1» . الآية.
واختلف فى تخييره لهن على قولين، أحدهما: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، واختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن فى الطلاق، وهذا هو قول الحسن وقتادة، والثانى: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، وهذا قول عائشة ومجاهد والشعبى ومقاتل.
[سبب تخييره ص نساءه]
واختلفوا فى السبب الذى لأجله خير- صلى الله عليه وسلم- نساءه على أقوال.
أحدها: أن الله تعالى خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة على الدنيا، فاختار الآخرة
وقال: «اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين» «2» ، فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكن على مثل اختياره. حكاه أبو القاسم النميرى.
الثانى:
لأنهن تغايرن عليه.
__________
(1) سورة الأحزاب: 28.
(2) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (2352) فى الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وأخرجه ابن ماجه (4126) فى الزهد، باب: مجالسة الفقراء، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1261) .(2/318)
والثالث: لأن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع،
فكان أولهن أم سلمة سألته سترا معلما، وسألته ميمونة حلة يمانية، وسألته زينب ثوبا مخططا وهو البرد اليمانى، وسألته أم حبيبة ثوبا سحوليّا، وسألته كل واحدة شيئا إلا عائشة. حكاه النقاش.
والرابع: أن أزواجه- صلى الله عليه وسلم- اجتمعن يوما فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلى
فأنزل الله تعالى آية التخيير، حكاه النقاش أيضا. وذلك أنه لما نصر الله تعالى رسوله وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود، وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر فى الحلى والحلل، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل فى أمرهن لئلا يكون لأحد منهن عليه منة فى الصبر على ما اختاره من خشونة العيش.
فلما اخترنه وصبرن معه عوضهن الله على صبرهن بأمرين: أحدهما، أن جعلهن أمهات المؤمنين تعظيما لحقهن وتأكيدا لحرمتهن، وتفضيلهن على سائر النساء بقوله: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ «1» ، والثانى: أن حرم الله عليه طلاقهن والاستبدال بهن فقال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ «2» . الآية. فكان تحريم طلاقهن مستداما، وأما تحريم التزوج عليهن فنسخ، قالت عائشة: ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أحل الله له النساء، يعنى اللاتى حرمن عليه، وقيل: الناسخ لتحريمهن قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ «3» . الآية.
وقال النووى فى الروضة: لما خيرهن فاخترنه كافأهن على حسن صنيعهن بالجنة فقال: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً «4» .
انتهى.
__________
(1) سورة الأحزاب: 32.
(2) سورة الأحزاب: 52.
(3) سورة الأحزاب: 50.
(4) سورة الأحزاب: 29.(2/319)
وإنما اختص- صلى الله عليه وسلم- بوجوب التخيير لنسائه بين التسريح والإمساك، لأن الجمع بين عدد منهن يوغر صدورهن بالغيرة التى هى من أعظم الآلام، وهو إيذاء يكاد ينفر القلب ويوهن الاعتقاد، وكذا إلزامهن على الصبر والفقر يؤذيهن، ومهما ألقى زمام الأمر إليهن خرج عن أن يكون ضررا، فنزه عن ذلك منصبه العالى. وقيل له: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ «1» .
* ومنها: إتمام كل تطوع شرع فيه،
حكاه فى الروضة وأصلها، قال النووى: وهو ضعيف. وفرعه بعض الأصحاب: على أنه كان يحرم عليه- صلى الله عليه وسلم- إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يلقى العدو ويقاتل. ذكره فى تهذيب الأسماء واللغات.
* ومنها: أنه كان يلزمه- صلى الله عليه وسلم- أداء فرض الصلاة بلا خلل.
قاله الماوردى: قال العراقى فى شرح المهذب: إنه كان معصوما عن نقص الفرائض. انتهى، والمراد خلل لا يبطل الصلاة.
* وقال بعضهم: كان يجب عليه- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى ما يعجبه أن يقول: «لبيك إن العيش عيش الآخرة»
«2» ثم قال: هذه كلمة صدرت منه- صلى الله عليه وسلم- فى أنعم حالة، وهو يوم حجه بعرفة، وفى أشد حالة، وهو يوم الخندق، انتهى.
* ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يؤخذ عن الدنيا حالة الوحى،
ولا يسقط عنه الصوم والصلاة وسائر الأحكام، كما ذكره فى زوائد الروضة عن ابن القاص والقفال، وكذا ذكره ابن سبع.
* ومنها: أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يغان على قلبه فيستغفر الله سبعين مرة.
ذكره ابن القاص ونقله ابن الملقن فى الخصائص، ورواه مسلم وأبو داود من حديث الأغر المزنى بلفظ: «إنه ليغان على قلبى وإنّى لأستغفر الله فى اليوم
__________
(1) سورة الأحزاب: 28.
(2) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (7/ 48) من مجاهد مرسلا.(2/320)
مائة مرة» «1» هذا لفظ مسلم، وقال أبو داود «فى كل يوم» ، قال الشيخ ولى الدين بن العراقى: والظاهر أن الجملة الثانية مرتبة على الأولى، وأن سبب الاستغفار: الغين، ويدل لذلك قوله فى رواية النسائى فى عمل اليوم والليلة:
إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله كل يوم مائة مرة، وفى رواية له أيضا:
فأستغفر الله. وألفاظ الحديث يفسر بعضها بعضا. ويحتمل من حيث اللفظ أن تكون الجملة الثانية كلاما برأسه غير متعلق بما قبله، فيكون- صلى الله عليه وسلم- أخبر بأنه يغان على قلبه، وبأنه يستغفر الله فى اليوم مائة مرة، انتهى.
وقال أبو عبيد: أصل الغين فى هذا، ما يغشى القلب ويغطيه، وأصله:
من غين السماء، وهو إطباق الغيم عليها. وقال غيره: الغين يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية، كالغيم الرقيق الذى يعرض فى الهواء فلا يمنع ضوء الشمس.
قال القاضى عياض- بعد حكايته ذلك-: فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان- صلى الله عليه وسلم- دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة ومعاناة الأهل، ومقاومة الولى والعدو، ومصلحة النفس، وما كلفه من أعباء أداء الرسالة وحمل الأمانة، وهو فى كل هذا فى طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان- صلى الله عليه وسلم- أرفع الخلق عند الله مكانة وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حاله عند خلوص قلبه وخلو همته، وتفرده بربه وإقباله بكليته عليه، ومقامه هناك أرفع حاليه، رأى- صلى الله عليه وسلم- حال فترته عنها، وشغله بسواها غضا على حاله، وخفضا من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك، قال: وهذا أولى وجوه الحديث وأشهرها، وإلى معنى ما أشرنا إليه مال كثير من الناس، وحام حوله فقارب ولم يرد، وقد قربنا غامض معناه، وكشفنا للمستفيد محياه، وهو مبنى على جواز الفترة والغفلات والسهو فى غير طريق البلاغ، انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2702) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، وأبو داود (1515) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار.(2/321)
وتعقب: بأنه لا ترضى نسبته- صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك، لما يلزم عليه من تفضيل الملائكة بعدم الفترة عن التسبيح والمشاهدة، ولقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لست أنسى ولكن أنسى لأسنّ» «1» فهذه ليست فترة وإنما هى لحكمة مقصودة يثبت بها حكم شرعى، فالأولى أن يحمل على ما جعله علة فيه، وهو ما دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، وحمل كل أعباء النبوة وحمل أثقالها. انتهى.
وقيل: الغين شىء يعترى القلب مما يقع من حديث النفس، قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: وهذا أشار إليه الرافعى فى أماليه، وقال: إن والده كان يقرره. وقيل: كانت حالة يطلع فيها على أحوال أمته فيستغفر لهم.
وقيل: هو السكينة التى تغشى قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية لله تعالى، والشكر لما أولاه.
وقال شيخ الإسلام ابن العراقى أيضا: هذه الجملة حالية، أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه يغان على قلبه مع أن حاله الاستغفار فى اليوم مائة مرة، وهى حال مقدرة، لأن الغين ليس موجودا فى حال الاستغفار، بل إذا جاء الاستغفار أذهب ذلك الغين. قال: وعلى تقدير تعلق إحدى الجملتين بالآخرى، وأن الثانية مسببة عن الأولى، فيحتمل أن يكون هذا الغين تغطية للقلب عن أمور الدنيا، وحجابا بينه وبينها، فينجمع القلب حينئذ على الله تعالى ويتفرغ للاستغفار شكرا وملازمة للعبودية، قال: وهذا معنى ما قاله القاضى عياض، انتهى ومراده قوله فى «الشفاء» : وقد يحتمل أن تكون هذه الإغانة حالة خشية وإعظام تغشى قلبه فيستغفر حينئذ شكرا لله تعالى، وملازمة لعبوديته إلى آخر كلامه.
قال الشيخ ابن العراقى: وهو عندى كلام حسن جدّا، وتكون الجملة
__________
(1) ضعيف: أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 100) بلاغا، وهو أحد الأحاديث الأربعة التى قال عنها ابن عبد البر فى «التمهيد» التى لا يوجد فى غيره مسندة ولا مرسلة، انظر «التمهيد» لابن عبد البر (24/ 375) .(2/322)
الثانية مسببة عن الأولى، لا بمعنى أنه يسعى بالاستغفار فى إزالة الغين، بل بمعنى أن الغين أصل محمود، وهو الذى تسبب عنه الاستغفار، وترتب عليه، وهذا أنزه الأقوال وأحسنها لأن الغين حينئذ وصف محمود وهو الذى نشأ عنه الاستغفار، وعلى الأول يكون «الغين» مما يسعى فى إزالته بالاستغفار، وما ترتب الإشكال وجاء السؤال إلا على تفسير الغين بذلك، وأهل اللغة إنما فسروا الغين بالغشاء، فنحمله على غشاء يليق بحاله- صلى الله عليه وسلم-، وهو الغشاء الذى يصرف القلب ويحجبه عن أمور الدنيا، لا سيما وقد رتب على الغشاء أمرا محمودا وهو الاستغفار، فما نشأ هذا الأمر الحسن إلا عن أمر حسن، انتهى.
وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله فى كتابه «لطائف المنن» أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى النوم فسألته عن هذا الحديث «إنه ليغان على قلبى» فقال لى: «يا مبارك: ذلك غين الأنوار، لا غين الأغيار» «1» .
القسم الثانى: ما اختص به- صلى الله عليه وسلم- مما حرم عليه:
* فمنها: تحريم الزكاة عليه،
وكذا الصدقة على الصحيح المشهور المنصوص، قال- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لا نأكل الصدقة» «2» رواه مسلم، ومن قال بإباحتها له يقول: لا يلزم من امتناعه من أكلها تحريمها، فلعله ترك ذلك تنزها مع إباحتها له، وهذا خلاف ظاهر الحديث. قال شيخ الإسلام ابن العراقى، فى شرح التقريب: وعلى كل حال ففيه أن من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- الامتناع من أكل الصدقة إما وجوبا وإما تنزها، انتهى. والحكمة من ذلك: صيانة منصبه الشريف عن أوساخ أموال الناس.
__________
(1) قلت: إن ديننا يؤخذ من الوحى، لا من المنامات، وبخاصة إذا كانت تخالف ظاهر الدين، خشية أن تكون من إلقاء الشيطان إلى النفس، وهو ما يكون غالبا، وليحذر المسلم الحقيقى من مثل هذه المنامات.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1491) فى الزكاة، باب: ما يذكر فى الصدقة للنبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1069) فى الزكاة، باب: تحريم الزكاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/323)
* ومنها: تحريم الزكاة على آله- صلى الله عليه وسلم-،
وتحريم كون آله عمالا على الزكاة فى الأصح، وكذا يحرم صرف النذر والكفارة إليهم، وأما صدقة التطوع فتحل لهم فى الأصح خلافا للمالكية وهو وجه عندنا.
* ومنها: أنه يحرم عليه- صلى الله عليه وسلم- أكل ما له رائحة كريهة،
كثوم وبصل، لتوقع مجىء الملائكة والوحى كل ساعة. والأكل متكئا فى أحد الوجهين فيهما، والأصح فى الروضة كراهتهما، وتعقب السهيلى الاتكاء فقال: قد يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين، وقد تقدم مزيد لذلك.
* ومنها: تحريم الكتابة والشعر،
وإنما يتجه القول بتحريمهما ممن يقول إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحسنهما، والأصل أنه كان لا يحسنهما، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «1» . وقال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ «2» . أى ما هو فى طبعه، ولا يحسنه ولا تقتضيه جبلته ولا يصلح له. وأجيب: بأن المراد تحريم التوصل إليهما. وهل عدم الشعر خاص به- صلى الله عليه وسلم- أو بنوع الأنبياء؟ قال بعضهم: هو عام لقوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ لأنه لا يظهر فيه للخصوص نكتة. وتقدم فى قصة الحديبية البحث فى كونه- صلى الله عليه وسلم- هل كان يحسن الكتابة أو لا.
* ومنها: نزع لأمته إذا لبسها، حتى يقاتل
أو يحكم الله بينه وبين عدوه.
* ومنها: المن ليستكثر،
ذكره الرافعى، قال الله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «3» أى: لا تعط شيئا لتعطى أكثر منه، بل أعط لربك، واقصد به وجهه، فأدبه بأشرف الآداب، قاله أكثر المفسرين، وقال الضحاك ومجاهد:
هذا كان للنبى- صلى الله عليه وسلم- خاصة، وليس على أحد من أمته، وقال قتادة: لا تعط شيئا لمجازاة الدنيا، أى أعط لربك، وعن الحسن: لا تمنن على الله
__________
(1) سورة العنكبوت: 48.
(2) سورة يس: 69.
(3) سورة المدثر: 6.(2/324)
بعملك فتستكثره، وقيل: لا تمنن على الناس بالنبوة فتأخذ عليها أجرا وعوضا من الدنيا.
* ومنها: مد العين إلى ما متع به الناس،
قال الله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ «1» أى استحسانا له وتمنيا أن يكون لك مثله أَزْواجاً مِنْهُمْ «2» أى أشكالا وأشباها من الكفار، وهى المزاوجة بين الأشياء، وهى المشاكلة. وعن ابن عباس: أصنافا منهم، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته، فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات.
* ومنها: خائنة الأعين،
وهى الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يشعر به الحال، كما قيل له- صلى الله عليه وسلم- فى قصة رجل أراد قتله. هلا أومأت إلينا بقتله، فقال: «ما كان ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين» «3» .
ولا يحرم ذلك على غيره إلا فى محظور، قاله الرافعى فيما نقله الحجازى فى مختصر الروضة.
* ومنها: نكاح من لم تهاجر،
فى أحد الوجهين: قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ «4» . أى مهورهن، سمى المهر أجرا لأن المهر أجر على البضع وتقييد الإحلال بإعطائها معجله لا يتوقف الحل عليه، بل لإيثار الأفضل له، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية فى قوله: وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ «5» . يعنى من نساء بنى زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ
__________
(1) سورة الحجر: 88.
(2) سورة الحجر: 88.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2683) فى الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، و (4359) فى الحدود، باب: الحكم فيمن ارتد، من حديث سعد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) سورة الأحزاب: 50.
(5) سورة الأحزاب: 50.(2/325)
مَعَكَ «1» . أى إلى المدينة، قالوا: والمراد هاجرن كما هاجرت، وإن لم تكن هجرتها فى حال هجرته- صلى الله عليه وسلم-.
وظاهره يدل على أن الهجرة شرط فى التحليل، وأن من لم تهاجر من النساء لم يحل له نكاحها. وقالت أم هانئ: خطبنى- صلى الله عليه وسلم- فاعتذرت إليه بعذر فعذرنى، ثم أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ «2» . فلم أكن لأحل له، فإنى لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء «3» . وعن بعض المفسرين: أن شرط الهجرة فى التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه. وعن الماوردى قولان: أحدهما أن الهجرة شرط فى إحلال كل النساء له- صلى الله عليه وسلم- من غريبة وقريبة، والثانى: أنها شرط فى إحلال بنات عمه وبنات عماته المذكورات فى الآية وليس شرطا فى إحلال الأجنبيات، وعنه أيضا: أن المراد بالمهاجرات المسلمات.
* ومنها: تحريم إمساك من كرهته،
قاله الحجازى وغيره.
* ومنها: نكاح الكتابية،
لأن أزواجه أمهات المؤمنين وزوجات له فى الآخرة، ومعه فى درجته فى الجنة، ولأنه- صلى الله عليه وسلم- أشرف من أن يضع ماءه فى رحم كافرة، قالوا: ولو نكح كتابية لهديت إلى الإسلام كرامة له.
* ومنها: نكاح الأمة المسلمة،
ولو قدر نكاحه أمة كان ولده منها حرّا، ولا تلزمه قيمته لتعذر الرق. قاله القاضى حسين، وقال أبو عاصم: تلزم، نقله الحجازى، ولا يشترط فى حقه حينئذ خوف العنت ولا فقد الطول. وأما التسرى بالأمة فالأصح الحل، لأنه- صلى الله عليه وسلم- استمتع بأمته ريحانة قبل أن تسلم، وعلى هذا، فهل عليه تخييرها بين أن تسلم فيمسكها أو تقيم على دينها فيفارقها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لتكون من زوجاته فى الآخرة،
__________
(1) سورة الأحزاب: 50.
(2) سورة الأحزاب: 50.
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3214) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 202) بسند فيه السدى، وهو ضعيف.(2/326)
والثانى: لا، لأنه لما عرض على ريحانة الإسلام فأبت لم يزلها عن ملكه وأقام على الاستمتاع، وقد أسلمت بعد.
* ومنها: تحريم الإغارة
إذا سمع التكبير، كما ذكره ابن سبع فى الخصائص.
القسم الثالث: فيما اختص به- صلى الله عليه وسلم- من المباحات.
* اختص- صلى الله عليه وسلم- بإباحة المكث فى المسجد جنبا،
قاله صاحب التلخيص. ومنعه القفال، قال النووى: وما قاله فى التلخيص قد يحتج له بقوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى سعيد الخدرى: «يا على لا يحل لأحد أن يجنب فى هذا المسجد غيرى وغيرك» «1» قال الترمذى: حسن غريب. وقد يعترض على هذا الحديث بأن عطية ضعيف عند الجمهور. ويجاب بأن الترمذى حكم بأنه حسن فلعله اعتضد بما اقتضى حسنه، لكن إذا شاركه- صلى الله عليه وسلم- على فى ذلك لم يكن من الخصائص. وقد غلّط إمام الحرمين وغيره صاحب التخليص فى الإباحة. واعلم أن معظم المباحات لم يفعلها- صلى الله عليه وسلم- وإن جازت له.
* ومما اختص به أيضا أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعا،
وفى اللمس وجهان، قال النووى: المذهب الجزم بانتقاضه به. واستدل القائلون بالأول بنحو حديث عائشة، عند أبى داود، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلى ولا يتوضأ «2» ورواه النسائى أيضا، وقال أبو داود: هو مرسل، إبراهيم التيمى لم يسمع من عائشة، وقال النسائى: ليس فى هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا.
* واختص أيضا بإباحة الصلاة بعد العصر
، فقد فاتته ركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر. ثم واظب عليهما، ذكره الحجازى، وبجواز
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3727) فى المناقب، باب: مناقب على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) مرسل: أخرجه النسائى (1/ 104) فى الطهارة، باب: ترك الوضوء من القبلة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(2/327)
صلاة الوتر على الراحلة مع وجوبه عليه، كما ذكره فى شرح المهذب وعبارته: كان من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- جواز فعل هذا الواجب الخاص به على الراحلة. وبالصلاة على الغائب عند أبى حنيفة ومالك.
* وبالقبلة فى الصوم،
مع قوة الشهوة، روى البخارى من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبل بعض نسائه وهو صائم، وكان أملككم لإربه) «1» قال الحافظ ابن حجر: فأشارت بذلك إلى أن الإباحة لمن يكون مالكا لنفسه دون من لا يأمن الوقوع فيما يحرم. قال: وفى رواية حماد- عند النسائى- قال الأسود: قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت:
أليس كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه قال: وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك. قاله القرطبى، قال: وهو اجتهاد منها. ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص: ما رواه مالك فى الموطأ أن عائشة بنت طلحة كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم «2» .
* واختص أيضا بإباحة الوصال فى الصوم:
كما سيأتى، وقال إمام الحرمين، هو قربة فى حقه- صلى الله عليه وسلم-.
* وأن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج،
ويجب على صاحبهما البذل. ويفدى بمهجته مهجة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «3» . ولو قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه- صلى الله عليه وسلم-، كما وقاه طلحة بنفسه يوم أحد.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1927) فى الصوم، باب: المباشرة للصائم، ومسلم (1106) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته.
(2) صحيح: أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 292) ، والطحاوى فى «شرح معانى الآثار» (2/ 95) بسند صحيح.
(3) سورة الأحزاب: 6.(2/328)
وبإباحة النظر إلى الأجنبيات لعصمته،
وسيأتى- إن شاء الله تعالى- فى القسم الرابع حكم غيره- صلى الله عليه وسلم-. وبجواز الخلوة بهن. قال فى فتح البارى: الذى وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، ويدل له قصة أم حرام بنت ملحان فى دخوله- صلى الله عليه وسلم- عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه «1» ، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية، انتهى.
* ومنها نكاح أكثر من أربع نسوة،
وكذلك الأنبياء، وفى الزيادة لنبينا- صلى الله عليه وسلم- على التسع خلاف.
* ويجوز له النكاح بلفظ الهبة من جهة المرأة، قال الله تعالى:
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «2» . وأما من جهته- صلى الله عليه وسلم- فلابد من لفظ النكاح أو التزويج على الأصح فى أصل الروضة، وحكاه الرافعى عن ترجيح الشيخ أبى حامد لظاهر قوله تعالى: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ «3» .
قال البيضاوى: فى قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً الآية، أى أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا إن اتفق ذلك، ولذلك نكّرها.
واختلف فى ذلك والقائل به ذكر أنها ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم، قال: وقرئ «أن» بالفتح، أى لأن وهبت، أو مدة أن وهبت، كقولك: اجلس ما دام زيد جالسا، قال: وقوله: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ «4» شرط
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2788 و 2789) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء، ومسلم (1912) في الإمارة، باب: فضل الغزو فى البحر، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) سورة الأحزاب: 50.
(3) سورة الأحزاب: 50.
(4) سورة الأحزاب: 50.(2/329)
للشرط الأول فى استحباب الحل، فإن هبتها نفسها منه لا توجب له إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول، قال: والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ «النبى» - صلى الله عليه وسلم- مكررا. ثم الرجوع إليه فى قوله: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «1» . إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاقه الكرامة لأجله. انتهى.
وقال المعافى: وفى معنى «خالصة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرأة إذا وهبت نفسها له يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين. قاله أنس بن مالك وابن المسيب. والثانى: أن له أن ينكحها بلا ولى ولا شهود دون غيره. قاله قتادة، والثالث: خالصة لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، قال: وهذا قول الشافعى وأحمد، وعن أبى حنيفة ينعقد النكاح بلفظ الهبة لغيره- صلى الله عليه وسلم- أيضا.
* وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم- النكاح بلا مهر
ابتداء وانتهاء، كما تقدم أن المرأة إذا وهبت نفسها له- صلى الله عليه وسلم- لا يلزمه صداقها. قال النووى: إذا وهبت امرأة نفسها له- صلى الله عليه وسلم- فتزوجها بلا مهر حل له ذلك، ولا يجب عليه بعد ذلك مهرها بالدخول، ولا بغير ذلك، بخلاف غيره فإنه لا يخلو نكاحه من وجوب مهر، إما مسمى وإما مهر المثل والله أعلم.
* وكذا يجوز له النكاح فى حال الإحرام،
قال النووى فى شرح مسلم: قال جماعة من أصحابنا أنه- صلى الله عليه وسلم- كان له أن يتزوج فى حال الإحرام، وهو مما خص به دون الأمة، قال: وهذا أصح الوجهين عند أصحابنا. انتهى.
* وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم- النكاح بغير رضى المرأة،
فلو رغب فى نكاح امرأة خلية لزمها الإجابة، وحرم على غيره خطبتها، أو متزوجة وجب على زوجها طلاقها.
قال الغزالى: ولعل السر فيه من جانب الزوج امتحان إيمانه بتكليف
__________
(1) سورة الأحزاب: 50.(2/330)
النزول عن أهله، فإنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين» «1» .
ويدل لهذه الخصيصة قصة زينب بنت جحش بنت عمته- صلى الله عليه وسلم- أميمة بنت عبد المطلب، المنصوص عليها بقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ «2» . أى بنعمة الإسلام وهى أجل النعم وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أى بالإعتاق بتوفيق الله لك، وهو زيد بن حارثة الكلبى، وكان من سبى الجاهلية، فملكه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وأعتقه وتبناه وخطب له زينب فأبت هى وأخوها عبد الله، ثم رضيا لما نزل قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ «3» . الآية وكان الرجل فى الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى ولد غيره يدعوه الناس به ويرث ميراثه وتحرم عليه زوجته، فنسخ الله تعالى التبنى بقوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ «4» . وبهذه القصة يثبت الحكم بالقول والفعل، فأوحى الله إليه أن زيدا سيطلقها، وأنه- صلى الله عليه وسلم- يتزوجها، وألقى فى قلب زيد كراهتها فأراد فراقها فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال إنى أريد أن أفارق صاحبتى قال: «ما لك؟ أرابك منها شىء؟» قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم على بشرفها وتؤذينى بلسانها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ «5» ، أى فى أمرها، فلا تطلقها ضرارا وتعللا فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً «6» . ولم يبق له فيها حاجة، ولما طلقها وانقضت عدتها زوجها الله تعالى له، كما قال تعالى:
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (15) فى الإيمان، باب: حب الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، ومسلم (44) فى الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والوالد والولد، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) سورة الأحزاب: 37.
(3) سورة الأحزاب: 36.
(4) سورة الأحزاب: 5.
(5) سورة الأحزاب: 37.
(6) سورة الأحزاب: 37.(2/331)
زَوَّجْناكَها «1» . والمعنى أنه أمره بتزويجها منه، أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد. ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن الله تولى نكاحى، وأنتن زوجكن أولياؤكن. وقيل إن زيدا كان السفير للتزويج، وفى ذلك لزيد ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه.
وقد علل تعالى تزويجه إياها بقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ «2» . أى فى أن يتزوجوا زوجات من كانوا يتبنونه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم فى قوله:
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ «3» .
وأما قوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ «4» . فمعناه: علمك أنه سيطلقها وتتزوجها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر فى شىء أباحه له، بأن قال:
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ «5» . مع علمه أنه سيطلق، وهذا مروى عن على بن الحسين، وعليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهرى، وبكر بن العلاء، والقاضى أبى بكر بن العربى وغيرهم.
والمراد بقوله: وَتَخْشَى النَّاسَ «6» . إنما هو فى إرجاف المنافقين فى تزويج نساء الأبناء، والنبى- صلى الله عليه وسلم- معصوم فى الحركات والسكنات. ولبعض المفسرين هنا كلام لا يليق بمنصب النبوة.
وقيل قوله: وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ «7» . خطاب من الله تعالى، أو من الرسول- صلى الله عليه وسلم- لزيد، فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما توهم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد أن تكون من نسائه.
__________
(1) سورة الأحزاب: 37.
(2) سورة الأحزاب: 37.
(3) سورة النساء: 23.
(4) سورة الأحزاب: 37.
(5) سورة الأحزاب: 37.
(6) سورة الأحزاب: 37.
(7) سورة الأحزاب: 37.(2/332)
قال جار الله: وكم من شىء مباح يتحفظ الإنسان منه ويستحى من إطلاع الناس عليه، فطموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة وغيرها غير موصوف بالقبح فى العقل ولا فى الشرع، وتناول المباح بالطريق الشرعى ليس بقبيح أيضا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ولا طلب إليه، ولم يكن مستكرها عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها آخر، فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة واستهم الأنصار بكل شىء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجرى، فإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته لم يكن فيه وجه من وجوه القبح. انتهى.
* وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم- النكاح بلا ولى وبلا شهود.
قال النووى:
الصحيح المشهور عند أصحابنا صحة نكاحه- صلى الله عليه وسلم- بلا ولى ولا شهود لعدم الحاجة إلى ذلك فى حقه- عليه السّلام-، وهذا الخلاف فى غير زينب أما زينب فمنصوص عليها والله أعلم.
قال العلماء: إنما اعتبروا الولى للمحافظة على الكفاءة، وهو- صلى الله عليه وسلم- فوق الأكفاء، وإنما اعتبر الشهود لأمن الجحود، وهو- صلى الله عليه وسلم- لا يجحد ولو جحدت هى لم يرجع إلى قولها، بل قال العراقى فى شرح المهذب، تكون كافرة بتكذيبه. وكان له- صلى الله عليه وسلم- تزويج المرأة ممن شاء بغير إذنها وإذن وليها، وله إجبار الصغيرة من غير بناته، وزوج ابنة حمزة مع وجود عمها العباس، فيقدم على الأب. وزوجه الله تعالى بزينب، فدخل عليها بتزويج الله من غير عقد من نفسه. وعبر فى الروضة عن هذا بقوله: وكانت المرأة تحل له بتحليل الله تعالى.
* وأعتق أمته صفية وجعل عتقها صداقها
وقد اختلف فى معناه، فقيل إنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة، فتزوجها بها، ويؤيده: قوله فى رواية عبد العزيز بن صهيب: سمعت أنسا قال: سبى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صفية فأعتقها وتزوجها، فقال ثابت لأنس: ما(2/333)
أصدقها، قال: نفسها فأعتقها «1» ؛ هكذا أخرجه البخارى فى المغازى. وفى رواية حماد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس فى حديثه قال: وصارت صفية لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها. قال عبد العزيز لثابت:
يا أبا محمد أنت سألت أنسا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسم. فهو ظاهر جدّا فى أن المجعول مهرا هو نفس العتق. والتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى ولو كانت القيامة مجهولة، فإن فى صحة العقد بالشرط المذكور وجها عند الشافعية.
وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر، ولكنه من خصائصه، وممن جزم بذلك الماوردى. وقال آخرون: قوله: «أعتقها وتزوجها» معناه: أعتقها ثم تزوجها، فلما لم يعلم أنه ساق لها صداقا قال: أصدقها نفسها، أى: لم يصدقها شيئا فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق، ومن ثم قال أبو الطيب الطبرى من الشافعية، وابن المرابط من المالكية ومن تبعهم: أنه قول أنس قاله ظنّا من قبل نفسه ولم يرفعه. ويعارضه ما أخرجه الطبرانى وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: أعتقنى النبى- صلى الله عليه وسلم- وجعل عتقى صداقى. وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسا قال ذلك بناء على ظنه.
ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها من غير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبى- صلى الله عليه وسلم- دون غيره. ويحتمل: أنه أعتقها بغير عوض، وتزوجها بغير مهر فى الحال، ولا فى المال، قال ابن الصلاح: معناه أن العتق حل محل الصداق وإن لم يكن صداقا، قال: وهذا كقولهم الجوع زاد من لا زاد له، قال: وهذا الوجه أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النووى فى «الروضة» .
وممن جزم بأن ذلك كان من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقى قال: وكذا نقله المزنى عن الشافعى قال: وموضع الخصوصية، أنه
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4201) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، وأطرافه (371 و 947 و 2228 و 4200 و 5086 و 5169) .(2/334)
أعتقها مطلقا وتزوجها بغير مهر ولا شهود، وهذا بخلاف غيره. انتهى. وقال النووى فى شرح مسلم: الصحيح الذى اختاره المحققون، أنه أعتقها تبرعا بلا عوض ولا شرط، ثم تزوجها برضاها من غير صداق، والله أعلم. قاله الحافظ ابن حجر.
* واختلف فى انحصار طلاقه- صلى الله عليه وسلم- فى الثلاث،
وعلى الحصر، قيل: تحلل له من غير محلل، وقيل لا تحل له أبدا.
* وفى وجوب نفقة زوجاته
وجهان، قال النووى: الصحيح:
الوجوب، انتهى. ولا يجب عليه القسم فيما قاله طوائف من أهل العلم، وبه جزم الاصطخرى من الشافعية، والمشهور عندهم وعند الأكثرين الوجوب.
وفى حل الجمع له بين المرأة وخالتها وعمتها وجهان، لا أختها وبنتها وأمها، قالوا: ومرجع غالب هذه الخصائص إلى أن النكاح فى حقه كالتسرى فى حقنا.
* وكان له- صلى الله عليه وسلم- أن يصطفى ما شاء من المغنم قبل القسمة
من جارية وغيرها.
* وأبيح له القتال بمكة والقتل بها،
وجواز دخول مكة بغير إحرام مطلقا. ذكره ابن القاص، واستدلوا له بحديث أنس عند الستة: (دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر) «1» وذلك من كونه- صلى الله عليه وسلم- كان مستور الرأس بالمغفر، والمحرم يجب عليه كشف رأسه. ومن تصريح جابر والزهرى ومالك بأنه لم يكن محرما.
وأبدى ابن دقيق العيد لستر الرأس احتمالا فقال: يحتمل أن يكون لعذر. انتهى. وتعقبه الشيخ ولى الدين ابن العراقى فقال: هذا يرده تصريح جابر وغيره: قال: وهذا الاستدلال فى غير موضع الخلاف المشهور، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان خائفا من القتال متأهبا، ومن كان كذلك فله الدخول عندنا بلا إحرام بلا خلاف عندنا، ولا عند أحد نعلمه.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.(2/335)
وقد استشكل النووى فى شرح المهذب ذلك، لأن مذهب الشافعى أن مكة فتحت صلحا خلافا لأبى حنيفة فى قوله: إنها فتحت عنوة، وحينئذ فلا خوف. ثم أجاب عنه: بأنه- صلى الله عليه وسلم- صالح أبا سفيان، وكان لا يأمن غدر أهل مكة، فدخلها صلحا وهو متأهب للقتال إن غدروا. انتهى.
وقد ذكرت ما فى فتح مكة من المباحث فى قصة فتحها من المقصد الأول. ثم إن غيره- صلى الله عليه وسلم- إذا لم يكن خائفا، فقال أصحابنا: إن لم يكن ممن يتكرر دخوله، ففى وجوب الإحرام عليه قولان: أصحهما عند أكثرهم:
أنه لا يجب، وقطع به بعضهم، فإن تكرر دخوله كالحطابين ونحوهم ففيه خلاف مرتب وهو أولى بعدم الوجوب وهو المذهب.
وقال الحنابلة بوجوب الإحرام إلا على الخائف وأصحاب الحاجات، وأوجبه المالكية فى المشهور عندهم على غير ذوى الحاجات المتكررة، وأوجبه الحنفية مطلقا إلا من كان داخل الميقات. وقد تحرر أن المشهور من مذهب الشافعى: عدم الوجوب مطلقا. ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب إلا فيما استثنى.
* ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقضى بعلمه من غير خلاف.
وأن يقضى لنفسه ولولده، وأن يشهد لنفسه ولولده. ولا تكره له الفتوى والقضاء فى حال الغضب، كما ذكره النووى فى شرح مسلم، وقد قضى للزبير بشراج الحرة «1» بعد أن أغضبه خصم الزبير. لعصمته- صلى الله عليه وسلم-، فلا يقول فى الغضب إلا كما يقول فى الرضى.
* وكان له أن يدعو لمن شاء بلفظ الصلاة،
وليس لنا أن نصلى إلا على نبى أو ملك.
* وكان له أن يقتل بعد الأمان.
وأن يلعن من شاء بغير سبب:
واستبعد ذلك.
* وجعل الله شتمه ولعنه قربة للمشتوم والملعون
لدعائه- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) موضع معروف بالمدينة، والقصة أخرجها البخارى (2360) فى المساقاة، باب: مسكر الأنهار، ومسلم (2357) فى الفضائل، باب: وجوب اتباعه- صلى الله عليه وسلم-.(2/336)
بذلك «1» . قاله ابن القاص، وردوه عليه، حكاه الحجازى فى مختصر الروضة عن نقل الرافعى.
* وكان يقطع الأراضى قبل فتحها،
لأن الله ملكه الأرض كلها. وأفتى الغزالى بكفر من عارض أولاد تميم الدارى فيما أقطعهم. وقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقطع أرض الجنة فأرض الدنيا أولى.
القسم الرابع: فيما اختص به- صلى الله عليه وسلم- من الفضائل والكرامات.
* منها: أنه أول النبيين خلقا
«2» ، كما تقرر فى أول هذا الكتاب، وأنه كان نبيّا وآدم بين الروح والجسد، رواه الترمذى من حديث أبى هريرة.
* ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق
كما مر.
* ومنها: أنه أول من قال: «بلى» يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
رواه أبو سهل القطان فى جزء من أماليه.
* ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله
«3» ، رواه البيهقى وغيره.
* ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش،
وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها «4» . رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار.
__________
(1) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (2600) فى البر والصلة، باب: من لعنه النبى- صلى الله عليه وسلم- أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة من حديث عائشة- رضى الله عنها-، و (2601) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه الترمذى (3609) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وأحمد فى «المسند» (4/ 66) و (5/ 59 و 379) من حديث ميسرة الفجر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4581) بلفظ: «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» .
(3) قلت: وفى ذلك مخالفة لقول الله عز وجل وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سورة الذاريات: 56، كما أن الأحاديث التى يستدلون بها فى هذا الأمر ضعيفة جدّا، بل وموضوعة أيضا.
(4) قلت: وهو مثل ما قبله، ولو كان صحيحا لذكره أصحاب الصحاح أو السنن أو حتى أصحاب المسانيد والمعاجم.(2/337)
* ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن بعده، أن يؤمنوا به وينصروه
، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «1» . قال على بن أبى طالب: لم يبعث الله نبيّا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد فى محمد- صلى الله عليه وسلم- لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قومه.
* ومنها: أنه وقع التبشير به فى الكتب السالفة
كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.
* ومنها: أنه لم يقع فى نسبه من لدن آدم سفاح
«2» . رواه البيهقى والطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم فى الدلائل.
* ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده
رواه الخرائطى- فى الهواتف- وغيره.
* ومنها: أنه ولد مختونا مقطوع السرة،
رواه الطبرانى، وتقدم ما فيه من البحث فى أول الكتاب.
* ومنها: أنه خرج نظيفا،
ما به قذر، رواه ابن سعد.
* ومنها: أنه وقع إلى الأرض ساجدا رافعا أصبعيه كالمتضرع المبتهل.
رواه أبو نعيم من حديث ابن عباس. ورأت أمه عند ولادته نورا خرج منها أضاء له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات الأنبياء. رواه الإمام أحمد، وكان مهده- صلى الله عليه وسلم- يتحرك بتحريك الملائكة، كما ذكره ابن سبع فى الخصائص، وكان القمر يحدثه وهو فى مهده، ويميل حيث أشار إليه، رواه ابن طغر بك فى «النطق المفهوم» وغيره. وتكلم فى المهد، رواه الواقدى وابن سبع، وظللته الغمامة فى الحر، رواه أبو نعيم والبيهقى، ومال إليه فىء الشجرة إذ سبق إليه، رواه البيهقى.
__________
(1) سورة آل عمران: 81.
(2) حسن: والحديث أخرجه ابن سعد عن ابن عباس كما فى «صحيح الجامع» (3223) .(2/338)
* ومنها: شق صدره الشريف
«1» . رواه مسلم وغيره.
* وغطه جبريل عند ابتداء الوحى ثلاث غطات.
عدّ هذه بعضهم من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- كما نقله الحافظ ابن حجر، قال: ولم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحى.
* ومنها: أن الله تعالى ذكره فى القرآن عضوا عضوا،
فقلبه بقوله:
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «2» . وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ «3» ، ولسانه بقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «4» ، وقوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ* «5» . وبصره بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «6» ، ووجهه بقوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ «7» ، ويده وعنقه بقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «8» ، وظهره وصدره بقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
__________
(1) قلت: ثبت ذلك فى أحاديث صحيحة منها ما أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة فى الإسراء، ومسلم (162) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وكان ذلك ليلة الإسراء به- صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكر العلماء مرات أخرى لشق صدره، منها ما كان وهو صغير عند حليمة مرضعته وقد ذكر العلماأ أن الشق الأول كان لنزع العلقة التى قيل له عندها هذا حظ الشيطان منك، والشق الثانى للاستعداد للتلقى الحاصل له ليلة الإسراء، كما روى الطيالسى والحارث فى مسنديهما من حديث عائشة أن الشق وقع مرة أخرى عند مجىء جبريل له بالوحى فى غار حراء، والله أعلم، ومناسبته ظاهرة لتلقى الوحى، كما روى أنه شق صدره أيضا وهو ابن عشر سنين أو نحوها فى قصة له مع عبد المطلب أخرجها أبو نعيم فى الدلائل، وروى مرة خامسة، ولكنها لا تثبت، انظر فى ذلك «فتح البارى» لابن حجر (1/ 460) .
(2) سورة النجم: 11.
(3) سورة الشعراء: 193، 194.
(4) سورة النجم: 3.
(5) سورة مريم: 97.
(6) سورة النجم: 17.
(7) سورة البقرة: 144.
(8) سورة الإسراء: 29.(2/339)
صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ «1» . واشتق اسمه من اسم الله «المحمود» ويشهد له ما أخرجه البخارى فى تاريخه الصغير من طريق على بن زيد، قال: كان أبو طالب يقول:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وهو مشهور لحسان بن ثابت. وسمى أحمد، ولم يسم به أحد قبله «2» .
رواه مسلم. ولأحمد من حديث على: أعطيت أربعا لم يعطهن أحد قبلى فذكر منها: وسميت أحمد «3» .
* ومنها أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يبيت جائعا، ويصبح طاعما
يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، كما سيأتى البحث فيه- إن شاء الله تعالى- فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- من مقصد عباداته.
* وكان يرى من خلفه كما يرى أمامه
«4» ، رواه مسلم.
ويرى فى الليل وفى الظلمة كما يرى بالنهار والضوء «5» . رواه البيهقى.
* وكانت ريقه يعذب الماء الملح،
رواه أبو نعيم. ويجزى الرضيع، رواه البيهقى.
* ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا مشى فى الصخر غاصت قدماه فيه،
كما هو مشهور قديما وحديثا على الألسنة «6» ، ونطق به الشعراء فى منظومهم، والبلغاء فى منثورهم، مع اعتضاده بوجود أثر قدمى الخليل إبراهيم- عليه السّلام- فى حجر المقام المنوه به فى التنزيل فى قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ
__________
(1) سورة الشرح: 1- 3.
(2) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2355) فى الفضائل، باب: فى أسمائه- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: وقد تقدم.
(4) صحيح: وقد تقدم.
(5) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 70) .
(6) قلت: لم يثبت ذلك فى شىء من كتب السنة أو السير.(2/340)
إِبْراهِيمَ «1» . وهو البالغ تعيينه- وأنه أثره- مبلغ التواتر، القائل فيه أبو طالب:
وموطئ إبراهيم فى الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل
وبما فى البخارى من حديث أبى هريرة مرفوعا من معجزة تأثير ضرب موسى فى الحجر ستّا أو سبعا إذ فرّ بثوبه لما اغتسل «2» . إذ ما خص نبى بشىء من المعجزات والكرامات إلا ولنبينا- صلى الله عليه وسلم- مثله، كما نصوا عليه، مع ما يؤيد ذلك: وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة- على ما قيل- فى مسجد بطيبة، حتى عرف المسجد بها، بحيث يقال له مسجد البغلة، وما ذاك إلا من سره السارى فيها ليكون ذلك أقوى فى الآية. وأوضح فى الدلالة على إيتائه- صلى الله عليه وسلم- هذه الآية التى أوتيها الخليل فى حجر المقام على وجه أعلى منه.
بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازى فى المغانم المطابة بعد ذكره لأثر البغلة ومسجدها: وفى غربى هذا المسجد أثر كأنه أثر مرفق يذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- اتكأ عليه ووضع مرفقه عليه، وعلى حجر آخر أثر الأصابع، والناس يتبركون بهما.
وقال السيد نور الدين السمهودى فى كتاب «وفاء الوفا» بعد إيراد ذلك:
قلت ولم أقف فى ذلك على أصل إلا أن ابن النجار قال فى المساجد التى أدركها خرابا بالمدينة ما لفظه: ومسجدان قرب البقيع أحدهما يعرف بمسجد الإجابة، والثانى يعرف بمسجد البغلة، فيه إسطوان واحد، وهو خراب، وحوله نشز من الحجارة، فيه أثر يقولون إنه أثر حافر بغلة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وانتهى.
* وكان إبطه- صلى الله عليه وسلم- لا شعر عليه،
قاله القرطبى، وكان أبيض غير متغير اللون، كما ذكره الطبرى وعده من الخصائص، وذكره بعض الشافعية،
__________
(1) سورة آل عمران: 97.
(2) صحيح: والقصة أخرجها البخارى (278) فى الغسل، باب: من اغتسل عريانا وحده فى الخلوة، ومسلم (339) فى الحيض، باب: جواز الاغتسال عريانا فى الخلوة، وفى الفضائل، باب: من فضائل موسى- عليه السّلام-.(2/341)
لحديث أنس «1» - المتفق عليه- أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه فى الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه.
وقال الشيخ جمال الدين الإسنوى فى «المهمات» إن بياض الإبط كان من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك فى شىء من الكتب المعتمدة، الخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإن الشعر إذا نتف بقى المكان أبيض، وإن بقى فيه آثار الشعر، ولذلك ورد فى حديث عبد الله بن أقرم الخزاعى، أنه صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه إذا سجد «2» ، خرجه الترمذى، وحسنه، والنسائى وابن ماجه، وقد ذكر الهروى فى «الغريبين» ، وابن الأثير فى «النهاية» أن العفرة بياض ليس بالناصع ولكن كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذى جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر.
نعم الذى تعتقد فيه- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفا طيب الرائحة، كما ثبت فى الصحيح.
* وكان- صلى الله عليه وسلم- يبلغ صوته وسمعه
ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه.
* وكان تنام عينه ولا ينام قلبه
«3» . رواه البخارى.
* وما تثاءب قط.
رواه ابن أبى شيبة والبخارى فى تاريخه من مرسل
__________
(1) تقدم حديث أنس.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (274) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التجافى فى السجود، والنسائى (2/ 213) فى الافتتاح، باب: صفة السجود، وابن ماجه (881) فى إقامة الصلاة، باب: السجود، وأحمد فى «المسند» (4/ 35) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(3) صحيح: وقد تقدم.(2/342)
يزيد بن الأصم قال: ما تثاءب نبى قط، ويؤيد ذلك. أن التثاؤب من الشيطان «1» رواه البخارى.
* وما احتلم قط،
وكذلك الأنبياء «2» . رواه الطبرانى. وكان عرقه أطيب من المسك. رواه أبو نعيم وغيره.
وإذا مشى مع الطويل طاله،
رواه البيهقى، ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤى له ظل فى شمس ولا قمر. ويشهد له أنه- صلى الله عليه وسلم- لما سأل الله تعالى أن يجعل فى جميع أعضائه وجهاته نورا، ختم بقوله: «واجعلنى نورا» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يقع على ثيابه ذباب قط.
نقله الفخر الرازى، ولا يمتص دمه البعوض، كذا نقله الحجازى وغيره. وما آذاه القمل، قاله ابن سبع فى «الشفاء» والسبتى فى «أعذب الموارد» .
ومنها: انقطاع الكهنة عند مبعثه،
وحراسة السماء من استراق السمع، والرمى بالشهب، قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها، فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى- عليه السّلام- منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد- صلى الله عليه وسلم- منعوا من السماوات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب، وهو الشعلة من النار، فلا يخطئ أبدا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس فى البرارى، وهذا لم يكن ظاهرا قبل مبعث النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولم يذكره أحد قبل زمانه. وإنما ظهر فى بدىء أمره، وكان ذلك أساسا لنبوته.
وقال معمر قلت للزهرى: أكان يرمى بالنجوم فى الجاهلية؟ قال: نعم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3289) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (2994) فى الزهد والرقائق، باب: تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) إسناده ضعيف وقد تقدم.(2/343)
قلت: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «1» الآية، قال:
غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد- صلى الله عليه وسلم-.
وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن فى شدة الحراسة إلا بعد مبعثه، وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمى الشياطين ثم يعود إلى مكانه. ذكره البغوى.
ومنها أنه أتى بالبراق ليلة الإسراء مسرجا ملجما،
قيل كانت الأنبياء إنما تركبه عريانا.
ومنها أنه أسرى به- صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
وعرج به إلى المحل الأعلى، وأراه من آيات ربه الكبرى، وحفظه فى المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وأحضر الأنبياء له وصلى بهم وبالملائكة إماما.
وأطلعه على الجنة والنار. وعزيت هذه للبيهقى.
ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه
«2» ، كما يأتى فى مقصد الإسراء- إن شاء الله تعالى-، وجمع الله له بين الكلام والرؤية، وكلمه تعالى فى الرفيع الأعلى، وكلم موسى بالجبل.
ومنها أن الملائكة تسير معه حيث سار
يمشون خلف ظهره وقاتلت معه- كما مر- فى غزوة بدر وحنين.
ومنها: أنه يجب علينا أن نصلى ونسلم عليه،
لآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «3» إلى آخرها، ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم.
ومنها: أنه أوتى الكتاب العزيز، وهو أمى
لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة.
__________
(1) سورة الجن: 9.
(2) قلت: لم يثبت هذا، والصحيح أنه رأى جبريل على صورته التى خلقه الله عليها مرتين، مرة حين البعثة، والآخرى ليلة الإسراء، كما قال علماء التفسير عند قول الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى سورة النجم: 13.
(3) سورة الأحزاب: 56.(2/344)
ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف،
حتى سعى كثير من الملحدة والمعطلة لا سيما القرامطة فى تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا على إطفاء شىء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلمه، ولا تشكيك المسلمين فى حرف من حروفه، قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «1» الآية.
وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب، جامعا لأخبار القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، الذى قطع عمره فى تعلم ذلك.
ويسر الله تعالى حفظه لمتعلميه، وقربه على متحفظيه، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ «2» وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منها، فكيف بالجم الغفير على مرور السنين عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان فى أقرب مدة.
ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف
«3» تسهيلا علينا، وتيسيرا وشرفا ورحمة وخصوصية لفضلنا.
ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه،
فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «4» أى من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى فى صفة القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «5» ، وقوله: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «6» .
__________
(1) سورة فصلت: 42.
(2) سورة القمر: 17.
(3) حديث النزول على سبعة أحرف، أخرجه البخارى (4992) فى فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم (818) فى صلاة المسافرين، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
(4) سورة الحجر: 9.
(5) سورة فصلت: 42.
(6) سورة النساء: 82.(2/345)
فإن قلت: هذه الآية تنفى الاختلاف فيه، وحديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» المروى فى البخارى عن عمر، يثبته.
فأجاب الجعبرى فى أول شرحه للشاطبية: بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفى اختلاف تناقض، فموردهما مختلف. انتهى.
فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن فى الصحف، وقد وعد الله تعالى بحفظه، وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه؟
فالجواب: - كما قال الرازى- إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال: وقال أصحابنا:
وفى هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من أول كل سورة، لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا عن التغيير، وإلا لما كان محفوظا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لوجب أيضا أن يظن بهم النقصان. وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة. واختلف فيه، كيف يحفظ القرآن؟
فقال بعضهم: حفظه بأن يجعله معجزا مباينا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه، لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه تغير نظم القرآن، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن. وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفاده، بل قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف. وقال آخرون: المراد بالحفظ هو أن أحدا لو حاول أن يغير بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: هذا كذب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير فى حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا، ولم يتفق لشىء، من الكتب مثل هذا الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتغيير والتحريف، وقد صان الله تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف، مع أن دواعى الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده، وقد انقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة سنة، وهو بحمد الله فى زيادة من الحفظ.(2/346)
ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- خص باية الكرسى،
وبالمفصل وبالمثانى، وبالسبع الطوال، كما فى حديث ابن عباس بلفظ: «وأعطيت خواتيم سورة البقرة من كنوز العرش، وخصصت به دون الأنبياء، وأعطيت المثانى مكان التوراة، والمئين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل» . رواه أبو نعيم فى الدلائل.
وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «1» ، وفى البخارى من حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: «أم القرآن هى السبع المثانى والقرآن العظيم» «2» سائرة.
واختلفوا: لم سميت مثانى، فعن الحسن وابن عباس وقتادة لأنها تثنى فى الصلاة، فتقرأ فى كل صلاة، وقيل لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين، نصفها ثناء ونصفها دعاء، كما فى حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-:
«يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» «3» . وقيل لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وعن مجاهد: لأن الله استثناها وادخرها لهذه الأمة، فما أعطاها غيرهم.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن السبع المثانى هى السبع الطوال، أولها سورة البقرة، وآخرها سورة الأنفال مع التوبة، وقال بعضهم:
سورة يونس بدل الأنفال: قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثانى لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها. وقال طاووس:
القرآن كله مثانى، قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «4» ، وسمى القرآن مثانى لأن القصص ثنيت فيه والله أعلم.
__________
(1) سورة الحجر: 87.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4/ 47) فى التفسير، باب: قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (395) فى الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة.
(4) سورة الزمر: 23.(2/347)
ومنها: أنه أعطى مفاتيح الخزائن
«1» . قال بعضهم: وهى خزائن أجناس العالم ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم، فكل ما ظهر من رزق العالم فإن الاسم الإلهى لا يعطيه إلا عن محمد- صلى الله عليه وسلم- الذى بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب فلا يعلمها إلا هو، وأعطى هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن.
ومنها: أنه أوتى جوامع الكلم،
فالكلم جمع كلمة، وكلمات الله تعالى لا تنفد، فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطى الإعجاز بالقرآن الذى هو كلام الله تعالى، وهو المترجم عن الله تعالى، فوقع الإعجاز فى الترجمة التى هى له، فإن المعانى المجردة عن المواد لا يتصور الإعجاز بها وإنما الإعجاز ربط هذه المعانى بصور الكلم القائم من نظم الحروف، فهو لسان الحق وسمعه وبصره.
ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة،
قال بعضهم: وهو من الكفت، وهو الضم، قال الله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً «2» تضم الأحياء على ظهرها، والأموتا فى بطنها، كذلك ضمت شريعته- صلى الله عليه وسلم- جميع الناس، فلا يسمع به أحد إلا لزمه الإيمان به، ولما سمع الجن القرآن يتلى قالوا: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ «3» الآية، فضمت شريعته الإنس والجن، وعمت رحمته التى أرسل بها العالم، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» ، فمن لم تنله رحمته فما ذلك من جهته، وإنما ذلك من جهة القابل. فهو كالنور الشمسى أفاض شعاعه على الأرض، فمن استتر عنه فى كنّ أو ظل جدار فهو الذى لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع. انتهى.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ومسلم (2296) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا- صلى الله عليه وسلم-، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-.
(2) سورة المرسلات: 25.
(3) سورة الأحقاف: 31.
(4) سورة الأنبياء: 107.(2/348)
فإن قلت: إن نوحا كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء فى حديث جابر وغيره «وكان النبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود» «1» وفى رواية «إلى الناس كافة» .
أجاب الحافظ ابن حجر، - رحمه الله تعالى-: بأن هذا العموم الذى حصل لنوح- عليه السّلام- لم يكن فى أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذى وقع، وهو انحصار الخلق فى الموجودين بعد هلاك سائر الناس. وأما نبينا- صلى الله عليه وسلم- فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك.
وأما قول أهل الموقف لنوح- كما صح فى حديث الشفاعة-: إنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى فى عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
واستدل بعضهم لعموم بعثته: بكونه دعا على جميع من فى الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «2» ، وقد ثبت أنه أول الرسل.
وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم فى أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم. فأجيب:
وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ فى زمن نوح غيره. ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك بقاء شريعته. انتهى.
وأما قول بعض اليهود: أن نبينا محمدا- صلى الله عليه وسلم- إنما هو مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد. والدليل عليه أنهم- أى اليهود- سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، فوجب أن يكون كل ما يقوله حقّا، وقد ثبت بالتواتر أنه
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (335) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.... ومسلم (521) فى المساجد، باب: رقم (1) .
(2) سورة الإسراء: 15.(2/349)
يدعى أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم «1» .
ومنها: نصره- صلى الله عليه وسلم- بالرعب مسيرة شهر
«2» ، والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع، لعموم رعبه فى قلوب أعدائه، فلا يقبل الرعب إلا عدو مقصود ليتميز السعيد من الشقى، ومفهوم هذا: أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب فى هذه المدة، ولا فى أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: «ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بينى وبينهم مسيرة شهر» «3» فالظاهر اختصاصه به مطلقا. وإنما جعل الغاية شهرا، لأنه لم يكر بين بلده- صلى الله عليه وسلم- وبين أحد من أعدائه أكثر من شهر وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى ولو كان وحده بغير عسكر، وهل هى حاصلة لأمته من بعده، فيه احتمال.
ومنها: إحلال الغنائم ولم تحل لأحد قبله.
وقد كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له فى الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته «4» . قال بعضهم: أعطى- صلى الله عليه وسلم- ما يوافق شهوة أمته، لأن النفوس لها التذاذ بها، لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة، فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها فى مقابلة ما قاسوه من الشدة والتعب.
ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا
«5» ، والمراد: موضع
__________
(1) يقصد كتاب «معالم السنن» للخطابى.
(2) صحيح: وقد ثبت ذلك فى حديث أخرجه مسلم (221) فى المساجد، باب: رقم (1) من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(3) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 222) ، من حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-.
(4) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (3124) فى فرض الخمس، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أحلت لكم الغنائم» ، ومسلم (1747) فى الجهاد والسير، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: وهو جزء من حديث جابر المتقدم قريبا.(2/350)
سجود، أى لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن المكان المبنى للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة فى جميعها كان كالمسجد فى ذلك. وقيل المراد: جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، وجعلت لغيرى مسجدا ولم تجعل له طهورا، لأن عيسى كان يسيح فى الأرض، ويصلى حيث أدركته الصلاة، قاله ابن التين ومن قبله الداودى.
وقيل: إنما أبيح لهم فى موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة فأبيح لهم فى جميع الأرض، إلا فيما تيقنوا نجاسته.
والأظهر: ما قاله الخطابى، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة فى أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ «وكان من قبلى إنما كانوا يصلون فى كنائسهم» وهذا نص فى موضع النزاع فتثبت الخصوصية. ويؤيده ما رواه البزار من حديث ابن عباس، نحو حديث جابر وفيه: ولم يكن من الأنبياء أحد يصلى حتى يبلغ محرابه قاله فى فتح البارى «1» .
ومنها: أن معجزته- صلى الله عليه وسلم- مستمرة إلى يوم القيامة،
ومعجزات سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العظيم لم تزل حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة.
ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة.
قال القاضى عياض: أما كونها كثيرة فهذا القرآن وكله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين بسورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «2» أو آية فى قدرها، وذهب بعضهم: إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة، وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة منه معجزة، وإن كانت من كلمة أو كلمتين.
قال القاضى: والحق ما ذكرناه أولا، لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «3» فهو أقل ما تحداهم به، مع ما ينصر هذا القول من نظر وتحقيق
__________
(1) انظر «فتح البارى» (8/ 258) .
(2) سورة الكوثر: 1.
(3) سورة البقرة: 23.(2/351)
يطول بسطه. وإذا كان هذا، ففى القرآن من الكلمات نحو سبع وسبعين ألف كلمة ونيف على عدد بعضهم، وعدد كلمات إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أزيد من سبعة آلاف جزء، فكل واحد منها معجز فى نفسه، ثم إعجازه- كما تقدم- بوجهين.
طريق بلاغته، وطريق نظمه، فصار فى كل جزء من هذا العدد معجزتان فتضاعف العدد من هذا الوجه، ثم فيه وجوه إعجاز أخر، من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون فى السورة الواحدة من هذه التجزئة الإخبار عن أشياء من الغيب، كل خبر منها بنفسه معجز، فتضاعفت العدد كرة أخرى. ثم وجوه الإعجاز الآخر التى ذكرناها توجب التضعيف، هذا فى حق القرآن، فلا يكاد يأخذ العدد معجزاته، ولا يحوى الحصر براهينه، انتهى.
ومن ذلك انشقاق القمر وتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم-، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك، كما ذكره ابن عبد السلام وغيره، وتقدم ما فيه من المباحث.
ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين،
قال- صلى الله عليه وسلم-: «مثلى ومثل الأنبياء قبلى كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين» «1» . رواه البخارى ومسلم.
ومنها: أن شرعه مؤبد إلى يوم الدين،
وناسخ لجميع شرائع النبيين، وأنه أكثر الأنبياء تابعا كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «2» . رواه الشيخان من حديث أبى هريرة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3535) فى المناقب، باب: خاتم النبيين- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2286) فى الفضائل، باب: ذكر كونه- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4981) فى فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحى، ومسلم (152) فى الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس.(2/352)
ومنها: أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه،
كما سيأتى تقريره- إن شاء الله تعالى-.
ومنها: أنه أرسل إلى الجن اتفاقا،
والدليل على ذلك قبل الإجماع:
الكتاب والسنة، قال تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «1» ، وقد أجمع المفسرون على دخول الجن فى هذه الآية، وهو مدلول لفظها، فلا يخرج عنه إلا بدليل. وإن قيل إن الملائكة خارجون من ذلك فلا يضر، لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين، ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة. وقال تعالى فى الأحقاف: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ «2» ، فأمر بعضهم بعضا بإجابته دليل على أنه داع لهم، وهو معنى بعثته إليهم، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما السنة، ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «فضلت على الأنبياء بست» فذكر منها «وأرسلت إلى الخلق كافة» «3» فإنه يشمل الإنس والجن، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل فلا يجوز. والكلام فيه كالكلام فى آية الفرقان [1] .
فإن قلت: إن قوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «4» وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «5» ظاهر فى اختصاص رسالته- صلى الله عليه وسلم- بالإنس، واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر.
فالجواب: إن هذا إنما يتمشى على مذهب الدقاق القائل بأن مفهوم اللقب حجة، و «الناس» من قبيل اللقب، فإن المسألة المترجمة فى الأصول «بمفهوم اللقب» لا تختص باللقب بل الأعلام كلها وأسماء الأجناس كلها كذلك ما لم تكن صفة. و «الناس» اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له. فهذه
__________
(1) سورة الفرقان: 1.
(2) سورة الأحقاف: 31.
(3) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (5230) فى المساجد، باب: رقم (1) .
(4) سورة الأعراف: 158.
(5) سورة سبأ: 28.(2/353)
الآية ليس فيها أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم إلا على مذهب الدقاق، بل ولا يتم على مذهب التمسك بهذا المفهوم أيضا لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض آخر سواه فى تخصيص ذلك الاسم، وحيث ظهر غرض لا يقول بالمفهوم، بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض فى الآية التعميم فى جميع الناس، وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم، فلا يلزم نفى الرسالة عن غيرهم، لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره. وإنما خاطب الناس لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس، والتعميم فيهم لا النفى عن غيرهم، وهذا إذا قلنا إن لفظ الناس لا يشمل الجن، فإن قلنا إنه يشملهم فواضح.
والخلاف فيه مبنى على الخلاف فى اشتقاق «الناس» ، هل هو من النوس، وهو الحركة، أو من الأنس ضد الوحشة؟ فإذا قلنا بالأول أطلق على الفريقين، ولكن استعماله فى الإنس أغلب، فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم، وإذا قلنا بالثانى فلا، لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن فى الآية إما ممتنع وإما قليل فلا يحمل عليه، وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها، لكنها لا تدل على خلافه.
وأما قول الضحاك ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم، لقوله تعالى:
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
«1» فهو ظاهر الآية، لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك فى هذه الملة. وإنما محل الخلاف فى ذلك فى الملل المتقدمة خاصة، وأما فى هذه الملة فنبينا محمد، - صلى الله عليه وسلم- هو المرسل إليهم وإلى غيرهم، ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقا، ولا ينبغى أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع، على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس، ولم يكن من الجن قط رسول، لكن لما جمعوا مع الجن فى الخطاب صح ذلك. ونظيره: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» وهما يخرجان من الملح دون العذب، وقيل الرسل من الجن
__________
(1) سورة الأنعام: 130.
(2) سورة الرحمن: 22.(2/354)
رسل الرسل من بنى آدم إليهم لا رسل الله، لقوله تعالى: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «1» ، قاله بعض العلماء.
ومنها: أنه أرسل الملائكة
فى أحد القولين، ورجحه السبكى. قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «2» ولا نزاع أن المراد بالعبد هاهنا محمد- صلى الله عليه وسلم-، والعالم هو ما سوى الله تعالى، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، وبطل بذلك قول من قال:
إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض، لأن لفظ «العالمين» يتناول جميع المخلوقات، فتدل الآية على أنه رسول إلى جميع الخلق.
ولو قيل لمدعى «خروج الملائكة من هذا العموم» أقم الدليل عليه ربما عجز عنه، فإنه يحتمل أن يكون من الملائكة من أنذره- صلى الله عليه وسلم- إما ليلة الإسراء وإما غيرها. لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم فى شىء خاص أن يكون بالشريعة كلها.
وإذا قلنا إن الملائكة هم مؤمنو الجن السماوية، فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذى قام الإجماع عليه، لزم عموم الرسالة لهم، لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ.
والجمهور: على أن «العالمين» فى آية الفرقان عام مخصوص بالجن والإنس كما فسر بهما حديث «وأرسلت إلى الخلق كافة» المروى فى مسلم.
وصرح الحليمى والبيهقى- فى الباب الرابع من شعب الإيمان- بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يرسل إلى الملائكة، وفى الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه. وفى تفسير الإمام فخر الدين الرازى، والبرهان للنسفى: حكاية الإجماع فى تفسير آية الفرقان على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه العلامة الجلال المحلى والله أعلم.
__________
(1) سورة الأحقاف: 29.
(2) سورة الفرقان: 1.(2/355)
وعبارة النسفى: ثم إنهم قالوا هذه الآية تدل على أحكام: أولها: أن قوله: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «1» يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة. لكنا أجمعنا على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن رسولا إلى الملائكة، بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعا. وهو عبارة الإمام فخر الدين أيضا.
وقد تعقب الجلال المحلى العلامة كمال الدين بن أبى شريف فقال:
اعلم أن البيهقى نقل ذلك عن الحليمى، فإنه قال: هذا معنى كلام الحليمى، وفى قوله هذا إشعار التبرى من عهدته، وبتقدير أن لا إشعار فيه فلم يصرح بأنه مرضى عنده. وأما الحليمى فإنه وإن كان من أهل السنة فقد وافق المعتزلة فى تفضيل الملائكة على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-، وما نقله عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه.
وأما ما ذكره من حكاية الرازى والنسفى الإجماع على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن مرسلا إليهم، فقد وقع فى نسخ من تفسير الرازى «لكنا بيّنا» بدل «أجمعنا» ، على أن قوله: «أجمعنا» ليس صريحا فى إجماع الأمة، لأن مثل هذه العبارة تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين، بل لو صرح به لمنع، فقد قال الإمام السبكى فى قوله: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً قال المفسرون كلهم فى تفسيرها للجن والإنس، وقال بعضهم وللملائكة، انتهى.
وبالجملة: فالاعتماد على تفسير الرازى والنسفى فى حكاية إجماع انفردا بحكايته أمر لا ينتهض حجة على طريقة علماء النقل، لأن مدارك نقل الإجماع من كلام الأئمة وحفاظ الأمة كابن المنذر وابن عبد البر، ومن فوقهما فى الاطلاع كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة ومن يلحق بهم فى سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان لها من الشهرة عند علماء النقل ما يغنى عن بسط الكلام فيها.
واللائق بهذه المسألة التوقف عن الخوض فيها على وجه يتضمن دعوى القطع فى شىء من الجانبين، انتهى.
__________
(1) سورة الفرقان: 1.(2/356)
ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين،
كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» قال السمرقندى: يعنى للجن والإنس، وقيل لجميع الخلق، رحمة للمؤمن بالهداية ورحمة للمنافق بالأمان من القتل. وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبى إذا كذب أهلك الله من كذبه، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- أخر من كذبه إلى الموت أو القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة فى الدنيا والآخرة، فذاته- صلى الله عليه وسلم- كما روى- رحمة تعم المؤمن والكافر كما قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «2» وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا رحمة مهداة» «3» رواه الدارمى والبيهقى من حديث أبى هريرة، وسيأتى فى المقصد السادس مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى-. والله الموفق.
* ومنها: أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم فى القرآن،
فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا زكريا، يا يحيى، يا عيسى، ولم يخاطب هو فيه إلا ب «يا أيها الرسول» «يا أيها النبى» «يا أيها المزمل» «يا أيها المدثر» .
* ومنها: أنه حرم على الأمة نداءه باسمه،
قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «4» أى لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبى الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت، وقيل: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا فى جواز الإعراض والمساهلة فى الإجابة.
* ومنها: أنه يحرم الجهر له بالقول،
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
__________
(1) سورة الأنبياء: 107.
(2) سورة الأنفال: 33.
(3) تقدم.
(4) سورة النور: 63.(2/357)
آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «1» . قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ «2» كان أبو بكر لا يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا كأخى السرار «3» وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- ما كان يسمع كلام عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته «4» .
وكان ثابت بن قيس فى أذنه وقر، وكان جهوريّا، فلما نزلت تخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فتفقده ودعاه، فقال: يا رسول الله لقد أنزلت عليك هذه الآية، وإنى رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملى قد حبط، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة» «5» . قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة فى حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكشاف وانهزمت طائفة منهم، فقاتل حتى قتل.
* ومنها: أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ «6» ، إذ العقل يقتضى حسن الأدب ومراعاة الحشمة وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ «7»
__________
(1) سورة الحجرات: 2.
(2) سورة الحجرات: 2.
(3) ذكره الحافظ فى «الفتح» (8/ 591) وقال: وهذا مرسل، وقد أخرجه الحاكم موصولا نحوه، وأخرجه ابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبى بكر، ولم يذكر عن أبيه.
(4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4845) فى التفسير، باب: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنهما-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (3613) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (119) فى الإيمان، باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(6) سورة الحجرات: 4.
(7) سورة الحجرات: 5.(2/358)
أى لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- الموجبين للثناء والثواب.
* ومنها: أنه حبيب الله، وجمع له بين المحبة والخلة،
وسيأتى تحقيق ذلك وما فيه من المباحث فى آخر المقصد السابع، - إن شاء الله تعالى-.
* ومنها: أنه تعالى أقسم على رسالته وبحياته وببلده وعصره
، كما سيأتى فى المقصد السادس، - إن شاء الله تعالى-.
* ومنها: أنه كلم بجميع أصناف الوحى،
كما نقل عن ابن عبد السلام وسبق تحقيقه في المبعث من المقصد الأول.
* ومنها: أن إسرافيل هبط عليه، ولم يهبط على نبى قبله،
أخرجه الطبرانى من حديث ابن عمر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لقد هبط علىّ ملك من السماء ما هبط على نبى قبلى، ولا يهبط على أحد بعدى، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك أمرنى أن أخبرك إن شئت نبيّا عبدا، وإن شئت نبيّا ملكا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إلى أن تواضع، فلو أنى قلت نبيّا ملكا، لسارت الجبال معى ذهبا» «1» .
* ومنها: أنه سيد ولد آدم،
رواه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ:
«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» «2» وعند الترمذى من حديث أبى سعيد الخدرى «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر» «3» .
وإنما قال ذلك إخبارا عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدثا بنعمة الله عنده، وإعلاما لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: «ولا فخر» أى إن هذه الفضيلة التى نلتها كرامة من الله، لم أنلها من قبل نفسى، ولا بلغتها بقوتى، فليس لى أن أفتخر بها.
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (12/ 348) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 19) وقال: وفيه يحيى بن عبد الله البابلتى، وهو ضعيف.
(2) تقدم.
(3) تقدم.(2/359)
* ومنها: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،
قال الله تعالى:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» .
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- أنه أخبره الله تعالى بالمغفرة ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، ويدل له قولهم فى الموقف: «نفسى نفسى» . وقال ابن كثير فى تفسير هذه الآية- يعنى آية الفتح- لم يشاركه فيها غيره. وقد أخرج أبو يعلى والطبرانى والبيهقى عن ابن عباس قال: إن الله فضل محمدا- صلى الله عليه وسلم- على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء، قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء:
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «2» وقال لمحمد- صلى الله عليه وسلم-:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فقد كتب له براءة، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «3» وقال لمحمد: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «4» ، فأرسله إلى الإنس والجن.
* ومنها: أنه أكرم الخلق على الله
، فهو أفضل من كل المرسلين، وجميع الملائكة المقربين، وسيأتى الجواب عن قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث ابن عباس، عند مسلم: «ما ينبغى لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» «5» ونحو ذلك فى المقصد السادس- إن شاء الله تعالى-.
* ومنها: إسلام قرينه.
رواه مسلم من حديث ابن مسعود، والبزار من حديث ابن عباس.
__________
(1) سورة الفتح: 2.
(2) سورة الأنبياء: 29.
(3) سورة إبراهيم: 4.
(4) سورة سبأ: 28.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (3396) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، ومسلم (2377) فى الفضائل، باب: فى ذكر يونس- عليه السّلام-.(2/360)
* ومنها: أنه لا يجوز عليه الخطأ،
كما ذكره ابن أبى هريرة والماوردى:
وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووى فى شرح مسلم.
* ومنها: أن الميت يسأل عنه- ص فى قبره
، فعن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «وأما فتنة القبر فبى يفتنون وعنى يسألون، فإذا كان الرجل أجلس، فيقال له ما هذا الرجل الذى كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله» «1» . الحديث رواه أحمد والبيهقى.
* ومنها: أنه حرم نكاح أزواجه من بعده،
قال الله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «2» أى هن فى الحرمة كالأمهات، حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية، ولأنهن أزواج له فى الآخرة، وهذا فى غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا ففى حلها للأزواج طريقان: أحدهما طرد الخلاف، والثانى: القطع بالحل واختاره الإمام «3» والغزالى.
وأزواجه اللاتى توفى عنهن محرمات على غيره أبدا، وفى جواز النظر إليهن وجهان: أشهرهما المنع، ويثبت لهن حكم الأمومة فى احترامهن وطاعتهن وتحريم نكاحهن، لا فى جواز الخلوة بهن والنفقة عليهن والميراث.
ولا يتعدى ذلك إلى غيرهن فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح.
وقيل: إنما حرمن لأنه- صلى الله عليه وسلم- حى فى قبره، ولذا حكى الماوردى أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة. وفى التى فارقها فى الحياة- كالمستعيذة- والتى رأى بكشحها بياضا- أوجه: أحدها، يحرمن أيضا، وهو الذى نص عليه الشافعى وصححه فى الروضة، لعموم الآية، وليس المراد بمن بعده بعدية الموت بل بعدية النكاح. وقيل: لا. والثالث: وصححه إمام الحرمين والرافعى فى الصغير: تحريم المدخول بها فقط، لما روى أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة فى زمن عمر، فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم تكن مدخولا بها فكف. وفى أمة فارقها بعد وطئها أوجه ثالثها: تحرم إن فارقها بالموت- كمارية- ولا تحرم إن باعها فى الحياة. انتهى.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 139) ، وأصله فى الصحيح.
(2) سورة الأحزاب: 6.
(3) يقصد: إمام الحرمين، الإمام الجوينى.(2/361)
* ومنها: ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به
وليس ذلك لغيره، قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغى أن يكون مقصورا على النبى- صلى الله عليه وسلم-، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا فى درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته «1» ، انتهى.
* ومنها: أنه يحرم رؤية أشخاص أزواجه فى الأزر،
وكذا يحرم كشف وجوههن وأكفهن لشهادة أو غيرها، كما صرحه به القاضى عياض، وعبارته:
فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف فى الوجه والكفين، فلا يجوز كشف ذلك فى شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستقرات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ثم استدل بما فى الموطأ، أن حفصة لما توفى عمر- رضى الله عنه- سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها لتستر شخصها. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، فقد كن بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص.
انتهى.
وأما حكم نظر غير أزواجه ففى الروضة وأصلها عن الأكثرين: جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية وكفيها إذا لم يخف فتنة، مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين: الرافعى والنووى تقتضى رجحانه، وصوبه فى «المهمات»
__________
(1) قلت: روى الترمذى (3578) ، وابن ماجه (1385) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 138) عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافينى. قال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك» ، قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، إنى توجهت بك إلى ربى فى حاجتى هذه لتقضى لى، اللهم فشفعه فى» . ا. هـ إلا أن العلماء قد ذكروا أن هذا من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- حال حياته، لأن السائل قال: فشفعه فى، بمعنى: اقبل شفاعته (دعاءه) فى.(2/362)
لتصريح الرافعى فى الشرح بأن الأكثرين عليه، لكن نقل ابن العراقى أن شيخه البلقينى قال: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما فى المنهاج، وقد جزم به فى «التدريب» ، وقوة كلام الشرح الصغير تقتضى رجحانه، وعلله باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات. ونقلا فى «الروضة» و «أصلها» هذا الاتفاق وأقراه.
وعورض: بنقل القاضى عياض عن العلماء مطلقا: أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها فى الطريق، وإنما هو سنة، وعلى الرجال غض البصر، وحكاه عنه النووى فى شرح مسلم وأقره. قاله الشيخ نجم الدين ابن قاضى عجلون فى تصحيح المنهاج والله أعلم. وكان النكاح فى حقه- صلى الله عليه وسلم- عبادة مطلقا، كما قاله السبكى، وهو فى حق غيره ليس بعبادة عندنا، بل من المباحات، والعبادة عارضة له.
* ومنها: أن أولاد بناته ينسبون إليه،
قال- صلى الله عليه وسلم- فى الحسن: «إن ابنى هذا سيد» «1» رواه أبو يعلى.
* ومنها: أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه.
قال- صلى الله عليه وسلم-: «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببى ونسبى» «2» . والنسب بالولادة والسبب بالزواج. قيل: إن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره.
* ومنها: أنه لا يتزوج على بناته.
فعن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر يقول: «إن بنى هاشم بن المغيرة استأذنونى فى أن ينكحوا ابنتهم على بن أبى طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبى طالب أن طلق ابنتى وينكح ابنتهم، فإنما ابنتى بضعة
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 153) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» ، (7/ 63 و 64 و 114) ، والطبرانى فى «الكبير» (3/ 44 و 45) ، من حديث عمر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4527) .(2/363)
منى يريا بنى ما رابها، ويؤذينى ما آذاها» «1» أخرجه الشيخان، وصححه الترمذى.
وعنه (أن على بن أبى طالب خطب بنت أبى جهل، وعنده فاطمة بنت النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا على ناكح ابنة أبى جهل. قال المسور: فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- فسمعته حين تشهد قال: «أما بعد فإنى أنكحت أبا العاصى بن الربيع، فحدثنى فصدقنى، وإن فاطمة بنت محمد بضعة منى، وإنما أكره أن يفتنوها، وإنه والله لا تجتمع بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا» . قال: فترك على الخطبة) «2» : أخرجه الشيخان.
واسم بنت أبى جهل هذه: جويرية، أسلمت وبايعت، وتزوجها عتاب ابن أسيد، ثم أبان بن سعيد بن العاصى. قال أبو داود: حرم الله تعالى على على أن ينكح على فاطمة فى حياتها، بقوله عز وجل: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «3» .
وذكر الشيخ أبو على السنجى، فى شرح التلخيص: أنه يحرم التزوج على بنات النبى- صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون ذلك خاصّا بفاطمة- رضى الله عنها-، وقد علل- صلى الله عليه وسلم- بأن ذلك يؤذيه، وإذايته- صلى الله عليه وسلم- حرام بالاتفاق، وفى هذا تحريم أذى من يتأذى النبى- صلى الله عليه وسلم- بتأذيه، لأن إيذاء النبى- صلى الله عليه وسلم- حرام اتفاقا، قليله وكثيره. وقد جزم- صلى الله عليه وسلم- بأنه يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه فى حق فاطمة شىء فتأذت به فهو يؤذى النبى- صلى الله عليه وسلم- بشهادة هذا الخبر الصحيح.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5230) فى النكاح، باب: ذب الرجل عن ابنته فى الغيرة والإنصاف، ومسلم (2449) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3729) فى المناقب، باب: ذكر أصهار النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2449) فيما تقدم.
(3) سورة الحشر: 7.(2/364)
وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبى- صلى الله عليه وسلم- أقرب إلى خشية الافتتان فى الدين، ومع ذلك فكان- صلى الله عليه وسلم- يستكثر من الزوجات، وتوجد منهن الغيرة، ومع ذلك ما راعى- صلى الله عليه وسلم- ذلك فى حقهن، كما راعاه فى حق فاطمة؟
وأجيب: بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت، بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك، وزيادة عليه وهو زوجهن- صلى الله عليه وسلم- لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر، بحيث إن كل واحدة منهن ترضى منه لحسن خلقه وجميل خلقه جميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قرب.
ومنها «1» : أنه لا يجتهد فى محراب صلى إليه يمنة ولا يسرة،
وأفتى شيخ الإسلام أبو زرعة ابن العراقى فى شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبى- صلى الله عليه وسلم- وقال: أنا أجتهد وأصلى، بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان فى زمن النبى- صلى الله عليه وسلم- فهو ردة، وإن ذكر تأويلا بأن قال: ليس هو الآن على ما كان عليه فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادى، لم يحكم بردته، وإن لم يكن هذا التأويل صحيحا.
ومنها: أن من رآه فى المنام فقد رآه حقّا
فإن الشيطان لا يتمثل به. وفى رواية مسلم «من رآنى فى المنام فسيرانى فى اليقظة أو لكأنما رآنى فى اليقظة، لا يتمثل الشيطان بى» «2» . قال الحافظ ابن حجر: ووقع عند الإسماعيلى:
«فقد رآنى فى اليقظة» بدل قوله «فسيرانى» ومثله عند ابن ماجه وصححه الترمذى من حديث ابن مسعود «3» . وفى رواية أبى قتادة- عند مسلم أيضا-
__________
(1) ومنها هنا عائدة على خصائصه- صلى الله عليه وسلم- التى هى موضوع هذا الباب.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6993) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، ومسلم (2266) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (2276) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» ، وابن ماجه (3900) فى تعبير الرؤيا، باب: رؤية النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/365)
«من رآنى فقد رأى الحق» «1» . وله أيضا من حديث جابر «من رآنى فى المنام فقد رآنى، فإنه لا ينبغى للشيطان أن يتمثل فى صورتى» «2» وفى رواية «من رآنى فى المنام فقد رآنى فإنه لا ينبغى للشيطان أن يتشبه بى» . وفى حديث أبى سعيد عند البخارى «فإن الشيطان لا يتكوننى» «3» أى لا يتكون كونى، فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل.
وفى حديث أبى قتادة عند البخارى «لا يتراءى بى» «4» بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بى، يعنى أن الله تعالى وإن أمكنه من التصور فى أى صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور فى صورة النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا فى الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائى على صورته التى كان عليها، ومنهم من ضيق الذرع فى ذلك حتى قال: لابد أن يراه على صورته التى قبض عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التى لم تبلغ عشرين شعرة.
وعن حماد بن زيد قال: كان محمد- يعنى ابن سيرين- إذا قص عليه رجل أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: صف الذى رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تره، وسنده صحيح. وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب: حدثنى أبى قال: قلت لابن عباس، رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، قال: صفه لى، قال: فذكرت الحسن بن على فشبهته به، قال: قد رأيته، وسنده جيد.
لكن يعارضه: ما أخرجه ابن أبى عاصم من وجه آخر عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى، فإنى أرى فى كل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6996) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، ومسلم (2261) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2268) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6997) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام.
(4) صحيح: وقد تقدم حديث أبى قتادة قبل حديثين.(2/366)
صورة» «1» وفى سنده ابن التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط. قال القاضى أبو بكر بن العربى: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال.
قال: وقد شذ بعض القدرية فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلا.
قال وقوله: «فسيرانى» معناه فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب، وأما قوله «فكأنما رآنى» فهو تشبيه ومعناه: أنه لو رآنى فى اليقظة لطابق ما رآه فى المنام، فيكون الأول حقّا وحقيقة، والثانى حقّا وتمثيلا. قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته فهى أمثال. فإن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائى، وعلى العكس فبالعكس.
وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله «فقد رآنى» أو «فقد رأى الحق» أن من رآه على صورته المعروفة فى حياته كانت رؤياه حقّا، ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل، انتهى. وتعقبه النووى فقال: هذا ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها، انتهى. وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فقال: لم يظهر لى من كلام القاضى عياض ما ينافى ذلك، بل ظاهر قوله أنه يراه حقيقة فى الحالين، لكن فى الأولى تكون الرؤيا مما لا يحتاج إلى تعبير، والثانية: مما يحتاج إلى التعبير.
وقال بعضهم؛ معناه، أن من رآه [رآه] «2» على صورته التى كان عليها.
ويلزم من قول من قال: «إنه لا تكون رؤيته إلا على صورته المعلومة» أن من
__________
(1) إسناده ضعيف: ذكره الحافظ فى «الفتح» (12/ 384) وقال: وفى سنده صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط، ا. هـ. قلت: والروايات السابقة أيضا ذكرها الحافظ ابن حجر فى نفس الموضع.
(2) زيادة من المصدر السابق، وهى صحيحة.(2/367)
رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام. ومن المعلوم أنه يرى فى النوم على حالة بخلاف حالته فى الدنيا من الأحوال اللائقة به، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشىء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله:
«فإن الشيطان لا يتمثل بى» فالأولى أن ننزه رؤياه، وكذا رؤيا شىء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ فى الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان فى يقظته، فالصحيح فى تأويل هذا الحديث: أن مقصوده أن رؤيته فى كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثا، بل هى حق فى نفسها، ولو رؤى على غير صورته، فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هو من قبل الله، وهذا قول القاضى أبى بكر الطيب وغيره. ويؤيده قوله: «فقد رأى الحق» أشار إليه القرطبى.
وقال ابن بطال: قوله: «فسيرانى فى اليقظة» يريد تصديق تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها وخروجها على الحق، وليس المراد أنه يراه فى الآخرة، لأنه سيراه يوم القيامة فى اليقظة جميع أمته، من رآه فى النوم ومن لم يره.
وقال المازرى: إن كان المحفوظ «فكأنما رآنى فى اليقظة» فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ «فسيرانى فى اليقظة» احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذ رآه فى المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك فى اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه- صلى الله عليه وسلم-. وقيل معناه: سيرى تأويل تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها.
وأجاب القاضى عياض: باحتمال أن تكون رؤياه له فى النوم على الصفة التى عرف بها، ووصف عليها، موجبة لتكرمته فى الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، أو الشفاعة له، بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات. قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين فى القيامة بمنع رؤية نبيه- صلى الله عليه وسلم- مدة.
وحمله ابن أبى جمرة على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس أو غيره، أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى النوم، فبقى بعد اليقظة متفكرا فى هذا الحديث،(2/368)
فدخل على بعض أمهات المؤمنين- لعلها خالته ميمونة- فأخرجت له المرآة التى كانت للنبى- صلى الله عليه وسلم- فنظر فيها صورة النبى- صلى الله عليه وسلم- ولم ير صورة نفسه.
وقال الغزالى: ليس معنى قوله: «فقد رآنى» أنه رأى جسمى وبدنى وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذى فى نفسى إليه، وكذلك قوله: «فسيرانى فى اليقظة» ليس المراد أنه يرى جسمى وبدنى.
قال: والآلة تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى فى المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهى تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال آلة حقّا فى كونه واسطة فى التعريف، فيقول الرائى: رأيت الله عز وجل فى المنام، لا يعنى أنى رأيت ذات الله تعالى، كما يقول فى حق غيره.
وقال الغزالى أيضا فى بعض فتاويه: من رأى الرسول- يعنى فى المنام- لم ير حقيقة شخصه المودع روضة المدينة، وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة والشكل.
وقال الطيبى: المعنى من رآنى فى المنام بأى صفة كنت فليبشر وليعلم أنه قد رآنى الرؤيا الحق، أى رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله: «فقد رآنى» فالشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الغاية فى الكمال، أى فقد رآنى رؤيا ليس بعدها شىء.
والحاصل من الأجوبة:
أنه على التشبيه والتمثيل ويدل عليه قوله «فكأنما رآنى فى اليقظة» .
ثانيها: معناه، سيرى فى اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة.
ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.(2/369)
رابعها: المراد أنه فى المرآة التى كانت له إن أمكنه ذلك، قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل.
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره فى المنام.
والصواب كما قدمناه فى رؤيته- صلى الله عليه وسلم- التعميم، على أى حالة رآه الرائى بشرط أن يكون على صورته الحقيقية فى وقت ما، سواء كان فى شبابه أو رجوليته أو كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائى، كما قال بعض علماء التعبير: إن من رآه شيخا فهو غاية سلم، ومن رآه شابّا فهو غاية حرب.
وقال أبو سعيد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيّا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح الرائى وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسا مثلا فذلك دال على سوء حال الرائى.
وقال العارف ابن أبى جمرة: من رآه فى صورة حسنة فذاك حسن فى دين الرائى، وإن كان فى جارحة من جوارحه شين أو نقص فذلك خلل فى الرائى من جهة الدين. قال: وهذا هو الحق. وقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى فى رؤياه حتى يتبين للرائى هل عنده خلل أو لا؟ لأنه- صلى الله عليه وسلم- نورانى مثل المرآة الصقيلة، ما كان فى الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وفى ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها، كذلك يقال فى كلامه- صلى الله عليه وسلم- فى النوم: أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل فى سمع الرائى، فرؤيا الذات الكريمة حق، والخلل إنما هو فى سمع الرائى له أو بصره، قال: وهذا غير ما سمعته فى ذلك، انتهى.
وقال بعضهم: ليست رؤيته- صلى الله عليه وسلم- رؤيا عين، إنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعى حصر المرئى بل يرى من المشرق إلى المغرب ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة فى المرآة المحاذية لها، وليست الصورة منتقلة إلى جرم المرآة، وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة.(2/370)
واختلاف رؤيته- صلى الله عليه وسلم- بأن يراه بعضهم شيخا وآخر شابّا، وآخر ضاحكا وآخر باكيا، يرجع إلى حال الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة فى مرائى مختلفة الأشكال والمقادير، ففى الكبيرة يرى وجهه كبيرا، وفى الصغيرة صغيرا، وفى المعوجة معوجّا، وفى الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، فالاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائى، لا إلى وجه الرائى. كذلك الراؤون له- صلى الله عليه وسلم- أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسما إليه دل على أن الرائى متمسك بسنته، والله أعلم.
وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشى عن سؤال رؤية جماعة له- صلى الله عليه وسلم- فى آن واحد من أقطار متباعدة، مع أن رؤيته- صلى الله عليه وسلم- حق: بأنه- صلى الله عليه وسلم- سراج، ونور الشمس فى هذا العالم، مثال نوره فى العوالم كلها، وكما أن الشمس يراها كل من فى المشرق والمغرب فى ساعة واحدة وبصفات مختلفة فكذلك النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولله در القائل:
كالبدر من أى النواحى جئته ... يهدى إلى عينيك نورا ثاقبا
وأما رؤيته- صلى الله عليه وسلم- فى اليقظة بعد موته- صلى الله عليه وسلم- فقال شيخنا: لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم.
وقد اشتد حزن فاطمة عليه- صلى الله عليه وسلم- حتى ماتت كمدا بعده بستة أشهر- على الصحيح- وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته فى المدة التى تأخرت عنه.
وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم، كما هو فى «توثيق عرى الإيمان» للبارزى و «بهجة النفوس» لأبى محمد عبد الله بن جمرة، و «روض الرياحين» للعفيف اليافعى، وغيره من تصانيفه، والشيخ صفى الدين ابن أبى المنصور فى رسالته.
وعبارة ابن أبى جمرة: قد ذكر عن السلف والخلف إلى هلم جرّا عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعنى «من رآنى فى المنام فسيرانى فى اليقظة» أنهم رأوه- صلى الله عليه وسلم- فى النوم فرأوه بعد ذلك فى اليقظة، وسألوه عن(2/371)
أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التى منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص.
ثم قال: والمنكر لهذا لا يخلو إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء، أو لا، فإن كان الثانى فقد سقط البحث معه، فإنه مكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان الأول فهذه منها، لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة فى أشياء فى العالمين العلوى والسفلى عديدة مع التصديق بذلك «1» .
وقال الشيخ ابن أبى المنصور فى رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس القسطلانى دخل مرة على النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أخذ الله بيدك يا أحمد» . وعن الشيخ أبى السعود قال: وكنت أزور شيخنا أبا العباس وغيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح على، لم يكن لى شيخ إلا النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان يصافحه عقب كل صلاة.
وقال الشيخ أبو العباس الحراز: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- مرة فوجدته يكتب مناشير الأولياء بالولاية، قال: وكتب لأخى محمد معهم منشورا، فقلت: يا رسول الله، ما تكتب لى كأخى؟ قال: «أتريد أن تكون فمهارا» وهذه لغة أندلسية، تعنى طريقا، وفهم عنه أن له مقاما غير هذا.
وقال حجة الإسلام الغزالى فى كتابه «المنقذ من الضلال» : وهم- يعنى
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى «مجموع الفتاوى» (13/ 91) : وهذه رؤية فى المنام وأما فى اليقظة فمن ظن أن أحدا من الموتى يجىء بنفسه للناس عيانا قبل القيامة فمن جهله أتى، ومن هنا ضلت النصارى حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب- كما يظنون- أنه أتى إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور فى أناجيلهم وكلها تشهد بذلك، وذاك الذى جاء كان شيطانا قال: أنا المسيح، ولم يكن هو المسيح نفسه، ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين، كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين، ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذى يجب عليهم تبليغه، ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه، فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء. اه. قلت: وكذلك الحال مع نبينا- صلى الله عليه وسلم- لا يجىء لأحد بعد موته فى الحياة الدنيا، ولو كان ذلك حقّا لجاء إلى أناس لا خلاف على كراماتهم كأصحابه.(2/372)
أرباب القلوب- فى يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد. انتهى.
ورأيت فى كتاب المنح الإلهية فى مناقب السادة الوفائية عن سيدى على ابن سيدى محمد وفا أنه قال فى بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يوما فرأيت إنسانا يقرأ عليه سورة الضُّحى «1» وصحبته رفيق له وهو يلوى شدقيه بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابا، فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقظة لا مناما وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص على فقال لى: اقرأ فقرأت عليه سورة وَالضُّحى وأَ لَمْ نَشْرَحْ ثم غاب عنى، فلما بلغت إحدى وعشرين أحرمت بصلاة الصبح بالقرافة فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- قبالة وجهى فعانقنى فقال لى: وأما بنعمة ربك فحدث، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت. انتهى.
وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله فى «لطائف المنن» عن الشيخ أبى العباس المرسى، أنه كان مع الشيخ أبى الحسن الشاذلى بالقيروان فى ليلة الجمعة سابع عشرى رمضان، فذهب معه إلى الجامع.. الحكاية، إلى أن قال: ورأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «يا على طهر ثيابك من الدنس تحط بمدد الله فى كل نفس إلخ» ، فيحتمل أن يكون مناما.
وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلانى: كنت أقرأ على أبى عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبى بالمدينة النبوية، فجئته يوما فى وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلى وقال لى: من أدبك بهذا الأدب؟
وعاب على، قال: فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد وقعدت عند قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-، فبينا أنا جالس على تلك الحال، فإذا بالشيخ قد جاءنى وقال: قم، فقد جاء فيك شفيع لا يرد.
ونحوه: ما حكاه السهروردى فى «عوارف المعارف» عن الشيخ
__________
(1) سورة الضحى: 1.(2/373)
عبد القادر الكيلانى أنه قال: ما تزوجت حتى قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«تزوج» «1» .
وحكى عن السيد نور الدين الإيجى، والد السيد عفيف الدين، أنه فى بعض زياراته للنبى- صلى الله عليه وسلم- سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف:
عليك السلام يا ولدى.
وقال البدر حسن بن الأهدل فى مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار، وصار العلم بذلك قويّا، انتفى عنه الشك، ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له شبهة فيه، ولكن يقع لهم ذلك فى بعض غيبة حسّ وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة.
ومراتبهم فى الرؤية متفاوتة، وكثيرا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد رواية متصلة صحيحة عمن يوثق به. وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى مناما، أو فى غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا ونورا فيظنه الرسول، وقد يلبس عليه الشيطان فيجب التحرز فى هذا الباب.
وبالجملة:
فالقول برؤيته- صلى الله عليه وسلم- بعد موته بعين الرأس فى اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول، لاستلزامه خروجه- صلى الله عليه وسلم- من قبره، ومشيه فى الأسواق ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له، وخلو قبره عن جسده المقدس، فلا يبقى منه فيه شىء، وبحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب. أشار إلى ذلك القرطبى فى الرد القائل: بأن الرائى له فى المنام راء حقيقة، ثم يراه كذلك فى اليقظة.
قال: وهذه جهالات لا يقول بشىء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شىء من ذلك مختل مخبول. وقال: القاضى أبو بكر بن العربى: وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعينى الرأس حقيقة. وقال فى
__________
(1) قلت: أولم يسمع قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... الحديث» ، حتى ينتظر مثل هذا الأمر!.(2/374)
فتح البارى- بعد أن ذكر كلام ابن أبى جمرة-: وهذا مشكل جدّا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة.
وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمية شعر:
فمن يدعى فى هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقّا فقد فاه مشتطا
ولكن بين النوم واليقظة التى ... يباشر هذا الأمر مرتبة وسطا
وقد جعل القاضى أبو بكر بن العربى القول بأن الرؤية فى المنام بعينى الرأس غلو وحماقة، ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين فى القلب، وأنه ضرب من المجاز انتهى.
فلا يمتنع من الخواص، أرباب القلوب القائمين بالمراقبة والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون بشىء مما يقع لهم من الكرامات، فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعى فى التخلص من الكدورات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أنه يخرج من أهله وماله، وأنه يرى النبى- صلى الله عليه وسلم-، كالشيخ عبد القادر الكيلانى: أن يتمثل صورته- صلى الله عليه وسلم- فى خاطره، ويتصور فى عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإن تزلزل أو اضطراب كان لمة من الشيطان، وليس ذلك خادشا فى علو مناصبهم لعدم عصمة غير الأنبياء.
فقد قال العلامة التاج ابن السبكى فى جمع الجوامع- تبعا لغيره-: وإن الإلهام ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره، وحينئذ فمن قال- ممن حكينا عنه أو غيرهم- بأن المرئى هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا، بل حمل كل من أطلق عليه هو اللائق. وقريب منه قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى رأيت الجنة والنار» «1» مع مزيد استبعاده هناك أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (749) فى الأذان، باب: رفع البصر إلى الإمام فى الصلاة، ومسلم (426) فى الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوها من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/375)
ويحكى عن الشيخ أبى العباس المرسى أنه قال: لو حجب عنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طرفة عين ما عددت نفسى من المسلمين.
وعلى هذا فيكون معنى «فسيرانى فى اليقظة» أى يتصور مشاهدتى وتنزل نفسه حاضرا معى بحيث لا يخرج عن آدابه وسنته- صلى الله عليه وسلم- بل يسلك منهاجه ويمشى على شريعته وطريقته. ومنه قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه» «1» ويحمل العموم فى «من رآنى» على الموفقين، وإليه يشير قول بعض المعتمدين: أى من رآنى رؤية معظم لحرمتى ومشتاق لمشاهدتى وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه.
وقريب منه قول شارح المصابيح: أو يراه فى الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية، كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه فى حالة الذوق والشوق، وقد قال الأهدل عقب الحكاية عن الشيخ أبى العباس المرسى: وهذا فيه تجوز يقع مثله فى كلام الشيوخ، وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان لدوام المراقبة واستحضارها فى الأعمال والأقوال، ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل، والله أعلم. انتهى.
ومما اختص به- صلى الله عليه وسلم- أن التسمى باسمه ميمون ونافع فى الدنيا والآخرة.
روينا عن أنس بن مالك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يوقف عبدان بين يدى الله تعالى فيؤمر بهما إلى الجنة فيقولان: ربنا بما استأهلنا الجنة ولم نعمل عملا تجازينا به الجنة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة، فإنى آليت على نفسى أن لا يدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد» «2» .
__________
(1) صحيح: وهو جزء من حديث جبريل فى سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وقد تقدم، إلا أن هذا التأويل بعيد، ولا يصح، والله أعلم.
(2) موضوع: ذكره صاحب «فيض القدير شرح الجامع الصغير» وعزاه لابن سعد عن عثمان العمرى مرسلا والحديث ذكره ابن الجوزى فى «الموضوعات» (1/ 157) ، والسيوطى فى «اللآلئ المصنوعة» (1/ 55) .(2/376)
وروى أبو نعيم عن نبيط بن شريط قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: «وعزتى وجلالى، لا عذبت أحدا تسمى باسمك فى النار» «1» .
وعن على بن أبى طالب قال: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين، رواه أبو منصور الديلمى. وليس لأحد أن يتكنى بكنيته «أبى القاسم» سواء كان اسمه محمد أم لا، ومنهم: من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد، ويشبه أن يكون هو الأصح. قال النووى فى هذه المسألة مذاهب: الشافعى منع مطلقا، وجوزه مالك، والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدا، ومن جوز مطلقا خص النهى بحياته، وهو الأقرب. انتهى.
ومنها أنه يستحب الغسل لقراءة حديثه والتطيب، ولا ترفع عنده الأصوات، بل تخفض، كما فى حياته إذا تكلم، فإن كلامه المأثور بعد موته فى الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف، وأن يقرأ على مكان مرتفع.
روينا عن مطرف قال: كان الناس إذا أتوا مالكا- رحمه الله- خرجت إليهم الجارية فتقول: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل، فإن قالوا المسائل خرج إليهم فى الوقت، وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم ولبس ساجه، - والساج: الطيلسان- وتلقى له منصة فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث.
قال ابن أبى أويس: فقيل له فى ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنا. ويقال: إنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب. وقد كره قتادة ومالك وجماعة التحديث على
__________
(1) لا أصل له: ذكره العلجونى فى «كشف الخفاء» (1245) : وقال: وروى أبو نعيم سنده مرفوعا فذكره وقال: كذا ذكره القارى، ولا أصل له.(2/377)
غير طهارة، حتى كان الأعمش إذا كان على غيرها تيمم. ولا شك أن حرمته- صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه وتوقيره بعد مماته وعند ذكره، وذكر حديثه وسماع اسمه وسيرته كما كان فى حياته والله أعلم.
ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه أن يقوم لأحد،
قال ابن الحاج فى «المدخل» : لأنه قلة أدب مع النبى- صلى الله عليه وسلم- وقلة احترام وعدم مبالاة أن يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعة، وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون وإن أصابهم الضر فى أبدانهم ويتحملون المشقة التى تنزل بهم إذ ذاك احتراما لحديث نبيهم- صلى الله عليه وسلم-.
وحسبك ما وقع لمالك- رحمه الله- فى لسع العقرب سبع عشرة مرة، وهو لم يتحرك، وتحمله للسعها توقيرا لجناب حديثه- صلى الله عليه وسلم- أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل للبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغى من الكلام المعتاد. انتهى ملخصا.
ومنها أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة،
وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ، وأمراء المؤمنين من بين سائر العلماء.
ومنها: أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع به- صلى الله عليه وسلم- لحظة،
بخلاف التابعى مع الصحابى، فلا تثبت إلا بطول الاجتماع معه على الصحيح عند أهل الأصول، والفرق عظم منصب النبوة ونورها، فبمجرد ما يقع بصره على الأعرابى الجلف ينطق بالحكمة.
ومنها: أن أصحابه كلهم عدول،
لظواهر الكتاب والسنة، فلا يبحث عن عدالة أحد منهم، كما يبحث عن سائر الرواة. قال الله تعالى خطابا للموجودين حينئذ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1» أى عدولا، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أصحابى، فو الذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد
__________
(1) سورة البقرة: 143.(2/378)
ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» «1» ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «2» فى آيات كثيرة وأحاديث تقتضى القول بتعديلهم.
ولذلك: أجمع من يعتد به على ذلك، سواء فى التعديل من لابس الفتنة منهم وغيره، لوجوب حسن الظن بهم، حملا للملابس على الاجتهاد، ونظرا إلى ما تمهد لهم من الماثر، من امتثال أوامره- صلى الله عليه وسلم-، وفتحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس، ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات، مع الشجاعة والبراعة والكرم والأخلاق الحميدة التى لم تكن فى أمة من الأمم المتقدمة، ولا تكون لأحد بعدهم مثلهم فى ذلك. كل ذلك بحلول نظره- صلى الله عليه وسلم-.
وأفضلهم عند أهل السنة إجماعا: أبو بكر ثم عمر، وأما بعدهما:
فالجمهور على أنه عثمان ثم على. وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى المقصد السابع.
ومنها أن المصلى يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبى
، ولا يخاطب غيره.
ومنها أنه كان يجب على من دعاه وهو فى الصلاة أن يجيبه،
ويشهد له حديث أبى سعيد بن المعلى: كنت أصلى فى المسجد، فدعانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فلم أجبه.. الحديث، وفيه: ألم يقل الله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ «3» «4» ، فإجابته فرض، يعصى المرء بتركها.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3673) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2540) فى فضائل الصحابة، باب: تحريم سبب الصحابة- رضى الله عنهم-، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والنصيف: هو النصف.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2652) فى الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (2533) فى فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-.
(3) سورة الأنفال: 24.
(4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4474) فى التفسير، باب: ما جاء فى فاتحة الكتاب.(2/379)
وهل تبطل صلاته أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم:
أنها لا تبطل، وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا، سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل. أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج فليس فى الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، والله أعلم.
ومنها: أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره
، ومن كذب عليه لم تقبل روايته أبدا وإن تاب، فيما ذكره جماعة من المحدثين.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن سعيد بن جبير أن رجلا كذب على النبى- صلى الله عليه وسلم-، فبعث عليّا والزبير وقال: «اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه» «1» . ولهذا حكى إمام الحرمين عن أبيه أن من تعمد الكذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكفر. لكن لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك. والحق أنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله. وقال النووى: لم أر له فى أصل المسألة دليلا، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا وزجرا بليغا عن الكذب عليه- صلى الله عليه وسلم- لعظم مفسدته فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة.
ثم قال: وهذا الذى ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية. والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة.
قال: فهذا هو الجارى على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم، قال: وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية فى هذا.
قال شيخنا: ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه فى وضع حديث وحمل
__________
(1) مرسل: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (9707) عن سعيد بن جبير مرسلا، كما فى إسناده رجل مجهول.(2/380)
عنه ودوّن أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرا وإن وجد مجرد اسمها.
ومنها أنه معصوم من الذنوب كبيرها وصغيرها
، عمدها وسهوها وكذلك الأنبياء.
ومنها أنه لا يجوز عليه الجنون
لأنه نقص، ولا الإغماء الطويل الزمن، فيما ذكره الشيخ أبو حامد فى تعليقه، وجزم به البلقينى فى حواشى الروضة، وكذلك الأنبياء. ونبه السبكى على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو غلبة الأوجاع للحواس الظاهرة دون القلب، لأنه قد ورد أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذى هو أخف من الإغماء، فمن الإغماء بطريق الأولى. قال السبكى: ولا يجوز عليهم العمى، لأنه نقص، ولم يعم نبى قط. وأما ما ذكر عن شعيب أنه كان ضريرا فلم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت، انتهى.
قال الرازى: فى قوله تعالى وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ «1» لما قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «2» غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء فى العين، فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقوله:
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ «3» كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول: أن تأثير الحزن فى غلبة البكاء لا فى حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى.
ثم قال: واختلفوا، فقال بعضهم: إنه كان قد عمى بالكلية، فالله تعالى جعله بصيرا فى هذا الوقت، وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان بحيث صار يدرك إدراكا ضعيفا، فلما ألقوا القميص على
__________
(1) سورة يوسف: 84.
(2) سورة يوسف: 84.
(3) سورة يوسف: 84.(2/381)
وجهه وبشر بحياة يوسف عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوى بصره وزال النقصان عنه. انتهى. ومنها أن من سبه- صلى الله عليه وسلم- أو انتقصه قتل.
واختلف هل يتحتم قتله فى الحال، أو يوقف على استتابته؟ وهل الاستتابة واجبة أم لا؟ فمذهب المالكية: يقتل حدّا لا ردة: ولا تقبل توبته ولا عذره إن ادعى سهوا أو غلطا، وعبارة شيخهم العلامة خليل فى مختصره: «وإن سبب نبيّا أو ملكا، [أو] عرض أو لعنه، أو عابه أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غيّر صفته، أو ألحق به نقصا وإن فى [بدنه] أو خصلته أو غص من مرتبته أو وفور علمه أو زهده أو أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو قيل له: بحق رسول الله، فلعن وقال أردت العقرب قتل- ولم يستتب- حدّا، إلا أن يسلم الكافر، وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل أو سكر أو تهور» .
وهذا ذكره القاضى عياض فى الشفاء وغيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً «1» ، واللعنة من الله هى إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله فى وبيل عقوبته، قال القاضى عياض: وإنما يستوجب اللعن من هو كافر، وحكم الكافر القتل.
والأذى: هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررا، كذا قاله الخطابى وغيره. وإطلاق الأذى فى حقه تعالى إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة فيه. ويشهد لذلك الحديث الإلهى (يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى) «2» وهذا بخلاف جانب الرسول- صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) سورة الأحزاب: 57.
(2) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (2577) فى البر والصلة، باب: تحريم الظلم، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.(2/382)
فالأذى فى حقه تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية، لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار، وكذلك العذاب الأليم.
وقال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ «1» قال القاضى عياض: قال أهل التفسير: كفرتم بقولكم فى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وأما السنة فروى أبو داود والترمذى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من لنا بابن الأشرف» وفى أخرى: «من لكعب بن الأشرف» أى من ينتدب لقتله «فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا» وفى رواية: «فإنه يؤذى الله ورسوله» «2» .
قال القاضى عياض: ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل بأذاه له فدل على أن قتله إياه لغير الإشراك بل للأذى.
وفى حديث مصعب بن سعد عند أبى داود: لما كان يوم الفتح أمّن- صلى الله عليه وسلم- الناس، إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: «وأما ابن سرح» فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبى الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك وهو يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدى عن بيعته فيقتله» فقالوا: ما ندرى يا رسول الله ما فى نفسك، ألا أو مأت إلينا؟ قال:
«إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين» «3» .
__________
(1) سورة التوبة: 65، 66.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2510) فى الرهن، باب: رهن السلاح، ومسلم (1801) فى الجهاد والسير، باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، وأبو داود (2768) فى الجهاد، باب: فى العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: وقد تقدم.(2/383)
وفيه: أنه أمر بقتل عبد الله بن خطل، لأن ابن خطل كان يقول الشعر يهجو به النبى- صلى الله عليه وسلم- ويأمر جاريتيه أن تغنيا به، وكذلك قتل جاريتيه «1» .
قالوا: فقد ثبت أنه أمر بقتل من آذاه، ومن تنقّصه، والحق له- صلى الله عليه وسلم- وهو مخير فيه، فاختار القتل لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه- صلى الله عليه وسلم-، فإنه لم يرد عنه الإذن فى ذلك.
وأما الإجماع: فقال القاضى عياض: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، فقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبى- صلى الله عليه وسلم- يقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعى، وقال الخطابى: لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف فى وجوب قتله إذا كان مسلما. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبى- صلى الله عليه وسلم- المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك فى كفره وعذابه كفر. انتهى.
ومذهب الشافعية: أن ذلك ردة، تخرج من الإسلام إلى الكفر، فهو مرتد كافر قطعا لا نزاع فى ذلك عند الجمهور من أئمتنا، والمرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وفى الاستتابة قولان: أصحهما وجوبها، لأنه كان محترما بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة، فينبغى إزالتها، وقيل: تستحب لأنه غير مضمون الدم، فإن قلنا بالأول فتجب فى الحال ولم يؤجل كغيره. وفى الصحيح حديث «من بدل دينه فاقتلوه» «2» وفى قول: يمهل ثلاثة أيام، فإن لم يتب وأصر- رجلا كان أو امرأة- قتل، وإن أسلم صح إسلامه وترك لقوله تعالى:
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ «3» الآية.
__________
(1) ذكر الهيثمى فى «المجمع» (6/ 173) من حديث سعيد بن يربوع، أن إحداهما قتلت، والآخرى أقبلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، وقال: رواه الطبرانى وإسناده ثقات.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6922) فى استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) سورة التوبة: 5.(2/384)
وعن ابن عباس قال: أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهى ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل، وأيما معاهد سب الله أو سب أحدا من أنبيائه فقد نقض العهد فاقتلوه. «وأجيب» عما تقدم من أدلة المالكية.
فأما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» الآية فليس فيه إلا كفر مؤذيه- صلى الله عليه وسلم-، وأما كونه يقتل بعد التوبة والإسلام فلا دلالة فيه أصلا، وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى مع ما اجتمع فيه من موجبات القتل، ولأنه اتخذ الأذى ديدنا، فلا يقاس عليه من فرط منه فرطة- وقلنا بكفره بها- وتاب ورجع إلى الإسلام، فالفرق واضح. وكذلك قتل جاريتيه لأنهما جعلتا ذلك ديدنا مع ما قام بهما من صفة الكفر.
وقد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبى معيط نادى: يا معشر قريش ما لى أقتل من بينكم صبرا. فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «بكفرك وافترائك على رسول الله» «2» فذكر له سببين فى تحتم قتله، وهذا فى غاية الظهور. وأما قول الخطابى وغيره: «لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف فى وجوب قتله إذا كان مسلما» فمحمول على التقييد بعدم التوبة.
وأما سياق القاضى عياض لقصة الرجل الذى كذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأنه بعث عليّا والزبير ليقتلاه، فليس يفيد غرضا فى هذا المقام، لأن الظاهر أن هذا كذب، فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين، لا سيما إن كافرا، فيكون من محاربى الله ورسوله، مع السعى فى الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل، وإلا فليس مطلق الكذب عليه مما يوجب القتل.
وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «من لى بها» فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله فنهض فقتلها
__________
(1) سورة الأحزاب: 57.
(2) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 89) وقال: رواه البزار وفيه يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان.(2/385)
فأخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: «لا ينتطح فيها عنزان» «1» أى لا يجرى فيها خلف ولا نزاع، فإن فى هذه الحكاية ونظائرها نظرا واضحا لقيام الكفر بالمحكى عنهم والزيادة منهم، وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا بالإسلام، فكل منهم مهدر الدم إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وإنما النافع له فى مقام الاستدلال ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول بكونه ردة، فرجع إلى الإسلام وتاب. هذا هو محل النزاع وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين.
وأما ذكر كافر أصلى بلغته دعوة النبى- صلى الله عليه وسلم- وامتنع من إجابته وحاربه بيده ولسانه فلا نزاع فى إهدار دمه قطعا، لا سيما وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة أنها كانت تعيب الإسلام، وتؤذى النبى- صلى الله عليه وسلم- وتحرض عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعا.
فقد تبين مما ساقه القاضى عياض أن أمره- صلى الله عليه وسلم- بقتل سابه إنما نقل عن الكفرة، ولم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- قتل مسلما بسببه، وإنما كان ذلك فى أهل الكفر والعناد، فلو نقل فلا يتعين كونه حدّا، لاحتمال أن يكون قتله كفرا، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» فأعلمنا أن ما وراء الشرك فى حيز إمكان المغفرة، وقال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «3» «4» .
فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى لا بالنظر إلى حقوق العباد، لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم- وليس لنا أن نسقطه لأنه لم يرد إذنه فى ذلك بخلافه هو- صلى الله عليه وسلم- فإن له ذلك.
__________
(1) ذكره التقى الهندى فى «كنز العمال» (35491) ، وعزاه لابن عساكر.
(2) سورة النساء: 48.
(3) سورة الزمر: 53.
(4) قلت: قد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية كتاب مستقلا فى هذا الموضوع سماه «الصارم المسلول على شاتم الرسول- صلى الله عليه وسلم-» أحاط فيه فى هذه المسألة من كل جوانبها، فمن أراد المزيد فعليه به.(2/386)
فالجواب: لابد لنا من نص على ذلك منه- صلى الله عليه وسلم-، كأن يقول مثلا:
من سبنى فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعا عن سبه، فإن نقل اتبعناه، ثم إنه من جهة النظر ينبغى إلحاق حقوق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحقوق الله، فكما أن حقوقه تعالى مبناها على المسامحة، كذلك حقوقه- صلى الله عليه وسلم-، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى.
ومما عد من خصائصه أنه إذا قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه حكاه النووى فى زيادة الروضة عن جماعة من الأصحاب.
* ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يخص من شاء بما شاء من الأحكام.
كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين. روى أبو داود عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت عن عمه وكان من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن النبى- صلى الله عليه وسلم- ابتاع من أعرابى فرسا، فاستتبعه ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبى- صلى الله عليه وسلم- المشى، وأبطأ الأعرابى، فطفق رجال يعترضون الأعرابى يساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه..
الحديث فطفق الأعرابى يقول هلم شهيدا يشهد أنى قد بعتك، فمن جاء من المسلمين يقول ويلك، إن النبى- صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليقول إلا الحق، حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع المراجعة فقال: أنا أشهد، أنك قد بايعته ...
الحديث. وفيه، قال: فجعل النبى- صلى الله عليه وسلم- شهادة خزيمة برجلين «1» . وفى البخارى من حديث زيد بن ثابت قال: فوجدتها مع خزيمة الذى جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادتين «2» .
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (3607) فى الأقضية، باب: إذا علم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، والنسائى (7/ 301) فى البيوع، باب: التسهيل فى ترك الإشهاد على البيع، وأحمد فى «المسند» (5/ 215) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (2807) فى الجهاد والسير، باب: قول الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ...(2/387)
وعند الحارث بن أبى أسامة فى مسنده من حديث النعمان بن بشير أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اشترى من أعرابى فرسا، فجحده الأعرابى، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابى أنا أشهد عليك أنك بعته، فقال الأعرابى إذ شهد خزيمة فأعطنى الثمن، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا خزيمة إنا لم نشهدك، كيف تشهد؟» قال: أنا أصدقك على خبر السماء، ألا أصدقك على خبر ذا الأعرابى؟! فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «شهادته بشهادة رجلين» فلم يكن فى الإسلام من تعدل شهادته شهادة رجلين غير خزيمة.
قال الخطابى: هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شىء ادعاه، وإنما وجه الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- حكم على الأعرابى بعلمه، وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد لقوله، والاستظهار على خصمه، فصار فى التقدير بشهادة اثنين فى غيرها من القضايا، انتهى.
ومن ذلك ترخيصه فى النياحة لأم عطية، روى مسلم عنها «قالت: لما نزلت هذه الآية يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ... وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ «1» قالت: كان منه النياحة، فقلت: يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدونى فى الجاهلية، فلا بد لى من أن أسعدهم، فقال: «إلا آل فلان» «2» قال النووى: هذا محمول على الترخيص لأم عطية فى آل فلان خاصة، وللشارع أن يخص من العموم ما شاء.
ومن ذلك: ترك الإحداد لأسماء بنت عميس، أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبى طالب، قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تسلبى ثلاثا ثم اصنعى ما شئت» «3» .
__________
(1) سورة الممتحنة: 12.
(2) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (936) فى الجنائز باب: التشديد فى النياحة، وأسعدونى: أى ساعدونى وعاونونى.
(3) أخرجه ابن الجعد فى «مسنده» (2714) ، وتسلبى: أى البسى ثوب الحداد، وهو السلاب، والجمع سلب، وتسلبت المرأة إذا لبسته. وقيل: هو ثوب أسود تغطى به المحد رأسها.(2/388)
ومن ذلك: الأضحية بالعناق «1» لأبى بردة بن نيار، رواه الشيخان من حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنة، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم» ، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله، لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلى وجيرانى، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تلك شاة لحم» ، قال:
فإن عندى عناقا جذعة هى خير من شاتى لحم فهل تجزى عنى؟ قال: «نعم ولن تجزى عن أحد بعدك» «2» .
و «نيار» بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء. وقوله «تجزى» بفتح أوله غير مهموز، أى تقضى. و «الجذع» بالجيم والذال المعجمة. وفى هذا الحديث تخصيص أبى بردة بإجزاء الجذع من المعز فى الأضحية. ولكن وقع فى عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبى بردة، ففى حديث عقبة ابن عامر «3» - عند البيهقى-: ولا رخصة فيها لأحد بعدك. قال البيهقى: إن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبى بردة.
قال الحافظ ابن حجر: وفى هذا الجمع نظر، لأن فى كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثانى، ويحتمل أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثانى، ولا مانع من ذلك، لأنه لم يقع فى السياق استمرار المنع لغيره صريحا.
وفى كلام بعضهم: أن الذين ثبتت لهم الرخصة اربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التى وردت فى ذلك ليس فيها
__________
(1) العناق: الأنثى من المعز.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (955) فى الجمعة، باب: الأكل يوم النحر، ومسلم (1961) فى الأضاحى، باب: وقتها.
(3) قلت: حديث عقبة بن عامر فى الصحيحين، عند البخارى (2300) فى الوكالة، باب: وكالة الشريك فى القسمة وغيرها، ومسلم (1965) فى الأضاحى، باب: سن الأضحية.(2/389)
التصريح بالنفى إلا فى قضية أبى بردة فى الصحيح، وفى قصة عقبة بن عامر عند البيهقى، وأما ما عدا ذلك: فأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أعطاه عتودا جذعا، فقال: «ضح به» ، فقلت إنه جذع أفأضحى به؟ قال: «ضح به» «1» وفى الأوسط للطبرانى من حديث ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- أعطى سعد بن أبى وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحى به. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة «2» ، وفى سنده ضعف.
فلا منافاة بين ذلك وحديثى أبى بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك فى ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزى، واختص أبو بردة، وعقبة بالرخصة فى ذلك. وإن تعذر الجمع بين حديث أبى بردة وحديث عقبة، فحديث أبى بردة أصح مخرجا. وإن كان حديث عقبة عند البيهقى من مخرج الصحيح والله أعلم.
ومن ذلك: إنكاح ذلك الرجل بما معه من القرآن «3» ، فيما ذكره جماعة، وورد به حديث مرسل أخرجه سعيد بن منصور عن أبى النعمان الأزدى، قال: زوج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- امرأة على سورة من القرآن وقال: «لا يكون لأحد بعدك مهرا» «4» .
* ومنها أنه كان يوعك كما يوعك رجلان
«5» لمضاعفة الأجر.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2798) فى الضحايا، باب: ما يجوز فى الضحايا من السن، وأحمد فى «المسند» (5/ 194) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 253) .
(3) قلت: حديث نكاح المرأة بالقرآن ثابت فى الصحيحين، أخرجه البخارى (5149) فى النكاح، باب: التزويج على القرآن وبغير صداق، ومسلم (1425) فى النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.
(4) قلت: لم يثبت دليل الخصوصية ذلك، والحديث على عمومه لا مخصص له.
(5) قلت: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (5648) فى المرضى، باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثال فالأمثل، ومسلم (2571) فى البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.(2/390)
* ومنها أن جبريل أرسل إليه ثلاثا فى مرضه
يسأله عن حاله، ذكره البيهقى وغيره.
* ومنها: أنه صلى عليه الناس أفواجا أفواجا بغير إمام
، وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره البيهقى وابن سعد وغيرهما، وترك بلا دفن ثلاثة أيام كما سيأتى، وفرش له فى لحده- صلى الله عليه وسلم- قطيفة «1» ، والأمران مكروهان فى حقنا، وأظلمت الأرض بعد موته كما سيأتى.
* ومنها: أنه لا يبلى جسده،
وكذلك الأنبياء «2» ، رواه أبو داود وابن ماجه.
* ومنها: أنه لا يورث
«3» ، فقيل لبقائه على ملكه، وقيل لمصيره صدقة، وبه قطع الرويانى، ثم حكى وجهين فى أنه هل يصير وقفا على ورثته؟ وأنه إذا صار وقفا هل هو الواقف؟ وجهان:
قال النووى فى زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه، وأن ما تركه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة. انتهى.
وقال فى الشرح الصغير: المشهور أنه صدقة.
وذكر الرافعى فى قسم الفىء أن الخمس كان له- صلى الله عليه وسلم- ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه ولا ينتقل إلى ورثته. وقال فى باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما: بأن لجهة الإنفاق مادتين: مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار فى إحداهما. انتهى والله أعلم.
__________
(1) حديث القطيفة، ضعيف: أخرجه ابن سعد عن الحسن مرسلا، كما فى «ضعيف الجامع» (992) .
(2) قلت: الحديث الدال على ذلك أخرجه أبو داود (1047) فى الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، و (1531) باب: فى الاستغفار، وابن ماجه (1085) فى إقامة الصلاة، باب: فى فضل الجمعة، و (1636) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته- صلى الله عليه وسلم-، من حديث شداد بن أوس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) سيأتى الحديث الدال على ذلك بعد قليل.(2/391)
وعلى هذا، فيباح له أن يوصى بجميع ماله للفقراء، ويمضى ذلك بعد موته بخلاف غيره فإنه لا يمضى مما أوصى به إلا الثلث بعد موته.
وكذلك الأنبياء لا يورثون، لما رواه النسائى من حديث الزبير مرفوعا:
«إنا معاشر الأنبياء لا نورث» «1» وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ «2» . وقوله: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي «3» . بأن المراد إرث النبوة والعلم.
* ومنها: أنه حى فى قبره،
ويصلى فيه بأذان وإقامة وكذلك الأنبياء، ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه.
وقد حكى ابن زبالة «4» ، وابن النجار أن الأذان ترك فى أيام الحرة «5» ثلاثة أيام وخرج الناس، وسعيد بن المسيب فى المسجد، قال سعيد:
فاستوحشت فدنوت إلى القبر فلما حضرت الظهر سمعت الأذان فى القبر فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة فى القبر لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس وعاد المؤذنون فسمعت أذانهم كما سمعت الأذان فى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-، انتهى.
وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون. فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات فى الدار الآخرة، وليست دار عمل؟
فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6728) فى الفرائض، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لا نورث» ومسلم (1757) فى الجهاد والسير، باب: حكم الفىء، من حديث عمر- رضى الله عنه-، وله قصة.
(2) سورة النمل: 16.
(3) سورة مريم: 5، 6.
(4) هو: محمد بن الحسن بن زبالة المخزومى المدينى، كذبوه، قاله الحافظ فى «التقريب» (5815) .
(5) أيام الحرة: موقعة مشهورة، وقعت بظاهر المدينة بين أهلها وبين يزيد بن معاوية سنة 63 هـ حين خلعوه عن الخلافة.(2/392)
يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا، أو نقول: إن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا فى استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع فى الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها، ولهذا ورد أنهم يسبحون ويقرؤن القرآن، ومن هذا سجود النبى- صلى الله عليه وسلم- وقت الشفاعة.
وقد قال صاحب «التلخيص» : إن ماله- صلى الله عليه وسلم- بعد موته قائم على نفقته وملكه، وعده من خصائصه. ونقل إمام الحرمين عنه أن ما خلفه بقى على ما كان فى حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله وخدمه، وكان يرى أنه باق على ملك النبى- صلى الله عليه وسلم-. فإن الأنبياء أحياء، وهذا يقتضى إثبات الحياة فى أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد.
والذى صرح به النووى: زوال ملكه- صلى الله عليه وسلم- وأن ما تركه صدقة على جميع المسلمين لا يختص به ورثته. فإن قلت: القرآن ناطق بموته- صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى امرؤ مقبوض» «2» وقال الصديق: فإن محمدا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك.
فأجاب الشيخ تقى الدين السبكى، بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه- صلى الله عليه وسلم- أحيى بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه مشروطا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية حياة أخروية، ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء، وهى ثابتة للروح بلا إشكال، وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت فى الصحيح لسائر الموتى فضلا عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر فى استمرارها فى البدن، وفى أن البدن يصير حيّا كحالته فى الدنيا، أو حيّا بدونها، وهى حيث شاء الله تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادى لا عقلى، فهذا مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء.
__________
(1) سورة الزمر: 30.
(2) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 223) عن ابن مسعود وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفى إسناده من لم أعرفه.(2/393)
ويشهد له: صلاة موسى فى قبره «1» ، فإن الصلاة تستدعى جسدا حيّا، وكذلك الصفات المذكورة فى الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقة أن تكون الأبدان معها كما كانت فى الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام التى نشاهدها بل يكون لها حكم آخر، فليس فى العقل ما يمنع إثبات الحياة الحقيقية لهم.
وما الإدراكات كالعلم والسماع فلا شك أن ذلك ثابت لهم بل ولسائر الموتى، حكاه الشيخ زين الدين المراغى، وقال: إنه مما يعز وجوده وفى مثله فليتنافس المتنافسون.
* ومنها: أنه وكل بقبره ملك يبلغه صلاة المصلين عليه.
رواه أحمد والنسائى والحاكم وصححه بلفظ «إن لله ملائكة سياحين فى الأرض يبلغونى عن أمتى السلام» «2» وعند الأصبهانى عن عمارة، «إن لله ملكا أعطاه الله سمع العباد كلهم، فما من أحد يصلى على إلا أبلغنيها» «3» .
وتعرض أعمال أمته عليه، ويستغفر لهم، روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب «4» «ليس من يوم إلا وتعرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- أعمال أمته غدوة وعشيّا فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم» .
* ومنها: أن منبره- صلى الله عليه وسلم- على حوضه
«5» كما فى الحديث وفى
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2375) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 43) فى السهو، باب: السلام على النبى- صلى الله عليه وسلم-، والدارمى فى «سننه» (2774) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 387 و 452) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2174) .
(3) حسن: أخرجه الطبرانى عن عمار بن ياسر- رضى الله عنهما-، كما فى «صحيح الجامع» (2176) .
(4) سعيد بن المسيب، من كبار التابعين، وعلى ذلك فحديثه مرسل، إلا أن مراسيله من أفضل المراسيل وأقواها.
(5) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1196) فى الجمعة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر، وأطرافه (1888 و 6588 و 7335) ، ومسلم (1391) فى الحج، باب: ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/394)
رواية: «ومنبرى على ترعة من ترع الجنة» وأصل الترعة الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كان فى المطمئن فهى روضة. ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره وأنه حق محسوس موجود، فإن القدرة صالحة لا عجز فيها، وكل ما أخبر به الصادق- صلى الله عليه وسلم- من أمور الغيب فالإيمان به واجب.
* ومنها أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة،
رواه البخارى بلفظ «ما بين بيتى ومنبرى» وهذا يحتمل الحقيقة والمجاز.
أما الحقيقة: فبأن يكون ما أخبر عنه- صلى الله عليه وسلم- بأنه من الجنة مقتطعا منها، كما أن الحجر الأسود منها «1» ، وكذلك النيل والفرات من الجنة «2» ، وكذلك الثمار الهندية من الورق التى هبط بها آدم- عليه السّلام- من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون فى هذه الدار من مياه الجنة، ومن ترابها، ومن حجرها، ومن فواكهها، حكمة حكيم جليل.
وأما المجاز: فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة سبب فى نيل الجنة، قاله ابن أبى جمرة، وهو معنى قول بعضهم: لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة. وهذا فيه نظر: إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها.
وفى كتاب «بهجة النفوس» لابن أبى جمرة أيضا حكاية قول: أن تلك البقعة تنقل بعينها فتكون من الجنة، يعنى روضة من رياضها. قال: والأظهر الجمع بين الوجهين مما يعنى احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، ويأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى فضل الزيارة من المقصد الأخير- إن شاء الله تعالى-.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (877) فى الحج، باب: ما جاء فى فضل الحجر الأسود والركن والمقام، والنسائى (5/ 226) فى المناسك، باب: ذكر الحجر الأسود، وأحمد فى «المسند» (1/ 307 و 329 و 373) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث طويل أخرجه البخارى (3207) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/395)
* ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- أول من ينشق عنه القبر.
وفى رواية مسلم «أنا أول من تنشق عنه الأرض» «1» .
وهو أول من يفيق من الصعقة، قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدرى أفاق قبلى أم جوزى بصعقة الطور» «2» رواه البخارى. والظاهر أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن عنده علم بذلك حتى أعلمه الله تعالى، فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه- صلى الله عليه وسلم- أول من ينشق عنه القبر. وهو أول من يجوز على الصراط «3» ، رواه البخارى من حديث أبى هريرة. وأنه يحشر فى سبعين ألفا من الملائكة، كما روى عن كعب الأحبار: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره- صلى الله عليه وسلم- يضربون بأجنحتهم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج فى سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه- صلى الله عليه وسلم- «4» . الحديث رواه ابن النجار فى تاريخ المدينة. وأنه يحشر راكب البراق، رواه الحافظ السلفى، كما ذكره الطبرى.
ويكسى فى الموقف أعظم الحلل من الجنة. رواه البيهقى بلفظ: «فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر» «5» ، ورواه كعب بن مالك بلفظ: «يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتى على تل، ويكسونى ربى حلة خضراء» «6»
__________
(1) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (2412) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الأشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودى، ومسلم (2374) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- عليه السّلام-، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: وهو ما قبله.
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (806) فى الأذان، باب: فضل السجود، ومسلم (182) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(4) كعب الأحبار، كان ممن يروى عن أهل الكتاب، فلعل هذا الأثر من كتبهم، والله أعلم.
(5) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 456) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6479) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 395) ، والطبرانى فى «الكبير» (19/ 72) ، والحديث صحح إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط.
(6) صحيح: انظر ما قبله، وهو ليس فى البخارى، كما قال، ولعله وهم.(2/396)
رواه البخارى، وهو عند ابن أبى شيبة بلفظ: «يحشر الناس على تل، وأمتى على تل» وعند الطبرانى أيضا حديث ابن عمر فيرقى هو- يعنى محمدا- صلى الله عليه وسلم- وأمته على كوم فوق الناس، وأنه يقوم عن يمين العرش، رواه ابن مسعود عنه- صلى الله عليه وسلم- وفيه: لا يقومه غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون.
* ومنها: أنه يعطى المقام المحمود،
قال مجاهد: هو جلوسه- صلى الله عليه وسلم- على العرش، وعن عبد الله بن سلام، على الكرسى، ذكرهما البغوى، وسيأتى ما قيل فى ذلك فى ذكر تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بالمقام المحمود- إن شاء الله تعالى-.
* ومنها أنه يعطى الشفاعة العظمى
فى فصل القضاء بين أهل الموقف، حين يفزعون إليه بعد الأنبياء، والشفاعة فى إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفى رفع درجات ناس فى الجنة «1» .
كما جوز النووى اختصاص هذه والتى قبلها به. ووردت الأحاديث به فى التى قيل، وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى المقصد الأخير، والله المعين.
* ومنها: أنه صاحب لواء الحمد،
يوم القيامة «2» ، آدم فمن دونه تحته.
رواه البزار. وأنه أول من يقرع باب الجنة. روى مسلم من حديث المختار بن فلفل عن أنس قال: قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة» «3» وعنده أيضا عن أنس قال- صلى الله عليه وسلم-: «آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن، بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك» ورواه الطبرانى بزيادة فيه، قال: فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا
__________
(1) صحيح: وقد تقدم فى حديث الشفاعة.
(2) ورد ذلك فى حديث أخرجه الترمذى (3148) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وابن ماجه (4308) فى الزهد، باب: ذكر الشفاعة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1468) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (196) فى الإيمان، باب: فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس يشفع فى الجنة» .(2/397)
أقوم لأحد بعدك، وهذه خصوصية أخرى له- صلى الله عليه وسلم- وهى: أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره- صلى الله عليه وسلم-، فقيامه له- صلى الله عليه وسلم- فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون فى خدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى فى خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب.
* ومنها أنه- صلى الله عليه وسلم- أول من يدخل الجنة،
قال- صلى الله عليه وسلم-: «وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر» «1» رواه الترمذى.
* ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم- الكوثر
«2» ، نهر فى الجنة يسيل من حوضه مجراه على الدر والياقوت، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج.
ومنها الوسيلة، وهى أعلى درجة فى الجنة.
[خصائص أمة النبي ص]
وأما خصائص أمته- صلى الله عليه وسلم- وزادها شرفا، فاعلم أنه لما أنشأ الله سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا- صلى الله عليه وسلم- للعيان، وظهرت عنايته بأمته الإنسانية، بحضوره وظهوره فيها، وإن كان العالم الإنسانى والنارى كله أمته، ولكن لهؤلاء خصوص وصف، فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم ورثة الأنبياء، وأعطاهم الاجتهاد فى نصب الأحكام، فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم.
وكل من دخل فى زمان هذه الأمة من الأنبياء بعد نبيها، كعيسى- عليه السّلام-، أو قدر دخوله كالخضر، فإنه لا يحكم فى العالم إلا بما شرعه محمد- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الأمة، فإذا نزل سيدنا عيسى- عليه الصلاة والسلام- فإنما يحكم بشريعة نبينا- صلى الله عليه وسلم- بإلهام أو اطلاع على الروح المحمدى أو بما شاء الله تعالى، فيأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به فى أمته، فلا يحكم
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3616) فى المناقب، باب: رقم (22) ، من حديث أنس، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) قلت: وقد ثبت ذلك فى القرآن، فى قول الله عز وجل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [سورة الكوثر: 1] .(2/398)
فى شىء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا- صلى الله عليه وسلم-، ولا يحكم بشريعته التى أنزلت عليه فى أوان رسالته ودولته، فهو- عليه السّلام- تابع لنبينا- صلى الله عليه وسلم-. وقد نبه على ذلك الترمذى الحكيم فى كتاب ختم الأولياء، وأعرب عنه صاحب «عنقاء مغرب» «1» ، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازانى فى شرح عقائد النسفى وصحح أنه يصلى بالناس ويؤمهم ويقتدى به المهدى لأنه أفضل منه، فإمامته أولى. انتهى.
فهو- عليه الصلاة والسلام- وإن كان خليفة فى الأمة المحمدية، فهو رسول ونبى كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتى واحدا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا- صلى الله عليه وسلم- والحكم بشريعته.
فإن قلت: قد ورد فى صحيح مسلم قوله- صلى الله عليه وسلم-: «ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية» «2» وأن الصواب فى معناه: أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو القتل، وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابى إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى- عليه السّلام- حاكما بشريعة نبينا- صلى الله عليه وسلم-؟
فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى- عليه السّلام- إنما ينزل حاكما بهذه الشريعة المحمدية ولا ينزل نبيّا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة.
وأما حكم الجزية وما يتعلق بها فليس حكما مستمرّا إلى يوم القيامة،
__________
(1) هو كتاب «عنقاء مغرب فى معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب» للشيخ محيى الدين محمد بن على، المعروف بابن عربى، الضال المعروف.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2222) فى البيوع، باب: قتل الخنزير، ومسلم (155) فى الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/399)
بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى، وقد أخبر نبينا- صلى الله عليه وسلم- بنسخه، وليس عيسى- عليه السّلام- هو الناسخ، بل نبينا- صلى الله عليه وسلم- هو المبين للنسخ، فدل على أن الامتناع فى ذلك الوقت من قبول الجزية هو شرح نبينا- صلى الله عليه وسلم-. أشار إليه النووى فى شرح مسلم.
فإن قلت: ما المعنى فى تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى- عليه السّلام- فى عدم قبول الجزية؟
فأجاب ابن بطال: بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى- عليه السّلام- عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض فى أيامه المال حتى لا يقبله أحد، فلا يقبل إلا القتل أو الإيمان بالله وحده. انتهى.
وأجاب الشيخ ولى الدين ابن العراقى: بأن قبول الجزية من اليهود والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل. وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم، فإذا نزل عيسى- عليه السّلام- زالت تلك الشبهة بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان فى انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم فى أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، والحكم يزول بزوال علته. قال: وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له. قال وهذا أولى مما ذكره ابن بطال. انتهى.
وكذلك من يقول من العلماء بنبوة الخضر، وأنه باق إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة. وكذلك إلياس على ما صححه أبو عبد الله القرطبى أنه حى أيضا. وليس فى الرسل من يتبعه رسول له كتاب إلا نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وكفى بهذا شرفا لهذه الأمة المحمدية زادها الله شرفا.
فالحمد لله الذى خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، ومنّ علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة، ونوّه بنا فى كتابه العزيز بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «1» ، فتأمل قوله كُنْتُمْ أى فى اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم فى علم الله. فينبغى لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية، ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة من الأوصاف المرضية، ويتأهل لما لها من الخيرية.
__________
(1) سورة آل عمران: 110.(2/400)
قال مجاهد: كنتم خير أمة أخرجت للناس إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أى: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. وقيل: إنما صارت أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيهم أفشى. وقيل: هذا لأصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم-، كما قال- صلى الله عليه وسلم-:
«خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «1» وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدها. وإلى هذا ذهب معظم العلماء.
وأن من صحبه- صلى الله عليه وسلم- ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتى بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، هذا مذهب الجمهور.
وذهب أبو عمر بن عبد البر: إلى أنه قد يكون فيمن يأتى بعد الصحابة أفضل ممن كان فى جملة الصحابة، وأن قوله- صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرنى» ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه- صلى الله عليه وسلم- جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود، وقد روى أبو أمامة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «طوبى لمن رآنى وآمن بى، وطوبى سبع مرات لمن لم يرنى وآمن بى» «2» .
وفى مسند أبى داود الطيالسى عن محمد بن أبى حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: كنت جالسا عند النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أتدرون أى الخلق أفضل إيمانا؟» قلنا: الملائكة، قال: «وحق لهم، بل غيرهم» . قلنا:
الأنبياء، قال: «وحق لهم، بل غيرهم» ، قال- صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الخلق إيمانا قوم فى أصلاب الرجال يؤمنون بى ولم يرونى فهم أفضل الخلق إيمانا» «3» .
وروى أن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلى بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت
__________
(1) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 248 و 257 و 264) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7233) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى صحيح الجامع» (3924) .
(3) لم أجده فيه، ولا فى غيره.(2/401)
بسيرة عمر فأنت أفضل من عمر، لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر، قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم. قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضى مع تواتر طرقها وحسنها، التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها فى فضل العمل، إلا أهل بدر والحديبية. ومن تدبر هذا الباب بان له الصواب، والله يؤتى فضله من يشاء. انتهى.
وإسناد حديث أبى داود الطيالسى عن عمر ضعيف فلا يحتج به، لكن روى أحمد والدارمى والطبرانى عن أبى عبيدة- أى ابن الجراح-: يا رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: «قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بى ولم يرونى» «1» وإسناده حسن وصححه الحاكم.
والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة لا نطيل بذكرها وسيأتى بقية مباحث ذلك فى فضل الصحابة من المقصد السابع- إن شاء الله تعالى-.
وقد خص الله تعالى هذه الأمة الشريفة بخصائص لم يؤتها أمة قبلهم، أبان بها فضلهم، والأخبار والآثار ناطقة بذلك.
فخرج أبو نعيم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن موسى- عليه السّلام- لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة، قال:
يا رب إنى أجد فى الألواح أمة هم الآخرون السابقون، فاجعلها أمتى، قال:
تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة أناجيلهم فى صدورهم يقرؤنها ظاهرا فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يأكلون الفىء فاجعلها أمّتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يجعلون الصدقة فى بطونهم يؤجرون عليها فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة إذا همّ
__________
(1) أخرجه الدارمى فى «سننه» (2744) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 106) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 95) ، والطبرانى فى «الكبير» (4/ 22 و 23) .(2/402)
أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر، فيقتلون المسيح الدجال، فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب فاجعلنى من أمة أحمد، فأعطى عند ذلك خصلتين، فقال: يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى، فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين، قال: قد رضيت يا رب» «1» .
وروى ابن طغر بك فى «النطق المفهوم» «2» عن ابن عباس رفعه: قال موسى: يا رب، فهل فى الأمم أكرم عليك من أمتى، ظللت عليهم الغمام، وأنزلت عليهم المنّ والسلوى، فقال: سبحانه وتعالى: يا موسى، أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر الأمم كفضلى على جميع خلقى؟ قال: يا رب فأرينهم، قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم الله تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وهم فى أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم فقال سبحانه وتعالى: صلاتى عليكم، ورحمتى سبقت غضبى، وعفوى سبق عذابى، أستجيب لكم قبل أن تسألونى، فمن لقينى منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله غفرت له ذنوبه. قال- صلى الله عليه وسلم-: «فأراد الله أن يمن على بذلك» فقال: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا «3» . أى أمتك حتى أسمعنا موسى كلامهم.
ورواه قتادة، وزاد: فقال موسى: يا رب، ما أحسن أصوات أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أسمعنى مرة أخرى.
وفى الحلية لأبى نعيم، عن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أوحى
__________
(1) أخرجه أبو نعيم فى «دلائل النبوة» (1/ 14) .
(2) عزاه صاحب «كشف الظنون» (2/ 1959) لأبى الفرج بن الجوزى.
(3) سورة القصص: 46.(2/403)
الله إلى موسى، نبئ بنى إسرائيل أنه من لقينى وهو جاحد بأحمد أدخلته النار.
قال: يا رب، ومن أحمد؟ قال: ما خلقت خلقا أكرم على منه، كتبت اسمه مع اسمى فى العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض، إن الجنة محرمة على جميع خلقى حتى يدخلها هو وأمته، قال: ومن أمته؟ قال: الحمادون، يحمدون صعودا وهبوطا وعلى كل حال. يشدون أوساطهم ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير، وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: اجعلنى نبى تلك الأمة، قال: نبيها منها، قال:
اجعلنى من أمة ذلك النبى، قال: استقدمت واستأخر، ولكن سأجمع بينك وبينه فى دار الجلال» «1» .
وعن وهب بن منبه قال: أوحى الله إلى شعيا: إنى باعث نبيّا أميّا، أفتح به آذانا صما، وقلوبا غلقا، وأعينا عميا، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، عبدى المتوكل المصطفى المرفوع الحبيب المنتخب المختار، لا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، رحيما بالمؤمنين، يبكى للبهيمة المثقلة، ولليتيم فى حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشى على القصب الرعراع لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرا ونذيرا.. إلى أن قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وتوحيدا لى، وإيمانا بى، وإخلاصا لى، وتصديقا لما جاءت به رسلى، وهم رعاة الشمس والقمر، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التى أخلصت لى، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد، فى مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، ويصفون فى مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشى، هم أوليائى وأنصارى، أنتقم بهم من أعدائى عبدة الأوثان، يصلون لى قياما وقعودا وركعا وسجودا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتى
__________
(1) انظر «الحلية» لأبى نعيم (6/ 33) .(2/404)
ألوفا، ويقاتلون فى سبيلى صفوفا، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم، ويدخل فى دينهم وشريعتهم فليس منى، وهو منى برىء، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطا شهداء على الناس، إذا غضبوا هللونى، وإذا تنازعوا سبحونى، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويهللون على التلال والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم فى صدورهم، رهبانا بالليل ليوثا بالنهار، طوبى لمن كان معهم، وعلى دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، وذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. رواه أبو نعيم.
وقد ذكر الإمام فخر الدين: أن من كانت معجزاته أظهر يكون ثواب أمته أقل، قال السبكى: إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر وثوابها أكثر من سائر الأمم. ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم، ولم تحل لأمة قبلها، وجعلت لهم الأرض مسجدا ولم تكن الأمم تصلى إلا فى البيع والكنائس، وجعل لهم ترابها طهورا وهو التيمم. وفى رواية أبى أمامة عند البخارى: «وجعلت الأرض كلها لى ولأمتى مسجدا وطهورا» «1» وفى رواية مسلم من حديث حذيفة: «وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» «2» .
* ومن خصائص هذه الأمة الوضوء،
فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم، ذكره الحليمى، واستدل بحديث البخارى «إن أمتى يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء» «3» لكن قال فى فتح البارى: فيه نظر: لأنه ثبت فى البخارى قصة سارة- عليها السلام- مع الملك الذى أعطاها هاجر:
أن سارة لما همّ الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلى، وفى قصة جريج
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (136) فى الوضوء، باب: فضل الوضوء، ومسلم (246) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/405)
الراهب أيضا: أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام. فالظاهر أن الذى اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء.
وقد صرح بذلك فى رواية لمسلم عن أبى هريرة مرفوعا، قال: «لكم سيما ليست لأحد غيركم» «1» أى علامة. وغاية التحجيل: استيعاب العضدين والساقين والغرة: غسل مقدمات الرأس وصفحة العنق مع الوجه.
* ومنها مجموع الصلوات الخمس،
ولم تجمع لأحد غيرهم، أخرج الطحاوى عن عبيد الله بن محمد بن عائشة قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين فصارت الصبح، وفدى إسحاق عند الظهر، فصلى أربع ركعات فصارت الظهر، وبعث عزيرا عند العصر، فقيل له: كم لبثت قال:
يوما، فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وغفر لداود عند المغرب، فقام يصلى أربع ركعات فجهد فجلس فى الثالثة فصارت المغرب ثلاثا. وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا- صلى الله عليه وسلم-.
وأخرج أبو داود فى سننه، وابن أبى شيبة فى مصنفه والبيهقى فى سننه عن معاذ بن جبل قال: أخر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة العتمة ليلة حتى ظن الظان أنه قد صلى ثم خرج فقال: «أعتموا بهذه الصلاة فإنكم فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم» «2» .
* ومنها الأذان والإقامة.
* ومنها البسملة،
قاله بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين الحلبى النحوى فى تفسيره، قال: ولم ينزلها الله على أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود، فهى مما اختصت به هذه الأمة. انتهى.
* ومنها التأمين،
روى الإمام أحمد من حديث عائشة قالت: بينا أنا
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (247) فيما تقدم.
(2) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (421) فى الصلاة، باب: وقت العشاء الآخرى، وأحمد فى «المسند» (5/ 237) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/406)
عند النبى- صلى الله عليه وسلم- إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث وفيه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنهم لم يحسدونا على شىء كما حسدونا على الجمعة التى هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين» «1» .
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه، لكن لبعضه متابع حسن فى التأمين، أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة كلاهما من رواية سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن عائشة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما حسدتنا اليهود على شىء ما حسدتنا على السلام والتأمين» «2» .
* ومنها الاختصاص بالركوع،
عن على- رضى الله عنه- قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: «بهذا أمرت» رواه البزار والطبرانى فى الأوسط.
ووجه الاستدلال منه: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى قبل ذلك الظهر، وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل، فكون الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه. قاله بعض العلماء.
قال: وذكر جماعة من المفسرين فى قوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ «3» . أن مشروعية الركوع فى الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه لا ركوع فى صلاة بنى إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع مع أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-.
وهذا يعارضه قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ «4» . المفسر بأنها أمرت بالصلاة فى الجماعة بذكر أركانها مبالغة فى
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 134) .
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (856) فى إقامة الصلاة، باب: الجهر بامين، والبخارى فى «الأدب المفرد» (988) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(3) سورة البقرة: 43.
(4) سورة آل عمران: 43.(2/407)
المحافظة عليها. قالوا: وقدم السجود قبل الركوع إما لكونه كذلك فى شريعتهم، أو للتنبيه على أن «الواو» لا توجب الترتيب. وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة، كقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «1» .
وبالسجود: الصلاة، لقوله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ «2» ، وبالركوع: الخضوع والإخبات.
* ومنها الصفوف فى الصلاة،
كصفوف الملائكة «3» ، رواه مسلم من حديث حذيفة.
* ومنها تحية الإسلام
لحديث عائشة السابق.
* ومنها الجمعة،
قال- صلى الله عليه وسلم-: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذى فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» «4» رواه البخارى.
* ومنها ساعة الإجابة التى فى الجمعة،
واختلف فى تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين ذكرتها فى «لوامع الأنوار فى الأدعية والأذكار» «5» .
* ومنها: أنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم،
ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدا، وتزيين الجنة فيه، وخلوف أفواه الصائمين أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة فى كل يوم وليلة حتى يفطروا، وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعا. رواه البيهقى بإسناد لا بأس به بلفظ: أعطيت أمتى فى شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبى قبلى..
__________
(1) سورة الزمر: 9.
(2) سورة ق: 40.
(3) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (522) فى المساجد، باب: رقم (1) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (876) فى الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (855) فى الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(5) وسيأتى فى المجلد الثالث.(2/408)
الحديث «1» ، و «تستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا» «2» . رواه البزار. و «تصفد فيه مردة الشياطين» «3» رواه أحمد والبزار.
* ومنها السحور
«4» ، وتعجيل الفطر «5» ، رواه الشيخان. وإباحة الأكل والشرب والجماع ليلا إلى الفجر، وكان محرما على من قبلنا بعد النوم، وكذا كان فى صدر الإسلام ثم نسخ.
* ومنها: ليلة القدر،
كما قاله النووى فى شرح المهذب.
وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأمة أم لا؟ إن قلنا إن التشبيه الذى دلت عليه كاف «كما» فى قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «6» على حقيقته فيكون رمضان كتب على من قبلنا.
وذكر ابن أبى حاتم عن ابن عمر رفعه: «صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم» وفى إسناده مجهول. وإن قلنا المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته فيكون التشبيه واقعا على مطلق الصوم، وهو قول الجمهور.
* ومنها أن لهم الاسترجاع عند المصيبة،
قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم تعط الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-
__________
(1) ذكره المنذرى فى «الترغيب والترهيب» (2/ 92) وعزاه للبيهقى.
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 140) عن أبى هريرة، وقال: رواه أحمد والبزار وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف.
(3) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 129) فى الصيام، باب: ذكر الاختلاف على معمر فيه، وأحمد فى «المسند» (2/ 292) ، من حديث أبى هريرة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (1923) فى الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب، ومسلم (1095) فى الصيام، باب: فى فضل السحور، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (1957) فى الصوم، باب: ما جاء فى تعجيل الإفطار، ومسلم (1098) فى الصوم، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.
(6) سورة البقرة: 183.(2/409)
مثله: إنا لله وإنا إليه راجعون. ولو أعطيت الأنبياء لأعطيه يعقوب- عليه الصلاة والسلام- إذ قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «1» .
* ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الأصرار
الذى كان على الأمم قبلهم، قال الله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «2» . أى: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة، كتعيين القصاص فى العمد والخطأ وقطع الأعضاء الخاطئة، وقطع موضع النجاسة، وقتل النفس فى التوبة. وقد كان الرجل من بنى إسرائيل يذنب الذنب فيصبح قد كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما. وأصل الإصر الثقل: الذى بأصر صاحبه، أى يحبسه من الحراك لثقله.
* ومنها أن الله تعالى أحل لهم كثيرا مما شدد على من قبلهم
، ولم يجعل عليهم فى الدين من حرج، كما قال تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» . أى ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم فى تركه، يعنى من لم يستطع أن يصلى قائما فليصل قاعدا، وأباح للصائم الفطر فى السفر، والقصر فيه.
وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا، وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات فى حقوقه تعالى، والأروش «4» والديات فى حقوق العباد، قاله البيضاوى.
وروى عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بنى إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة. وعن كعب، أعطى الله هذه الأمة ثلاثا لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم فى الدين من حرج، وقال: ادعونى أستجب لكم.
__________
(1) سورة يوسف: 84.
(2) سورة الأعراف: 157.
(3) سورة الحج: 78.
(4) الأروش: جمع أرش، وهو دية الجراحات، ما ليس لها قدر معلوم، وسمى أرشا: لأنه من أسباب النزاع، والتأريش: التحريش، وهو حمل بعضهم على بعض.(2/410)
* ومنها: أن الله رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان،
وما استكرهوا عليه، وحديث النفس «1» ، وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت لهم العقوبة، فحرّم عليهم شىء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب.
وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «2» رواه أحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجه.
* ومنها أن الإسلام وصف خاص بهم،
لا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-، لقوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا «3» . وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «4» . إذ لو لم يكن خاصا بهم لم يكن فى الامتنان عليهم بذلك فائدة.
وقد يجاب: بأن رضى الإسلام دينا لهم، وتسمية إبراهيم أباهم بذلك، لا ينفى اتصاف غيرهم به. وفائدة ذلك: الإعلام بالإنعام عليهم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل.
وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعا. كما أجاب به ابن الصلاح لقوله تعالى- حكاية عن وصية يعقوب- فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «5» . فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ
__________
(1) حديث رفع المؤاخذة عن الخطأ والنسيان سيأتى بعد قليل، أما رفع المؤاخذة عن حديث النفس، فصحيح: أخرجه البخارى (6664) فى الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيا فى الأيمان، ومسلم (127) فى الإيمان، باب: تجاوز الله من حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2045) فى الطلاق، باب: طلاق المكره والناسى، وابن حبان فى «صحيحه» (7219) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 216) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1731 و 1836) .
(3) سورة الحج: 78.
(4) سورة المائدة: 3.
(5) سورة البقرة: 132.(2/411)
مِنَ الْمُسْلِمِينَ «1» إلى غير ذلك. ولأن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصا بهذه الأمة، بل يوصف به كل من دخل فى شريعة مقرّا بالله وبأنبيائه، كما قال الراغب.
* ومنها: أن شريعتهم أكمل من جميع شرائع الأمم المتقدمة،
وهذا لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه. وانظر إلى شريعة موسى- عليه السّلام-، فقد كانت شريعة جلال وقهر، أمروا بقتل نفوسهم، وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم، وعجلت لهم من العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم.
وكان موسى- عليه السّلام- من أعظم خلق الله هيبة ووقارا وأشدهم بأسا وغضبا لله، وبطشا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه.
وعيسى- عليه السّلام- كان فى مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس فى شريعته قتال ألبتة، والنصارى يحرم عليهم فى دينهم القتال، وهم به عصاة، فإن الإنجيل يأمر فيه: أن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا، وليس فى شريعتهم مشقة ولا إصر ولا أغلال. وأما النصارى فابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولم تكتب عليهم.
وأما نبينا- صلى الله عليه وسلم- فكان مظهر الكمال، الجامع لتلك القوة والعدل والشدة فى الله، واللين والرأفة والرحمة فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك تأتى شريعته- صلى الله عليه وسلم- بالعدل إيجابا له وفرضا، وبالفضل ندبا إليه واستحبابا، وبالشدة فى موضع الشدة، وباللين فى موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه، فيذكر الظلم ويحرمه، والعدل ويأمره به، والفضل ويندب
__________
(1) سورة الذاريات: 36.(2/412)
إليه فى بعض آية، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» . فهذا عدل فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «2» . فهذا فضل إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ «3» . فهذا تحريم للظلم.
وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «4» . فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ «5» ندب إلى الفضل.
* وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة صيانة وحمية،
حرم عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة، كما أشرت إليه قريبا. وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم كيوم الجمعة، كما سأذكره- إن شاء الله تعالى- فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-، وتقدم ما يشهد له.
ووهب لهم من علمه وحلمه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه فى الأمم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه فى الأنبياء قبله، وكمل فى كتابهم من المحاسن ما فرقه فى الكتب قبله، وكذلك فى شريعته. فهذه الأمة هم المجتبون، كما قال إلههم: هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «6» . وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم فى ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم، أشار إليه ابن القيم.
* ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة.
رواه أحمد فى مسنده، والطبرانى فى الكبير، وابن أبى خيثمة فى تاريخه عن أبى بصرة الغفارى مرفوعا فى حديث «سألت ربى أن لا تجتمع أمتى على ضلالة فأعطانيها» «7»
__________
(1) سورة الشورى: 40.
(2) سورة الشورى: 40.
(3) سورة الشورى: 40.
(4) سورة النحل: 126.
(5) سورة النحل: 126.
(6) سورة الحج: 78.
(7) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 396) من حديث أبى بصرة الغفارى- رضى الله عنه-، بسند فيه رجل لم يسم.(2/413)
ورواه ابن أبى عاصم والطبرانى أيضا من حديث أبى مالك الأشعرى رفعه:
«إن الله أجاركم من ثلاث» وذكر منها «وأن لا تجتمعوا على ضلالة» «1» .
قال شيخنا: وبالجملة، فهو حديث مشهور [المتن] ، ذو أسانيد كثيرة وله شواهد متعددة فى المرفوع وغيره.
* ومنها: أن إجماعهم حجة وأن اختلافهم رحمة،
وكان اختلاف من قبلهم عذابا، روى البيهقى فى المدخل فى حديث من رواية سليمان بن أبى كريمة، عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«واختلاف أصحابى لكم رحمة» «2» . وجويبر: ضعيف جدّا، والضحاك عن ابن عباس: منقطع.
وهو كما قال شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب فى المختصر فى مباحث القياس بلفظ: اختلاف أمتى رحمة للناس. قال: وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابى فى غريب الحديث مستطردا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما: إسحاق الموصلى، وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، قال: ثم تشاغل الخطابى برد هذا الكلام، ولم يقع فى كلامه نص فى عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده.
ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، أشار إليه شيخنا فى المقاصد الحسنة.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4253) فى الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) موضوع: ذكره السيوطى فى «الجامع الصغير» (288) وعزاه لنصر المقدس فى الحجة، والبيهقى فى الرسالة الأشعرية بغير سند، وأورده الحليمى والقاضى حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خرج فى بعض كتب لم تصل إلينا. اه، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (230) : موضوع.(2/414)
ومنها أن الطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم عذابا. رواه أحمد والطبرانى فى الكبير، عن حديث أبى عسيب مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ورجال أحمد ثقات ولفظه: «الطاعون شهادة لأمتى ورحمة لهم ورجز على الكافرين» «1» .
* ومنها: أنهم إذا شهد اثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة
«2» . وكان الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة.
* ومنها أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرا
وأقصرهم أعمارا، وأوتوا العلم الأول والآخر، وآخر الأمم فافتضحت الأمم عندهم ولم يفتضحوا.
* ومنها: أنهم أوتوا الإسناد،
وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة. وقد روينا من طريق أبى العباس الدغولى قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف فى أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التى اتخذوها عن غير الثقات.
وهذه الأمة الشريفة- زادها الله شرفا بنبيها- إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف فى زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها وأكثر، حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدّا، فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 81) من حديث عسيب مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وطرفه الأول فى الصحيح، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (1368) فى الجنائز، باب: ثناء الناس على الميت، من حديث عمر- رضى الله عنه-.(2/415)
وقال أبو حاتم الرازى: لم يكن فى أمة من الأمم منذ خلق الله تعالى آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا فى هذه الأمة، انتهى.
* ومنها: أنهم أوتوا الأنساب والاعراب،
قال أبو بكر محمد بن أحمد: بلغنى أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها:
الإسناد والأنساب والإعراب، انتهى. وهو مروى عن أبى على الجيانى أيضا.
* ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب،
ذكره بعضهم. ولا تزال طائفة منهم ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله «1» . رواه الشيخان.
* ومنها: أن فيهم أقطابا وأوتادا ونجباء وأبدالا
«2» . عن أنس مرفوعا:
«الأبدال أربعون رجلا وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل الله رجلا مكانه، وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة» «3» رواه الخلال فى «كرامات الأولياء» .
ورواه الطبرانى فى الأوسط بلفظ: «لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن- عليه السّلام-، فبهم يسقون وبهم ينصرون، ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر» «4» .
ورواه ابن عدى فى كامله بلفظ: «البدلاء أربعون، اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه آخر، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة» «5» .
__________
(1) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (3640) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى الله عليه وسلم- آية، فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (1921) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتى» ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-.
(2) قلت: هذا كذب وافتراء، والأحاديث الدالة على ذلك إما موضوعة أو ضعيفة، ولا حجة فيها، وهى من وضع الزنادقة الذين يسيئون إلى الإسلام والمسلمين.
(3) ضعيف: أخرجه الخلال فى كرامات الأولياء، والديلمى فى مسند الفردوس عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (2665) .
(4) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (4775) ، وفى (4776) عزاه لابن حبان فى تاريخه من حديث أبى هريرة، وقال: موضوع.
(5) ضعيف: أخرجه ابن عدى فى «الكامل» (5/ 220) بسند فيه ضعيف.(2/416)
وكذا يروى كما عند أحمد فى المسند، والخلال، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: «لا يزال فى هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات واحد أبدل الله تعالى مكانه رجلا» «1» .
وفى لفظ الطبرانى- فى الكبير-: «بهم تقوم الأرض وبهم يمطرون وبهم ينصرون» .
ولأبى نعيم فى الحلية، عن ابن عمر رفعه: «خيار أمتى فى كل قرن خمسمائة، والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون، كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر، وهم فى الأرض كلها» «2» .
وفى الحلية أيضا عن ابن مسعود رفعه: «لا يزال أربعون رجلا من أمتى، قلوبهم على قلب إبراهيم، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال، إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة» ، قال: فيم أدركوها يا رسول الله؟ قال: «بالسخاء والنصيحة للمسلمين» «3» .
وعن معروف الكرخى «4» : من قال اللهم ارحم أمة محمد فى كل يوم كتبه الله من الأبدال. وهو فى الحلية بلفظ: «من قال فى كل يوم عشر مرات اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد كتب من الأبدال» «5» .
وعن غيره قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم، ويروى فى مرفوع معضل: «علامة أبدال أمتى أنهم لا يلعنون شيئا أبدا» .
وقال يزيد بن هارون: الأبدال هم أهل العلم، وقال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم؟
__________
(1) لم أقف عليه فى المسند ولا فى غيره بهذا اللفظ.
(2) ضعيف: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (1/ 8) بسند ضعيف.
(3) ضعيف جدّا: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (4/ 173) بسند ضعيف جدّا.
(4) هو أحد أعلام الصوفية المعروفين، توفى ببغداد سنة (200 هـ) ، وحديثه مرسل.
(5) ضعيف: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (8/ 366) عن معروف الكرخى موقوفا عليه، وهو من طبقة تابعى التابعين.(2/417)
وفى تاريخ بغداد للخطيب، عن الكتانى قال: النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون فى الأرض، والعمد فى زوايا الأرض ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد، فإن أجيبوا وإلّا ابتهل الغوث، فلا يتم مسألته حتى تجاب دعوته، انتهى «1» .
* ومنها أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم، ويخرجون منها بلا ذنوب،
تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم. رواه الطبرانى- فى الأوسط- من حديث أنس، ولفظه: قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمتى أمة مرحومة تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها» «2» .
* ومنها أنهم اختصوا فى الآخرة بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم.
رواه أبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ «وأنا أول من تنشق الأرض عنى وعن أمتى ولا فخر» «3» .
* ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء
«4» . رواه البخارى. والغرة: بياض فى وجه الفرس. والتحجيل: بياض فى قوائمه وذلك مما يكسبه حسنا وجمالا.
__________
(1) قلت: هو كلام باطل، يحتوى على شرك والعياذ بالله، وهذه الألفاظ أصلا (البدلاء والأخيار والعمد والغوث) ليس لها أصل فى كتاب ولا سنة، ولا سلف صالح، بل هى بدع شركية دخلت فى هذه الأمة، كما دخلت فى الأمم من قبلهم، وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم..» الحديث، وقد فصل شيخ الإسلام فى الرد على هؤلاء الزنادقة، فانظر ذلك فى «مجموع الفتاوى» (11/ 434 و 438 و 440) ، وغير موضع من مجموع الفتاوى.
(2) أخرجه الطبرانى فى الأوسط (1900) .
(3) طرفه الأول صحيح: وقد تقدم.
(4) صحيح: وقد تقدم قريبا.(2/418)
فشبه- صلى الله عليه وسلم- النور الذى يكون يوم القيامة فى أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض فى أعضاء الإنسان مما يزينه لا مما يشينه، يعنى أنهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذه الصفة.
* ومنها أنهم يكونون فى الموقف على مكان عال.
رواه ابن جرير وابن مردويه من حديث جابر مرفوعا بلفظ: «أنا وأمتى على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا، وما من نبى كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه» . وعند ابن مردويه من حديث كعب قال: «أنا وأمتى على تل» «1» .
* ومنها: أن سيماهم فى وجوههم من أثر السجود.
قال تعالى:
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «2» . وهل هذه العلامة فى الدنيا أو فى الآخرة؟ قولان:
أحدهما: أنها فى الدنيا، قال ابن عباس فى رواية ابن أبى طلحة:
السمت الحسن. وفى رواية مجاهد: ليست بالتى ترون، هى سمت الإسلام وسيماه وخشوعه. وقيل:
الصفرة فى الوجه من أثر السهر فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى.
والقول الثانى: أنه فى الآخرة يعنى أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشد بياضا يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا فى الدنيا.
رواه العوفى عن ابن عباس. وعن شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر، وقال عطاء الخراسانى: دخل فى هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس.
* ومنها أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.
رواه أحمد والبزار.
__________
(1) تقدم.
(2) سورة الفتح: 29.(2/419)
* ومنها أن نورهم يسعى بين أيديهم
«1» . أخرجه أحمد بإسناد صحيح.
* ومنها: أن لهم ما سعوا، وما يسعى لهم
، وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة. وأما قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «2» .
ففيها أجوبة:
أحدها: أنها منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس، نسخها قوله تعالى:
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «3» . فجعل الولد الطفل فى ميزان أبيه، ويشفع الله الآباء فى الأبناء، والأبناء فى الآباء، بدليل قوله تعالى:
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً «4» .
الثانى: أنها مخصوصة بالكافر، وأما المؤمن فله ما سعى غيره. قال القرطبى: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره. وفى الصحيح عن النبى- صلى الله عليه وسلم- «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» «5» وقال- صلى الله عليه وسلم- للذى حج عن غيره «حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» «6» ، وعن عائشة أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 199) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 538) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) سورة النجم: 39.
(3) سورة الطور: 21.
(4) سورة النساء: 11.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1952) فى الصوم، باب: من مات وعليه صوم، ومسلم (1147) فى الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(6) صحيح: أخرجه أبو داود (1811) فى المناسك، باب: الرجل يحج عن غيره، وابن ماجه (2903) فى المناسك، باب: الحج عن الميت، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3128) .(2/420)
وقال سعد للنبى- صلى الله عليه وسلم-: إن أمى توفيت أفأتصدق عنها؟ قال:
«نعم» ، قال: فأى الصدقة أفضل؟ قال: «سقى الماء» «1» .
وفى الموطأ عن عبد الله بن أبى بكر عن عمته أنها حدثته عن جدته:
أنها جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس: أنها تمشى عنها.
ومن المفسرين من قال: إن «الإنسان» فى الآية، أبو جهل، ومنهم من قال: عقبة بن أبى معيط، منهم من قال: الوليد بن المغيرة، ومنهم من قال:
إخبار عن شرع من قبلنا، وقد دل شرعنا أن الإنسان له سعيه، وما سعى له، ومنهم من قال: الإنسان بسعيه فى الخير وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب، وأسدى لهم الخير وتودد إليهم فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه.
ومنهم من قال «الإنسان» فى الآية للحى دون الميت. ومنهم من قال:
لم ينف فى الآية انتفاع الرجل بسعى غيره له، وإنما نفى ملكه لسعى غيره، وبين الأمرين فرق:
فقال الزمخشرى فى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «2» . فإن قلت:
أما صح فى الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه؟ قلت: فيه جوابان.
أحدهما: أن سعى غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعى نفسه، وهو أن يكون مؤمنا مصدقا، كان سعى غيره كأنه سعى نفسه لكونه تبعا له، وقائما مقامه.
والثانى: أن سعى غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه له فهو فى حكم الشرع كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه.
__________
(1) حسن: والحديث أخرجه أبو داود (1679) فى الزكاة، باب: فى فضل سقى الماء، والنسائى (6/ 254) فى الخيل، باب: الاختلاف على سفيان، وأحمد فى «المسند» (5/ 284) و (6/ 7) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1113) .
(2) سورة النجم: 39.(2/421)
والصحيح من الأجوبة: أن قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «1» .
عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة. وقد اختلف العلماء فى ثواب القراءة، وهل يصل للميت؟. فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعى ومالك، ونقل عن جماعة من الحنفية.
وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل، وبه قال أحمد بن حنبل- رحمه الله- بعد أن قال: القراءة على القبر بدعة، بل نقل عن الإمام أحمد:
يصل إلى الميت كل شىء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر غير ذلك.
وذكر الشيخ شمس الدين القطان العسقلانى: أن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبى هو الصحيح، كما تنفعه الصدقة والدعاء والاستغفار بالإجماع.
وقد أفتى القاضى حسين: بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز، كالاستئجار للأذان وتعليما لقرآن.
لكن قال الرافعى وتبعه النووى: عود المنفعة إلى المستأجر شرط فى الإجارة، فيجب عود المنفعة فى هذه الإجارة إلى المستأجر أو لميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة. وذكروا له طريقين:
أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة.
والثانى: ذكر الشيخ عبد الكريم الشالوسى: أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، لكن لو قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينتفع الميت.
قال النووى فى زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضى حسين صحة
__________
(1) سورة النجم: 39.(2/422)
الإجارة مطلقا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة.
وهذا مقصود: ينتفع الميت.
وقال الرافعى وتبعه النووى فى الوصية: الذى يعتاد من قراءة القرآن على رأس القبر قد ذكرنا فى باب الإجارة طريقين فى عودة فائدتها إلى الميت. وعن القاضى أبى الطيب طريق ثالث: وهو أن الميت كالحى الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذ أهدى الثواب له القارئ.
وقال الشالوسى: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، إذ جعل ذلك قبل حصوله، وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ ثم جعل ما حصل من الثواب للميت ينفعه، إذ قد جعل من الأجر لغيره، والميت يؤجر بدعاء الغير. لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت، اعترض عليه بعضهم بأنه موقوف على الإجابة. ويمكن أن يقال: الدعاء للميت مستجاب- كما أطلقوا- اعتمادا على سعة فضل الله.
وقال الرافعى وتبعه النووى: يستوى فى الصدقة والدعاء، الوارث والأجنبى. قال الشافعى: وفى وسع الله أن يثب المتصدق أيضا. وقال الأصحاب: يستحب أن ينوى المتصدق الصدقة عن أبويه، فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئا.
وذكر صاحب العدة: أنه لو أنبط عينا أو حفر بئرا، أو غرس شجرا، أو وقف مصحفا فى حال حياته، أو فعل غيره بعد موته، يلحق الثواب بالميت.
وقال الرافعى والنووى: إن هذه الأمور إذا صدرت عن الحى فهى صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت، كما ورد فى الخبر، ولا يختص الحكم بوقف المصحف، بل يلحق به كل وقف، وهذا القياس يقتضى جواز التضحية عن الميت، فإنها ضرب من الصدقة، لكن فى التهذيب: أنه لا تجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا عن الميت إلا أن يكون أوصى به.
وقد روى عن على أو غيره من الصحابة أنه كان يضحى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد موته، وعن أبى محمد بن إسحاق السراج قال: ضحيت عن النبى- صلى الله عليه وسلم- سبعين أضحية.(2/423)
وأما إهداء القراءة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، وقد أنكره جماعة منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم.
وحكى صاحب «الروح» : أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة، قالوا: والنبى- صلى الله عليه وسلم- غنى عن ذلك، فإن له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شىء.
قال الشافعى: ما من خير يعمله أحد من أمة النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا والنبى- صلى الله عليه وسلم- أصل فيه.
قال فى تحقيق النصرة «1» : فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة فى صحائف نبينا- صلى الله عليه وسلم- زيادة على ما له من الأجر، مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية وهكذا تضعيف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وبهذا يعلم تفضيل السلف على الخلف. فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان للنبى- صلى الله عليه وسلم- من الأجر ألف وأربعة وعشرون، فإن اهتدى بالعاشر حادى عشر صار أجر النبى- صلى الله عليه وسلم- ألفين وثمانية وأربعون، وهكذا كلما ازداد واحد يضاعف ما كان قبله أبدا، كما قال بعض المحققين، انتهى. ولله در القائل، وهو سيدى محمد وفا:
فلا حسن إلا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلا له حسناته
وبهذا يجاب عن استشكال دعاء القارئ له- صلى الله عليه وسلم- بزيادة التشريف مع العلم بكماله- عليه الصلاة والسلام- فى سائر أنواع الشرف. فكأن الداعى
__________
(1) هو كتاب «تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة» لقاضيها زين الدين أبى بكر بن الحسين بن عمر العثمانى المراغى نزيل طيبة المتوفى سنة (816 هـ) ، قاله صاحب «كشف الظنون» (1/ 378) .(2/424)
لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير أجره، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول- وهو الشارع- صلى الله عليه وسلم- نظير جميع ذلك.
ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قولهم: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما «1» ، فثمرة الدعاء بذلك عائد إلى الداعى، لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا فى الصلاة عليه- زاده شرفا لديه- إن ثمرتها عائدة على المصلى- أشار لنحوه الحافظ ابن حجر.
* ومن خصائص هذه الأمة أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم.
رواه الطبرانى- فى الأوسط- من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا: «حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتى» «2» .
* ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون ألفا بغير حساب
«3» رواه الشيخان، وعند الطبرانى والبيهقى فى الشعب: «إن ربى وعدنى أن يدخل من أمتى الجنة سبعين ألفا لا حساب عليهم، وإنى سألت ربى المزيد فأعطانى مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا» «4» .
وبالجملة: فقد اختصت هذه الأمة بما لم يعطه غيرها من الأمم تكرمة لنبيها- صلى الله عليه وسلم- وزيادة فى شرفه، وتفصيل فضلها وخصائصها يستدعى سفرا بل أسفارا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
__________
(1) ضعيف: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه الطبرانى فى الكبير والأوسط، من حديث حذيفة بن أسيد- رضى الله عنه-، وفيه عاصم بن سليمان الكورى، وهو متروك، قاله الهيثمى فى «المجمع» (3/ 238) .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 69) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه صدقة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم وغيره وضعفه جماعة فإسناده حسن.
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو، ومسلم (220) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وفى الباب عن غيره من الصحابة- رضى الله عنهم-.
(4) حسن: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (2/ 92) من حديث ثوبان- رضى الله عنه-، وذكره الحافظ فى «الفتح» (11/ 410) مع طرق أخرى وقال: فهذه طرق يقوى بعضها بعضا، وجاء فى أحاديث أخرى أكثر من ذلك، فذكرها.(2/425)
المقصد الخامس الإسراء والمعراج
المقصد الخامس: فى تخصيصه- صلى الله عليه وسلم- بخصائص المعراج والإسراء، وتعميمه بلطائف التكريم فى حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى.
اعلم- منحنى الله وإياك الترقى فى معارج السعادات، وأوصلنا به إليه فى حظائر الكرامات- أن قصة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات، وأظهر البراهين البينات، وأقوى الحجج المحكمات، وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه- صلى الله عليه وسلم- بعموم الكرامات.
وقد اختلف العلماء فى الإسراء هل هو إسراء واحد فى ليلة واحدة؟
يقظة أو مناما؟ أو إسراآن كل واحد فى ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة مناما، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم مناما من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هى أربع إسراآت؟
* احتج القائلون بأنه رؤيا منام- مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء وحى- بقوله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «1» ، لأن الرؤيا مصدر الحلميّة، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريرى وغيرهما- كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشى- ورود «الرؤيا» للبصرية، ولحنوا المتنبى فى قوله:
ورؤياك أحلى فى العيون من الغمض
وأجيب: بأنه إنما قال «الرؤيا» لوقوع ذلك فى الليل، وسرعة تقضيه
__________
(1) سورة الإسراء: 60.(2/426)
كأنه منام، وبأن «الرؤيا» و «الرؤية» واحدة كقربى وقربة، ويشهد له قول ابن عباس فى الآية- كما عند البخارى-: هى رؤيا عين أريها- صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به «1» . وزاد سعيد بن منصور عن سفيان فى آخر الحديث: وليس رؤيا منام ولم يصرح فى رواية البخارى بالمرئى.
وعند سعيد بن منصور أيضا من طريق أبى مالك قال: هو ما أرى فى طريقه إلى بيت المقدس وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ «الرؤيا» على ما يرى بالعين فى اليقظة. وهو يرد على من خطأ المتنبى. على أنه اختلف المفسرون فى هذه الآية، فقيل: أى الرؤيا التى أريناك ليلة المعراج. قال البيضاوى ففسر الرؤيا بالرؤية. وقيل: رؤيا عام الحديبية، حين رأى أنه دخل مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس. وقيل: رؤيا وقعة بدر. وسأل ابن النقيب شيخه أبا العباس القرطبى عن الآية فقال: الصحيح أنها رؤية عين يقظة، أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس مصارعهم التى أراه جبريل، فتسامعت به قريش واستسخروا منه. انتهى.
* واحتج القائلون بأنه رؤيا منام أيضا بقول عائشة: «ما فقدت جسده الشريف» «2» .
وأجيب: بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة، لأنها لم تكن إذ ذاك زوجا، ولا فى سن من يضبط، أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف فى الإسراء متى كان. وقال التفتازانى: أى ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والروح جميعا. انتهى.
* واحتج القائلون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى «3» ، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذى وقع التعجب
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3888) فى فضائل الصحابة، باب: المعراج.
(2) لم أقف عليه.
(3) سورة الإسراء: 1.(2/427)
به بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبى- صلى الله عليه وسلم- به، وإظهار الكرامة له بالإسراء. قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ بالمدح.
وأجيب: بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له عنه على سبيل الامتحان عما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما رأى فى السماء، إذ لا عهد لهم بذلك.
وقال النووى فى فتاويه: وكان الإسراء به- صلى الله عليه وسلم- مرتين: مرة فى المنام، ومرة فى اليقظة.
وذكر السهيلى تصحيح هذا المذهب عن شيخه القاضى أبى بكر بن العربى، وأن مرة النوم توطئة له وتيسير عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء قد سهله الله عليه بالرؤيا، لأن هوله عظيم، فجاء فى اليقظة على توطئة وتقدمة، رفقا من الله بعبده وتسهيلا عليه.
وقد جوز بعض قائلى ذلك أن تكون قصة المنام قبل المبعث، لأجل قول شريك فى رواية: «وذلك قبل أن يوحى إليه» «1» . واستشهدوا له بقول عائشة- رضى الله عنها-: أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلى جاءت كفلق الصبح «2» وسيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى-.
* واحتج القائلون بأنه أربع إسراآت يقظة بتعدد الروايات فى الإسراء،
__________
(1) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث عند البخارى (3570) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومسلم (162) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (160) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.(2/428)
واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئا ذكره الآخر.
وأجيب: بأنه لا يدل على التعدد، لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه. وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الآخرى مرة على حدة فأثبت إسراآت متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب. ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف.
ولو تعدد هذا التعدد لأخبر- صلى الله عليه وسلم- به أمته، ولنقله الناس على التعدد والتكرار. انتهى.
وقد وقع فى رواية عبثر بن القاسم- بموحدة ثم مثلاثة بوزن جعفر- فى رواية عن حصين بن عبد الرحمن، عند الترمذى والنسائى: لما أسرى برسول الله- صلى الله عليه وسلم- جعل يمر بالنبى ومعه الواحد، الحديث. فإن كان ذلك محفوظا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأن الذى وقع بالمدينة أيضا غير الذى وقع بمكة.
قال فى فتح البارى: والذى يتحرر فى هذه المسألة أن الإسراء الذى وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماء بابا بابا، ومن التقاء الأنبياء كل واحد فى سماء، ولا المراجعة معهم، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلاة، ولا فى طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك. وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها- صلى الله عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها فى المنام والله أعلم. انتهى.
وقال بعض العارفين: إن له- صلى الله عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة، الذى أسرى به منها إسراء واحد بجسمه، والباقى بروحه رؤيا رآها. انتهى. فالحق: أنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، فى القصة كلها. إلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغى العدول عن ذلك، إذ ليس فى العقل ما يحيله. قال الرازى: قال أهل التحقيق: الذى يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد- صلى الله عليه وسلم- وجسده(2/429)
من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر: أما القرآن فهو قوله تعالى:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «1» ، وتقرير الدليل: أن «العبد» اسم للجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح، ويدل عليه قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى «2» ولا شك أن المراد هنا مجموع الروح والجسد، وأيضا: قال سبحانه وتعالى فى سورة الجن:
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «3» ، والمراد: مجموع الروح والجسد وكذا هاهنا، انتهى.
واحتجوا أيضا: بظاهر قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أسرى بى» لأن الأصل فى الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى يدل دليل على خلافه. وبأن ذلك لو كان مناما لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استبعده الأغبياء. وبأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسرى به على البراق.
فإن قلت: ما الحكمة فى كونه تعالى جعل الإسراء ليلا؟
أجيب: بأنه إنما جعله ليلا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة، لأنه تعالى اتخذه- صلى الله عليه وسلم- حبيبا وخليلا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة بالحبيب متحققة بالليل «4» . قال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانا بالغيب وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم.
إذ الليل أخفى حالا من النهار، قال: ولعله لو عرج به نهارا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقى وجحد، انتهى.
وفى ذلك حكمة أخرى على طريقة أهل الإشارات، ذكرها العلامة ابن مرزوق، وهى: أنه قيل لأن الله تعالى لما محا آية الليل وجعل آية النهار
__________
(1) سورة الإسراء: 1.
(2) سورة الجن: 9، 10.
(3) سورة الجن: 19.
(4) قلت: أرى أن علة ابن المنير، أولى بالترجيح.(2/430)
النهار على الليل بالشمس فقيل له: لا تفتخر، إن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود فى الليل إلى السماء. وقيل: لأنه- صلى الله عليه وسلم- سراج، والسراج إنما يوقد بالليل، وأنشد:
قلت يا سيدى تؤثر اللي ... ل على بهجة النهار المنير
قال لا أستطيع تغيير رسمى ... هكذا الرسم فى طلوع البدور
إنما زرت فى الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نورى
فإن قلت: أيما أفضل، ليلة الإسراء أو ليلة القدر؟ فالجواب: - كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش- أن ليلة الإسراء أفضل فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم-، وليلة القدر أفضل فى حق الأمة، لأنها لهم خير من عمل فى ثمانين سنة لمن قبلهم، وأما ليلة الإسراء فلم يأت فى أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف. ولذلك لم يعينها النبى- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن ولا إلى أن تقوم الساعة فيها شىء، ومن قال فيها شيئا فإنما قاله من كيسه لمرجح ظهر له استأنس به، ولهذا تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شىء، ولو تعلق بها نفع للأمة- ولو بذرة- لبينه لهم نبيهم- صلى الله عليه وسلم-، انتهى.
فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره- صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء؟ أجاب العارف عبد العزيز المهدوى: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية لم تكن لأحد من الأنبياء، إلا لنبينا- صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
وإنما قال تعالى: أَسْرى بِعَبْدِهِ «1» إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به، ليعلم أن الإسراء من عنده عز وجل هبة إلهية، وعناية ربانية، سبقت له- صلى الله عليه وسلم- مما لم يخطر بسره، ولا اختلج فى ضميره.
وأدخل «باء» المصاحبة فى قوله تعالى: بِعَبْدِهِ «2» ليفيد أنه تعالى
__________
(1) سورة الإسراء: 1.
(2) سورة الإسراء: 1.(2/431)
صحبه فى مسراه، صحبة بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية، ويشهد له قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أنت الصاحب فى السفر» «1» .
وتأمل قوله تعالى: يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «2» ، وقوله أَسْرى بِعَبْدِهِ «3» يلح لك خصوصية مصاحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- للحق دون عموم الخلق.
وقرن سبحانه وتعالى «التسبيح» بهذا المسرى، لينفى بذلك عن قلب صاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه والتجسيم ما يتخيله فى حق الحق تعالى من الجهة والحد والمكان، ولذا قال: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا «4» يعنى ما رأى فى تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه تعالى يقول: ما أسريت به إلا لنريه الآيات، لا «إلى» فإنه لا يحدنى مكان، ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسرى به إلى، وأنا عنده، وأنا معه أينما كان. ولله در القائل:
سبحان من أسرى إليه بعبده ... ليرى الذى أخفاه من آياته
كحضوره فى غيبه وكسكره ... فى صحوه والمحو فى إثباته
ويرى الذى عنه تكون سره ... فى صنعه إن شاءه وهباته
ويريه ما أبدى له من جوده ... بوجوده والفقد من هيئاته
سبحانه من سيد ومهيمن ... فى ذاته وسماته وصفاته
وأكده تعالى بقوله: لَيْلًا «5» مع أن الإسراء لا يكون فى اللسان العربى إلا ليلا، لا نهارا، ليرتفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط، ويزيل من خاطر من يعتقد أن الإسراء ربما يكون نهارا، فإن القرآن
__________
(1) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه مسلم (1342) فى الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره.
(2) سورة يونس: 22.
(3) سورة الإسراء: 1.
(4) سورة الإسراء: 1.
(5) سورة الإسراء: 1.(2/432)
- وإن كان نزل بلغة العرب- فإنه خاطب به الناس أجمعين، أصحاب اللسان وغيرهم.
وقال البيضاوى تبعا لصاحب الكشاف: وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء، ولذلك قرئ «من الليل» أى بعضه: كقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» وتعقبه القطب فى حاشيته على الكشاف كما نبهت عليه فى حاشية الشفاء.
والمعاريج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السماوات، والثامن إلى سدرة المنتهى. والتاسع إلى المستوى الذى سمع فيه صريف الأقلام فى تصاريف الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب بالمكافحة والكشف الحقيقى.
وقد وقع له- صلى الله عليه وسلم- فى سنى الهجرة العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة لهذه المعاريج العشرة، ولهذا ختمت سنى الهجرة بالوفاة، وهى لقاء الحق جل جلاله، والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق، وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهى المنزلة الرفيعة. كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس.
وقد أفاد الإمام الذهبى أن الحافظ عبد الغنى جمع أحاديث الإسراء فى جزأين، ولم يتيسر لى الوقوف عليهما بعد الفحص. وقد صنف الشيخ أبو إسحاق النعمانى- رحمه الله- فى الإسراء والمعراج كتابا جامعا للأطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق، ولم أقف عليه حالة كتابتى هذا المقصد الشريف.
ويرحم الله تعالى شيخ الإسلام والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلانى، فإنه قد جمع فى كتابه «الفتح» كثيرا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث، مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معانى كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه. وكل من صنف فى شىء من المنح النبوية، والمناقب
__________
(1) سورة الإسراء: 79.(2/433)
المحمدية لا يستغنى عن استجناء معارف اللطائف من رياض «عياض» «1» والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء «شفائه» المبرئ لمعضل الأمراض. فالله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء هذه الأمة سجال رحمته ورضوانه ويسكننا معهم فى بحبوحة جناته.
وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس، وأبى بن كعب، وجابر ابن عبد الله، وبريدة، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عمرو، وحذيفة بن اليمان، وشداد بن أوس، وصهيب، وعلى ابن أبى طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبى أمامة، وأبى أيوب، وأبى حبة، وأبى ذر، وأبى سعيد الخدرى، وأبى سفيان بن حرب، وأبى هريرة، وعائشة، وأسماء بنت أبى بكر، وأم هانئ، وأم سلمة، وغيرهم- رضى الله تعالى عنهم أجمعين-.
وفى تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفى ويشفى. وبالجملة:
فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة الملحدون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «2» .
وقد روى البخارى، عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبى الله- صلى الله عليه وسلم- حدثهم عن ليلة أسرى به [قال] :
(بينما أنا نائم فى الحطيم- وربما قال: فى الحجر- مضطجعا، إذ أتانى آت فقدّ- قال: سمعته يقول: فشق- ما بين هذه إلى هذه. قال: فقلت للجارود وهو إلى جنبى: ما يعنى به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته.
فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبى، ثم حشى ثم أعيد.
ثم أتيت بدابة، دون البغل وفوق الحمار أبيض- فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم- يضع خطوه عند أقصى طرفه،
__________
(1) يقصد القاضى عياض، صاحب كتاب «الشفا فى حقوق المصطفى» .
(2) سورة الصف: 8.(2/434)
فحملت عليه، فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، قيل:
من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا بك فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء ففتح لنا، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى إلى السماء الثالثة، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:(2/435)
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ والنبى الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكى لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى.
ثم صعد بى إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال:
نعم، قال: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.
ثم رفع إلى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فاخترت اللبن، فقال: هى الفطرة التى أنت عليها وأمتك.
ثم فرضت على الصلاة، خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: فقلت أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال:
إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإنى والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس(2/436)
صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربى حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوزت نادانى مناد: أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى) «1» .
وفى رواية له: (ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه فى صدرى ثم أطبقه) «2» .
وفى رواية شريك: (فحشا به صدره ولغاديده) «3» وهى بلام مفتوحة وغين معجمة، أى عروق حلقه، وفى النهاية: جمع لغدوده: وهى لحمة مشرفة عند اللهاة.
والشك فى قوله: «ربما قال فى الحجر» من قتادة، كما بينه أحمد عن عفان، ولفظه: (بينما أنا فى الحطيم، وربما قال قتادة: فى الحجر) . والمراد بالحطيم هنا: الحجر.
ووقع عند البخارى فى أول بدء الخلق بلفظ (بينما أنا عند البيت) «4» وهو أعم. وفى رواية الزهرى عن أنس عن أبى ذر (فرج سقف بيتى وأنا بمكة) «5» . وفى رواية الواقدى بأسانيده: أنه أسرى به من شعب أبى طالب.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3887) فى المناقب، باب: المعراج، ومسلم (164) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلاة.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، ومسلم (163) فيما سبق، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (7517) فى التوحيد، باب: قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3207) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث مالك ابن صعصعة- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: وهى رواية أبى ذر المتقدمة قبل حديثين.(2/437)
وفى حديث أم هانئ- عند الطبرانى- أنه بات فى بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال: «إن جبريل أتانى» «1» .
والجمع بين هذه الأقوال- كما فى فتح البارى «2» - أنه بات فى بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبى طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخذه الملك فأخرجه من المسجد، فأركبه البراق. قال: وقد وقع فى مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع.
فإن قيل: لم فرج سقف بيته- صلى الله عليه وسلم- ونزل منه الملك، ولم لم يدخل عليه من الباب، مع قوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «3» .
أجيب: بأن الحكمة من ذلك أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة، ولم يعرج على شىء سواه، مبالغة فى المفاجأة، وتنبيها له على أن الطالب وقع على غير ميعاد، كرامة له- صلى الله عليه وسلم-.
وهذا بخلاف موسى- عليه الصلاة والسلام-، فكانت كرامته بالمناجاة عن ميعاد واستعداد بخلاف نبينا- صلى الله عليه وسلم- فإنه حمل عنه ألم الانتظار، كما حمل عنه ألم الاعتذار. ويؤخذ من هذا: أن مقام نبينا- صلى الله عليه وسلم- بالنسبة إلى مقام موسى- عليه السّلام- مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد. ويحتمل أن يكون توطئة وتمهيدا لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف ثم التأم السقف على الفور كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر فى نفسه بالمثال المشاهد فى بيته، لطفا فى حقه- صلى الله عليه وسلم- وتثبيتا لصبره، والله أعلم.
* وقوله: (مضطجعا) زاد فى بدء الخلق (بين النائم واليقظان) وهو
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 75، 76) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه عبد الأعلى بن أبى المساور، متروك كذاب.
(2) (7/ 204) .
(3) سورة البقرة: 189.(2/438)
محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق، استمر فى يقظته.
* وأما ما وقع فى رواية شريك عنده أيضا (فلما استيقظت) فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد استيقظت: أفقت، يعنى أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوى، فالمراد: الإفاقة البشرية من الغمرة الملكية.
* وقوله: (إذ أتانى آت) هو جبريل- عليه السّلام-، وفى رواية شريك (أنه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحى إليه، وهو نائم فى المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم وكانت تلك الليلة- أى كانت القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا- فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه ... ) «1» .
وقد أنكر الخطابى قوله: (قبل أن يوحى إليه) وكذا القاضى عياض والنووى، وعبارة النووى: وقع فى رواية شريك- يعنى هذه- أوهام أنكرها العلماء، أحدها قوله: (قبل أن يوحى إليه) وهو غلط فلم يوافق عليه.
وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحى. انتهى. فقد صرح هؤلاء بأن شريكا تفرد بذلك.
لكن قال الحافظ ابن حجر: فى دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس- بالمعجمة ونون مصغرا- عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموى فى كتاب المغازى له من طريقه. قال: ولم يقع التعيين بين المجيئين، فيحمل على أن المجىء الثانى كان بعد الوحى، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج. وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة أو ليالى أو عدد سنين وبهذا يرتفع الإشكال من رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان فى اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة وسقط
__________
(1) صحيح: وقد تقدمت رواية شريك أكثر من مرة.(2/439)
تشنيع الخطابى وغيره بأن شريكا خالف الإجماع فى دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة، قوله فى هذا الحديث نفسه: أن جبريل قال لبواب السماء إذ قال له: أبعث؟ قال: نعم، فإنه ظاهر فى أن المعراج كان بعد البعثة.
* ووقع فى رواية ميمون بن سياه- عند الطبرانى-: فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤوه وهم ثلاثة. وفى رواية مسلم: سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بى. والمراد بالرجلين: حمزة وجعفر وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- نائما بينهما.
* وقوله: «فقد» بالقاف والدال المهملة الثقيلة. «من ثغره» بضم المثلاثة وسكون الغين المعجمة، وهو الموضع المنخفض الذى بين الترقوتين. «إلى شعرته» بكسر الشين المعجمة، أى شعر العانة الشريفة. وفى رواية مسلم: إلى أسفل بطنه. وفى رواية البخارى: إلى مراق البطن. وفى رواية شريك- عنده-: فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته- بفتح اللام وتشديد الموحدة- وهو موضع القلادة من الصدر.
وقد أنكر القاضى عياض فى «الشفاء» وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبى قبل الوحى فى بنى سعد. ولا إنكار فى ذلك- كما قاله الحافظ أبو الفضل العسقلانى- رحمه الله- فقد تواترت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم فى الدلائل، ولكل منها حكمة:
فالأول: وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس: فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك «1» . وكان هذا فى زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان. ولعل هذا الشق كان سببا فى
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (161) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفرض الصلوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/440)
إسلام قرينه المروى عند البزار من حديث ابن عباس «1» . ويحتمل أن يكون إشارة إلى حظ الشيطان المباين كالعفريت الذى أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه.
وأما شق الصدر عند المبعث، فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوى على أكمل الأحوال من التطهير.
وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء، فللتهيؤ للترقى إلى الملأ الأعلى، والثبوت فى المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء الأسماء الحسنى، ولهذا لما لم يتفق لموسى- عليه الصلاة والسلام- مثل هذا التهيؤ لم تتفق له الرؤية، وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل؟! ويحتمل أن تكون الحكمة فى هذا الغسل، لتقع المبالغة فى الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرر فى شرعه- صلى الله عليه وسلم-. ثم إن جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شىء من ذلك.
قال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن قدره الله عز وجل لا يعجزها ممكن، ولا تتوقف لعدم شىء ولا لوجوده، وليست مربوطة بالعادة إلا حيث شاءته القدرة، لأنه ما يعهد ويعرف أن البشر مهما شق بطنه كله وانجرح القلب مات ولم يعش، وهذا النبى- صلى الله عليه وسلم- قد شق بطنه المكرمة، حتى أخرج القلب فغسل، وقد شق بطنه كذلك أيضا وهو صغير وشق قلبه وأخرجت منه نزغة الشيطان. ومعلوم أن القلب هما وصل له الجرح مات صاحبه، وهذا النبى- صلى الله عليه وسلم- شق بطنه فى هاتين المرتين، ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أن أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما أجرى به العادة، أن يؤثر موت صاحبها، فأبطل تلك العادة. وقد رمى إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- فى النار فلم تحرقه، وكانت عليه بردا وسلاما. انتهى.
__________
(1) تقدم.(2/441)
وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه- صلى الله عليه وسلم- بتحقيق ما أوتى من الصبر، فهو من جنس ما أكرم به إسماعيل الذبيح بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدّا وكتفا وتلّا للجبين، وإهواء بالمدية إلى المنحر فقال:
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «1» ، ووفى بما وعد الله، فأكرمه الله بالثناء على صبره إلى الأبد.
ولا مرية أن الذى حصل من صبر نبينا- صلى الله عليه وسلم- على شق الصدر أشق وأجل، لأن تلك مقدمات وهذه نتيجة، وتلك معاريض وهذه حقيقة، والمنحر مقتل وما أصابه من إسماعيل إلا صورة القتل لا فعله، وشق صدر نبينا- صلى الله عليه وسلم- واستخراج قلبه ثم شقه ثم كذا ثم كذا مقاتل عديدة وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر.
فإن قلت: إنما يتحقق الصبر لو كان هناك مشقة، فلعل العادة لما انخرقت فى إبقاء الحياة انخرقت فى رفع المشاق وحمل الآلام.
أجيب: بأنه ورد فى حديث شق صدره: فأقبل وهو منتقع اللون أو ممتقع اللون، بالميم بدل النون، وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعاجلة المذكورة محقق. قال القاضى عياض: وأصل «انتقع» صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة. وأما قول ابن الجوزى: فشقه وما شق عليه، فيحمل على أنه صبر صبر من لا يشق عليه. انتهى.
وكذلك الابتلاء أيضا من حيث السن، فإن ذلك وقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- بعيد ما فطم، وأيضا: فإنه كان منفردا عن أمه ويتيما من أبيه، واختطف من بين الأطفال، وفعل به ما فعل من الأفعال تسهيلا لما يلقاه فى المال، وتعظيما لما يناله على الصبر من الثواب والثناء، ولهذا لما شج وجرح وكسرت رباعيته
__________
(1) سورة الصافات: 102.(2/442)
قال: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» «1» ، زاده الله شرفا. وقوله: «ثم أتيت بطست من ذهب» إنما أتى بالطست لأنه أشهر آلات الغسل عرفا.
فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام فى شرعه- صلى الله عليه وسلم- فكيف استعمل الطست الذهب هنا؟
أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به فى هذه الدار، وأما فى الآخرة فهو للمؤمنين خالصا، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «هو لهم فى الدنيا وهو لنا فى الآخرة» «2» قال: ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه- صلى الله عليه وسلم- وإنما كان غيره هو السائق له والمتناول لما كان فيه حتى وضعه فى القلب المبارك. فسوقان الطست المبارك من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام فانتفى التعارض بدليل ما قررناه.
انتهى.
وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لا يكفى أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة، لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره فى أمر يتعلق ببدنه المكرم. ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع فى تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة، أو لعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة. ويظهر هاهنا مناسبات: منها أنه من أوانى الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، وأنه لا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب قلبه- صلى الله عليه وسلم- لأنه من أوانى أحوال الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، وإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولا يلحقه الصدأ، وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى وهى ثقل الوحى فيه. انتهى.
__________
(1) قلت: هو عند البخارى (3477) فى أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (1792) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه- قال: كأنى أنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحكى نبيّا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رب اغفر لقومى، فإنهم لا يعلمون» .
(2) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (5426) فى الأطعمة، باب: الأكل فى إناء مفضض، ومسلم (2067) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.(2/443)
قلت: قوله: «ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة» . قد جزم هو فى أول الصلاة من كتابه فتح البارى: بأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة. وقال السهيلى وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه ولكونه عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفائه. انتهى. والمراد بقوله: (ملئ حكمة وإيمانا) أن الطست جعل فيها شىء يحصل به كمال الإيمان والحكمة فسمى حكمة وإيمانا مجازا. ويحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسد المعانى جائز، كما أن سورة البقرة تجىء يوم القيامة كأنها ظلة، والموت فى صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك. وقال البيضاوى: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعانى قد وقع كثيرا، كما مثلت له- صلى الله عليه وسلم- الجنة والنار فى عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوى بالمحسوس.
وقال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معانى، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال عن الطست: إنه أتى به مملوآ إيمانا وحكمة، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعانى ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يمتلئ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص من الشارع- صلى الله عليه وسلم- بضد ما ذهب إليه المتكلمون فى قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض.
والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه، هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التى ليس للحواس فيها إدراك، ولا من النبوة إخبار عن حقيقتها غير محققة، وإنما هى غلبة ظن، لأن للعقل- بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق- حدّا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها، لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التى ذكرها الشارع- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة التى أخبر بها- صلى الله عليه وسلم-. فيكون الجمع بينهما أن يقال:
ما قاله المتكلمون حق لأنه الصادر عن الجواهر وهو الذى يدرك بالعقل.
والحقيقة ما ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث.(2/444)
ولهذا نظائر كثيرة بين المتكلمين وآثار النبوة، ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذى قررناه وما أشبهه. ثم مثل بمجىء الموت فى هيئة كبش أملح، ثم بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات لأنها توزن، ولا يوزن فى الميزان إلا الجواهر.
قال: وفى ذلك دليل لأهل الصوفية وأصحاب المعاملات والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم جواهر محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح، ومنهم من يعاينه مثل الشمعة، ومنهم من يعاينه مثل المشعل وهو أقواها. ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققا حتى يعاين قلبه بعين بصيرته، كما يعاين كفه بعين بصره فيعرف الزيادة فيه من النقصان «1» .
فإن قيل: ما الحكمة فى شق صدره الشريف ثم ملئ إيمانا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك فيه من غير أن يفعل فيه ما فعل؟
أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأنه- صلى الله عليه وسلم- لما أعطى كثرة الإيمان والحكمة وقوى التصديق إذ ذاك، أعطى برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف من جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له- صلى الله عليه وسلم- قوة الإيمان من ثلاثة أوجه: بقوة التصديق، والمشاهدة، وعدم الخوف من العادات المهلكات فكمل له- صلى الله عليه وسلم- بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل، وعدم الخوف مما سواه. ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه كان- صلى الله عليه وسلم- فى العالمين أشجعهم وأثبتهم وأعلاهم حالا ومقالا.
ففى العلوى: كان- كما أخبر- صلى الله عليه وسلم- أن جبريل لما وصل معه إلى مقامه قال: ها أنت وربك، وهذا مقامى لا أتعداه، فزج فيه- أى فى النور- زجة ولم يتوان ولم يتلفت، فكان هناك فى الحضرة كما أخبر عنه ربه عز وجل بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2» . وأما حاله- صلى الله عليه وسلم- فى هذا
__________
(1) قلت: الإيمان عند أهل السنة والجماعة، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويستشعر بذلك المؤمن مع نفسه.
(2) سورة النجم: 17.(2/445)
العالم: فكان إذا حمى الوطيس فى الحرب ركض بغلته فى نحر العدو، وهم شاكون فى سلاحهم، ويقول: أنا ابن عبد المطلب، أنا النبى لا كذب «1» . ثم إن العناية بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة، فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة فى أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر والفكر إنما هو القلب لا الدماغ، خلافا للمعتزلة والفلاسفة.
وأما الحكمة فى غسل قلبه المقدس بماء زمزم، فقيل لأن ماء زمزم يقوى القلب ويسكن الروع. قال الحافظ الزين العراقى: ولذلك غسل به قلبه- صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء ليقوى على رؤية الملكوت. واستدل شيخ الإسلام البلقينى، بغسل قلبه الشريف به على أنه أفضل من ماء الكوثر، قال: لأنه لم يكن يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه، وإليه يومئ قول العارف ابن أبى جمرة فى كتابه «بهجة النفوس» .
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فغسل صدرى» فالظاهر أن المراد به القلب، كما فى الرواية الآخرى، وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بأن يقال: أخبر- صلى الله عليه وسلم- مرة بغسل صدره الشريف ولم يتعرض لذكر قلبه، وأخبر مرة بغسل قلبه ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما معا مبالغة فى تنظيف المحل المقدس. ولا شك أن المحل الشريف كان طاهرا مطهرا وقابلا لجميع ما يلقى إليه من الخير، وقد غسل أولا وهو- صلى الله عليه وسلم- طفل، وأخرجت من قلبه نزعة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظاما وتأهبا لما يلقى هناك، وقد جرت الحكمة بذلك فى غير ما موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفا، لأن الوضوء فى حقه إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدى الله تعالى ومناجاته، فلذلك غسل جوفه الشريف هنا، وقد قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ «2» فكان الغسل له
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2864) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (1776) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين، من حديث البراء ابن عازب- رضى الله عنه-.
(2) سورة الحج: 32.(2/446)
- صلى الله عليه وسلم- من تعظيم شعائر الله، وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم شعائر الله، كما نص لهم عليه بالقول.
وأما قوله: «ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا» وفى رواية عنده فى الصلاة «ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء» . فظاهره:
أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء.
قال العارف ابن أبى جمرة: أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون فى الهواء، وقد جرت العادة بأن البشر لا يمشى فى الهواء، سيما وقد كان راكبا على دابة من ذوات الأربع، لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان، فكما بسط الله تعالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشون فى الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية. وقد سئل- صلى الله عليه وسلم- حين أخبر عن الأشقياء الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الذى أمشاهم فى الدنيا على أقدامهم قادر أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم» «1» . انتهى.
وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج كان فى ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليهم لم يذكر هنا. فأما المعراج ففى غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رقى فى المعراج وهو السلم، كما وقع التصريح به فى حديث عند ابن إسحاق والبيهقى فى الدلائل كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.
ويمكن أن يقال: ما وقع هنا اختصار من الراوى، والإتيان ب «ثم» المقتضية للتراخى لا ينافى وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما:
الانطلاق والعروج. وحاصله: أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وثابت البنانى قد حفظ الحديث. ففى روايته عند مسلم: أنه أتى بيت المقدس فصلى فيه ثم عرج إلى السماء كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. وقد قيل:
إن الحكمة فى الإسراء به راكبا، مع القدرة على طى الأرض له، إشارة إلى
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2806) فى صفة القيامة، باب يحشر الكافر على وجهه، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/447)
أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة، فى مقام خرق العادة، لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى من يختص به بعث إليه بمركوب سنى يحمله عليه فى وفادته إليه.
وفى كلام بعض أهل الإشارات: لما كان- صلى الله عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون ودرة صدفة الوجود، وسرّ معنى كلمة «كن» ولم يكن بد من عرض هذه الثمرة بين يدى مثمرها رفعها إلى حضرة قربه، والطواف بها على ندمان حضرته، أرسل إليه أعز خدام الملك عليه، فلما ورد عليه قادما، وافاه على فراشه نائما، فقال له قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم. قال: يا جبريل إلى أين؟ قال: يا محمد ارفع «الأين» من البين، إنما أنا رسول القدم أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة، الكل مراد لأجلك، وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة، أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعارف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمى ذلك الحمى إلا لوصلك، وما روّق كأس المحبة إلا لشربك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل فالكريم يدعونى إليه، فما الذى يفعل بى؟ قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: يا جبريل هذا لى، فما لعيالى وأطفالى؟ قال: ولسوف يعطيك ربك فترضى، قال: يا جبريل الآن طاب قلبى ها أنا ذاهب إلى ربى، ثم قال جبريل: يا محمد إنما جىء بى إليك الليلة لأكون خادم دولتك، وحاجب حاشيتك، وحامل غاشيتك، وجىء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك، لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبا أو استودعوا قريبا وأرادوا ظهور إكرامه واحترامه أرسلوا أخص خدامهم وأعز نوابهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب السلوك، ومن اعتقد أنه وصل إليه بالخطا فقد وقع بالخطأ، ومن ظن أنه محجوب بالغطا فقد حرم العطا.
انتهى «1» .
والحكمة فى كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، ولم يكن على شكل الفرس، إشارة إلى أن الركوب كان فى سلم وأمن لا فى حرب
__________
(1) قلت: ومنذ متى نأخذ ديننا من أهل الإشارات، أجهل الأمة بهذا الدين، والأولى العمل بأهل التصريحات الذين هم سلف هذه الأمة الصحابة والتابعون على هداهم إلى يوم الدين.(2/448)
وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك فى العادة. وذكره بقوله: أبيض، باعتبار كونه مركوبا، أو عطفا على لفظ البراق. واختلف فى تسميته بذلك، فقيل: من البريق، وقال القاضى عياض:
لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان فى خلال صوفها الأبيض طاقات سود، وقيل: من البرق، لأنه وصف بسرعة السير، ويحتمل أن لا يكون مشتقا.
ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه- بسكون الراء وبالفاء- أى يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره فى خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة، لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السماوات فى سبع خطوات. انتهى.
وفى حديث ابن مسعود عند أبى يعلى والبزار- كما أفاده فى الفتح-:
إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه. وفى رواية لابن سعد عن الواقدى بأسانيده: له جناحان. قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره.
وعند الثعلبى- بسند ضعيف- عن ابن عباس، فى صفة البراق: له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء. وفى رواية أبى سعد فى «شرف المصطفى» فكان الذى أمسك بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل.
وفى رواية معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتى بالبراق ليلة أسرى به مسرجا ملجما، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا، ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال: فارفض عرقا «1» .
أخرجه الترمذى وقال: حسن غريب وصححه ابن حبان.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3131) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وأحمد فى «المسند» (3/ 164) ، وابن حبان فى «صحيحه» (46) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/449)
وذكر ابن إسحاق عن قتادة: أنه لما شمس «1» وضع جبريل- عليه السّلام- يده على معرفته وقال: أما تستحى وذكر نحوه، لكنه مرسل لأنه لم يذكر أنسا.
وفى رواية وثيمة عند ابن إسحاق: نعست حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها. وفى رواية للنسائى وابن مردويه من طريق يزيد بن أبى مالك عن أنس نحوه موصولا، وزاد: وكانت تسخر للأنبياء قبله، ونحوه من حديث أبى سعيد عند ابن إسحاق.
وفيه دلالة على أن البراق كان معدّا لركوب الأنبياء، خلافا لمن نفى ذلك، كابن دحية، وأوّل قول جبريل: «فما ركبك أكرم على الله منه» أى: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه؟ فيكون مثل قول امرىء القيس:
على لاحب لا يهتدى لمناره فيفهم أن له منارا لا يهتدى له، وليس المراد: إلا أنه لا منار له البتة فكيف يهتدى به، فتأمله: وقد جزم السهيلى بأن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله. وقال النووى: قال صاحب مختصر العين، وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق. قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح، انتهى وقد تقدم النقل بذلك.
قال فى الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: (فربطته بالحلقة التى كانت تربط بها الأنبياء) انتهى. فليتأمل فإنه ليس فيه فربطته بالحلقة التى كانت تربطه بها الأنبياء، وإنما قال: تربط بها الأنبياء وسكت عن ذكر المربوط ما هو؟ فيحتمل- كما قال ابن المنير- أن يكون غير البراق، ويحتمل أن يكون ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أى تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى، انتهى.
ولكن وقع التصريح بذلك فى حديث أبى سعيد عند البيهقى ولفظه:
«فأوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأنبياء تربطها فيها» وقد وقع عند ابن إسحاق من رواية وثيمة فى ذكر الإسراء: فاستصعب البراق وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت فى الفترة.
__________
(1) شمس الفرس: منع ظهره، فهو شامس وشموس، من شمس وشمس.(2/450)
وفى مغازى ابن عائذ، من طريق الزهرى عن سعيد بن المسيب قال:
البراق هى الدابة التى كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل. وعلى هذا فلا يكون ركوب البراق من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. نعم قيل: ركوبه مسرجا ملجما لم يرد لغيره من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه؟
أجيب: بأنه تنبيه على أنه لم يذلل قبل ذلك، إن قلنا إنه لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد بركوبه إن قلنا إنه ركب قبله. ويحتمل أن يكون استصعابه تيها وزهوا بركوبه- صلى الله عليه وسلم-، وأراد جبريل «أبمحمد تستصعب» استنطاقه بلسان الحال أنه لم يقصد الصعوبة وإنما تاه زهوا لمكان الرسول- صلى الله عليه وسلم- منه، ولهذا قال: فارفض عرقا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبرئا من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، ومثل هذا رجفة الجبل به حتى قال:
«اثبت فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان» «1» فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. وكذلك البراق لما قال له جبريل: اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه استقر وخجل من ظاهر الاستصعاب وتوجه الخطاب فعرق حتى غرق.
ووقع فى حديث حذيفة عند الإمام أحمد قال: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالبراق فلم يزل على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس. وهذا لم يسنده حذيفة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله: «هو وجبريل» متعلقا بمرافقته فى السير، لا فى الركوب. وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فلا مدخل لغيره فيها.
وقد تعقب الحافظ ابن حجر التأويل المذكور: بأن فى صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود: أن جبريل حمله على البراق رديفا له، وفى رواية الحارث فى مسنده: أتى بالبراق فركبه خلف جبريل فسار بهما. فهذا صريح فى ركوبه معه، والله أعلم، انتهى.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.(2/451)
وقد وقع فى غير هذه الرواية بيان ما رآه فى ليلة الإسراء، فمن ذلك:
ما وقع فى حديث شداد بن أوس- عند البزار والطبرانى، وصححه البيهقى فى الدلائل- أنه أول ما أسرى به مرّ بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى، فقال: صليت بيثرب، ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فصلى، فقال: صليت بمدين، ثم مر ببيت لحم فقال:
انزل فصل، فنزل فصلى، فقال صليت حيث ولد عيسى «1» .
وفى حديث أنس عند البيهقى فى الدلائل «2» : لما جاء جبريل بالبراق إليه- صلى الله عليه وسلم- فكأنها أصرت أذنيها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فو الله ما ركبك مثله، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا هو بعجوز على جنب الطريق، فقال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر، وأنه مرّ بجماعة فسلموا عليه فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد عليهم السلام، فرد، الحديث. وفى آخره فقال له جبريل: أما العجوز التى رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز، والذى دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، أما لو أجبتهما لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام-، قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: فى ألفاظه نكارة وغرابة.
وفى حديث: أنه مر بموسى- عليه السّلام-، وهو يصلى فى قبره «3» . قال أنس: ذكر كلمة فقال: أشهد أنك رسول الله. ولا مانع أن الأنبياء- عليهم السلام- يصلون فى قبورهم لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فهم يتعبدون بما يجدون من دواعى أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر.
وستأتى الإشارة إليه فى حجة الوداع- إن شاء الله تعالى-.
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى الكبير (7/ 339) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 355) .
(2) (2/ 362) .
(3) صحيح: وقد تقدم قريبا.(2/452)
وفى حديث أبى هريرة عند الطبرانى والبزار: أنه- صلى الله عليه وسلم- مرّ على قوم يزرعون ويحصدون فى كل يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل- عليه السّلام-: ما هذا؟ فقال: هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شىء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين، ثم مرّ على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شىء، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة، ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله وما ربك بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدر، ولحم آخر نىء فى قدر خبيث، فجعلوا يأكلون النىء الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال جبريل: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يريد أن يحمل عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شىء، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة، قال: ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها، ثم أتى على واد فوجد فيه ريحا طيبة باردة، وريح مسك، وسمع صوتا، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول: رب آتنى بما وعدتنى. فقد كثرت غرفى وإستبرقى وحريرى وسندسى وعبقريى ولؤلؤى ومرجانى وفضى وذهبى، وأكوابى وصحافى وأباريقى، ومراكبى، وعسلى ومائى ولبنى وخمرى، فائتنى بما وعدتنى، فقال: لك كل مسلم(2/453)
ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بى وبرسلى وعمل صالحا، ولم يشرك بى شيئا، ولم يتخذ من دونى أندادا، ومن خشينى فهو آمن، ومن سألنى أعطيته، ومن أقرضنى أجزيته، ومن توكل على كفيته، إننى أنا الله، لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، قد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: رضيت، ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول: رب آتنى ما وعدتنى، فقد كثرت سلاسلى وأغلالى وسعيرى وحميمى وفساقى وعذابى، وقد بعد قعرى واشتد حرى، فائتنى بما وعدتنى، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب، قالت:
رضيت. قال: فسار حتى أتى بيت المقدس.
وفى رواية أبى سعيد عند البيهقى: دعانى داع عن يمينى: انظرنى أسألك، فلم أجبه، ثم دعانى آخر عن يسارى كذلك فلم أجبه، وفيه: إذا امرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى فقالت: يا محمد انظرنى أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه أن جبريل قال له: أما الداعى الأول فهو داعى اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك. وأما الثانى فداعى النصارى، ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا. وفيه: أنه صعد إلى السماء الدنيا ورأى فيها آدم، وأنه رأى أخونه عليها لحم طيب ليس عليها أحد. وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون، قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام، وفيه: أنه مرّ بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خرّ، وأن جبريل قال له: هم أكلة الربا، وأنه مرّ بقوم مشافرهم كالإبل، يلتقمون حجرا، فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال: إن هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، وأنه مرّ بنساء تعلقن بثديهن وأنهن الزوانى، وأنه مرّ بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيطعمون وأنهم الغمازون «1» اللمازون «2» .
__________
(1) الغمز: الإشارة بالعين والحاجب والجفن.
(2) اللمز: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها.(2/454)
وفى حديث أبى هريرة- عند البزار والحاكم- أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتى هناك بأرواح الأنبياء فأثنوا على الله. وفيه قول إبراهيم: لقد فضلكم محمد.
وفى رواية عبد الرحمن بن هشام عن أنس: ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة. وفى حديث أم هانئ عند أبى يعلى: ونشر لى رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وعيسى. وفى رواية أبى سلمة ثم حانت الصلاة فأممتهم «1» . أخرجه مسلم. وفى حديث أبى أمامة عند الطبرانى فى الأوسط: ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدا- صلى الله عليه وسلم-.
* وفى رواية ثابت البنانى عن أنس عند مسلم قال: فربطته، يعنى البراق، بالحلقة- وهى بإسكان اللام على الأشهر- التى تربط به الأنبياء- بضمير المذكر، إعادة على معنى الحلقة وهو الشىء، والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير- قال- صلى الله عليه وسلم-: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءنى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة «2» . أى اخترت اللبن الذى عليه بنيت الخلقة، وبه نبت اللحم ونشز العظم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم فى دين الإسلام بخلاف الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر.
وقال النووى: المراد بالفطرة هنا، الإسلام والاستقامة، قال: ومعناه- والله أعلم-: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين، سليم العاقبة، أما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع الشر فى الحال والمال، انتهى. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لكونه أول شىء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر فى ميل النبى- صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره لكونه مألوفا له أولا،
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (172) فى الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (162) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، وفرض الصلوات.(2/455)
انتهى. وإذا كانت الخمر مباحة- لأنها إنما حرمت بالمدينة والإسراء كان بمكة- فما وجه تعيينه- صلى الله عليه وسلم- لأحد المباحين، وما وجه عد ذلك صوابا، وعد الآخر خطأ، وهما سواء فى الإباحة؟
فيحتمل أن يكون توقاها تورعا وتعريضا بأنها ستحرم، وأنه لما وافق الصواب فى علم الله تعالى قال له جبريل، أصبت الفطرة، أو أصبت أصاب الله بك، كما روى. وإذا قلنا: بأنها كانت من خمر الجنة فيكون سبب تجنبها صورتها ومضاهاة الخمر المحرمة، أى فى علم الله تعالى، وذلك أبلغ فى الورع. ويستفاد منه: أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره، ولو ماء قراحا، وضاهى به الخمر فى الصورة وهيأه بالهيئة التى يتعاطاها أهل الشهوات من الاجتماعات والآلات فقد أتى منكرا، وإن كان لا يحد عليها. قاله ابن المنير.
وينظر فيما يعمله كثير من فقراء اليمن وغيرهم بمكة المشرفة وجدة وغيرهما من ماء قشر البن ويسمونه بالقهوة، وهى اسم من أسماء الخمر.
وفى حديث ابن عباس- عند أحمد-: فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلى، فلما انصرف جىء بقدحين فى أحدهما لبن، وفى الآخر عسل، فأخذ اللبن. وفى رواية البزار: بثلاثة أوانى، وأن الثالث كان خمرا، وأن ذلك وقع ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل. وفى حديث شداد بن أوس: فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذنى من العطش أشد ما أخذنى، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، ثم هدانى الله تعالى فأخذت اللبن. فقال شيخ بين يدى- يعنى لجبريل-: أخذ صاحبك الفطرة.
وقد كان إتيانه بالأوانى مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. وممن صرح بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير، وعلى هذا فيكون تكرار جبريل- عليه السّلام- للتصويب حيث اختار اللبن تأكيدا للتحذير مما سواه.
وقد أنكر حذيفة ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذى من حديث(2/456)
حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ وكذا أنكر حذيفة أيضا صلاته- صلى الله عليه وسلم- ببيت المقدس «1» .
وتعقبه البيهقى وابن كثير: بأن المثبت مقدم على النافى، يعنى من أثبت ربط البراق والصلاة فى بيت المقدس معه زيادة علم على من نفى، فهو أولى بالقبول. ووقع ذلك فى رواية بريدة عند البزار: لما كان ليلة أسرى به، فأتى جبريل الصخرة التى ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق، ونحوه للترمذى. وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأنبياء تربطها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين.
وفى رواية ابن مسعود نحوه، وزاد: ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل فقدمنى فصليت بهم. وفى حديث ابن مسعود أيضا- عند مسلم-: وحانت الصلاة فأممتهم «2» . وفى حديث ابن عباس، عند أحمد: فلما أتى- صلى الله عليه وسلم- الأقصى قام يصلى، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه «3» . وفى حديث أبى سعيد: ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا معك؟ قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة. ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم. فقال إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: الحمد لله الذى اتخذنى خليلا، وأعطانى ملكا عظيما، وجعلنى أمة قانتا يؤتم بى، وأنقذنى من النار، وجعلها على بردا وسلاما.
__________
(1) حسن: أخرج الحديث الترمذى (3147) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وابن حبان فى «صحيحه» (45) ، والحديث حسن إسناده الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 257) .(2/457)
ثم إن موسى- عليه الصلاة والسلام- أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى كلمنى تكليما، واصطفانى، وأنزل على التوراة، وجعل هلاك فرعون ونجاة بنى إسرائيل على يدى، وجعل من أمتى قوما يهدون بالحق وبه يعدلون.
ثم إن داود- عليه الصلاة والسلام- أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى جعل لى ملكا عظيما، وعلمنى الزبور، وألان لى الحديد، وسخر لى الجبار يسبحان معى والطير وآتانى الحكمة وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان- عليه السّلام- أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى سخر لى الرياح، وسخر لى الشياطين، يعملون ما شئت من محاريب وتماثيل، وعلمنى منطق الطير وآتانى من كل شىء فضلا، وسخر لى جنود الشياطين والإنس والجن والطير، وآتانى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى، وجعل لى ملكا طيبا ليس على فيه حساب.
ثم إن عيسى- عليه السّلام- أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى جعلنى كلمته، وجعلنى بمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمنى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلنى أخلق أى أسوى من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وجعلنى أبرئ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى بإذن الله، ورفعنى وطهرنى وأعاذنى وأمى من الشيطان الرجيم.
فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
قال: وإن محمدا- صلى الله عليه وسلم- أثنى على ربه فقال: كلكم أثنى على ربه وأنا أثنى على ربى: الحمد لله الذى أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علىّ الفرقان، فيه تبيان كل شىء، وجعل أمتى خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتى أمة وسطا، وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لى صدرى، ووضع عنى وزرى، ورفع لى ذكرى، وجعلنى قائما وخاتما.(2/458)
فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد. ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء. ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» «1» مختصرا من حديث أبى هريرة من غير عزو. ورواه البيهقى من حديث أبى سعيد الخدرى، وهذا لفظه.
وفى رواية ابن أبى حاتم فى تفسيره، عن أنس: فلما بلغ بيت المقدس، فبلغ المكان الذى يقال له: باب محمد، أتى إلى الحجر الذى به، فغمز جبريل بأصبعه فنقبه، ثم ربطها، ثم صعدا، فلما استويا فى سرحة المسجد قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم، قال:
فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن، قال: فسلمت عليهن فرددن على السلام، فقلت لمن أنتن؟ فقلن: خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرا، حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، قال فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل- عليه السّلام- فقدمنى فصليت بهم، فلما انصرفت قال لى جبريل: أتدرى من صلى خلفك؟ قلت: لا، قال:
صلى خلفك كل نبى بعثه الله.
قال القاضى عياض: يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء جميعا فى بيت المقدس، ثم صعد منهم من ذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- رآهم فى السماوات، ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضا، والأظهر أن صلاته بهم فى بيت المقدس كان قبل العروج. انتهى. وقال ابن كثير:
صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن فى الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى.
وقد اختلف فى هذه الصلاة، هل هى فرض أو نفل؟ وإذا قلنا إنها فرض، فأى صلاة هى؟ قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون
__________
(1) (1/ 181) .(2/459)
العشاء، وإنما يتأتى على قول من قال: إنه صلى بهم قبل عروجه إلى السماء، وأما على قول من قال: إنه صلى بهم بعد العروج فتكون الصبح.
قال ابن كثير: ومن الناس من يزعم أنه أمهم فى السماء، والذى تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مرّ بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا، وهو يخبره بهم، ثم قال: وهذا هو اللائق، لأنه أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى، ليفرض الله عليه وعلى أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه عليهم بتقديمه فى الإمامة.
وفى رواية ابن إسحاق: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: لما فرغت مما كان فى بيت المقدس، أتى بالمعراج ولم أر قط شيئا أحسن منه، وهو الذى يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر، فأصعدنى صاحبى فيه حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء. وفى رواية كعب: فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل. وفى «شرف المصطفى» أنه أتى بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد عن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة. وفى رواية أبى سعيد- عند البيهقى- ثم أتيت بالمعراج الذى تعرج عليه أرواح بنى آدم، فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء، فإن ذلك عجبه بالمعراج.
وقد تقدم فى حديث البخارى بالسابق، فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمد، قيل: وقد أرسل إليه قال: نعم. ولم يقل جبريل- عليه السّلام-: أنا، حيث قيل له: من هذا؟ إنما سمى نفسه فقال: جبريل، لأن لفظ «أنا» فيه إشعار بالعظمة. وفى الكلام السائر: أول من قال «أنا» إبليس، فشقى، وأيضا فقوله «أنا» مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهى غير كافية فى البيان. وعلى هذا فينبغى للمستأذن إذا قيل له من أنت؟ أن لا يقول: «أنا» ، بل يقول:
فلان.(2/460)
وفى رواية للبخارى ومسلم: فعرج، وهو بفتح العين بمعنى صعد. وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، وعليه ملك يقال له إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك.
وفى رواية شريك- عند البخارى أيضا- ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء الدنيا: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا:
مرحبا وأهلا، فيستبشر به أهل السماء «1» ، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به فى الأرض حتى يعلمهم، أى على لسان من شاء كجبريل.
ووقع فى هذه الرواية أنه رأى فى سماء الدنيا النيل والفرات عنصرهما.
وظاهره يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: فإذا فى أصلها أربعة أنهار. ويجمع بينهما: بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما فى السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض. ووقع فى هذه الرواية أيضا: ثم مضى به فى سماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر، عليه قصور من لؤلؤ وزبرجد، وأنه الكوثر. وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر من الجنة، والجنة فوق السماء بالسابعة. ويحتمل أن يكون تقديره: ثم مضى فى السماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر.
ثم إن فى قوله فى الحديث «افتح» دلالة على أنه صادف أبواب السماء مغلقة، والحكمة فى ذلك- والله أعلم- التنويه بقدره- صلى الله عليه وسلم-، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتوحة لم يتحرر أنها فتحت لأجله، فلما فتحت له تحقق- صلى الله عليه وسلم- أن المحل مصون، وأن فتحه له كرامة وتبجيل.
وأما قوله فى الحديث: «أرسل إليه؟» وفى رواية «بعث إليه؟» فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر لقوله:
«إليه» لأن أصل بعثته قد اشتهر فى الملكوت الأعلى.
__________
(1) تقدمت رواية شريك أكثر من مرة.(2/461)
وقيل: سألوه تعجبا من نعمة الله عليه بذلك، واستبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقى إلا بإذن من الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد إلا بمن أرسل إليه.
وقد قيل: إن الله تعالى أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى، لأنهم قالوا: أبعث إليه؟ أو: أرسل إليه؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلا؟ ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبا به ولنعم المجىء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أول دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته، ولأن هذا أجل ما يكون من حسن الخطاب والترفيع، على المعروف من عادة العرب.
وأما قوله: «من معك؟» فيشعر بأنهم أحسوا به- صلى الله عليه وسلم-، وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوى كزيادة أنوار ونحوها. قاله الحافظ ابن حجر. ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبى جمرة، حيث قال فى «بهجته» : الثانى أن يكون سؤالهم له لما رأوا حين رأوا إقباله عليهم من زيادة الأنوار وغيرها من الماثر الحسان زيادة على ما يعهدونه منه. قال: وهذا هو الأظهر، كأنهم قالوا: من الشخص الذى من أجله هذه الزيادة معك؟ فأخبرهم بما أرادوا وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه، انتهى. وقد قال بعض العلماء: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1» أنه رأى صورة ذاته المباركة فى الملكوت فإذا هو عروس المملكة.
وأما قولهم له: «مرحبا به ولنعم المجىء جاء» فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته- صلى الله عليه وسلم- التى سبقته للسماء مبشرة بقدومه. وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء فنعم المجىء مجيئه، وإنما لم يقل الخازن: مرحبا بك، بصيغة الخطاب، بل قال بصيغة الغيبة لأنه حياه قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبى- صلى الله عليه وسلم- خطاب، ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيما له، لأن «هاء» الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب.
وأما قوله فى الحديث: (فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره
__________
(1) سورة النجم: 18.(2/462)
أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبى الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه. فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التى عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى) «1» .
فالأسودة: بوزن أزمنة، هى الأشخاص. والنسم: - بالنون والسين المهملة المفتوحتين- جمع نسمة، وهى الروح. وقد قال القاضى عياض: جاء أن أرواح الكفار فى سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة فى الجنة، يعنى:
فكيف تكون مجتمعة فى سماء الدنيا؟ وأجاب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا، فوافق عرضها مرور النبى- صلى الله عليه وسلم-، ويدل على كونهم فى النار إنما هو فى أوقات دون أوقات، قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «2» . واعترض: بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن «3» .
والجواب: ما أبداه هو احتمال أن الجنة كانت فى جهة يمين آدم، والنار فى جهة شماله: وكان يكشف له عنهما، ولا يلزم من رؤية آدم لها- وهو فى السماء- أن تفتح لهم أبواب السماء ولا تلجها.
وفى حديث أبى هريرة عند البزار: فإذا عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر، وإذا نظر عن شماله حزن. وهذا- لو صح- لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم «4» ، ولكن سنده ضعيف. قاله الحافظ ابن حجر.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.
(2) سورة غافر: 46.
(3) يشير إلى قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [سورة الأعراف: 40] .
(4) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 69) وقال: رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبى العالية أو غيره فتابعيه مجهول.(2/463)
وأما قوله فى الحديث: (ثم صعد بى، حتى أتى السماء الثانية، فقيل من هذا؟ قال: جبريل، ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم فقيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصنا إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. إلى قوله: ثم صعد بى إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال:
مرحبا به، فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد السلام وقال مرحبا بالابن الصالح) «1» .
فهذه الرواية موافقة لرواية ثابت عن أنس عند مسلم: أن فى السماء الأولى؛ آدم، وفى الثانية يحيى وعيسى، وفى الثالثة يوسف، وفى الرابعة إدريس، وفى الخامسة هارون وفى السادسة موسى وفى السابعة إبراهيم «2» .
وخالف فى ذلك ابن شهاب الزهرى فى روايته عن أنس عن أبى ذر- كما فى أول الصلاة من البخارى أيضا- أنه لم يثبت كيف منازلهم. وقال فيه: وإبراهيم فى السماء السادسة. وفى رواية شريك عن أنس أن إدريس فى الثانية وهارون فى الرابعة، وآخر فى الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم فى السادسة وموسى فى السابعة، بتفضيل كلام الله «3» . وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم كما صرح به الزهرى.
ورواية من ضبط أولى، ولا سيما فى اتفاق قتادة وثابت، وقد وافقهما يزيد بن أبى مالك عن أنس، إلا أنه خالف فى إدريس وهارون، فقال:
هارون فى الرابعة، وإدريس فى الخامسة «4» . ووافقهم أبو سعيد إلا أن فى
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) صحيح: وقد تقدم.(2/464)
روايته: يوسف فى الثانية، وعيسى ويحيى فى الثالثة. والمشهور فى الروايات:
أن الذى فى السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك فى حديث مالك بن صعصعة «1» : بأنه كان مسندا ظهره إلى البيت المعمور. فمع التعدد: لا إشكال.
ومع الاتحاد فقد جمع: بأن موسى كان حالة العروج فى السادسة وإبراهيم فى السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة. وعند الهبوط:
كان موسى فى السابعة، لأنه لم يذكر فى القصة أن إبراهيم كلمه فى شىء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة، كما كلمه موسى- عليه السّلام-، والسماء السابعة هى أول شىء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها، لأنه هو الذى خاطبه فى ذلك، كما ثبت فى جمع الروايات.
ويحتمل أن يكون لقى موسى فى السادسة فأصعد معه إلى السابعة تفضيلا له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك فى كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته فى الصلاة. قاله فى فتح البارى. وقال: إن النووى أشار إلى شىء من ذلك.
وفى رواية شريك عن أنس فى قصة موسى: (لم أظن أن أحدا يرفع على) «2» . قال ابن بطال: فهم موسى- عليه السّلام- من اختصاصه بكلام الله تعالى له فى الدنيا دون غيره من البشر: لقوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي «3» أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلم- بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك.
وفى حديث أبى سعيد قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أنى أكرم على الله، وهذا أكرم على الله منى. زاد الأموى فى روايته: ولو كان هذا وحده هان، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) سورة الأعراف: 146.(2/465)
وفى حديث مالك بن صعصعة: (فلما جاوزته- يعنى موسى- بكى، فنودى: ما يبكيك؟ قال: رب، هذا غلام بعثته بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتى) «1» .
ولم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد فى ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان آسفا على ما فاته من الأجر الذى يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبى بمثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه فى العدد دون من اتبع نبينا- صلى الله عليه وسلم-، مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة.
وقال العارف ابن أبى جمرة: قد جعل الله تعالى فى قلوب أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- الرأفة والرحمة لأمتهم، وركبهم على ذلك، وقد بكى نبينا- صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ما يبكيك؟ قال: «هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» «2» ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة فى قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم، فلأجل ما كان لموسى- عليه السّلام- من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته، لأن هذا وقت إفضال وجود وكرم، فرجا لعل أن يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة.
فإن قال قائل: كيف يكون هذا، وأمته لا تخلو عن قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذى مات على الإيمان لابد له من دخول الجنة، والذى مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدا، فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ، لأن الحكم فيهم قد مرّ ونفذ.
قيل: إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرا وقدر أن ينفذ
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1284) فى الجنائز، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» ، ومسلم (923) فى الجنائز، باب: البكاء على الميت، من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.(2/466)
على كل الأحوال، وقدر قدرا وقد أن لا ينفذ، ويكون رفعه بسبب دعاء أو صدقة أو غير ذلك، فلأجل ما ركب فى موسى- عليه السّلام- من اللطف والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذى قدره الله تعالى وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى، لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم، ليخلع عليه خلع القرب والفضل الجسيم، فطمع الكليم لعل أن يلحق لأمته من هذا الخير العظيم نصيبا. وقد قال نبينا- صلى الله عليه وسلم-: «إن لله نفحات فتعرضوا لنفحات الله» «1» .
وهذه نفحة من النفحات فتعرض لها موسى، فكان أمرا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت القدرة بأنها فيه تؤثر، وما كان قضاء نافذا لا تؤثر فيه ولا ترده الأسباب، حتم قد لزم.
وفى بكائه- عليه السّلام- وجه آخر، وهو البشارة لنبينا- صلى الله عليه وسلم- وإدخال السرور عليه، وذلك قول موسى- عليه السّلام- الذى هو أكثر الأنبياء أتباعا-: إن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يدخلها من أمتى.
وأما قول موسى- عليه السّلام-: (لأن غلاما) ولم يقل غير ذلك من الصيغ، فإشارة إلى صغر سنة بالنسبة إليه. وفى القاموس: الغلام: الطار الشارب، والكهل ضده. وقال الخطابى: العرب تسمى الرجل المستجمع السن غلاما، ما دامت فيه بقية من القوة.
قال فى فتح البارى: ويظهر لى أن موسى- عليه السّلام- أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا من استمرار القوة فى الكهولة إلى أن دخل فى أول سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه فى قوته نقص، حتى إن الناس فى قدومه المدينة لما رأوه مردفا أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبى بكر اسم الشيخ، مع كونه فى العمر أسن من أبى بكر والله أعلم، وقد ذكر ذلك فى الهجرة من المقصد الأول.
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 231) عن أنس وقال: رواه الطبرانى وإسناد رجاله رجال الصحيح، غير عيسى بن موسى بن أياس بن البكير، وهو ثقة.(2/467)
وقد وقع فى حديث أبى هريرة عند الطبرانى فى ذكر إبراهيم: فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسى «1» . وفى رواية مسلم من حديث ثابت عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم- عليه السّلام- مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وفيه: فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن «2» .
وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى، وأبى هريرة عند الطبرانى: فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله: قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وهذا ظاهره أن يوسف- عليه السّلام- كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذى من حديث أنس: «ما بعث الله نبيّا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا» «3» .
فعلى هذا يحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبى- صلى الله عليه وسلم-. ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل فى عموم خطابه. وحمل ابن المنير حديث الباب على أن المراد: أن يوسف أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا- صلى الله عليه وسلم-.
وأما قوله فى الحديث عن إدريس: ثم قال: (مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح) فيحمل على أخوة النبوة والإسلام، لأنها تجمع الوالد والولد، وقال ابن المنير: وفى طريق شاذة: مرحبا بالابن الصالح، وهذه هى القياس، لأنه جده الأعلى. وقيل: أن إدريس الذى لقيه ليس هو الجد المشهور، ولكنه إلياس، فإن كان كذلك ارتفع الإشكال.
فإن قلت: لم كان هؤلاء الأنبياء- عليهم السلام- فى السماوات دون غيرهم من الأنبياء؟ وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه؟ ولم كان فى السماء الثانية بخصوصها اثنان.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) أخرجه ابن مردويه وأبو سعيد الأعرابى فى معجمه والخرائطى فى اعتلال القلوب، من حديث على- رضى الله عنه-، كما فى «كنز العمال» (18559) .(2/468)
أجيب: عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، بأنهم أمروا بملاقات نبينا- صلى الله عليه وسلم-، فمنهم من أدركه فى أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم من فاته. وقيل: إشارة إلى ما سيقع له- صلى الله عليه وسلم- مع قومه، من نظير ما وقع لكل منهم:
فأما آدم- عليه السّلام- فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذى خرج منه.
وبعيسى ويحيى- عليهما السلام- على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغى عليه، وإرادتهم السوء به.
وبيوسف، بما وقع له من إخوته على ما وقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- من قريش، من نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار- صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك يوم الفتح بقوله لقريش: «أقول لكم كما قال يوسف:
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1» ، أى العتقاء.
وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى.
وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه.
وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك- صلى الله عليه وسلم-، بقوله: «لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر» «2» .
وبإبراهيم فى استناده إلى البيت المعمور بما ختم له- صلى الله عليه وسلم- فى آخر عمره من إقامة مناسك الحج، وتعظيم البيت الحرام. وأجاب العارف ابن أبى
__________
(1) ضعيف: رواه ابن الجوزى فى الوفاء من طريق ابن أبى الدنيا وفيه ضعف، قاله العراقى فى «تخريج أحاديث الإحياء» (3/ 179) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3150) فى الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1062) فى الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-.(2/469)
جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء: بأن الحكمة فى كون آدم فى السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء، وهو الأصل، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة. وأما عيسى فإنما كان فى السماء الثانية لأنه أقرب الأنبياء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا انمحت شريعة عيسى- عليه السّلام- إلا بشريعة محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولأنه ينزل فى آخر الزمان لأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- على شريعته ويحكم بها، ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أولى الناس بعيسى» «1» فكان فى الثانية لأجل هذا المعنى.
وإنما كان يحيى- عليه السّلام- معه هناك لأنه ابن خالته، وهما كالشىء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معا.
وإنما كان يوسف- عليه السّلام- فى السماء الثالثة لأن على حسنه تدخل أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- الجنة، فأرى له هناك لكى يكون ذلك بشارة له- صلى الله عليه وسلم- فيسر بذلك.
وإنما كان إدريس- عليه السّلام- فى السماء الرابعة لأنه هناك توفى ولم تكن له تربة فى الأرض على ما ذكر «2» .
وإنما كان هارون- عليه السّلام- فى السماء الخامسة لأنه ملازم لموسى- عليه السّلام- لأجل أنه أخوه وخليفته فى قومه، فكان هناك لأجل هذا المعنى.
وإنما لم يكن مع موسى فى السماء السادسة لأن لموسى مزيه وحرمة وهى كونه كليما، واختص بأشياء لم تكن لهارون فلأجل هذا المعنى لم يكن معه فى السادسة. وإنما كان موسى- عليه السّلام- فى السماء السادسة لأجل ما اختص به من الفضائل، ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء أتباعا بعد نبينا- صلى الله عليه وسلم-.
وإنما كان إبراهيم- عليه السّلام- فى السماء السابعة لأنه الخليل والأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبى- صلى الله عليه وسلم- بلقياه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3442) فى أحاديث الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، ومسلم (2365) فى الفضائل، باب: فضائل عيسى- عليه السّلام-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) قلت: وأين ذكر ذلك؟!.(2/470)
وهو اختراق الحجب، وأيضا لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام فكان الخليل فوق الكل لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل لأجل ما اختص به بما زاد به عليهم، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «1» فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة وهى درجة الرسالة والنبوة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة ترفيعا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول. انتهى فليتأمل.
وقد اختلف فى رؤية نبينا- صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء الأنبياء- عليهم السلام-، فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى، لما ثبت من رفع جسده. وقد قيل فى إدريس أيضا ذلك.
وأما الذين صلوا معه فى بيت المقدس، فيحتمل، الأرواح خاصة، ويحتمل: الأجساد بأرواحها.
وقيل: يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم- عاين كل واحد منهم فى قبره فى الأرض على الصورة التى أخبر بها من الموضع الذى ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة فى البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك، ويشهد له رؤيته- صلى الله عليه وسلم- الجنة والنار فى عرض الحائط وهو محتمل لأن يكون- صلى الله عليه وسلم- رآهما فى ذلك الموضع أو مثل له صورتهما فى عرض الحائط، والقدرة الصالحة لكليهما.
وقيل: يحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا- صلى الله عليه وسلم-، رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكراما لنبيه- صلى الله عليه وسلم- وتعظيما له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة، وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن. وكل هذه الوجوه محتمل، ولا ترجيح لأحدها على الآخر إذ القدرة صالحة لكل ذلك. انتهى.
وأما قوله فى الحديث: (ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل
__________
(1) سورة البقرة: 253.
[ (2) تقدم.](2/471)
قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: وما هذا يا جبريل، قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات «2» .
وفى رواية عند البخارى أيضا: (فإذا فى أصلها- أى سدرة المنتهى- أربعة أنهار) «1» . وعند مسلم: (يخرج من أصلها) «2» وعنده أيضا من حديث أبى هريرة: (أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان) «3» فيحتمل: أن تكون سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة. ووقع فى حديث شريك، كما عند البخارى فى التوحيد: أنه رأى فى السماء الدنيا نهرين يطردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما.
والجمع بينهما: أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهرى الجنة، ورآهما فى السماء الدنيا دون نهرى الجنة، وأراد ب «العنصر» عنصر انتشارهما بسماء الدنيا، كذا قاله ابن دحية. ووقع فى حديث شريك أيضا:
(ومضى به إلى السماء، وإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى خبأ لك ربك) «4» .
وروى ابن أبى حاتم عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- بعد أن رأى إبراهيم قال: ثم انطلق بى على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه جام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجرى على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك.
وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: فإذا فيها عين تجرى يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، وسيأتى مزيد لما ذكر هنا من الكوثر فى المقصد الأخير- إن شاء الله تعالى-.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) تقدم.(2/472)
وقد وقع فى حديث ثابت عن أنس عند مسلم: (ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كاذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها) «1» .
وقد جاء فى حديث ابن مسعود عند مسلم أيضا بيان سبب تسميتها ب «سدرة المنتهى» ، ولفظه: (لما أسرى برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: انتهى بى إلى سدرة المنتهى، وهى فى السماء السادسة، وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض، فيقبض منها وإليها منتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها) «2» .
وهو معنى قول ابن أبى جمرة: لأن إليها تنتهى الأعمال، ومن هناك ينزل الأمر والنهى وتتلقى الأحكام، وعندها تقف الحفظة وغيرهم لا يتعدونها، فكانت منتهى، لأن إليها ينتهى ما يصعد من السفلى، وما ينزل من العالم العلوى من أمر العلى.
وقال النووى: لأن علم الملائكة ينتهى إليها. ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ولا يعارض قوله فى حديث ابن مسعود هذا، أنها فى السادسة، ما دل عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل فى السماء السابعة، لأنه يحمل على أن أصلها فى السماء السادسة، وأغصانها وفروعها فى السابعة، وليس فى السادسة منها إلا أصل ساقها، قاله فى فتح البارى.
وجاء فى حديث أبى ذر عند البخارى فى الصلاة: (فغشيها ألوان لا أدرى ما هى) «3» .
وفى حديث ابن مسعود المذكور عند مسلم، (قال الله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى «4» قال: فراش من ذهب) «5» . وفى حديث يزيد بن أبى مالك عن أنس (جراد من ذهب) . قال البيضاوى: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب حقيقة، والقدرة صالحة لذلك.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) صحيح: وقد تقدم.
(4) سورة النجم: 16.
(5) صحيح: وقد تقدم.(2/473)
وفى حديث أبى سعيد وابن عباس (فغشيها الملائكة) . وفى حديث على (وعلى كل ورقة منها ملك) . وفى رواية ثابت عن أنس عند مسلم (فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها) «1» . وفى رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه: نحوه لكن قال:
تحولت ياقوتا، ونحو ذلك.
قال ابن دحية: واختيرت السدرة دون غيرها لأن فيها ثلاثة أوصاف:
ظل مديد وطعم لذيذ، ورائحة زكية، فكانت بمنزلة الإيمان الذى يجمع القول والعمل والنية، فالظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول.
وقال العارف ابن أبى جمرة: وهل الشجرة مغروسة فى شىء أم لا؟
يحتمل الوجهين معا، لأن القدرة صالحة لكليهما. فكما جعل الله فى هذه الدار الأرض مقرا للشجر، كذلك يجعل الهواء لتلك مقرا، وكما رجع- صلى الله عليه وسلم- يمشى فى الهواء كما كان يمشى فى الأرض، ولأن بالقدرة استقرت الأرض مع أنها على الماء، فلا مانع من أن تكون الشجرة فى الهواء، ويحتمل أن تكون مغروسة بأرض، وأن تكون من تراب الجنة، والله قادر على ما يشاء.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث: (ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: «هى الفطرة التى أتت عليها» .
فيدل على أنه عرض عليه الآنية مرتين، مرة ببيت المقدس، ومرة عند وصوله سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة.
وأما الاختلاف فى عدد الآنية وما فيها، فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة أوان، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.(2/474)
ووقع فى حديث أبى هريرة عند الطبرى: سدرة المنتهى يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى. فلعله عرض عليه من كل نهر إناء وجاء عن كعب: أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء نهر سيحان. ولنهر النيل فضائل ولطائف أفردها بالتأليف غير واحد من الأئمة. ووقع فى بعض الطرق: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء فى السماوات.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث: (ثم رفع إلى البيت المعمور) . فمعناه أنه أرى له، وقد يحتمل أن يكون المراد الرفع والرؤية معا، لأنه قد يكون بينه وبين البيت المعمور عوالم حتى لا يقدر على إدراكه، فرفع إليه وأمد فى بصره وبصيرته حتى رآه.
وروى الطبرى من حديث ابن أبى عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: البيت المعمور مسجد فى السماء بحذاء الكعبة لو خرّ لخرّ عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم، إذا خرجوا منه لم يعودوا.
وفى هذا دليل عظيم على قدرة الله تعالى، وأنه لا يعجزه شىء ممكن، لأن هذا البيت المعمور يصلى فيه كل يوم هذا العدد العظيم منذ خلق الله تعالى الخلق إلى الأبد، ثم طائفة هذا اليوم لا ترجع إليه أبدا. ومع أنه قد روى أنه ليس فى السماوات ولا فى الأرض موضع شبر إلا وملك واضع جبهته هناك ساجدا، ثم البحار ما من قطرة إلا وبها ملك موكل، فإذا كانت السماوات والأرض والبحار هكذا، فهؤلاء الملائكة الذين يدخلون أين يذهبون؟ هذا من عظيم القدرة التى لا يشبهها شىء. وفى هذا دليل على أن الملائكة أكثر المخلوقات، لأنه إذا كان سبعون ألف ملك كل يوم تصلى فى البيت المعمور على ما تقدم، ثم لا يعودون، مع أن الملائكة فى السماوات والأرض والبحار.
وفى حديث أبى هريرة عند ابن مردويه وابن أبى حاتم: أن فى السماء(2/475)
نهرا يقال له: الحيوان، يدخل جبريل كل يوم فينغمس فيه، ثم يخرج فينتفض، فيخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكا، فهم الذين يصلون فيه، أى فى البيت المعمور، ثم لا يعودون إليه. وإسناد ضعيف.
وذكر الإمام فخر الدين الرازى عند تفسير قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» أنه روى عن عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة، يدخل فيه جبريل- عليه السّلام- كل سحر ويغتسل فيه، فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله، ثم ينتفض فيخلق الله من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. وقد روى أن ثم ملائكة يسبحون الله تعالى، فيخلق الله بكل تسبيحة ملكا.
هذا ما عدا الملائكة التى للتعبد، وما عدا الملائكة الموكلين بالنبات والأرزاق، والحفظة، والملك الموكل بتصوير ابن آدم، والملائكة الذين ينزلون فى السحاب، والملائكة الذين يكتبون الناس يوم الجمعة، وخزنة الجنة، والملائكة الذين يتعاقبون، والذين يؤمنون على قراءة المصلى، والذين يقولون:
ربنا ولك الحمد، والذين يدعون لمنتظر الصلاة، والذين يلعنون من هجرت فراش زوجها.
وروى أن فى السماء الدنيا- وهى من ماء ودخان- ملائكة خلقوا من ماء وريح عليهم ملك يقال له الرعد، وهو ملك موكل بالسحاب والمطر، يقولون: سبحان ذى الملك والملكوت.
وأن فى الثانية ملائكة على ألوان شتى، رافعين أصواتهم يقولون:
سبحان ذى العزة والجبروت، وأن فيها ملكا نصف جسده من نار ونصف
__________
(1) سورة النحل: 8.(2/476)
جسده من ثلج، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار، وهو يقول: يا من ألف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين.
وأن فى الثالثة- وهى من حديد- ملائكة ذوى أجنحة شتى ووجوه شتى وأصوات شتى، رافعى أصواتهم بالتسبيح يقولون: سبحانك أنت الحى الذى لا يموت، وهم صفوف قيام كأنهم بنيان مرصوص، لا يعرف أحدهم لون صاحبه من خشية الله.
وأن فى السماء الرابعة- وهى من نحاس- ملائكة يضعفون على ملائكة الثالثة، وكذلك كل سماء أكثر عددا من التى تليها، وأن ملائكة السماء الرابعة قيام وركوع وسجود على ألوان شتى من العبادة، يبعث الله الملك منهم إلى أمر من أموره، فينطلق الملك ثم ينصرف فلا يعرف صاحبه الذى إلى جنبه من شدة العبادة وهم يقولون: سبوح قدوس، ربنا الرحمن الذى لا إله إلا هو.
وأن فى الخامسة- وهى من فضة- ملائكة يزيدون على ملائكة الأربع سماوات، وهم سجود وركوع لم يرفعوا أبصارهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة قالوا: ربنا، لم نعبدك حق عبادتك.
وأن فى السماء السادسة- وهى من ذهب- جند الله الأعظم الكروبيون، لا يحصر عددهم إلا الله تعالى، وعليهم ملك له سبعون ألف ملك جنده، وكل ملك منهم جنوده سبعون ألف ملك، وهم الذين يبعثهم الله فى أموره إلى أهل الدنيا، رافعوا أصواتهم بالتسبيح والتهليل.
وأن فى السابعة- وهى ياقوتة حمراء- من الملائكة ما يزيدون على ما تقدم، وعليهم ملك مقدم على سبعمائة ألف ملك، منهم جنود مثل قطر السماء، وتراب الثرى والرمل والسهل، وعدد الحصى والورق، وعدد كل خلق فى السماوات والأرض، ويخلق الله تعالى فى كل يوم ما يشاء، وما يعلم جنود ربك إلا هو.(2/477)
وأن حملة العرش ثمانية يتجاوبون، لكل ملك منهم وجوه شتى وأعين شتى فى جسده، لا يشبه بعضها بعضا، رافعة أصواتهم بالتهليل، ينظرون إلى العرش لا يفترون، لو أن الملك منهم نشر جناحيه لطبق الدنيا بريشة من جناحه، لا يعلم عددهم إلا الله.
وحملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت حسن رخيم، تقول أربعة منهم:
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، وتقول أربعة: سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك «1» .
وقد روى الطبرانى من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لجبريل: «على أى شىء أنت؟» قال: على الريح والجنود، قال: «وعلى أى شىء ميكائيل؟» قال: على النبات والقطر، قال: «وعلى أى شىء ملك الموت؟» قال: على قبض الأرواح، الحديث، وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، وقد ضعف لسوء حفظه ولم يترك.
وروى الترمذى من حديث أبى سعيد مرفوعا: «وزيراى من أهل السماء: جبريل وميكائيل» الحديث. وروى النقاش أن إسرافيل أول من سجد من الملائكة، وأنه جوزى بولاية اللوح المحفوظ. وفى كتاب «العظمة» لأبى الشيخ ابن حيّان من ذلك العجب العجاب، وعندى منه الجزء الثانى. وقد وقعت فى غير رواية البخارى هنا زيادات فمنها:
ما وقع فى رواية أبى سعيد الخدرى عند البيهقى فى دلائله: ثم صعدت إلى السماء السابعة فإذا إبراهيم الخليل ساند ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم على، وإذا بأمتى شطرين، شطر عليهم ثياب بيض كأنهم القراطيس، وشطر عليهم ثياب رمدة، قال:
فدخلت البيت المعمور ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة، فصليت أنا ومن معى فى البيت المعمور.
__________
(1) لم أقف عليه.(2/478)
وفى رواية الطبرانى: فإذا هو برجل أشمط جالس على باب الجنة على كرسى، وعنده قوم بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم فى ألوانهم شىء، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شىء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شىء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه وخرجوا وقد خلصت ألوانهم وصارت مثل ألوان البيض الوجوه، فقال: من هذا ومن هؤلاء الذين فى ألوانهم شىء، وما هذه الأنهار التى دخلوا فيها وقد صفت ألوانهم؟ قال: هذا أبوك إبراهيم أول من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء النفر الذين فى ألوانهم شىء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار، فأولها رحمة، والثانية نعمة الله، والثالث وسقاهم ربهم شرابا طهورا.
وفى رواية البخارى فى الصلاة (ثم عرج بى حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) الحديث «1» . والمستوى: المصعد. وصريف الأقلام: - بفتح الصاد المهملة- تصويتها حالة الكتابة.
والمراد: ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى. والقدر المكتوب قديم، وإنما الكتابة حادثة، وظاهر الأخبار أن اللوح المحفوظ فرغ من كتابته، وجف القلم بما فيه قبل خلق السماوات والأرض، وإنما هذه الكتابة فى صحف الملائكة كالفروع المنتسخة من الأصل، وفيها الإثبات والمحو على ما ذكر فى الآية. وذكر ابن القيم: أن الأقلام اثنا عشر قلما، وأنها متفاوتة فى الرتب:
فأعلاها وأجلها قدرا، قلم القدر السابق، الذى كتب الله به مقادير الخلائق، كما فى سنن أبى داود، عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن أول ما خلق الله تعالى القلم، قال له: اكتب، قال:
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.(2/479)
رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شىء حتى تقوم الساعة» «1» فهذا أول قلم وأجلها، وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذى أقسم الله به.
والقلم الثانى: قلم الوحى.
والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله.
والرابع: قلم طب الأبدان الذى تحفظ به صحتها.
والخامس: قلم التوقيع عن الملوك ونوابهم وبه تساس الممالك.
والسادس: قلم الحساب، وهو الذى تضبط به الأموال، مستخرجها ومصرفها ومقاديرها، وهو قلم الأرزاق.
والسابع: قلم الحكم الذى تثبت به الحقوق وتنفذ به القضايا.
والثامن: قلم الشهادة التى تحفظ به الحقوق.
والتاسع: قلم التعبير، وهو كاتب وحى المنام وتفسيره وتعبيره.
والعاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه.
والحادى عشر: قلم اللغة وتفاصيلها.
والثانى عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ودفع شبه المحرفين «2» .
فهذه الأقلام التى بها انتظام مصالح العالم. قال: ويكفى فى جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به وأنه تعالى أقسم به فى كتابه. انتهى ملخصا من كتاب «أقسام القرآن» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4700) فى السنة، باب: فى القدر، والترمذى (2155) ، فى القدر، باب: رقم (16) ، و (3319) فى التفسير، باب: ومن سورة نون والقلم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) قلت: هذا التقسيم ليس عليه دليل صحيح إلا محض الرأى.(2/480)
وقد وقع فى رواية أبى ذر عند مسلم وغيره من الزيادة أيضا: (ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) الحديث «1» .
والجنابذ: - بالجيم ثم النون المفتوحتين ثم ألف ثم موحدة ثم ذال معجمة- هى القباب. ويؤيده ما فى «التفسير» من البخارى من حديث قتادة عن أنس: (لما عرج به- صلى الله عليه وسلم- قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ «2» .
وأما ما فى «كتاب الصلاة» من البخارى (وإذا فيها حبائل اللؤلؤ) «3» - بالمهملة والموحدة وآخره لام- فقال القاضى عياض وغيره: هو تصحيف. وفى حديث الإمام أحمد من رواية حذيفة: (فتحت لهما أبواب السماء، قال: فرأيت الجنة والنار) «4» . وفى حديث أبى سعيد: أنه عرضت عليه الجنة، وأن رمانها كأنه الدلاء، وإذا طيرها كأنه البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هى لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها. ووقع عند مسلم من طريق همام عن قتادة عن أنس: (بينا أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر) .
وفى رواية أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن إبراهيم- عليه السّلام- قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- يا بنى، إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك فى أمتك فافعل.
ووقع فى حديث أبى سعيد الخدرى، عند البيهقى: ثم صعد بى إلى السماء السابعة، قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تغطى هذه الأمة، وإذا فيها عين تجرى يقال لها: السلسبيل، فيشق منها نهران، أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: الرحمة، فاغتسلت فيه فغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر، ثم رفعت إلى الجنة، فاستقبلتنى جارية، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ قالت: لزيد بن حارثة. وفيه: فإذا رمانها أنه الدلاء عظاما، ثم
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، ومسلم (163) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) تقدم.(2/481)
عرضت على النار، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ثم أغلقت دونى.
وفى الطبرانى من حديث عائشة: لما كان ليلة أسرى بى إلى السماء، أدخلت الجنة، فوقفت على شجرة من أشجار الجنة لم أر فى الجنة أحسن منها، ولا أبيض منها، ولا أطيب منها ثمرة، فتناولت ثمرة من ثمارها فأكلتها فصارت نطفة فى صلبى، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة. وهو حديث ضعيف «1» . وفيه التصريح بأن الإسراء كان قبل ولادة فاطمة، وهى ولدت قبل النبوة بسبع سنين وشىء، ولا ريب أن الإسراء كان بعد النبوة.
وذكر أبو الحسن بن غالب، فيما تكلم فيه على أحاديث الحجب السبعين والسبعمائة والسبعين ألف حجاب وعزاها لأبى الربيع بن سبع فى شفاء الصدور من حديث ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال بعد أن ذكر مبدأ حديث الإسراء، كما ورد فى الأمهات:
أتانى جبريل وكان السفير بى إلى ربى، إلى أن انتهى إلى مقام ثم وقف عند ذلك، فقلت: يا جبريل، فى مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ فقال:
إن تجاوزته احترقت بالنور، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل، هل لك من حاجة؟ قال: يا محمد، سل الله أن أبسط جناحى على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه، قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: ثم زج بى فى النور زجا، فخرق بى إلى السبعين ألف حجاب، ليس فيها حجاب يشبه حجابا، وانقطع عنى حس كل إنسى وملك، فلحقنى عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادانى مناد بلغة أبى بكر: قف إن ربك يصلى، فبينا أنا أتفكر فى ذلك فأقول: هل سبقنى أبو بكر؟ فإذا النداء من العلى الأعلى، ادن يا خير البرية، ادن يا محمد ادن يا محمد، ليدن الحبيب، فأدنانى ربى حتى كنت كما قال تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» . قال: وسألنى ربى فلم أستطع أن
__________
(1) قلت: بل موضوع.
(2) سورة النجم: 8، 9.(2/482)
أجيبه، فوضع يده بين كتفى- بلا تكييف ولا تحديد- فوجدت بردها بين ثديى، فأورثنى علم الأولين والآخرين، وعلمنى علوما شتى، فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيرى، وعلم خيرنى فيه، وعلمنى القرآن فكان جبريل- عليه السّلام- يذكرنى به، وعلم أمرنى بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى. ولقد عاجلت جبريل- عليه السّلام- فى آية نزل بها على، فعاتبنى ربى وأنزل على وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1» ، ثم قلت: اللهم إنه لما لحقنى استيحاش قبل قدومى عليك سمعت مناديا ينادى بلغة تشبه لغة أبى بكر فقال لى: قف إن ربك يصلى «2» ، فعجبت من هاتين، هل سبقنى أبو بكر إلى المقام؟ وإن ربى لغنى عن أن يصلى، فقال تعالى: أنا الغنى عن أن أصلى لأحد، وإنما أقول:
سبحانى سبحانى، سبقت رحمتى غضبى، اقرأ يا محمد: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «3» ، فصلاتى رحمة لك ولأمتك، وأما أمر صاحبك يا محمد، فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا، فلما أردنا كلامه قلنا: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ «4» ، وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة. وكذلك أنت يا محمد، لما كان أنسك بصاحبك أبى بكر وأنك خلقت أنت وهو من طينة واحدة، وهو أنيسك فى الدنيا والآخرة، خلقنا ملكا على صورته يناديك بلغته ليزول عنك الاستيحاش، فلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك. ثم قال الله تعالى: وأين حاجة جبريل؟ فقلت: اللهم إنك أعلم، فقال: يا محمد، قد أجبته فيما سأل، ولكن فيمن أحبك وصحبك.
__________
(1) سورة طه: 114.
(2) حديث باطل مكذوب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان أولى بالمؤلف أن يضرب عليه، ويكتفى بما ثبت فى موضوع الإسراء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ففيه الغنية عن كل ضعيف وموضوع.
(3) سورة الأحزاب: 43.
(4) سورة طه: 17، 18.(2/483)
وفى رواية: فتقدمت وجبريل على أثرى، حتى انتهى بى إلى حجاب فراش الذهب فحرك الحجاب، فقيل من هذا؟ قال: أنا جبريل ومعى محمد- صلى الله عليه وسلم- فقال الملك: الله أكبر، فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملنى فوضعنى بين يديه فى أسرع من طرفة عين، وغلظ الحجاب مسيرة خمسمائة عام، فقال لى: تقدم يا محمد، فمضيت فانطلق بى الملك فى أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ، فحرك الحجاب، فقال الملك من وراء الحجاب: من هذا؟ فقال أنا فلان صاحب حجاب الذهب، وهذا محمد- صلى الله عليه وسلم- رسول رب العزة معى، فقال: الله أكبر، فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملنى حتى وضعنى بين يديه، فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب، حتى جاوزت سبعين حجابا، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، فقال لى: تقدم يا محمد، فمضيت فانطلق بى الملك، ثم دلى لى رفرف أخضر يغلب ضوؤه ضوء الشمس، فالتمع بصرى، ووضعت على ذلك الرفرف، ثم احتملت حتى وصلت إلى العرش، فأبصرت أمرا عظيما لا تناله الألسن، ثم دلى لى قطرة من العرش، فوقعت على لسانى، فما ذاق الذائقون شيئا قط أحلى منها، فأنبأنى الله بها نبأ الأولين والآخرين، ونور قلبى، وغشى نور عرشه بصرى فلم أر شيئا فجعلت أرى بقلبى ولا أرى بعينى، ورأيت من خلفى ومن بين كتفى، كما رأيت أمامى، الحديث. رواه والذى قبله فى كتاب «شفاء الصدور» كما ذكره ابن غالب والعهدة عليه فى ذلك.
وتكثير الحجب لم يرد فى طريق صحيح، ولم يصح فى ذلك غير ما فى مسلم: (حجابه النور) «1» . والرفرف: البساط، وقيل إنه فى الأصل ما كان من الديباج وغيره رقيقا حسن الصنعة ثم اتسع فيه.
واعلم أن ما ذكر فى هذا المحل الرفيع من الحجب فهو فى حق المخلوق، لا فى حق الخالق عز وجل، والله سبحانه وتعالى منزه عما
__________
(1) صحيح: وورد ذلك فى حديث أخرجه مسلم (179) فى الإيمان، باب: فى قوله- عليه السّلام-: «إن الله لا ينام» ، وفى قوله: «حجابه النور» ، من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-.(2/484)
يحجب، إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس، فالخلق كلهم محجوبون عنه تعالى بمعانى الأسماء والصفات والأفعال، وسائر المخلوقات من معانى الأنوار والظلمات كل له مقام من الحجب معلوم، وحظ من الإدراك والمعرفة مقسوم، وأقرب الخلق إلى الله تعالى الملائكة الحافون والكروبيون، وهم محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال والقدس والقيومية، حجب الذات بالصفات. وهم فى الحجب عنه على طبقات مختلفات، كل على مقام معلوم ودرجات.
وبالجملة، فالمخلوقات كلها ما كانت حجابا عن الخالق؟ فقوم حجبوا برؤية النعم عن المنعم، وبرؤية الأحوال عن المحول، وبرؤية الأسباب عن المسبب، وقوم حجبوا بالعلم عن المعلم وبالفهم عن المفهم، وبالعقل عن المعقل، وذلك كله من معنى حجاب النعم عن المنعم، والمواهب عن الواهب.
وقوم حجبوا بالشهوات المباحة، وقوم بالشهوات المحرمات والمعاصى والسيئات، وقوم حجبوا بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا. اللهم لا تحجب قلوبنا عنك فى الدنيا ولا أبصارنا عنك فى الآخرة يا كريم.
وقد ورد فى الصحيح عن أنس قال: (لما عرج بى جبريل إلى سدرة المنتهى. ودنا الجبار رب العزة جل جلاله فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى) «1» الحديث.
وهذا الدنو والتدلى المذكور فى هذا الحديث وغيره من أحاديث المعراج غير الدنو والتدلى المذكور فى قوله تعالى فى سورة النجم: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» . وإن اتفقا فى اللفظ. فإن الصحيح أن المراد فى الآية جبريل، لأنه الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «3» . هكذا فسره النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث الصحيح.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (7517) فى التوحيد، باب: قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً.
(2) سورة النجم: 8، 9.
(3) سورة النجم: 13، 14.(2/485)
قالت عائشة- رضى الله عنها-: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية فقال:
«ذاك جبريل لم أره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين» «1» . ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه.
أحدها: أنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «2» . وهذا جبريل الذى وصفه بالقوة فى سورة التكوير.
الثانى: أنه قال: ذُو مِرَّةٍ «3» أى حسن الخلق وهو الكريم الذى فى سورة التكوير.
الثالث: أنه قال: فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى «4» وهو ناحية السماء العليا، وهذا استواء جبريل- عليه السّلام-، وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه.
الرابع: أنه قال: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «5» فهذا دنو جبريل وقد نزل إلى الأرض حيث كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بها. وأما الدنو والتدلى فى حديث المعراج فرسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فوق السماوات فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى.
الخامس: أنه قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «6» والذى عند سدرة المنتهى قطعا هو جبريل، وبهذا فسره النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال:
ذاك جبريل.
السادس: أن نفس الضمير فى قوله: وَلَقَدْ رَآهُ «7» وقوله: دَنا
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (177) فى الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.
(2) سورة النجم: 5.
(3) سورة النجم: 6.
(4) سورة النجم: 6، 7.
(5) سورة النجم: 8، 9.
(6) سورة النجم: 13، 14.
(7) سورة النجم: 13.(2/486)
فَتَدَلَّى «1» وقوله: فَاسْتَوى «2» وقوله: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى «3» واحد، فلا يجوز أن يخالف بين المفسرين من غير دليل.
السابع: أنه سبحانه وتعالى أخبر أن هذا الذى دنا فتدلى كان بالأفق الأعلى، وهو أفق السماء، بل تحتها فدنا من الأرض فتدلى من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ودنو الرب تبارك وتدليه- على ما فى حديث شريك- كان فوق العرش لا إلى الأرض.
ثم نفى سبحانه وتعالى عن نبيه- صلى الله عليه وسلم- بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «4» ما يعرض للرائى الذى لا أدب له بين يدى الملوك والعظماء من التفاته يمينا وشمالا، ومجاوزة بصره لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب فى ذلك المقام وفى تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبا ولم يمد بصره إلى غير ما أرى من الآيات، وما هناك من العجائب، بل قام مقام العبد الذى أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما أريه دون التفاته إلى غيره ودون تطلعه إلى ما لم يره مع ما فى ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال.
وقال فى «مدارج السالكين» : وفى هذه الآية أسرار عجيبة هى من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر، - صلوات الله وسلامه عليه-، تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا، فما شاهده بصره فالبصيرة مواطئة له، وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر، فتواطأ فى حقه، أى: ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره، ولهذا قرأها هشام وأبو جعفر ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «5» بتشديد الذال، أى لم يكذب القلب البصر بل صدقة وواطأه بصحة الفؤاد والبصر، وكون المرئى المشاهد بالبصر والبصيرة حقّا. وقرأ الجمهور ما كَذَبَ الْفُؤادُ «6» بالتخفيف، وهو متعد، و «ما رأى» مفعوله، أى: أى ما كذب قلبه ما رأت عيناه بل واطأه ووافقه.
__________
(1) سورة النجم: 8.
(2) سورة النجم: 6.
(3) سورة النجم: 7.
(4) سورة النجم: 17.
(5) سورة النجم: 11.
(6) سورة النجم: 11.(2/487)
فلمواطأة قلبه لقالبه، وظاهره لباطنه، وبصره لبصيرته، لم يكذب الفؤاد البصر، ولم يتجاوز البصر حده، ولم يمل عن المرئى فيزيغ، بل اعتدل البصر على المرئى لم يتجاوزه ولا مال عنه لما اعتدل القلب فى الإقبال على الله بكليته والإعراض عما سواه، فإنه أقبل على الله بكليته وأعرض عما سواه، بكليته.
وللقلب زيغ وطغيان، كما أن للبصر زيغا وطغيانا وكلاهما منتف عن قلبه وبصره، فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله إلى غيره ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذى أقيم فيه، وهذا غاية الكمال والأدب مع الله تعالى الذى لا يلحقه فيه سواه، فإن عادة النفوس إذا أقيمت فى مقام عال رفيع أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه، ألا ترى إلى موسى- عليه السّلام-، لما أقيم مقام التكليم والمناجاة طلبت نفسه الرؤية، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- لما أقيم فى ذلك المقام وفاه حقه، ولم يتلفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه البتة، ولأجل هذا ما عاقه عائق، ولا وقف به مراد، حتى جاوز السماوات السبع فلم تعقه إرادة منه لشىء، ولم تقف به دون كمال العبودية همة، ولهذا كان مركوبه فى مسراه يسبق خطوه الطرف، فيضع قدمه عند منتهى طرفه، مشاكلا لحال راكبه وبعد شأوه الذى يسبق به العالم أجمع فى سيره، فكان قدم البراق لا يتخلف عن موضع نظره، كما كان قدمه- صلى الله عليه وسلم- لا يتخلف عن محل معرفته.
فلم يزل- صلى الله عليه وسلم- فى خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه، وتكميل مرتبة عبوديته له، حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين، فانصبت له هناك أقسام القرب انصبابا، وانقشعت سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا، وأقيم مقاما غبطه فيه الأنبياء والمرسلون.
فإذا كان فى المعاد أقيم مقاما من القرب تاما، يغبطه فيه الأولون والآخرون، واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله تعالى، ما زاغ البصر وما طغى، فأقامه فى هذا العالم على أقوم صراط على الحق(2/488)
والهدى، وأقسم بكلامه القديم على ذلك فى الذكر الحكيم فقال: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط، فيسأل السلامة لأتباعه وأهل سنته، حتى يجوزوا إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ثم إن ما ذكر هنا من القرب والدنو، المراد به تأكيد المحبة والقربة، ورفع المنزلة والرتبة، قال جعفر الصادق: لما قرب الحبيب من الحبيب غاية القرب، نالته غاية الهيبة، فلاطفه الحق تعالى بغاية اللطف، وذلك قوله جل جلاله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
«2» أى كان ما كان وجرى ما جرى، وقال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب للحبيب: وألطف به إلطاف الحبيب بالحبيب، فخفى السر ولم يطلع عليه أحد، ما أوحى إلا الذى أوحى.
وقال غيره فى قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
«3» أبهمه لعظمه، فإن الإبهام قد يقع للتعظيم، فهو مبهم لا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به.
وقيل: بل هو مفسر بالأخبار الواردة، قال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إليه- صلى الله عليه وسلم-، ألم أجدك يتيما فاويتك، ألم أجدك ضالا فهديتك، ألم أجدك عائلا فأغنيتك، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «4» . وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
ذكره الثعلبى والقشيرى. وقيل: أوحى الله إليه: خصصتك بحوض الكوثر، فكل أهل الجنة أضيافك بالماء، ولهم الخمر واللبن والعسل. ذكره القشيرى.
وذكر أيضا: أنه أوحى إليه ما أوحى إلى الرسل لقوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ «5» . وقيل: أوحى إليه الصلوات الخمس.
__________
(1) سورة يس: 1- 4.
(2) سورة النجم: 10.
(3) سورة النجم: 10.
(4) سورة الشرح: 1- 4.
(5) سورة فصلت: 43.(2/489)
وفى رواية أبى سعيد الخدرى عند البيهقى: أن الله تعالى قال له- صلوات الله وسلامه عليه-: سل، فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما، وكلمات موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الإنس والجن والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل. فقال له ربه تعالى: قد اتخذتك حبيبا، فهو مكتوب فى التوراة: حبيب الرحمن وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معى، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعا من المثانى لم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشى لم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك الكوثر وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجعلتك فاتحا وخاتما. وفى إسناده أبو جعفر الرازى ضعفه بعضهم، وقال أبو زرعة: إنه متهم، وقال ابن كثير: الأظهر أنه سىء الحفظ.
وذكر الفخر الرازى عن والده قال: سمعت أبا القاسم سليمان الأنصارى يقول: لما وصل محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة فى المعارج، أوحى الله تعالى إليه: يا محمد بم شرفك؟ قال: يا رب، بنسبتى إليك بالعبودية. فأنزل الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «1» فسماه تعالى بهذا الاسم لتحققه- صلى الله عليه وسلم- بالاسم الأعظم واتصافه
__________
(1) سورة الإسراء: 1.(2/490)
بجميع صفاته، فلا يصلح هذا الاسم بالحقيقة إلا له- صلى الله عليه وسلم- وللأقطاب من بعده بتبعيته لا بالحقيقة، وإن أطلق على غيره مجازا، ويرحم الله الأديب برهان الدين القيراطى فلقد أجاد حيث قال:
ودعتنى بالعبد يوما فقالوا ... قد دعته بأشرف الأسماء
ولبعض أهل الإشارات: كأن الله تعالى قال له: يا محمد، قد أعطيتك نورا تنظر به جمالى، وسمعا تسمع به كلامى، يا محمد، إنى أعرفك بلسان الحال معنى عروجك إلى، يا محمد، أرسلتك إلى الناس شاهدا ومبشرا ونذيرا، والشاهد مطالب بحقيقة ما يشهد به، فأريك جنتى لتشاهد ما أعددت فيها لأوليائى، وأريك نارى لتشاهد ما أعددت فيها لأعدائى، ثم أشهدك جلالى، وأكشف لك جمالى لتعلم أنى منزه فى كمالى عن الشبيه والنظير، والوزير والمشير، فرآه- صلى الله عليه وسلم- بالنور الذى قواه من غير إدراك ولا إحاطة فردا صمدا، لا فى شىء، ولا من شىء، ولا قائما بشىء، ولا على شىء، ولا مفتقرا إلى شىء، ليس كمثله شىء «1» ، فلما كلمه شفاها، وشاهده كفاحا، فقيل له: يا محمد لا بد لهذه الخلوة من سر لا يذاع ورمز لا يشاع، فأوحى إلى عبده ما أوحى، فكان سرّا من سر، لم يقف عليه ملك مقرب ولا نبى مرسل، وأنشد لسان الحال:
بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم فى الكون يحكيه
سر يمازجه أنس يقابله ... نور تحير فى بحر من التيه
ولما انتهى إلى العرش تمسك العرش بأذياله، وناداه بلسان حاله: يا محمد، أنت فى صفاء وقتك من مقتك أشهدك جمال أحديته، وأطلعك على جلال صمديته، وأنا الظمان إليه اللهفان عليه المتحير فيه لا أدرى من أى وجه آتيه، جعلنى أعظم خلقه، فكنت أعظمهم منه هيبة، وأكثرهم فيه حيرة، وأشدهم منه خوفا. يا محمد، خلقنى فكنت أرعد لهيبة جلاله، فكتب على قائمتى، لا إله إلا الله فازددت لهيبة اسمه ارتعادا وارتعاشا، فكتب محمد
__________
(1) هذا يتنافى مع خبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه لم ير ربه فى الحياة الدنيا.(2/491)
رسول الله، فسكن لذلك قلقى، وهدأ روعى، فكان اسمك لقاحا لقلبى، وطمأنينة لسرى، فهذه بركة كتابة اسمك على، فكيف إذا وقع جميل نظرك إلى، يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين، ولا بد لى من نصيب من هذه الرحمة، ونصيبى يا حبيبى أن تشهد لى بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلى، وتقوله أهل الغرور على، زعموا: أنى أسع من لا مثيل له، وأحيط بمن لا كيفية له. يا محمد، من لا حدّ لذاته، ولا عدّ لصفاته كيف يكون مفتقرا إلى؟ أو محمولا على؟ إذا كان الرحمن اسمه، والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته فكيف يتصل بى أو ينفصل عنى؟ يا محمد، وعزته، لست بالقريب منه وصلا، ولا بالبعيد عنه فصلا، ولا بالمطيق له حملا، أو جدنى رحمة منه وفضلا، ولو محقنى لكان حقّا منه، وعدلا، يا محمد، أنا محمول قدرته، ومعمول حكمته.
فأجاب لسان حال سيدى، زاده الله فضلا وشرفا لديه، ووالى صلاته وسلامه عليه: أيها العرش إليك عنى، أنا مشغول عنك، فلا تكدر على صفوتى، ولا تشوش على خلوتى، فما أعاره- صلى الله عليه وسلم- منه طرفا، ولا أقرأه من مسطور ما أوحى إليه حرفا، ما زاغ البصر وما طغى.
وقد ورد فى بعض أخبار الإسراء مما ذكره العلامة ابن مرزوق فى شرحه لبردة المديح: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما كان من ربه تعالى قاب قوسين قال: اللهم إنك عذبت الأمم بعضهم بالحجارة وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالمسخ، فما أنت فاعل بأمتى؟ قال: أنزل عليهم الرحمة وأبدل سيئاتهم حسنات، ومن دعانى منهم لبيته، ومن سألنى أعطيته، ومن توكل على كفيته، وفى الدنيا أستر على العصاة، وفى الآخرة أشفعك فيهم، ولولا أن الحبيب يحب معاتبة حبيبه لما حاسبت أمتك. ولما أراد- صلى الله عليه وسلم- الانصراف قال: يا رب، لكل قادم من سفره تحفة، فما تحفة أمتى؟ قال الله تعالى: أنا لهم ما عاشوا، وأنا لهم إذا ماتوا، وأنا لهم فى القبور، وأنا لهم فى النشور.
واعلم أنه قد اختلف العلماء قديما وحديثا فى رؤيته- صلى الله عليه وسلم- لربه ليلة(2/492)
الإسراء. فروى البخارى من حديث مسروق قال: (قلت لعائشة: يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعرى مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدث لهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «1» وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب، ثم قرأت وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً «3» ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «4» الآية، [ولكن] رأى جبريل فى صورته مرتين) .
وفى رواية مسلم (من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية) «5» .
وقولها: «قف شعرى» أى قام من الفزع، لما حصل عندها من هيبة الله، واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك. قال النووى- تبعا لغيره-: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابى إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا، انتهى.
قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: جزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع، تبع فيه ابن خزيمة، وهو عجيب، فقد ثبت عنها فى صحيح مسلم- الذى شرحه الشيخ- فعنده من طريق داود بن أبى هند عن الشعبى عن مسروق، فى الطريق المذكورة، قال مسروق: وكنت متكئا فجلست، فقلت: ألم يقل الله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «6» .
__________
(1) سورة الأنعام: 103.
(2) سورة الشورى: 51.
(3) سورة لقمان: 34.
(4) سورة المائدة: 67.
(5) صحيح: وقد تقدم.
(6) سورة النجم: 13.(2/493)
فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذا فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: لا، إنما رأيت جبريل منهبطا.
نعم، احتجاج عائشة- رضى الله عنها- بالآية، خالفها فيه ابن عباس. فأخرج الترمذى من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: (رأى محمد ربه، فقلت: أليس يقول الله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «1» قال: ويحك، ذاك إذا تجلى بنوره الذى هو نوره، وقد رأى ربه مرتين) «2» . وقال القرطبى:
«الأبصار» فى الآية جمع محلى بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا فى قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «3» فيكون المراد: الكفار، بدليل قوله فى الآية الآخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «4» ، وإذا جازت فى الآخرة جازت فى الدنيا لتساوى الوقتين بالنسبة إلى المرئى، انتهى وهو استدلال جيد.
وقال القاضى عياض: رؤية الله تعالى جائزة عقلا، وليس فى العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها: سؤال موسى- عليه السّلام- لها، ثم قال: وليس فى الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة، ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «5» لاختلاف التأويلات فى الآية «6» ، انتهى.
وقد روى ابن أبى حاتم بسنده عن إسماعيل بن علية فى تأويل هذه الآية قال: هذا فى الدنيا. وقال آخرون: لا تدركه الأبصار، أى جميعها،
__________
(1) سورة الأنعام: 103.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3279) فى التفسير، باب: ومن سورة النجم، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(3) سورة المطففين: 15.
(4) سورة القيامة: 22، 23.
(5) سورة الأنعام: 103.
(6) قلت: وأين دخل العقل فى هذا الموضوع، ثم ثانيا: ما هو الدليل الذى اعتمد عليه فى هذا الفهم!.(2/494)
وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له فى الدار الآخرة. وقال آخرون من المعتزلة، بمقتضى ما فهموا من هذه الآية: أنه لا يرى فى الدنيا ولا فى الآخرة، فخالفوا أهل السنة والجماعة فى ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-.
أما الكتاب: فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» وقوله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «2» قال الإمام الشافعى- رحمه الله-: فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. وأما السنة: فقد تواترت الأخبار عن أبى سعيد، وأبى هريرة، وأنس وجرير، وصهيب، وبلال، وغير واحد من الصحابة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: أن المؤمنين يرون الله تبارك وتعالى فى الدار الآخرة فى العرصات، وفى روضات الجنات، جعلنا الله منهم. وقيل: المنفى فى الآية، إدراك العقول: قال الحافظ ابن كثير: وهو غريب جدّا، وخلاف ظاهر الآية.
وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفى الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفى الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء فى الإدراك المنفى، ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى. وقال آخرون: المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية: كما لا يلزم من عدم الرؤية عدم العلم. وفى صحيح مسلم (لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) «3» ولا يلزم من هذا عدم الثناء فكذلك هذا.
وروى ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى
__________
(1) سورة القيامة: 22، 23.
(2) سورة المطففين: 15.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (486) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(2/495)
قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «1» فقال: لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا، صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا. قال ابن كثير: غريب، لا يعرف إلا من هذا الوجه ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم.
ومما نسب لإمام الحرمين فى «لمع الأدلة» أنه قال: من أصحابنا من قال:
إن الرب تعالى يرى ولا يدرك، لأن الإدراك يا بنى عن الإحاطة، ودرك الغاية، والرب جل جلاله تقدس عن الغاية والنهاية، ثم قال: فإن عارضوا بقوله تعالى فى جواب موسى- عليه السّلام-: لَنْ تَرانِي «2» وزعموا: أن «لن» تفيد النفى على التأبيد، قلنا: هذه الآية أوضح الأدلة على جواز الرؤية، فإنها لو كانت مستحيلة لكان معتقد جواز الرؤية ضالا وكافرا، وكيف يعتقد ما لا يجوز على الله تعالى من اصطفاه لرسالته واختاره لنبوته، وخصه بكرامته، وشرفه بتكليمه، وجعله أفضل أهل زمانه، وأيده ببرهانه، وكيف يجوز على الأنبياء الريب فى أمر يتعلق بعلم الغيب. فيجب حمل الآية على أن ما اعتقد موسى- عليه السّلام- جوازه جائز، لكن ظن أن ما اعتقد جوازه ناجز، فرجع النفى فى الجواب إلى الإنجاز، وما سأل موسى- عليه السّلام- ربه رؤيته فى المال، فصرف النفى إليه، والجواب يدل على قضية الخطاب، انتهى.
وقال البيضاوى: فى هذه الآية دليل على أن رؤيته تعالى جائزة فى الجملة، لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصا ما يقتضى الجهل بالله تعالى، ولذلك رده بقوله: لَنْ تَرانِي «3» دون: لن أرى، انتهى.
ونقل القاضى عياض عن أبى بكر الهذلى، فى الآية، أن المراد: ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلىّ فى الدنيا، وأنه من نظر إلىّ مات. قال: وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين ما معناه: أن رؤيته تبارك وتعالى فى الدنيا
__________
(1) سورة الأنعام: 103.
(2) سورة الأعراف: 143.
(3) سورة الأعراف: 143.(2/496)
ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيرة، غرضا للآفات والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية، فإذا كان فى الآخرة وركبوا تركيبا آخر، ورزقوا قوى ثابتة باقية، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم، قووا بها على الرؤية. قال: وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس- رحمه الله- قال: لم ير فى الدنيا لأنه باق، ولا يرى الباقى بالفانى. فإذا كان فى الآخرة رزقوا أبصارا باقية، رؤى الباقى بالباقى، وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القوة، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع فى حقه، انتهى.
والاستثناء فى قوله: «إلا من حيث ضعف القوة» ينبغى أن يكون منقطعا، على معنى: لكن من حيث ضعف القوة، وإلا فضعف القوة قصاراه أن يكون مانعا، أى امتنع من جهة ضعف القوة لا من جهة كونه مستحيلا، ويدل على هذا قوله: «فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع فى حقه» . وقد وقع فى صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة فى حديث مرفوع فيه: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) «1» .
وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبى أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت.
فإن جازت الرؤية فى الدنيا عقلا فقد امتنعت شرعا، لكن من أثبتها للنبى- صلى الله عليه وسلم- له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل فى عموم كلامه. وفى كلام ابن كثير: أن فى بعض كتب الله المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأله الرؤية، يا موسى، إنه لن يرانى حى إلا مات. وقد جزم القشيرى- فى الرسالة- بأنها لا تجوز فى الدنيا على جهة الكرامة، وادعى حصول الإجماع عليه. وحكى القاضى عياض امتناعها فى الدنيا عن جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وقال القشيرى أيضا: سمعت الإمام أبا بكر بن فورك يحكى عن أبى الحسن الأشعرى فى ذلك قولين فى كتاب الرؤية الكبير:
انتهى.
__________
(1) صحيح: انظر «صحيح الجامع» (2312 و 2459) .(2/497)
وقد ذهبت عائشة وابن مسعود إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه ليلة الإسراء.
واختلف عن أبى ذر. وذهب جماعة إلى إثباتها. وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: أنه حلف أن محمدا رأى ربه. وأخرج ابن خزيمة عن عروة ابن الزبير إثباتها، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس. وجزم به كعب الأحبار والزهرى، وصاحبه معمر وآخرون وهو قول الأشعرى وغالب أتباعه. ثم اختلفوا: هل رآه بعينيه أو بقلبه؟ وجاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، فمن ذلك، ما أخرجه النسائى بإسناد صحيح، وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد- صلى الله عليه وسلم- «1» .
ومنها: ما أخرجه مسلم من طريق أبى العالية عن ابن عباس فى قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «2» وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «3» قال: رآه بفؤاده مرتين «4» وله: من طريق عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه. وأصرح من ذلك: ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعينيه وإنما رآه بقلبه.
وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفى عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. لكن روى الطبرانى فى الأوسط بإسناد رجاله رجال الصحيح، خلا جهوّر بن منصور الكوفى، وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبان فى الثقات، عن ابن عباس أنه كان يقول: إن محمدا- صلى الله عليه وسلم- رأى ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده.
__________
(1) أخرجه النسائى فى «الكبير» (11539) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 133) و (2/ 309 و 509) .
(2) سورة النجم: 11.
(3) سورة النجم: 13.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (176) فى الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.(2/498)
ثم المراد «برؤية الفؤاد» رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان عالما بالله على الدوام. بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التى حصلت له خلقت له فى قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شىء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة بخلقها فى العين. وروى ابن خزيمة بإسناد قوى عن أنس قال: (رأى محمد ربه) وفى مسلم من حديث أبى ذر أنه سأل النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: (نور أنى أراه) أى حجابه نور فكيف أراه، ومعناه: أن النور منعنى من الرؤية. وعند أحمد قال: (رأيت نورا) ومن المستحيل أن تكون ذات الله تعالى نورا، إذ النور من جملة الأعراض، والله تعالى يتعالى عن ذلك.
وعند ابن خزيمة عنه، قال: (رآه بقلبه ولم يره بعينه) . وبهذا يتبين مراده فى حديث أبى ذر بذكر النور، أى أن النور حال بينه وبين رؤيته له ببصره.
وجنح ابن خزيمة فى كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات، وأطنب فى الاستدلال بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤية وقعت مرتين: مرة بقلبه ومرة بعينه.
ومما يعزى للأستاذ عبد العزيز المهدوى: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من سفر الإسراء، أخبر العوالم من حيث فلكهم مراتبهم، وسقى كل واحد من كأسه، وعلى قدر عقله، فخاطب الكفار، وهم آخر العوالم بما رأى فى الطريق، وما كان فى المسجد الأقصى على العيان وبما يعرفون، لأنهم فى فلك الأجسام، حتى صدقوا بالإسراء، ثم ارتقى حتى حدث عن فلك السماء، وكذلك فى كل سماء، وأخبر عما شاهد ورأى فى كل فلك وما يليق أن يحدث به- أعنى الصحابة- كلا على قدر مرتبته بلا ضيق ولا مزاحم إلى السماء السابعة، ولما وصل مقام جبريل تحدث عن الأفق المبين، وعما فوق إلى الدنو وإلى التدلى إلى موضع الإيحاء عند حضرة إسقاط الصور والخلق، فأخبر بذلك أصحابه، فمنهم من قال: رأى جبريل بالأفق المبين، وبالأفق الأعلى، وصدق، ومنهم من قال برؤية الفؤاد والبصيرة وصدق،(2/499)
وهى عائشة ومن معها، ومنهم من قال: بعينى رأسه رأى وصدق. فكل أخبر بما حدثه- صلى الله عليه وسلم- من مقامه وسقاه من كأسه وما يليق به، فإذا صح هذا المعراج عرفت الأمر، ومقامات الرؤية والقائلين بذلك وقولهم الجميع الحق انتهى.
وممن أثبت الرؤية لنبينا- صلى الله عليه وسلم- الإمام أحمد. فروى الخلال فى «كتاب السنن» عن المروزى: قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فبأى معنى يدفع قولها؟ قال:
بقول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «رأيت ربى» فقول النبى أكبر من قولها.
وقد أنكر صاحب «الهدى» على من زعم أن أحمد قال: رأى ربه بعينى رأسه. قال: وإنما قال مرة: رأى محمد ربه، وقال مرة: بفؤاده. وحكى عن بعض المتأخرين: رأى بعينى رأسه. وهذا من تصرف الحاكى، فإن نصوصه موجودة انتهى.
وقد رجح القرطبى فى «المفهم» قول الوقف فى هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقواه: بأنه ليس فى الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به الطائفتان ظواهر متعارضة، قابلة للتأويل. قال: وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هى من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعى. والله أعلم.
وأما قوله فى الحديث: «ثم فرضت على الصلاة خمسين صلاة فى كل يوم» . ففى رواية ثابت البنانى عن أنس عند مسلم (ففرض الله على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة) «1» . ونحوه فى رواية مالك بن صعصعة عند البخارى أيضا. ويحتمل أن يقال: ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة، وبالعكس، إلا ما استثنى من خصائصه.
وفى حديث ثابت عن أنس عند مسلم (فنزلت إلى موسى، فقال: ما
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (163) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات.(2/500)
فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم.
قال: فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب، خفف عن أمتى، فحط عنى خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عنى خمسا، فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربى وبين موسى، حتى قال: يا محمد هن خمس صلوات فى اليوم والليلة، لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة. ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: لقد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه) «1» .
وفى رواية النسائى عن أنس: فقال لى: إنى يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك، وذكر مراجعته مع موسى، وفيه: فإنه فرض على بنى إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما. وقال فى آخره: فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك. قال:
فعرفت أنها عزمة من الله فرجعت إلى موسى فقال: ارجع، فلم أرجع.
فإن قلت: لم قال موسى- عليه السّلام- لنبينا- صلى الله عليه وسلم-: إن أمتك لا يطيقون ذلك، ولم يقل: أنت وأمتك لا تطيقون ذلك؟
أجيب: بأن العجز مقصور على الأمة لا يتعداهم إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فهو لما رزقه الله تعالى من الكمال يطيق ذلك وأكثر منه، وكيف لا وقد جعلت قرة عينه فى الصلاة. قال العارف ابن أبى جمرة: والحكمة فى تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه- صلى الله عليه وسلم- لما عرج به ورأى فى تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى له ولأمته تلك العبادات كلها فى ركعة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص.
__________
(1) هو ما قبله.(2/501)
وقد وقع من موسى- عليه السّلام- من العناية بهذه الأمة فى أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك فى حديث أبى هريرة عند الطبرانى والبزار، قال- صلى الله عليه وسلم-: «كان موسى أشدهم على حين مررت، وخيرهم لى حين رجعت» . وفى حديث أبى سعيد: فأقبلت راجعا فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، فسألنى كم فرض عليك ربك؟ الحديث.
قال السهيلى: وأما اعتناء موسى- عليه السّلام- بهذه الأمة، وإلحاحه على نبيها أن يشفع لها ويسأل التخفيف عنها، فكقوله- والله أعلم- حين قضى إليه الأمر بجانب الغربى، ورأى صفات أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فى الألواح، وجعل يقول: إنى أجد فى الألواح أمة صفتهم كذا، اللهم اجعلهم أمتى، فيقال له: تلك أمة أحمد، وهو حديث مشهور وقد تقدم ذكره فى خصائص هذه الأمة. قال: فكان إشفاقه عليهم واعتناؤه بأمرهم كما يعتنى بالقوم من هو منهم لقوله اللهم اجعلنى منهم انتهى.
وقال القرطبى: الحكمة فى أمر موسى بمراجعة النبى- صلى الله عليه وسلم- فى أمر الصلوات يحتمل أن تكون لكون أمة موسى- عليه السّلام- كلفت من الصلوات ما لم يكلف به غيرها من الأمم قبلها، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، ويشير إليه قوله: إنى جربت الناس قبلك.
انتهى.
ووقع فى كلام بعض أهل الإشارات: لما تمكنت نار المحبة من قلب موسى أضاءت له أنوار نور الطور، فأسرع إليها ليقتبس فاحتبس، فلما نودى من النادى، اشتاق إلى المنادى، فكان يطوف فى بنى إسرائيل: من يحملنى رسالة إلى ربى، ومراده أن تطول المناجاة مع الحبيب، فلما مر علينا نبينا- صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج، ردده فى أمر الصلوات ليسعد برؤية حبيب الحبيب.
وقال آخر: لما سأل موسى- عليه السّلام- الرؤية، ولم تحصل له البغية، بقى الشوق يقلقه، والأمل يعلله، فلما تحقق أن سيدنا محمدا الحبيب منح الرؤية، وفتح له باب المزية، أكثر السؤال ليسعد برؤية من قد رأى. كما قيل:(2/502)
واستنشق الأرواح من نحو أرضكم ... لعلى أراكم أو أرى من يراكم
وأنشد من لاقيت عنكم عساكم ... تجودون لى بالعطف منكم عساكم
فأنتم حياتى إن حييت وإن أمت ... فيا حبذا إن مت عبد هواكم
وقال آخر:
وإنما السر فى موسى يردده ... ليجتلى حسن ليلى حين يشهده
يبدو سناها على وجه الرسول فيا ... لله در رسول حين أشهده
وقال آخر: لما جلس الحبيب فى مقام القرب، دارت عليه كؤوس الحب، ثم عاد، وهلال ما كذب الفؤاد ما رأى بين عينيه، وسرّ فأوحى إلى عبده ملء قلبه وأذنيه، فلما اجتاز بموسى- عليه السّلام-، قال لسان حاله لنبينا- صلى الله عليه وسلم-:
يا واردا من أهيل الحى يخبرنى ... عن جيرتى شنف الأسماع بالخبر
ناشدتك الله يا راوى حديثهم ... حدث فقد ناب سمعى اليوم عن بصر
فأجاب لسان حال نبينا- صلى الله عليه وسلم- يقول:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سر أرق من النسيم إذا سرى
وأباح طرفى نظرة أملتها ... فغدوت معروفا وكنت منكرا
فكل قوم يلحظون مذهبهم، وقد علم كل أناس مشربهم، والله بفضله وإحسانه يوالى انسجام سحائب عفوه ورضوانه على العارف الربانى أبى عبد الرحمن السلمى، فلقد أجاد إذ أفاد بما أفرد من لطائف المعراج حسبما جمعه من كلام أهل الإشارات، بأقوم منهاج.
وقد استدل العلماء بقوله فى الحديث (فهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر فتلك خمسون) : على عدم فرضية ما زاد على الصلوات الخمس، كالوتر. وعلى دخول النسخ قبل الفعل. قال ابن بطال وغيره: ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى؟ ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب.(2/503)
وتعقبه ابن المنير فقال: هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح وغيرهم، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة، أو منعه كالمعتزلة. لكونهم اتفقوا جميعا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ.
وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ، فهو مشكل عليهم جميعا. اه.
فإن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ إلى بعض الأمة فمسلّم، لكن قد يقال: ليس هو بالنسبة إليهم نسخا، لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- لأنه كلف بذلك قطعا، ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعله، فالمسألة صحيحة التصوير فى حقه- صلى الله عليه وسلم-.
ولما رجع- صلى الله عليه وسلم- من سفر الإسراء، مر فى طريقه بعير لقريش تحمل طعاما، فيها جمل يحمل غرارتين: غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذى العير نفرت منه واستدارت وانصرع ذلك البعير.
وفى رواية: مر بعير قد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان. قال- صلى الله عليه وسلم-:
فسلمت عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتى مكة قبل الصبح وأخبر قومه بما رأى، وقال لهم: إن من آية ما أقول لكم أنى مررت بعيركم فى مكان كذا وكذا، وقد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان، وأن مسيرهم ينزلون بمكان كذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى إذا كان قريب من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذى وصفه- صلى الله عليه وسلم-.
وفى رواية البيهقى: سألوه آية، أخبرهم بقدوم العير يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت الشمس أن تغرب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف. وعن عائشة: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك، فارتد ناس كانوا آمنوا، وسعى رجال من المشركين إلى أبى بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس، قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال:
لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل(2/504)
أن يصبح فقال: نعم، إنى لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه فى خبر السماء فى غدوة أو روحة، فلذلك سمى الصديق «1» . رواه الحاكم فى المستدرك، وابن إسحاق: وزاد:
ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس فى هذه الليلة؟ قال: نعم، فقال: يا نبى الله صفه لى فإنى قد جئته، قال الحسن: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فرفع لى المسجد حتى نظرت إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصفه لأبى بكر، فيقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئا.
وقول أبى بكر: صفه لى، لم يكن عن شك، فإنه صدقه من أول وهلة، ولكنه أراد إظهار صدقه لقومه، فإنهم كانوا يثقون بأبى بكر، فإذا طابق خبره- صلى الله عليه وسلم- ما كان يعلم أبو بكر وصدقه كان حجة ظاهرة عليهم.
وفى رواية البخارى (فجلا الله لى بيت المقدس) أى كشف الحجب بينى وبينه حتى رأيته. وفى رواية مسلم: (فسألونى عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط، فرفعه الله لى أنظر إليه، ما يسألونى عن شىء إلا أنبأتهم به) .
فيحتمل أن يكون حمل إلى أن وضع بحيث يراه، ثم أعيد، ففى حديث ابن عباس عند أحمد والبزار: فجىء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه.
وهذا أبلغ فى المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس فى طرفة عين.
وأما ما وقع فى حديث أم هانئ عند ابن سعد: فخيل إلى بيت المقدس، وطفقت أخبرهم عن آياته، فإن ثبت احتمل أن يكون مثل قريبا منه، كما قيل فى حديث: (رأيت الجنة والنار) ويؤول قوله: جىء بالمسجد، أى جىء بمثاله.
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 65 و 81) .(2/505)
وفى حديث أم هانئ المذكور: أنهم قالوا له: كم للمسجد من باب، قال: ولم أكن عددتها قال: فجعلت أنظر إليه وأعدها بابا بابا.
وعند أبى يعلى: إن الذى سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدى، والد جبير بن مطعم.
وأشار ابن أبى جمرة: إلى أن الحكمة فى الإسراء إلى بيت المقدس إظهار الحق للمعاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح- حيث سألوه عن جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق أنه أسرى به إلى بيت المقدس. وإذا صح البعض لزم تصحيح الباقى، فكان ذلك سببا لقوة إيمان المؤمنين، وزيادة فى شقاء من عاند وجحد من الكافرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/506)
المقصد السادس فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره صلى الله عليه وسلم
فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره- صلى الله عليه وسلم- ورفعة ذكره، وشهادته تعالى بصدق نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته، واتباع سنته، وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه، والتنويه به فى الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل وغير ذلك.
اعلم أطلعنى الله وإياك على أسرار التنزيل، ومنحنا بلطفه تبصرة تهديناا إلى سواء السبيل، أنه لا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك، وما فيها من التصريح والإشارة إلى علو محله الرفيع ومرتبته، ووجوب المبالغة فى حفظ الأدب معه، وكذلك الآيات التى فيها ثناؤه تعالى عليه وإظهار عظيم شأنه لديه، وقسمه تعالى بحياته، ونداؤه ب «الرسول» وب «النبى» ولم يناده باسمه بخلاف غيره من الأنبياء، فناداهم بأسمائهم إلى غير ذلك مما يشير إلى أناقة قدره العلى عنده، وأنه لا مجد يساوى مجده. ومن تأمل القرآن العظيم وجده طافحا بتعظيم الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم-. ويرحم الله ابن الخطيب الأندلسى حيث قال:
مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثنى على علياك نظم مديحى
وإذا كتاب الله أثنى مفصحا ... كان القصور قصار كل فصيح
وهذا المقصد- أكرمك الله- يشتمل على عشرة أنواع:(2/507)
النوع الأول فى آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلته
قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ «1» . قال المفسرون: يعنى موسى- عليه السّلام-، كلمه بلا واسطة، وليس نصّا فى اختصاص موسى- عليه السّلام- بالكلام، فقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا- صلى الله عليه وسلم- أيضا كما مر. فإن قلت: إذا ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كلمه ربه وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم، كما اشتق لموسى؟
أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل فيطرد، بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم وجوبا، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة فلا يطرد، وحينئذ فلا يلزم فى كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضى عضد الدين، وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله الموسى سعد الدين التفتازانى.
انتهى. وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «2» يعنى محمدا- صلى الله عليه وسلم- رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه:
بالذات فى المعراج.
وبالسيادة على جميع البشر.
وبالمعجزات لأنه- صلى الله عليه وسلم- أوتى من المعجزات ما لم يؤته نبى قبله.
قال الزمخشرى: وفى هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذى لا يشتبه، والمتميز الذى لا
__________
(1) سورة البقرة: 253.
(2) سورة البقرة: 253.(2/508)
يلتبس، انتهى. وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ «1» . أن مراتب الرسل والأنبياء متفاوتة، خلافا للمعتزلة القائلين: بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفى هاتين الآيتين رد عليهم.
وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة. وتوقف بعضهم فقال: السكوت أفضل. والمعتمد الذى عليه جماهير السلف والخلف: أن الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما.
قال بعض أهل العلم- فيما حكاه القاضى عياض-: والتفضيل المراد لهم هنا فى الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن تكون آياته ومعجزاته أظهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون فى ذاته أفضل وأظهر، وفضله فى ذاته راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته واختصاصه: من كلام أو خلة أو ما شاء الله من ألطافه وتحف ولايته واختصاصه، انتهى.
فلا مرية أن آيات نبينا- صلى الله عليه وسلم- ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأقوى، ومنصبه أعلى ودولته أعظم وأوفر وذاته أفضل وأظهر، وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر، فدرجته أرفع من درجات جميع المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين. وتأمل حديث الشفاعة فى المحشر، وانتهائها إليه، وانفراده هناك بالسؤدد، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة» «2» رواه ابن ماجه. وفى حديث أنس عند الترمذى: «أنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربى ولا فخر» «3» .
لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته- صلى الله عليه وسلم- على الأنبياء كلهم ضعيف. واستدل الشيخ سعد
__________
(1) سورة الإسراء: 55.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (3610) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(2/509)
الدين التفتازانى لمطلق أفضليته- صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمة بحسب كمالهم فى الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذى يتبعونه.
واستدل الفخر الرازى- فى المعالم- بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد- صلى الله عليه وسلم-: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «2» ، فأمره أن يقتدى بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبا، وإلا فيكون تاركا للأمر، وإذا أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم، فيكون أفضل منهم، وبأن: دعوته- صلى الله عليه وسلم- فى التوحيد والعبادة وصلت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته- صلى الله عليه وسلم- أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى. وقد روى الترمذى عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» «3» . وفى حديث أبى هريرة مرفوعا- عند البخارى-: «أنا سيد الناس يوم القيامة» «4» وهذا يدل على أنه أفضل من آدم- عليه السّلام- ومن كل أولاده بل أفضل من الأنبياء، بل أفضل الخلق كلهم.
وروى البيهقى فى فضائل الصحابة، أنه ظهر على بن أبى طالب من البعد، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «هذا سيد العرب» فقالت عائشة: ألست بسيد العرب؟
فقال: «أنا سيد العالمين وهو سيد العرب» «5» وهذا يدل على أنه أفضل
__________
(1) سورة آل عمران: 110.
(2) سورة الأنعام: 90.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3148) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، و (3615) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (4712) فى التفسير، باب: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.
(5) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 134) بنحوه.(2/510)
الأنبياء، بل أفضل خلق الله كلهم. وقد روى هذا الحديث- أيضا- الحاكم فى صحيحه عن ابن عباس، لكن بلفظ: «أنا سيد ولد آدم، وعلى سيد العرب» «1» . وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه.
وله شاهد من حديث عروة عن عائشة، وساقه من طريق أحمد بن عبيد عن ناصح قال: حدثنا الحسين عن علوان- وهما ضعيفان- عن هشام ابن عروة عن أبيه، عن عائشة بلفظ: «ادعوا لى سيد العرب» قالت: فقلت:
يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال: وذكره «2» . وكذا أورده من حديث عمر بن موسى الوجيهى- وهو ضعيف أيضا- عن أبى الزبير عن جابر مرفوعا: «ادعوا لى سيد العرب» فقالت عائشة: ألست بسيد العرب وذكره.
قال شيخنا: وكلها ضعيفة. بل جنح الذهبى إلى الحكم على ذلك بالوضع.
انتهى.
ولم يقل- صلى الله عليه وسلم-: أنا سيد الناس عجبا وافتخارا على من دونه، حاشاه الله من ذلك، وإنما قاله- صلى الله عليه وسلم- إظهارا لنعمة الله تعالى عليه، وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله تعالى، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليه وعليهم. وكذا العبد إذ لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه فى كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين أنشأ له ذلك فى قلبه سحائب السرور، فإذا انبسطت هذه السحائب فى سماء قلبه وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل فطل، وحينئذ يجرى على لسانه الافتخار من غير عجيب ولا فخر، بل فرح بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «3» فالافتخار على ظاهره، والافتخار والانكسار فى باطنه، ولا ينافى أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف الربانى سيد على الوفائى فى قصيدته التى أولها:
__________
(1) هو الحديث السابق.
(2) انظر ما قبله.
(3) سورة يونس: 58.(2/511)
من أنت مولاه حاشا ... علاه أن يتلاشا
والله يا روح قلبى ... لا مات من بك عاشا
قوم لهم أنت ساق ... لا يرجعون عطاشا
لا قص دهر جناحا ... له وفاؤك راشا
بك النعيم مقيم ... لمن وهبت انتعاشا
ومن بحولك يقوى ... لن يضعف الدهر جاشا
عبد له بك عز ... فكيف لا يتحاشا
حاشا وفاؤك يرمى ... من أنت مولاه حاشا
فإن قلت: فما الجمع بين هاتين الآيتين، وبين قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
«1» .
والحديث الثابت فى الصحيحين، عن أبى هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودى فى قسمه: لا والذى اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهودى وقال: أى خبيث، وعلى محمد؟ فجاء اليهودى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتكى على المسلم فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تفضلونى على الأنبياء» وفى رواية (لا تفضلوا بين الأنبياء) «2» .
وحديث أبى سعيد الخدرى عند البخارى ومسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تخيروا بين الأنبياء» «3» . وحديث ابن عباس عند البخارى ومسلم مرفوعا (ما ينبغى
__________
(1) سورة البقرة: 136.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3414) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، ومسلم (2373) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2412) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودى، ومسلم (2374) فيما سبق.(2/512)
لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) «1» . وحديث أبى هريرة عند الشيخين، (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) «2» .
أجاب العلماء: بأن قوله عز وجل: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «3» يعنى: فى الإيمان بما أنزل إليهم والتصديق بهم، والإيمان بأنهم رسل الله وأنبياؤه، والتسوية بينهم فى هذا لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض.
وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة:
فقال بعضهم: أن نعتقد أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض فى الجملة. ونكف عن الخوض فى تفصيل التفضيل بارائنا، قال ابن طغر بك:
فإن أراد هذا القائل أن نكف عن الخوض فى تفصيل التفضيل بارائنا فصحيح، وإن أراد أنا لا نذكر فى ذلك ما فهمناه من كتاب الله وروى لنا من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسقيم.
وقال آخر: تفضل من رفع درجته بخصائص الحظوة والزلفى، ولا نخوض فى تفضيل بعضهم على بعض فى سياسة المنذرين والصبر على الدين، والنهضة فى أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلّال، فإن كلا منهم قد بذل فى ذلك وسعه الذى لا يكلفه الله تعالى أكثر منه.
وقال آخر- مما حكاه القاضى عياض-: إن نهيه- صلى الله عليه وسلم- عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف، وإن من فضل بلا علم فقد كذب. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفى هذا نظر. انتهى. ولعل وجه النظر من جهة معرفة المتقدم تاريخا من ذلك. ثم رأيت فى تاريخ ابن كثير أن وجه النظر- من جهة- أن هذا من رواية أبى سعيد وأبى هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر متأخرا، فيبعد أنه لم
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3416) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، ومسلم (2373) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم-.
(2) صحيح: وقد تقدم حديث أبى هريرة قبل قليل.
(3) سورة البقرة: 136.(2/513)
يعلمه بهذا إلا بعد هذا. وقال آخر: إنما قاله- صلى الله عليه وسلم- عن طريق التواضع ونفى التكبر والعجب. قال القاضى عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض.
وقيل: لا يفضل بينهم تفضيلا يؤدى إلى تنقيص بعضهم أو الغض منه.
وقيل: منع التفضيل فى حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيها على حد واحد، لا يتفاضل. وإنما التفاضل فى زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب، وأما النبوة فى نفسها فلا تتفاضل، وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، انتهى، وهذا قريب من القول الثانى.
وقال ابن أبى جمرة فى حديث يونس: يريد بذلك نفى التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطيب الرى، لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما فى عالم الحس، لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- أسرى به إلى فوق السبع الطباق، ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وقال- صلى الله عليه وسلم-: «آدم ومن دونه تحت لوائى» وقد اختص- صلى الله عليه وسلم- بالشفاعة الكبرى التى لم تكن لغيره من الأنبياء- عليهم السلام-. فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تفضلونى على يونس بن متى» إلا بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه وتعالى والبعد، فمحمد- صلوات الله وسلامه عليه- وإن أسرى به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس- عليه الصلاة والسلام- وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى. وهو مروى عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس وعزى نحوه لإمام الحرمين.
وقال ابن المنير: إن قلت إن لم يفضل على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين فى تفضيل الحق فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى، فكيف لا يفضله- عليه الصلاة والسلام- على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة بلا إشكال. ثم قال: قلت لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل(2/514)
مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكانى فعلى هذا يحمل جمعا بين القواعد، انتهى.
واختلف هل البشر أفضل من الملائكة؟ فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بنى آدم، وهم الأنبياء، أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، والمقربون والكروبيون والروحانيون. وخواص الملائكة أفضل من عوام بنى آدم- قال التفتازانى:
بالإجماع بل بالضرورة- وعوام بنى آدم أفضل من عوام الملائكة. فالمسجود له أفضل من الساجد، فإذا ثبت تفضيل الخواص على الخواص ثبت تفضيل العوام على العوام، فعوام الملائكة خدم عمال الخير، والمخدوم له فضل على الخادم، ولأن المؤمنين ركب فيهم الهوى والعقل، مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى لا سبيل للشيطان عليهم.
فالإنسان- كما قاله فى شرح العقائد- يحصل الفضائل والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات، ولا شك أن العبادة والكمالات مع الشواغل والصوارف أشق وأدخل فى الإخلاص فتكون أفضل.
والمراد بعوام بنى آدم- هنا- الصلحاء لا الفسقة، كما نبه عليه العلامة كمال الدين بن أبى شريف المقدسى، قال: ونص البيهقى عليه فى الشعب وعبارته: قد تكلم الناس قديما وحديثا فى الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، وأن الأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. انتهى.
وذهب المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة. وهو اختيار القاضى أبى بكر الباقلانى، وأبى عبد الله الحليمى، وتمسكوا بوجوه:
الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالفعل مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات كالشهوة والغضب، وعن ظلمات الهيولى والصورة، قوية على الأفعال العجيبة عالمة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط.(2/515)
والجواب: أن مبنى ذلك على الأصول الفلسفية دون الأصول الإسلامية.
الثانى: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «1» وقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ «2» ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم.
والجواب: أن التعليم من الله تعالى والملائكة إنما هم مبلغون.
الثالث: أنه أطرد فى الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء، وما ذلك إلا لتقدمهم فى الشرف والرتبة.
والجواب: أن ذلك لتقدمهم فى الوجود، أو لأن وجودهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتقديم أولى.
الرابع: قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«3» ، فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة على عيسى، إذ القياس فى مثله الترقى من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان، ولا يقال: السلطان ولا الوزير. ثم لا قائل بالفصل بين عيسى- عليه السّلام- وغيره من الأنبياء- عليهم السلام-.
والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يترفع أن يكون عبدا من عباد الله، بل ينبغى أن يكون ابنا له، لأنه مجرد لا أب له، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بخلاف سائر العباد من بنى آدم، فرد عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك المسيح ولا من هو أعلى منه فى هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن الله على أفعال أقوى وأعجب من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى فالترقى
__________
(1) سورة النجم: 5.
(2) سورة الشعراء: 193، 194.
(3) سورة النساء: 172.(2/516)
والعلو إنما هو فى أمر التجرد وإظهار الآثار القوية لا فى مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة على أفضلية الملائكة، انتهى.
ثم الملائكة بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم الروح الأمين جبريل، المزكى من رب العالمين، المقول فيه من ذى العزة إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «1» فوصفه بسبع صفات، فهو أفضل الملائكة الثلاثة- الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق- وهم:
ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.
وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- أفضل الأنبياء والرسل، كما تقدم. وأول الأنبياء آدم وآخرهم نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-. فأما نبوة آدم فبالكتاب الدال على أنه قد أمر ونهى، مع القطع بأنه لم يكن فى زمنه نبى آخر، فهو بالوحى لا غير، وكذا السنة والإجماع، فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرا.
وقد اختلف فى عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور فى ذلك ما فى حديث أبى ذر عند ابن مردويه فى تفسيره، قال: قلت يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير» ، قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم» ثم قال: «يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيت ونوح وخنوخ» - وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم-، «وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبى من بنى إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك» «2» ، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان فى كتاب «الأنواع والتقاسيم» وقد وسمه بالصحيح.
وخالفه ابن الجوزى فذكره فى الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام.
قال الحافظ ابن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح
__________
(1) سورة التكوير: 19- 21.
(2) أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (1/ 167) .(2/517)
والتعديل من أجل هذا الحديث، فالله أعلم. وروى أبو يعلى عن أنس مرفوعا: كان من خلى من إخوانى من الأنبياء ثمانية آلاف نبى، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله تعالى على أسمائهم فى القرآن: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب، وموسى وهارون ويونس، وداود وسليمان وإلياس واليسع، وزكريا ويحيى وعيسى. وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين والله أعلم.
وقال الله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «1» . روى ابن جرير من حديث أبى سعيد، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أتانى جبريل عليه السلام» فقال: إن ربى وربك يقول: أتدرى كيف رفعت ذكرك؟ قلت: «الله أعلم» قال: إذا ذكرت ذكرت معى «2» . وذكره الطبرانى، وصححه ابن حبان: وروينا عن الإمام الشافعى قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبى نجيح: معناه لا أذكر إلا ذكرت معى، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، قال الإمام الشافعى يعنى- والله أعلم- ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، قال:
ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية انتهى. وقيل: رفعه بالنبوة. قاله يحيى بن آدم. وعن ابن عطاء: جعلتك ذكرا من ذكرى. فمن ذكرك ذكرنى، وعنه أيضا: جعلت تمام الإيمان بذكرى معك. وعن جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرنى بالربوبية. قال البيضاوى: وأى رفعة مثل أن قرن اسمه باسمه فى كلمتى الشهادة، وجعل طاعته طاعته، انتهى، يشير إلى قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «3» وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «4» وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «5» وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ «6» .
__________
(1) سورة الشرح: 4.
(2) ضعيف: أخرجه أبو يعلى وابن حبان والضياء، كما فى «ضعيف الجامع» (71) .
(3) سورة النساء: 80.
(4) سورة التوبة: 62.
(5) سورة النساء: 13.
(6) سورة آل عمران: 132.(2/518)
وقول قتادة: رفع الله ذكره فى الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، انتهى. فهو مذكور معه فى الشهادة والتشهد، ومقرون ذكره بذكره فى القرآن والخطب والآذان، ويؤذن باسمه فى موقف القيامة. وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن أبى هريرة رفعه: لما نزل آدم- عليه السّلام- بالهند استوحش فنزل جبريل- عليه السّلام- فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، الحديث. وكتب اسمه الشريف على العرش وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها. رواه ابن عساكر. وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعا: لما عرج بى إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمى مكتوبا فيها: محمد رسول الله. وفى الحلية عن ابن عباس رفعه: ما فى الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأخرج الطبرانى من حديث جابر مرفوعا: كان نقش خاتم سليمان بن داود- عليهما السلام- لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعزاه الحافظ ابن رجب فى كتاب أحكام الخواتيم لجزء أبى على الخالدى، وقال: إنه باطل موضوع. وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسما، كما بينت ذلك فى أسمائه- صلوات الله وسلامه عليه-، وصلى عليه فى ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» فأخبر عباده بمنزلة نبيه عنده فى الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلى عليه، ثم أمر العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه، فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوى والسفلى جميعا.
__________
(1) سورة الأحزاب: 56.(2/519)
وكتبه نبيّا وآدم بين الروح والجسد «1» ، وختم به النبوة والرسالة، وأعلن بذكره الكريم فى الأولين والآخرين، ونوه بقدره الرفيع حين أخذ الميثاق على جميع النبيين، وجعل ذكره فى فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع على المنابر، وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر، ونشر ذكره فى الآفاق شرقا وغربا، برّا وبحرا، حتى فى السماوات السبع وعند المستوى وصريف الأقلام، والعرش والكرسى، وسائر الملائكة المقربين من الكروبيين والروحانيين والعلويين والسفليين، وجعله فى قلوب المؤمنين بحيث يستطيعون ذكره فترتاح أرواحهم، وربما تميل من طرب سماع اسمه أشباحهم:
وإذا ذكرتكم أميل كأننى ... من طيب ذكركم سقيت الراحا
كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة، فهم متمسكون فى الفريضة بأمرى، وفى السنة بأمرك، وجعلت طاعتى طاعتك، وبيعتى بيعتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معانى فرقانك، والوعاظ يبلغون بليغ وعظك، والملوك والسلاطين يقفون فى خدمتك ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «2» . اعلم أن للمفسرين فى (طه) قولين، أحدهما: أنها من حروف التهجى، والثانى أنها كلمة مفيدة.
وعلى الأولى: قيل معناها، يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادى الخلق إلى الملة، وقيل: «الطاء» فى الحساب بتسعة والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشر، ومعناه: يا أيها البدر، وهذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها إذ هى،
__________
(1) تقدم الحديث الدال على ذلك.
(2) سورة طه: 1، 2.(2/520)
كما قاله المحققون، من بدع المفسرين، ومثلها قول الواسطى، فيما حكاه القاضى عياض فى «الشفاء» ، أراد: يا طاهر يا هادى.
وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: أحدهما، أن معناه: يا رجل، وهو مروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة. قال سعيد بن جبير: بلسان النبطية، وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشية. وقال البيضاوى: إن صح إن معناه:
يا رجل فلعل أصله: يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار، انتهى.
وقال الكلبى «1» : لو قلت فى «عكّ» «2» يا رجل، لم يجبك حتى تقول: طه. وقال السدى: معنى طه يا فلان. وقال الزمخشرى: لعل «عكا» تصرفوا فى «يا هذا» كأنهم فى لغتهم قالبون «الياء» «طاء» فقالوا: فى «يا طاء» واختصروا هذا فاقتصروا على «ها» ، وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى فى البيت المستشهد به:
إن السفاهة طه فى خلائقكم ... لا قدس الله أخلاق الملاعين
قال فى البحر: وقد كان قدم أن «طه» فى لغة «عك» فى معنى يا رجل، ثم تخوض وتجرأ على «عك» بما لا يقوله نحوى، وهو أنهم قلبوا «الياء» «طاء» وهذا لا يوجد فى لسان العرب قلب «الياء» التى للنداء «طاء» وكذلك حذف اسم الإشارة فى النداء وإقرار «ها» التى للتنبيه، انتهى.
وقيل: معناه يا إنسان. وقرئ (طه) بإسكان الهاء، على أنه أمر له- صلى الله عليه وسلم- بأن يطأ الأرض بقدميه. وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقوم فى تهجده على إحدى رجليه، فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا، وأن الأصل «طاء» فقلبت همزته هاء، كما قالوا «هياك» فى: «إياك» ، و «هرقت» فى: أرقت.
ويجوز أن يكون الأصل من وطئ على ترك الهمزة، فيكون أصله «طا» يا
__________
(1) الكلبى: ضعيف، وكذلك السدى الذى بعده.
(2) هو: عك بن عدنان أخو معد، قبائل باليمن إليهما تنسب، والمقصد إذا قلت باليمن.(2/521)
رجل ثم أثبتت الهاء فيها للوقف. وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل «طه» :
طاها، والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية عن الأرض. لكن يرد ذلك:
كتبهما على صورة الحرف.
وأما قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1» فذكروا فى سبب نزولها أقوالا:
أحدها: أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدى قالوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «بل بعثت رحمة للعالمين» فأنزل الله تعالى هذه الآية ردّا عليهم، وتعريفا له- صلى الله عليه وسلم- بأن دين الإسلام والقرآن هو السلّم إلى نيل كل فوز، والسبب فى إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.
وثانيها: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل:
أبق على نفسك، فإن لها عليك حقّا. أى ما أنزلناه عليك لتنتهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحاء. وروى أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام. وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل. وتعقب: بأنه بعيد، لأنه- صلى الله عليه وسلم- إن فعل شيئا من ذلك فلابد أن يكون قد فعله بأمر الله تعالى، وإذا فعله عن أمره فهو من باب السعادة لا من باب الشقاوة.
وثالثها: قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد، لا تشق على نفسك وتعذبها بالأسف على كفر هؤلاء، فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به من آمن، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، فما عليك إلا البلاغ، وهذا كقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ «3» .
__________
(1) سورة طه: 2.
(2) سورة الشعراء: 3.
(3) سورة لقمان: 23.(2/522)
رابعها: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفى ذلك الوقت كان- صلى الله عليه وسلم- مقهورا مع أعدائه، فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة، بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيّا، بل تصير معظما مكرما، زاده الله تعالى تعظيما وتكريما وتشريفا.
وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» السورة. قال الإمام فخر الدين ابن الخطيب: فى هذه السورة كثير من الفوائد، منها: أنها كالتتمة لما قبلها من السور، وذلك لأن الله تعالى جعل سورة (والضحى) فى مدح نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وتفصيل أحواله، فذكر فى أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته وهى قوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «2» ثم ختمها كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا، وهى قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا «3» أى عن علم الحكم والأحكام فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «4» . ثم ذكر فى سورة أَلَمْ نَشْرَحْ «5» أنه تعالى شرفه- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أشياء وهى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أى: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ «6» . أى عناءك الثقيل الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وهكذا سورة سورة، حتى قال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «7» أى أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة التى كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها. وإذ أنعمنا عليك بهذه النعم فاشتغل بطاعتنا ولا تبال بقولهم. ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس وهو قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وإما بالمال وهو قوله: وَانْحَرْ «8» .
__________
(1) سورة الكوثر: 1.
(2) سورة الضحى: 3- 5.
(3) سورة الضحى: 6، 7.
(4) سورة الضحى: 7، 8.
(5) سورة الشرح: 1.
(6) سورة الشرح: 2.
(7) سورة الكوثر: 1.
(8) سورة الكوثر: 2.(2/523)
وتأمل قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ «1» كيف ذكر بلفظ الماضى، ولم يقل:
سنعطيك، ليدل على أن هذا الإعطاء حصل فى الزمان الماضى، قال- صلى الله عليه وسلم-: «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» «2» ولا شك أن من كان فى الزمان الماضى عزيزا مرعى الجانب أشرف ممن سيصير كذلك، كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك فى هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا يا أيها العبد الكريم، إنا لم نعطك هذا الفضل العميم لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساسنا من غير موجب. واختلف المفسرون فى تفسير (الكوثر) على وجوه:
منها: أنه نهر فى الجنة، وهذا هو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف، فروى أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (بينا أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر) «3» رواه البخارى.
وقيل: الكوثر أولاده، لأن هذه السورة إنما نزلت ردّا على من عابه- صلى الله عليه وسلم- بعدم الأولاد، وعلى هذا فالمعنى: أنه يعطيه نسلا يبقون على ممر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبى من الأنبياء غيره. وقيل: الكوثر الخير الكثير. وقيل: النبوة، وهى الخير الكثير. وقيل: علماء أمته، وقيل الإسلام، ولا ريب أنهما من الخير الكثير، فالعلماء ورثة الأنبياء «4» ، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذى، وأما «علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل» «5» فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله
__________
(1) سورة الكوثر: 1.
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6581) فى الرقاق، باب: فى الحوض.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (3641) فى العلم، باب: الحث على طلب العلم، والدارمى فى «سننه» (342) ، من حديث أبى الدرداء- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6297) .
(5) لا أصل له: انظر «كشف الخفاء» للعجلونى (1744) .(2/524)
الدميرى والزركشى، أنه لا أصل له. نعم روى أبو نعيم فى فضل العالم العفيف بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه: أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد. وقيل: الكوثر كثرة الأتباع والأشياع.
وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه: أحدها أن العلم هو الخير الكثير، والثانى: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا، قال: والأول غير جائز لأنه قال: إن أعطيناك الكوثر، والجنة سيعطيها لا أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه فى الدنيا، وأشرف الأمور الواصلة إليه فى الدنيا هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم، والثالث: أنه لما قال إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» قال عقبه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «2» والشىء الذى يتقدم على العبادة هو المعرفة، ولأن «الفاء» فى قوله (فصل) للتعقيب، ومعلوم أن الموجب للعبادة ليس إلا العلم.
وقيل الكوثر الخلق الحسن كما فى حديث: ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة «3» . رواه الطبرانى. وعن ابن عباس: جميع نعم الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم-.
وبالجملة: فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقى، فوجب حملها على الكل، ولذا روى أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول عن ابن عباس قال له بعضهم: إن ناسا يزعمون أنه نهر فى الجنة، فقال سعيد: النهر الذى فى الجنة من الخير الذى أعطاه الله إياه.
قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «4» يقتضى أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله من النبوة والقرآن والذكر
__________
(1) سورة الكوثر: 1.
(2) سورة الكوثر: 2.
(3) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 24) و (10/ 418) وعن أم سلمة وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفى إسنادهما سليمان بن أبى كريمة، وهو ضعيف.
(4) سورة الكوثر: 1.(2/525)
العظيم والنصر على الأعداء. وأما الحوض وسائر ما أعدّ له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد الله فهو كالواقع، إلا أن الحقيقة ما قدمناه، لأن ذلك وإن أعدّ له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه الكوثر فى حال نزول هذه السورة بمكة، ويحتمل أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بشىء له، يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشىء مع أن الصبى فى ذلك الحال ليس أهلا للتصرف. انتهى.
وقد روينا فى صحيح مسلم من حديث أنس (بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما يضحكك أضحك الله سنك، يا رسول الله؟ قال: «نزلت على آنفا سورة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «1» . ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربى، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتى عليه يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى، فيقول: ما تدرى ما أحدث بعدك) «2» . وهذا تفسير صريح منه- صلى الله عليه وسلم- بأن المراد بالكوثر- هنا- الحوض، فالمصير إليه أولى، وهذا هو المشهور كما تقدم. فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه بما أفاضه عليه من نعمه الجسيمة.
وقد جرت عادة الله مع أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: يا آدَمُ اسْكُنْ «3» يا نُوحُ اهْبِطْ «4» يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «5» يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ «6» ، وأما نبينا محمد
__________
(1) سورة الكوثر: 1- 3.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (400) فى الصلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة.
(3) سورة البقرة: 35.
(4) سورة هود: 48.
(5) سورة القصص: 30.
(6) سورة المائدة: 110.(2/526)
- صلى الله عليه وسلم- فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال فقال: (يا أيها الرسول) (يا أيها النبى) . ولله در القائل:
فدعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبى
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا عبيده بأفضل ما أوجد لهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التى لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم، وهذا معلوم بالعرف: أن من دعى بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة فى تعظيمه واحترامه. انتهى.
وانظر ما فى نحو قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» من ذكر «الرب» تعالى وإضافته إليه- صلى الله عليه وسلم-، وما فى ذلك من التنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه، وما فى ذلك من الإشارة اللطيفة، وهى أن المقبل عليه بالخطاب، له الحظ الأعظم، والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها إذ هو فى الحقيقة أعظم خلفائه. ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه، وجعله أفضل أنبيائه، أمّ بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم فى أرضه وسمائه، وفى دار تكليفه وجزائه.
وبالجملة: فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته، وتعظيم قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره ما يقضى بأنه استولى على أقصى درجات التكريم ويكفى إخباره تعالى بالعفو عنه وملاطفته قبل ذكر العتاب فى قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» . وتقديم ذكره على الأنبياء تعظيما له، مع تأخره عنهم فى الزمان فى قوله تعالى: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «3» وإخباره بتمنى أهل النار طاعته فى قوله تعالى:
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا «4» ، وهذا بحر لا ينفد وقطر لا يعد.
__________
(1) سورة البقرة: 30.
(2) سورة التوبة: 43.
(3) سورة الأحزاب: 7.
(4) سورة الأحزاب: 66.(2/527)
النوع الثانى فى أخذ الله الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه
قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «1» الآية. أخبر تعالى أنه أخذ الميثاق على كل نبى بعثه، من لدن آدم- عليه الصلاة والسلام- إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- أن يصدق بعضهم بعضا، قاله الحسن وطاووس وقتادة. وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم.
وعن على بن أبى طالب وابن عباس: ما بعث الله نبيّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد- صلى الله عليه وسلم- وهو حى- ليؤمنن به ولينصرنه. وما قاله قتادة والحسن وطاووس لا يضاد ما قاله على وابن عباس، ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه.
وقيل معناه: أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد- صلى الله عليه وسلم- أن يؤمنوا به وأن ينصروه، واحتج له بأن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم- عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد- صلى الله عليه وسلم- من جملة الأموات، والميت لا يكون مكلفا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذا على الأمم. وقالوا: ويؤكد هذا، أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق بأنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم.
وأجاب الفخر الرازى: بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا فى الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم-. ونظيره قوله تعالى لَئِنْ
__________
(1) سورة آل عمران: 81.(2/528)
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» ، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط، ولكنه خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، وقال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «2» وقال فى الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «3» مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ «4» وبأنهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ «5» ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير. وإذا نزلت هذه الآية على أن الله تعالى لما أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- لو كانوا فى الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لكانوا فى زمرة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم- واجبا على أممهم من باب أولى. فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى فى تحصيل المقصود.
وقال السبكى فى هذه الآية: إنه- صلى الله عليه وسلم- على تقدير مجيئهم فى زمانه يكون مرسلا إليهم. فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله- صلى الله عليه وسلم-:
«وبعثت إلى الناس كافة» لا يختص به الناس فى زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا، وإنما أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المتقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم. وفى أخذ المواثيق- وهى فى معنى الاستحلاف، ولذلك دخلت «لام» القسم فى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «6» لطيفة: وهى كأنها أيمان البيعة التى تؤخذ للخلفاء، ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا.
فانظر إلى هذا التعظيم العظيم للنبى- صلى الله عليه وسلم- من ربه تعالى، فإذا عرف
__________
(1) سورة الزمر: 65.
(2) سورة الحاقة: 44- 46.
(3) سورة الأنبياء: 29.
(4) سورة الأنبياء: 27.
(5) سورة النحل: 50.
(6) سورة آل عمران: 81.(2/529)
هذا فالنبى محمد- صلى الله عليه وسلم- نبى الأنبياء، ولهذا ظهر ذلك فى الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه. وفى الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه فى زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم اتباعه والإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل لهم فى حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه. وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فها هنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من ذات النبى- صلى الله عليه وسلم- الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد فى عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتى عيسى- عليه السّلام- فى آخر الزمان على شريعته، وهو نبى كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتى واحدا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من اتباعه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، وإنما يحكم بشريعة نبينا- صلى الله عليه وسلم- بالقرآن والسنة، وكل ما فيهما من أمر ونهى، فهو متعلق به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبى كريم على حاله لم ينقص منه شىء.
وكذلك لو بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- فى زمانه أو فى زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم وكانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبى- صلى الله عليه وسلم- نبى عليهم ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم. وتتفق مع شرائعهم فى الأصول، لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته- صلى الله عليه وسلم- فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو: لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبى- صلى الله عليه وسلم- فى تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفى هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة الشريفة، والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات، وبهذا بان لنا معنى حديثين كانا خفيا عنا:
أحدهما: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «بعثت إلى الناس كافة» «1» ، كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه إلى جميع الناس أولهم وآخرهم.
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.(2/530)
والثانى: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» «1» ، كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك، وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده- صلى الله عليه وسلم- وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه لا بالنسبة إليه ولا إليهم، لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف فها هنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب والجسد الشريف الذى يخاطبهم بلسانه.
وهذا كما يوكل الأب رجلا فى تزويج ابنته إذا وجدت كفأ، فالتوكيل صحيح وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل توقف التصرف على وجود الكفء، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح فى صحة الوكالة وأهلية الوكيل، انتهى.
النوع الثالث فى وصفه له ص بالشهادة وشهادته له بالرسالة
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل- عليهما الصلاة والسلام- عند بناء البيت الحرام رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» . فاستجاب الله دعاءهما، وبعث فى أهل مكة رسولا منهم بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذى دعا مع أبيه إبراهيم- عليهما السلام- بهذا الدعاء. فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا المراد به محمد- صلى الله عليه وسلم-؟
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) سورة البقرة: 127- 129.(2/531)
فالجواب من وجوه:
أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة.
والثانى: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى» «1»
قالوا: وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى هى ما ذكر فى سورة الصف فى قوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «2» .
الثالث: إن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة إلا محمدا- صلى الله عليه وسلم-. وقد امتن الله تعالى على المؤمنين يبعث هذا النبى منهم على هذه الصفة فقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «3» الآية، فليس لله منة على المؤمنين أعظم من إرساله محمدا- صلى الله عليه وسلم- يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم، لأن النعمة به- صلى الله عليه وسلم- تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله الذى رضيه لعباده.
وقوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ «4» يعنى أنه بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحى. وقرئ فى الشواذ (من أنفسهم) - بفتح الفاء- يعنى من أشرفهم، لأنه من بنى هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ (المؤمنين) عام، ومعناه خاص فى العرب، لأنه ليس حى من أحياء العرب إلا وقد ولده، وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به أكثر، فالمنة عليهم أعظم.
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 223) عن العرباض بن سارية، وقال: رواه أحمد بأسانيد والبزار والطبرانى بنحوه، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان.
(2) سورة الصف: 6.
(3) سورة آل عمران: 164.
(4) سورة آل عمران: 164.(2/532)
فإن قلت: هل العلم بكونه- صلى الله عليه وسلم- بشرا، ومن العرب، شرط فى صحة الإيمان، أو هو من فروض الكفاية.
أجاب الشيخ ولى الدين بن العراقى: بأنه شرط فى صحة الإيمان. قال:
فلو قال شخص: أومن برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الخلق، ولكنى لا أدرى هل هو من البشر أو الملائكة، أو من الجن، أو لا أدرى أهو من العرب أو العجم، فلا شك فى كفره لتكذيبه للقرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف، وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم فى ذلك خلافا. فلو كان غبيّا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره. انتهى. فإن قلت: هل هو- صلى الله عليه وسلم- باق على رسالته إلى الآن؟
أجاب أبو المعين النفسى: بأن الأشعرى قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- الآن فى حكم الرسالة، وحكم الشىء يقوم مقام أصل الشىء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى. وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية بعد موته- صلى الله عليه وسلم- حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان بعد موته، لأن المتصف بالنبوة والرسالة، والإيمان هو الروح وهى باقية لا تتغير بموت البدن. انتهى.
وتعقب: بأن الأنبياء أحياء فى قبورهم، فوصف النبوة باق للجسد والروح معا.
وقال القشيرى: كلام الله تعالى لمن اصطفاه: أرسلتك أن تبلغ عنى، وكلامه تعالى قديم، فهو- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوجد كان رسولا. وفى حال كونه وإلى الأبد رسولا، لبقاء الكلام وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذى هو كلام الله تعالى. ونقل السبكى فى طبقاته، عن ابن فورك أنه قال:
إنه- صلى الله عليه وسلم- حى فى قبره، رسول الله أبد الآباد على الحقيقة لا المجاز. انتهى.
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» .
__________
(1) سورة الجمعة: 2.(2/533)
والمراد بالأميين: العرب، تنبيها لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شىء من آثار النبوة، كما عند أهل الكتاب، فمنّ الله تعالى عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم وأعلمهم، وعرفوا ضلالة من ضل قبلهم من الأمم. وفى كونه- صلى الله عليه وسلم- منهم فائدتان:
إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضا أميّا كأميّة المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابا قط ولم يخطه بيمينه، كما قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «1» ، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم، بل لم يزل أميّا بين أمة أمية لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدين القيم الذى اعترف حذاق أهل الأرض ونظارها أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه، وفى هذا برهان عظيم على صدقه- صلى الله عليه وسلم-.
والفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم وهم الأميون، وخصوصا أهل مكة، يعرفون نسبه وشرفه وصدقه وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفترى الكذب على الله عز وجل؟ هذا هو الباطل. ولذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة.
وقد قال الله تعالى خطابا له: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ «2» . ويروى أن رجلا قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبى- صلى الله عليه وسلم- فى العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب. ويروى أن المشركين كانوا إذا رأوه- صلى الله عليه وسلم- قالوا: إنه لنبى. وعن على: قال أبو جهل للنبى- صلى الله عليه وسلم-: إنا لا
__________
(1) سورة العنكبوت: 48.
(2) سورة الأنعام: 33.(2/534)
نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى الآية. والمعنى: أنهم ينكرونه مع العلم بصحته. إذ الجحد هو الإنكار مع العلم.
فإن قلت: فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «1» ؟ أجيب: بأنه على طريق الجحد، وهو يختلف باختلاف أحوالهم فى الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله، فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرا وعنادا كأبى جهل. فيكون المراد بقوله فإنهم لا يكذبونك، قوما مخصوصين منهم لا كلهم، وحينئذ فلا تعارض.
وروى أن أبا جهل لقيه فصافحه فقيل له: أتصافحه؟ فقال: والله إنى لأعلم أنه نبى، ولكن متى كنا تبعا لبنى عبد مناف؟ فأنزل الله الآية، رواه أبو حاتم. والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته، فكيف يليق بكمال الله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده، ويعلى كلمته ويرفع شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يده من الآيات والبراهين والأدلة ما يضعف عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر ساع فى الأرض بالفساد؟؟ ومعلوم أن شهادته سبحانه وتعالى على كل شىء، وقدرته على كل شىء، وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء، ومن ظن ذلك به وجوزه عليه فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة.
والقرآن كله مملوء من هذه الطريق، وهذه طريقة الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله.
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادى على ذلك ويبديه ويعيده لمن له فهم وقلب واع عن الله تعالى. قال الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» ، أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمه يأبى أن يقرّ من
__________
(1) سورة الأنعام: 34.
(2) سورة الحاقة: 44- 47.(2/535)
تقول عليه بعض الأقاويل، بل لابد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سننه فى المتقولين عليه.
وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «1» هاهنا انتهى جواب الشرط. ثم أخبر خبرا جازما غير معلق بأنه يمحو الباطل ويحق الحق. وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «2» ، فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغى ولا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أن الله ينصر الكاذب المفترى عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟
وهذا فى القرآن كثير يستدل تعالى بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسوله، وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك.
وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «3» ، فأخبر سبحانه أن الكتاب الذى أنزله يكفى من كل آية، ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب.
ثم قال: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «4» فإذا كان سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام محيد بالمشهود به، وهو سبحانه وتعالى يذكر علمه عند شهادته وقدرته، وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده. فتأمل ورود أسمائه الحسنى
__________
(1) سورة الشورى: 24.
(2) سورة الأنعام: 91.
(3) سورة العنكبوت: 51، 52.
(4) سورة العنكبوت: 52.(2/536)
فى كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب. انتهى. وقال تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً «1» . أى شاهدا على الوحدانية، وشاهدا فى الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهدا فى الآخرة بأحوال الدنيا، وبالطاعة والمعصية والصلاح والفساد، وشاهدا على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى:
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» . كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرّف من قبلنا، إنا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا ومشاهدا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتحذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا، وداعيا الخلق إلينا، وسراجا يستضيئون بك، وشمسا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من اتبعك وخدمك وقدمك، فبشر بفضلنا وطولنا عليهم وإحساننا إليهم.
ولما كان الله تعالى قد جعله- صلى الله عليه وسلم- شاهدا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيا، فالله تعالى لم يجعل النبى فى مسألة الوحدانية مدعيا لها، لأن المدعى من يقول شيئا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبى- صلى الله عليه وسلم- كان ادعى النبوة، فجعل الله تعالى نفسه شاهدا له فى مجازاة كونه شاهدا له تعالى فقال سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ «3» ، ومن هذا قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4» فاستشهد على رسالته بشهادة الله له. وكذلك قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «5» ، وقوله:
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ
__________
(1) سورة الأحزاب: 45، 46.
(2) سورة البقرة: 143.
(3) سورة المنافقون: 1.
(4) سورة الرعد: 43.
(5) سورة الأنعام: 19.(2/537)
شَهِيداً «1» وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ «2» وقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «3» ، فهذا كله منه تعالى شهادة لرسوله قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم بكونه سبحانه شاهدا لرسوله.
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «4» . فيظهر ظهورين: ظهورا بالحجة والبيان، وظهورا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورا.
ومن شهادته تعالى أيضا ما أودعه فى قلوب عباده من التصديق الجازم، واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه، فإن الله تعالى فطر القلوب على قلوب الحق والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علما ضروريّا ويقينا جازما أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «5» ، فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علما ضروريّا كسائر الأمور الوجدانية باللذة والألم أنه من عند الله، تكلم به حقّا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد- صلى الله عليه وسلم-. فهذا الشاهد فى القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصا من مدارج السالكين.
__________
(1) سورة النساء: 166.
(2) سورة المنافقون: 1.
(3) سورة الفتح: 29.
(4) سورة محمد: 24.
(5) سورة الأعراف: 158.(2/538)
وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «1» . ففى هذه الآية دلالة على أنه- صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى كافة الثقلين. وقالت العيسوية من اليهود- وهم أتباع عيسى الأصبهانى-. إن محمدا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بنى إسرائيل.
ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية، لأن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يتناول كل الناس، ثم قال: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «2» وهذا يقتضى كونه مبعوثا إلى جميع الناس. وأيضا: فلأنا نعلم بالتواتر أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى الثقلين. فإما أن تقول: كان رسولا حقّا، أو ما كان كذلك، فإن كان رسولا حقّا امتنع الكذب عليه، ووجب الجزم بكونه صادقا فى كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعى كونه مبعوثا إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقا، وذلك يبطل قول من يقول:
إنه كان مبعوثا إلى العرب فقط، لا إلى بنى إسرائيل. وإذا ثبت هذا فنقول:
قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «3» من الناس من يقول إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك. أما الأولون فقالوا:
دخله التخصيص من وجهين:
الأول: أنه رسول إلى الناس إذا كانوا من جملة المكلفين، فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولا إليهم، وذلك لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال:
«رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» «4» رواه ابن جرير عن ابن عباس.
__________
(1) سورة الأعراف: 158.
(2) سورة الأعراف: 158.
(3) سورة الأعراف: 158.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (4399- 4403) فى الحدود، باب: فى المجنون يسرق أو يصيب حدّا، والترمذى (1423) فى الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، وابن ماجه (2042) فى الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغيرة والنائم، من حديث على- رضى الله عنه-، وفى الباب عن عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3512 و 3513 و 3514) .(2/539)
والثانى: أنه رسول إلى من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه، حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا حصول قوم فى طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته. وعن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة ولا يهودى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «1» رواه مسلم. ومفهومه: أن من لم يسمع بالنبى- صلى الله عليه وسلم- ولم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، على ما تقرر فى الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح. وفى هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا- صلى الله عليه وسلم-.
وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» . خاطب تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا خاتم النبيين الذى لا نبى بعده ولا رسول. بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ «3» أى بعد مدة متطاولة، ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.
وقد اختلفوا فى مقدار هذه الفترة كم هى؟ فقال النهدى وقتادة فى رواية عنه: ستمائة سنة. ورواه البخارى عن سلمان الفارسى. وعن قتادة:
خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة، وعن الشعبى- فيما ذكره ابن عساكر- تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة، قال: وكانت هى الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بنى إسرائيل، وبين محمد آخر النبيين من بنى آدم على الإطلاق، كما فى البخارى من حديث أبى هريرة مرفوعا: «أنا أولى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (153) فى الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس وفسخ الملل بملة.
(2) سورة المائدة: 19.
(3) سورة المائدة: 19.(2/540)
الناس بابن مريم ليس بينى وبينه نبى» «1» وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبى يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القضاعى وغيره.
والمقصود: أن الله بعث محمدا على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم والنفع به أعم. وفى حديث عند الإمام أحمد مرفوعا: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بنى إسرائيل» «2» وفى لفظ مسلم «من أهل الكتاب» . فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدا فهدى به الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، - صلوات الله وسلامه عليه-.
وقال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» . أى: عزيز عليه عنتكم، أى إثمكم بالشرك والمعاصى، حريص عليكم أن تهتدوا. قال الحسن: عزيز عليه أن تدخلوا النار، حريص عليكم أن تدخلوا الجنة، ومن حرصه- صلى الله عليه وسلم- علينا أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، وفهمنا إياه على قدر منزلته، بل على قدر منزلتنا، وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله:
لم يمتحنا بما تعيى العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
أى لم نتحير ولم نشك فيما ألقاه إلينا. وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم. ومن حرصه- صلى الله عليه وسلم- على هدايتنا أنه كان كثيرا ما يضرب المثل بالمحسوس ليحصل الفهم، وهذه سنة
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 162) ، وهو عند مسلم (2865) فى الجنة، باب: الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، من حديث عياض بن حمار المجاشعى.
(3) سورة التوبة: 128.
(4) سورة الأنبياء: 107.(2/541)
القرآن، ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من ذلك العجب العجاب، ولما ساوى الله سبحانه وتعالى بين الناس فى حرص رسوله- صلى الله عليه وسلم- على إسلامهم، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم.
وقال تعالى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» ولم يقل: من أرواحكم، فقيل يحتمل أن يكون مراده: أنه منا بجسده المنفس، لا بروحه المقدس، ويرحم الله القائل:
إذا رمت مدح المصطفى شغفا به ... تبلد ذهنى هيبة لمقامه
فأقطع ليلى ساهر الجفن مطرقا ... هوى فيه أحلى من لذيذ منامه
إذا قال فيه الله جل جلاله ... رؤوف رحيم فى سياق كلامه
فمن ذا يجارى الوحى والوحى معجز ... بمختلفيه نثره ونظامه
تنبيه:
أما قول القاضى عياض بعد ذكره الآية:
«ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد كثيرة، من حرصه على هدايتهم، ورشدهم وإسلامهم، وشدة ما يعنتهم ويضربهم فى دنياهم وأخراهم، وعزته على ... » . فهو وإن كان المقصد صحيحا، ففى ظاهره شىء، لأنه يوهم أن قوله «وشدة ما يعنتهم» معطوف على متعلق المصدر الذى هو «الحرص» فيكون مخفوضا به.
ومما يقوى هذا التوهم قوة إعطاء الكلام، أن الضمير الأول من قوله «وعزته عليه» عائد على النبى- صلى الله عليه وسلم-، والضمير الثانى عائد على الله عز وجل، فلا تبقى «الشدة» إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر. ولا يخفى ما فى هذا.
وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف أى: وكراهة شدة ما يعنتهم، أو نحو ذلك من المضافات. والأولى- أو الصواب، إن شاء الله تعالى- أن تكون «الشدة» معطوفة على نفس المصدر الذى هو «الحرص»
__________
(1) سورة التوبة: 128.(2/542)
ويكون قوله «وعزته» معطوفا على «وشدة» والضمير فيه راجع إلى الموصول وهو «ما» فى قوله «ما يعنتهم» والهاء الثانية فى «عليه» عائدة على النبى- صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» . يجوز أن يكون «رحمة» مفعولا له، أى لأجل الرحمة، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة فى أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أى: ذا رحمة، أو بمعنى: راحم. قاله السمين «2» .
وقال أبو بكر بن طاهر- فيما ذكره القاضى عياض-: زين الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلم- بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شىء من رحمته فهو الناجى فى الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، انتهى.
وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبى إذا كذب أهلك الله من كذبه. ومحمد أخّر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة فى الدنيا والآخرة. وقال السمرقندى: رحمة للعالمين يعنى: الجن والإنس. وقيل: لجميع الخلق للمؤمن رحمة بالهداية، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافر بتأخير العذاب. فذاته- صلى الله عليه وسلم- كما قيل- رحمة تعم المؤمن والكافر، قال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «3» ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا رحمة مهداة» «4» رواه الدارمى والبيهقى فى «الشعب» من حديث أبى هريرة. وقال بعض العارفين: الأنبياء خلقوا كلهم من الرحمة، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- عين الرحمة، ولقد أحسن القائل:
غنيمة عمر الكون بهجة عيشه ... سرور حياة الدهر فائدة الدهر
هو النعمة العظمى هو الرحمة التى ... تجلى بها الرحمن فى السر والجهر
__________
(1) سورة الأنبياء: 107.
(2) هو: أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبى، أبو العباس شهاب الدين المعروف بالسمين، توفى سنة (756 هـ) .
(3) سورة الأنفال: 33.
(4) تقدم.(2/543)
فبيانه- صلى الله عليه وسلم- ونصحه رحمة، ودعاؤه واستغفاره رحمة، فرزق ذلك من قبله، وحرمه من رده. فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ فالجواب: من وجهين:
أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف، لمن استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله تعالى: الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة، وقد قال تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً «1» ثم قد يكون سببا للفساد.
وثانيهما: أن كل نبى من الأنبياء قبل نبينا إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وقد أخر الله تعالى عذاب من كذب نبينا إلى الموت، أو إلى القيامة. لا يقال: إنه تعالى قال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ «2» ، وقال تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ «3» ، لأنا نقول:
تخصيص العام لا يقدح فيه.
وفى «الشفاء» للقاضى عياض: وحكى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: «هل أصابك من هذه الرحمة شىء؟» قال: نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت، لثناء الله تعالى علىّ بقوله عز وجل: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «4» . انتهى.
وذكره السمرقندى: فى تفسيره بلفظ. وذكر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل يقول الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «5» فهل أصابك من هذه الرحمة شىء؟ قال: نعم، أصابنى من هذه الرحمة شىء، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت بك، لثناء الله تعالى علىّ فى قوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «6» .
وهذا يقتضى أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- أفضل من جبريل، وهو الذى عليه
__________
(1) سورة ق: 9.
(2) سورة التوبة: 14.
(3) سورة الأحزاب: 73.
(4) سورة التكوير: 20، 21.
(5) سورة الأنبياء: 107.
(6) سورة التكوير: 20.(2/544)
الجمهور، خلافا لمن زعم أن جبريل أفضل واستدل: بأن الله تعالى وصف جبريل بسبعة أوصاف من صفات الكمال فى قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «1» ، ووصف محمدا- صلى الله عليه وسلم- بقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «2» . ولو كان محمد- صلى الله عليه وسلم- مساويا لجبريل فى صفات الفضل أو مقاربا له لكان وصف محمدا بمثل ذلك.
وأجيب: بأنا متفقون على أن لمحمد- صلى الله عليه وسلم- فضائل أخرى سوى ما ذكر فى هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجمال، وإذا ثبت أن لمحمد- صلى الله عليه وسلم- فضائل أخر زائدة فيكون أفضل من جبريل.
وبالجملة: فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثانى، وإذا ثبت بالدليل القرآنى أنه- صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم، والله أعلم.
وقال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «3» . وهذه الآية نص فى أنه لا نبى بعده، وإذا كان لا نبى بعده فلا رسول بطريق الأولى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبى، ولا ينعكس، كما قدمنا ذلك فى أسمائه الشريفة من المقصد الثانى. وبذلك وردت الأحاديث عنه- صلى الله عليه وسلم-:
فروى أحمد من حديث أبى بن كعب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «مثلى فى النبيين كمثل رجل بنى دارا، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة فلم يضعها: فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا فى النبيين موضع تلك اللبنة» «4» ورواه الترمذى عن بندار عن
__________
(1) سورة التكوير: 19- 21.
(2) سورة التكوير: 22.
(3) سورة الأحزاب: 40.
(4) صحيح: وقد تقدم.(2/545)
أبى عامر العقدى، وقال: حديث حسن صحيح. وفى حديث أنس بن مالك مرفوعا: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدى ولا نبى) «1» رواه الترمذى وغيره. وفى حديث جابر مرفوعا: (مثلى ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، وأنا موضع هذه اللبنة، ختم بى الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-) «2» رواه أبو داود الطيالسى، وكذا البخارى ومسلم.
وفى حديث أبى سعيد الخدرى: (فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة) «3» . رواه مسلم. وفى حديث أبى هريرة عند مسلم: (وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بى النبيون) «4» .
فمن تشريف الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم- ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله فى كتابه، ورسوله فى السنة المتواترة عنه، أنه لا نبى بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تحذق وتشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات «5» ، فكلها محال وضلالة عند أولى الألباب. ولا يقدح فى هذا نزول عيسى ابن مريم- عليه السّلام- بعده، لأنه إذا نزل كان على دين نبينا- صلى الله عليه وسلم- ومنهاجه، مع أن المراد: أنه آخر من نبئ. قال أبو حيان: ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولى أفضل من النبى فهو زنديق يجب قتله والله أعلم.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (2272) فى الرؤيا، باب: ذهبت النبوة وبقيت البشرات، وأحمد فى «المسند» (3/ 267) ، والحاكم فى «المستدرك» (40/ 433) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) صحيح: وقد تقدم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (523) فى المساجد، باب: رقم (1) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(5) النيرنج: شىء كالسحر.(2/546)
النوع الرابع فى التنويه به ص فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل
قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «1» . وهذا يدل على أنه لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله، لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول مقاله، فلما قال لهم- صلى الله عليه وسلم- هذا دل على أن ذلك النعت كان مذكورا فى التوراة والإنجيل. وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.
لكن أهل الكتب كما قال الله تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «2» ويُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «3» ، وإلا فهم- قاتلهم الله- قد عرفوا محمدا- صلى الله عليه وسلم- كما عرفوا أبناءهم، ووجدوه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، لكنهم حرفوهما وبدلوهما ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
فدلائل نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى كتابيهما- بعد تحريفهما- طافحة، وأعلام شريعته ورسالته فيهما لائحة، وكيف يغنى عنهم إنكارهم، وهذا اسم النبى- صلى الله عليه وسلم- بالسريانية «مشفح» ، فمشفح، محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولن «شفحا لاها» إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد، شفحا، فمشفح: محمد، ولأن الصفات التى أقروا بها هى وفاق لأحواله وزمانه، ومخرجه ومبعثه وشريعته- صلى الله عليه وسلم-، فليدلونا على من هذه الصفات له، ومن خرجت له الأمم من بين يديه، وانقادت له واستجابت لدعوته. ومن صاحب الجمل الذى هلكت بابل وأصنامها به؟
__________
(1) سورة الأعراف: 157.
(2) سورة البقرة: 146.
(3) سورة المائدة: 13.(2/547)
على أنا لو لم نأت بهذه الأنباء والقصص من كتبهم، ألم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك؟ وفى تركهم جحد ذلك وإنكاره- وهو يقرعهم به- دليل على اعترافهم له؟ فإنه يقول: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «1» ويقول حكاية عن المسيح: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «2» . ويقول: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «3» ويقول: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ «4» ، وكانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا نبى قد أظل مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون فى كتابهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا وخوفا على الرياسة. ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بنى إسرائيل فلما بعثه الله من العرب، من نسل إسماعيل عظم ذلك عليهم، وأظهروا التكذيب، فلعنة الله على الكافرين.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم وما فى أيديهم، ويقول من علامة نبوتى وصدقى أنكم تجدونى عندكم مكتوبا وهم لا يجدونه كما ذكر؟! أو ليس ذلك مما يزيدهم عنه بعدا، وقد كان غنيّا أن يدعوهم بما ينفرهم، ويستميلهم بما يوحشهم. وقد أسلم من أسلم من علمائهم كعبد الله بن سلام، وتميم الدارى، وكعب، وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوى.
وقد روى ابن عساكر فى تاريخ دمشق من طريق محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام عند جده عبد الله بن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة، خرج فلقيه، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟» قال: نعم، قال: «ناشدتك الله الذى أنزل التوراة على موسى، هل
__________
(1) سورة الأعراف: 157.
(2) سورة الصف: 6.
(3) سورة آل عمران: 71.
(4) سورة البقرة: 146.(2/548)
تجد صفتى فى كتاب الله» قال: انسب ربك يا محمد، فارتج النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال له جبريل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» ، فقال ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وإن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإنى لأجد صفتك فى كتاب الله: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة المعوجة، حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا وقلوبا غلفا.
فصل
وقوله: «ليس بفظ ولا غليظ» موافق لقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «2» ولا يعارض قوله:
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «3» لأن النفى محمول على طبعه الكريم الذى جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفى بالنسبة إلى المؤمنين والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين كما هو مصرح به فى نفس الآية. و «قلوبا غلفا» : أى مغشاة مغطاة، واحدها: أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره.
وأخرج البيهقى وأبو نعيم عن أم الدرداء- امرأة أبى الدرداء- قالت:
قلت لكعب، كيف تجدون صفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى التوراة؟ قال: كنا نجده موصوفا فيها: محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، وأعطى المفاتيح، ليبصر الله به أعينا عورا، ويسمع به آذانا صمّا، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف.
وفى البخارى: عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن
__________
(1) سورة الإخلاص: 1- 4.
(2) سورة آل عمران: 159.
(3) سورة التوبة: 73.(2/549)
العاص، فقلت: أخبرنى عن صفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (أجل، والله إنه لموصوف فى التوراة ببعض صفته فى القرآن: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين. أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا) «1» .
وعند ابن إسحاق: ولا صخب فى الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال للخنا، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به الخمالة، وأسمى به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس.
وأخرج البيهقى عن ابن عباس قال: قدم الجارود فأسلم فقال: والذى بعثك بالحق لقد وجدت وصفك فى الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول.
وأخرج ابن سعد قال: لما أمر إبراهيم بإخراج هاجر حمل على البراق، فكان لا يمر بأرض عذبة سهلة إلا قال: انزل ها هنا يا جبريل، فيقول: لا، حتى أتى مكة فقال جبريل: انزل يا إبراهيم، قال: حيث لا ضرع ولا زرع؟
قال: نعم، هاهنا يخرج النبى الذى من ذرية ابنك الذى تتم به الكلمة العليا. وفى التوراة- مما اختاره بعد الحذف والتبديل والتحريف، مما ذكره ابن ظفر فى «البشر» وابن قتيبة فى «أعلام النبوة» -: تجلى الله من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. و «سينا» هو الجبل الذى كلم الله فيه موسى. و «ساعير» هو الجبل الذى كلم الله فيه عيسى، وظهرت فيه نبوته.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4838) فى التفسير، باب: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.(2/550)
وجبال «فاران» هو اسم عبرانى- وليست ألفه الأولى همزة- هى جبال بنى هاشم التى كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتحنث فى أحدها وفيه فاتحة الوحى، وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها: أبو قبيس، والمقابل له قعيقعان إلى بطن الوادى، والثالث: الشرقى فاران، ومنفتحه الذى يلى قعيقعان إلى بطن الوادى، وهو شعب بن هاشم، وفيه مولده- صلى الله عليه وسلم- على أحد الأقوال.
قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض، لأن تجلى الله من سينا، إنزاله التوراة على موسى- عليه السّلام- بطور سيناء، ويجب أن يكون إشراقه من «ساعير» إنزاله على عيسى الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل، بقرية تدعى ناصرة، وباسمها سمى من اتبعه نصارى، فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران بإنزاله القرآن على محمد- صلى الله عليه وسلم-، وهى جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب فى ذلك اختلاف فى أن فاران هى مكة.
وإن ادعى أنها غير مكة قلنا: أليس فى التوراة: إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا: دلونا على الموضع الذى استعلن الله منه واسمه فاران، والنبى الذى أنزل عليه كتابا بعد المسيح، أو ليس «استعلن» و «علن» بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام، وفشا فى مشارق الأرض ومغاربها فشوه.
وفى التوراة أيضا- مما ذكره ابن ظفر- خطابا لموسى، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه الذين أخذتهم الرجفة خصوصا، ثم بنى إسرائيل عموما:
والله ربك يقيم نبيّا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربك فى حوريت يوم الاجتماع حين قلت لا أعود أسمع صوت الله ربى لئلا أموت، فقال الله لى: نعم ما قالوا، وسأقيم لهم نبيّا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه فيقول لهم كل شىء أمرته به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه. قال: وفى هذا الكلام أدلة على نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم-.
فقوله: «نبيّا من إخوتهم» وموسى وقومه من بنى إسحاق، وإخوتهم بنو إسماعيل، ولو كان هذا النبى الموعود به من بنى إسحاق، لكان من(2/551)
أنفسهم لا من إخوتهم. وأما قوله: «نبيّا مثلك» وقد قال فى التوراة: لا يقوم فى بنى إسرائيل أحد مثل موسى، وفى ترجمة أخرى: مثل موسى لا يقوم فى بنى إسرائيل أبدا. فذهبت اليهود إلى أن هذا النبى الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل، لأن يوشع لم يكن كفؤا لموسى- عليهما السلام-، بل كان خادما له فى حياته، ومؤكدا لدعوته بعد وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدا- صلى الله عليه وسلم- فإنه كفؤ موسى لأنه مماثله فى نصب الدعوة، والتحدى بالمعجزة، وشرع الأحكام، وإجراء النسخ على الشرائع السالفة.
وقوله تعالى: «أجعل كلامى فى فمه» فإنه واضح فى أن المقصود به محمد- صلى الله عليه وسلم- لأن معناه أوحى إليه بكلامى، فينطق به على نحو ما سمعه، ولا أنزل صحفا ولا ألواحا لأنه أمى، لا يحسن أن يقرأ المكتوب.
وفى الإنجيل- مما ذكره ابن طغر بك فى «الدر المنظم» قال يوحنا فى إنجيله عن المسيح أنه قال: أنا أطلب من الأب أن يعطيكم «فار قليط» آخر يثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذى لن يطيق العالم أن يقتلوه.
وهو عند ابن ظفر بلفظ: إن أحببتمونى فاحافظوا وصيتى، وأنا أطلب إلى أبى فيعطيكم «فار قليط» «1» آخر يكون معكم الدهر كله.
قال: فهذا صريح بأن الله تعالى سيبعث إليهم من يقوم مقامه، فينوب عنه فى تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، فهل هذا إلا محمد- صلى الله عليه وسلم-؟ انتهى. ولم يذكر فصول «الفارقليط» - كما أفاده ابن طغر بك- سوى يوحنا، دون غيره من نقله الأناجيل. وقد اختلف النصارى فى تفسير «الفارقليط» . فقيل هو: الحامد، وقيل: المخلص.
فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتى لخلاص العالم، وذلك من غرضنا، لأن كل نبى مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح فى الإنجيل: إنى قد جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذى وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذى سأل الأب أن يعطيهم «فارقليط» آخر، ففى مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتى آخر.
__________
(1) كذا بالأصل، وقد شرحها المصنف بالحامد أو المخلص.(2/552)
وإن تنزلنا معهم على القول بأنه: الحامد، فأى لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا؟
قال ابن ظفر: وفى الإنجيل- مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط:
الرسول، فإنه قال: إن هذا الكلام الذى تسمعونه ليس هو لى، بل الأب أرسلنى بهذا الكلام لكم، وأما «الفارقليط» روح القدس الذى يرسله أبى باسمى، فهو يعلمكم كل شىء، وهو يذكركم كلما قلته لكم.
فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحا فى أن «الفارقليط» رسول يرسله الله، وهو روح القدس، وهو يصدق بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله، وليس بإله، وهو يعلم الخلق كل شىء، ويذكرهم كل ما قاله المسيح- عليه السّلام- لهم، وكل ما أمرهم به من توحيد الله.
وأما قوله «أبى» فهذه اللفظة مبدلة محرفة، وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين، إشارة إلى الرب سبحانه، لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذى يستمد منه العلم. ومن المشهور مخاطبة النصارى عظاماء دينهم بالآباء الروحانية، ولم تزل بنو إسرائيل وبنو عيصو يقولون نحن أبناء الله بسوء فهمهم عن الله تعالى.
وأما قوله «يرسله أبى باسمى» فهو إشارة إلى شهادة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- له بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه عما افترى فى أمره. وفى ترجمة أخرى للإنجيل، أنه قال: «الفارقليط» إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث. وهو عند ابن طغر بك لفظ: فإذا جاء روح الحق، ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتى، وهو يمجدنى لأنه يأخذ مما هو لى ويخبركم. فقوله «ليس ينطق من عنده» وفى الرواية الآخرى: «ولا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بكل ما يسمع» أى: من الله الذى أرسله، وهذا كما قال تعالى فى حقه- صلى الله عليه وسلم-: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» .
__________
(1) سورة النجم: 3، 4.(2/553)
وقوله: «وهو يمجدنى» فلم يمجده حق تمجيده إلا محمد- صلى الله عليه وسلم-، لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه وبرأ أمه- عليهما السلام- مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك.
قال ابن ظفر: فمن ذا الذى وبخ العلماء على كتمان الحق وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس، ومن ذا الذى أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولله در أبى محمد عبد الله الشقراطيسى حيث قال فى قصيدته المشهورة:
توراة موسى أتت عنه فصدقها ... إنجيل عيسى بحق غير مفتعل
أخبار أحبار أهل الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا فى الأعصر الأول
ويعجبنى قول العارف الربانى أبى عبد الله بن النعمان:
هذا النبى محمد جاءت به ... توراة موسى للأنام تبشر
وكذاك إنجيل المسيح موافق ... ذكرا لأحمد معرب ومذكر
ويرحم الله ابن جابر حيث قال:
لمبعثه فى كل جيل علامة ... على ما جلته الكتب من أمره الجلى
فجاء به إنجيل عيسى باخر ... كما قد مضت توراة موسى بأول
وفى الدلائل للبيهقى عن الحاكم- بسند لا بأس به- عن أبى أمامة الباهلى عن هشام بن العاص الأموى قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث، وأنه أرسل إليهم ليلا، قال: فدخلنا عليه، فدعا بشىء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، فإذا رجل ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم- عليه السّلام-، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية، فقال: أتعرفون(2/554)
هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح- عليه السّلام-، قال: ثم فتح بابا آخر وأخرج حريرة فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها. والله رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال:
أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله ونبينا، قال: والله إنه لهو، ثم قام قائما ثم جلس وقال: إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما والله إنه لآخر البيوت، ولكنى عجلته لكم لأنظر ما عندكم. الحديث، وفيه ذكر الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم. قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ فقال: إن آدم- عليه السّلام- سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل الله عليه صورهم، فكان فى خزانة آدم- عليه السّلام- عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال.
وفى زبور داود- عليه السّلام-، من مزمور أربعة وأربعين: فاضت النعمة من شفتيك، من أجل هذا باركك الله إلى الأبد، تقلد أيها الجبار بالسيف، فإن شرائعك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، وجميع الأمم يخرون تحتك.
فهذا المزمور ينوه بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم-، فالنعمة التى فاضت من شفتيه هى القول الذى يقوله، وهو الكتاب الذى أنزل عليه والسنة التى سنها.
وفى قوله: «تقلد سيفك أيها الجبار» دلالة على أنه النبى العربى، إذا ليس يتقلد السيوف أمة من الأمم سوى العرب، فكلهم يتقلدونها على عواتقهم. وفى قوله «فإن شرائعك وسنتك» نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه. و «الجبار» الذى يجبر الخلق بالسيف على الحق ويصرفهم عن الكفر جبرا.
وعن وهب بن منبه قال: قرأت فى بعض الكتب القديمة، قال الله تبارك وتعالى: وعزتى وجلالى، لأنزلنّ على جبال العرب نورا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولآخرجن من ولد إسماعيل نبيّا أميّا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بى ربّا، وبه رسولا، ويكفرون بملل آبائهم(2/555)
ويفرون منها، قال موسى: سبحانك وتقدست أسماؤك، لقد كرمت هذا النبى الكريم وشرفته، قال الله: يا موسى، إن أنتقم من عدوه فى الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وأذل من خالف شريعته، بالعدل زينته، وللقسط أخرجته، وعزتى لأستنقذن به أمما من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم وأختمها بمحمد، فمن أدركه ولم يؤمن به ولم يدخل فى شريعته فهو من الله برىء. ذكره ابن ظفر وغيره.
النوع الخامس فى آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه من آياته وعلو رتبته الشريفة ومكانته
وهذا النوع- أعزك الله- لخصت أكثره من كتاب أقسام القرآن للعلامة ابن القيم، مع زيادات من فرائد الفوائد. فاعلم أنه تعالى أقسم بأمور على أمور، وإنما أقسم بنفسه الموصوفة بصفاته، وآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وأقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه من عظيم آياته. ثم إنه تعالى تارة يذكر جواب القسم وهو الغالب. وتارة يحذفه. وتارة يقسم على أن القرآن حق. وتارة على أن الرسول حق. وتارة على أن الجزاء والوعد والوعيد حق.
فالأول: كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1» .
والثانى: كقوله تعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «2» .
والثالث: كقوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إلى قوله: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ «3» .
__________
(1) سورة الواقعة: 75- 77.
(2) سورة يس: 1- 3.
(3) سورة الذاريات: 1- 6.(2/556)
وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، فمتى ثبت أن الرسول حق، ثبت أن القرآن حق، وثبت المعاد، ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذى جاء به، ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذى جاء به.
وفى هذا النوع خمسة فصول.
الفصل الأول فى قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم
قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» .
ن «2» من أسماء الحروف ك الم «3» والمص «4» وق «5» .
واختلف فيها، فقيل هى أسماء للقرآن، وقيل: أسماء للسور. وقيل:
أسماء لله، ويدل عليه أن عليّا- رضى الله عنه- كان يقول: يا كهيعص «6» ، يا حم (1) عسق «7» كما قيل، ولعله أراد يا منزلهما. وقيل: إنه سر استأثر الله بعلمه، وقد روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله ورسوله، لم يقصد بها إفهام غيره، إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد.
وهل المراد بقوله تعالى: «ن» اسم الحوت، وهل المراد به الجنس، أو البهموت وهو الذى عليه الأرض؟
__________
(1) سورة القلم: 1- 4.
(2) سورة القلم: 1.
(3) سورة البقرة: 1.
(4) سورة الأعراف: 1.
(5) سورة ق: 1.
(6) سورة مريم: 1.
(7) سورة الشورى: 1، 2.(2/557)
وقيل: المراد به الدواة وهو مروى عن ابن عباس، ويكون هذا قسما بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق، وتارة بالكتابة.
وقيل: إن «ن» لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يأمرهم به الله. رواه معاوية بن قرة مرفوعا. والحق أنه اسم للسورة، وأقسم الله تعالى بالكتاب وآلته وهو القلم الذى هو إحدى آياته وأول مخلوقاته الذى جرى به قدره وشرعه، وكتب به الوحى، وقيد به الدين، وأثبتت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وقام فى الناس أبلغ خطيب وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه، وواعظا تشفى مواعظه القلوب من السقم، وطبيبا يبرئ بإذن بارئه من أنواع الألم على تنزيه نبيه ورسوله محمد المحمود فى كل أفعاله وأقواله مما غمصته أعداؤه الكفرة به، وتكذيبهم له بقوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» .
وكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة عن معارضته، وكلّت عن مماثلته، وعرّفهم من الحق ما لا تهتدى إليه عقولهم، بحيث أذعنت له عقول العقلاء، وخضعت له ألباب الألباء، وتلاشت فى جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له، والانقياد والإذعان طائعة مختارة، فهو الذى كمل عقولها كما يكمل الطفل برضاع الثدى.
ثم أخبر تعالى عن كمال حالتى نبيه- صلى الله عليه وسلم- فى دنياه وآخرته فقال:
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ «2» أى: ثوابا غير منقطع، بل هو دائم مستمر، ونكر الأجر للعظيم، أى أجرا عظيما لا يدركه الوصف ولا يناله التعبير.
ثم أثنى عليه بما منحه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «3» وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته، ولقد سئلت عائشة- رضى الله عنها- عن خلقه- صلى الله عليه وسلم- فقالت: «كان خلقه القرآن» ومن ثم قال ابن عباس وغيره: أى على دين
__________
(1) سورة القلم: 2.
(2) سورة القلم: 3.
(3) سورة القلم: 4.(2/558)
عظيم، وسمى الدين خلقا لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكتسب النفس بها أخلاقا هى أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها. وهذه كانت أخلاقه- صلى الله عليه وسلم- المقتبسة من القرآن، فكان كلامه مطابقا للقرآن تفصيلا وتبيينا، وعلومه علوم القرآن، وإراداته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه فى تنفيذ أوامره، فترجمت أم المؤمنين- لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها- عن هذا كله بقولها: «كان خلقه القرآن» ، وفهم السائل عنها هذا المعنى فاكتفى به واشتفى.
ولما وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم قال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ «1» أى فسترى يا محمد وسيرى المشركون كيف عاقبة أمرك، فإنك تصير معظما فى القلوب، ويصيرون أذلاء مغلوبين، وتستولى عليهم بالقتل والنهب.
الفصل الثانى فى قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلى لديه
قال الله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «2» السورة. أقسم تعالى على إنعامه على رسوله- صلى الله عليه وسلم- وإكرامه له وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه فى الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد. وأقسم تعالى بايتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته ووحدانيته، وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، وفسر بعضهم- كما حكاه الإمام فخر الدين- الضحى بوجهه- صلى الله عليه وسلم- والليل بشعره، قال: ولا استبعاد فيه.
وتأمل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذى يوافى بعد ظلام
__________
(1) سورة القلم: 5، 6.
(2) سورة الضحى: 1- 3.(2/559)
الليل، للمقسم عليه وهو نور الوحى الذى وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدا ربّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحى ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.
وأيضا فإن الذى اقتضت رحمته أن لا يترك عباده فى ظلمة الليل سرمدا بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم لا يتركهم فى ظلمة الجهل والغى بل يهداهم بنور الوحى والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه. وتأمل هذه الجزالة والرونق الذى على هذه الألفاظ، والجلالة التى على معانيها.
ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه أو قلاه، والتوديع: الترك، والقلى:
البغض، أى: ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أبغضك منذ أحبك، وحذف «الكاف» من «قلا» اكتفاء بكاف ودعك، ولأن رؤوس الآيات بالياء فأوجب اتفاق الفواصل حذفها.
وهذا يعم كل أحواله، وإن كل حالة يرقيه إليها هى خير له مما قبلها، كما أن الدار الآخرة خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقربه عينه وتفرح به نفسه، وينشرح له صدره، وهو أن يعطيه فيرضى. وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر والظفر بأعدائه يوم بدر وفتح مكة، ودخول الناس فى الدين أفواجا، والغلبة على بنى قريظة والنضير، وبث عساكره وسراياه فى بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين فى أقطار الأرض من المدائن، وقذف فى قلوب أعدائه من الرعب، ونشر الدعوة، ورفع ذكره وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه فى موقف القيامة من الشفاعة والمقام المحمود، وما يعطيه فى الجنة من الوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر. وقال ابن عباس:
يعطيه ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك وفيها ما يليق بها.
وبالجملة: فقد دلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه- صلى الله عليه وسلم- كل ما يرضيه. وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى واحد من أمته فى النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- يرضى بما يرضى به ربه تبارك(2/560)
وتعالى، وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، ثم يحد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حدّا يشفع فيهم- كما سيأتى فى المقصد الأخير- إن شاء الله تعالى- ورسوله- صلى الله عليه وسلم- أعرف به وبحقه من أن يقول: لا أرضى أن تدخل أحدا من أمتى النار أو تدعه فيها، بل ربه تبارك وتعالى يأذن له فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه، ولا يشفع فى غير من أذن له ورضيه.
ثم ذكره سبحانه نعمه عليه من إيوائه بعد يتمه، فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى «1» وذهب بعضهم إلى أن معنى اليتيم من قولهم: درة يتيمة، أى: ألم يجدك واحدا فى قريش عديم النظير فاواك إليه وأغناك بعد الفقر.
ثم أمره سبحانه أن يقابل هذه النعم الثلاث بما يليق بها من الشكر فنهاه أن يقهر اليتيم، وأن ينهر السائل، وأن يكتم النعمة، بل يحدث بها، فإن من شكر النعمة الحديث بها. وقيل المراد بالنعمة النبوة، والتحدث بها: تبليغها.
الفصل الثالث فى قسمه تعالى على تصديقه ص فيما أتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى فى خطابه
قال الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «2» . أقسم تعالى بالنجم على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغى. واختلف المفسرون فى المراد بالنجم بأقاويل معروفة. منها: «النجم» على ظاهره، وتكون «أل» لتعريف العهد فى قول، ولتعريف الجنس فى آخر، وهى النجوم التى يهتدى بها. فقيل: الثريا إذا سقطت وغابت، وهو مروى عن ابن عباس فى رواية على بن أبى طلحة وعطية. والعرب إذا أطلقت النجم تريد به الثريا. وعن ابن عباس فى رواية
__________
(1) سورة الضحى: 6.
(2) سورة النجم: 1- 3.(2/561)
عكرمة: النجوم التى ترمى بها الشياطين إذا سقطت فى آثارها عند استراق السمع، وهذا قول الحسن، وعن السدى الزهرى، وعن الحسن أيضا النجوم إذا سقطت يوم القيامة.
وقيل المراد به النبت الذى لا ساق له، و «هوى» أى سقط على الأرض.
وقيل: القرآن، رواه الكلبى عن ابن عباس، لأنه نزل نجوما على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو قول مجاهد ومقاتل والضحاك. وقال جعفر بن محمد بن على ابن الحسين: هو محمد- صلى الله عليه وسلم- «إذا هوى» أى نزل من السماء ليلة المعراج.
وأظهر الأقوال- كما قاله ابن القيم- أنها النجوم التى ترمى بها الشياطين، ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التى نصبها الله تعالى آية وحفظا للوحى من استراق الشياطين. على أن ما أتى به رسوله حق وصدق لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدا بين يدى الوحى، وحرسا له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه فى غاية الظهور. وفى المقسم به دليل على المقسم عليه. وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله: بالنجم إذا هوى، ولا تسمية نزوله هويا، ولا عهد فى القرآن بذلك، فيحمل هذا اللفظ عليه. وليس بالبين تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت. وليس بالبين أيضا القسم بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة. بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه باياته، فلا يجعله نفسه دليلا لعدم ظهوره للمخاطبين ولا سيما منكرو البعث، فإنه سبحانه إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، ثم إن بين المقسم به والمقسم عليه من المناسبة ما لا يخفى.
فإن قلنا إن المراد النجوم التى هى للاهتداء فالمناسبة ظاهرة، وإن قلنا إن المراد الثريا فلأنه أظهر النجوم عند الرائى، لأنه لا يشتبه بغيره فى السماء، بل هو ظاهر لكل أحد، والنبى- صلى الله عليه وسلم- تميز عن الكل بما منح من الآيات البينات، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت من المغرب قرب أواخر الخريف فتقل الأمراض، والنبى- صلى الله عليه وسلم- لما ظهر قل الشرك، والأمراض القلبية.(2/562)
وإن قلنا إن المراد بها القرآن فهو استدلال بمعجزته- صلى الله عليه وسلم- على صدقه وبراءته، وأنه ما ضل ولا غوى، وإن قلنا إن المراد النبات، فالنبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها، والقوى العقلية أولى بالصلاح، وذلك بالرسل وإيضاح السبل. وتأمل كيف قال تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ «1» ولم يقل:
ما ضل محمد، تأكيدا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غى ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمرا واحدا قط، وقد نبه تعالى على هذا المعنى بقوله عز وجل:
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ «2» . ثم نزه نطق رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يصدر عن هوى فقال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «3» ولم يقل:
وما ينطق بالهوى، لأن نفى نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به، فيتضمن هو الأمرين: نفى الهوى عن مصدر النطق، ونفيه عن النطق نفسه، فنطقه بالحق ومصدره الهدى والرشاد، لا الغى والضلال.
ثم قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «4» فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أى: ما نطقه إلا وحى يوحى، وهذا أحسن من جعل الضمير عائدا إلى القرآن، فإن نطقه بالقرآن والسنة، وإن كليهما وحى، قال الله تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
«5» وهما القرآن والسنة.
وذكر الأوزاعى عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياها.
ثم أخبر تعالى فى وصف من علمه الوحى والقرآن بما يعلم أنه مضاد لأوصاف الشيطان معلم الضلال والغواية فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «6»
__________
(1) سورة النجم: 2.
(2) سورة المؤمنون: 69.
(3) سورة النجم: 3، 4.
(4) سورة النجم: 4.
(5) سورة النساء: 113.
(6) سورة النجم: 5.(2/563)
وهو جبريل، أى قواه العلمية والعملية كلها شديدة، ولا شك أن مدح المعلم مدح للمتعلم. فلو قال: علمه جبريل ولم يصفه لم يحصل للنبى- صلى الله عليه وسلم- به فضيلة ظاهرة. وهذا نظير قوله تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «1» كما سيأتى البحث فيه- إن شاء الله تعالى-.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه. وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئا على خلاف ما هو به، فكذب فؤاده بصره، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك. وفى حديث قصة الإسراء مزيد لما ذكرته هنا، والله الموفق والمعين.
وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ إلى قوله:
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ «2» . أى: لا أقسم إذا الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم. أو: أقسم، و «لا» مزيدة للتأكيد، وهذا قول أكثر المفسرين بدليل قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «3» . قال الزمخشرى:
والوجه أن يقال هى للنفى، أى أنه لا يقسم بالشىء إلا إعظاما له، فكأنه بإدخال حرف النفى يقول: إن إعظامى بإقسامى كلا إعظام، يعنى أنه يستأهل فوق ذلك.
أقسم سبحانه وتعالى بالنجوم فى أحوالها الثلاثة: فى طلوعها وجريانها وغروبها، وبانصرام الليل وإقبال النهار عقيبه من غيره فصل، فذكر سبحانه وتعالى حالة ضعف هذا وإدباره، وحالة قوة هذا وتنفسه وإقباله، يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته أن القرآن قول رسول كريم، وهو هنا جبريل، لأنه ذكر صفته قطعا بعد ذلك بما يعينه به.
وأما رَسُولٍ كَرِيمٍ فى «الحاقة» 40 فهو محمد- صلى الله عليه وسلم-. فأضافه
__________
(1) سورة التكوير: 20.
(2) سورة التكوير: 15- 25.
(3) سورة الواقعة: 76.(2/564)
إلى الرسول الملكى تارة، وإلى البشرى أخرى، وإضافته إليهما إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء من عندهما، ولفظ «الرسول» يدل على ذلك، فإن الرسول هو الذى يبلغ كلام من أرسله، فهذا صريح فى أنه كلام من أرسل جبريل ومحمدا- صلى الله عليه وسلم-، فجبريل تلقاه عن الله، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- تلقاه عن جبريل.
وقد وصف الله تعالى رسوله الملكى فى هذه السورة بأنه كريم يعطى أفضل العطايا، وهى العلم والمعرفة والهداية والبر والإرشاد، وهذا غاية الكرم. «ذو قوة» كما قال فى النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «1» فيمنع بقوته الشياطين أن يدنوا منه وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، وروى أنه رفع قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابها وأصوات بنيها.
عند ذى العرش مكين، أى متمكن المنزلة، وهذه العندية عندية الإكرام والتشريف والتعظيم. مطاع ثم، فى ملائكة الله المقربين، يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، أمين على وحى الله ورسالته، فقد عصمه الله من الخيانة والزلل.
فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن، وأنه سماع محمد- صلى الله عليه وسلم- من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علوّا وجلالة، فقد تولى الله تزكيته بنفسه، ثم نزه رسوله البشرى وزكاه مما يقول فيه أعداؤه، فقال: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «2» وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كاذبون.
ثم أخبر عن رؤيته- صلى الله عليه وسلم- لجبريل- عليه السّلام-، وهذا يتضمن أنه ملك موجود فى الخارج يرى بالعيان ويدرك بالبصر، خلافا لقوم؛ فحقيقته عندهم أنه خيال موجود فى الأذهان لا فى العيان، وهذا مما خالفوا فيه جميع الرسل وأتباعهم، وخرجوا به عن جميع الملل، ولهذا كان تقرير رؤية النبى- صلى الله عليه وسلم- لجبريل أهم من تقرير رؤيته لربه تبارك وتعالى، فإن رؤيته- صلى الله عليه وسلم- لجبريل هى
__________
(1) سورة النجم: 5.
(2) سورة التكوير: 22.(2/565)
أصل الإيمان الذى لا يتم إلا باعتقادها، ومن أنكرها كفر قطعا، وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع لا يكفر جاحدها بالاتفاق. وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره، فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب سبحانه أعظم من رؤية جبريل، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة.
ثم نزه تعالى رسوليه كليهما- صلى الله عليهما وسلم-، أحدهما بطريق النطق، والثانى بطريق اللزوم عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذى هو الضنة والبخل والتبديل والتغيير الذى يوجب التهمة، فقال: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ «1» فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: أدائها من غير كتمان وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان. والقراءتان كالآيتين، تضمنت إحداهما- وهى قراءة الضاد- تنزيهه عن البخل، فإن الضنين: البخيل، يقال: ضننت به أضن، بوزن: بخلت أبخل ومعناه، وقال ابن عباس: ليس ببخيل بما أنزل الله، وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم.
وأجمع المفسرون على أن الغيب هاهنا: القرآن والوحى. قال الفراء:
يقول الله تعالى: يأتيه غيب من السماء وهو منفوس فيه، فلا يضنن به عليكم. وهذا معنى حسن جدّا، فإن عادة النفوس الشح بالشىء النفيس، ولا سيما عمن لا يعرف قدره، ومع هذا فالرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يبخل عليكم بالوحى الذى هو أنفس شىء وأجله. وقال أبو على الفارسى: المعنى يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به ويظهره ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتى يأخذ عليه حلوانا.
وأما قراءة من قرأ (بظنين) بالظاء فمعناه: المتهم، يقال: ظننت زيدا بمعنى اتهمته وليس هو من الظن الذى هو الشعور والإدراك، فإن ذلك يتعدى إلى مفعولين، والمعنى: وما هذا الرسول على القرآن بمتهم، بل هو أمين فيه لا يزيد فيه ولا ينقص منه. وهذا يدل على أن الضمير فيه يرجع إلى محمد
__________
(1) سورة التكوير: 24.(2/566)
- صلى الله عليه وسلم-، لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكى بالأمانة ثم قال وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «1» ثم قال: وما هو: أى وما صاحبكم بمتهم وبخيل فنفى سبحانه عن رسوله- صلى الله عليه وسلم- ذلك كله، وزكى سند القرآن أعظم تزكية. والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «2» الآية. أقسم تعالى بالأشياء كلها، ما يبصرون منها وما لا يبصرون، وهذا أعمّ قسم وقع فى القرآن، فإنه يعم العلويات والسفليات، والدنيا والآخرة، وما يرى وما لا يرى ويدخل فى ذلك الملائكة كلهم والجن والإنس والعرش والكرسى وكل مخلوق، وذلك من آيات قدرته وربوبيته، ففى ضمن هذا القسم أن كل ما يرى وما لا يرى آية ودليل على صدق رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى وهو كلامه تعالى، لا كلام شاعر ولا مجنون، ولا كاهن، وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يرى منها وما لا يرى حق، كما قال تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ «3» فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن القرآن حق كما أن ما تشاهدونه من الخلق وما لا تشاهدونه حق موجود، ويكفى الإنسان من جميع ما يبصره «نفسه» ومبدأ خلقه ونشأته وما يشاهد من أحواله ظاهرا وباطنا، ففى ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب سبحانه وثبوت صفاته وصدق ما أخبر به رسوله- صلى الله عليه وسلم-، ومن لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لم يخالط بشاشة الإيمان قلبه.
ثم أقام سبحانه البرهان القاطع على صدق رسوله، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه وافترى لما أقره ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يقر من تقول عليه وافترى عليه، وأضل عباده
__________
(1) سورة التكوير: 22.
(2) سورة الحاقة: 38- 40.
(3) سورة الذاريات: 23.(2/567)
واستباح دماء من كذبه وحريمهم وأموالهم، فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأقدر القادرين أن يقر على ذلك، بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره ويظفره بهم، فيسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم وبلادهم ونساءهم قائلا إن الله أمرنى بذلك، وأباحه لى؟ بل كيف يليق به أن يصدق بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يقيم الدلائل القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله، فمن أعظم المحال وأبطل الباطل، وأبين البهتان أن يجوز على أحكم الحاكمين أن يفعل ذلك.
والمراد بالرسول الكريم هنا محمد- صلى الله عليه وسلم- كما قدمته- لأنه لما قال: إنه لقول رسول كريم ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن، والمشركون ما كانوا يصفون جبريل- عليه السّلام- بالشعر والكهانة.
ومن ذلك قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1» . قيل المراد ب «الكتاب المكنون» اللوح المحفوظ.
قال ابن القيم: والصحيح أنه الكتاب الذى بأيدى الملائكة، وهو المذكور فى قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ «2» قال مالك: أحسن ما سمعت فى هذه أنها مثل الذى فى «عبس» ، قال: ومن المفسرين من قال: إن المراد أن المصحف لا يمسه إلا طاهر، والأول أرجح لأن الآية سيقت تنزيها للقرآن أن تتنزل به الشياطين، أن محله لا تصل إليه، كما قال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ «3» وأيضا:
__________
(1) سورة الواقعة: 75- 79.
(2) سورة عبس: 13- 16.
(3) سورة الشعراء: 210، 211.(2/568)
فإن قوله لا يَمَسُّهُ «1» بالرفع، فهذا خبر لفظا ومعنى، ولو كان نهيا لكان مفتوحا. ومن حمل الآية على النهى احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهى، والأصل فى الخبر والنهى حمل كل منهما على حقيقته، وليس هاهنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهى، انتهى ملخصا.
وهذا الذى قاله ابن القيم قد تمسك به جماعة منهم داود، بأنه يجوز مس المصحف للمحدث. وقد أجاب ابن الرفعة فى «الكفاية» عن أدلتهم المزخرفة فقال ما نصه: القرآن لا يصح مسه، فعلم أن المراد به الكتاب الذى هو أقرب المذكورين، ولا يتوجه النهى إلى اللوح المحفوظ لأنه غير منزل، ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون المراد بالمطهرين الملائكة،. لأنه قد نفى وأثبت فكأنه قال: يمسه المطهرون ولا يمسه غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع، فعلم أن المراد: المطهرين من الآدميين، ويبين ذلك ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى كتاب عمرو بن حزم المروى فى الدار قطنى وغيره: «ولا تمس القرآن إلا وأنت على طهر» «2» ثم قال، فإن قيل: قد قال الواحدى أن أكثر أهل التفسير على أن المراد اللوح المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم لم يكن فيها دليل لأن قوله لا يَمَسُّهُ «3» بضم السين، ليس ينهى عن المراد ولو كان نهيا لكان بفتح السين، فهو إذا خبر.
قلنا: أما قول «أكثر المفسرين» فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل، وأما كون المراد بالآية الخبر، فجوابه: أنا نقول: اللفظ لفظ الخبر ومعناه النهى، وهو كثير فى القرآن، قال الله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها «4» ، وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ «5» . انتهى.
__________
(1) سورة الواقعة: 79.
(2) صحيح: أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 177) مرسلا: ووصله الدار قطنى فى «سننه» (1/ 122) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى، انظر «الإرواء» (1/ 160- 161) .
(3) سورة الواقعة: 79.
(4) سورة البقرة: 233.
(5) سورة البقرة: 228.(2/569)
وأجاب العلامة البساطى فى شرحه لمختصر الشيخ خليل: بأن (يمسه) مجزوم، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح به جماعة، وقالوا: إنه مذهب البصريين، ومنهم ابن الحاجب فى «شافيته» انتهى.
وقد ذكر هذا العلامة شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود الحلبى الشافعى، المشهور ب «السمين» ، مع زيادة إيضاح وفوائد فقال فى «لا» هذه وجهان، الثانى: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم، لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «1» ولكنه أدغم، ولما أدغم حرك آخره بالضمة لأجل «هاء» ضمير المذكور الغائب، ولم يحفظ سيبويه فى نحو هذا إلا الضم. وفى الحديث «إنا لم نردّه عليك إلا أنا حرم» «2» وإن كان القياس جواز فتحه تخفيفا. قال: وبهذا الذى ذكرته يظهر فساد رد من رد بأنه لو كان نهيا لكان يقال: (لا يمسّه) بالفتح، لأنه خفى عليه جواز ضم ما قبل الهاء فى هذا النحو، لا سيما على رأى سيبويه فإنه لا يجيز غيره.
الفصل الرابع: فى قسمه تعالى على تحقيق رسالته
قال الله سبحانه وتعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «3» الآية. اعلم أن كل سورة بدأ الله تعالى فيها بحروف التهجى كان فى أوائلها الذكر أو الكتاب أو القرآن إلا «نون» . ثم إن فى ذكر هذه الحروف فى أوائل السور أمورا تدل على أنها غير خالية عن الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها إلا إن كشف الله له سر ذلك. واختلف المفسرون فى معنى (يس) على أقوال:
__________
(1) سورة آل عمران: 174.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1825) فى الحج، باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيّا حيّا لم يقبل، ومسلم (1193) فى الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، من حديث الصعب بن جثامة- رضى الله عنه-.
(3) سورة يس: 1- 3.(2/570)
أحدها: أنه يا إنسان، بلغة طىء، وهذا قول ابن عباس والحسن وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل: بلغة الحبشة، وقيل: بلغة كلب، وحكى الكلبى أنها بالسريانية.
قال الإمام فخر الدين: وتقريره هو أن تصغير إنسان: أنيسين، وكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال (يس) ، وعلى هذا فيكون الخطاب مع محمد- صلى الله عليه وسلم- ويدل عليه قوله تعالى إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «1» .
وتعقبه أبو حيان: بأن الذى نقل عن العرب فى تصغير إنسان: أنيسيان- بياء بعدها ألف- فدل على أن أصله: إنسيان، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، لا يعلم أنهم قالوا فى تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أن يا بنى على الضم لأنه منادى مقبل عليه، ومع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير، ويمتنع ذلك فى حق النبوة. انتهى.
قال السمين: وهذا الاعتراض الأخير صحيح، فقد نصوا على أن التصغير لا يدخل فى الأسماء المعظمة شرعا، ولذلك يحكى أن ابن قتيبة لما قال فى «المهيمن» إنه مصغر من «مؤمن» والأصل: مؤتمن، فأبدلت الهمزة هاء، قيل له: هذا يقرب من الكفر، فليتق الله قائله، انتهى.
وقيل معنى (يس) يا محمد، قاله ابن الحنفية والضحاك. وقيل: يا رجل، قاله أبو العالية. وقيل: هو اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وعن أبى بكر الوراق: يا سيد البشر. وعن جعفر الصادق: أنه أراد يا سيد، مخاطبة النبى- صلى الله عليه وسلم- وفيه من تعظيمه وتمجيده ما لا يخفى، وعن طلحة عن ابن عباس: أنه قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه. وعن كعب: أقسم الله به قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفى عام: يا محمد إنك لمن المرسلين. ثم قال: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «2» وهو رد على الكفار حيث قالوا: لَسْتَ مُرْسَلًا «3» فأقسم الله تعالى باسمه وكتابه:
__________
(1) سورة يس: 3.
(2) سورة يس: 2، 3.
(3) سورة الرعد: 43.(2/571)
إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده وعلى طريق مستقيم من إيمانه، أى طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة فى كتابه إلا له- صلى الله عليه وسلم-.
الفصل الخامس فى قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده
قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» . والعمر والعمر واحد، ولكنه فى القسم يفتح لكثرة الاستعمال، فإذا أقسموا قالوا:
لعمرك القسم. قال النحويون: ارتفع قوله (لعمرك) بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى: قسمى، فحذف الخبر لأن فى الكلام دليلا عليه، وباب القسم يحذف منه الفعل نحو: تالله لأفعلن، والمعنى: أحلف بالله، فتحذف «أحلف» لعلم المخاطب بأنك حالف.
قال الزجاجى: من قال: لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله، ومن ثم قال المالكية والحنفية: ينعقد بها اليمين، لأن بقاء الله من صفات ذاته. وعن مالك: لا يعجبنى الحلف بذلك. وقال الإمام الشافعى وإسحاق: لا يكون يمينا إلا بالنية، وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعى. واختلف فيمن المخاطب فى الآية على قولين:
أحدهما: أن الملائكة قالت للوط- عليه السّلام- لما وعظ قومه وقال: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ «2» : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «3» ، أى يتحيرون فكيف يعقلون قولك، ويلتفتون إلى نصيحتك؟!
والثانى: أن الخطاب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأنه تعالى أقسم بحياته،
__________
(1) سورة الحجر: 72.
(2) سورة الحجر: 71.
(3) سورة الحجر: 72.(2/572)
وفى هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض. قال ابن عباس: ما خلق الله، وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد- صلى الله عليه وسلم-، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» يقول: وحياتك وعمرك وبقائك فى الدنيا إنهم لفى سكرتهم يعمهون. رواه ابن جرير.
ومراده بقوله: «وما سمعت الله» ؛ سمعت كلامه المتلو فى الكتب المنزلة. ورواه البغوى فى تفسيره بلفظ: وما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياته، وما أقسم بحياة أحد غيره، وذلك يدل على أنه أكرم خلق الله على الله، وعلى هذا فيكون قسمه تعالى بحياة محمد- صلى الله عليه وسلم- كلاما معترضا فى قصة لوط.
قال القرطبى: وإذا أقسم الله تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا: أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبى- صلى الله عليه وسلم- ينعقد به يمينه وتجب الكفارة بالحنث، واحتج بكونه- صلى الله عليه وسلم- أحد ركنى الشهادة. وقال ابن خويز منداد: واستدل من جوز الحلف به- صلى الله عليه وسلم- بأن أيمان المسلمين جرت من عهده- صلى الله عليه وسلم- أن يحلفوا به- صلى الله عليه وسلم- حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا خاصم أحدهم صاحبه قال له: احلف لى بحق ما حواه صاحب القبر، أو بحق صاحب هذا القبر، أو بحق ساكن هذا القبر، يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- «2» .
__________
(1) سورة الحجر: 72.
(2) قلت: وقد ذكر القرطبى أيضا فى موضع آخر عند تفسيره لسورة المائدة، آية: (89) ، فى معرض رده على من يجوز الحلف بغير الله فقال: وهذا يرده ما ثبت فى الصحيحين وغيرهما عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه أدرك عمر بن الخطاب فى ركب، وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بابائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهذا حسر فى عدم الحلف بكل شىء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا، وبما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائى وغيرهما عن أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تحلفوا بابائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون» . اه. قلت: ولا يوجد تخصيص لهذا النهى، إلا ما-(2/573)
وقال الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «1»
الآية. أقسم تعالى بالبلد الأمين، وهى مكة أم القرى بلده- صلى الله عليه وسلم-، وقيده بحلوله- صلى الله عليه وسلم- فيه إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. قاله البيضاوى. ثم أقسم بالوالد وما ولد، وهو فيما قيل: إبراهيم وإسماعيل، وما ولد: محمد- صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا فتتضمن السورة القسم به فى موضعين، وقيل المراد به آدم وذريته، وهو قول الجمهور من المفسرين.
وإنما أقسم تعالى بهم لأنهم أعجب خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنظر واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وكل ما فى الأرض من مخلوق خلق لأجلهم، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة، ومرجع العباد إلى آدم.
وقوله: وَأَنْتَ حِلٌّ «2» هو من: الحلول، ضد الظعن، فيتضمن إقسامه تعالى ببلده المشتمل على عبده ورسوله، فهو خير البقاع واشتمل على خير العباد فقد جعل الله بيته هدى للناس، ونبيه إماما وهاديا لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه. وقيل: المعنى أنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذى يأمن فيه الطير والوحش، وقد استحل فيه قومك حرمتك. وهذا مروى عن شرحبيل بن سعد.
وعن قتادة: وَأَنْتَ حِلٌّ «3» أى لست باثم، وحلال لك أن تقتل بمكة
__________
- ورد فى كتاب الله عز وجل أنه قسم ببعض آياته، ولو علمنا بهذه القاعدة، لجوزنا الحلف بهذه الآيات كما يجوز الحلف بذات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إلا أنا نقول ما قاله العلماء من قبلنا أن لها تأويلان: إحداهما: أن هناك محذوف مقدر، تقديره رب ثم ذكر الشىء المحلف به مثل رب الشمس، رب الضحى، رب حياتك، أو أن هذا القسم خاص بالله عز وجل فقط، حيث يجوز له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، والله أعلم.
(1) سورة البلد: 1، 2.
(2) سورة البلد: 2.
(3) سورة البلد: 2.(2/574)
من شئت. وذلك أن الله تعالى يفتح عليه مكة وأهلها، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، فقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وغيره، وحرم دار أبى سفيان. فإن قلت: هذه السورة مكية، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «1» إخبار عن الحال، والواقعة التى ذكرت فى آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟
أجيب: بأنه قد يكون اللفظ للحال، والمعنى مستقبل، كقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» . وعلى كل حال فهذا متضمن للقسم ببلد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا يخفى ما فيه من زيادة التعظيم، وقد روى أن عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن أقسم بحياتك دون سائر الأنبياء، ولقد بلغ من فضيلتك عنده أن أقسم بتراب قدميك فقال: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ «3» .
وقال تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «4» . اختلف فى تفسير العصر على أقوال.
فقيل: هو الدهر، لأنه مشتمل على الأعاجيب، لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم وغير ذلك. وقيل: ذكر العصر الذى بمضيه ينقضى عمرك، فإذا لم يكنى فى مقابلته كسب صار ذلك عين الخسران، ولله در القائل:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى نقص من الأجل
وفى تفسير الإمام فخر الدين والبيضاوى وغيرهما: أنه أقسم بزمان الرسول- صلى الله عليه وسلم-. قال الإمام الرازى: واحتجوا له بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما مثلكم
__________
(1) سورة البلد: 2.
(2) سورة الزمر: 30.
(3) سورة البلد: 1.
(4) سورة العصر: 1، 2.(2/575)
ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لى من الفجر إلى الظهر بقيراط، فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لى من الظهر إلى العصر بقيراط، فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لى من العصر إلى المغرب بقيراطين فعملتم، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا، فقال الله تعالى: وهل نقصت من أجركم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلى أوتيه من أشاء، فكنتم أقل عملا وأكثر أجرا» «1» رواه البخارى.
قالوا: فهذا الحديث دل على أن العصر هو عصره- صلى الله عليه وسلم- الذى هو فيه، فيكون على هذا أقسم تعالى بزمانه فى هذه الآية، وبمكانه فى قوله:
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «2» ، وبعمره فى قوله لَعَمْرُكَ «3» ، فكأنه قال:
وعصرك وبلدك وعمرك، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب تعظيم الظرف فكيف حال المظروف، قال: ووجه القسم كأنه تعالى قال: ما أعظم خسرانهم إذا أعرضوا عنك. انتهى.
النوع السادس فى وصفه تعالى له ص بالنور والسراج المنير
اعلم أن الله تعالى قد وصف رسوله- صلى الله عليه وسلم- ب «النور» فى قوله تعالى:
قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ «4» ، وقيل المراد: القرآن. ووصفه- صلى الله عليه وسلم- أيضا ب «السراج المنير» فى قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً «5» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2268) فى الإجارة، باب: الإجارة إلى نصف النهار، وأطرافه (2269 و 3459 و 5021 و 7467 و 7533) ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) سورة البلد: 2.
(3) سورة الحجر: 72.
(4) سورة المائدة: 15.
(5) سورة الأحزاب: 45، 46.(2/576)
والمراد: كونه هاديا مبينا كالسراج الذى يرى الطريق ويبين الهدى والرشاد، فبيانه أقوى وأتم وأنفع من نور الشمس، وإذا كان كذلك وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم فى النورانية من الشمس، فكما أن الشمس فى عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها فكذا نفس النبى- صلى الله عليه وسلم- تفيد الأنوار العقلية لسائر الأنفس البشرية، ولذلك وصف الله الشمس بأنها سراج حيث قال: وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً «1» .
وكما وصف الله رسوله بأنه نور، وصف نفسه المقدسة بذلك فقال:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ، فليس فيهما نور إلا الله، ونوره القدسى هو سر الوجود والحياة والجمال والكمال، وهو الذى أشرق على العالم فأشرق على العوالم الروحانية، وهم الملائكة، فصارت سرجا منيره، يستمد منها من هو دونها بجود الله تعالى، ثم سرى النور إلى عالم النفوس الإنسانية، ثم طرحته النفوس على صفحات الجسوم، فليس فى الوجود إلا نور الله السارى إلى الشىء منه بقدر قبوله ووسع استعداده ورحب تلقيه.
والنور فى الأصل: كيفية يدركها الباصر أولا، وبواسطتها سائر المبصرات، كالكيفية الفائضة من النيرين- الشمس والقمر- على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف، كقولك: زيد كرم، بمعنى: ذو كرم، أو معنى منور السماوات والأرض، فإنه تعالى نورهما بالكواكب، وما يفيض عنها من الأنوار، وبالملائكة والأنبياء من قولهم للرئيس الفائق فى التدبير: نور القوم، لأنهم يهتدون به فى الأمور، ويؤيد هذا القول قراءة على بن أبى طالب وزيد بن
__________
(1) سورة الفرقان: 61.
(2) سورة النور: 35.(2/577)
على وغيرهما (نوّر) فعلا ماضيا، و (الأرض) بالنصب. وقوله: (مثل نوره) أى: مثل هداه سبحانه وتعالى. وأضاف النور إلى السماوات والأرض إما دلالة على سعة إشراقه، وفشو إضاءته حتى تضىء له السماوات والأرض، وإما لإرادة أهل السماء والأرض، وأنهم يستضيئون به.
وعن مقاتل: أى مثل الإيمان فى قلب محمد كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صدر عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد- صلى الله عليه وسلم-، المصباح نظير الإيمان والنبوة فى قلب محمد- صلى الله عليه وسلم-. وعن غيره: المشكاة نظير إبراهيم، والزجاجة نظير إسماعيل- عليهما السلام-، والمصباح جسد محمد- صلى الله عليه وسلم-، والشجرة: النبوة والرسالة.
وعن أبى سعيد الخراز «1» : المشكاة: جوف محمد- صلى الله عليه وسلم-، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذى جعله الله فى قلب محمد- صلى الله عليه وسلم-. وعن كعب وابن جبير: النور الثانى هنا محمد- صلى الله عليه وسلم-. وعن سهل بن عبد الله: مثل نور محمد إذ كان مستودعا فى الأصلاب كمشكاة صفتها كذا وكذا، وأراد بالمصباح قلبه وبالزجاجة صدره، أى كأنه كوكب درى لما فيه من الإيمان والحكمة.
توقد من شجرة مباركة، أى من نور إبراهيم، وضرب المثل بالشجرة المباركة.
وقوله: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ «2» أى تكاد نبوة محمد تبين للناس قبل كلامه، حكى هذا القول الأخير القاضى أبو الفضل اليحصبى والفخر الرازى، لكنه عن كعب الأحبار.
__________
(1) هو: أحمد بن عيسى الخراز، أبو سعيد، أحد مشايخ الصوفية، توفى سنة (286 هـ، وقيل 277 هـ) .
(2) سورة النور: 35.(2/578)
وعن الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحى. قال عبد الله ابن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر
لكن التفسير الأول فى هذه الآية هو المختار، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ «1» فإذا كان المراد بقوله (مثل نوره) أى مثل هداه كان ذلك مطابقا لما قبله.
واختلفوا فى هذا التشبيه. أو هو مشبه جملة بجملة، لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء، ومقابلة شىء بشىء، أو مما قصد منه ذلك؟ أى: مثل نور الله، الذى هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق، وبراهينه الساطعة، على الجملة كهذه الجملة من النور الذى تتخذونه أنتم على هذه الصفة التى هى أبلغ صفات النور الذى بين يدى الناس، أى: مثل نور الله فى الوضوح كهذا الذى هو منتهاكم أيها البشر.
وقيل: هو من التشبيه المفصل، المقابل جزء بجزء، قد رده على تلك الأقوال الثلاثة.
أى: مثل نوره فى محمد- صلى الله عليه وسلم-، أو فى المؤمنين، أو فى القرآن والإيمان كمشكاة، فالمشكاة هو الرسول أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة الوحى، والملائكة رسل الله إليه، وشبه الفضل به بالزيت وهو الحجج والبراهين، والآيات التى تضمنها الوحى.
وعلى قول: «المؤمنين» ، فالمشكاة صدره، والمصباح الإيمان والعلم، والزجاجة قلبه، والشجرة القرآن، وزيتها هو الحجج والحكمة التى تضمنتها.
__________
(1) سورة النور: 34.(2/579)
وعلى قول: «الإيمان والقرآن» ، أى مثل الإيمان والقرآن فى صدر المؤمنين وفى قلبه كمشكاة.
وأما الضمير على قول المؤمنين فى قراءة أبى المذكورة فى بعض التفاسير، ففيه إشكال من حيث الإفراد، وعن أبى: هو عائد على المؤمنين، وفى قراءته: مثل نور المؤمنين، وفى رواية عنه: مثل نور من آمن به. وعن الحسن: يعود على القرآن والإيمان.
النوع السابع فى آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «2» . وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ «3» . قال القاضى عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب.
وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «4» . يعنى: من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو فى الحقيقة ما أطاع إلا الله، وذلك فى الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله. وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «5» فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فإن أحدا من الخلق لا يقدر على إرشاده. وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم فى جميع الأوامر والنواهى، وفى كل ما يبلغه عن الله، لأنه لو أخطأ
__________
(1) سورة الأنفال: 20.
(2) سورة آل عمران: 132.
(3) سورة آل عمران: 32.
(4) سورة النساء: 80.
(5) سورة النساء: 80.(2/580)
فى شىء منها لم تكن طاعته طاعة الله تعالى، وأيضا وجب أن يكون معصوما فى جميع أفعاله، لأنه تعالى أمر بمتابعته فى قوله: وَاتَّبِعُوهُ»
، والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له فى جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة له، وانقياد لحكم الله تعالى. وقال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ «2» الآية. وهذا عام فى المطيعين لله من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام فى المعية فى هذه الدار، وإن فاتت فيها معية الأبدان.
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية أن ثوبان، مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان شديد الحب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه، وعرف الحزن فى وجهه، فسأله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن حاله فقال: يا رسول الله، ما بى وجع، غير أنى إذا لم أرك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة بحيث لا أراك هناك، لأنى إذا دخلت الجنة فأنت تكون فى درجات النبيين، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية.
وذكر ابن أبى حاتم عن أبى الضحى عن مسروق، قال أصحاب محمد: يا رسول الله ما ينبغى لنا أن نفارقك، فإنك لو قد متّ لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية. وذكر عن عكرمة مرسلا، قال: أتى فتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن لنا منك نظرة فى الدنيا ويوم القيامة لا نراك لأنك فى الجنة فى الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنت معى فى الجنة» . وذكر فيها أيضا روايات أخر ستأتى- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم-.
لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات، إلا أن سبب نزول
__________
(1) سورة الأعراف: 158.
(2) سورة النساء: 69.(2/581)
هذه الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك، وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح فى عموم اللفظ، فهذه الآية عامة فى حق جميع المكلفين، وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عنده تعالى.
ثم إن ظاهر قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ «1» أنه يكفى الاكتفاء بالطاعة الواحدة، لأن اللفظ الدال على الصفة يكفى فى جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة، لكن لابد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة.
قال الرازى: قد ثبت فى أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ «2» أى فى كونه إلها، وطاعة الله فى كونه إلها هى معرفته والإقرار بجلالته وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد:
فالأول: أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراف الروح بأنوار معرفة الله، فكل من كانت هذه الأنوار فى قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب، وإلى الفوز بالنجاة أوصل.
والثانى: أن الله تعالى ذكر فى الآية السابقة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل، ثم ذكر فى هذه الآية وعدهم بكونهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل فى درجة واحدة، لأن هذا يقتضى التسوية فى الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فالمراد كونهم فى
__________
(1) سورة النساء: 69.
(2) سورة النساء: 69.(2/582)
الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقى قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية، وقد ثبت وصح عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«المرء مع من أحب» «1» ، وثبت عنه أيضا أنه قال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا نزلتم منزلا إلا وهم معكم حبسهم العذر» «2» ، فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هى بالسر والروح لا بمجرد البدن، فهى بالقلب لا بالقالب، ولهذا كان النجاشى معه- صلى الله عليه وسلم- ومن أقرب الناس إليه، وهو بين النصارى بأرض الحبشة، وعبد الله بن أبى من أبعد الخلق عنه، وهو معه فى المسجد، وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرا من طاعة أو معصية أو شخص من الأشخاص فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه، فالأرواح تكون مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- رضى الله عنهم-، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية والمكانية بعد عظيم.
وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «3» . وهذه الآية الشريفة تسمى: آية المحبة، قال بعض السلف:
ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي «4» وقال تعالى: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «5» إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فلا محبة لكم حاصلة، ومحبته لكم منتفية، فجعل سبحانه اتباع رسوله- صلى الله عليه وسلم- مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6168 و 6169) فى الأدب، باب: علامة الحب فى الله عز وجل، ومسلم (2640) فى البر والصلة، باب: المرء مع من أحب، من حديث عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4423) فى المغازى، باب: نزول النبى- صلى الله عليه وسلم- الحجر، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) سورة آل عمران: 31.
(4) سورة آل عمران: 31.
(5) سورة آل عمران: 31.(2/583)
فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله- صلى الله عليه وسلم- فدل على أن متابعة الرسول هى حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفى ذلك فى العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يكون شىء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان شىء عنده أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذى لا يغفر لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «1» ، فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه. انتهى ملخصا من كتاب «مدارج السالكين» ، وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم-.
وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «2» . أى إلى الصراط المستقيم، فجعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، الإيمان بالرسول واتباعه، تنبيها على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو فى الضلالة، فكل ما أتى به الرسول- صلى الله عليه وسلم- يجب علينا اتباعه إلا ما خصه الدليل.
وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا «3» يعنى القرآن،
__________
(1) سورة التوبة: 24.
(2) سورة الأعراف: 158.
(3) سورة التغابن: 8.(2/584)
فالإيمان به- صلى الله عليه وسلم- واجب متعين- على كل أحد. لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً «1» أى ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين، وإنا أعتدنا للكافرين سعيرا.
وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «2» الآية. معناه: فوربك، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «3» و «لا» مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما فى لِئَلَّا يَعْلَمَ «4» ولا يؤمنون جواب. أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول فى جميع أموره، ويرضى بجميع ما حكم به، وينقاد له ظاهرا وباطنا، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفهم، كما ورد فى الحديث: «والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» «5» ، وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يكون مؤمنا، وعلى أنه لابد من حصول الرضا بحكمه فى القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن فى القلب بأن الذى يحكم به- صلى الله عليه وسلم- هو الحق والصدق، فلابد من الانقياد باطنا وظاهرا، وسيأتى مزيد بيان لذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم-. ثم إن ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس، لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه، وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره.
وقوله: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ «6» مشعر بذلك، لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضى ضد مدلول النص فهناك يحصل الحرج فى
__________
(1) سورة الفتح: 13.
(2) سورة النساء: 65.
(3) سورة الحجر: 92.
(4) سورة الحديد: 29.
(5) أخرجه الحكيم الترمذى وأبو نصر السجزى فى الإبانة وقال: حسن غريب، والخطيب عن ابن عمرو، كما فى «كنز العمال» (1084) .
(6) سورة النساء: 65.(2/585)
النفس، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص تسليما كليّا، قاله الإمام فخر الدين. وجوز غيره تخصيص الكتاب والسنة بالقياس، وبه صرح العلامة التاج بن السبكى فى جمع الجوامع.
النوع الثامن فيما يتضمن الأدب معه ص
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «1» .
فمن الأدب أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهى، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما أمر الله تعالى بذلك فى هذه الآية، وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ. فالتقدم بين يدى سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه فى حياته، لا فرق بينهما عند كل ذى عقل سليم. قال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشىء، حتى يقضيه الله تعالى على لسانه. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى.
وانظر أدب الصديق- رضى الله عنه- معه- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة، إذ تقدم بين يديه كيف تأخر وقال: ما كان لابن أبى قحافة أن يتقدم بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كيف أورثه مقامه والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه، وقد أومأ إليه أن اثبت مكانك، سعيا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطى.
ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- أن لا ترفع الأصوات فوق صوته، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ «2» . قال الرازى: أفاد أنه ينبغى أن لا يتكلم المؤمن عنده- صلى الله عليه وسلم- كما يتكلم العبد عند سيده، لأن العبد أدخل فى قوله
__________
(1) سورة الحجرات: 1.
(2) سورة الحجرات: 2.(2/586)
تعالى: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ «1» لأنه للعموم، فلا ينبغى أن يجهر المؤمن للنبى- صلى الله عليه وسلم- كما يجهر العبد للسيد، وإلا كان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض.
قال: ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «2» ، والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه، حتى لو كانا فى مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبى- صلى الله عليه وسلم-، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه فى التهلكة لإنجاء سيده، ويجب لإنجاء النبى- صلى الله عليه وسلم-، فكما أن العضو الرئيس أول بالرعاية من غيره، لأن عند خلل القلب مثلا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبى- صلى الله عليه وسلم- لهلك هو أيضا بخلاف العبد والسيد. انتهى. وإذا كان رفع الأصوات فوق صوته موجبا لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به.
واعلم أن فى الرفع والجهر استخفافا قد يؤدى إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة. وروى أن أبا بكر- رضى الله عنه-، لما نزلت هذه الآية قال: والله يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخى السرار، وأن عمر- رضى الله عنه- كان إذا حدثه حدّثه كأخى السرار ما كان يسمع النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه «3» .
وقد روى أن أبا جعفر أمير المؤمنين ناظر مالكا فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك فى هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قوما فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ «4» ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ «5» ، وذم قوما فقال: إِنَ
__________
(1) سورة الحجرات: 2.
(2) سورة الأحزاب: 6.
(3) تقدم
(4) سورة الحجرات: 2.
(5) سورة الحجرات: 3.(2/587)
الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ «1» الآية. وإن حرمته ميتا كحرمته حيّا، فاستكان لها أبو جعفر.
ومن الأدب أن لا يجعل دعاؤه كدعاء بعضنا بعضا، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «2» وفيه قولان للمفسرين:
أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا، بل قولوا:
يا رسول الله، يا نبى الله، مع التوقير والتواضع، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أى دعاؤكم الرسول.
والثانى: إن المعنى، لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا، إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أى دعاءه إياكم، وقد تقدم فى الخصائص من المقصد الرابع عن مذهب الشافعى أن الصلاة لا تبطل بإجابته- صلى الله عليه وسلم-.
ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد، أو رباط، لم يذهب أحد مذهبا فى حاجة له حتى يستأذنه، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ «3» . فإذا كان هذا مذهبا مقيدا لحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق فى تفاصيل الدين، أصوله وفروعه، دقيقه وجليله، هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «4» .
ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- أنه لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء
__________
(1) سورة الحجرات: 4.
(2) سورة النور: 63.
(3) سورة النور: 62.
(4) سورة النحل: 43.(2/588)
بقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال مخالف، يسميه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يتوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه، وهو عين الجراءة عليه.
ورأس الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقى خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه صاحبه معقولا، أو يسميه شبهة، أو شكّا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحد التحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يتحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، انتهى ملخصا من «المدارج» والقرآن مملوء بالآيات المرشدة إلى الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- فلتراجع.
النوع التاسع فى آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه ص ترفيعا لشأنه
قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» لما قال المشركون: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «2» ، أجاب تعالى عنه عدوه بنفسه من غير واسطة، وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من يسب حبيبه تولى بنفسه- منتصرا له- جوابه، فهنا تولى الحق سبحانه وتعالى جوابهم بنفسه منتصرا له، لأن نصرته تعالى أتم من نصرته وأرفع لمنزلته، ورده أبلغ من رده وأثبت فى ديوان مجده.
__________
(1) سورة القلم: 1، 2.
(2) سورة الحجر: 6.(2/589)
فأقسم تعالى بما أقسم به من عظيم آياته على تنزيه رسوله وحبيبه وخليله مما غمصته أعداؤه الكفرة به وتكذيبهم له بقوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيهم المفتون، هو أو هم؟ وقد علموا هم والعقلاء ذلك فى الدنيا، ويزداد علمهم به فى البرزخ، وينكشف ويظهر كل الظهور فى الآخرة بحيث يتساوى الخلق كلهم فى العلم به. وقال تعالى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» .
ولما رأى العاصى بن وائل السهمى النبى- صلى الله عليه وسلم- يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بنى سهم وتحدثا، وأناس من صناديد قريش جلوس فى المسجد، فلما دخل العاصى قالوا: من ذا الذى كنت تحدث معه، قال:
ذلك الأبتر، يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكان قد توفى ابن لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- من خديجة، فرد الله تعالى عليه، وتولى جوابه بقوله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «3» أى عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير.
ولما قالوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «4» قال الله تعالى: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ «5» . ولما قالوا: لَسْتَ مُرْسَلًا «6» أجاب الله تعالى عنه فقال: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «7» . ولما قالوا: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ «8» رد الله تعالى عليهم فقال: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ «9» فصدقه ثم ذكر
__________
(1) سورة القلم: 2.
(2) سورة التكوير: 22.
(3) سورة الكوثر: 3.
(4) سورة سبأ: 8.
(5) سورة سبأ: 8.
(6) سورة الرعد: 43.
(7) سورة يس: 1- 3.
(8) سورة الصافات: 36.
(9) سورة الصافات: 37.(2/590)
وعيد خصمائه فقال: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ «1» ولما قالوا: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «2» رد الله تعالى عليهم بقوله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ «3» .
ولما حكى الله عنهم قولهم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ «4» سماهم الله تعالى كاذبين بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً «5» .
قال: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «6» . ولما قالوا: يلقيه إليه شيطان قال الله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ «7» الآية ولما تلا عليهم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «8» قال الله تعالى: تكذيبا لهم قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «9» .
ولما قال وليد بن المغيرة: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ «10» قال الله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ «11» تسلية له- عليه الصلاة والسلام-. ولما قالوا: محمد قلاه ربه، رد الله تعالى عليهم بقوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «12» .
__________
(1) سورة الصافات: 38.
(2) سورة الطور: 30.
(3) سورة يس: 69.
(4) سورة الفرقان: 4.
(5) سورة الفرقان: 4.
(6) سورة الفرقان: 6.
(7) سورة الشعراء: 210.
(8) سورة الأنفال: 31.
(9) سورة الإسراء: 88.
(10) سورة المدثر: 24، 25.
(11) سورة الذاريات: 52.
(12) سورة الضحى: 3.(2/591)
ولما قالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ «1» قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «2» . ولما حسدته أعداء الله اليهود على كثرة النكاح والزوجات، وقالوا: ما همته إلا النكاح، رد الله تعالى عليهم عن رسوله ونافح عنه فقال:
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً «3» .
ولما استبعدوا أن يبعث الله رسولا من البشر بقولهم الذى حكى الله عنهم: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا «4» وجهلوا أن التجانس يورث التانس، وأن التخالف يورث التباين.
قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «5» أى لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة، لكن لما كان أهل الأرض من البشر وجب أن يكون رسولهم من البشر.
فما أجل هذه الكرامة، وقد كانت الأنبياء إنما يدافعون عن أنفسهم، ويردون على أعدائهم، كقول نوح- عليه الصلاة والسلام-: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ «6» . وقول هود لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ «7» وأشباه ذلك.
__________
(1) سورة الفرقان: 7.
(2) سورة الفرقان: 20.
(3) سورة النساء: 54.
(4) سورة الإسراء: 94.
(5) سورة الإسراء: 95.
(6) سورة الأعراف: 61.
(7) سورة الأعراف: 67.(2/592)
النوع العاشر فى إزالة الشبهات عن آيات وردت فى حقه ص متشابهات
قال الله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1» . اعلم أنه قد اتفق العلماء على أنه- صلى الله عليه وسلم- ما ضل لحظة واحدة قط، وهل هو جائز عقلا على الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- قبل النبوة؟ قالت المعتزلة: هو غير جائز عقلا لما فيه من التنفير. وعند أصحابنا: أنه جائز فى العقول، ثم يكرم الله من أراد بالنبوة، إلا أن الدليل السمعى قام على أن هذا الجائز لم يقع لنبى، قال الله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى «2» قاله الإمام فخر الدين.
وقال الإمام أبو الفضل اليحصبى فى «الشفاء» : والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته، والتشكك فى شىء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق أنوار المعارف، ونفحات ألطاف السعادة، ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ واصطفى ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك، ومستند هذا الباب النقل.
ثم قال: وقد استبان لك بما قررناه ما هو الحق من عصمته- صلى الله عليه وسلم- عن الجهل بالله وصفاته، أو كونه على حالة تنافى العلم بشىء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلا وإجماعا، وقبلها سمعا ونقلا، ولا بشىء مما قررناه من أمور الشرع وأداه عن ربه من الوحى قطعا، عقلا وشرعا، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله، قصدا وغير قصد، واستحالة ذلك عليه شرعا وإجماعا، نظرا وبرهانا، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعا، وتنزيهه عن الكبائر إجماعا، وعن الصغائر تحقيقا، وعن استدامة السهو والغافلة، واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته فى كل حالاته من رضى وغضب، وجد ومزح، ما يجب لك أن تتلقاه باليمين، وتشد عليه يد
__________
(1) سورة الضحى: 7.
(2) سورة النجم: 2.(2/593)
الضنين، فإن من يجهل ما يجب للنبى- صلى الله عليه وسلم-، أو يجوز أو يستحيل عليه، ولا يعرف صور أحكامه لا يأمن أن يعتقد فى بعضها خلاف ما [هى] عليه، ولا ينزهه عما لا يجوز أن يضاف إليه، فيهلك من حيث لا يدرى، ويسقط فى هوة الدرك الأسفل من النار، إذ ظن الباطل به واعتقاد ما لا يجوز عليه يحل صاحبه دار البوار.
وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر، بالمصير إلى امتثال أفعالهم واتباع آثارهم وسيرتهم مطلقا. وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك والشافعى وأبى حنيفة فى غير التزام قرينة بل مطلقا عند بعضهم، وإن اختلفوا فى حكم ذلك، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يكن الاقتداء بهم فى أفعالهم، إذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده من القربة والإباحة والخطر والمعصية. انتهى.
[وجوه تفسير آية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى]
واختلف فى تفسير هذه الآية على وجوه كثيرة:
أحدها: وجدك ضالا عن معالم النبوة.
وهو مروى عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب، ويؤيده قوله تعالى ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» أى ما كنت تدرى قبل الوحى أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، قاله السمرقندى، وقال بكر القاضى: ولا الإيمان الذى هو الفرائض والأحكام، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- قبل مؤمنا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التى لم يكن يدريها قبل، فازداد بالتكاليف إيمانا، وسيأتى آخر هذا النوع مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى-.
الثانى: من معنى قوله: (ضالا)
ما روى مرفوعا مما ذكره الإمام فخر الدين: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ضللت عن جدى عبد المطلب وأنا صبى حتى كاد الجوع يقتلنى فهدانى الله» «2» .
الثالث: يقال: ضل الماء فى اللبن إذا صار مغمورا، فمعنى الآية:
كنت مغمورا بين الكفار بمكة فقواك الله حتى أظهرت دينه.
__________
(1) سورة الشورى: 52.
(2) لم أقف عليه.(2/594)
الرابع: أن العرب تسمى الشجرة الفريدة فى الفلاة ضالة،
كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله تعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة فى مفازة الحمد.
الخامس: قد يخاطب السيد، والمراد قومه،
أى وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك.
السادس: أى محبّا لمعرفتى،
وهو مروى عن ابن عطاء، والضال:
المحب، كما قال تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «1» أى محبتك القديمة، ولم يريدوا هاهنا: فى الدين، إذ لو قالوا ذلك فى نبى الله لكفروا.
السابع: أى وجدك ناسيا فذكرك،
وذلك ليلة المعراج نسى ما يجب بأن يقال بسبب الهيبة، فهداه تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: لا أحصى ثناء عليك.
الثامن: أى وجدك بين أهل ضلال فعصمك من ذلك
وهداك للإيمان وإلى إرشادهم.
التاسع: أى وجدك متحيرا فى بيان ما أنزل إليك،
فهداك لبيانه، كقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»
وهذا مروى عن الجنيد.
العاشر: عن على أنه- صلى الله عليه وسلم- قال:
«ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بينى وبين ما أريد، ثم ما هممت بعدهما بشىء حتى أكرمنى الله برسالته. قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى بأعلى مكة: لو حفظت لى غنمى حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور أهل مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذنى فنمت، فما
__________
(1) سورة يوسف: 95.
(2) سورة النحل: 44.(2/595)
أيقظنى إلا مسّ الشمس، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك فضرب الله على أذنى فما أيقظنى إلا مسّ الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمنى الله برسالته» «1» .
وأما قوله تعالى: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ «2» .
فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين المجوزين للصغائر على الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث، إن التزموا ظواهرها أفضت بهم- كما قال القاضى عياض- إلى تجويز الكبائر، وخرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، فكيف وكلما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون فى معناه، وتقابلت الاحتمالات فى مقتضاه.
وجاءت الأقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك. فإذا لم يكن مذهبهم إجماعا، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديما، وقامت الدلالة على خطأ قولهم، وصحة غيره، وجب تركه والمصير إلى ما صح، انتهى. وقد اختلف فى هذه الآية:
فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أى صوت كصوت المحامل والرحال، وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أقداره. وقيل: المراد منه تخفيف أعباء النبوة التى يثقل الظهر القيام بأمرها، وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها، فسهل الله ذلك عليه، وحط عنه ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت له. وقيل الوزر: ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل- عليه السّلام-، وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله تعالى وقال له: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «3» .
وقيل: معناه عصمناك من الوزر الذى أنقض ظهرك لو كان ذلك الذنب حاصلا، فسمى الله العصمة «وضعا» مجازا، ومن ذلك ما فى الحديث أنه
__________
(1) أخرجه الحاكم عن على، كما فى «كنز العمال» (32135) .
(2) سورة الشرح: 2، 3.
(3) سورة النحل: 123.(2/596)
- صلى الله عليه وسلم- حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة فضرب الله على أذنه فما أيقظه إلا حر الشمس من الغد. وقيل: ثقل شغل سرك وحيرتك وطلب شريعتك، حتى شرعنا لك ذلك. وقيل معناه: خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت وحفظ عليك، ومعنى (أنقض) أى كاد ينقضه. قال القاضى: فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة: اهتمام النبى- صلى الله عليه وسلم- بأمور فعلها قبل نبوته وحرمت عليه بعد النبوة فعدها أوزارا وثقلت عليه وأشفق منها. وقيل: إنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه، فأمنه الله تعالى من عذابهم فى العاجل بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «1» ووعده الشفاعة فى الآجل.
وأما قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» . فقال ابن عباس: أى أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان. وقال بعضهم:
أراد غفران ما وقع وما لم يقع، أى أنك مغفور لك. وقيل: المراد ما كان عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه الطبرى واختاره القشيرى. وقيل: ما تقدم لأبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك، حكاه السمرقندى والسلمى عن ابن عطاء.
وقيل: المراد أمته وقيل المراد بالذنب ترك الأولى، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان فى إباحة الفعل.
وقال السبكى: قد تأملتها- يعنى الآية- مع ما قبلها وما بعدها فوجدتها لا تحتمل إلا وجها واحدا، وهو تشريف النبى- صلى الله عليه وسلم- من غير أن يكون هناك ذنب، ولكنه أريد أن يستوعب فى الآية جميع أنواع النعم- من الله على عباده- الآخروية، وجميع النعم الآخروية شيئان: سلبية وهى غفران الذنوب، وثبوتية وهى لا تتناهى، أشار إليها بقوله وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «3» ، وجميع
__________
(1) سورة الأنفال: 33.
(2) سورة الفتح: 2.
(3) سورة الفتح: 2.(2/597)
النعم الدنيوية، شيئان: دينية، وأشار إليها بقوله: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «1» ، ودنيوية، وهى قوله: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً «2» ، فانتظم بذلك تعظيم قدر النبى- صلى الله عليه وسلم- بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه المتفرقة فى غيره، ولهذا جعل ذلك غاية للفتح المبين الذى عظمه وفخمه بإسناده إليه بنون العظمة «3» ، وجعله خاصّا بالنبى- صلى الله عليه وسلم- بقوله: (لك) وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية فقال؛ وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم تكن ذنوب ألبتة.
ثم قال: وعلى تقدير الجواز لا شك ولا ارتياب أنه لم يقع منه- صلى الله عليه وسلم-، وكيف يتخيل خلاف ذلك وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «4» . وأما الفعل: فإجماع الصحابة على اتباعه والتأسى به فى كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير لم يكن عندهم فى ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله فى السر والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم، ومن تأمل أحوال الصحابة معه- صلى الله عليه وسلم- استحيى من الله أن يخطر بباله خلاف ذلك، انتهى.
وأما قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ «5» . فلا مرية أنه- صلى الله عليه وسلم- أتقى الخلق، والأمر بالشىء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس، ولا للساكت اسكت، ولا يجوز عليه أن لا يبلغ، ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك، ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين، حاشاه الله من ذلك، وإنما أمره الله تعالى بتقوى توجب استدامة الحضور.
وأجاب بعضهم عن هذا أيضا بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يزداد علمه بالله تعالى، ومرتبته، حتى كان حاله- صلى الله عليه وسلم- فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فكان له فى كل ساعة تقوى تتجدد.
__________
(1) سورة الفتح: 2.
(2) سورة الفتح: 3.
(3) يشير إلى قول الله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً سورة الفتح: 1.
(4) سورة النجم: 3، 4.
(5) سورة الأحزاب: 1.(2/598)
وقيل: المراد دم على التقوى. فإنه يصح أن يقال للجالس: اجلس هاهنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أى دم على ما أنت عليه. وقيل: الخطاب مع النبى- صلى الله عليه وسلم- والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً «1» ، ولم يقل بما تعمل.
وأما قوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «2» . فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار فى أمره- صلى الله عليه وسلم-، ونسبته إلى ما نسبوه إليه، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال فى أمر الدين والخلق العظيم، أتبعه بما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشديد مع قومه، وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل فقال: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «3» والمراد رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله تهييج للتشديد فى مخالفتهم.
وأما قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «4» ، الآية فاعلم أن المفسرين اختلفوا فيمن المخاطب بهذا:
فقال قوم المخاطب به النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقال آخرون: المخاطب به غيره. فأما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه:
الأول: أن الخطاب مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الظاهر والمراد غيره، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «5» وكقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «6» ، وكقوله لعيسى ابن مريم- عليهما السلام-: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «7» ومثل هذا معتاد، فإن السلطان إذا كان
__________
(1) سورة الأحزاب: 2.
(2) سورة القلم: 8.
(3) سورة القلم: 8.
(4) سورة يونس: 94.
(5) سورة الطلاق: 1.
(6) سورة الزمر: 65.
(7) سورة المائدة: 116.(2/599)
له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرا فى قلوبهم.
الثانى: قال الفراء: علم الله تعالى أن رسوله- صلى الله عليه وسلم- غير شاك، ولكن هذا كما يقول الرجل لولده: إن كنت ابنى فبرنى، ولعبده: إن كنت عبدى فأطعنى.
الثالث: أن يقال لضيق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعا بما تعانى من تعنتهم وأذاهم فاصبر واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم، وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر، فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما فى الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما فيها، أو تهييج الرسول- صلى الله عليه وسلم- وزيادة تثبيته، أو يكون على سبيل الفرض والتقدير، لا إمكان وقوع الشك له، ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم-: «لما نزلت هذه الآية: والله لا أشك ولا أسأل» .
وأما الوجه الثانى- وهو أن المخاطب غيره- صلى الله عليه وسلم- فتقريره: أن الناس كانوا فى زمانه- صلى الله عليه وسلم- فرقا ثلاثة: المصدقون به، والمكذبون له، والمتوقفون فى أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: فإن كنت فى شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا- صلى الله عليه وسلم- فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وهذا مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «1» ويا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ «2» وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ «3» فإن المراد «بالإنسان» هنا الجنس، لا إنسان بعينه، فكذا هنا، ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك حذرهم من أن يلحقوا
__________
(1) سورة الانفطار: 6.
(2) سورة الانشقاق: 6.
(3) سورة الزمر: 8.(2/600)
بالقسم الثانى وهم المكذبون فقال: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» .
وأما قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ «2» . أى فى أنهم لا يعلمون ذلك، أو يكون المراد:
قل لمن امترى يا محمد، لا تكونن من الممترين فليس الخطاب له وأنه- صلى الله عليه وسلم- يخاطب به غيره. وقيل غير ذلك.
وأما قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ «3» . فقال القاضى عياض: لا يلتفت إلى قول من قال: لا تكونن ممن يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى، إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفاته تعالى، وذلك لا يجوز على الأنبياء، والمقصود وعظهم أن لا يتشبهوا فى أمورهم بسمات الجاهلين، وليس فى الآية دليل على كونه على تلك الصفة التى نهاه الله عن الكون عليها، فأمره الله تعالى- صلى الله عليه وسلم- بالتزام الصبر على إعراض قومه، ولا يخرج عند ذلك فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر حكاه أبو بكر بن فورك.
وقيل: معنى الخطاب لأمته- صلى الله عليه وسلم-، أى فلا تكونوا من الجاهلين.
حكاه أبو محمد مكى، قال: ومثله فى القرآن كثير، وكذلك قوله تعالى:
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «4» فالمراد غيره، كما قال تعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا «5» وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «6» ولَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «7» وما أشبه ذلك فالمراد غيره، وأن هذه حال من
__________
(1) سورة يونس: 95.
(2) سورة الأنعام: 114.
(3) سورة الأنعام: 35.
(4) سورة الأنعام: 116.
(5) سورة آل عمران: 149.
(6) سورة الشورى: 24.
(7) سورة الزمر: 65.(2/601)
أشرك والنبى- صلى الله عليه وسلم- لا يجوز عليه هذا، والله تعالى ينهاه عما يشاء ويأمره بما يشاء، كما قال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «1» الآية، وما طردهم- صلى الله عليه وسلم- وما كان من الظالمين.
وأما قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «2» . فليس بمعنى قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ «3» ، وإنما المعنى: لمن الغافلين عن قصة يوسف، إذ لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا.
وأما قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ»
الآية. فمعناه: يستخفّك غضب يحملك على ترك الإعراض عنهم.
والنزغ: أدنى حركة تكون، كما قاله الزجاج. فأمره الله تعالى أنه متى تحرك عليه غضب على عدوه، أو رام الشيطان من إغرائه به وخواطر أدنى وساوسه ما لم يجعل له سبيل إليه أن يستعيذ به تعالى منه، فيكفى أمره، ويكون سبب تمام عصمته، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه. وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان فى صورة الملك ويلبس عليه، لا فى أول الرسالة ولا بعدها [والاعتماد فى ذلك دليل المعجزة] «5» بل لا يشك النبى أن ما يأتيه من الله هو الملك ورسوله حقيقة إما بعلم ضرورى يخلقه الله له أو ببرهان يظهر لديه كما قدمته فى المقصد الأول عند البعثة، لتتم كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته.
وأما قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «6» الآية. فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين:
أن التمنى المراد به هنا: التلاوة، وإلقاء الشيطان فيها إشغاله بخواطر وأذكار
__________
(1) سورة الأنعام: 52.
(2) سورة يوسف: 3.
(3) سورة يونس: 7.
(4) سورة الأعراف: 200.
(5) زيادة من المصدر المنقول عنه، انظر «الشفا» للقاضى عياض (2/ 120) .
(6) سورة الحج: 52.(2/602)
من أمور الدنيا للتالى حتى يدخل عليه الوهم والنسيان فيما تلاه، أو يدخل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله وينسخه ويكشف لبسه ويحكم آياته. قاله القاضى عياض، وقد تقدم فى المقصد الأول مزيد لذلك.
قال فى الشفاء: وأما قوله- صلى الله عليه وسلم- حين نام عن الصلاة يوم الوادى:
«إن هذا واد به شيطان» «1» فليس فيه ذكر تسلطه عليه ولا وسوسته له، بل إن كان بمقتضى ظاهره فقد بين أمر ذلك الشيطان بقوله: إن الشيطان أتى بلالا، فلم يزل يهدّيه كما يهدى الصبى حتى نام، فاعلم أن تسلط الشيطان فى ذلك الوادى إنما كان على بلال الموكل بكلاءة الفجر، هذا إن جعلنا قوله «إن هذا واد به شيطان» تنبيها على سبب النوم عن الصلاة، وأما إن جعلناه تنبيها على سبب الرحيل عن الوادى وعلة لترك الصلاة به، وهو دليل مساق حديث زيد ابن أسلم فلا اعتراض به فى هذا الباب، لبيانه وارتفاع إشكاله.
قال عياض: وأما قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى «2» الآية، فليس فيها إثبات ذنب له- صلى الله عليه وسلم-. بل إعلام الله له أن ذلك المتصدى له من لا يتزكى، وأن الصواب والأولى كان لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى وفعل النبى- صلى الله عليه وسلم- لما فعل وتصديه لذلك الكافر كان طاعة لله، وتبليغا عنه، واستئلافا له، كما شرعه الله [له] لا معصية ولا مخالفة له، وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى «3» أى ليس عليك بأس فى أن لا يتزكى بالإسلام، أى لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم، إن عليك إلا البلاغ.
وقد كان ابن أم مكتوم يستحق التأديب والزجر، لأنه- وإن فقد بصره-
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) سورة عبس: 1، 2.
(3) سورة عبس: 7.(2/603)
كان يسمع مخاطبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- لأولئك الكفار، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمامه- صلى الله عليه وسلم- بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه- صلى الله عليه وسلم- إيذاء له- صلى الله عليه وسلم- وذلك معصية عظيمة. فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبا ومعصية، وأن الذى فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان هو الواجب المتعين. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- مأذونا له فى تأديب أصحابه، ولكن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق به.
وأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» الآية. فروى ابن أبى حاتم عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، وكذا قال مورق العجلى وغيره. وقال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم أنزل التى فى سورة النور، فرخص له فى أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «2» ففوض الأمر إلى رأيه- صلى الله عليه وسلم-.
وقال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يؤمر فيهما بشىء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسرى، فعاتبه الله كما تسمعون.
وأما قول بعضهم إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب لأنه تعالى قال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «3» والعفو يستدعى سالفة ذنب، وقوله الآخر: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «4» استفهام بمعنى الإنكار، فاعلم: أنا لا نسلم أن قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «5» يوجب ذنبا، ولم لا يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى فى توقيره وتعظيمه، كما يقول الرجل لغيره إذا كان عظيما عنده: عفا الله عنك، ما صنعت فى أمرى ورضى الله عنك ما جوابك عن كلامى، وعافاك الله ألا عرفت حقى، فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا
__________
(1) سورة التوبة: 43.
(2) سورة النور: 62.
(3) سورة التوبة: 43.
(4) سورة التوبة: 43.
(5) سورة التوبة: 43.(2/604)
زيادة التبجيل والتعظيم، وليس (عفا) هنا بمعنى: غفر، بل كما قال- صلى الله عليه وسلم-:
«عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» «1» ولم تجب عليهم قط، أى لم يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيرى قال: وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا الله عنك أى لم يلزمك ذنبا.
وأما الجواب عن الثانى فيقال: إما أن يكون صدر من الرسول- صلى الله عليه وسلم- ذنب أم لا؟ فإن قلنا: لا، امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» إنكارا عليه، وإن قلنا إنه قد صدر عنه ذنب- وحاشاه الله من ذلك- فقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «3» يدل على حصول العفو، وبعد العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال:
إن قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «4» يدل على كون الرسول مذنبا، وهذا جواب كاف شاف قاطع، وعند هذا يحمل قوله لم أذنت لهم على ترك الأولى والأكمل. بل لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك.
قال نفطويه: ذهب ناس إلى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- معاتب بهذه الآية، وحاشاه الله من ذلك، بل كان مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فى الإذن.
وأما قوله تعالى فى أسارى بدر: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ إلى قوله:
عَظِيمٌ «5» . فروى مسلم من إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (1574) فى الزكاة، باب: فى زكاة السائحة، والترمذى (620) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الذهب والورق، وابن ماجه (1790) فى الزكاة، باب: زكاة الورق والذهب، والدارمى فى «سننه» (1629) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 92 و 132 و 145 و 146) ، من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) سورة التوبة: 43.
(3) سورة التوبة: 43.
(4) سورة التوبة: 43.
(5) سورة الأنفال: 67، 68.(2/605)
هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار النبى- صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر وعليّا، فقال أبو بكر: يا نبى الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهداهم الله فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكننى من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه يعلم الله أنه ليس فى قلوبنا هوادة للمشركين، فهوى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أبكى للذى عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة فأنزل الله تعالى:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى إلى قوله: عَظِيمٌ «1» » .
وقوله: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ «2» : أى يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولى أهله. وليس فى هذا إلزام ذنب للنبى- صلى الله عليه وسلم-، بل فيه بيان ما خص به وفضّل من بين سائر الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فكأنه قال: ما كان هذا لنبى غيرك. قال- صلى الله عليه وسلم-:
«أحلت لى الغنائم ولم تحل لنبى قبلى» «3» . وأما قوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا «4» فقيل المراد بالخطاب من أراد ذلك منهم وتجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا علية أصحابه.
__________
(1) سورة الأنفال: 67، 68.
(2) سورة الأنفال: 67.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1763) فى الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر، من حديث عمر- رضى الله عنه-.
(4) سورة الأنفال: 67.(2/606)
بل قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال حتى خشى عمر أن يعطف عليهم العدو.
ثم قال تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ «1» فاختلف المفسرون فى معنى هذه الآية: فقيل معناها لولا أنه سبق منى أن لا أعذب أحدا إلا بعد النهى لعذبتكم، فهذا ينفى أن يكون أمر الأسرى معصية. وقيل: لولا إيمانكم بالقرآن، وهو الكتاب السابق، فاستوجبتم به الصفح لعقوبتم على الغنائم.
وقيل: لولا أنه سبق فى اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعقوبتم. وهذا كله ينفى الذنب والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص، قال الله تعالى:
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «2» .
وقيل: بل كان- صلى الله عليه وسلم- قد خير فى ذلك، وقد روى عن على قال: جاء جبريل- عليه السّلام- إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر فقال: «خير أصحابك فى الأسارى إن شاؤوا القتل وإن شاؤوا الفداء على أن يقتل منهم فى العام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا» «3» وهذا دليل على أنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه. لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل فعوتبوا على ذلك وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم، وكلهم غير عصاة ولا مذنبين.
قال القاضى بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الآية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كان قبل هذا فادى فى سرية عبد الله بن جحش التى قتل فيها ابن الحضرمى بالحكم بن كيسان
__________
(1) سورة الأنفال: 68.
(2) سورة الأنفال: 69.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (1567) فى السير، باب: ما جاء فى قتل الأسارى والفداء، وابن حبان فى «صحيحه» (4795) ، من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(2/607)
وصاحبه، فما عتب الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من عام، فهذا كله يدل على أن فعل النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شأن الأسارى كان على تأويل وبصيرة على ما تقدم قبل ذلك مثله فلم ينكره الله عليه. لكن الله تعالى أراد لعظم أمر بدر وكثرة أسرارها- والله تعالى أعلم- إظهار نعمته وتأكيد منته بتعريفهم ما كتبه فى اللوح المحفوظ من حل ذلك لا على وجه عتاب أو إنكار أو تذنيب قاله القاضى عياض «1» .
وأما قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ «2» الآية.
فالمعنى: لولا أن ثبتناك لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب فضلا عن أن تركن إليهم. وهو صريح فى أنه- صلى الله عليه وسلم- ما همّ بإجابتهم مع قوة الدواعى إليها، فالعصمة بتوفيق الله وحفظه، ولو قاربت لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، أى ضعف ما يعذب به فى الدارين بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ الخطير أخطر، وقد أعاذه الله من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه. ومما يعزى للحريرى مما يؤيد ذلك قوله:
أنحوى هذا العصر ما هى لفظة ... جرت فى لسانى جرهم وثمود
إذا استعملت فى صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
وفسر الأول وهو النفى المثبت بنحو فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «3» والثانى وهو الثبوت المنفى بنحو قوله تعالى: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ قالوا: وهو- صلى الله عليه وسلم- ثبت قلبه ولم يركن.
وأما قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ
__________
(1) فى «الشفا» له (2/ 159) .
(2) سورة الإسراء: 74، 75.
(3) سورة البقرة: 71.(2/608)
(45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «1» فالمعنى: لو افترى علينا بشىء من عند نفسه لأخذنا منه باليمين وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه، وقد أعاذه الله من التقول عليه. فإن قلت: لا مرية أنه يعفى للمحب ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
ولا شك أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- هو الحبيب الأعظم ذو المحاسن والإحسان الأكبر، فما هذه العقوبة المضاعفة والتهديد الشديد الوارد إن وقع منه ما يكره، وكم من راكن إلى أعدائه ومتقول عليه من قبل نفسه لم يعبأ به كأرباب البدع ونحوهم؟
فالجواب: أنه لا تنافى بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه بالإنعام وخصه بمزيد القرب والإكرام اقتضت حالته من حفظ مرتبة القرب والولاية والاختصاص أن تراعى مرتبته عن أدنى مشوش وقاطع، فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل، فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل أو أخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضا، فيجتمع فى حقه الأمران.
وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد بذلك، فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لا يسامح به من ليس فى منزلتهم، ويؤاخذهم بما لا يؤاخذ به غيرهم. وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أحدهما أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك عاملته بهذين الأمرين، واجتمع فى حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه وإتمام نعمك عليه اقتضت معاملته بما لم تعامل به من هو دونه من التنبيه وعدم الإهمال. وإذا نظرت إلى محبته لك وطاعته وخدمته وكمال
__________
(1) سورة الحاقة: 44- 46.(2/609)
عبوديته ونصحه، وهبت له وسامحته وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره.
فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه.
وقد ظهر اعتبار هذا المعنى فى الشرع، حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج إذا تعداه إلى الزنا الرجم، وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد، وكذلك ضاعف الحد على الحر الذى قد ملكه نفسه وأتم عليه نعمته ولم يجعله مملوكا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق- الذى لم يجعل له هذه النعمة- نصف ذلك. فسبحان من بهرت حكمته فى خلقه.
فلله سر تحت كل لطيفة ... فأخو البصائر غائص يتعقل
انتهى ملخصا.
وأما قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» . فقيل:
معناه ما كنت تدرى الإيمان على التفصيل الذى شرع لك فى القرآن. وقال أبو العالية: هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان، لأنه كان قبل الوحى لا يقدر أن يدعو إلى الإيمان بالله تعالى. وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان فى المهد وقيل البلوغ. حكاه الماوردى والواحدى والقشيرى. وقيل: إنه من باب حذف المضاف، أى ما كنت تدرى أهل الإيمان، أى من الذى يؤمن، أبو طالب، أو العباس، أو غيرهما. وقيل: المراد به شرائع الإيمان ومعالمه وهى كلها إيمان، وقد سمى الله الصلاة بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «2» أى صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عامّا والمراد الخصوص. قاله ابن قتيبة وابن خزيمة. وقد اشتهر فى الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يوحد الله ويبغض الأوثان ويحج ويعتمر. وروى أبو نعيم وابن عساكر عن على قال: قيل للنبى- صلى الله عليه وسلم- هل عبدت وثنا قط؟ قال: «لا» ، قيل: فهل شربت خمرا قط؟ قال:
«لا، وما زلت أعرف أن الذى هم عليه كفر. وما كنت أدرى ما الكتاب ولا الإيمان» .
__________
(1) سورة الشورى: 52.
(2) سورة البقرة: 143.(2/610)
وعن عائشة: كانت قريش ومن دان دينها، وهم الحمس، يقفون بمزدلفة ويقولون: نحن أهل الحرم رواه الشيخان. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الجاهلية يقف بعرفات دونهم توفيقا من الله تعالى. رواه البيهقى وأبو نعيم من حديث جبير بن مطعم. وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل، كحج البيت والختان والغسل من الجنابة، وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يقرب الأوثان ويعيبها، ولا يعرف شرائع الله التى شرعها لعباده على لسانه، فذلك قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» ولم يرد الإيمان الذى هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون مع شركهم، والله أعلم.
__________
(1) سورة الشورى: 52.(2/611)
المقصد السابع فى وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه
وطريقته وفرض محبة آله وأصحابه وقرابته وعترته وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلا وشرفا لديه وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول فى وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته ص
اعلم أن المحبة- كما قال صاحب «المدارج» - هى المنزلة التى يتنافس فيها المتنافسون، وإليها يشخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهى قوت القلوب، وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهى الحياة التى من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذى من فقده فهو فى بحار الظلمات، والشفاء الذى من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام. واللذة التى من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهى روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التى متى خلت منها فهى كالجسد الذى لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيه، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبدا بدونها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق إلى مقامات لم يكونوا لولا هى داخليها، وهى مطايا القوم التى سراهم فى ظهورها دائما إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذى يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قدر الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة(2/612)
على المحبين سابغة، لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون، ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم فى سيرهم واقفون.
من لى بمثل سيرك المذلل ... تمشى رويدا وتحبى فى الأول
أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم حى على الفلاح، فى الأول أنفسهم فى طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضا والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، ولقد حمدوا عند وصولهم مسراهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح.
وقد اختلفوا فى تعريف المحبة، وعباراتهم وإن كثرت فليست فى الحقيقة ترجع إلى اختلاف مقال، وإنما هى اختلاف أحوال، وأكثرها يرجع إلى ثمرتها دون حقيقتها. وقد قال بعض المحققين: حقيقة المحبة عند أهل المعرفة، من المعلومات التى لا تحد، وإنما يعرفها من قامت به وجدانا لا يمكن التعبير عنه. وهكذا كقول صاحب مدارج السالكين- تبعا لغيره-: والمحبة لا تحد بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.
وإنما يتكلم الناس فى أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب الإدراك والمقام والحال. وقد وضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة: [الحاء] التى هى من أقصى الحلق، و «الباء» الشفهية التى هى نهايته، فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه.
وقد أعطوا «الحب» حركة الضم التى هى أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها، وأعطوا «الحبّ» وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها من الضمة، وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم. فتأمل هذا اللطف والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعانى تطلعك على قدر هذه اللغة، وإن لها(2/613)
شأنا ليس لسائر اللغات.
[حدود قيلت فى المحبة]
وهذا بعض رسوم وحدود قيلت فى المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها.
فمنها: موافقة الحبيب فى المشهد والمغيب.
وهذا موجبها ومقتضاها.
ومنها: محو المحب لصفاته وإثبات المحب لذاته، وهذا من أحكام الفناء فى المحبة، وهى أن تمحى صفات المحب وتفنى فى صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعى بيانا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه وأخذه منه.
ومنها: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك،
وهو لأبى يزيد، وهو أيضا من أحكامها وموجباتها وشواهدها. والمحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيا منه، ولو ناله من محبوبه أيسر شىء لاستكثره واستعظمه.
ومنها: استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك.
وهو قريب من الأول لكنه مخصوص بما من المحب. ومنها: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وهو لسهل بن عبد الله، وهو أيضا حكم المحبة وموجبها.
ومنها: أن تهب كلك لمن أحببت،
فلا يبقى لك منك شىء. وهو لسيدنا أبى عبد الله القرشى، وهو أيضا من موجبات المحبة وأحكامها. والمراد أن تهب إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسا فى مرضاته ومحابه، ولا تأخذ منها لنفسك إلا ما أعطاكه، فتأخذه منه له.
ومنها: أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب،
وكمال المحبة يقتضى ذلك، فإنه ما دامت فى القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة.
ومنها: أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك.
وهو للشبلى، ومراده:
احتقارك لنفسك واستصغارها أن يكون مثلك ممن يحبه. ومنها: غض طرف المحب عما سوى المحبوب غيرة، وعن المحبوب هيبة، وهذا يحتاج إلى إيضاح، أما الأول فظاهر، وأما الثانى: فإن غض طرف القلب عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء سلطان المحبة يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم.(2/614)
ومنها: ميلك إلى الشىء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك
وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرّا وجهرا ثم علمك بتقصيرك فى حبه. قال الجنيد:
سمعت الحارث المحاسبى يقول ذلك. ومنها: سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذى يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد بعضهم:
فأسكر القوم دور الكأس بينهم ... لكن سكرى نشا من رؤية الساقى
ومنها: سفر القلب فى طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام،
أما سفر القلب فى طلبه فهو الشوق إلى لقائه، وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن من أحب شيئا أكثر من ذكره.
ومنها: الميل إلى ما يوافق الإنسان،
كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة وغير ذلك من الملاذ التى لا يخلو كل طبع سليم عن الميل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسته، أو يكون حبه لذلك لموافقته له من جهة إحسانه إليه وإنعامه عليه، فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، كما رواه أبو نعيم فى الحلية «1» وأبو الشيخ وغيرهما فإذا كان الإنسان يحب من منحه فى دنياه مرة أو مرتين معروفا فانيا منقطعا، أو استنقذه من هلكة أو مضرة لا تدوم، فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد ولا تزول ووقاه من العذاب الأليم ما لا يفنى ولا يحول.
وإذا كان المرء يحب غيره على ما فيه من صور جميلة وسيرة حميدة، فكيف بهذا النبى الكريم والرسول العظيم الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح لنا جوامع المكارم والفضل العميم، فقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وخلصنا به من نار الجهل إلى جنات المعارف والإيقان، فهو السبب لبقاء مهجنا البقاء الأبدى فى النعيم السرمدى، فأى إحسان أجل قدرا وأعظم خطرا من إحسانه إلينا، فلا منة- وحياته- لأحد بعد الله كما له علينا، ولا فضل لبشر كفضله لدينا.
__________
(1) لا أصل له: والحديث أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (4/ 121) .(2/615)
فكيف ننهض ببعض شكره، أو نقوم من واجب حقه بمعشار عشره، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة، وأسبغ علينا نعمه باطنة وظاهرة، فاستحق أن يكون حظه من محبتنا له أوفى وأزكى من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأموالنا وأهلينا والناس أجمعين، بل لو كان فى منبت كل شعرة منا محبة تامة له- صلوات الله وسلامه عليه- لكان ذلك بعض ما يستحقه علينا.
وقد روى أبو هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» «1» رواه البخارى.
وقدم الوالد للأكثرية، لأن كل أحد له والد، من غير عكس، وفى رواية النسائى تقديم الولد على الوالد وذلك لمزيد الشفقة، وزاد فى رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس (والناس أجمعين) ، وفى صحيح ابن خزيمة: (من أهله وماله) بدل (من والده وولده) وذكر الوالد والولد أدخل فى المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولذا لم يذكر «النفس» فى حديث أبى هريرة، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص.
قال الخطابى: والمراد بالمحبة هنا، حب الاختيار لا حب الطبع. وقال النووى: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبى- صلى الله عليه وسلم- راجحا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس.
وفى كلام القاضى عياض: أن ذلك شرط فى صحة الإيمان، لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال. وتعقبه صاحب المفهم: بأن ذلك ليس مرادا، لأن اعتقاد الأعظيمة ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (14) فى الإيمان، باب: حب الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وأخرجه البخارى (15) فيما سبق، ومسلم (44) فى الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والولد، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/616)
شىء مع خلوه من محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يومئ قول عمر فى الحديث الذى رواه البخارى فى «الأيمان والنذور» من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شىء إلا نفسى التى بين جنبى، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: والذى أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلى من نفسى التى بين جنبى، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «الآن يا عمر» »
. فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظيمة فقط. فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا.
وفى رواية فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا والذى نفسى بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك» قال بعض الزهاد: تقدير الكلام، لا تصدق فى حبى حتى تؤثر رضاى على هواك وإن كان فيه الهلاك.
وأما وقوف عمر فى أول أمره، واستثناؤه نفسه، فلأن حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد- صلى الله عليه وسلم- منه حب الاختيار، إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. وعلى هذا فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من نفسه لكونه السبب فى نجاتها من الهلكات فى الدنيا والآخرة، فأخبره بما اقتضاه الاختيار، فذلك حصل الجواب بقوله (الآن يا عمر) أى الآن عرفت فنطقت بما يجب.
وإذا كان هذا شأن نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- عبد الله ورسوله فى محبتنا له ووجوب تقديمها على محبة أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فما الظن بمحبة الله تعالى ووجوب تقديمها على محبة ما سواه، ومحبة الله تعالى تختص عن محبة غيره فى قدرها وصفتها، وإفراده سبحانه وتعالى بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحب إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6632) فى الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبى- صلى الله عليه وسلم-.(2/617)
وبصره ونفسه التى بين جنبيه، فيكون إلهه الحق، ومعبوده أحب إليه من ذلك كله. والشىء قد يحب من وجه دون وجه، وقد يحب لغيره وليس شىء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده، ولا تصلح الألوهية إلا له تعالى.
والتأله هو المحبة والطاعة والخضوع.
ومن علامات الحب المذكور لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يعرض الإنسان على نفسه أنه لو خير بين فقد غرض من أغراضه وفقد رؤية النبى- صلى الله عليه وسلم- أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أشد عليه من فقد شىء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومن لا فلا.
قال القرطبى: كل من آمن بالنبى- صلى الله عليه وسلم- إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شىء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من يأخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا فى الشهوات محجوبا فى الغفلات فى أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده ويبذل نفسه فى الأمور الخطيرة ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه. وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر فى قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالى الغفلات، انتهى.
فكل مسلم فى قلبه محبة الله ورسوله، لا يدخل فى الإسلام إلا بها، والناس متفاوتون فى محبته- صلى الله عليه وسلم- بحسب استحضار ما وصل إليهم من جهته- عليه الصلاة والسلام- من النفع الشامل لخير الدارين والغافلة عن ذلك. ولا شك أن حظ الصحابة- رضى الله عنهم- فى هذا المعين أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم.
وقد روى ابن إسحاق- كما حكاه فى الشفاء- أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: ما فعل رسول(2/618)
الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: خيرا، هو بحمد الله كما تحبين، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل تعنى: صغيرة.
ورواه البيهقى فى الدلائل، وذكره صاحب اللباب بلفظ: لما قيل يوم أحد قتل محمد- صلى الله عليه وسلم- وكثرت الصوارخ بالمدينة، خرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت بأخيها وابنها وزوجها وأبيها قتلى، لا تدرى بأيهم استقبلت، فكلما مرت بواحد منهم صريعا قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك قالت: فما فعل النبى- صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: أمامك، حتى ذهبت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول:
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لا أبالى إذا سلمت من عطب. وكذا رواه ابن أبى الدنيا بنحوه مختصرا.
وقال عمرو بن العاص ما كان أحد أحب إلى من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وقال على بن أبى طالب: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة- بفتح الدال المهملة وكسر المثلاثة وتشديد النون- من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة وأنى جالس فى أهلى. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا من الناس يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.
وروى- مما ذكره القاضى عياض- أن رجلا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلى من أهلى ومالى، وإنى لأذكرك فما أصبر حتى أجىء فأنظر إليك، وإنى ذكرت موتى وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنى إن دخلتها لا أراك، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» فدعا به فقرأها عليه.
__________
(1) سورة النساء: 69.(2/619)
قال: وفى حديث آخر: كان رجل عند النبى- صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه لا يطرف، فقال: «ما بالك؟» فقال: بأبى أنت وأمى، أتمتع بالنظر إليك، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله، فأنزل الله الآية.
وذكره البغوى فى تفسيره بلفظ: نزلت- أى الآية- فى ثوبان مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان شديد الحب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم قد تغير لونه يعرف الحزن فى وجهه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«ما غير لونك؟» فقال: يا رسول الله، ما بى مرض ولا وجع غير أنى إن لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك، لأنك ترفع مع النبيين، وأنى إن دخلت الجنة كنت فى منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية وكذا ذكره الواحدى فى «أسباب النزول» ، وعزاه للكلبى عن ثوبان.
وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-: كيف يكون الحال فى الجنة وأنت فى الدرجات العلى ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل الله الآية. وذكره ابن ظفر فى «ينبوع الحياة» «1» بلفظ: إن عامر الشعبى قال: إن رجلا من الأنصار أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلى من نفسى ومالى وولدى وأهلى، ولولا أن آتيك فأراك لرأيت أن أموت أو قال أن سوف أموت، وبكى الأنصارى، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما أبكاك؟» قال: بكيت أن ذكرت أنك ستموت ونموت، فترفع مع النبيين، ونكون نحن إن دخلنا الجنة دونك، فلم يحر النبى- صلى الله عليه وسلم- إليه، بمعنى أى: لم يرجع إليه بقول، فأنزل الله الآية.
قال: وذكر مقاتل بن سليمان مثل هذا، وقال: هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصارى الذى رأى الأذان. وذكر أيضا: أن عبد الله بن زيد هذا كان يعمل فى جنة له فأتاه ابنه فأخبره أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قد توفى فقال: اللهم أذهب بصرى حتى لا أرى بعد حبيبى محمد أحدا، فكف بصره.
__________
(1) هو كتاب تفسير، لأبى عبد الله بن ظفر، محمد بن محمد الصقلى، المتوفى سنة 568 هـ.(2/620)
واعلم أنه لا يمكن أن يجتمع فى القلب حبان، فإن المحبة الصادقة تقتضى توحيد المحبوب، فليختر المرء لنفسه إحدى المحبتين فإنهما لا يجتمعان فى القلب، والإنسان عند محبوبه كائنا ما كان كما قيل:
أنت القتيل بأى من أحببته ... فاختر لنفسك فى الهوى من تصطفى
ولبعض الحكماء: كما أن الغمد لا يتسع لعضبين فكذلك القلب لا يتسع لحبين، ولذلك لازم إقبالك على من تهواه إعراضك عن كل شىء سواه فمن داهن فى المحبة أو داجى، فقد عرض لمدى الغيرة أوداجا، فمحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بل تقديمه فى الحب على الأنفس والآباء والأبناء- لا يتم الإيمان إلا بها، إذ محبته من محبة الله.
وقد حكى عن أبى سعيد الخراز- مما ذكره القشيرى فى رسالته- أنه قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، فقلت: يا رسول الله اعذرنى فإن محبة الله شغلتنى عن محبتك، فقال لى: «يا مبارك من أحب الله فقد أحبنى» .
وقيل إن ذلك وقع لامرأة من الأنصار معه- صلى الله عليه وسلم- يقظة، ولابن أبى المجد.
ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه
وكذلك كل حب فى الله ولله، كما فى الصحيحين، عن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار» «1» ، فعلق ذوق الإيمان بالرضى بالله ربّا، وعلق وجدان حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يتم إلا به، وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله، فمن رضى الله ربّا رضيه الله له عبدا.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (16) فى الإيمان، باب: حلاوة الإيمان، ومسلم (43) فى الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/621)
ومعنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات فى الدين، ويؤثر ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله تعالى تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول، قال النووى: وقال غيره: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله أكد عليه من حق والده وولده وجميع الناس، لأن الهدى من الضلال، والخلاص من النار، إنما كان على لسان رسوله.
وفى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «حلاوة الإيمان» استعارة تخييلية، فإنه شبه رغبة المؤمن فى الإيمان بشىء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشىء وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح، لأن المريض الصفراوى يجد طعم العسل مرّا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هى، وكلما نقصت القوة شيئا ما، نقص ذوقه بقدر ذلك.
وقال العارف ابن أبى حمزة: واختلف فى الحلاوة المذكورة هل هى محسوسة أو معنوية، فحملها قوم على المعنى وهم الفقهاء، وحملها قوم على المحسوس وأبقوا اللفظ على ظاهره من غير أن يتأولوه وهم أهل الصفة، أو قال الصوفة. قال: والصواب معهم فى ذلك والله أعلم، لأن ما ذهبوا إليه أبقوا لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل. قال: ويشهد إلى ما ذهبوا إليه أحوال الصحابة والسلف الصالح وأهل المعاملات، فإنه حكى عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة.
فمن ذلك: حديث بلال حين صنع به ما صنع فى الرمضاء إكراها على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان. وكذلك أيضا عند موته، أهله يقولون: واكرباه، وهو يقول: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وهى حلاوة الإيمان.
ومنها حديث الصحابى الذى سرق فرسه بليل وهو فى الصلاة، فرأى السارق حين أخذه فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له فى ذلك فقال: ما كنت فيه ألذ من ذلك، وليس ذاك إلا لحلاوة الإيمان التى وجدها محسوسة فى وقته ذلك.(2/622)
ومنها حديث الصحابيين اللذين جعلهما- صلى الله عليه وسلم- فى بعض مغازيه من قبل العدو، وقد أقبل فرآهما، فكبل الجاسوس القوس ورمى الصحابى فأصابه، فبقى على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه وقال: لولا أنى خفت على المسلمين ما قطعت صلاتى «1» . وليس ذاك إلا لشدة ما وجد فيها من الحلاوة التى أذهبت عنه ما يجد من ألم السلاح. قال: ومثل هذا حكى عن كثير من أهل المعاملات. انتهى.
وحديث هذين الصحابيين ذكره البخارى فى صحيحه فى باب «من لم ير الوضوء إلا من المخرجين» بلفظ: ويذكر عن جابر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان فى غزوة «ذات الرقاع» فرمى رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى فى صلاته. وقد وصله ابن إسحاق فى المغازى فقال: حدثنى صدقة بن يسار عن عقيل عن جابر عن أبيه مطولا، وأخرجه أحمد وأبو داود والدار قطنى وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، كلهم من طريق ابن إسحاق. قال فى فتح البارى، وشيخه «صدقة» ثقة، وعقيل- بفتح العين- لا أعرف راويا عنه غير صدقة. ولهذا لم يجزم به البخارى، أو لكونه اختصره، أو للخلاف فى ابن إسحاق. وأخرجه البيهقى فى الدلائل من وجه آخر، وسمى أحدهما: عباد بن بشر الأنصارى، وعمار بن ياسر من المهاجرين، والسورة الكهف.
وإنما قال: (مما سواهما) ولم يقل «ممن» ليعم من يعقل ومن لا يعقل وفى قوله: (وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله للذى خطب فقال: «ومن يعصهما» «بئس
__________
(1) حسن: أخرجه البخارى تعليقا فى الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ووصله أبو داود (198) فى الطهارة، باب: الوضوء من الدم، وأحمد فى «المسند» (3/ 343 و 359) من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/623)
الخطيب أنت» «1» فليس بمن هذا، لأن المراد فى الخطب الإيضاح، وأما هاهنا فالمراد الإيجاز فى اللفظ ليحفظ، ويدل عليه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال فى موضع آخر: «ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه» «2» . وقيل: إنه من قوله تعالى:
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3» فأعاد (أطيعوا) الصوم، فى مقصد عباداته- عليه الصلاة والسلام-.
ومن محاسن الأجوبة فى الجمع بين هذا الحديث وقصة الخطيب، أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم يرتبط بالآخرى، فمن يدعى حب الله مثلا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «4» فأوقع متابعته مكتنفة بين قطرى محبة العباد لله، ومحبة الله للعباد. وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف فى تقدير التكوير، والأصل استقلال كل واحد من المعطوفين فى الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «5» فأعاد (أطيعوا) فى الرسول ولم يعده فى أولى الأمر، لأنهم لا استقلال لهم فى الطاعة كاستقلال الرسول.
انتهى ملخصا من كلام البيضاوى والطيبى، كما فى فتح البارى.
وفى الصحيح: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربّا وبالإسلام دينا،
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (870) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث عدى بن حاتم- رضى الله عنه-.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1097) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، و (2119) فى النكاح، باب: فى خطبة النكاح، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، إلا أن الحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) سورة النساء: 59.
(4) سورة آل عمران: 31.
(5) سورة النساء: 59.(2/624)
وبمحمد رسولا» «1» . قال فى المدارج: فأخبر أن للإيمان طعما، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب. وقد عبر النبى- صلى الله عليه وسلم- عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذوق تارة وبالطعام والشراب أخرى، وبوجدان الحلاوة تارة، كما قال «ذاق» . وقال:
«ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان» «2» ، ولما نهاهم عن الوصال قالوا:
إنك تواصل فقال: «إنى لست كهيئتكم، إنى أطعم وأسقى» «3» وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسى للفم، وسيأتى تحقيق الكلام- إن شاء الله تعالى- فى الصوم، فى مقصد عباداته- عليه الصلاة والسلام-.
والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب تكون نسبته إليه كذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة، كما قال- صلى الله عليه وسلم-:
«حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك» «4» .
وللإيمان طعم وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد، ولا تزول الشبه والشكوك إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحالة، فيباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة، فيذوق طعمه ويجد حلاوته.
وقال العارف الكبير تاج الدين بن عطاء الله: يعنى فى هذا الحديث إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغافلة والهوى تتنعم بملذوذات المعانى كما تتنعم النفوس بملذوذات الأطعمة، وإنما ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربّا لأنه لما رضى بالله ربّا استسلم له وانقاد لحكمه، وألقى قياده إليه،
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (34) فى الإيمان، باب: الدليل على أن من رضى بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد- صلى الله عليه وسلم- رسولا فهو مؤمن، من حديث العباس بن عبد المطلب- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: وقد تقدم قريبا.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1922) فى الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب، ومسلم (1102) في الصيام، باب: النهى عن الوصال فى الصوم، من حديث عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2639) فى الشهادات، باب: شهادة المختبى، ومسلم (1433) فى النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(2/625)
فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض، ولما رضى بالله ربّا كان له الرضى من الله، وإذا كان له الرضى من الله أوجده الله حلاوة ذلك ليعلم ما منّ به عليه، وليعرف إحسانه عليه، ولما سبقت لهذا العبد العناية خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد الله وأنواره عوفى قلبه من الأمراض والأسقام، فكان سليم الإدراك فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته لصحة إدراكه وسلامة ذوقه. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «وبالإسلام دينا» لأنه إذا رضى بالإسلام دينا فقد رضى به المولى، ولازم من رضى بمحمد نبيّا أن يكون له وليّا، وأن يتأدب بادابه ويتخلق بأخلاقه زهدا فى الدنيا وخروجا عنها، وصفحا عن الجناة وعفوا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المتابعة قولا وفعلا، وأخذا وتركا، وحبّا وبغضا، فمن رضى بالله استسلم له، ومن رضى بالإسلام عمل له، ومن رضى بمحمد- صلى الله عليه وسلم- تابعه، ولا يكون واحد منها إلا بكلها، إذ محال أن يرضى بالله ربّا ولا يرضى بالإسلام دينا، أو يرضى بالإسلام دينا ولا يرضى بمحمد نبيّا، وتلازم ذلك بين لا خفاء فيه. انتهى ملخصا.
[أقسام محبة الله تبارك وتعالى]
واعلم أن محبة الله على قسمين: فرض وندب.
فالفرض: المحبة التى تبعث على امتثال الأوامر والانتهاء عن المعاصى،
والرضى بما يقدره، فمن وقع فى معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره فى محبة الله حيث قدم هوى نفسه، والتقصير يكون مع الاسترسال فى المباحات والاستكثار منها فيورث الغافلة المقتضية للتوسع فى الرجاء فيقدم على المعصية، أو تستمر الغافلة فيقع وهذا الثانى يسرع إلى الإقلاع مع الندم.
والندب: أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع فى الشبهات،
والمتصف بذلك فى عموم الأوقات والأحوال نادر.
وفى البخارى من حديث أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال: «ما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضته عليه- وفى رواية: بشىء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه- ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى(2/626)
يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته» «1» .
ويستفاد من قوله: (وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى..) أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى.
[إشكال]
وعلى هذا فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة ولا تنتجها الفرائض؟.
وأجيب:
بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده: أن فى رواية أبى أمامة «ابن آدم، إنك لا تدرك ما عندى إلا بأداء ما افترضته عليك» ، أو يجاب: بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة لا لخوف العقاب على الترك، بخلاف الفرائض، وقال الفاكهانى: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى ذلك إلى محبة الله تعالى.
[إشكال]
وقد استشكل أيضا: كيف يكون البارى جل وعلا «سمع العبد وبصره» إلخ.
وأجيب بأجوبة:
منها: أنه ورد على سبيل التمثيل،
والمعنى: كنت كسمعه وبصره فى إيثاره أمرى، فهو يحب طاعتى ويؤثر خدمتى كما يحب هذه الجوارح.
ومنها: أن المعنى أن كليته مشغولة بى،
فلا يصغى بسمعه إلا إلى ما يرضينى، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.
ومنها: أن المعنى،
كنت له فى النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله فى المعاونة على عدوه.
ومنها: أنه على حذف مضاف،
أى: كنت حافظ سمعه الذى يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصره كذلك إلخ. قال الفاكهانى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6502) فى الرقاق، باب: التواضع.(2/627)
قال: ويحتمل معنى آخر أدق من الذى قبله: وهو: أن يكون بمعنى مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل: فلان أملى، بمعنى:
مأمولى، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكرى ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابى ولا يأنس إلا بمناجاتى، ولا ينظر إلا فى عجائب ملكوتى، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاى، ورجله كذلك.
وقال غيره: اتفق العلماء- ممن يعتد بقولهم- على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه تنزل عنده منزلة الآلات التى يستعين بها، ولهذا وقع فى رواية: «فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى» . قال: والاتحادية زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا.
وقال الخطابى: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء، والنجح فى الطلب، وذلك أن مساعى الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة.
وعن أبى عثمان الجيزى- أحد أئمة الطريق- قال: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه فى الإسماع وعينه فى النظر، ويده فى اللمس ورجله فى المشى. كذا أسنده عنه البيهقى فى «الزهد» «1» .
وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه، من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير فى معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، والموحد لنفسه، والمحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا. وعلى هذه الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة، لقوله فى بقية الحديث (ولئن سألنى) ، زاد فى رواية عبد الواحد (عبدى) . انتهى ملخصا.
قال العلامة ابن القيم: بتضمن هذا الحديث الشريف الإلهى- الذى حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه والمراد به- حصر أسباب
__________
(1) (ص 273) .(2/628)
محبته فى أمرين، أداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله، فإذا صار محبوبا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملك عليه روحه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه ألبتة، فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكا لزمام قلبه، مستوليا على روحه استيلاء المحبوب على محبه الصادق فى محبته التى قد اجتمعت قوى محبه كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه وإن أبصر أبصر به، وإن مشى مشى به، فهو فى قلبه ونفسه، وأنيسه وصاحبه. والباء- هنا- باء المصاحبة، وهى مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية «1» لا علمية محضة.
قال: ولما حصلت الموافقة من العبد لربه فى محابه، حصلت موافقة الرب لعبده فى حوائجه ومطالبه فقال: «ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه» أى كما وافقنى فى مرادى بامتثال أوامرى، والتقرب إلى بمحابى، فأنا أوافقه فى رغبته ورهبته فيما يسألنى أن أفعله به، وفيما يستعذ بى أن يناله. وقوى أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه فى إماتة عبده لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضى أن لا يميته ولكن مصلحته فى إماتته، فإنه ما أماته إلا ليحييه، ولا أمرضه إلا ليصحه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة فى صلب أبيه آدم إلا ليعاد إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، انتهى.
وقال الخطابى: التردد فى حق الله غير جائز، والبداء عليه فى الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان:
أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك فى أيام عمره من داء يصيبه، أو فاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك
__________
(1) حالية: نسبة إلى حال النفس.(2/629)
من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولابد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله، لأن الله تعالى قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه.
والثانى: أن يكون معناه: ما رددت رسلى فى شىء أنا فاعله كترديدى إياهم فى قبض نفس عبدى المؤمن، كما روى فى قصة موسى- عليه الصلاة والسلام-، وما كان من لطمه عين ملك الموت، وتردده إليه مرة بعد أخرى «1» . قال: وحقيقة المعنى- على الوجهين- عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه.؟ وقال الكلاباذى ما حاصله: أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات، يعنى باعتبار متعلقها، أى عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته فى الحياة إلى محبته للموت، فيقبض على ذلك.
قال: وقد يحدث الله تعالى فى قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت، فضلا عن إزالة الكراهة عنه، انتهى.
وبالجملة: فلا حياة للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففى القلب طاقة لا يسدها إلا محبة الله ورسوله ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات.
قال صاحب المدارج: ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية حتى يعرف الله ويهتدى إليه بطرق توصله إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكليته،
__________
(1) هذه القصة أخرجها البخارى (1339) فى الجنائز، باب: من أحب الدفن فى الأرض المقدسة، ومسلم (2372) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/630)
ويزهد فى التعلقات الفانية، ويدأب فى تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارسا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله تعالى، ولا بخطرة فضول لا تنفعه، فيصفو لذلك قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره، كما قال:
وأخرج من بين البيوت لعلنى ... أحدث عنك النفس فى السر خاليا
فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه، فإذا صدق فى ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه وأستاذه ومعلمه وشيخه وقدوته، كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه، فيطالع سيرته ومبادى أموره، وكيفية نزول الوحى عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه وحركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك مما منحه الله تعالى، مما ذكرت بعضه، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه، فإذا رسخ فى قلبه ذلك فتح عليه من ربه بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه المختص به منها، من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجهد فى التخلص منها، كما يجتهد فى تحصيل الشفاء من المرض المخوف.
ولمحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- علامات: أعظمها الاقتداء به، واستعمال سنته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه وسيرته، والوقوف مع ما حدّ لنا من شريعته. قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» فجعل تعالى متابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- آية محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه، وقد قال الحكيم- وهو محمود الوراق- كما أفاده المحاسبى فى كتابه «القصد والرجوع» :
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرى فى القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
__________
(1) سورة آل عمران: 31.(2/631)
وهذه المحبة تنشأ من مطالعة منة الله عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة. ومن أعظم مطالعة منة الله على عبده منة تؤهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه- صلى الله عليه وسلم-، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى فى قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرقت له ذاته، فرأى فى نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن، فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه، لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرح أحدهما الآخر، فوقعت الروح حينئذ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل فى الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وبحسب هذا الاتباع توجب المحبة والمحبوبية معا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن أن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرا وباطنا، وصدقته خبرا، وأطعته أمرا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعا، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم تكن كذلك فلا تتعن، فلست على شىء.
وتأمل قوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» أى الشأن فى أن الله تعالى يحبكم، لا فى أنكم تحبونه، هذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب.
وقال المحاسبى فى كتاب «القصد والرجوع» : وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله، والتمسك بسنن رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه، ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذ يدخل حب الإيمان فى القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده فى اليوم الشديد الحر للظمان الشديد عطشه، فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وسرورا له، وقرة عين فى حقه ونعيما لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجسمانية، فلا يجد فى أوراد العبادة كلفة.
__________
(1) سورة آل عمران: 31.(2/632)
وفى الترمذى عن أنس مرفوعا: (ومن أحيا سنتى فقد أحبنى، ومن أحبنى كان معى فى الجنة) «1» . وعن ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب فى أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه. وقال أبو إسحاق الرقى- من أقران الجنيد-:
علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه- صلى الله عليه وسلم-. وعن غيره: ولا يظهر على أحد شىء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة. فأما من أعرض عن الكتاب والسنة، ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بدعواه علما لدنيّا أوتيه فهو من لدن النفس والشيطان، وإنما يعرف كون العلم لدنيّا روحانيّا بموافقته لما جاء به الرسول عن ربه تعالى، فالعلم اللدنى نوعان:
لدنى رحمانى ولدنى شيطانى، والمحك هو الوحى، ولا وحى بعد الرسول- صلى الله عليه وسلم-.
وأما قصة موسى مع الخضر فالتعلق بها فى تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدنى إلحاد وكفر، يخرج عن الإسلام، موجب لإراقة الدم، والفرق:
أن موسى- عليه السّلام- لم يكن معبوثا إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته، ولو كان مأمورا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه.
ولهذا قال له: أنت موسى نبى بنى إسرائيل؟ قال: نعم «2» ، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس فى كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه.
فمن ادعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليتشهد بشهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى. وإنما هو من أولياء الشيطان وحلفائه ونوابه.
__________
(1) ضعيف: والحديث أخرجه الترمذى (2678) فى العلم، باب: ما جاء فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2380) فى الفضائل، باب: من فضائل الخضر- عليه السّلام-، من حديث أبى بن كعب- رضى الله عنه-، بنحوه.(2/633)
والعلم اللدنى الرحمانى هو ثمرة العبودية والمتابعة لهذا النبى الكريم.
- عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم-، وبه يحصل الفهم فى الكتاب والسنة بأمر يختص به صاحبه كما قال على بن أبى طالب، وقد سئل: هل خصكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشىء دون الناس؟ فقال: لا، إلا فهما يؤتيه الله عبدا فى كتابه. فهذا هو العلم اللدنى الحقيقى. فاتباع هذا النبى الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض النفوس، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين.
ومن علامة محبته: أن يرضى مدعيها بما شرعه، حتى لا يجد فى نفسه حرجا مما قضى. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» ، فسلب اسم الإيمان عن من وجد فى صدره حرجا من قضائه ولم يسلم له.
قال شيخ المحققين وإمام العارفين، تاج الدين بن عطاء الله الشاذلى- أذاقنا الله حلاوة مشربه-: فى هذه الآية دلالة على أن الإيمان الحقيقى لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- على نفسه قولا وفعلا وأخذا وتركا، وحبّا وبغضا، ويشتمل ذلك على حكم التكليف وحكم التعريف، والتسليم والانقياد واجب على كل مؤمن فى كليهما. فأحكام التكليف: الأوامر والنواهى المتعلقة باكتساب العباد. وأحكام التعريف: هو ما أورده عليك من فهم المراد. فتبين من هذا: أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بأمرين: الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره.
ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفى الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد الحرج فى نفسه، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله- صلى الله عليه وسلم- رأفة وعناية وتخصيصا ورعاية، لأنه لم يقل: فلا والرب، وإنما قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «2» ففى ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد
__________
(1) سورة النساء: 65.
(2) سورة النساء: 65.(2/634)
فى القسم، علما منه سبحانه بما النفوس منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة سواء كان الحق عليها أو لها، وفى ذلك إظهار لعنايته برسوله- صلى الله عليه وسلم-، إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه، والانقياد لأمره، ولم يقبل منهم الإيمان بإلهية حتى يذعنوا لأحكام رسوله- صلى الله عليه وسلم-، لأنه كما وصفه به ربه وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» ، فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «2» وأكد ذلك بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «3» .
وفى الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره، وتفخيم أمره- صلى الله عليه وسلم- وهى قوله تعالى: وَرَبِّكَ «4» فأضاف نفسه إليه، كما قال فى الآية الآخرى:
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا «5» فأضاف الحق سبحانه نفسه إلى محمد، وأضاف زكريا إليه ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين وتفاوت ما بين الرتبتين.
ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم الظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج- وهو الضيق- من نفوسهم فى أحكامه- صلى الله عليه وسلم-، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار، ووجود الأغيار، فعنه يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك، إن نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيأة لواردات أحكامه مفوضة له فى نقضه وإبرامه. انتهى.
وقال سهل بن عبد الله: من لم ير ولاية الرسول عليه فى جميع
__________
(1) سورة النجم: 3، 4.
(2) سورة الفتح: 10.
(3) سورة الفتح: 10.
(4) سورة النساء: 65.
(5) سورة مريم: 1، 2.(2/635)
الأحوال، ويرى نفسه فى ملكه لم يذق حلاوة سنته، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» «1» . وروينا عن سيدنا العارف الكبير أبى عبد الله القرشى أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شىء. انتهى. فمن آثر هذا النبى الكريم على نفسه، كشف الله له عن حضرة قدسه، ومن كان معه بلا اختيار ظهرت له خفايا حقائق أسرار أنسه.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- نصر دينه بالقول والفعل، والذب عن شريعته، والتخلق بأخلاقه فى الجود والإيثار، والحلم والصبر والتواضع وغيرها، مما ذكرته فى أخلاقه العظيمة، وتقدم فى كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبا. فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ بالطاعات، وتحمل المشاق فى الدين، وآثر ذلك على أغراض الدنيا.
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلى حرقة الشجى، فتنوع المدعون فى الشهود، فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» ، فتأخر أكثرهم وثبت أتباع الحبيب فى أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة، بتزكية يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ «3» . فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ»
، فلما عرفوا عظمة ذلك المشترى وفضل الثمن وجلالة من أجرى على يده عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنا عظيما، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) سورة آل عمران: 31.
(3) سورة المائدة: 54.
(4) سورة التوبة: 111.(2/636)
بالتراضى، من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم؛ قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا، رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معها وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» .
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- التسلى عن المصائب، فإن المحب يجد فى هذه المحبة ما ينسيه المصائب، ولا يجد فى مسها ما يجد غيره، حتى كأنه قد اكتسى طبيعة ثانية ليست طبيعة الخلق، بل يقوى سلطان المحبة حتى يلتذ بكثير من المصائب أعظم من التذاذ الخلى بحظوظه وشهواته، والذوق والوجود شاهد بذلك. فكرب المحبة موجود ممزوج بالحلاوة فإن فقد تلك الحلاوة اشتاق إلى ذلك الكرب كما قيل:
تشكى المحبون الصبابة ليتنى ... نحلت بما يلقون من بينهم وحدى
فكانت لقلبى لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلى محب ولا بعدى
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- كثرة ذكره، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره. ولبعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، ولآخر: ذكر المحبوب على عدد الأنفاس. ولغيره: للمحب ثلاث علامات: أن يكون كلامه ذكر المحبوب، وصمته فكرا فيه، وعمله طاعة له. وقال المحاسبى: علامة المحبين كثرة الذكر للمحبوب على طريق الدوام، لا ينقطعون ولا يملون ولا يفترون، وقد أجمع الحكماء على أن من أحب شيئا أكثر من ذكره، فذكر المحبوب هو الغالب على قلوب المحبين لا يريدون به بدلا ولا يبغون عنه حولا، ولو قطعوا عن ذكر محبوبهم لفسد عيشهم، وما تلذذ المتلذذون بشىء ألذ من ذكر المحبوب. انتهى.
فالمحبون قد اشتغلت قلوبهم بلزوم ذكر المحبوب عن اللذات، وانقطعت أوهامهم عن عارض دواعى الشهوات، ورقت إلى معادن الذخائر وبغية
__________
(1) سورة آل عمران: 169، 170.(2/637)
الطلبات، وربما تزايد وجد المحب، وهاج الحنين وباح الأنين، وتحركت المواجيد، وتغير اللون، واستبسلت الجوارح، وفتر البدن واقشعر الجلد، وربما صاح، وربما بكى، وربما شهق وربما وله وربما سقط، ولسيدى محمد وفا:
إذا أباح دم المهجور هاجره ... باح المحب بما تخفى ضمائره
أيكتم الحب صب باح مدمعه ... لما جرى بالذى تخفى سرائره
كأنما قلبه أجفان مقلته ... ودمعه فى أماقيه خواطره
يا جيرة الجزع هل من جيرة لفتى ... عليه فى حكمه قد جار جائره
آه وكم لى على خطب الهوى خطب ... من الغرام به تعلو منابره
مهفهف أبلج بدر على غصن ... تخفى البدور إذا لاحت بوادره
مطرز الخد بالريحان فى ضرج ... مورد آسه تزهو أزاهره
مكحل الخلق ما تحصى خصائصه ... منضر الحسن قد قلت نظائره
وربما زاد الوجد على المحب فقتله. أول نقد أثمان المحبة بذل الروح، فما للمفلس الجبان وسومها؟! بدم المحب يباع وصلهم، تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فينفقها بالنسيئة المعسرون، لقد أسيمت للعرض فى سوق من يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنا فدارت السلعة بينهم ووقعت فى يد أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «1» .
فذكره- صلى الله عليه وسلم- جلاء قلوبنا، وشفاء صدورنا، وحلاوة ألسنتنا فى جميع الحالات، على اختلاف الأوقات والساعات، يتشرّف بذكره فى جميع العبادات، وفى الجمع والجماعات، والخطب والصلوات، وسائر التقلبات والتصرفات، حتى فى المعاطاة والمبايعات، وعقود المصالحات، واستفتاح المعاقدات والمعاهدات، وخصوصا عند الأذكار والدعوات، فإن بها ولوجها فى أبواب الإجابات.
__________
(1) سورة المائدة: 54.(2/638)
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- تعظيمه عند ذكره، وإظهار الخشوع والخضوع والانكسار مع سماع اسمه، فكل من أحب شيئا خضع له، كما كان كثير من الصحابة بعده إذا ذكروه خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كان كثير من التابعين فمن بعدهم يفعلون ذلك محبة وشوقا وتهيبا وتوقيرا. قال أبو إبراهيم التجيبى. واجب على كل مؤمن متى ذكره، أو ذكر عنده، أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته، ويأخذ فى هيبته وإجلاله، بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ويتأدب بما أدبنا الله به.
وكان أيوب السختيانى إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى نرحمه. وكان جعفر بن محمد كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- اصفر لونه.
وكان عبد الرحمن بن القاسم إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى لونه كأنه قد نزف منه الدم، وقد جف لسانه فى فمه هيبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وكان عبد الله بن الزبير إذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى فى عينيه دموع.
وكان الزهرى من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم- فكأنك ما عرفته ولا عرفك. وكان صفوان بن سليم من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم- بكى، فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
وكان قتادة إذا سمع الحديث، أخذه البكاء والعويل والزويل. أشار إلى ذلك القاضى عياض. ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- كثرة الشوق إلى لقائه، إذ كل حبيب يحب لقاء حبيبه. ولبعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وعن معروف الكرخى: المحبة ارتياح الذات لمشاهدة الصفات، أو مشاهدة أسرار الصفات، فيرى بلوغ السؤل ولو بمشاهدة الرسول. ولهذا كانت الصحابة- رضى الله عنهم- إذا اشتد بهم الشوق وأزعجتهم لواعج المحبة قصدوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتفوا بمشاهدته، وتلذذوا بالجلوس معه والنظر إليه والتبرك به- صلى الله عليه وسلم-.
وعن عبدة بنت خالد بن معدان: ما كان خالد يأوى إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار(2/639)
يسميهم ويقول: هم أصلى وفصلى، وإليهم يحن قلبى، طال شوقى إليهم، فعجل رب قبضى إليك حتى يغلبه النوم. ولما احتضر بلال نادت امرأته، وا كرباه فقال: وا طرباه، غدا ألقى الأحبة، محمدا وصحبه. إذا ذاق المحب طعم المحبة اشتاق وتأججت نيران الحب والطلب فى قلبه، ويجد الصبر عن محبوبه من أعظم كبائره كما قيل:
والصبر يحمد فى المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمد
وعن زيد بن أسلم: خرج عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- ليلة يحرس فرأى مصباحا فى بيت فإذا عجوز تنفش صوفا وتقول:
على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكاء بالأسحار ... يا ليت شعرى والمنايا أطوار
هل تجمعنى وحبيبى الدار
تعنى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فجلس عمر يبكى، ثم قام إلى باب خيمتها فقال:
السلام عليكم، ثلاث مرات فقال لها: أعيدى على قولك، فأعادته بصوت حزين، فبكى وقال لها: وعمر لا تنسينه يرحمك الله، فقالت: وعمر فاغفر له يا غفار.
ويحكى أنه رؤيت امرأة مسرفة على نفسها، بعد موتها، فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لى، قيل: بماذا؟ قالت: بمحبتى للنبى- صلى الله عليه وسلم- وشهوتى النظر إليه، فنوديت: من اشتهى النظر إلى حبيبنا فنستحى أن نذله بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- حب القرآن الذى أتى به، واهتدى به وتخلق به، وإذا أردت أن تعرف ما عندك وعند غيرك من محبة الله ورسوله فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهى والغناء المطرب بسماعهم، فإنه من المعلوم أن من أحب محبوبا كان كلامه وحديثه أحب شىء إليه، كما قيل:(2/640)
إن كنت تزعم حبى ... فلم هجرت كتابى
أما تأملت ما في ... هـ من لذيذ خطابى
ويروى أن عثمان بن عفان قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله وكيف يشبع المحب من كلام محبوبه وهو غاية مطلوبه. قال النبى- صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن مسعود: «اقرأ على» قال: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟
فقال: «إنى أحب أن أسمعه من غيرى» . فاستفتح وقرأ سورة النساء حتى بلغ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» قال:
«حسبك» ، فرفع رأسه فإذا عينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تذرفان من البكاء «2» .
رواه البخارى.
وهذا يجده من سمع الكتاب العزيز بأذن قلبه، قال الله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ «3» . قال صاحب «عوارف المعارف» - أذاقنا الله حلاوة مشربه-: هذا السماع هو السماع الحق، الذى لا يختلف فيه اثنان من أهل الإيمان، محكوم لصاحبه بالهداية، وهذا سماع ترد حرارته على برد اليقين، فتفيض العين بالدمع، لأنه تارة يثير حزنا، والحزن حار، وتارة يثير شوقا، والشوق حار، وتارة يورث ندما، والندم حار، فإذا أثار السماع هذه الصفات، من صاحب قلب مملوء ببرد اليقين بكى وأبكى، لأن الحرارة والبرودة إذا اضطربتا عصرتا ماء، فإذا ألمّ السماع بالقلب تارة يخف إلمامه فيظهر أثره فى الجسد ويقشعر منه الجلد، قال الله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ «4» ، وتارة يعظم وقعه ويتصوب أثره- أى يقصد- نحو الدماغ فتندفق منه العين بالدمع،
__________
(1) سورة النساء: 41.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4582) فى التفسير، باب: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، ومسلم (800) فى صلاة المسافرين، باب: فضل استماع القرآن.
(3) سورة المائدة: 83.
(4) سورة الزمر: 23.(2/641)
وتارة يتصوب أثره إلى الروح، فتموج منه الروح موجا، ويكاد يضيق عنه نطاق القالب، فيكون من ذلك الصياح والاضطراب، وهذه كلها أحوال يجدها أربابها من أصحاب الأحوال.
وقد كان ابن عمر، - رضى الله عنهما-، ربما مر باية فى ورده فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضا.
وقد كان الصحابة إذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى الأشعرى يقولون: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون.
فلمحبى السماع القرآنى من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور أضعاف ما لمحبى السماع الشيطانى، فإذا رأيت الرجل ذوقه ووجده وطربه ونشأته فى سماع الأبيات دون سماع الآيات، وفى سماع الألحان دون سماع القرآن كما قيل: نقرأ عليك الختمة وأنت جامد كالحجر، وبيت من الشعر ينشد تميل كالنشوانى، فاعلم أن هذا من أقوى الأدلة على فراغ قلبه من محبة الله ورسوله، أدام الله لنا حلاوة محبته، ولا سلك بنا فى غير سبيل سنته، بمنه ورحمته.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- محبة سنته، وقراءة حديثه، فإن من دخلت حلاوة الإيمان فى قلبه إذا سمع كلمة من كلام الله تعالى، أو من حديث رسوله- صلى الله عليه وسلم- تشربتها روحه وقلبه ونفسه، ويقول:
أشم منك نسيما لست أعرفه ... أظن لمياء جرت فيك أردانا
فتعمه تلك الكلمة وتشمله، فتصير كل شعرة منه سمعا، وكل ذرة منه بصرا، فيسمع الكل بالكل ويبصر الكل بالكل ويقول:
لى حبيب خياله نصب عينى ... سره فى ضمائرى مدفون
إن تذكرته فكلى قلوب ... أو تأملته فكلى عيون
فحينئذ يستنير قلبه، ويشرق سره، وتتلاطم عليه أمواج التحقيق عند ظهور البراهين، ويرتوى برى عطف محبوبه، الذى لا شىء أروى لقلبه من(2/642)
عطفه عليه، ولا شىء أشد للهيبه وحريقه من إعراضه عنه، ولهذا كان عذاب أهل النار باحتجاب ربهم عنهم أشد عليهم من العذاب الجسمانى، كما أن نعيم أهل الجنة برؤيته تعالى وسماع خطابه ورضاه وإقباله أعظم من النعيم الجسمانى، لا حرمنا الله ذوق حلاوة هذا المشرب.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- أن يلتذ محبه بذكره الشريف ويطرب عند سماع اسمه المنيف، وقد يوجب له ذلك سكرا يستغرق قلبه وروحه وسمعه.
وسبب هذا السكر اللذة القاهرة للعقل، وسبب اللذة إدراك المحبوب- صلى الله عليه وسلم-، فإذا كانت المحبة قوية وإدراك هذا المحبوب قويّا كانت اللذة بإدراكه تابعة لقوة هذين الأمرين. فإن كان العقل قويّا مستحكما لم يتغير لذلك، وإن كان ضعيفا حدث السكر المخرج له عن حكمه. وقد حدوا السكر بأنه: سقوط التمالك فى الطرب، كأنه يبقى فى السكران بقية يلتذ بها ويطرب، فلا يتمالك صاحبها، ولا يقدر أن يفنى معها.
وقد يكون سبب السكر قوة الفرح بإدراك المحبوب، بحيث يختلط كلامه وتتغير أفعاله، بحيث يزول عقله ويعربد أعظم من عربدة شارب الخمر. وربما قتله سكر هذا الفرح بسبب طبيعى، وهو انبساط دم القلب وهلة واحدة انبساطا غير معتاد، والدم هو حائل الحار الغريزى، فيبرد القلب بسبب انبساط الدم عنه فيحدث الموت.
ومن هذا قول سكران الفرح- بوجود راحلته فى المفازة بعد أن استشعر الموت-: اللهم أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة فرحه «1» ، وسكرة الفرح فوق سكرة الشراب فصور فى نفسك حال فقير معدم، عاشق للدنيا أشد العشق، ظفر بكنز عظيم، فاستولى عليه آمنا مطمئنا، كيف تكون سكرته؟ أو
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2747) فى التوبة، باب: فى الحض على التوبة والفرح بها، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أن فى استخدام مصطلحات السكر شىء لا يستحب لارتباطه بالخمر التى حرمها الله عز وجل، والأولى استخدام ألفاظ أخرى تناسب مقام العبودية، والله الموفق إلى الصواب.(2/643)
من غاب عنه غلامه بمال عظيم مدة سنين، حتى أضرّ به العدم، فقدم عليه من غير انتظار له بماله كله، وقد كسب أضعافه، كيف تكون سكرته؟
ومن أقوى أسباب ما نحن فيه سماع الأصوات المطربة بالإنشادات بالصفات النبوية المغربة المعربة إذا صادفت محلّا قابلا فلا تسأل عن سكرة السامع، وهذا السكر يحدث عندها من جهتين: إحداهما أنها فى نفسها توجب لذة قوية ينغمر منها العقل، الثانية: أنها تحرك النفس إلى نحو محبوبها وجهته، فتحصل بتلك الحركة والشوق والطلب مع التخيل للمحبوب وإحضاره فى النفس، وإدناء صورته إلى القلب واستيلائها على الفكرة لذة عظيمة تغمر القلب، فتجتمع لذة الألحان ولذة الأشجان، فتسكر الروح سكرا عجيبا أطيب وألذ من سكر الشراب، وتحصل له به نشأة ألذ من نشأة الشراب.
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره: أن الله تعالى يقول لداود: مجدنى بذلك الصوت الذى كنت تمجدنى به فى الدنيا، فيقول: كيف وقد أذهبته فيقول: أنا أرده عليك، فيقوم عند ساق العرش ويمجده، فإذا سمع أهل الجنة صوته استفرغ نعيم أهل الجنة. وأعظم من ذلك: إذا سمعوا كلام الرب جل جلاله وخطابه لهم، فإذا انضاف إلى ذلك رؤية وجهه الكريم الذى يغنيهم لذة رؤيته عن رؤية الجنة ونعيمها، فأمر لا تدركه العبارة ولا تحيط به الإشارة، وهذه صفة لا تلج كل أذن، وصيب لا تحيا به كل أرض، وعين لا يشرب منها كل وارد، وسماع لا يطرب عليه كل سامع، ومائدة لا يجلس عليها كل طفيلى، أشار إليه فى المدارج.
فمن اتصف بهذه العلامات التى ذكرتها فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالف بعضها فهو ناقص المحبة، ولا يخرج عن اسمها بدليل قوله- صلى الله عليه وسلم- للذى حده فى الخمر- لما لعنه بعضهم وقال: ما أكثر ما يؤتى به- فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» «1» ، فيخبر أنه يحب الله
__________
(1) مرسل: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (3552 و 17082) عن زيد بن أسلم مرسلا.(2/644)
ورسوله مع وجود ما صدر عنه. وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، لثبوت النهى عن لعنه، وثبوت الأمر بالدعاء له. وفيه أنه لا تنافى بين ارتكاب النهى وثبوت محبة الله ورسوله فى قلب المرتكب، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله. ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله فى قلب العاصى مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية، أو إذا أقيم عليه الحد، فكفر عن ذنبه المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى بتكرار الذنب أن ينطبع على قلبه حتى يسلب منه ذلك الحب، نسأل الله العفو والثبات على محبته وسلوك سنته برحمته ومنّه.
تنبيه: قد اختلف العلماء، أيما أرفع درجة المحبة أو درجة الخلة؟
فحكى القاضى عياض: أن بعضهم جعلهما سواء، فلا يكون الحبيب إلا خليلا، ولا الخليل إلا حبيبا، لكنه خص إبراهيم بالخلة ومحمدا- صلى الله عليه وسلم- بالمحبة، وقال بعضهم: درجة الخلة أرفع واحتج بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر» «1» فلم يتخذه وقد أطلق المحبة لفاطمة وابنيها وأسامة. انتهى.
وهذا هو الظاهر من المعنى الأخص، لأن المحبة مأخوذة من معنى الخلة، لكن يرد ما روى فى قصة الإسراء فى مناجاته- صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى حيث قال له تعالى: يا محمد سل، فقال: يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمات موسى تكليما، فقال له تعالى: ألم أعطك خيرا من هذا.
إلى قوله: واتخذتك حبيبا، أو ما فى معناه، رواه البيهقى. بنحوه، وهذا يعطى أن درجة المحبة أرفع.
[فروق بين المحبة والخلة]
وقد احتج من قال بتفضيل مقام المحبة على الخلة بفروق كثيرة، ذكر القاضى عياض فى الشفاء منها نقلا عن الإمام أبى بكر بن فورك عن بعض المتكلمين نبذة:
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (467) فى المساجد، باب: الخوخة والممر فى المسجد، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(2/645)
منها:
أن الخليل يصل بالواسطة، من قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» ، والحبيب يصل إليه به، من قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» .
ومنها:
أن الخليل قال: وَلا تُخْزِنِي «3» ، والحبيب قيل له: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ «4» .
ومنها:
أن الخليل قال فى المحنة: حَسْبِيَ اللَّهُ «5» والحبيب قيل له:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ «6» .
ومنها:
أن الخليل هو الذى تكون مغفرته فى حد الطمع، من قوله:
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «7» ، والحبيب الذى مغفرته فى حد اليقين، من قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «8» .
وفى كتابى: «تحفة السامع والقارى بختم حجج البخارى» وجوه أخر غير ما حكاه القاضى عياض.
[مناقشة المؤلف للفروق بين المحبة والخلة]
وفى كلها نظر واضح كما بينته فى حاشية الشفاء، وذلك أن مقتضى الفرق بين الشيئين أن يكون فى حد ذاتيهما، يعنى باعتبار مدلولى «خليل» و «حبيب» وما حكاه القاضى عياض، وذكرته فى التحفة، يقتضى تفضيل ذات محمد- صلى الله عليه وسلم- ذات إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-. لا يقال باعتبار ثبوت وصف الخلة له فيلزم ذلك. لأنا نقول: كل منهما ثابت له وصف الخلة والمحبة. إذ لا يسلب عن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- وصف المحبة
__________
(1) سورة الأنعام: 75.
(2) سورة النجم: 9.
(3) سورة الشعراء: 87.
(4) سورة التحريم: 8.
(5) سورة الزمر: 38، وسورة التوبة: 129.
(6) سورة الأنفال: 64.
(7) سورة الشعراء: 82.
(8) سورة الفتح: 2.(2/646)
لا سيما والخلة أخص من المحبة، ولا يسلب عن نبينا- صلى الله عليه وسلم- وصف الخلة لا سيما وقد ثبت فى حديث أبى هريرة قول الله تعالى له: (إنى اتخذتك خليلا) «1» . وقد قام الإجماع على فضل نبينا- صلى الله عليه وسلم- على جميع الأنبياء، بل هو أفضل خلق الله تعالى مطلقا.
أما قوله: إن الخليل يصل بالواسطة فلا يفيد غرضا فى هذا المقام الذى هو بصدده، وليس المراد به قطعا إلا الوصول إلى المعرفة، إذ الوصول الحسى يمتنع على الله تعالى.
وأما قوله: والحبيب يصل إليه به، فالوصول إلى الله تعالى لا يكون إلا به حبيبا كان أو خليلا. وأما قوله: الخليل هو الذى تكون مغفرته فى حد الطمع إلخ ... فإنه لا يصح أن يكون على جهة التفسير للخليل، ولا تعلق له بمعناه. وقصارى ما ذكره: أنه يعطى تفضيل نبينا- صلى الله عليه وسلم- على إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- فى حد ذاته من غير نظر إلى ما جعله علة معنوية فى ذلك من وصف المحبة والخلة. والحق: أن الخلة أعلى وأكمل وأفضل من المحبة.
قال ابن القيم: وأما ما يظنه بعض الغالطين أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله ومحمدا حبيب الله فمن جهله. فإن المحبة عامة والخلة خاصة والخلة نهاية المحبة. قال: وقد أخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن الله اتخذه خليلا، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم. وأيضا فإنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين ويحب المحسنين ويحب المتقين ويحب المقسطين، وخلته خاصة بالخليلين. قال: وإنما هذا من قلة العلم والفهم عن الله ورسوله.
انتهى.
وقال الشيخ بدر الدين الزركشى فى شرحه لبردة الأبوصيرى: وزعم بعضهم أن المحبة أفضل من الخلة وقال: محمد حبيب الله وإبراهيم خليل
__________
(1) تقدم.(2/647)
الله. وضعف: بأن الخلة خاصة، وهو توحيد المحبة، والمحبة عامة، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ «1» قال: وقد صح أن الله اتخذ نبينا خليلا فقال: إن الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. انتهى.
تنبيه:
والخليل مشتق من الخلة- بالفتح- وهى الحاجة، أو الخلة- بالضم- وهى المودة الحاصلة، أو من الخلل، قال ثعلب سمى خليلا لأن مودته تتخلل القلب، وأنشد:
قد تخللت مسلك الروح منى ... وبدا سمى الخليل خليلا
وقال الراغب: الخلة- بالفتح-: الاختلال العارض للنفس، إما لشهرتها بشىء أو لحاجتها إليه، ولهذا فسّر الخلة بالحاجة، والخلة- بالضم- إما لأنها تتخلل النفس أو تتوسطها، وإما لأنها تخل النفس فتؤثر فيها تأثير السهم فى الرمية، وإما لفرط الحاجة إليها.
الفصل الثانى فى حكم الصلاة عليه والتسليم فريضة وسنة وفضيلة وصفة ومحلّا
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «2» . قال أبو العالية: معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه عند الملائكة، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء.
قال فى فتح البارى: وهذا أولى الأقوال، فيكون معنى صلاة الله تعالى عليه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة. وعن ابن عباس: أن معنى صلاة الملائكة الدعاء بالبركة. وروى ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حيان قال:
صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار.
__________
(1) سورة البقرة: 222.
(2) سورة الأحزاب: 56.(2/648)
وقال الضحاك بن مزاحم: صلاة الله رحمته، وفى رواية عنه: مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء. أخرجهما إسماعيل القاضى عنه، وكأنه يريد الدعاء بالمغفرة ونحوها. وقال المبرد: الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة رقة تبعث على استدعاء الرحمة.
وتعقب: بأنه الله غاير بين الصلاة والرحمة فى قوله سبحانه وتعالى:
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ «1» ، ولذلك فهم الصحابة المغايرة من قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «2» حتى سألوه عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر «الرحمة» فى تعليم السلام، حيث جاء بلفظ: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، وأقرهم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم، قد علمتم ذلك فى السلام. وجوز الحليمى أن تكون الصلاة بمعنى السلام عليه، وفيه نظر. وقيل: صلاة الله على خلقه تكون خاصة وتكون عامة، فصلاته على أنبيائه هى ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم الرحمة، فهى التى وسعت كل شىء.
وحكى القاضى عياض: عن بكر القشيرى أنه قال: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- من الله تشريف وزيادة تكرمة، وعلى من دون النبى رحمة. وبهذا يظهر الفرق بين النبى- صلى الله عليه وسلم- وبين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى فى سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «3» ، وقال قبل ذلك فى السورة المذكورة: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ «4» ، ومن المعلوم أن القدر الذى يليق بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من ذلك أرفع مما يليق بغيره. والإجماع منعقد على أن فى هذه الآية من تعظيم النبى- صلى الله عليه وسلم- والتنويه به ما ليس فى غيرها.
وقال الحليمى فى «الشعب» ، معنى الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صل على محمد، عظم محمدا، والمراد تعظيمه فى الدنيا
__________
(1) سورة البقرة: 157.
(2) سورة الأحزاب: 56.
(3) سورة الأحزاب: 56.
(4) سورة الأحزاب: 43.(2/649)
بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفى الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه فى أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى:
صَلُّوا عَلَيْهِ «1» ادعوا ربكم بالصلاة عليه. انتهى. ولا يعكر عليه عطف آله وأزواجه وذريته عليه، فإنه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتعظيم إذ تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به.
وما تقدم عن أبى العالية أظهر، فإنه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى الله تعالى، وإلى ملائكته وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد، ويؤيده أنه لا خلاف فى جواز الترحم على غير الأنبياء: واختلف فى جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كان معنى قولنا: اللهم صل على محمد: ارحم محمدا، أو ترحم على محمد، جاز لغير الأنبياء، وكذا لو كان بمعنى البركة، وكذلك الرحمة، لسقط الوجوب فى التشهد عند من يوجبه بقول المصلى فى التشهد: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته.
ويمكن الانفصال عنه بأن ذلك وقع بطريق التعبد فلابد من الإتيان به، ولو سبق الإتيان بما يدل عليه.
[سؤال]
فإن قلت: فى أى وقت وقع الأمر بالصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم-؟
فالجواب-
كما قال أبو ذر الهروى-: أنه وقع فى السنة الثانية من الهجرة، وقيل ليلة الإسراء، وقيل: إن شهر شعبان شهر الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لأن آية الصلاة- يعنى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» نزلت فيه. والله أعلم.
قال الحليمى: والمقصود بالصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- التقرب إلى الله تعالى بامتثال أمره تعالى، وقضاء حق النبى- صلى الله عليه وسلم- علينا. وتبعه ابن عبد السلام، فقال فى الباب الثامن من كتابه المسمى «بشجرة المعارف» : ليست صلاتنا على النبى- صلى الله عليه وسلم- شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من
__________
(1) سورة الأحزاب: 56.
(2) سورة الأحزاب: 56.(2/650)
أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله- لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا- إلى الصلاة عليه. وذكر نحوه عن الشيخ أبى محمد المرجانى. وقال ابن العربى: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذى يصلى عليه، لدلالة ذلك على نصوح العقيدة وخلوص النية، وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة- صلى الله عليه وسلم-.
[حكم الصلاة على النبي ص]
واختلف فى حكم الصلاة عليه- صلوات الله وسلامه عليه- على أقوال:
أحدها: أنها تجب فى الجملة
بغير حصر، لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة.
الثانى: يجب الإكثار منها، من غير تقييد بعدد،
قاله القاضى أبو بكر ابن بكير من المالكية، وعبارته- كما قاله القاضى عياض-: افترض الله تعالى على خلقه أن يصلوا على نبيه- صلى الله عليه وسلم- ويسلموا تسليما، ولم يجعل ذلك لوقت معلوم، فالواجب أن يكثر المرء منها ولا يغافل عنها.
الثالث: تجب كل ما ذكر،
قاله الطحاوى وجماعة من الحنفية، والحليمى، وجماعة من الشافعية، وقال ابن العربى: إنه الأحوط، وكذا قاله الزمخشرى. واستدلوا لذلك بحديث: (من ذكرت عنده فلم يصل على فمات فدخل النار فأبعده الله) «1» أخرجه ابن حبان من حديث أبى هريرة.
وحديث: (رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل على) «2» رواه الترمذى من حديث أبى هريرة، وصححه الحاكم. وحديث: (شقى عبد ذكرت عنده فلم يصل على) «3» أخرجه الطبرانى من حديث جابر: لأن الدعاء: ب «الرغم
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (409) من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-، و (907) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3545) فى الدعوات، باب: قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «رغم أنف رجل» ، وأحمد فى «المسند» (2/ 254) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (2/ 246) .(2/651)
والإبعاد والشقاء» يقتضى الوعيد، والوعيد على الترك من علامات الوجوب.
ومن حيث المعنى: إن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه، وإحسانه مستمر، فتتأكد إذا ذكر.
واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «1» فلو كان إذا ذكر لا يصلى عليه كان كاحاد الناس وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة، منها:
أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين، فهو مخترع. ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن أن يصلى عليه، وكذا سامعه، وللزم القارئ إذا مر باية فيها ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى القرآن، وللزم الداخل فى الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ولكان فى ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السمحة المطهرة بخلافه، ولكان الثناء على الله تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب، ولم يقولوا به.
وقد أطلق القدورى وغيره من الحنفية: أن القول بوجوب الصلاة كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله، لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لما تفرغ لعبادة أخرى.
وأجابوا عن الأحاديث: بأنها خرجت مخرج المبالغة فى تأكيد ذلك وطلبه، وفى حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا. وبالجملة: فلا دلالة على تكرر وجوب ذلك بتكرر ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى المجلس الواحد، انتهى ملخصا، والله أعلم.
الرابع: فى كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا.
حكاه الزمخشرى.
الخامس: فى كل دعاء،
حكاه أيضا.
السادس: أنها من المستحبات،
وهو قول ابن جرير الطبرى، وادعى
__________
(1) سورة النور: 63.(2/652)
الإجماع على ذلك، واحتج على ذلك مع ورود صيغة الأمر بذلك، بالاتفاق من جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، أن ذلك غير مستلزم فرضيتها حتى يكون تارك ذلك عاصيا، فدل على أن الأمر فيه للندب، ويحصل الامتثال لمن قاله ولو كان خارج الصلاة.
قال فى فتح البارى: وما ادعاه من الإجماع معارض بدعوى غيره الإجماع على مشروعية ذلك فى الصلاة، إما بطريق الوجوب، وإما بطريق الندب، ولا يعرف عن- السلف لذلك مخالف، إلا ما أخرجه ابن أبى شيبة والطبرانى عن إبراهيم النخعى أنه كان يرى أن قول المصلى فى التشهد:
السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته مجزئ عن الصلاة، ومع ذلك:
إنما ادعى إجزاء السلام عن الصلاة.
السابع: تجب فى العمر مرة
فى الصلاة أو غيرها، ككلمة التوحيد، قاله أبو بكر الرازى من الحنفية.
الثامن: تجب فى الصلاة من غير تعيين المحل،
ونقل ذلك عن أبى جعفر الباقر.
التاسع: تجب فى التشهد،
وهو قول الشعبى وإسحاق بن راهواه.
العاشر: تجب فى القعود آخر الصلاة، بين قول التشهد وسلام التحلل،
قاله الشافعى ومن تبعه. واستدل لذلك بما رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذى وابن خزيمة والحاكم عن أبى مسعود البدرى: أنهم قالوا يا رسول الله: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلى عليك إذا نحن صلينا عليك فى صلاتنا فقال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» الحديث «1» . ومعنى قولهم: أما السلام عليك فقد عرفنا، هو الذى فى
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (405) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، وأبو داود (980) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، والترمذى (3220) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، والنسائى (3/ 45) فى السهو، باب: الأمر بالصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (4/ 118 و 273 و 274) .(2/653)
التشهد، الذى كان قد علمهم إياه كما يعلمهم السورة من القرآن. وفيه:
السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، ورواه الشافعى فى مسنده عن أبى هريرة بمثله. وقد احتج بهذه الزيادة جماعة من الشافعية، منهم ابن خزيمة، والبيهقى، لإيجاب الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد وقبل السلام.
[استدلال الشافعي على وجوب الصلاة على النبي ص]
وقال الشافعى فى الأم: فرض الله الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»
ولم يكن فرض الصلاة عليه فى موضع أولى منه فى الصلاة، ووجدنا الدلالة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنا صفوان بن سليم عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة أنه قال: يا رسول الله، كيف نصلى عليك- يعنى فى الصلاة- قال: «تقولون اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم» الحديث «2» . أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنى سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن كعب بن عجرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول فى الصلاة: «اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» الحديث «3» .
قال الشافعى: فلما روى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم التشهد فى الصلاة، وروى أنه علمهم كيف يصلون عليه فى الصلاة، لم يجز أن نقول:
التشهد فى الصلاة واجب والصلاة فيه غير واجبة «4» .
[تعقيب هذا الاستدلال]
وقد تعقب بعض المخالفين هذا الاستدلال من أوجه:
أحدها: ضعف إبراهيم بن محمد بن أبى يحيى،
والكلام فيه مشهور.
__________
(1) سورة الأحزاب: 56.
(2) أخرجه الشافعى فى «الأم» (1/ 117) .
(3) صحيح: أخرجه الشافعى فى «الأم» (1/ 117) ، وهو عند البخارى (3370) فى أحاديث الأنبياء، باب: رقم (10) ، ومسلم (406) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد.
(4) قاله الشافعى فى «الأم» (1/ 117) .(2/654)
الثانى: على تقدير صحته فقوله فى الأول: يعنى فى الصلاة،
لم يصرح بالقائل «يعنى» .
الثالث: قوله فى الثانى: «أنه كان يقول فى الصلاة»
وإن كان ظاهره أن المراد الصلاة المكتوبة، لكنه يحتمل أن يكون المراد بقوله فى الصلاة، أى فى صفة الصلاة عليه، وهو احتمال قوى، لأن أكثر الطرق عن كعب بن عجرة يدل على أن السؤال وقع عن صفة الصلاة لا عن محلها.
الرابع: ليس فى الحديث ما يدل على تعيين ذلك فى التشهد،
خصوصا بينه وبين السلام. وقد أطنب قوم من متأخرى المالكية وغيرهم فى التشنيع على الشافعى فى اشتراطه ذلك فى الصلاة وزعم أنه تفرد بذلك.
وحكى الإجماع على خلافه جماعة، منهم أبو جعفر الطبرى والطحاوى وابن المنذر والخطابى.
وحكى القاضى عياض فى الشفاء مقالاتهم. وقد عاب عليه غير واحد، وقالوا: كان ينبغى سكوته عنها، لأن مبنى تأليفه «الشفاء» على كمال المبالغة فى تعظيمه- صلى الله عليه وسلم-، وأداء حقوقه، والقول بوجوب الصلاة عليه فى الصلاة من غرض المبالغة فى تعظيمه، وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته، مع أن الأكثر على خلافه، لكنه استجاده لما فيه من الزيادة فى تعظيمه، وكيف ينكر القول بوجوب الصلاة عليه وهو من جنس الصلاة ومقتضياتها، وإذا شرع السلام فيها على نفس المصلى وعلى عباد الله الصالحين، فكيف لا تجب الصلاة على سيد المرسلين؟
وقد انتصر جماعة كثيرة من العلماء الأعلام للشافعى، كالحافظ عماد الدين ابن كثير، والعلامة ابن القيم، وشيخ الإسلام والحافظ أبى الفضل بن حجر، وتلميذه شيخنا الحافظ والعلامة أبى أمامة بن النقاش وغيرهم ممن يطول عدهم.
واستدلوا لذلك بأدلة نقلية ونظرية، ودفعوا دعوى الشذوذ، فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة، منهم ابن مسعود، وأبو مسعود(2/655)
والبدرى وجابر بن عبد الله، ونقله أصحاب الشافعى عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، ومن التابعين: الشعبى، فيما رواه البيهقى كما سيأتى، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل.
وأخرج الحاكم- بسند قوى- عن ابن مسعود قال: يتشهد الرجل ثم يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم يدعو لنفسه «1» . قال الحافظ ابن حجر: وهذا أقوى شىء يحتج به للشافعى، فإن ابن مسعود ذكر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- علمهم التشهد فى الصلاة، وأنه قال: ثم ليتخير من الدعاء ما شاء، فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء، دل على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود فى دفع ما ذهب إليه الشافعى وادعى مثل ما ذكره القاضى عياض قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذى علمه له النبى- صلى الله عليه وسلم- ليس فيه ذكر الصلاة عليه.
وفى جزء الحسن بن عرفة، وأخرج المعمرى «2» فى عمل اليوم والليلة عن ابن عمر- بسند جيد- قال: لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة علىّ. وأخرج البيهقى فى الخلافيات- بسند قوى- عن الشعبى، وهو من كبار التابعين، قال: كنا نعلم التشهد، فإذا قال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يحمد ربه ويثنى عليه ثم يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل حاجته. وفى حديث أبى جعفر، عن ابن مسعود، مرفوعا: «من صلى صلاة لم يصل فيها على وعلى أهل بيتى لم تقبل منه» . قال الدارقطنى: والصواب أنه من قول أبى جعفر محمد بن على بن الحسين: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبى- صلى الله عليه وسلم- وعلى أهل بيته لرأيت أنها لا تتم، لكن راويه عن أبى جعفر جابر الجعفى وهو ضعيف. كذا فى الشفاء.
وقد وافق الشافعى من فقهاء الأمصار أحمد فى إحدى الروايتين عنه، وعمل به أخيرا، كما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقى، فيما ذكره الحافظ ابن
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 401) .
(2) هو: الحافظ العلامة البارع، أبو على الحسن بن على بن شبيب البغدادى، وقيل له العمرى لأن جده للأم أبو سفيان العمرى صاحب معمر، مات سنة (295 هـ) .(2/656)
كثير، وأوجب إسحاق بن راهواه الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان، والمشهور عن أحمد أنها تبطل بتركها عمدا أو سهوا، وعليه أكثر أصحابه، حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال فى الصلاة عليه: صلى الله عليه وسلم، كما علمهم أن يقولوا لما سألوه، كما ذكره ابن كثير، ووافق الخرقى إسحاق فى التقييد بالعمد دون السهو.
والخلاف أيضا عند المالكية كما ذكره ابن الحاجب فى سنن الصلاة، ثم قال: على الصحيح، فقال شارحه ابن عبد السلام: يريد أن فى وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام الإمام ابن المواز وبه صرح عنه ابن القصار، وعبد الوهاب، كما فى الشفاء بلفظ: إنه يراها فريضة فى الصلاة كقول الشافعى، قال: وحكى أبو يعلى العبدى عن المذهب فيها ثلاثة أقوال فى الصلاة:
الوجوب، والسنة، والندب. ورأيت مما يعزى للقاضى أبى بكر بن العربى فى «سراج المريدين» : قال ابن المواز والشافعى: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- من فرائض الصلاة وهو الصحيح. انتهى.
وقد يلزم القائل الحنفية بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر كالطحاوى، ونقله السروجى فى شرح الهداية عن أصحاب المحيط والعقد والتحفة من كتبهم أن يقولوا بوجوبها فى التشهد لتقدم ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى آخر التشهد فى قوله: وأشهد أن محمدا رسول الله، لكن لهم أن يلتزموا ذلك ولا يجعلونه شرطا فى صحة الصلاة. ولم يخالف الشافعى أحد من أصحابه فى ذلك. بل قال بعض أصحابنا بوجوب الصلاة على الآل، كما حكاه البندنيجى والدارمى، ونقله إمام الحرمين والغزالى قولا عن الشافعى، قال الحافظ ابن كثير: والصحيح أنه وجه، على أن الجمهور على خلافه، والقول بوجوبه ظهور للحديث.
وأما مخالفة الخطابى من أصحاب الشافعى فلا يعتد به لمقتضى الآمر المحمول على الوجوب إجماعا، وأولى أحواله الصلاة ولا مانع من احتمال كونه مرادا. وأما قوله: ولا أعلم له فيها قدوة، فيقال عليه: لا ريب أن(2/657)
الشافعى قدوة يقتدى به، والمقام مقام اجتهاد، فلا افتقار له فيه إلى غيره.
وأما قوله فى «الشفاء» : والدليل على أنها ليست من فروض الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعى وإجماعهم عليه. ففيه نظر، لأنه إن أراد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأن ذلك ليس بواجب، وأنى يوجد ذلك؟
وأما قوله: وقد شنع الناس عليه- يعنى الشافعى- فى هذه المسألة جدّا، فلا معنى له، وأى شناعة فى ذلك؟ ولم يخالف فيه نصّا ولا إجماعا ولا قياسا ولا مصلحة راجحة. بل القول بذلك من محاسن مذهبه، ولا ريب أن القائل بجواز ترك الصلاة على أفضل خلق الله فى الصلاة التى هى رأس العبادة المطلوب فيها الخضوع واستحضار شارعها والثناء عليه أولى بالتشنيع.
وأما نقله الإجماع فقد تقدم ما فيه. وأما قوله: إن الشافعى اختار تشهد ابن مسعود، فلم يقل به أحد، والشافعى إنما اختار تشهد ابن عباس كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- فى مقصد عباداته.
وقد استدل للوجوب بما أخرجه أبو داود والنسائى والترمذى وصححه، وكذا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد قال: سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- رجلا يدعو فى صلاته، لم يحمد الله ولم يصل على النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «عجل هذا» ، ثم دعاه إليه فقال: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بالحمد لله والثناء عليه، ثم ليصل على النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم ليدع بما شاء» «1» .
قلت: ومما يعد من كرامات إمامنا الشافعى وسره السارى، أن القاضى عياضا ساق هذا الحديث بسنده من طريق الترمذى من غير أن يطعن فى سنده بعد قوله: «فصل فى المواطن التى تستحب فيها الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1481) فى الصلاة، باب: الدعاء، والترمذى (3476) فى الدعوات، باب: جامع الدعوات عند النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (3/ 44) فى السهو، باب: التمجيد والصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (8/ 18) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(2/658)
ويرغب» من ذلك: فى تشهد الصلاة، وذلك بعد التشهد وقبل الدعاء. وهذا الحديث- كما ترى- من أعظم الأدلة لنا. فإن قال قائل: ليس لكم فيه دلالة لأنه قال: سمع فيه رجلا يدعو فى صلاته، ولم يقل فى تشهده.
فيجاب: بأنه يلزم على هذا أن القاضى عياضا ساقه فى غير محله، لأنه عقد الفصل- كما قدمته- لبيان مواطن استحباب الصلاة. ثم قال: ومن ذلك فى تشهد الصلاة.
وفى «مصابيح» البغوى، من حديث فضالة بن عبيد هذا ما يدل على أنه كان فى التشهد، ولفظه: قال دخل رجل فقال: اللهم اغفر لى وارحمنى، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عجلت أيها المصلى، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، ثم صل علىّ، ثم ادعه» .
وفى قوله: «عجلت» استلواح فوات الكمال عن الحقيقة المجزئة، إذ لو كانت مجزئة لما حسن اللوم والتعليم بصيغة الأمر، فإن قيل إنه فى مقام تعليم المستحبات إذ لو كان فى الواجبات لأمره بالإعادة، كما أمر المسىء صلاته، فيجاب: بأن فى قوله هذا غنية عن الأمر بالإعادة، لأنه حيث علمه ما هو الواجب علم قطعا أنه لم يأت به أولا فلم يكن آتيا به فوجبت إعادته، وهم أهل الفهم والعرفان. فإن قال: إن قوله «فقعدت» يحتمل أن يكون عطفا على مقدر، تقديره: إذا صليت وفرغت فقعدت للدعاء فاحمد الله.
فيجاب: بأن الأصل عدمه، وإنما هو عطف على المذكور، أى: إذا كنت فى الصلاة فقعدت للتشهد فاحمد الله، أى اثن عليه بقولك، التحيات لله إلخ والله أعلم.
وقال الجرجانى من الحنفية وغيره: لو كانت فرضا لما لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه- صلى الله عليه وسلم- علمهم التشهد وقال: «فليتخير من الدعاء ما شاء، ولم يذكر الصلاة عليه» .
وأجيب: باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذ. وقال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى: قد ورد هذا الصحيح بلفظ: ثم ليتخير، و «ثم»(2/659)
للتراخى، فدل على أنه كان هناك شىء بين التشهد والدعاء، انتهى. وقد أطنب الشيخ أبو أمامة بن النقاش فى تفسيره فى الانتصار للشافعى فى هذه المسألة، مما يطول ذكره، فالله يثيبه على قصده الجميل.
وأما صفة الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم-، (فعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال:
لقينى كعب بن عجرة فقال: ألا أهدى لك هدية؟ إن النبى- صلى الله عليه وسلم- خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك فيكف نصلى عليك؟
قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ) «1» رواه البخارى ومسلم والترمذى وأبو داود والنسائى. فإن قلت: كيف يطابق قوله: (اللهم صل على محمد) قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) ؟.
أجاب القاضى عياض: بأن «آل» مقحم، كما فى قوله- صلى الله عليه وسلم- فى أبى موسى: «إنه أعطى مزمارا من مزامير آل داود» «2» ، ولم يكن له آل مشهور بحسن الصوت. وقد روى هذا الحديث ابن أبى حاتم بلفظ: لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «3» قال: قلنا يا رسول الله، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى يقول: وعلينا معهم.
وعن أبى حميد الساعدى: (أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلى
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5048) فى فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ومسلم (792) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
(3) سورة الأحزاب: 56.(2/660)
عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ) «1» رواه الإمام أحمد.
وعن أبى مسعود الأنصارى قال: أتانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن فى مجلس سعد بن عبادة فقال له بشر بن سعد أمرنا الله أن نصلى عليك، فكيف نصلى عليك؟ قال: فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فى العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» «2» ، رواه مالك ومسلم وغيرهما.
[إشكال]
فإن قلت: ما موقع التشبيه فى قوله: (كما صليت على إبراهيم) ، مع أن المقرر أن المشبه دون المشبه به؟ والواقع هنا عكسه، لأن محمدا- صلى الله عليه وسلم- وحده أفضل من إبراهيم ومن آل إبراهيم، ولا سيما وقد أضيف إليه آل محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة له أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره.
[الجواب]
فقد أجاب العلماء عنه بأجوبة كثيرة:
منها: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم.
وقد أخرج مسلم حديث أنس: أن رجلا قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: يا خير البرية، قال:
«ذاك إبراهيم» «3» . وتعقب: بأنه لو كان كذلك لغير صيغة الصلاة عليه بعد أن علم أنه أفضل.
ومنها: أنه قال ذلك تواضعا،
وشرع ذلك لأمته ليكتسبوا بذلك الفضيلة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3369) فى أحاديث الأنبياء، باب: رقم (10) ، ومسلم (407) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد.
(2) صحيح: أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 165- 166) ، ومسلم (405) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2369) فى الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل- صلى الله عليه وسلم-.(2/661)
ومنها: أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة، لا للقدر بالقدر،
فهو كقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ «1» ، وهو كقول القائل: أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان، ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره، ومنه قوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «2» ، ورجح هذا القول القرطبى فى «المفهم» .
ومنها: أن قوله: (اللهم صل على محمد) مقطوع عن التشبيه،
فيكون التشبيه متعلقا بقوله: (وعلى آل محمد) وتعقب: بأن غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء، فكيف يطلب لهم صلاة مثل الصلاة التى وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله. ويمكن الجواب عنه: بأن المطلوب الثواب الحاصل لهم، لا جميع الصفات التى كانت سببا للثواب.
وقد نقل العمرانى فى «البيان» عن الشيخ أبى حامد أنه نقل هذا الجواب عن نص الشافعى. واستبعد ابن القيم صحة ذلك عن الشافعى، لأنه مع فصاحته ومعرفته بلسان العرب لا يقول هذا الكلام المستلزم هذا التركيب الركيك البعيد من كلام العرب، كذا قال. وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال:
ليس التركيب المذكور ركيكا، بل التقدير: اللهم صل على محمد وصل على آل محمد كما صليت إلخ، فلا يمتنع الشبيه بالجملة الثانية.
ومنها: رفع المقدمة المذكورة أولا،
وهى أن المشبه به يكون أرفع من المشبه، وأن ذلك ليس مطردا، بل قد يكون التشبيه بالمثل، بل بالدون، كما فى قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ «3» ، وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟ ولكن لما كان المراد من المشبه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسامع حسن تشبيه النور بالمشكاة، وكذا هنا: لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصلاة عليهم مشهورا واضحا عند جميع الطوائف حسن أن يطلب لمحمد
__________
(1) سورة النساء: 163.
(2) سورة القصص: 77.
(3) سورة النور: 35.(2/662)
وآل محمد بالصلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم، ويؤيد ذلك ختم الطلب المذكور بقوله (فى العالمين) أى كما أظهرت الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فى العالمين، ولهذا لم يقع (فى العالمين) إلا فى ذكر إبراهيم دون ذكر آل محمد على ما وقع فى الحديث الذى وردت فيه، وهو حديث أبى مسعود الأنصارى الذى ذكرته.
وهذا معنى قول الطيبى: وليس التشبيه المذكور من باب إلحاق الناقص بالكامل، لكن من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر. وقال النووى: أحسن الأجوبة ما نسب إلى الشافعى: أن التشبيه لأصل الصلاة أو للمجموع بالمجموع.
وقال ابن القيم- بعد أن زيف أكثر الأجوبة إلا تشبيه المجموع بالمجموع-: وأحسن منه أن يقال: هو- صلى الله عليه وسلم- من آل إبراهيم، وقد ثبت ذلك عن ابن عباس فى تفسير قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «1» قال: محمد من آل إبراهيم، فكأنه أمرنا أن نصلى على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما، فيحصل لآله ما يليق بهم، ويبقى الباقى كله له، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم. وتظهر حينئذ فائدة التشبيه، وأن المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من المطلوب بغيره من الألفاظ.
وقال الحليمى: سبب هذا التشبيه أن الملائكة قالت فى بيت إبراهيم:
رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ «2» وقد علم أن محمدا وآل محمد من أهل بيت إبراهيم، فكأنه قال: قولوا اللهم أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك فى محمد وآل محمد كما أجبتها عندما قالوها فى آل إبراهيم الموجودين حينئذ، ولذلك ختم بما ختم به الآية وهو قوله إنك حميد مجيد.
__________
(1) سورة آل عمران: 33.
(2) سورة هود: 73.(2/663)
ومما يعزى للعارف الربانى أبى محمد المرجانى أنه قال: وسر قوله- صلى الله عليه وسلم- (كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم) ولم يقل:
كما صليت على موسى، لأن موسى- عليه الصلاة والسلام- كان التجلى له بالجلال، فخر موسى صعقا، والخليل إبراهيم كان التجلى له بالجمال، لأن المحبة والخلة من آثار التجلى بالجمال، فلهذا أمرهم- صلوات الله وسلامه عليه- أن يصلوا عليه كما صلى على إبراهيم، فيسألوا له التجلى بالجمال، وهذا لا يقتضى التسوية فيما بينه وبين الخليل- صلوات الله وسلامه عليهما-، لأنه إنما أمرهم أن يسألوا له التجلى بالوصف الذى تجلى به للخليل- عليه الصلاة والسلام-، فالذى يقتضيه الحديث المشاركة فى الوصف الذى هو التجلى بالجمال، ولا يقتضى التسوية فى المقامين ولا الرتبتين، فإن الحق سبحانه يتجلى بالجمال لشخصين بحسب مقاميهما، وإن اشتركا فى وصف التجلى بالجمال، فيتجلى لكل واحد منهما بحسب مقامه عنده، ورتبته منه ومكانته، فيتجلى للخليل- عليه الصلاة والسلام- بالجمال بحسب مقامه، ويتجلى لسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- بالجمال بحسب مقامه، فعلى هذا يفهم الحديث انتهى. فإن قلت: ما المراد بال محمد فى هذا الحديث؟
فالجواب: أن الراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة، كما نص عليه الشافعى، واختاره الجمهور، ويؤيده قوله- صلى الله عليه وسلم- للحسن بن على: «إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة» «1» وقيل: المراد بال محمد أزواجه وذريته. وقيل:
المراد بهم جميع الأمة أمة الإجابة. حكاه أبو الطيب الطبرى عن بعض الشافعية، ورجحه النووى فى شرح مسلم، وقيده القاضى حسين بالانقياد منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده ما رواه تمام فى فوائده، والديلمى عن أنس قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من آل محمد؟ فقال:
«كل تقى من أمة محمد» ، زاد الديلمى: ثم قرأ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 200) ، وهو عند البخارى (1491) فى الزكاة، باب: ما يذكر فى الصدقة للنبى- صلى الله عليه وسلم- وآله، ومسلم (1069) فى الزكاة، باب: تحريم الزكاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى آله، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(2/664)
الْمُتَّقُونَ «1» ، وإسنادهما ضعيف، لكن ورد ما يشهد لذلك فى الصحيحين كحديث (إن آل أبى فلان ليسوا لى بأولياء، إنما وليى الله وصالح المؤمنين) «2» انتهى ملخصا.
وقد استدل العلماء بتعليمه- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه هذه الكيفية بعد سؤالهم عنها، بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه، لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل. ويترتب على ذلك: أنه لو حلف أن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- أفضل الصلاة، فطريق البر أن يأتى بذلك، هكذا صوبه النووى فى «الروضة» بعد ذكر حكاية الرافعى عن إبراهيم المروزى أنه قال: يبر إذا قال: كلما ذكره الذاكرون، وكلما سها عن ذكره الغافلون. قال النووى: وكأنه أخذ ذلك من كون الشافعى ذكر هذه الكيفية- يعنى فى خطبة «الرسالة» له- ولكن بلفظ «غفل» بدل «سها» .
وقال الأذرعى: «إبراهيم» المذكور كثير النقل من تعليقة القاضى حسين، ومع ذلك فالقاضى قال فى طريق البر؛ أن يقول: اللهم صل على محمد كما هو أهله ويستحقه، وكذا نقله البغوى فى تعليقه. ولو جمع بينها فقال ما فى الحديث، وأضاف إليه أثر الشافعى، وما قاله القاضى لكان أشمل. ولو قيل:
إنه يعمد إلى جميع ما اشتملت عليه الروايات الثابتة فيستعمل منها ذكرا يحصل به البر لكان حسنا.
وعن ابن مسعود، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا تشهد أحدكم فى الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» «3» ، رواه الحاكم. وقد يستدل بهذا الحديث من ذهب إلى جواز
__________
(1) سورة الأنفال: 34.
(2) صحيح: أخرجه البخارى فى الأدب، باب: تبل الرحم ببلاها، ومسلم (215) فى الإيمان، باب: موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم، من حديث عمرو بن العاص- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 402) بسند فيه مجهول.(2/665)
الترحم على النبى- صلى الله عليه وسلم-، كما هو قول الجمهور، ويعضده حديث الأعرابى الذى قال: اللهم ارحمنى وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لقد تحجرت واسعا» «1» وحكى القاضى عياض عن جمهور المالكية منعه قال: وأجازه أبو محمد بن أبى زيد. انتهى. وسيأتى ما فى ذلك من البحث- إن شاء الله تعالى- فى المقصد التاسع عند الكلام على التشهد.
وعن سلامة الكندى أن عليّا كان يعلم الناس الدعاء- وفى لفظ: يعلم الناس الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيقول: اللهم داحى المدحوات، وبارئ المسموكات، اجعل شرائف صلواتك، ونوامى بركاتك، ورأفة تحننك، على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أغلق، الخاتم لما سبق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ لجيشات الأباطيل، كما حمّل فاضطلع بأمرك بطاعتك، مستوفزا فى مرضاتك، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك، حتى أورى قبسا لقابس آلاء الله، تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب، بعد خوضات الفتن والإثم، وأبهج موضحات الأعلام، ونائرات الأحكام، ومنيرات الإسلام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة ورسولك بالحق رحمة، اللهم افسح له فى عدنك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك، مهنئات له غير مكدرات، من فوز ثوابك المحلول، وجزيل عطائك المعلول، اللهم أعل على بناء الناس بناءه، وأكرم مثواه لديك ونزله، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، ومرضى المقالة، ذا منطق عدل، وخطة فصل، وبرهان عظيم «2» .
حديث موقوف، رواه الطبرانى لكن قال الحافظ ابن كثير: فى سنده نظر،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6010) فى الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، وأبو داود (380) فى الطهارة، باب: الأرض يصيبها البول، و (882) فى الصلاة، باب: الدعاء فى الصلاة، والترمذى (147) فى الطهارة، باب: ما جاء فى البول يصيب الأرض، والنسائى (3/ 14) فى السهو، باب: الكلام فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (2/ 283) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 164) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وسلامة الكندى روايته عن على مرسلة، وبقية رجاله رجال الصحيح.(2/666)
قال: وقال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزى: سلامة الكندى هذا ليس بمعروف، ولم يدرك عليّا، كذا قال:
وقوله: «داحى المدحوات» : أى باسط الأرضين، وكل شىء بسطته ووسعته فقد دحوته. «وبارئ المسموكات» : أى خالق السماوات، وكل شىء رفعته وأعليته فقد سمكته. «والدافع لجيشات الأباطيل» : أى المهلك لما نجم وارتفع منها وفار. وأصل «الدمغ» من الدماغ، دمغه: أصاب دماغه، و «جيشات» من جاش إذا ارتفع. «واضطلع» : افتعل من الضلاعة، وهى القوة. «وأورى قبسا لقابس» : أى أظهر نورا من الحق لطالبه. «وآلاء الله» :
نعم الله «تصل بأهله» : أى أهل ذلك القبس وهو الإسلام والحق أسبابه، وأهله المؤمنون. «وبه هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم» : أى هديت بعد الكفر والفتن لموضحات الأعلام. «ونائرات» و «المنيرات» : الواضحات، يقال: نار الشىء، وأنار إذا وضح. «وشهيدك يوم الدين» : يريد الشاهد على أمته يوم القيامة. «وبعيثك نعمة» : أى مبعوثك، فعيل بمعنى مفعول. «وافسح له» : أى وسع له. «وفى عدنك» : أى فى جنة عدن. «والمعلول» : من العلل وهو الشرب بعد الشرب، يريد أن إعطاءه مضاعف، كأنه يعل به عباده، أى:
يعطيهم عطاء بعد عطاء. «وأعل على بناء الناس» وفى رواية: البانين، أى ارفع فوق أعمال العاملين عمله. «وأكرم مثواه» : أى منزله. «ونزله» : رزقه.
«والخطة» : بضم الخاء المعجمة، الأمر والقصة. «والفصل» : القطع.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا صليتم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه، فقالوا له علمنا، قال: قولوا اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا، يغبطه فيه الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد «1» حديث موقوف، رواه ابن ماجه.
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (906) فى إقامة الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .(2/667)
وعن رويفع بن ثابت الأنصارى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى على محمد، وقال: اللهم أنزله المقعد الصدق المقرب عندك يوم القيامة، وجبت له شفاعتى» «1» . رواه الطبرانى. قال ابن كثير: وإسناده حسن ولم يخرجوه. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبى الأمى وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد» «2» رواه أبو داود. وعن طاووس: سمعت ابن عباس يقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى، وارفع درجته العليا، وأعطه سؤله فى الآخرة والأولى، كما آتيت إبراهيم وموسى. رواه إسماعيل القاضى. قال ابن كثير: وإسناده جيد قوى صحيح.
[مواطن الصلاة على النبي ص]
وأما المواطن التى تشرع فيها الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم-.
فمنها: التشهد الأخير،
وهى واجبة فيه، كما قدمنا، وفى وجوبها فى التشهد الأول قولان، أظهرهما المنع، لبنائه على التخفيف، بل هى سنة، وفى استحباب الصلاة على الآل فى التشهد الأول القولان، وفى وجوبها فى الأخير رأيان: أصحهما المنع، بل هى سنة تابعة، وأقلها اللهم صل على محمد، وكذا: صلى الله على محمد، وأقلها على الآل: وآله. وقال فى «الكفاية» بإعادة «على» .
ومنها: خطبة الجمعة،
وكذا غيرها من الخطب، فلا تصح خطبتا الجمعة إلا بها، لأنها عبادة. وذكر الله فيها شرط، فوجب ذكر الرسول فيها كالأذان والصلاة، وهذا مذهب الشافعى وأحمد.
ومنها: عقب إجابة المؤذن،
لما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو ابن العاصى، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على صلاة واحدة صلى الله عليه بها
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (5/ 25 و 26) .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (982) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .(2/668)
عشرا، ثم سلوا الله لى الوسيلة، فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة» «1» وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث كعب ابن علقمة، وذكره بلفظ «الرجاء» وإن كان متحقق الوقوع أدبا وإرشادا منه وتذكيرا بالخوف، وتفويضا إلى الله بحسب مشيئته، وليكون الطالب للشىء بين الرجاء والخوف. وقوله: «حلت عليه الشفاعة» أى وجبت، وقيل غشيته ونزلت به.
تنبيه:
قال شيخنا فى «المقاصد الحسنة» : حديث «الدرجة الرفيعة» المدرج فيما يقال بعد الأذان، لم أره فى شىء من الروايات، وأصل الحديث عند أحمد والبخارى والأربعة عن جابر مرفوعا: (من قال حين يسمع النداء:
اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته، حلت له شفاعتى يوم القيامة) «2» : قال وكأن من زادها اغتر بما وقع فى بعض نسخ «الشفاء» من حديث جابر المشار إليه، لكن مع زيادتها فى هذه النسخة المعتمدة علم عليها كاتبها بما يشير إلى الشك فيها، ولم يرها فى سائر نسخ الشفاء، بل فى الشفاء عقد لها فصلا فى مكان آخر ولم يذكر فيه حديثا صريحا، وهو دليل لغلطها. انتهى والله أعلم.
ومنها: أول الدعاء وأوسطه وآخره،
لما روى أحمد من حديث جابر:
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تجعلونى كقدح الراكب، فإن الراكب يملأ
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (384) فى الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، وأبو داود (523) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع المؤذن، والترمذى (3614) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (2/ 168) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (614) فى الأذان، باب: الدعاء عند الأذان، وأبو داود (529) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإقامة، والترمذى (211) فى الصلاة، باب: منه آخر، والنسائى (3/ 26- 28) فى الأذان، باب: الدعاء عند الأذان، وابن ماجه (722) فى الأذان، باب: ما يقال إذا أذن المؤذن، وأحمد فى «المسند» (3/ 354) .(2/669)
قدحه ثم يضعه ويرفع متاعه فإذا احتاج إلى شراب شرب، أو الوضوء توضأ، وإلا أهراقه، ولكن اجعلونى فى أول الدعاء وأوسطه وآخره» «1» .
ومنها: وهو من آكدها، عقب دعاء القنوت،
لما رواه أحمد وأهل السنن، وابن جرير وابن حبان والحاكم، من حديث أبى الجوزاء، عن الحسن ابن على قال: علمنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن فى الوتر: (اللهم اهدنى فيمن هديت، وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت، وقنى شر ما قضيت، فإنك تقضى ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، [ولا يعز من عاديت] «2» تباركت ربنا وتعاليت) «3» وزاد النسائى فى سننه: وصلى الله على النبى، وسيأتى فى المقصد التاسع البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى-.
ومنها: أثناء تكبيرات العيدين،
لما روى إسماعيل القاضى أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة، خرج عليهم الوليد بن عقبة فقال: إن هذا العيد قد دنا، فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبتدئ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك وتصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم تدعو وتكبر، وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تقرأ ثم تكبر وتركع، ثم تقوم فتكبر وتحمد ربك وتصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تركع. فقال حذيفة وأبو موسى صدق أبو عبد الرحمن. قال ابن كثير: إسناده صحيح.
__________
(1) أخرجه عبد بن حميد فى «منتخبه» (132) ، والقضاعى فى «مسند الشهاب» (2/ 89) ولم أقف عليه فى المسند.
(2) زيادة من بعض المصادر، انظر «صفة صلاة النبى» للشيخ الألبانى (ص 161) .
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، والنسائى (3/ 248) في قيام الليل، باب: الدعاء فى الوتر، وابن ماجه (1178) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، وأحمد فى «المسند» (1/ 200) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (429) .(2/670)
ومنها: عند دخول المسجد والخروج منه،
لما رواه أحمد عن فاطمة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد صلى على محمد ثم قال:
«اللهم اغفر لى ذنوبى وافتح لى أبواب رحمتك» ، وإذا خرج صلى على محمد ثم قال: «اللهم اغفر لى ذنوبى وافتح لى أبواب فضلك» » .
ومنها: فى صلاة الجنازة،
فإن السنة أن يقرأ الفاتحة بعد إحدى التكبيرات، وبعد الأولى أولى، وأن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد الثانية، ويدعو للميت بعد الثالثة، وبعد الرابعة يقول: «اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده» «2» . وفى ذلك حديث رواه الشافعى والنسائى.
ومنها: عند التلبية،
لما رواه الشافعى والدار قطنى عن القاسم بن محمد ابن أبى بكر الصديق قال: كان يؤمر الرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- على كل حال.
ومنها: عند الصفا والمروة،
لما روى إسماعيل القاضى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعا، وصلوا عند المقام ركعتين، ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت فكبروا سبع تكبيرات، تكبيرا بعد حمد الله وثناء عليه، وصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- ومسألة لنفسك، وعلى المروة مثل ذلك. قال ابن كثير: إسناده حسن جيد قوى.
ومنها: عند الإجماع والتفرق،
لما روى الترمذى عن أبى هريرة أن
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (314) فى الصلاة، باب: ما يقول عند دخول المسجد، وابن ماجه (771) فى المساجد، باب: الدعاء عند دخول المسجد، وأحمد فى «المسند» (6/ 282 و 283) بسند منقطع.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3201) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، وابن ماجه (1498) فى الجنائز، باب: ما جاء فى الدعاء فى الصلاة على الجنازة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، مقتصرا على الدعاء فقط، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(2/671)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيه إلا كان عليه ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم» «1» .
وروى إسماعيل القاضى عن أبى سعيد قال: ما من قوم يقاعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب «2» .
ومنها: عند الصباح والمساء،
لما روى الطبرانى من حديث أبى الدرداء مرفوعا: «من صلى على حين يصبح عشرا، وحين يمسى عشرا، أدركته شفاعتى يوم القيامة» «3» .
ومنها: عند الوضوء،
لحديث ابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا وضوء لمن لم يصل على النبى- صلى الله عليه وسلم-» «4» .
ومنها: عند طنين الأذن،
لحديث أبى رافع عند ابن السنى مرفوعا: «إذا طنت أذن أحدكم فليذكرنى، وليصل على وليقل ذكر الله من ذكرنى بخير» «5» .
ومنها: عند نسيان الشىء،
لحديث أبى موسى المدينى، بسند فيه ضعف، عن أنس يرفعه: «إذا نسيتم شيئا فصلوا على تذكروه إن شاء الله تعالى» .
ومنها: بعد العطاس،
كما ذهب إليه أبو موسى المدينى وجماعة،
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3380) فى الدعوات، باب: ما جاء فى القوم يجلسون ولا يذكرون الله، وأحمد فى «المسند» (2/ 432 و 453 و 481) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) الحديث الدال على ذلك أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10243) .
(3) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 120) وقال: رواه الطبرانى بإسنادين، وإسناد أحدهما جيد ورجاله وثقوا.
(4) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط كما فى «ضعيف الجامع» (6316) .
(5) موضوع: أخرجه الحكيم وابن السنى والعقيلى فى الضعفاء والطبرانى فى الكبير، وابن عدى فى الكامل، كما فى «ضعيف الجامع» (586) .(2/672)
ونازعهم فى ذلك آخرون، وقالوا: هذا موطن يفرد فيه ذكر الله تعالى، كالأكل والشرب والوقاع ونحو ذلك.
ومنها: عند زيارة قبره الشريف،
لحديث أبى داود عن أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام» «1» . وروى ابن عساكر: «من صلى على عند قبرى سمعته» وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة وليلتها، فعن أوس بن أوس الثقفى قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا على من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة على» ، قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت- يعنى: وقد بليت- قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» «2» ، رواه أحمد وأبو داود والنسائى. وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والدارقطنى.
[الإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة]
قال الحافظ ابن كثير: وقد روى البيهقى من حديث أبى أمامة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- الأمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة، ولكن فى إسناده ضعف. فإن قلت: ما الحكمة فى خصوصية الإكثار من الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة وليلتها؟
أجاب ابن القيم بأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام، فللصلاة عليه فيه مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى، وهى أن كل خير نالته أمته فى الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده- صلى الله عليه وسلم-، فجمع الله لأمته بين خيرى الدنيا والآخرة، وأعظم كرامة تحصل لهم فإنها تحصل لهم يوم الجمعة، فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم فى الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيدهم فى الدنيا، ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يرد سائلهم، وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (2041) فى المناسك، باب: زيارة القبور، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5679) .
(2) صحيح: وقد تقدم.(2/673)